البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

January / 1 / 2022  |  1350معرفة الذات الثقافية الإسلامية هي الأساس في مواجهة الغزو الاستعماري

الحوار مع :د. عبد الحسين خسرو بناه
معرفة الذات الثقافية الإسلامية هي الأساس في مواجهة الغزو الاستعماري

يدور هذا الحوار حول الثقافة في ماهيّتها الإصطلاحيّة ودلالاتها المعنويّة، وإشكاليّة العلاقة المضطربة بين ثقافات المركز الغربي الإمبريالي وثقافة المجتمعات الإسلاميّة. ولقد سعينا مع الدكتور عبد الحسين خسروبناه الأستاذ المعاصر في الحوزة العلميّة ورئيس مؤسّسة الحكمة والفلسفة في إيران إلى مقاربة القضيّة الثقافيّة وإشكالياتها من جوانب مختلفة.

صدر للبروفسور خسروبناه العديد من الكتب والمقالات في البحث النقدي لفلسفة الدين، والكلام الجديد، والثقافة الغربية وغير ذلك، ومن بينها: (ما يتوقّعه الإنسان من الدين)، و(التعدّديّة الدّينيّة والسياسيّة) و(آفات المجتمع الديني)، و(آفات البحث الديني المعاصر)، و(معرفة التيارات المناهضة للثقافات)، و (التنوير والمستنيرون)، و (الكلام الإسلامي الجديد)، وما إلى ذلك من الأعمال الأخرى. وقد أقام الكثير من الحصص الدراسيّة والدورات التعليميّة حول الاستغراب والمعضلات الثقافيّة.

وفي ما يلي وقائع الحوار:

«المحرّر»


* ماذا تعني الثّقافة بالنسبة إليكم، وما هي مبانيها المعرفيّة على نحو مجمل؟

لقد تمّ تعريف الثّقافة بمختلف التعاريف، حتى قال البعض إنّ تعاريف الثّقافة قد تجاوزت المئتين وخمسين تعريفًا، وربّما كان بعض هذه التعاريف يستند إلى أسسٍ خاصّةٍ. ويبدو أنّنا إذا اعتبرنا الثّقافة طبقة من الأدوات المرنة للمعطيات البشريّة ـ في قبال الحضارة بوصفها طبقةً صلبةً ـ يمكن لنا في مثل هذه الحالة اعتبار الثقافة مجموعة من الآراء والأفعال والسلوكيات البشريّة. والآراء هنا تشمل الساحة المعرفيّة كما تشمل مساحة المعتقدات أيضًا. إنّ الرؤية هــي زاوية النّظـر التي يمتلكهـا النّاس ويقومـون على أساسها بتفسير الكثير من الظواهر. وأمّا السلوك فهو عبارة عن مجموعة من الخلقيات أو الفضائل والرذائل التي يمتلكها الإنسان، والأفعال عبارة عن التصرفات التي تصدر عن الإنسان أو السلوكيات الفرديّة أو الاجتماعية. ومن هنا فإنّ نمط حياة البشر يرتبط بساحة الأفعال ـ وفي الغالب ترتبط دائرة الأفعال الاجتماعيّة بنمط حياة الإنسان ـ ثم تتحقّق بعد ذلك الأدوات الصلبة، من قبيل: الصناعات والفنون العينيّة والخارجيّة على أساس التصرّفات والسلوكيات الفرديّة والاجتماعيّة. من ذلك يتحقّق العمران ـ على سبيل المثال ـ وتُعدّ جملة هذه الموارد بمثابة النماذج الحضارية. إنّ النماذج الحضارية وليدة الأفعال والتصرّفات، وهذه الأفعال والتصرفات نفسها وليدة الآراء والأفكار والمتبنيات؛ وعليه يمكن تعريف الحضارة بوصفها ثمرةً ونتيجةً من نتائج الثّقافة.

* نعلم أنّ هناك الكثير من الاختلافات الثقافيّة بين السكان في الولايات المتحدة الأميركية وسائر البلدان الأوروبيّة، كما نشاهد هذه الاختلافات بين سكان البلدان الأوروبيّة الشرقيّة والغربيّة بوضوح أيضًا؛ وعليه ما هو ذلك الشيء الذي نعبّر عنه بالثقافة الغربية، وما هي عناصره ومقوّماته؟

- التعريف الذي قدّمته للثقافة يشمل جميع الثقافات. والاختلاف بين الثقافات يكمن في نوعيّة محتوياتها؛ فإنّ ثقافة المجتمع تتبلور من خلال نوع المحتوى الموجود في الآراء والأفكار والأفعال؛ بمعنى أنّ اختلاف الثقافات لا يكمن في أنّ هناك ثقافة تحتوي على رؤية وثقافة أخرى تفتقر إلى هذه الرؤية، أو أنّ هناك ثقافة فاعلة والثقافة الأخرى تفتقر إلى الفاعليّة، أو أنّ هذه الثقافة تمتلك توجّها تفتقر له الثقافة الأخرى، بل إنّ الاختلاف يكمن في المحتوى الموجود في كل ثقافة. من ذلك أنّ الغربيين ـ على سبيل المثال ـ كانوا في العصور الوسطى وحتى في عصر النهضة، يمتلكون ثقافات وأنماط حياة مختلفة. بيد أنّ القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد شهدا تحوّلاً خاصًّا، من ذلك أنّ الحجاب ـ على سبيل المثال ـ كان يمثّل ظاهرةً ثقافيّةً في العالم الغربي، بيد أنّ هذه الثقافة شهدت تغيّرًا تدريجيًّا. لماذا تتغيّر هذه الثقافة؟ إنّ تلك الرؤية التي تغيّرت وذلك المبنى الذي تحوّل إلى إنسويّة، إنّما هو المبنى الشّيئي الذي تحوّل إلى مبنًى موضوعيٍّ. إنّ أساس الارتباط الوثيق بين الدين ومختلف الأبعاد الاجتماعيّة حيث تحوّل إلى العلمانية، كان هذا التغيير والاختلاف قد تحقّق في المباني أي الاختلاف في الرؤية. وعندما تتغيّر الرؤية، سوف ينعكس ذلك لا محالة على تغيّر في زاوية النّظر أيضًا. وعندما تتغيّر زاوية الرؤية، فإنّ ذلك سيترك بتأثيره على الخلقيات وعلى رذائل الإنسان وفضائله أيضًا، وتبعًا لذلك يترك تأثيره على السلوك وعلى أساليب وأنماط الحياة أيضًا. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ الفلم الذي يتمّ إنتاجه في هوليوود قد يعمل على الترويج لثقافة العنف أو الشهوة أو التحلّل الأخلاقي، ولكن هذا لا يعدّ في الوقت نفسه مذمومًا؛ لأنّه قد تبلور على أساس رؤيةٍ معيّنةٍ. لقد ظهرت في المرحلة الأخيرة رؤية نسبيّة في ما بعد الحداثة منذ عام 1950م فصاعدًا، وإن هذه النسبية تعمل على إنتاج فلم «التلقين»، الذي هو من الأفلام الهوليووديّة الهامّة. ومن زاوية أخرى، عندما يتغيّر نمط الحياة، تفقد الكثير من المعاني الجوهريّة مفهومها؛ فمن ذلك مثلاً، إذا كان من الممكن بناء الأسرة من خلال الزواج في الكنيسة، أخذت هذه القيود تفقد قيمتها في المرحلة الراهنة. وعلى كلّ حال فإنّ الثقافة تتبلور من خلال الأفعال القائمة على الآراء والأفكار بشكل كامل. فإذا تمّ الآن طرح السؤال القائل: ما هي الثقافة الغربية؟ سوف أقول في الجواب: إنّها الثقافة التي آمنت بالحداثة، وتبعًا لذلك أخذت اليوم تتّجه إلى ما بعد الحداثة. إنّ تقبّل الغرب للحداثة يعني أنّ تقبّل المباني والأسس الثلاثة المتمثّلة بالإنسويّة والذاتانيّة والعلمانيّة، وهذا يعني أصالة الإنسان. إنّ أصالة الإنسان تعني أصالة الفاعل المعرفي وأصالة العالم الإنساني. إنّ هذه الأصالة لا تعني إنكار الله بالضرورة؛ إلا أنّ الله إنما يُفهم بالكامل في دائرة أصالة الإنسان، وهذه القراءة سوف تكون مختلفة عن القراءة الدينية. لا يكون لله ـ طبقًا لهذه الرؤية والقراءة ـ حضورٌ في حقل السياسة والحياة والأسرة، وسوف يكون مؤيّدًا للعلمنة. وفي الحقيقة، إنّ هذا المبنى هو الذي يُوجد الرؤية، وتكون الرؤية الإنسويّة والعلمانيّة حاكمة فيها، ومن الطبيعي أن تؤثّر هذه الرؤية في الخلقيات أيضًا.

* ما هي نسبة التبادل الثقافي إلى الغزو الثقافي؟ وما هو المقياس والمعيار الذي يمكن على أساسه تحديد مصاديق كلّ واحد من هذين الأمرين؟

- بالالتفات إلى ما ذُكر من التوضيحات فإنّ مباني الثقافات ليست على وتيرة واحدة. وفي الحقيقة هناك اختلاف في المحتوى والمضمون بين الثقافات. يقوم أساس الثقافة الإسلامية على محوريّة الله والآخرة، والدنيا تراد للآخرة؛ فلا النّزعة الدنيويّة تقتضي الغفلة عن الآخرة، ولا النّزعة الأخرويّة يجب أن تُنسي الإنسان نصيبه من الدنيا كما هو الحال في الرهبانيّة. وبطبيعة الحال يتمّ في محوريّة الله الاهتمام بالكرامة الإنسانية، وإلى جوار الفاعل المعرفي يتمّ الالتفات إلى الوحي أيضًا. وعلى هذا الأساس فإنّ هذه المباني النظرية تستوجب إيجاد الرؤية التوحيديّة إلى العالم والإنسان. وإنّ هذه الرؤية التوحيدية تقودنا نحو فضائل خاصة. وهي فضائل ورذائل يقوم كلّ منها على حُسن العدالة وقبح الظلم، كما أنّ حُسن العدل وقبح الظلم نفسيهما من الأمور العقلانيّة أيضًا. بالفكر الذي يتبنّاه الشيعة والماتريدية والمعتزلة ـ وللأشاعرة هنا بطبيعة الحال رأي مختلف ـ يجب أن تقوم الأفعال على أساس من ذلك طبعًا. من ذلك على سبيل المثال يجب أن تكون السلوكيات الفردية والاجتماعية في مسلكنا مقرونة بالحياء والغيرة والعفاف والعدالة وسلامة النفس. من هنا وعلى أساس عناصر الثقافة الإسلامية ومبانيها يجب التعرّف على آراء وأفعال وأفكار وسلوكيات الثقافة الغربية، ونعمل على المقارنة بينها وبين الثقافة الإسلامية. إنّ من لوازم هذا الأمر أن نتعرّف على ثقافة الغرب، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الثقافات الغربية وإن كانت تشترك فيما بينها في الإنسويّة والعلمانيّة، إلا أنّها تختلف فيما بينها في الأفعال والتصرّفات إلى حدّ كبير. من ذلك على سبيل المثال أنّ الأفعال الوليدة عن الوضعيّة تختلف عن الأفعال الوليدة عن الوجوديّة. ومن هنا فإنّ النظريّة الوجوديّة فيما يتعلّق بمهنة رعاية المرضى تختلف عن النظرية الوضعية، وإن كانتا تشتملان على مباني مشتركة في هذا الشأن. هناك في الثقافة الغربية من يذهب إلى أصالة الفرد، وهناك من يذهب إلى أصالة المجتمع، وهناك من يذهب إلى أصالة العدالة، وهناك من يذهب إلى أصالة الحرية. وفي هذه الحاضنة تتمخّض الأيديولوجيات الليبرالية والقومية والماركسية والنسوية والنازية والفاشية وما إلى ذلك. لقد قامت هذه المذاهب المختلفة على أساس واحد. ولذلك علينا الالتفات إلى أنّنا في الغرب نواجه ثقافات متفاوتة ومتنوّعة. إذا لم يكن لدينا استغراب دقيق، لا يمكن لنا الحديث عن التعاطي أو الغزو الثقافيين، والعمل بعد ذلك على إجراء مقارنة بين الثقافات. ثم إنّ هناك وجودًا لبعض التقنيات والبنى الإنسانيتين. إنّ بعض هذه التقنيات يهدي إلى الوجدان العملي، من ذلك أنّها ـ على سبيل المثال ـ توجّه الموظفين وتشجّعهم على الحضور في أماكن عملهم في الوقت المحدّد. وأن يكون لديهم نظم وانضباط وضمير عملي. إنّ هذه الخصائص الإيجابية موجودة حتى في الثقافة الإسلاميّة أيضًا. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ أمير المؤمنين (ع) يأمر بالنظم والانضباط. وهنا لا نتحدّث عن التعاطي الثقافي، بل علينا أن نرى ما الذي فعله الغرب حتى تمكّن من إيجاد هذا النّظم والانضباط العمليين. لقد أحدث هذا النهج بنيةً ثقافيّةً تعدّ بمنزلة النموذج. ويجب علينا أن نستفيد من هذا النموذج. وفي المقابل قد تكون هناك في بعض الأحيان سلوكيات أو أفعال وآراء لا تنسجم مع المباني الإسلامية، كأن تكون ـ على سبيل المثال ـ رؤية دنيوية بالكامل وكأنّها لا تلتفت إلى الآخرين. من ذلك ما تشاهدونه ـ مثلاً ـ في حقل الاستعمار السياسي، حيث إنّ كلّ ما يشغل بال القوى الغربية يتلخّص في المزيد من المصالح والأرباح، وفي الكثير من الحالات تتمّ التضحية بالإنسانيّة من أجل تحقيق هذه المصالح. هذا هو مقتضى الاحتيال والخداع في حقل السياسة والتلوّن والنفاق في العالم الحديث، ويعدّ من الغزو الثقافي؛ إذ لم يقتصر الأمر على مجرّد أنّها لم تكن لتنسجم مع مباني الثقافة الإسلامية، بل إنّك تشاهد في تصرفاتهم وسلوكياتهم صبغةً وحشيّةً وهمجيّةً لا يمكن أن تصدر إلا من شخص مستذئب. ومن الواضح أنّ الذئب حيوانٌ عدوانيٌّ، وعليه يجب علينا أن نتقبّل في المجموع التعاطي الثقافي والغزو الثقافي مع الغرب أيضًا. والمعيار في هذا التوجّه أوّلاً هو التعرّف على مباني ثقافة الغرب وجزئياتها وكلياتها، ثمّ العمل على مقارنتها بالثقافة الإسلامية الأصيلة؛ كي نستفيد من الموارد الإيجابية كلّها، ونكون على حذر من الموارد الخاطئة والسلبيّة.

* كيف تبدو لكم آليات الغزو الثقافي، وما الذي ترونه حيال طرق المواجهة مع الإمبريالية الثقافية؟

- تعدّ الوسائل الإعلامية حاليًّا من أهم أساليب الغزو الثقافي؟ وبعبارة أخرى: إنّ أداة الغزو الثقافي هي «الوسيلة الإعلاميّة». ويتمّ تنفيذ هذا الاتّجاه من خلال مختلف الوسائل الإعلاميّة، من قبيل: الوسائل الفنيّة، والسينمائيّة، والفنون السبعة من طريق الموسيقى والرواية والأدب والقصة والشعر وبمختلف الطرق التي يمكن أن يكون لها تأثير في هذا الشأن. وفي الحقيقة فإنّ الغزو الثقافي يتم عبر قنوات غير عقلية، مثل الطريق الحسّي والخيالي. والغاية هي تغيير الخيالات والاستثارات الإنسانية؛ وعلى هذا الأساس فإنّ الجواب الدقيق عن السؤال هو أنّ أسلوب الغزو الثقافي يقوم على إحداث التغيير في الخيال الإنساني من طريق الحواس الظاهرية، والعمل في نهاية المطاف على تعمية العقل وتجريده من آليّته الاستدلاليّة. وأداة هذه الوسيلة هي الوسائل الإعلامية والفنون الخمسة، فالموسيقى مثلاً ـ التي يجب أن تعمل على تلطيف روح الإنسان ـ تتحوّل إلى سلاح في خدمة الغزو الثقافي. ومن وجهة نظري فإنّ أهمّ نوع من أنواع الغزو الثقافي، هو الغزو الفكري، يليه الغزو الرّؤيوي، ثم الغزو السلوكي، وبالتالي وفي نهاية المطاف يأتي الغزو الفعلي. وذلك خلافًا للرأي القائل بأنّ الغزو الثقافي يبدأ بالغزو الفعلي. وفي الحقيقة فإنّ أوّل ساحة للغزو والهجوم تترك أثرها على الأفعال والتصرّفات هي ساحة الغزو الفكري؛ وذلك لأنّ الهجوم يحدث بتغيير التفكير. وإنّ الكثير من المسائل المطروحة في الكلام الجديد تقوم بدورها تغيير رؤية الإنسان إلى الآراء التوحيديّة. وفي نهاية المطاف تتغيّر السلوكيات والأخلاقيات وكذلك ردود أفعال الفرد أيضًا. والنقطة الهامّة هي أنّ أسلوب التقابل مع الغزو الإعلامي يجب أن يكون من جنس الفن والإعلام، ولكن يجب التركيز على مسألة الرؤية. بمعنى أن نعمل على رفع الشبهات الفكرية، لنعمل بعد ذلك على رفع الشبهات السلوكية والفعلية والرؤيويّة. وبطبيعة الحال هناك تعامل ثنائي بين النظر والعمل. يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: (ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ) [الروم – 10]، بمعنى أنّ ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب يؤدّي إلى التكذيب بالآيات الإلهيّة. وبعبارة أخرى: إنّ العمل الخاطئ والسيّئ يترك في بعض الأحيان تأثيره على تفكير الإنسان. ومن هنا فإنّ هذه العلاقة ثنائيّة وذات طرفين، بيد أنّ للتفكير الأولويّة الأولى في هذا السياق.

* ما هي نسبة المساحة الجغرافيّة لثقافة ما إلى قوّة تلك الثقافة؟ وبالتالي ما الذي تعنيه القوّة الثقافية في سياق الإحياء الحضاري؟

- هذا سؤال هام جدًّا. ربّما ذهب الكثير إلى الظّن بأنّ التوسّع الثقافي في المجتمعات معلول للتوسّع العسكري والجغرافي، وأنّ الإنسان إذا استطاع أن يفتح البلدان والأقطار، سيغدو بإمكانه فتح الثقافات أيضًا. وهذا الظّن ليس صحيحًا أبدًا. كما أنّ التاريخ لا يؤيّد هذا التصوّر. فقد كان للغربين في الأزمنة الماضية حضورٌ في بعض البلدان، وامتدّ حضورهم فيها على مدى سنوات، دون أن يتركوا أيّ تأثير في ثقافة تلك البلدان. كما تمكّنت الإمبراطورية العثمانية بدورها من الاستيلاء على الكثير من البلدان الغربيّة، ولكنّها لم تنجح في الاستيلاء عليها ثقافيًّا. إنّ لازم الاستيلاء الثقافي هو امتلاك قوّة ثقافيّة. ونعني بالقوّة الثقافيّة أن تكون العناصر الثقافيّة والمدعيات الثقافية في بلد ما من القوّة والحيويّة والقدرة على الانعطاف والاستدارة بحيث تتمكّن من استقطاب واجتذاب المجتمع. وأحيانًا تكون العناصر الثقافيّة قويّة من الناحية المنطقية والعقلانية، ولكنّها لا تكون في بعض الأحيان الأخرى عقلانيّة، ولكنّها تتمتّع بقوّة إعلاميّة. ونشاهد حاليًّا توجيه الكثير من الانتقادات على الكثير من الأبحاث الثقافية الحديثة من قبل الغربيين والمسلمين على السواء، ولكنّها حيث تمتلك القوّة الإعلامية الكبيرة تظهر أبعادها وعناصرها الثقافيتين بشكل جذّاب. هناك الكثير من الذين يفهمون الغرب من خلال الوجه السينمائي، ومن هنا فإنّهم عندما يذهبون إلى الغرب يواجهون شكلاً آخر للغرب، وهو الوجه الذي يعبّر عن الغرب الحقيقي والواقعي. وعلى الرغم من ذلك كلّه فإنّ الذي يكون منشأ للخلود والبقاء هو القوّة المنطقية للثقافة. من ذلك مثلاً أنّ أجزاءً من إيران قد تمّ الاستيلاء عليها في الحرب مع الخليفة الثاني. بيد أنّ اعتناق الإيرانيين للإسلام لم يكن بسبب الإكراه والإجبار، بل إنّهم إنّما اعتنقوا الإسلام بعد الوقوف على منطق الإسلام وتوحيده ومقارنة ذلك بسابقتهم الثقافية، والملفت أنّهم إنّما اعتنقوا في الغالب إسلام أهل البيت (ع). ومن هنا فإنّ التصوّف القائم على أساس المحبّة لأهل البيت، إنّما تبلور أوّل الأمر في إيران، ثم انتقل إلى المناطق الأخرى لينتشر فيها لاحقًا. وكان هذا بسبب اعتناق إسلام أهل البيت والإسلام الولائي ـ وليس الإسلام المتحجّر والإسلام الجاف الذي كان يقدّمه بعض الخلفاء في تلك المرحلة ـ من قبل الإيرانيين. والغاية هي أنّ هناك عنصرين هامّين أسهما في نشر الثقافة، وهما أوّلاً: القوّة المنطقية للثقافة، والآخر: القوّة الإعلامية للثقافة. وبحسب الظاهر يبدو أنّ قوّة الإعلام في غاية الأهمية، ولكن القوّة المنطقية هي الأكثر أهميّة في الحقيقة والواقع؛ وذلك لأنّها تؤدّي إلى تعزيز الثقافة في المجتمعات بشكل أكبر.

* هل لكم أن تقيّموا لنا دور الرموز في انتشار الثقافة؟ وكيف انتشرت عناصر الثقافة الغربية عبر الفن المرئي ولا سيّما منه السينما؟

- هذا السؤال سؤال يدخل في حقل علم الاجتماع. وهناك اليوم في بعض المؤسّسات المرموقة حقل بعنوان علم اجتماع الرموز. لقد أثبت التاريخ والتجارب أنّ أيّ تفكير مهما كان عميقًا وكان يحظى بدعامة فلسفية، إلا أنّه إذا كان مفتقرًا إلى الرموز، سوف يترك تأثيرًا منخفضًا على جماهير الناس. ربّما استقطب بعض النخب، وتعمل النخب بدورها في التأثير على جمهور الناس، إلا أنّ التأثير الحقيقي على الثقافات واستمرارها إنّما يكون من خلال الرموز. إنّ الرموز هي من أهمّ مصاديق الوسائل الإعلامية. وكما سبق أن ذكرنا فإن الوسائل الإعلامية وقوّة هذه الوسائل تمثّل أحد أهم عناصر انتشار الثقافة، والرموز من بين المصاديق البارزة لوسائل الإعلام. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ بني أمية وبني العباس بذلوا كلّ ما بوسعهم من أجل طمس معالم كربلاء وأحداث عاشوراء؛ إلا أنّ تأكيد أهل البيت (ع) على ضرورة البكاء على الإمام الحسين (ع)، وما كان من الإمام السجاد (ع) إذ يبكي عند ذكره لهذه الواقعة الفجيعة في مختلف المناسبات، وما كان من الإمام الباقر والإمام الصادق (ع) من توجيه الناس إلى إقامة مجالس العزاء على الإمام الحسين (ع) واستذكار مصيبته، كل ذلك بأجمعه يمثل رموزًا للإبقاء على حادثة كربلاء وعاشوراء حية في ضمائر الناس. ثم ظهرت في المراحل اللاحقة من قبيل الصفويّة والقاجاريّة أعلام وكتل كثيرة كانت قد بدأت من عصر البويهيين؛ لأنّ مسار اتّساع ثقافة عزاء عاشوراء من آل بويه، ومن هنا يكثرون من الإشكال على البويهيين والقاجاريين بأنّهم قد تسبّبوا بإحداث الكثير من البِدَع، في حين أنّ هذه لم تكن من البِدَع، وإنّما هي رموز متنوّعة. وبطبيعة الحال قد تكون بعض الرموز بمنزلة الوهن في الإسلام والتشيّع. بيد أنّ الأصالة إنّما تكون لرسالة ثورة عاشوراء، وإنّ الرموز تدلّ على الحقيقة؛ وعلى هذا الأساس فإنّ دور الرموز هام ومحوري. والثقافة الخالدة في البين هي تلك التي تعمل على إيجاد رموز متنوّعة. والرمز يتم إيجاده بواسطة الفن؛ بمعنى أنّ الطريق إلى إنتاج الرموز يتمّ عبر الفن والإبداع الفني. ويمكن لهذا الإبداع الفني أن يتمّ من خلال السينما أو الموسيقى أو من طريق الفنون التشكيلية. ومن بين أنواع الفنون الراهنة ومصاديقها تلعب الأفلام والسينما دورًا محوريًّا جدًّا في هذا الشأن. وحاليًّا يعمل الغرب على الترويج لثقافته في العالم بواسطة هوليوود. واليوم تعدّ مؤسّسة هوليوود السينمائية مروّجة للسينما الدينيّة. ومن هنا فإنّ السينما الدينيّة تتبلور ضمن العمل على تحريف الدين، أو تسلّل الثقافة الغربية في بوليوود الهندية، التي هي من بين المسائل الهامّة الأخرى. ولا نزال عندما نذهب إلى الهند نجد الكثير من أبناء الشعب الهندي يرتدون الثياب الهندية، ولا يزال نمط حياتهم محافظًا على التقاليد الهندية. وفي البداية كان الهاجس الرئيس لبولييود يكمن في الترويج للثقافة الهندية، ولكن الممثلين الهنود من ذوي الأصول الأوروبية أو الأميركية عملوا بالتدريج على الترويج للثقافة الغربية.

* كيف ترون إلى الكيفيّة التي ينبغي من خلالها مواجهة التأثير السلبي للمعتقدات الثقافية التي تنتشر من خلال الفن؟

- إنّ طريقة المواجهة مع الابتذال الثقافي ـ الذي تم إيجاده من خلال الفن ـ تكمن في الفنّ نفسه. إنّ المعنى الدقيق للفنّ يعبّر عن الفن القدسي والحكيم. إنّ الفن يعني العمل المنجز إلى حدّ الكمال، والكمال يساوق الوجود. إنّ الحكمة تعني الأنطولوجيا المقرونة بمعرفة الكمال في الحكمة النظرية والحكمة العملية، بمعنى الوجود والعدم الذي يصف الكمال، أو الواجبات والمحظورات التي تؤدّي إلى الكمال. إنّ الفنّ في الأدب الفارسي يعني الحكمة والشجاعة والفضيلة والكمال. إنّ الحكمة التي تقترن بالفن، تؤدّي إلى رفع الفن إلى مستوى الحكمة والقداسة. وقد يعمل بعض الأشخاص أحيانًا على توظيف الظواهر الفنية وأنواع الجمال الزائف والخادع من أجل خلق حالات من الابتذال. من الطبيعي أنّ الفن يجب توظيفه من أجل تحقيق الفضائل والترويج للفضائل والحكمة. ومن هنا يجب أن نأخذ السينما والفن بجميع أقسامهما في الترويج إلى الفضائل والأخلاق الإسلامية بشكل جاد.

وبالتالي علينا أن ندرك ظرفياتنا الثقافية والحكمية الهامة. إنّ المشكلة الجوهرية التي يعاني منها المسلمون عمومًا هي أنّهم يمتلكون معلومات مبتورة وناقصة عن ثقافة الغرب وعن الثقافة الإسلامية. نحن نمتلك معلومات قليلة عن الفكر والسلوك والأعمال الإسلامية وكبار المفكرين المسلمين من أمثال: ابن الهيثم، وابن سينا، ومحمد بن زكريا الرازي، والشيخ البهائي وأضرابهم. ما هو مقدار معرفتنا بالمفكرين المسلمين؟ إلى أيّ حدّ يمكن التعرّف على الظرفية العظيمة لثقافتنا وأدبنا الفارسي والعربي الزاخر بالحكمة والفضائل؟ يجب علينا أن نخرج من حالة الاغتراب عن الذات. هناك شخص لا يمتلك أدنى معرفة بالفلسفة الإسلامية، ولكنّه يكثر على الدوام من التبجّح بالفلسفة الغربية. علينا أن نتعرّف بشكل جيّد على الهوية الفلسفية لمجتمعنا. أذكر أنّنا في المؤتمرات الحوارية التي كانت لنا مع المفكرين الغربيين والمسيحيين، حيث كان البعض من المستنيرين في الداخل يتحدّثون عن إيمانويل كانط وفريدريش هيغل ومارتن هايدغر، ويستعرضون فلسفاتهم، كان المفكرون الغربيون في نهاية الحوار يقول: إنّ كانط هذا الذي تتحدّثون عنه نحن لا نعرفه. فليس هذا هو كانط الذي نعرفه في ألمانيا. وفي الحقيقة فإنّ كانط الذي نعرفه ليس هو كانط الذي تعرفونه. وإنّ هيغل الذي تتحدّثون عنه ليس هو هيغل الذي نعرفه. أو إنّ هايدغر الذي تعرّفون عنه ليس هو هايدغر الذي نعرفه. لماذا يقولون ذلك؟ إنّهم في الحقيقة كانوا يريدون أن يقولوا لنا: لا تعرّفونا بمفكّرينا وتبيعونا بضاعتنا، وإنّما عليكم التعريف بمفكريكم. ما الذي يقوله أئمتكم وقادتكم الدينيين في حقل العدالة والعقلانية والفضيلة والحكمة؟ أمتلك تجربة في الحوار بين الأديان والحوار مع المفكرين من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية تمتدّ لما يقرب من عشرين سنة، ورأيت منهم على الدوام شغفًا بالاستماع إلى الحكمة الإسلامية والمعارف القرآنية وتعاليم أهل البيت (ع). ولست أعني بذلك وجوب عدم التعرّف على الأبحاث الفكرية والتفكير الغربي. وإنّما أعتقد أنّا مسلمون بالدرجة الأولى ونعيش ضمن هذا النسيج الثقافي. فلماذا لا نعرف ثقافتنا الأصيلة بشكل صحيح، ولا نعمل على تصديرها ونقلها إلى الآخرين بشكل صحيح. أرى أنّنا إذا تعرّفنا على ثقافتنا عندها يمكن القول بتحقّق التعاطي الثقافي الصحيح بيننا وبين الغرب.

* نرجو أن تجيبونا بصورةٍ إجماليةٍ عمّا ينبغي اعتماده كاستراتيجية عمل من أجل الحفاظ على حيويّة الثّقافة الإسلاميّة في مواجهة الثقافات المناوئة؟

- في الخطوة الأولى يجب أن تكون لدينا معرفة تاريخية وماهوية عن ثقافة الإسلام. وفي الخطوة الثانية يتعيّن علينا العمل من أجل إحياء تراث أسلافنا. وفي الحقيقة فإنّ إحياء التراث مسألة في غاية الأهميّة. هناك من يتصوّر أنّ إحياء التراث يعني العودة إلى الماضي، والعودة إلى الماضي أمر غير إيجابي. في حين أنّ الاستفادة من تجارب الماضي تمثّل ضرورة ملحّة للارتقاء بالمستقبل. هل كنتم تعلمون أنّ أهمّ مخطوطات الحضارة الإسلامية موجودة في إسرائيل. أجل، إنّهم يحتفظون بأهمّ مخطوطاتنا الإسلامية في إسرائيل! إنّ أكبر مركز خاص بدراسة التشيّع يوجد حاليًّا في إسرائيل، في حين أنّنا لا نعير أيّ أهميّة لإحياء التراث، ونبدي تساهلاً في هذا المجال. الخطوة الثالثة أن نعمل على ترجمة الثقافة الكامنة في هذا التراث إلى لغة معاصرة. لغة يفهمها الإنسان المسلم المعاصر، والعمل في الخطوة اللاحقة ـ من خلال الاستعانة بهذا التراث المترجم إلى اللغة المعاصرة ـ على الإجابة عن الأسئلة الراهنة. وهي أسئلة ربما وصل بعضها إلينا حتى من الثقافات الغريبة والأجنبية. لا يمكن الإبقاء على هذه الأسئلة دون جواب، ومن هنا تواصل الثقافة تقدّمها الثابت والراسخ بكلّ حيويّة ونقاء وأصالة، ولا تقع في خطر الالتقاطية والتحريف والتصحيف أبدًا.


تعريب: حسن علي مطر الهاشمي.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف