قارب هذا الحوار بمنهجٍ تحليليٍّ ونقدي المرتكزات الأساسيّة التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الليبرالي في الغرب، ويبيِّن سلسلة من الأسباب التي أدّت إلى ولادة أزمات دوريّة على الاقتصاد العالمي.
الباحث الفلسطيني المتخصِّص في العلوم الاقتصاديّة الدكتور عادل سماره الذي أجرينا معه هذا الحوار، هو أكاديمي ومستشار علمي لعدد من المعاهد ومراكز الأبحاث، وله العديد من الدراسات والمؤلفات في الاقتصاد السياسي.
وفي ما يلي نص الحوار
«المحرّر»
* كسؤال مدخلي، إذا أردنا تقديم جردة حساب عامّة تتعلق بإنجازات وإخفاقات النظم الاقتصادية الغربية فما هي أهم عناصر هذه الجردة؟
أعتقد أنّ الأصحّ هو السؤال عن نظامٍ اقتصاديٍّ محدّدٍ في الغرب، بناءً على تمرحل الأنظمة بما هي نتاج حركيّة الإنسان وفعله عبر الزمان والمكان. فهناك في التاريخ نظم اقتصاديّة عدّة يقوم كلّ منها على نمط إنتاج أو على تمفصل أكثر من نمط إنتاج يكون أحدها مهيمنًا، أي: نمط الإنتاج المشاعي، فالعبودي فالإقطاعي فالرأسمالي، فالإشتراكي فالآسيوي فالخراجي، فالإقطاعي الشرقي، فالإقطاعي العسكري، فالنسَبي/القرابي...إلخ.
لكنّني أعتقد أنّكم تقصدون نمط الإنتاج الرأسمالي الراهن، وما ترتّب عليه من نظامٍ، هو النّظام الاقتصادي الرأسمالي في الغرب الأوروبي خاصّة، ولاحقًا في المستوطنة الرأسماليّة البيضاء الولايات المتحدة وكندا.
فيما يخص الإنجازات، لا ينفرد نظام بها؛ لأنّ التاريخ يعلمنا أنّ المعرفة والتقنية تتضمن العمل الميّت (القديم) والحي (أي الجاري)، وحين تأخذ تشكيلة اجتماعيّة عن أخرى، لا تتوقف هناك بل تضيف ليأخذ من بعدها غيرها.
لكن، الغرب الرأسمالي بخلاف التشكيلات الما قبله اتّخذ فيما يخصّ إنسانيّة نقل التطور واستمراريّته، مسارًا مختلفًا يقوم على الاستقطاب، أي حصر التطوّر في القطب الرأسمالي، ومن ثم احتجاج تطوّر المحيط. ولهذا الاستقطاب علاقة أو تأثُّر بنشوء الدولة القوميّة.
لكن اللّافت، أنّ هذا الاستقطاب لم يحصل فيما بين/داخل غرب أوروبا؛ حيث انتقلت معظم دوله إلى الرأسماليّة والثورة الصناعيّة تقريبًا بشكلٍ متوازٍ. هل السبب هو صِغر المساحة؟ أم إنّها دخلت معًا عصر الأنوار ومن ثم الثورة الصناعية فالرسملة الصناعية بعد التجارية، أم لأنّ الكوكب حينها لم يخضع لمركز يُعيق تطوّر غيره.
ولذا، لم تكن دقيقة العبارة التي تقول: «لا يابان بعد اليابان»، أي احتجاز تطوّر البلدان الأخرى غير الأوروبية. لنقول بأنّ الأصحّ أنّ أوروبا حين تطوّرت إلى مركز نتج عن ذلك: «لا أوروبا بعد أوروبا»؛ لأنّ اليابان انتقلت إلى الرأسماليّة في فترة غياب مركز عالمي مؤثّر أو قادر على قطع تطوّرها، وهو ما حاولته أوروبا على أية حال.
وربّما يُمكننا القول بأنّ تطوّر اليابان أي انتقالها إلى الرأسماليّة كان أوّل تجربة تمّت في زمن وفَّر فك ارتباط (Delinking) عفوي أو صُدفي، فتمكنت من اللُّحاق، في حين أنّ تجربة اللُّحاق في مصر محمد علي قُطعت على يد المركز الرأسمالي الأوروبي في تحالفه مع العثمانيّة، رغم تناقض الطرفين الحليفين في مواضع أخرى في العالم.
لقد انتقلت أوروبا الغربية إلى الرأسماليّة قبل غيرها، هذا دون أن ننسى بأنّها دمرت اقتراب الصين والهند من الرسملة. لكن يبقى المهم أنّ هذا الانتقال إلى الرأسماليّة هو تقدّمٌ صناعيٌّ وتقنيٌّ تحديدًا، وله بالطبع إيجابيات وسلبيات:
من ناحيةٍ إيجابيّةٍ فتح الباب للإنتاج الموسّع الذي أدّى إلى إنتاج كفاية مجتمعٍ قوميٍّ معيّنٍ. ولكن لأنّ أساس النّظام هو الملكيّة الخاصة ومقولة «دعه يعمل دعه يمر»، فقد ترتّب عليه تقاطبٌ طبقيٌّ بين من ينتجون ولا يعملون وبين من يعملون ولا ينتجون، أي أنّ المالك سيطر على إنتاج العامل الذي هو صاحب الحقّ في ما أنتج. وحيث زاد الإنتاج عن حاجة المجتمع القومي فقد ترتّبت على ذلك ظاهرة الاستعمار بكلّ ما فيها من وحشيّةٍ لم تنتهِ بعد.
ولعلّ أوضح مثال على ما نقول هو الثورة البرجوازيّة الفرنسيّة، التي مثَّلت تقدّمًا اجتماعيًّا تنويريًّا للمجتمع الفرنسي، لكنّها بخروجها خارج فرنسا مثلت دورًا استعماريًّا إمبرياليًّا وحشيًّا. ولذا، أعتقد أنّ التضخيم والعزل بهذه الثورة في مناهج التعليم في وطننا العربي من المدرسة حتى الجامعة أمر يقود إلى غرس التبعيّة للغرب بفكره أو ثقافته البرجوازية.
وعبر الاستعمار انتقلت مستوياتٌ ما من الصناعة ومتطلباتها إلى المستعمرات، ولكن بتقييد المركز الرأسمالي وتحكمه، أي أنّ هذا الانتقال كان لضرورةٍ تفرضها مصالح الاستعمار نفسه. ومن هنا، فسكّة الحديد التي بُنيت في الهند، وإن سهَّلت التنقل والنقل المحليين، فإنّ ذلك لم يكن لخدمة الهنود. بل إنّ أيّ تطوّر حتى في المركز نفسه هو مقودٌ بالبحث عن التراكم، وليس خدمة الإنسان نفسه؛ حيث إنّ تلك الخدمة تأتي في السياق وبشراء المستهلك لها.
من المهم في هذا الصدد الانتباه إلى مسألة «الديمقراطيّة الغربيّة الرأسماليّة».
بمعنى، أنّ وجوب بقاء خط الإنتاج مشتغلًا، كان لا بدّ من انتهاج سياسة لبراليّة في المستوى السياسي من حيث حرية القول والكتابة وحتى الإضراب ...إلخ، ولكن دون أن تصل الاحتجاجات إلى توقّف خطّ الإنتاج؛ لأنّ توقّفه يقطع التراكم
Accumulation . Accumulate Moses You and the Prophets
وعلى هامش هذه السياسات الليبراليّة سياسيًّا لا اقتصاديًّا، يُسجل لهذا النظام توفير مستوى من الحريات الفرديّة، التي أنتجت تبادل السلطة والتعدّديّة. ورغم أنّ هذا لم يلغِ العنف الاستغلالي القائم على الملكيّة الخاصّة، إلّا أنّه خلق ثقافة الحرص على المنظومة من مختلف الطبقات؛ بمعنى أنّ هناك ما يُقنع المواطن بعدم هدم الدولة، بل المجتمع رغم تفارق الطبقات وتفاوتها:
فالبرجوازيّة وهي مالكة وحاكمة أعطت للطبقات الشعبيّة مستوى من الدخل ومن ثم الحريات. نرى بأنّ الفرد لا يجد نفسه مضطرًّا لتدمير المنظومة، بغض النّظر إن كان القمع مموّهًا أم لا، بل هو بالهيمنة لا بالسيطرة -مقولة أنطوني غرامشي- أي هناك ما يخشى عليه في حياته.
ولكن إلى جانب هذا، فإنّ هذا التقدّم الصناعي الإنتاجي هو الذي يقف وراء:
استعمار المحيط وتقشيطه أو التبادل اللا متكافىء معه على حسابه
ورشوة الطبقات الشعبية داخل المركز بما فوق الحد الأدنى كي لا تثور
أي أنّ هذا التقدّم الصناعي الرأسمالي أنتج استقرار كلّ بلد غربي على حدة، بناء على إنتاجيّته وعلى ما نهبه وقشطه من المحيط.
هذا على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، وأمّا على المستوى السياسي الحُكْمي، فإنّ النظام البرلماني في الغرب قد لعب دورًا كبيرًا في تبادل السلطة وعدم تغييرها ثوريًا، وخاصّة بعد الثورة/ات الفرنسيّة. ورغم أنّ النّظام البرلماني قائمٌ على سيطرة الأغنياء، إلّا أنّه سمح بفرصةٍ من الحريات هي التي لجمت تجذّر مطالب الطبقات الشعبيّة لتتحوّل إلى نضالٍ طبقيٍّ وصراع طبقيّ حاد.
وفي هذا المستوى، كان للعلمانيّة دورها في اقتلاع سيطرة الكنيسة وما يسمى فصل الدين عن الدولة الذي ذهب أخيرًا بالمعكوس، وهو سيطرة الدولة/السلطة الطبقية، دولة الطبقة على الكنيسة وتحويل الكنيسة بل رجالها إلى مثقفين عضويين لسلطة رأس المال، مما جعل ممارسة الدين مسألةً طقوسيّةً لا أكثر.
ومع انتقال رأسماليّة المركز إلى درجة عالية من الاحتكار المعمّم – سمير أمين، وصلت سيطرة السلطة على الدين إلى توليد قوى الدين السياسي في الغرب، وخاصّة في أميركا، أي المحافظيّة الجديدة التي جمعت بين رأسماليّة الاحتكار المعمّم من جهة وإيديولوجيا الدين السياسي العنصري والعدواني من جهة ثانية. وبالتالي خرجت بتوليفةٍ فاشيّةٍ استفادت من تفكّك الكتلة الاشتراكيّة. وبالتالي انتهاء الهدنة الدوليّة بين 1917-1991 حيث أُعيق نسبيًّا العدوان الاستعماري الغربي الرأسمالي المباشر على بلدان المحيط، نظرًا لوجود الكتلة الإشتراكيّة وفرض توازن الرّعب في فترة الحرب الباردة؛ لتُعيد الولايات المتحدة، وخاصة رئاسات الحزب الجمهوري، العالم إلى الحرب الساخنة، وخاصّة ضدّ الوطن العربي. فكانت البداية تدمير العراق 1991 بعد أن حرَّر الكويت.
لذا، ليس الأمر من السهولة بمكان للحكم على أنّ الرأسماليّة هذه لم تقدّم للبشريّة سوى الاستغلال والعنف. ولكن، بما هي قائمة على الملكيّة الخاصّة، فمن الطبيعي أن يقودها شبق التراكم إلى القطيعة مع الإنسانيّة رغم كافة أنواع المكياج.
وباختصار، فالرأسماليّة مرحلةٌ متقدّمةٌ على ما قبلها، ولكنّها تحمل في بنيتها تناقضاتها، أي موجبات تجاوزها. وإذا اتّفقنا على وجوب تجاوزها فذلك يعني أنّها ليست خيار البشريّة.
* يقول البعض إنّ الهيمنة السياسيّة يقف خلفها هيمنة اقتصادية، وإنّ الهيمنة الاقتصادية غير متاحة ما لم تترافق مع قوّة عسكريّة. هل تعتقدون أنّ هذا الأمر دقيق؟ وإذا كان صحيحًا ألا يتعارض مع الحديث عن أفول أو تراجع الهيمنة الاقتصاديّة الأميركيّة في ظلّ بقاء تفوّقها العسكري؟ وفي كلّ الأحوال كيف تنظرون إلى جدليّة العلاقة بين التفوّق العسكري والهيمنة الاقتصاديّة؟
- تشترط الإجابة العلميّة قراءة التاريخ، أي تجارب الأمم التي تؤكّد وجوب اقتران القوّة الاقتصاديّة بالقوّة العسكريّة:
إمّا لحماية الاقتصاد
وإما للتوسّع الاستعماري.
ربّما كانت تجربة استعمار الصين مفيدة في هذا السياق، فصناعة النسيج والملابس هناك كانت متقدّمة على نظيرتها في بريطانيا. لكنّ القوّة العسكريّة، التفوّق العسكري البريطاني قوّض هذه الصناعات وفرض على الصين فتح أسواقها لتجارة الأفيون. والأمر نفسه عن تجربة محمد علي في مصر رغم أنّه حاول بناء قوّة عسكريّة على جانب الاقتصاد، إلّا أنّه لم يتمكّن من تحقيق النّصر بالصمود. هل السبب أنّ مشروعه بدأ من أعلى؟ لهذا بحث آخر.
اقتران القوّة الاقتصايّة بالعسكريّة ضروريّ، وخاصّة في مرحلة النشوء من أجل الانطلاق. ولكنّ كلتيهما تشترطان النظام السياسي والقرار السياسي الذي يقودهما. طبعًا كيانات الخليج العربي تجربة لافتة في هذا المستوى بمعنى حتميّة تبعيّتها رغم ثرائها فهي:
تفتقر للبنية البشريّة سواء من حيث الكم البشري أو التأهيل
تراكم أسلحة دون قوة بشرية قادرة على استعمالها
بناء على علاقة التبعيّة للغرب عبر تقاسم فائض النفط على أساسTrickle-down Economy ، إلّا أنّها تتوفّر على جزءٍ ضخمٍ من الثروة يشترط تفعيلها المُجدي اندماجها في الوطن العربي، وهو ما ترفضه أنظمة الحكم المحكومة فيها.
نقصد أنّ القوّة البشريّة أيضًا حاسمةٌ، سواء من أجل السوق الداخلي (المعدة الواسعة) وهو ما يُسعف الصين اليوم خلال أزمة كورونا، أو من حيث القدرة الدفاعيّة. وثراء الخليج أكثر ما يوحي بفقدان القرار السياسي أو الاستقلال السياسي. وأما فيما يخصّ أميركا، بل وحتى التجربة السوفييتية، فإنّ تراجع الاقتصاد لم يتوقّف رغم وجود القوّة العسكريّة؛ لأنّ هذا التراجع هو خلل داخلي وليس عدوانًا خارجيًّا.
لنتذكر أزمة الرأسماليّة العالميّة ما بين الحربين الإمبرياليتين؛ حيث تراخت إلى حدّ ما قبضتها على المحيط فتمكّنت كلّ من المكسيك والأرجنتين وتشيلي، من التطوّر الصناعي إلى حدٍّ مقبولٍ دون أن تجد الإمبرياليّة فرصةً أو إمكانيّة احتلال هذه البلدان ولجم تقدّمها رغم قوّة المركز الاقتصاديّة والحربيّة.
ولكن التغير الأساس كان حين مرّ العالم منذ سبعينيات القرن العشرين بظاهرة انتقال رأس المال العامل الإنتاجي من المركز إلى المحيط؛ بمعنى أنّ تراجع معدّل الربح أجبر المركز على تصدير مواقع صناعيّة -وليس تصدير بحت لرأس المال أو استثمار فقط في المناجم- إلى بلدان في المحيط؛ حيث الأجور الأقلّ وغياب حقوق العمال وتوقف التأميمات وتقديم ضمانات لرأس المال الأجنبي بأن يُحوّل أرباحه إلى بلدان المركز...إلخ.
إنّ هذه الظاهرة حالة خلق الشيء لنقيضه، فقد تمكّنت بلدانٌ كثيرةٌ في العالم من إنتاج الكثير من السلع المدنيّة، وحتى العسكريّة، مستفيدةً من التكنولوجيا الغربيّة (مخصومًا منها بالطبع من أجل الاستقطاب أل Know-How). خدمت هذه البلدان أسواقها وأخذت تنافس المركز الأميركي على أسواق العالم وحتى سوق أميركا نفسها. وهو تنافس من الطرافة بمكان، بمعنى أنّ معظم المنتجات الهامّة في هذه البلدان هي:
إمّا لشركات أميركيّة وغربيّة أو رأسمال الاستثمار الأجنبي المباشر في شركات وبالتالي غدت أميركا في موقع:
لا يمكنها شنّ حرب ضدّ تلك البلدان، فتجربة تدمير العراق وأفغانستان أثبتتت عدم نجاعة ذلك وعدم القدرة عليه.
لن تحارب شركاتها لا يمكنها إغراء هذه الشركات بالعودة مهما خفّضت الضرائب عليها.
كما أنّها لا تستطيع مقاطعة هذه المنتجات؛ لأن سوقها بحاجة لها كسلعٍ رخيصةٍ
لذا، لجأت أميركا إلى حلول غير عسكريّةٍ، أي قلب أنظمة حكم عبر كمبردور تلك الدول، والبرازيل وبوليفيا نموذجان لهذا.
نلاحظ هنا كيف تم لجم القوّة العسكريّة حتى بفعل مصالح قطاعات من البلد نفسها.
حينما أسقطت الصين طائرة تجسس أميركيّة (قبل 20 سنة كما أذكر) حينما كان كولن باول وزير الخارجية، هناك دار جدل بين وزارة الحرب الأميركيّة ووزارة التجارة والخارجية؛ بمعنى أنّ الحربيّة كانت مع توجيه ضربةٍ انتقاميّةٍ ضدّ الصين، بينما التجارية اعترضت ب «إنّ أميركا تستورد من الصين الكثيرمثلاً بـ 18 مليار دولار ملابس داخلية»، وهكذا، فإنّ الملابس الداخلية قد لجمت المدفع!
التناقض هنا، أنّ القوّة العسكريّة الأميركية لم تعد قادرةً على احتلال مختلف هذه البلدان لاحتجاز تطوّرها.
كان ذلك ممكنًا في الماضي،مثلاً 50 ألف جندي بريطاني يحتلون كلّ الهند حيث لا سلاح، فهل هذا ممكن اليوم؟ هو ممكن بالنووي فقط! وهذا محال.
فالهيمنة الاقتصاديّة لا يُغريها سوى تدنّي الكلفة وتدنّي الأجور أو ما أسماه ماركس: «رأسماليّة الأجر الأدنى».
في هذا الصدد كتبت روزا لكسمبورغ بما معناه: «بوسعك أن ترغمني على العمل في المناجم خاصّتك ولكن لا يمكنك إرغامي على استهلاك أو شراء منتوجك».
لقد وصلت أميركا إلى معكوس نظريّة أيزنهاور، أو إنّ نظريته قد استنفذت دورها بناًء على تطوّرات العالم، وهي التي قامت على وجوب التفوّق العسكري الأميركي؛ لأنّه كان يرى أنّ هناك بلدان سوف تنتج منتجات مدنية تنافس أميركا.
ولكن تطوّرات العالم وصلت أيضًا إلى اللجم النسبي للقوّة العسكريّة. لذا نلاحظ أنّ أميركا تستعيض نسبيًا عن البندقيّة بالسلعة؛ حيث تشنّ حربًا تجاريّةً إلى حدّ ما معولمة أكثر مما تشنّ حربًا عسكريّةً.
هنا يتوجّب الحديث عن ظاهرةٍ خطيرةٍ تتجلّى سلبًا في الوطن العربي حذَّر منها فرانز فانون وحلَّها سمير أمين. حذّر فانون من أنظمة ما بعد الاستعمار بمعنى أنّ هذه الأنظمة تعود لممارسة خدمة الاستعمار نفسه على حساب شعوبها؛ إذ يرى فانون أنّ في الوطن العربي تمكّن الاستعمار عبر التجزئة من تصنيع بديلٍ محليٍّ له، أي تكوين أنظمة تابعة معادية لوطنها، تكرّس احتجاز التطوّر وتتسلّح بالقمع. وبالتالي، لا تحتاج أميركا لقوّتها العسكريّة ضدّ الوطن العربي. وأمّا سمير أمين فركّز على أن تحصيل التطوّر وحمايته يشترط دولةً وطنيّةً تتبنّى بردايم فك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي، وخاصّة أنّ في الحقبة الحاليّة أصبح العدوان العسكري فيها صعبًا إلى حدّ ما. وهذا لا ينفي الحرب التجاريّة المقاطعة والحصار الاقتصادي بالطبع.
بعد فشل تجربة البلدان الإشتراكيّة، اأ تطبيق الاشتراكيّة من أعلى عبر بيروقراطيّة الحزب، وجدت أنّ مساهمتي «بردايم التنمية بالحماية الشعبية» وحده الذي يجعل فكّ الارتباط ممكنًا ومستمرًّا، وذلك حينما تتبنّى الطبقات الشعبيّة بردايم التنمية بالحماية الشعبيّة بما هو منفك عن السوق العالميّة، وهذا إذا ما قادته حركة ثوريّة تفرزها الطبقات الشعبيّة يمكن أن يدفع سلطة الدولة لتبني فك الارتباط لصالح الأكثريّة الشعبيّة، بحيث تعمل بمنطق الحاجة المحليّة لا بمنطق السّوق العالميّة.
كان من أسباب فشل الاشتراكية التجاري أنّ قرار الفكاك مع السوق العالمية من أعلى، أي السلطة/الطبقة هي التي تقوم بذلك، ولذا ارتدّت إلى الانخراط في السوق العالميّة. بينما بالحماية الشعبيّة تكون الجماهير نفسها هي التي تبني اقتصادها، تقاطع اقتصادات المركز وتجبر السلطة على فكّ الارتباط المدعوم من الأسفل وليس المفروض من الأعلى. هذا ما وجدت تجربة انتفاضة 1987 تطبيقًا لأطروحتي التي أعددتها في رسالة الدكتوراة في لندن قبل عودتي 1987.
تحمَّس بعض الاقتصاديين لانتقال مصانع إلى المحيط واعتقدوا بأنّ تلك الدول في المحيط قد لحقت بالمركز، ومن بينهم بيل وارين، ولكن واقع الحال أكد الاستقطاب.
* أين تكمن برأيكم عناصر القوّة وعناصر الضعف في الاقتصاد الأميركي وبالتالي تأثير ذلك على اقتصادها السياسي؟
- دعنا نبدأ من النهاية. يقوم الاقتصاد السياسي الأميركي على تحالف:
النخبة الصناعيّة العسكريّة
النخبة الصناعيّة المدنيّة (وأحيانًا أندماجهما في الرأسمالية الاحتكارية المعمّمة)
النخبة الثقافية الإعلامية الأكاديمية
نخبة قوى الدين السياسي
والإدارة البيروقراطية الإدارية السياسية الحاكمة.
هذا التحالف الطبقي هو أساس القوّة الأميركية.
لقد أسّست أميركا لنفسها قيادة العالم اقتصاديًا إثر الحرب الإمبرياليّة الثانية؛ حيث أتبعت أوروبا لها. وبالتالي اندمجت كثيرٌ من الشركات بين الطرفين وحتى مع اليابان، ولكن تفرّدت أميركا بـ:
اعتماد الدولار كعملةٍ عالميّةٍ، وخاصّة بعد أزمة النفط 1973؛ حيث اتّفقت مع السعودية على تسعير النفط بالدولار.
أصبحت أميركا ملاذ تدفّق الأموال من مختلف بلدان العالم.
أدّى هذا إلى تضخيم القدرة الاستهلاكيّة الأميركيّة، مما جعل اقتصادها «اقتصاد الملاذ الأخير» فارتبطت بالسوق الأميركية معظم البلدان التي هجرت سياسة «إحلال الواردات» واتّجهت إلى «اقتصاد موجه للتصدير» فتركّزت تبعيّتها الاقتصاديّة لأميركا. وتراجعت ولو نسبيًّا عن الإصلاح الزراعي، فأفقرت الفلاحين وحوّلت جيوشًا منهم إلى المدن للعمل بأجر رخيص (الصين، الهند، النمور والتنينات ومصر ...الخ)
إذا كانت هذه عناصر القوّة الأميركيّة، فإنّ عناصر الضعف هي الواردة أعلاه من حيث تواجد بلدان منتجة سحبت من أميركا حصّة من أسواقها من جهة، ومن جهة أخرى تراجع الإنتاج الأميركي نفسه لصالح شركاتها التي ذهبت إلى المحيط.
هنا ظهرت وجهتا نظر:
يرى البعض أنّ تواجد شركات أميركيّة خارج أميركا أضعف موقعها الإنتاجي وأرغمها على الاستيراد
ويرى البعض الآخر أنّ معظم الشركات الكبرى هي أميركية، وبأنّ أموالها وإداراتها متركّزة في أميركا نفسها.
وهذا يعني أنّ الرابح الأكبر في التحليل الأخير هي الرأسماليّة الاحتكاريّة قليلة العدد وليس المجتمع الأميركي. وهذه السيرورة إذا ما واصلت من جهة، وترافق معها فك ارتباط موسّع تقوم به دول المحيط، فإنّ أزمة أميركا سوف تتفاقم، مما يشكّل مقدمة لانهيارها الاقتصادي، وحينها لا تنفع القوّة العسكريّة إلّا إذا مارست الجنون.
هذا يردنا إلى تحليل مدرسة النظام العالمي (أمين، ولرشتين، فرانك وأريغي) التي ترى بأنّ مركز الثورة العالمية قد انتقل بحيث يبدأ من المحيط وخاصّة إذا ما قادت الأزمات الاقتصادية إلى فكّ الارتباط مع المركز، مما يقود إلى أزمةٍ داخل المركز، ومن ثم توازي النّضال، فالصراع الطبقي على صعيد مركز/محيط. وربّما لهذا توصي الدول السبع ودول العشرين أو «تعظ أو تأمر» بلدان المحيط بأن لا تتبع أيّة سياسةٍ حتى الحمائيّة!
* بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تداعت جميع الأنظمة الشيوعيّة. ويعتبر البعض أنّ الاقتصاد الماركسي أثبت فشله، فيما الاقتصاد الصيني لا يحمل من بذور الماركسيّة من شيء سوى اسم الحزب الشيوعي الحاكم. هل تعتقدون أنّ محاولات إعادة إحياء الطروحات الاقتصاديّة الماركسيّة قابلة للتحقّق أمام التطوّرات الهائلة التي شهدتها المجتمعات؟
- إذا كان لنا أن نقرأ ما يقوله العالم الرأسمالي، فهو يقول بأنّ شبح ماركس يعود مجدّدًا وبقوّة على الصعيد العالمي. لقد كتبت إثر تفكّك الاتحاد السوفييتي بأنّ الأنظمة، وليس النظرية، الاشتراكيّة هُزمت بالمعنى التاريخي في معركة، هي هزيمة العمل أمام رأس المال، ولكن الرأسماليّة المنتصرة أصبحت عاريةً من حيث وحشيّتها، بل زادت ذلك عبر الانتقال إلى السياسات النيوليبراليّة.
كان تفكك الأنظمة الإشتراكية نتاج:
ـ حرب الرأسمالية الغربية التي استخدمت قوّتها الاقتصاديّة وقوّة الاقتصادات التابعة لها على صعيدٍ عالميٍّ.
ـ تورّط الأنظمة الاشتراكيّة في سباق التسلّح؛ حيث إنّ قدرتها على الإنفاق ليست كقدرة الغرب الرأسمالي الذي لديه ثرواته، وثروات المحيط المنهوبة وثروات المحيط المتدفّقة.
ـ تورّط الأنظمة الاشتراكية في حصر السلطة بيد شريحةٍ بيروقراطيّةٍ طبّقت الاشتراكيّة من الأعلى وتحوّلت إلى سلطةٍ طبقيّةٍ (النومنكلاتورا).
لذا، أعتقد أنّ تطوّرات عالم اليوم، سواء أزمة النمور 1997 وأزمة روسيا في فترة يلتسين، والأزمة الماليّة الاقتصادية 2008 وأزمة اليوم كلّها تؤكد بأنّ الإشتراكية راهنيّة أكثر من أي وقت مضى على النحو التالي:
ـ تعميق ثقافة التنمية بالحمايةالشعبيّة بعيدًا عن السوق العالميّة وخلق قانون قيمة محلي
ـ توفر حركة سياسيّة اشتراكيّة تتولّد عن الطبقات الشعبيّة وتعمل بموجب تخويل مسؤول أمام برلمان هذه الطبقات
ـ الضغط على السلطة لفك الارتباط بالسوق العالميّة، أو الوصول بالحزب نفسه إلى السلطة. أي فكّ ارتباط من الأسفل. وهو ما أسمّيته: أبعد من فك الارتباط Beyond Delinking فيما يخص التجربة الصينية هناك جدل موسّع تجاهها. أعتقد بأنّ الصين تعيش حالة صراعٍ طبقيٍّ ملجوم أو مغطى بين قطاع الدولة والقطاع الخاص المحلي والأجنبي. وهو ما تسميه الصين: «الاشتراكية بسمات صينيّةٍ».
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ النمو الصيني العالي يقوم على الأسس التي أنجزتها الفترة الماوية، أي إرساء القاعدة التقنيّة والتطوّر الزراعي ومن ثم النمو العالي أيضًا. ولا أعتقد أنّ التشكيلة الاجتماعية في الصين هي اشتراكية، ولكنّها ليست رأسماليّة تمامًا، إنّها حالة ملجومة.
يبقى السؤال: هل هذا التعايش ممكنًا؟ أعتقد أنّه ليس ممكنًا.
ولكن، مقابل قدرة الرأسماليّة الغربيّة على لجم نضال الطبقة العاملة سواء بإفساد النقابات أو/ توفير الأجور المقبولة عبر دمج الكينزيّة بالفورديّة، فإنّ الصين أيضًا تتمكن من تحسين شروط المعيشة للأعداد الهائلة في البلد والتي مقابل ذلك توفر للنظام قوة عمل هائلة وبأجور أقلّ من بلدان أخرى، ولكن مقبولة محليًّا، مما أغرى الشركات الغربيّة بالتدفّق إلى الصين.
هذا التصالح لا بدّ أن يصل إلى وجوب الحسم. لقد نجحت السلطة في تهميش وحل الجُماعيات Collectives في الزراعة واستغلت مئات ملايين الشباب الريفي للصناعة. ولكن هذا لا بدّ أن يقود إلى حراكٍ عمّاليٍّ ضدّ الأجور المتدنية وضدّ التفارق الطبقي، وهنا يصبح السؤال:
هل سيكون نضال العمال نقابي أم طبقي؟
وبما أنّ الصين ليست معزولة عن العالم، فإنّ الصراع الطبقي فيها ليس معزولًا أيضًا.
فالسوق العالمية اليوم مضطرة لتقليص وارداتها من الصين، الأمر الذي يحول استثمارات الدولة إلى السوق الصيني نفسه، وهذا اضطرار للعودة إلى جزء من السياسة الاقتصاديّة الماوية: الاعتماد على الذات وهذا يعني اضطرار الدولة لتوفير شروط معيشيّة أفضل للناس. وهذا:
إما أن يتولّد عنه نمط شبيه بالنمط الرأسمالي الغربي الذي هو بدوره وصل نهايته
أو الاضطرار لتغليب التوجهات الاشتراكيّة على الرأسماليّة.
وعلى العموم فالتجربة الصينية ليست صغيرة كي نتكهّن بها بسهولة. ولكن تجربة كوبا على صغر البلد تؤكّد أنّ وجود سلطة تعتمد على الشعب بوسعها الحفاظ على نظام اشتراكي في عالم رأس المال. وقد تكون تجربة وباء كورونا ذات دلالة هنا؛ حيث اتّضح تفوّق الصين وكوبا إنسانيًا على الغرب، الذي تدهور قِيميًا إلى حدّ القرصنة الدولانيّة للأدوية وتهرُّب كلّ بلد من دعم الآخر على القول العربي: «اُنج سعد فقد هلك سعيد» بينما برزت الصين لتساعد على صعيدٍ دوليٍّ.
إنّ التطوّرات الهائلة التي وصلها العالم واشتداد التفارق الطبقي، ووحشيّة رأس المال تدفع باتّجاه الخيار الإشتراكي لا الرأسمالي. ولكن، بأية صيغة اشتراكيّة؟ هذا برسم التطوّر الاجتماعي الاقتصادي الفكري للبشريّة.
* كيف ترون العالم بعد جائحة كورونا لناحية الحديث عن تداعي الاقتصاد العالمي وعن إرهاصات ظهور نظام اقتصادي عالمي جديد؟ وعلى فرض صحّة ذلك هل يمكن رصد معالم هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد؟ ما هي معالمه؟
- كشفت جائحة كورونا عن غياب البُعد الإنساني، وخاصّة في الثلاثي الإمبريالي (أميركا، والاتحاد الأوروبي واليابان) وأكّدت أنّ ما يقود هذا النظام هو التراكم عبر تحقيق الربح اللّا محدود لا سيّما في ظلّ سياسات النيولبراليّة التي تتخندق لصالح الأقليّة الرأسماليّة سواء بتقليص الضرائب تصاعديًا، وعدم الضبط De-regulation، وتقليص خدمات الدولة وتصغير حجمها...الخ.
كما أنّ المبالغة في تضخيم هذا الوباء يشي بأنّ هناك مؤامرة رأسماليّة طبيّة هذه المرة، بمعنى أنّ عدم انتهاء أزمة 2008 وتراجع معدلات أرباح رأس المال قد حوَّل الاستهلاك الجماهيري من السلع المدنيّة إلى الطبابة، أي تحويل الفائض من قطاعٍ صناعيٍّ إلى آخر، ولكن ضمن الطبقة الرأسماليّة «المعولمة» نفسها؛ لأنّ رؤوس أموال الشركات متداخلة. ورغم تفوّق الغرب على الصين خاصّة فيما يخصّ ما تسمّى الحريات، فقد اتّضح تفوّق الصين، وهي شبه اشتراكية، من حيث البُعد الإنساني؛ بمعنى أنّ الدولة كانت قد احتفظت من الماوية ب:
إنتاج الحاجات الأساسيّة للمجتمع ومن ضمنها الحاجات الطبية مسؤوليّة الدولة ليس فقط عن تشغيل الناس بل عن صحتهم أيضًا.
حتى الآن، لا توجد ملامح لنظام عالمي جديد، وإن كان لا بدّ من تسميته بالنظام الرأسمالي العالمي، فلا يوجد نظام لصالح كلّ العالم. وهنا لا بدّ من الالتفات إلى ما يجري ميدانيًا في العالم، أي:
الحرب التجاريّة الأميركيّة المعولمة والتي تُطال حتى حليفتها أوروبا تصاعد القوى الفاشيّة في أميركا والغرب. تآكل قوة الدولار ولو تدريجيًا.
تشغيل حروب متعدّدة في العالم وإن كانت ليست بجيوش غربية، مثلا: الاحتراب البَيْني عربيًا.
تراكم الثروة أكثر وأكثر لصالح أعداد تتضائل أكثر وأكثر
كلّ هذه الوقائع تشير إلى أنّ النظام الرأسمالي الحالي عاجز على أن يكون النموذج المثالي. وهنا، يكون الاختبار فيما إذا تمكّنت الصين من توليد نظام مختلفٍ. لا أعتقد أنّه سيكون رأسماليًّا.
وكما أشرنا أعلاه، فإنّ الأزمة الاقتصاديّة الطبية العالمية تفعل فعلها في المحيط أكثر من المركز، مما يزيد احتمالات الانفجار الإجتماعي سياسيًا ضد الأنظمة، والذي إن حصل سيقود لتأزيم المركز اجتماعيًّا. لكن المعضلة هي في غياب قوى التغيير الثوريّة التي تقود حراك أو انتفاضات الشعوب. وهو غياب على صعيدي المركز والمحيط. ربّما هذه سمة اللحظة التاريخية هذه. وهذا ما يسمح للرأسماليّة بمواصلة التغوُّل بعد.
بكلام آخر، على المدى القريب هناك إنسداد لمسيرة التغيير. ولكن، حين بدايته وحصوله سيكون على الأغلب ضدّ الملكيّة الخاصّة، ضدّ رأس المال ولصالح شكلٍ ما من الإشتراكيّة.
* في ما يُسمّى بالدول النامية، يجري جدال كبير حول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كيف يمكن تشريح عمل هذه المؤسّسات من منظور اقتصاديٍّ أوّلاً، ومن منظور سياسيٍّ ثانيًا؟
- أعتقد أن تسمية «نامية» قد توفّاها الله مع وفاة «كتلة عدم الإنحياز». لعلّ ما يجري على الصعيد العالمي وخاصّة في المحيط هو إفقار المحيط ومنعه حتى من اتّباع الحمائيّة الاقتصاديّة التي تمسّك بها المركز نفسه. ففي اجتماعات السبعة الأغنياء والعشرين، كانت أهم التوصيات هي أن يفتح المحيط أبوابه، طبعًا لمنتجات الغرب.
ليس خافيًا أنّ البنك والصندوق هما مؤسّستين غربيتين لا عالميتين أبدًا، وبالتالي فإنّ أداءهما مكرّس لتنفيذ مصالح الرأسماليات الغربية خاصة، ولجم تطوّر بلدان المحيط، بل وحتى فرض سياسات متوحّشة تحت تسمية «توصيات أو وصفات» قادت إلى تعميق الإفقار في البلدان المقترِضة وزيادة المديونيّة وتقليص الخدمات الحكومية، أي الدعم الغذائي والطبي وحتى استبدال ما تسمّى «مساعدات» الدول المتقدّمة إلى الفقيرة بمنظّمات الأنجزة التي تستعمر المجتمع قاعديًّا مقابل استعمار الحكومات من الرأس.
وعليه، لا يمكن فصل الدورين الاقتصادي والسياسي للبنك والصندوق عن بعضهما، فهما يسيران جنبًا إلى جنبٍ ويتخادمان. لقد أثبتت تجارب الشعوب مع هاتين المؤسّستين بأنّ اللجوء إليهما هو خدمة للأنظمة المسيطرة عليهما، مما زاد التبعيّة في بلدان المحيط وقاد في العقود الأخيرة إلى حالةٍ عالميّةٍ خطيرةٍ مُفادها حصول أو نشوء تحالفٍ عالميٍّ بين:
الطبقة المالكة الحاكمة في المركز
وطبقة الكمبرادور في المحيط.
دعنا نسميها طبقة معولمة حوَّلت العالم إلى قطاعٍ عام رأسماليٍّ معولمٍ لصالحها، وبالتالي هي ديكتاتوريّة طبقة رأسماليّة معولمة تتجلّى في الشركات أكثر مما هي في الحكومات، وتحمل سياطًا ثلاثة هي:
ـ البنك الدولي
ـ صندوق النقد الدولي
ـ ومنظمة التجارة العالمية.
يفتح هذا على وجوب رؤية الواقع كما هو، أي أنّ الرأسمالية تزداد توحّشًا. ويبدو أنّها عاجزة عن إعادة تجديد نفسها كما اعتاد العالم عليها سابقًا.
هل هذا العجز مرض عضال، أم لأن العمل عاجز عن المقاومة بحيث قاتل من أجل الاشتراكية؟
هذا مفتوح على التطوّرات.