نقطة الجاذبيّة في هذا الحوار تدور حول العقل التّقني الذي يُسيطر على حضارة ما بعد المجتمع الصناعي في الغرب. وقد تضمّن الحوار أسئلةً وإجاباتٍ عميقةً من جانب الدكتور حسين إيماني جاجرمي على جملة من الإشكاليات المعاصرة والتداعيات المستقبليّة المترتّبة عليها.
نشير إلى الدكتور جاجرمي حائز على شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة طهران. ويشغل حالياً منصب أستاذ مساعد في جامعة طهران، ورئيس مؤسّسة الدّراسات والتحقيقات الاجتماعية. وقد صدرت له الكثير من الكتب والمقالات المتنوّعة حول تنمية المدن والدراسات الثقافيّة، كما قام بترجمة كتب هامّة في هذا الشأن.
«المحرّر»
* ما الذي نعنيه بالمجتمع ما وراء الصناعي؟ وما هي التحوّلات الثّقافيّة أم المتغيّرات الفرديّة التي تحدث من جرّاء ذلك على هامش نمط الحياة؟
ـ يمكن تناول المجتمع ما وراء الصناعي تحت عنوان (post-industrial society). كما يمكن تناولها تحت عناوين، من قبيل: المجتمع ما بعد الحداثوي، والمجتمع ما بعد الصناعي أيضاً. إن هذا المجتمع بحيث تغيّر فيه شكل الإنتاج وقواعده وأركانه. لنفترض أنّه قد انتقل في مرحلةٍ تاريخيةٍ من الزّراعة وحياة الأرياف إلى حياة المدن. وبعد ذلك شهد المجتمع البرجوازي ومن بعده المجتمع الصناعي لمتغيّرات وتحوّلات جادّة. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّه منذ عقد التسعينيات فصاعداً، وبعد طرح بحث العولمة واتّساع شبكات التّواصل وتشغيل عجلة الإنتاج بواسطة الروبوتات، تغيّر شكل المدن المنتجة، وتبعاً لذلك تغيّرت بنية المشاغل والأعمال أيضاً، وانتقلت مجموعة من النّشاطات من المدن (أي من مراكز نشاطها واستقرارها)، وذهبت ـ على سبيل المثال ـ من قارّة إلى قارّة أخرى. من ذلك أنّ هناك بحثًا جـادًا في مورد الولايات المتحدة الأميركية ـ مثلاً ـ حيث يُقال إنّه قـد تمّ تفريغ الصّناعة منها؛ بمعنى أنّ الصّناعـة الأميركيّة لمختلف الأسباب، من قبيل: البضاعة الرخيصة، والافتقار إلى القواعد والقوانين البيئيّة، قد انتقلت إلى الصين.
وإنّ هذه المتغيّرات قد أدّت إلى ظهور مسائل جادّة أيضاً. بمعنى أنّه لم يعد بإمكانك العثور على عمل أو مهنة ثابتة، وإنّما تحتاج على الدوام إلى تحديث بياناتك وأن تتعلّم أموراً جديدةً لم تكن موجودة، وهكذا دواليك، وإذا كان هناك من فرصة عمل فهي في المجال الخدمي؛ لأنّ المجالات الصناعيّة إما هاجرت إلى أصقاع أخرى، أو أصبحت أوتوماتيكيّة إلى حدّ كبير. ولم تعد هناك حاجة إلى عمل الإنسان. إنّ هذا المنهج يترك بتأثيره على المدن والعلاقات بين الناس، وأساليب الحياة. من ذلك أنّ قطاع الخدمات قد ازدهر كثيراً. إنّ هذه الموارد بأجمعها مرتبطة بالمتغيّرات الحضاريّة القائمة. إنّ المجتمع المعلوماتي وتسريع شبكات التواصل وغيرها هي التي أدّت إلى حدوث هذه المتغيّرات. وأما في العالم الإسلامي، فالأمر مختلف تماماً. فنحن لم نكن من البلدان الصناعية إلى حدّ كبير، وكنا في الغالب من البلدان المصدّرة للنفط. وإنّ الأنظمة في هذا النّوع من البلدان تعتمد في سياستها على المنظومة التصديريّة والحكوميّة. إنّ السياسة في البلدان الإسلاميّة تحظى بأهميّة بالغة؛ وذلك لأنّ مصادر السّلطة بيد الساسة. ومن هنا يتجه كل شيء نحو التسييس ويدخل في العلاقات الحكوميّة. ولكن المجتمعات الإسلاميّة سوف تكون بدورها عرضة للتغيير، سواء شئنا ذلك أم أبينا. وعلى كلّ حال فقد دخل لاعبون جدد إلى الساحة الاقتصادية، مثل: الصين والهند والبرازيل. وكل هذه البلدان لها تأثير على المستوى السياسي والاقتصادي. وإذا حصرنا البحث على مستوى المجتمع فقط، أرى أنّه ربّما كان التحوّل الذرّي الأهم، هو ارتفاع التآكل الاجتماعي وانتشار رقعة الأسر. في هذه الظروف تفقد العلاقات بين الأفراد صبغتها الاجتماعيّة، وتنحصر بالمصالح الفرديّة والشّخصيّة. لقد تعرّض جورج سيمل ـ في كتابه (المدن الكبرى والحياة الذهنية) ـ إلى هذه المتغيّرات والآفات، ونحن نرى أنّ بعض تلك الأمور السلبيّة قد حدثت في المجتمعات الإسلامية أيضاً. من قبيل أن يقوم المعيار في الكثير من الأمور على أساس النقود والثروة، ويصبح المجتمع عقلانياً بشدة. وهنا يحدث شرخ عميق ومخيف بين الأغنياء والفقراء، ويحدث على المستوى العملي نوع من انفصال الأثرياء عن بقية الناس على مستوى المناطق. كلّ هذه الأمور تمثّل تحوّلات كبرى، وسوف ندرك تبعاتها شيئاً فشيئاً، وربّما سيتّضح لاحقاً ما الذي حدث، وربّما أمكن لذلك أن يغيّر من طبائع الناس. وربّما تحوّلت أنت في هذا المسار إلى شخص مختلف. وعليه ربّما نتّجه نحو مجتمع بلا مجتمع. بمعنى أن يتّجه النّاس إلى مسار يعيشون إلى جوار بعضهم، دون أن يكون لهم شأن ببعضهم.
* هل تعتبر هذه التبعات هي من ذاتيات المجتمع ما بعد الصناعي.. على نحو يستحيل تصوّر مجتمع ما بعد صناعي يفتقر إلى هذه الخصائص أبداً؟
ـ إنّ هذا النّوع من المجتمعات ـ على كل حال ـ ينطوي على مثل هذه الآثار والتداعيات. والأدلّة القائمة تشير إلى هذه الحقيقة، من ذلك ـ مثلاً ـ أنّ السيد «روبرت ديفد بوتنام» قد ألّف قبل سنوات كتاباً في الولايات المتحدة الأميركية، بعنوان (Bowling Alone). لقد كان مختصر الحكاية هو أنّ صناعة البولينغ كانت في طريقها إلى الإفلاس في الولايات المتحدة الأميركية، رغم ازدياد عدد الأشخاص الذين يمارسون هذه اللعبة قياساً إلى الأزمنة السابقة. وهذه مسألة في غاية الغرابة. فبدلاً من أن تزدهر هذه الصناعة، كانت في طريقها إلى الإفلاس. إنّهم لم يتوصلوا إلى تحليل مع متخصّص في الإدارة والتنظيم، ولجأوا على عمل اجتماعي، وتوصّلوا إلى نتيجة مفادها أنّ البولينغ كان في السابق لعبةً جماعيّةً، وأنّ النّاس في الأزمنة السابقة كانوا يقصدون لعبة البولينغ على شكل جماعات، وعندما تنتهي اللعبة، يتّجهون إلى الحوانيت والمطاعم، لتناول المشروبات والمأكولات، وكانت أرباح صناعة البولينغ تذهب إلى تلك المطاعم والحوانيت الملحقة بأندية البولينغ. أمّا الآن فإنّ الأشخاص يذهبون إلى ممارسة لعبة البولينغ منفردين، وعندما يذهبون على انفراد، فإنّهم لا يجدون رغبة في الذهاب إلى المطاعم والحوانيت لتناول الطعام والشراب. ولذلك فقد انخفظ الطلب على الطعام والشراب، وكان من نتائج ذلك أن سقطت أرباح صناعة البولينغ. وقد قدح ذلك شرارة في ذهن بوتنام مفادها أن هذا الأمر قد يتكرر بالنسبة إلى سائر المسائل الأخرى أيضاً. وقد توصّل ألكسيس دو توكفيل (1805 ـ 1859 م) في كتاب له بعنوان (في الديمقراطية الأميركية) ـ الذي صدر له عام 1836 م، حيث كانت الولايات المتحدة الأميركية قد تخلّصت لتوّها من الاستعمار الإنجليزي ـ إلى أن أميركا سوف تصبح في يوم ما قوّة عظمى. وذلك لأنها تشتمل على منظومة حياة اجتماعية وديمقراطية. وإن الحياة الاجتماعية تعود إلى طبيعة الروح الجماعية في العمل. وقد حذّر بوتنام من أن تتعرض حياتنا الديمقراطية ـ التي يعود سببها إلى حياتنا الجماعية ـ إلى الخطر. ومن هنا فقد عمد إلى دراسة مختلف الإحصائيات، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن هذه الأمور قد حدثت كذلك في سائر المجالات منذ عام 1960 م فصاعداً. من ذلك أنه ـ على سبيل المثال ـ قل الإقبال على عضوية الأحزاب، كما انخفض عدد المتطوعين إلى خدمة الكنيسة. وقلت متابعة الشؤون العامة، وأخذ الأشخاص يفكرون بأنفسهم، ولا يبدون أي رغبة في العمل من أجل المصالح العامة وما إلى ذلك، ومن هنا فإن بوتنام قد ألف هذا الكتاب ليدق بذلك جرس الإنذار، وقد حظي هذا الكتاب بإقبال كبير. وربما كان دونالد ترامب ـ الذي جاء من خارج السياقات الحزبية، وتمكن من إطلاق الحركة المستقبلية في الولايات المتحدة الأميركية ـ يعود سببه إلى هذا الإنذار الذي أطلقه بوتنام. وهذا يعني أن المجتمع التطوّعي والمجتمع الجماعي قد فقد أسسه وقواعده، وعلينا من الآن فصاعداً أن نتوقع حدوث أمور عجيبة وغريبة. وعليه ربما كان ظهور اليمينيين المتطرفين من أمثال دونالد ترامب الذي لم يأتِ من خلفيّة سياسيّة، وإنّما هو مجرّد مهرّج محتال، وشخص عنصري فاشي، يعود سببه إلى هذه المسألة، وإنّ الولايات المتحدة الأميركية قد انحدرت نحو السقوط، ولم تعد ترغب في العمل الجماعي. لقد كان البناء الأميركي ـ طبقاً لرواية ألكسيس دو توكفيل ـ قائماً على العمل الجماعي والعمل التطوّعي، بيد أنّ هذا المبنى في طريقه إلى الانهيار، ومن هنا يكون الفرد في المجتمع ما بعد الصناعي والتحليل العقلاني هو الهام، وأما المشاريع الاجتماعية الأخرى فلا تحظى بالأهمية. وإن الكتاب ـ الذي صدر مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية للمؤلف كلينبرغ، بعنوان «قصور للناس» ـ يتناول هذا الموضوع، وأنّه يمكن للناس في بعض المراكز أن يجتمعوا بشكل مجاني في مكان ما، دون لحاظ القوميّة والعرق الذين ينتمون إليه.
* هل يتوقّف وصول المجتمع النّامي على سلوك المسار الذي سلكه الغرب فقط؟ وبالتالي هل ترون أنّ ثمّة في الواقع ضمانة تنفيذيّة لأيّ مسار بديل آخر؟
ـ أرى أنّ مسألة الحضارة الغربيّة تقوم أبداً على قاعدة الصفر والواحد، بمعنى أنّه طبقاً لهذا المنطق هناك على الدوام شخص يُحقّق الفوز، بينما لا يكون نصيب الآخرين سوى الخسران. وهذا هو الأساس في الحضارة الغربية ومسألة الثروة والسلطة أيضاً؛ حيث تقوم على أساس الاستغلال، سواء بشكله التقليدي أو بشكله الحديث. بمعنى أنّها قائمةٌ على أساس تسخير الآخرين واستغلالهم. كما تعرّض الماركسيون إلى هذه المسألة بشكل جيد، وعملوا على تحليل وشرح أبعداها المتنوّعة على هامش الحضارة الغربية. إنّ هذا الاتّجاه في الواقع على النّقيض من الاجتماع والتعاون، والملفت في البين أنّ البحث حول هيمنة وتسلّط الحضارة الغربيّة على هامش أبحاث الواقعيّة الجديدة في الوقت الذي نجد فيه الكرة الأرضية أحوج ما تكون إلى التّعاون من أيّ وقت مضى. إنّ النّاس في اللّحظة الرّاهنة أكثر حاجة إلى التعاون فيما بينهم، ولكنّهم لا يقومون بذلك. ومن الواضح أنّ هذا السلوك يقوم على قاعدة لعبة الصفر والواحد. وعلى هذا الأساس أرى أنّه لا بدّ من البحث عن بدائل أخرى. وإنّ الأهم حالياً من أي شيء آخر هو مسألة الأرض. إنّ الحدود السياسية تبدو حمقاء. وأنت لا تستطيع أن تُفكّر في نفسك فقط. لقد أقامت تركيا لتحقيق أهدافها سداً وحبست مياه دجلة والفرات. إنّها بذلك تستفيد في الواقع من الفراغ في السلطة. وفي إيران تبني سداً على سيروان، وسيؤدّي ذلك إلى جفاف في كردستان العراق. وقد أقامت أفغانستان سداً على هيرمند، وهي بذلك تعرّض محافظة سيستان وبلوشستان في إيران إلى الدمار. إنّ هذه الأمور من شأنها أن تؤدّي إلى اندلاع الحروب في المستقبل. ومنذ فترة تلقّت باكستان تهديداً من الهند؛ إذ قالت الهند إنّها تروم نقل حصّتها من المياه إلى مناطق أخرى. إنّ هذه الخلافات سوف تؤدّي في المستقبل إلى مواجهات دامية قد تعرّض البشريّة إلى خطر الفناء. ومن هنا أرى أنّ علينا التفكير في بدائل أخرى. ويجب ألّا تقوم هذه البدائل على منطق الصفر والواحد. وإنّما يجب أن يكون البديل منطقًا يُقضي بأن يكون الجميع فائزًا، وأن يكون الجميع متعاونون فيما بينهم. وألّا يكون الأمر قائماً على العنصريّة والاختلاف والتمييز العرقي، بل يقوم على التعاون والوفاق.
* يُمكن ـ بطبيعة الحال ـ التنظير بشأن كلّ واحد من المسالك البديلة، ولكن هل هناك ضمانة تنفيذيّة للمسلك البديل في واقع الأمر؟
ـ قد يبدو المسلك البديل شديد التفاؤل، ولكنّنا بالتالي نجد المواطنين ـ خلافاً لما كان الوضع في السابق ـ قد أصبحوا أقوى، وقد أصبحت لديهم القدرة على التّواصل فيما بينهم. وفي الغالب يعمل السياسيون على حماية مصالح الأقوياء. إنّ السياسة تُهمل على الدوام على توجيه المصالح، وهذه المصالح في أكثر الموارد تتعارض مع المصلحة العامة. من ذلك مثلاً أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقول: إنّ مصلحتي أهمّ من أيّ شيء آخر، وهو على استعداد لتحطيم الآخرين ليبقى. والآن ترون أنّ الولايات المتحدة الأميركية تعدّ من أكثر بلدان العالم إجحافاً وانعداماً للمساواة على مستوى المصالح. وقد ذكر عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا كومار سين في كتابه (التنمية بما هي حرية)، أن نسبة الأمل في الحياة في منطقة من مدينة نيويورك أدنى من أفقر ولاية في الهند. وعلى كل حال فإن القدرة حالياً بيد هذه الطبقة، وهي التي تحدد ما هي الأحداث التي يجب أن تقع. وعليه لا بد هنا من التفكير على المدى البعيد. علينا أن نسلك في المدى الطويل حتى يتم إسقاط الساسة عن السلطة وإسقاط من يتستر خلفهم من الأقوياء. وأرى أن هذا هو الطريق الوحيد. وليس هناك من طريق؛ لأن الأرض في طريقها إلى الفناء. ولو اتبعنا النموذج الأميركي في التنمية، فإننا سوف نحتاج إلى ثمانية كرة أرضية لضمان المصادر التي نحتاج إليها. لا يمكن للجميع أن يعيش مثل الأميركيين؛ لأن الأرض لا تحتوي على كل هذه المصادر. وأرى أنه ليس لدينا سوى هذا الطريق؛ فعلينا أن نسلكه. إن الكثير من الجماعات المدنية التي تعترض حالياً، سوف ترتبط فيما بينها في المستقبل، وسوف يسعى الجميع إلى اتباع منطق واحد. والشيء الحسن في هذه المشاكل هو أنها تقرّب الناس إلى بعضهم. من ذلك أنه عندما ينضب الماء ـ على سبيل المثال ـ سوف تجد الظامئين متكاتفين فيما بينهم. وعندما يختل توازن الكرة الأرضية؛ فإن الناس سوف يشعرون بالخطر، ويأخذون المسألة بجدية. نحن نعلم أن الأبنية التقليدية لم تعد تكفي للوفاء بتلبية بحاجة الظروف الراهنة. وعليه يجب التخلي عن هذه الأبنية والعمل على صنع أبنية جديدة، وهي الأبنية التي يتمّ فيها العمل بمبدأ توزيع السلطات.
* كيف يمكن الوصول إلى التنمية في العالم الإسلامي من دون التعرّض في الوقت نفسه إلى تداعياتها وتبعاتها السلبيّة.. وبعبارة أخرى: ما هي برأيكم المقدّمات واللوازم والأساليب التي يمكن من خلالها الوصول إلى مجتمع إسلامي مزدهر؟
ـ إذا كنّا نروم استنساخ نماذج التنمية ذاتها التي تمّ تطبيقها في البلدان الأخرى، فلا شكّ في أنّ تلك النّماذج لم تعد مجدية؛ لأنّ تلك النّماذج منبثقة من الشرائط التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخاصة؛ وبطبيعة الحال لا يمكن لنا في الوضع الراهن أن نفكّر في أنفسنا فقط؛ بمعنى أنّه يتعيّن علينا أن نضع مجموعة من الأهداف نصب أعيننا، ومن بينها البشريّة جمعاء، والبيئة؛ إذ لا يحقّ للإنسان أن يكون أنانياً، وأن يطالب بكلّ شيء لنفسه. فإنّ هناك حقاً لسائر الكائنات الحية والنباتات، بل وحتى الجمادات والطبيعة التي نظن أنها فاقدة للروح مثل: الجبال والأحجار وغيرها. وعلى كل حال فإن الكرة الأرضية في حدّ ذاتها معجزة؛ إذ طبقاً لوضع الكون ليس هناك كوكب يصلح للحياة غير الأرض. وأما سائر الفرضيات الأخرى فلم تتخط حدود الافتراض، وعليه فإن كون الحياة موجودة على الأرض فقط يعدّ في حدّ ذاته معجزة كبرى. فما معنى أن يتم اختيار الأرض من بين مليارات الكواكب لتكون وحدها هي الصالحة للحياة، ومن هنا يكون كل ما فيها من أنواع الحياة الموجود في أوراق الشجر والبعوض والديدان، كلها معاجز ودلائل على قدرة الله سبحانه وتعالى. ربما خلق الله الأرض ليثبت وجوده. وأنه في الحقيقة قد اختص الكرة الأرضية لتكون وحدها هي الدليل على التعريف بالله سبحانه وتعالى. أنا أقول إن هذه الكرة الأرضية تنبض بالحياة، ونحن جزء منها، غاية ما هنالك أن الإنسان بوصفه نوعاً من الأنواع قد تعرّض إلى تحوّل مفاجئ. حيث اكتسب قدرات جديدة، وأخذ يستقل الطائرة ـ على سبيل المثال ـ وينتقل من مكان إلى آخر بسرعة 200 كيلومتراً في الساعة، وهذا الأمر يفوق العادة؛ إذ لا يمكنك السير بهذه السرعة، ولذلك أضحت هذه السرعة قاتلة بالنسبة لنا. فالناس يموتون في حوادث المرور وسقوط الطائرات بسبب هذه السرعة؛ ومن هنا فإن الإنسان قد وضع نفسه في ظروف لم يكن يجدر به أن يضع نفسه فيها. وهكذا الأمر بالنسبة إلى البلاستيك أيضاً؛ فلم يكن ينبغي علينا أن نصنع البلاستيك، ولكنّنا صنعناه، وربما سيكون هو السبب في نهاية الحياة على الأرض؛ لأنّه يدخل في نسيج الخلايا، وهذا الأمر قد يتسبّب في إطفاء جذوة الحياة. هناك نظم منطقي يقول إننا مسؤولون، وإن البشر مسؤول عن حماية الكرة الأرضية. لقد تمكن الإنسان من بناء حضارة على هذه الأرض. فأنتم لا ترون هؤلاء يعبدون الله، ولكنكم تعبدون الله. أنتم تؤمنون بقوّة روحية أسمى، ولكننا لا نعلم بشأنهم، وربما أنهم لا يمتلكون مثل هذه القدرة. ومن هنا أرى أن علينا الذهاب في تفكيرنا إلى ما هو أبعد من حدودنا القطرية والجغرافية، وأن نفكر في العالم والكرة الأرضية برمّتها، ونحمل هذه الرؤية بوصفها مسؤولية ملقاة على عاتقنا. وبطبيعة الحال فإن لازم هذه الرؤية امتلاك حسن الظن بالبشر. إن لدى البشر قابلية القيام بالتحاور. إن الإنسان يتمتع بفطرة إلهية، وهذه الفطرة هي التي أودعها الله في وجود الإنسان، ومن هنا لا بدّ من التفكير في إنقاذ جميع أفراد البشر؛ لا أن يُنظر إلى الأشخاص وكأنّهم عبيد وأرقاء بالفطرة والعمل على توجيههم إلى شتّى الجهات. يجب أن نتخلّى عن أنانيتنا وعن غرورنا وتكبرنا وعنجهيتنا. لا أدري ما إذا كنتم قد واجهتم الأميركيين أو الغربيين حتى الآن أم لا. إنّهم يعتبرون أنفسهم أصحاب العالم وأسياد الكون، وينظرون إلى سائر الناس بوصفهم كائنات من الدرجة الثانية.
* إلى أيّ مدى يمكن اجتناب الآثار المترتّبة على هيمنة العقل الآلي الذي يؤدّي بدوره إلى هيمنة الفكر على الطبيعة؟
ـ سوف تتّضح التّبعات والتّداعيات السّلبيّة للتنمية في يوم ما، وسوف تقضي هذه التّداعيات على الجانب المشرق والجميل منها. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ الطريق السريع أمرٌ جيّدٌ جداً، ولكن علينا أن نعلم في الوقت نفسه أنّ هذا الطريق السريع يشطر الأرض إلى نصفين، ويقطع الطريق على استمرار هجرة الحيوانات، وعندما يحدث ذلك يتوقف النظام الطبيعي وتختل المنظومة البيئية. لقد كان بحث تقييم التأثيرات الاجتماعية منذ عام 1970 م فصاعداً يدور مدار هذه المسألة، وهي أنّ علينا قبل اتّخاذ أيّ خطوةٍ أن ندرس تداعياتها وتأثيراتها على البيئة. والآن أصبحت القيَم البيئة تدخل في صُلب اتّخاذ القرارات. رغم أنّنا لا نزال بعيدين جداً عن الوصول إلى الوضع المثالي والمطلوب. علينا أن نعلم بأنّ بناء السّدود يقترن على الدّوام بمزيد من القضاء على البيئة والطبيعة، وهذا يعني الدخول في دور باطل. والطريق إلى الخروج من هذا المأزق هو العمل على كسر هذه القوالب الفكرية. إنّنا أخذنا هذه القوالب الفكريّة من الغرب، فإنّهم هم الذين صنعوها، وقد تخلّوا عنها حالياً. فإنّهم لم يعودوا يسمحون بحدوث مثل هذه الأمور في بلدانهم. إنّنا حيث أصبحنا على مستوى الحضارة تبعاً للغرب، فإنّنا شئنا أم أبينا، سوف نتلقّى أفكارهم بشكلٍ متأخّرٍ. وبعبارة أخرى: يمكن بيان مسار التنمية على هامش ثلاثة نماذج، النموذج الأول: اقتصاد الأشياء، ثم دخل الغربيون في نموذج البيئة القائم على الحفاظ على البيئة، وفي نهاية المطاف دخلوا في نموذج الإنسان والمجتمع. وكأننا لا نزال في النموذج الأول. في حين أرى أن الحضارة الشرقية كانت منذ البداية في النموذج الأخير؛ لأن الإنسان كان مهماً بالنسبة لنا على الدوام. ولكن يبدو وكأننا قد انجذبنا إلى الحضارة الغربية بشكل وآخر. وكأن الغربيين قد أبعدونا عن أصولنا وجذورنا. وذلك لأننا منذ البداية كنا متواجدين في النموذج الثالث الذي توصل إليه الغربيون. وعلى هذا الأساس فإن ناطحات السحاب والطرق السريعة والمتعددة الطوابق وما إلى ذلك من التكنولوجيات، قد مزّقت الطبيعة والبيئة البشرية.
* برأيكم.. هل تعدّ الحلول في الحضارة الغربية للتقليل من أزمة البيئة بمنزلة إضعاف النّظام الرأسمالي أو مخالفة للثقافة الاستهلاكية؟
ـ النّظام الرأسمالي في الغرب قوي جداً، وإنّ المجتمع هناك مقهور ـ على المستوى العملي ـ لهذا النظام الاقتصادي / السياسي. هناك عالم اجتماع أميركي اسمه «تشارلز رايت ميلز» ـ وقد قتلوه مؤخّراً ـ قال في كتابه «رؤوس السلطة في الولايات المتحدة الأميركية»: هناك مثلث تتألّف أضلاعه من الجيش والبيروقراطية والرأسمالية، هو الذي يحكم الولايات المتحدة الأميركية، وإنّ بين هذه المجموعات الثلاثة أواصر وعلاقات وثيقة، وهم مرتبطون في الغالب بعقود ومواثيق أسريّة، وهم لا يتّخذون القرارات إلا في إطار مصالحهم الشّخصيّة. وإنّهم لا يتورّعون عن إثارة الحروب إذا اقتضى الأمر وتوقفت مصالحهم على ذلك. وعندما ننظر جيداً ندرك أنّ أرباح هذه الحروب إنّما تنزل في جيوب الغرب، فالحروب توفّر لهم سوقاً يبيعون فيها أسلحتهم، ثم عندما تضع الحرب أوزارها يستثمرون في إعادة بناء المدن المدمّرة والمنكوبة، ويحتكرون المشاريع الكبيرة في هذا المجال لأنفسهم. في حين لو حصل اتحاد في الشرق الأوسط، فسوف تتحول هذه المنطقة إلى أقوى نقطة في العالم. ومن هنا فإن الولايات المتحدة الأميركية تحتوي على نظام ظالم في ذاته، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع أن تكون مصدراً لسعادة البشر. فلا يزال السود يُنظر إليهم في الولايات المتحدة الأميركية بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. إنّهم يعتزمون في القرن الحادي والعشرين أن يضعوا حداً بينهم وبين بلد آخر. بمعنى أنّهم يرومون القيام بالشيء ذاته الذي قامت به الصين تجاه المغول قبل ألفي سنة. إنّنا اليوم نلعب في الساحة التي رسموها لنا. وعلى هذا الأساس لا أتصوّر أنّ الغرب بمقدوره أن يعمل على حلّ هذه المسألة؛ وفي الحقيقة فإنّهم ما داموا قادرين على حلبنا، فهذا يعني أنّهم هم المنتصرون، وإنّ مشكلتنا تكمن في أنّهم قد صدّروا أزماتهم إلى العالم الثالث، ولهذا السبب فإنّ عجلات صناعاتهم واقتصادهم لا تزال تواصل دورانها؛ لأنّ منظومتهم ـ كما سبق أن ذكرنا ـ تقوم على أساس الصفر والواحد، وعليه يجب أن يكون هناك فائز ومنتصر واحد، ويجب على الآخرين أن يخرجوا من المعادلة منهزمين. وقد أدّى هذا الأمر في داخلهم إلى اندلاع ثورة، لقد حدثت عندهم أنواع من الثورات التي أدّت إلى أزمات سياسيّة / اجتماعيّة، واندلعت بسببها حروبٌ مخيفةٌ ومروّعةٌ.
تعريب: حسن علي مطر الهاشمي.