البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

May / 25 / 2021  |  1230حقق الغرب تقدما في معرفة الموجودات إلا أنه أخفق في معرفة الواجب

الحوار مع :أ. د. كريستيان بونو
حقق الغرب تقدما في معرفة الموجودات إلا أنه أخفق في معرفة الواجب

جرى هذا اللقاء مع المفكّر الفرنسي المسلم كريستيان بونو قبل رحيله بأسابيع إثر حادثٍ مفجعٍ في نيجيريا وهو في رحلة علميّة لإلقاء عدد من المحاضرات في جامعاتها. وقد تناول الحوار رؤية بونو النّقديّة للغرب ومبانيه المعرفيّة في حقل الفكر والاجتماع وعلاقاته بالمجتمعات الإسلاميّة.

نُشير إلى أنّ بونو ـ أو يحي العلوي كما صار يُعرف في ما بعد ـ حاصل على شهادة الدكتوراه في حقل العرفان الإسلامي من جامعة السوربون الفرنسيّة، وهو عضو الهيئة العلميّة في مركز الدراسات الدولية في جامعة المصطفى، وله بعض المؤلّفات، مثل: (التصوّف والعرفان الإسلامي)، (الإلهيات في الآثار الفلسفيّة والعرفانيّة للإمام الخميني).

وهنا وقائع الحوار الذي تركّز حول علم الاستغراب النّقدي.

«المحرّر»


* ما هي برأيكم الانتقادات الإجماليّة الموجّهة إلى الحضارة الغربيّة المعاصرة من الناحية المعرفيّة والاجتماعيّة؟

ـ يمكن للجواب عن هذا السؤال أن يؤدّي بنا إلى تأليف كتابٍ من مجلدات عدّة. ولكن سأكتفي ببعض المقدمات الهامّة في هذا الشأن:

المقدّمة الأولى: يجب علينا الفصل بين الانتقاد والاقتراح. ففي الاتّجاه النّقدي يعمل الفرد على مراجعة الكتب والأعمال المعنيّة، ثم يعمل على نقدها من زاوية خاصّة. وفي هذا الاتّجاه لا يتمّ اقتراح طريق للحلّ بالضرورة. وفي هذا الاتّجاه يمكن للنقـد أن يكون صائبًا، ولكن لا يُشار فيـه إلى الحلول. يمكـن لهـذه الانتقادات أن تنتظـم ضمن خلفيات

متنوّعة، من قبيل: نقد الماركسية، ونقد البيئة، ونقد الاقتصاد وما إلى ذلك. وفي الحقيقة فإنّ الانتقادات ترد من زوايا مختلفة، ومن هنا فإنّ هذا السؤال واسع جداً.

المقدمة الثانية: إنّ أكثر وأهم الانتقادات القوية والدقيقة والنافعة إنّما يمكن العثور عليها في التحقيقات الغربية، وفي المقابل نجد الانتقادات الموجودة في الشرق ضعيفة، وأكثرها غير مستدل؛ بمعنى أنّ أغلبها عاطفي أو سطحي، وهذا بدوره أمر طبيعي أيضاً؛ إذ عندما يُسأل: من الذي يمكنه أن ينتقد الوضع في إيران بشكل أفضل وأدق؟ من الطبيعي أن يكون الجواب هو: إنّهم الإيرانيون أنفسهم؛ وذلك لأنّ الانتقاد الصادر من الأجانب ـ بشكل عام ـ لن يكون دقيقاً؛ وفي المقابل يكون الانتقاد الصادر عن الإيرانيين في الأعم الأغلب دقيقاً ومستدلاً. وعلى كلّ حال فإنّ المواطنين في كل بلد يمكن لهم انتقاد بلدهم بشكلٍ أفضل من المواطنين في البلدان الأخرى، شريطة أن يكونوا مؤهلين لإبداء النقد حول شؤون أوطانهم.

وبغضّ النّظر عن هاتين المقدمتين، فإنّ الاتّجاه التخصّصي الذي يتعرّض إلى مسألة انهيار الغرب، يُعدّ من المسائل الهامة. يزعم أحد المفكرين الذي يتحدّث عن مثل هذا الانهيار، ويُمثّل لذلك بمثل هذا المثال القائل: لدينا بحيرة وقد غطّت الزنابق سطحها، وفي كلّ ليلة يزداد عدد هذه الزنابق بمقدار الضعف. واليوم قد غطّت الزنابق نصف حجم البحيرة، ولم يبقَ أمامنا سوى ليلةٍ واحدةٍ حتى تغطي الزنابق جميع سطح البحيرة. لا يبعد أن تكون مسألة انهيار الحضارة الغربية شيئاً من هذا القبيل، ولكن لا تزال بداية هذا الانهيار غير محدّدة. فهل سيبدأ الانهيار من مشاكل تتعلّق بالبيئة، من قبيل: ارتفاع حرارة الأرض أو شحّ أو فقدان مصادر الغاز والطاقة؟ أم سيبدأ الانهيار بسبب المشاكل الاقتصادية والأنظمة المالية؟ هذا ما لم يتّضح بعد بشكلٍ جيّدٍ.

*  إذا أردنا أن نُحلّل هذه الانتقادات بشكلٍ منهجيٍّ، وملاحظة ذلك ضمن مشروع بعنوان «الاستغراب الانتقادي»، فما هو المسار الذي يجب أن نتّخذه أوّلاً من وجهة نظركم، وكيف ترون طريقة التقدّم بهذا المشروع؟ وبعبارةٍ أخرى: كيف ندير هذا المشروع كي نطوي هذا المسار المنطقي ونصل إلى النتائج المطلوبة؟

ـ لقد أجبت عن السؤال الأوّل من الناحية المعرفيّة والاجتماعيّة؛ ولكنّي أرى أنّ أفضل طريق إلى الدخول في هذه المسألة يكمن في الناحية الأساسية والجذرية، أي من الزاوية الميتافيزيقية. في كتاب بعنوان «القرن التاسع عشر قرن الغباء»، تم وصف هذا القرن بأنّه يمثّل مرحلةً تقوم الحضارة فيه على التقنية، والتقنية تقوم على الإبداع، والإبداع بدوره يقوم على الخلأ والفراغ الميتافيزيقي. ومن هذه الناحية، فإنّ الأسلوب الميتافيزيقي يعتبر اتّجاهاً توصيفياً / تحليلياً، وفي المقابل فإنّ الأساليب التوصيفيّة البحتة تمثّل نظيراً للنزعة التاريخية. من ذلك مثلاً أنّ قيام الرأسماليّة على الروح البروتستانتية يعدّ توصيفًا. إلّا أنّ الافتقار إلى المسألة الميتافيزيقية أدّى إلى عدم تحقّق هذه المسألة بشكلٍ مبكر. إنّ المراد من الميتافيزيقا، هي ميتافيزيقا اللاهوت الأهم لا اللاهوت بالمعنى الأخص. إنّ هذا التقرير يثبت أنّه غير مشروطٍ بالرؤية اللاهوتيّة. ومن هنا فإنّ هذه الرؤية أو الفرضيّة يمكن أن تكون بمنزلة التنمية اللّا متناهية في عالم محدود. إنّ هذا التناقض الميتافيزيقي يقع في الأمور العامة، وهو ـ بطبيعة الحال ـ تناقض منطقي. إنّ هذا التّناقض الأساسي والمنطقي لا يمكن له أن يحقّق التنمية المطلقة في عالم محدود. فحتى لو كان الشخص مؤمنًا بشدّة، ولكنّه يفتقر إلى الأساس الميتافيزيقي، فإنّه سيصل لا محالة إلى مثل هذه النتيجة التي وصلت لها الحضارة الغربية. ولهذا السبب تغدو التنمية المطلقة في العالم المحدود ضرباً من المحال. وتبقى هذه الاستحالة قائمةً حتى إذا كانت الحضارة حضارة إسلاميّة؛ وذلك بسبب غياب الأرضيّة الميتافيزيقيّة. والمراد من الميتافيزيق هنا هو الأصول والقواعد العقليّة. وفي الواقع يمكن في ضوء هذا المعنى متابعة البحث في جميع مظاهر الحضارة الغربية، أو ما وجد على المستوى البنائي في الغرب، بوصفها معرفةً ميتافيزيقيةً، والوصول إلى أصولها. عندما يتحدّث هنري كوربان عن مشكلة الفكر الغربي الشائع، ويقول إنّها بدأت في الحدّ الأدنى من القرن الثاني عشر للميلاد، وأدّت إلى ثنائيّة الذهن والعقل وتقسيم العالم إلى بعدين، فإنّ هذه المشكلة بدورها تعود إلى المسألة الميتافيزيقية أيضاً، وهذه المسألة بدورها تعود إلى القرون الوسطى. إذ لو لم نلاحظ أيّ صلة بين المادة والأمر المجرّد، ولم نأخذ بنظر الاعتبار إمكانيّة الأشرف والأخص بنظر الاعتبار، فإنّ الكثير من المسائل لا محالة لن تكون قابلة للإدراك. وعلى هذا الأساس فإنّ التعاطي مع الطبيعة يقوم بدوره على أساس ميتافيزيقي أيضاً. من ذلك ـ مثلاً ـ هل يُسمح للإنسان بوصفه أشرف المخلوقات، أن يقوم بكل ما يحلو له؟ لماذا يتم تصوّر الإنسان بوصفه كائناً في قبال الطبيعة، في حين أنّه جزء من الطبيعة؟ وعلى أيّ حال فإنّ الإنسان في الكثير من الثقافات لا يتمّ تصوّره في قبال الطبيعة؛ وذلك لأنّ الإنسان إلى جانب سائر المخلوقات الأخرى، يعدّ واحداً من هذه المخلوقات. وعلى هذا الأساس فإنّ هذا الأصل الجوهري والأساسي يقوم بدوره على عدم الإشراف على المسائل المعنويّة والحقيقيّة. ثم إنّ حصر المادة في المحسوس بمنزلة الفهم المخالف للعقل؛ لأنّ العقل يحكم بأنّ المعقولات بدورها جزء من الحقائق والواقعيات. وعلى كل حال فإنّ قانون العلية جزء من المعقولات أيضاً؛ إذ لا يمكن استنباط أي محسوس من أصل العلية. وعلى هذا الأساس فإنّ المسألة الأصلية تكمن في المعقول العقلانية.

*  تبعًا لمعرفتكم بأعماله وآثار الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان، كيف كان سينظر اليوم إلى الاحتدام الحاصل بين المسلمين والغرب، وماذا كان سينصح النخب المسلمة حيال منهج المواجهة؟

ـ كان هنري كوربان يؤكّد دائمًا على وجوب عدم الانبهار بكلّ الإمكانات التقنية والفنية التي تأتي من الغرب، بحيث تحجب عنّا الاهتمام بالمسائل العقلية. وهذا ما كان يؤكّد عليه في مقالاته وحواراته وكتاباته. وأرى أنّ هذه هي المسألة الرئيسة والجوهرية؛ إذ إنّ القوّة التقنيّة لدى الغرب قد أبهرت الثقافات الأخرى، الأمر الذي أوجد لديها حالة من الشعور بالعجز والوهن. بحيث إنّ الكثير من عقلاء سائر البلدان الأخرى بالنّظر إلى التكنولوجيا الغربية قد غضوا الطرف عن المسائل العقليّة، وركزوا كلّ اهتمامهم على المسائل الفنية والتقنية. إنّ هيمنة الغرب على سائر الثقافات بالإضافة إلى السيطرة العسكرية، تكمن في إبهارها بواسطة المسائل التقنية. في حين أنّ هذه القدرة التكنولوجية قد تحوّلت في الوقت الراهن إلى مشكلة كبرى. فلا يبعد أن تؤدّي هذه الثقافة والحضارة إلى القضاء على نفسها، بل وقد تؤدّي إلى تدمير البشريّة بأسرها. هناك من يذهب حالياً إلى الاعتقاد بإمكانيّة التغلّب على الأزمة الراهنة بواسطة التفوّق التكنولوجي والجيو ـ هندسي. من ذلك أنّهم ـ على سبيل المثال ـ يعتقدون حالياً ويقولون حيث إنّ الكرة الأرضية تعاني حالياً من ارتفاع درجات الحرارة، ربما أمكن القيام بتفجيرات نووية هائلة تخرج الكرة الأرضية عن مدارها، مما يوجب ابتعادها عن الشمس، الأمر الذي يساعد بالتالي على تبريدها. وعليه ربّما لم يصل البعض حتى الآن إلى إدراك أنّ هذه التكنولوجيا نفسها من شأنها أن تكون هي المنشأ في هذه الأزمة. وعلى هذا الأساس فإنّ الرؤية الأهم التي يمكن استخلاصها من تفكير هنري كوربان بالنظر إلى هذا السؤال، هي أنّ المشكلة الرئيسة لدى الثقافات ـ ولا سيّما منها الثقافات الشرقية ـ تكمن في الانبهار بثقافة الغرب، ولا سيّما منها الثقافة الناظرة إلى البُعد التكنولوجي؛ إذ إنّهم يتصوّرون أنّ الغرب قد امتاز في المسائل الفنيّة بواسطة المقدرة العقلية الكبيرة. في حين لا يوجد أي تلازم عقلي ومنطقي بين هذين الأمرين.

* هل يمكن الاعتقاد بالنسبة المفهوميّة بين الاستغراب النّقدي وفلسفة العرفان الإسلامي؟ وبعبارة أخرى: إذا افترضنا وجود مثل هذه النسبة، فما هي مقدمات الاستغراب ولوازمه وضروراته على أساس الفلسفة والعرفان الإسلامي؟

ـ إنّما نؤكّد في الغالب على الفلسفة الإسلامية؛ وذلك لأنّ هذه الفلسفة تحظى بمزيدٍ من الاعتبار بالنّظر إلى اشتمالها على الميتافيزيقا. وبعبارةٍ أخرى وبالنّظر إلى هذا السؤال: يجب علينا أن نبدأ من المسائل الميتافيزيقية. الفلسفة الإسلامية هي الفلسفة الأرسطية التي تطوّرت في العالم الإسلامي. كما أنّ العرفان في حقل التحليل والإثبات ـ بطبيعة الحال ـ يرتبط بدوره بالمسائل الفلسفية، نعلم أنّ العرفاء لم يعملوا على توظيف الأسلوب الاستدلالي، ولكن حيث يجب الاستناد في النقد إلى الاستدلال، يمكن للعرفان لا محالة أن يلهمنا بعض المسائل، ومن هنا يتبلور نقدنا بالكامل على أساس سلسلة ممن الاستدلالات الفلسفية. من ذلك مثلاً ما إذا كان يمكن للعقل الصناعي أن يكون لديه ردود فعل أو تجاوب إيماني أو عرفاني، نعتقد بأنّه ليس هناك شيء مادي ـ أعم من أن يكون طبيعياً أو صناعياً، بل وحتى المخ ـ لديه تعقل من عنده أو من الآخر. وفي الحقيقة فإنّ المخ لا يدرك شيئاً، كما أنّ العين لا ترى شيئاً. وفي الحقيقة فإنّ الإنسان يرى بواسطة العين، وهذه النقطة تمثل جزءاً من الأسس والقواعد الميتافيزيقية التي يمكن أن تخضع للبحث والتحليل. النموذج الآخر ناظر إلى الاختلاف بين آيات القرآن والروايات. نعلم أنّ الوحي والرواية هما بمنزلة الإرشاد للعقل؛ كي يعمل العقل على إبداء الرأي والحكم من خلال النّظر إلى تلك المفاهيم. ومن هذه الناحية تكون للروايات حيثيّة إرشاديّة. وبعبارة أخرى: إنّ الروايات تشير إلى أمر. إنّ من شأنها أن تكون إرشاديّة، أو أن تقوم بدور تمهيدي لإقامة الاستدلال العقلاني على ما إذا كان ينبغي علينا القيام بفعل ما أو عدم القيام به؟ وعلى هذا الأساس يكون لها حيثية تنظيمية وليست تقويمية؛ بمعنى أنّها قد لا تكون مستدلّة في نفسها، بل يجب الاستدلال لصالحها، وأخذها بوصفها تمهيداً للاستدلال. وبطبيعة الحال فإنّ بعضها تأسيسي، ولكن سيكون لها بالنّظر إلى المسائل المعرفيّة حيثيّة إرشاديّة. بمعنى الإرشاد إلى مسألة يجب أن تفهم، وبمنزلة إرشاد للعقل. وإنّ المسائل الإرشادية ـ بطبيعة الحال ـ يجب أن تقوم بدورها على المسائل المعرفية. ومن ناحية أخرى قد لا تتوفّر في بعض الموارد إمكانيّة لفهم أسباب بعض الآيات والروايات؛ من ذلك مثلاً قد لا يمكن فهم سبب عدد ركعات الصلاة اليومية. وطبقاً للقانون نكون ملزمين برعاية هذا النّوع من الموارد. وبعبارة أخرى: حيث تم وضعها على هذه الشاكلة، نكون مكلفين برعايتها. ولكنّنا نعلم أنّ كلّ قانون ـ أعم من أن يكون بشرياً أو إلهياً ـ قد وضع بالنظر إلى المسائل والمصالح والمنافع، وهناك دليل على مثل هذا الوضع أيضاً؛ بيد أنّ هذه الأدلّة قد تكون في متناول الإنسان وقد لا تكون في متناوله. فهل يجب على العقل أن يلتزم الصمت بإزاء هذه القوانين؟ أجل، فهذا هو الوضع حتى بالنسبة إلى مفكر قومي مثل ديكارت الذي يشكك في مجمل المسائل المعرفيّة.

*  هل يمكن الوصول إلى طريق وآليات ونصائح للاستغراب النقدي على أساس تعاليم القرآن الكريم؟

ـ من الممكن للتعاليم القرآنية أن تقدّم لنا العون بوصفها ملهمةً أو بوصفها من الفرضيات. بيد أنّنا للوصول إلى الهدف المنشود في هذا السؤال نحتاج إلى استدلالٍ عقليٍّ. إنّ الأرضيّة في هذه الغاية ليست موقفاً كلامياً. وفي الحقيقة فإنّنا نسعى إلى بحث هذه المسألة، وهي: هل الفرضيات التي نفترضها في هذا الاتّجاه صحيحة أم خاطئة؟ من ذلك مثلاً: هل تمّ فهم القضايا القرآنيّة في ضوء أسسٍ صحيحة؟ وهل فهمنا جميع أرضاياتها أم اقتصرنا على مجرّد فهم المعنى الظاهري للقضية؟ وهل فهمنا جميع أبعادها؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى. والنقطة الهامة هي أنّ المسألة المفروضة في هذا الاتّجاه برمّتها لا تشمل جميع المسائل الكلاميّة التي نروم الدفاع عنها، وإنّما نروم البحث في الفرضية الصحيحة من الخاطئة فقط، والنظر في هذا الموضع إنّما يمكن بلوغ هذا الهدف من خلال الاستدلال العقلي.

*  هل يمكن العمل على تقديم بعض المقترحات والنصائح المنهجيّة في العمل الفلسفي في إطار إحياء الحضارة الإسلامية؟

ـ يمكن القيام بذلك قطعاً؛ لأنّ إحياء الثقافة أو أساس ثقافة ما، إنّما يقوم على أرضيّة عقليّة. ومن هنا فإنّ الدعوة إلى العقل بمنزلة المرحلة الأولى والأخيرة في مثل هذه الغاية. ومن بين جميع الروايات المأثورة بشأن ظهور إمام العصر (عج)، نجد أنّ الأكثر أهميّةً هي الرواية التي تقول إنّ المهمّة الرئيسة التي سوف يقوم بها الإمام بعد ظهوره هي إكمال عقول الناس، وأنّ سائر الأمور والمهام الأخرى سوف تكون بمثابة المهام الثانوية. وإنّ القرآن الكريم بدوره يدعو إلى التفكير والتعقل، وألّا نقول بأنّ ثقافتنا هي الأفضل؛ لأنّ أسلافنا كانوا يعتقدون بهذه الثقاقة، وأنّ آباءنا كانوا يعتنقون هذه الثقافة. إنّ منطق القرآن هو التعقّل والإدراك العقلي. ومن هنا فإنّ البداية والمتمّم لجميع الأعمال بأسرها يجب أن تقوم على التعقل والتفكير. ومن هذه الناحية يمكن لفلسفة صدر المتألهين أن تكون مفيدةً ونافعةً. وعلى كلّ حال لا يوجد لدينا إلى الآن نتيجة أقوى وأكثر استدلالاً من فلسفة صدر المتألهين، وأرى أنّ هناك مثل هذه الإمكانيّة في فلسفة صدر المتألهين. ربّما لو لم يأتِ صدر المتألهين لكنّا لا نزال نعيد اجترار فلسفة ابن سينا. لقد مضت قرون حتى ظهر شخص مثل صدر المتألهين، ليقدّم لنا مسائل أساسيّة من قبيل: اتّحاد العاقل والمعقول، ومسألة أصالة الوجود وما إلى ذلك، وأثبتها بالأدلّة العقليّة. وعلى هذا الأساس قد لا تكون فلسفة صدر المتألهين مفيدة في مسألة من المسائل، بيد أنّها مفيدة في مسألة أخرى. وعلى كلّ حال، وفيما يتعلّق بالنقل عن ابن سينا، يجب علينا جميعاً أن نكون من «أبناء الدليل».

* كيف يمكن أن يكون للجمع بين المعنوية والعقلانية دورٌ منهجيٌّ في مواجهة المناهج الغربية؟

ـ إنّ البحث حول الجمع بين المعنويات والعقلانية بحث أساسي وهامّ للغاية، غاية ما هنالك لا ينبغي الوقوع في سوء فهم، والاعتقاد بأنّ المسائل العقليّة على درجةٍ واحدةٍ من الاعتبار؛ إذ ليس هناك في الأمور النّظرية من دليل ومرشد غير العقل. من الممكن أن نكون في المرتبة النظرية قد وصلنا إلى نتيجة عقلانية، ولكنّنا في مقام التنفيذ نفتقر إلى الناحية المعنوية. من ذلك أن أعلم ـ على سبيل المثال ـ أنّي لا أمتلك مقومات القيام بهذه المهنة، وأفتقر إلى القدرة اللازمة للاضطلاع بها؛ ولكني في المقابل أحتاج إلى راتب هذه المهنة لكي أتمكن من دفع نفقات دراسة ولدي في الجامعة. ومن هنا فإني أقبل العمل في هذه المهنة. إنّ هذا الاختيار لا يحتوي على مشكلة عقليّة، ولكنّه يحتوي على مشكلة عمليّة. ومن هنا فإنّ المعنويّة إنّما يتمّ طرحها غالباً في مقام العمل، ولهذا السبب فإنّها ترتبط بحقل السلوك والعمل. ونحن نعلم أنّ أكثر المسائل المطروحة في الوحي هي من المسائل العملية، وهي بطبيعة الحال مسائل عملية ذات أرضية نظرية. عندما يسأل الإمام الصادق (ع) عن معنى العقل، نجده يقول: «العقل ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان»؛ إنّ الجزء النّظري يشتمل على معرفة الله، والجزء العملي يشتمل على اكتساب الجنّة. إنّ بحث معرفة الله مسألة نظرية، وأما اكتساب الجنان، فيستلزم القيام بالكثير من الأمور. وبعبارة أخرى: فيما يتعلّق بالبُعد النّظري يجب أن نؤمن بوجود الله. ثم في البُعد العملي يجب علينا التّوجّه إلى الكثير من المسائل. وعلى كلّ حال، فإنّ المسائل العمليّة عدّة أضعاف المسائل النظرية، وإنّ هذه النقطة تشتمل على أهميّة بالغة فيما يرتبط بمواجهتنا مع الغرب؛ إذ إنّ البحث النظري يمثّل الأساس لجميع سلوكياتنا وممارساتنا العمليّة.

* هل المواجهة الانتقائيّة مع الغرب صحيحة وممكنة؟ بمعنى أن نعمل من خلال التفكيك والفصل بين العقائد والتداعيات والمعطيات الغربية في حقل «الحسن»و«القبيح»، على أخذ كل ما هو من الغرب حسن، ونجتنب كل ما هو من الغرب قبيح.

ـ ما هو المبنى الذي يمكن على أساسه التمييز بين الحسن والقبيح؟ نعيد ثانية عرض التوضيح ذاته الذي تقدّم بيانه. وفي الحقيقة فإنّه عندما يتمّ الحديث عن الأمور في المسائل النظرية، فإنّ الكثير من الأشياء سوف تكون متعلقاً للأمور. وإنّ التقسيم الأوّلي بين هذه الأمور يعود إلى تقسيمها إلى مادية وغير مادية. وبطبيعة الحال تحت أي تقسيم نلاحظه يمكن لنا تقسيم الأمور إلى أشياء موجودة دون إرادة الإنسان، وأشياء موجودة بواسطة إرادة الإنسان. وبعبارة أخرى: في بعض الأحيان لا تتوفّر لدينا سوى إمكانيّة إدراك الأمور النّظريّة ـ الأعم من الأمور المعقولة والمحسوسة ـ ويكون تغييرها خارجاً عن إرادتنا. ولكن هناك أموراً أخرى أيضاً توجد بإرادة الإنسان، من قبيل: السياسة والاقتصاد وما إلى ذلك. وفي الحقيقة فإنّ الإنسان في هذه المرتبة يعمل على إظهار فكره النظري، ويجعل معقوله أمراً محسوساً؛ كما يفعل المهندس على تحقيق البناء المتصوّر في ذهنه في العالم الخارجي. إنّ هذه المراتب الثنائيّة بدورها تعبّر عن فلسفة تقسيم العقل إلى العقل النظري والعقل العملي؛ وذلك لأنّ عقل الإنسان يعمل من خلال النّظر إلى مستويين أو نوعين من الأمور؛ بعض الأمور يعرفها، وبعض الأمور الأخرى لا يعرفها. فهناك سلسلة من الأمور حيث إنّها تكون متعلقاً لإدراكنا، وبعد ذلك يترك ذلك الإدراك تأثيره على سلوكنا. وبعبارة أخرى: إنّ المعرفة تؤدّي إلى السلوك، ويكون مستوجباً لتغيير سلوكنا. وبطبيعة الحال فإنّ هذه المعرفة لا دخل لها في إيجاد الموجود. في حين لو لم تكن هناك إرادة لدى الإنسان إلى طبخ الطعام، فإنّه لن يوجد أي طعام مطبوخ. وعلى هذا الأساس فإنّ هذه المعارف النّظريّة تؤدّي إلى العمل، وعندما يتحقّق العمل، يتجلّى نوع من المعنويّة. من ذلك أنّنا ـ على سبيل المثال ـ نقول في البداية: لا علاقة لنا بتلوّث الماء، غاية ما هنالك أنّنا بعد إدراكنا أنّنا نحن الذين يجب أن نستفيد من هذا الماء الملوّث، يتبلور لدينا نوع من المعنوية والداعي إلى المحافظة على طهارة الماء ونظافته. وعلى هذا الأساس عندما يتمّ البحث عن عمل الإنسان، تتبلور المعنوية، وتبعاً لها يتم طرح فرضيات من قبيل: العدالة أو المصلحة. وعلى هذا الأساس ـ بالنظر إلى سؤالكم ـ نعود إلى مسألة عدم الأرضيّة الميتافيزيقية. وحتى الافتقار إلى الأساس المعرفي بدوره يعود إلى عدم الأساس الميتافيزيقي أيضاً. وكما تقدّم أن ذكرنا، فإنّ التكنولوجيا تقوم على إبداع، والإبداع بدوره يقوم على خلأ الأساس الميتافيزيقي. ومن هنا يمكن القول إنّ الغرب قد حقّق تقدماً في معرفة الموجودات، ولكنّه لم يكن موفقاً إلى حدّ كبير في ربط المعرفة بـ «الواجب». إنّ هذا التحدي لا يعود سببه إلى فقدان المعنوية فحسب، بل هناك دخل في ذلك إلى عدم وجود الأساس النظري أو الميتافيزيقي أيضاً.


تعريب: حسن علي مطر الهاشمي

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف