البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

January / 30 / 2021  |  1406العلم والاقتصاد والمجتمع في زمن الجائحة مقاربة تحليلية نقدية للمجتمعات الغربية

عبد الحليم فضل الله المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية صيف 2020 م / 1442 هـ
العلم والاقتصاد والمجتمع في زمن الجائحة مقاربة تحليلية نقدية للمجتمعات الغربية

تُجري هذه الدّراسة متاخمةً لثلاث دوائر كبرى كان لها النصيب الأوفر من الآثار العميقة التي ترتّبت على انتشار جائحة كورونا في المجتمعات الغربية على وجه التعيين: دائرة العلم، ودائرة الاقتصاد، ودائرة المجتمع.

الباحث الدكتور عبد الحليم فضل الله يُقارب الدّوائر المذكورة من منطلقٍ تحليليٍّ ونقديٍّ، حيث يسعى إلى تفكيك نظريّات المعرفة التي أخذت بها الحداثات المتعاقبة في الغرب، ثم ليبيِّن المعاثر الأساسيّة التي ظهرت بقوّة مع انتشار الوباء، وبدَّدت الكثير من ثوابت المركزيّة العربيّة ومبانيها.

المحرّر


يجد العالم منذ عقودٍ صعوبةً في تخطّي أزماته بأشكالها شتّى، السياسيّة كصعود اليمين ولا سيّما في النصف الغربي من العالم، والاقتصاديّة مثل تواتر الانهيارات الماليّة والاقتصاديّة والنقديّة في أنحاء عدّة وصعوبة لجمها، والاجتماعيّة من خلال زيادة معدّلات الجريمة واللّا مساواة والفقر وتقويض دولة الرفاه، وانخفاض منسوب التّضامن الاجتماعي، ناهيك بأزماته العسكريّة المتفاقمة على وقع تصدّع قدرة النّظام العالمي على ضبط الأمن والاستقرار.

ولهذه الصعوبات أسباب متشعّبة، لكن ما لا يُتوقّف عنده هو الصّلة بين تدهور أوضاع العالم وأزمة العلم والمعرفة، بفروعهما وتصنيفاتهما وثقافتهما المختلفة، والتنافس المرير داخلها وفيما بينها. وقد بيّن انتشار وباء كورونا (كوفيد – 19) المستجد نقص الجهوزيّة في مواجهة الكوارث والأحداث المفاجئة. ويخيّل للمراقب أنّ المختبرات ومراكز الأبحاث كأنّها تبدأ من الصفر، وبرز إلى العيان انعدام التوازن بين الأبحاث النظريّة والأساسيّة المسؤولة عن تقدّم العلوم، وبين الأبحاث التطبيقيّة والتكنولوجيّة لمصلحة هذه الأخيرة، وبالخصوص منها المسؤولة عن الابتكارات في السّلع الاستهلاكيّة أو الموجّهة للترفيه[2].

أوّلاً: تمهيدات حول أزمة العلم الغربي

كانت مساهمات علماء الاجتماع والفلسفة ضعيفةً أيضًا قياسًا إلى قوّة التحوّلات، مع تراجع قدرتهم على استكشاف آفاق المستقبل في حقبة الحداثة وما بعدها. أمّا الاقتصاديون فانصرفوا إلى إحصاء الخسائر، ورسم التوقّعات التقنيّة، دون أن يلقوا بالًا لتفسير الانحرافات النظريّة التي أخلّت بتنبّؤاتهم وأضعفت قدرتهم على الرصد الاستباقي للمخاطر والتفسير الحصيف للعوامل المحرّكة للفوضى والمسبّبة للكوارث. وفي المسار نفسه، كرّس علماء السياسة أعمالهم لتحليل علاقات القوّة وصراعاتها داخل الدّول وفيما بينها، ضمن منهجيّات متقنة، لكن أجنداتهم كانت محكومة من طرف خفي لبرامج مراكز التفكير (Think Tanks) التي حظيت بتمويل سخي، فيما أقصيت الفلسفة السياسية إلى المقاعد الخلفية، على أهميّة وظيفتها في إيجاد توافقات تتجاوز الشؤون السياسيّة المباشرة في قضايا يدور حولها نزاع عميق.

ولا يخلو من دلالة أن ما توصف بالحرب العالمية الصفر (حرب الثلاثين عامًا 1618-1648)، انتهت إلى إقامة النّظام الويستفالي في أوروبا، الذي ضمن الاستقرار مدّة طويلة من الزمن (ضمن معاهدتي السلام اللتين وقعتا في 15 أيار و24 تشرين أول عام 1648)، فيما لم تفضِ الحرب العالميّة الثانية إلى وضعيّة مماثلة، بل أقامت نظامًا عالميًّا ثنائيّ القطب تخلّلته حرب باردة طويلة الأمد، وأعقبته فوضى حربيّة ما زلنا غارقين فيها.

وفي غضون ذلك، وتحت أبصار علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد، تخلّى العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، عن إنجازه السياسي الأبرز، الذي جسّده الانتقال من نظام يعلي من شأن سيادة الدولة الحارسة ويرعى الحريات الاقتصاديّة، إلى نظام بسماركي يقدّم أوسع رفاهيّة وأمان لمواطنيه. لكن ما يصعب التعامل معه حاليًا، هو أنّ الشّطر الأكبر من القرار الاقتصادي انتقل في ظلّ العولمة إلى خارج نطاق الدولة ذات السيادة، وصار يميل إلى الشرق، فيما القوّة العسكريّة والنقديّة والسياسيّة ما زالت ذات مركز غربي.

وعودًا على بدء، يتضمّن هذا البحث بداية نقاش عن العلاقة بين أزماتنا وأزمة العلوم، وانطلق في ذلك من فرضيّة مفادها أنّ مسيرة العلوم باتت متقلّبة أكثر من السابق، بتأثير من عوامل ذاتيّة وموضوعيّة، بعضها منفصل عن متطلّبات البحث العلمي نفسه. مرّت تلك المسيرة بمرحلتين متداخلتين؛ كان كبار العلماء والنظريات الكبرى يلقون ظلالًا من الهيمنة على مسارات البحث في المرحلة الأولى، وهم بذلك استجابوا للنقص المعرفي وللحاجات العميقة للمجتمع. وفي المرحلة الثانية، صارت الهياكل المؤسّساتيّة هي صاحبة السّلطة في رسم مسارات النمو العلمي ووضع أجندات البحث وأولوياته. في الحالة الأولى كانت النماذج الإرشادية الكبرى ورموزها، الطرف الأقوى في تحديد موضوعات البحث العلمي، وفي الثانية غدا التمويل والسّلطات ومتطلّبات التسويق قاطرة التقدّم العلمي، وأصحاب الأيدي العليا في تحديد أي من مسارات العلم لها الأفضليّة على غيرها. 

ويمكن أن نعبّر عمّا تقدّم بأسئلة بسيطة: لماذا تتطوّر الصّناعات الجديدة التي تنتج سلع الترفيه، بأسرع من الصناعات التقليديّة التي تمسّ ضروريات حياتنا؟ وكيف تحرّك المؤسّسات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة «الطلب» على التقنيات والبحوث المتّصلة بها؟ وما العلاقة بين حاجات السّلطة ونمو الفروع العلميّة ذات الصّلة بها؟ وكم تساهم الحروب والإنفاق العسكري في تطوير التطبيقات العلميّة؟ وتحضرنا هنا أمثلة عدّة، من بينها تطوّر الشبكة العنكبوتيّة على خلفيّة الإنفاق العسكري الأميركي، وتطوّر علوم الفضاء ربطًا بالتجسّس، واستخدامات تكنولوجيا الاتّصالات في حروب الجيل الخامس، والنانو تكنولوجي في إنتاج أسلحة متناهية الدقة والصغر[3]. ولا يُغفل هنا أنّ الأبحاث العلميّة في مجالات استهلاكيّة محدّدة، تفرض لأغراض تجاريّة التّلاعب بالمنظورات الاجتماعيّة للنّاس، كصناعة التجميل التي تروّج لفلسفة حداثويّة للجمال قوامها ما تحدّده عوالم السّوق والميديا والموضة لا ما تختاره العين العادية[4].

سنحلّل أزمة العلوم في قسمين: الأوّل عن العقبات التي تعترض طريق نمو العلم، فتبطئه أو تعبث بأولويّاته وتعطّل نقلاته، والثاني: عن دور العلوم في القفز فوق الأزمات وتحسين قدرتنا على بناء السياسات وصولًا إلى نسج تقاليد علميّة محسّنة تناسب مجتمعًا جديدًا.

ثانيًا: عقبات في طريق العلوم و الولادة العسيرة للنظريات الجديدة

1 - سطوة النماذج الإرشاديّة الكلاسيكيّة

تؤمن الداروينيّة بالتغيّر البطيء والتدريجي، فيما تنمو المعرفة عند كارل بوبر (1902-1994) بالوثب والتغيّر المفاجئ، ومن خلال التكذيبFalsification  وليس التحقيق Verification كما يظنّ الاستقرائيون. فالنظريّة التي يمكن دحضها من خلال الخبرة والتجربة يمكن أن تُعدّل أو أن تنبثق منها نظريّات جديدة، وعلى هذا النحو يمضي العلم قدمًا إلى الأمام.

والثورات العلميّة، حسب توماس كون (1922-1996) في كتابه الشهير عنها[5]، هي التي تقود العلم نحو آفاق جديدة من خلال نماذج إرشاديّة أكثر تطوّرًا، وفي أثناء الثورات يتوجّه العلم إلى عالم المتعلمين الواسع، لكن كلّما ابتعدنا عن زمنها صارت لغة الأبحاث العلميّة اختصاصيّة ومغلقة، مما يعدّ مؤشّرًا على اقتراب زمن الثورة العلميّة أو برهانًا على ضرورة حدوثها.

وبتعبير «كون» فإنّ لغة العلم غير العادي، أي لغة الثورات العلميّة، رحبة وتتوجّه إلى جمهور واسع، ويمكن أن يتلقّاها غير المتخصّصين. ولنأخذ مثالًا على ذلك الورقة التي نشرها ألبرت آينشتين[6] عام 1905 واستهلّ بها الثورة النسبيّة التي غيّرت بعمق نظرة العلماء إلى الكون، ومع ذلك تضمّنت عرضًا مقتضبًا وبالكاد أشارت إلى المراجع التي استندت إليها. تختلف ورقة آينشتين في أسلوبها عن لغة «العلم العادي»[7]، فلم تعالج في سياق من الإطناب المنهجي والعلمي إحدى الإشكاليات الفرعيّة للعلوم إنطلاقًا من المبادئ السائدة، بل مثّلت استجابة للأزمات العميقة التي لا يمكن حلّها من خلال نظريّات قائمة.

ولا يتخلّى العلماء عن النماذج الإرشاديّة (البرادايم) القائمة والمسؤولة عن الأزمة، بل يتمسّكون بها، حتى لو كان المطلوب فقط تحديد نطاق صحّة هذه النماذج ووضع حدود لصوابها[8] لا نقضها من أساسها. وهذه عقبة في وجه التغيير متكرّرة الحدوث في تاريخ العلم. ومع ذلك لا تصمد مثل هذه العقبات إلى الأبد في وجه تطوّر العلوم الطبيعية، ففي نهاية المطاف تفضي الصعوبات التفسيريّة التي تنتاب نموذجًا علميًّا ما، إلى ولادة النظريات الجديدة. لقد هيّأت أزمة علم الفيزياء مثلًا في أواخر القرن التاسع عشر الطريق لظهور النظريّة النسبيّة[9]، ولم يكن من مناص أمام المجتمع العلمي إلا الاعتراف بذلك بعد وصوله إلى طريق مسدود في مواجهة حقائق أباحها الكون لمراقبيه، لكن ذلك لا يجري دائمًا بسلاسة، ففي الحالات التي يظهر فيها عدم التطابق بين النظريّة والطبيعة يميل العلماء في أغلب الحالات، إلى الانتظار وخاصّة إذا كانت الانحرافات بسيطة، ومن شأن هذا الأمر أن يؤخّر لمدّة من الزمن الخطوة التالية في طريق التقدّم العلمي.

هنا تبرز نقطة افتراق بين الحقول العلميّة. ففي مجالات الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا مثلًا ترجّح الاختبارات والتجارب نظريات على أخرى، مفسحة في الطريق أمام مرور النماذج الإرشاديّة الجديدة، لكن أمد الاختلاف يكون طويلًا وربّما دائمًا في ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والفلسفة والقانون؛ لصعوبة إخضاع حججها لاختبارات متحكّم بها تمامًا وقابلة للتعميم، فضلًا عن أنّ حقول المعرفة هذه تتقبّل تعدّدًا في الآراء على خلفيّة تضارب المصالح أو العقائد أو الميول الفكريّة المسبقة أو حتى التعنّت الذّهني.

توجد بالمقابل، نقطة تقاطع بين الدوافع التي تقوم عليها الثورات في الحقلين المذكورين، والتي يحرّكها الافتقار إلى إجابات شافية لأسئلة حرجة. فالثورات السياسيّة مثلًا تبدأ مع شعور النّاس أو قسم منهم، بأنّ المؤسّسات القائمة توقّفت عن إيجاد حلول لمشكلاتهم، وبالطريقة نفسها تبدأ الثورات العلميّة عندما يتّسع الاعتقاد بأنّ المجمّع العلمي المكوّن من نظريات كبرى لعلماء أساسيين، لم يعد قادرًا على الكشف عن ناحية من نواحي عمل الطبيعة[10].

لكن للموازاة بعد أعمق، يعبّر عنه الديالكتيك داخل المجتمعين السياسي أو العلمي، ففي كليهما ينقسم المختصّون إلى فئتين، إحداهما تدافع عن المنظور القديم والثانية ترفضه وتناصر المنظور الجديد، وهذا الانقسام ينمّ عن تباين في القناعات والتصوّرات العلميّة، لكنّه يرتبط أيضًا بالمصالح وبسطوة القائمين على النموذج الإرشادي نفسه أو المؤسّسات السياسية ذات الصّلة. وأبرز مثال على عرقلة المجاميع العلميّة للتطوّر يأتي من اسحق نيوتن (1642-1727)، أبرز روّاد النّهضة العلميّة على مر العصور، والذي أعاق تقدّم العلم في مجال فهم طبيعة الضوء زهاء قرن ونصف من الزمن تقريبًا. فحتى نهاية القرن التاسع عشر كان مفهومه عن الضوء بوصفه سيّالًا من الجسيمات هو المهيمن، فيما أُهمل الرأي الآخر الذي يرى الضوء على هيئة موجات. ويعزى هذا الإهمال إلى النفوذ الذي تمتّع به نيوتن في المجمّع العلمي، أكثر مما يمكن نسبته إلى ضعف حجج النموذج الموجي الذي ثبت في النهاية أنّه أقرب إلى الصواب. وقد اقتضى الأمر عقودًا طويلة قبل أن يجري تجاوز الهيمنة المعنويّة لنيوتن[11].

يلتقي كثير من العلماء مع «كون» في تقدير قوّة المجاميع العلميّة والنماذج الإرشاديّة، ودورها في إعاقة إطلاق الأفكار والرؤى العلميّة الجديدة، لكنّهم يختلفون معه في وصف مسار التطوّر العلمي نفسه، ويكاد «كون» أن يكون فريدًا في تصوّره لنموّ العلم على شكل وثبات. ويعارضه في ذلك كثيرون من بينهم جون غريبين (عالم فيزياء فلكية في جامعة كامبريدج ومن أعظم من قدّم الحقائق العلميّة بأسلوب روائي مبسّط) وجيمس تريفيل (أستاذ الفيزياء في جامعة إيلينوي وصاحب رؤية ومؤلفات في مجال تعميم المعارف العلمية والثقافية الأولية) وآخرون. يرفض تريفيل صراحة فكرة «كون» عن الثورات؛ لأنّ نمو العلم تراكمي في جوهره، خطوة في أعقاب خطوة، وبرأيه البراعة الشخصيّة من ناحية والبناء على ما سبق من أعمال، هما مفتاحا التقدّم العلمي. ويذهب غريبين إلى أبعد من ذلك برفضه على نحو قاطع ربط مسار التطوّر العلمي، بالاضطرابات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي يشهدها العالم[12]، وبذلك لا يخالف «كون» وحده، بل يرفض نظريّة غالبريث[13] عن العلاقة بين تاريخ الأفكار الاقتصاديّة وبين درجة تطوّر الدول وطبيعة مصالحها، التي يمثّلها الانفتاح تارة والحمائيّة تارةً أخرى.

مثالان من علم الاقتصاد:

لم ينجح علم الاقتصاد في تقديم شروح وافيه لبعض ظواهره مثل التقلّبات والدورات الاقتصادية، على الرّغم من مرور قرنين ونصف تقريبًا على نشوء هذا العلم بثوبه الحديث. ويعزى ذلك إلى جمود وانحرافات منهجيّة وفكريّة سبق التطرّق إليها، وإلى نقص في الجرأة بسبب سطوة المرجعيات المهيمنة وضخامة المصالح التي تعبر عنها. وتقتضي الشجاعة وضع مسلماته وفروضه الكلاسيكية الأساسية، على طاولة المراجعة والتنقيح والدحض ولا سيما منها الفروض المتحكمة بعالم البحث ومنها على سبيل التكرار والتأكيد: الرشد والعقلانية وسيادة المستهلك والتوقعات الرشيدة وكفاءة المعلومات المستقاة من السوق، وميل الاقتصاد إلى التوازن عند أعلى نقطة.

ظلّت هذه المسلّمات حاضرة في صلب مقرّراتنا الدراسيّة وأبحاثنا الأساسيّة والتطبيقيّة، مع أنّ الوقائع الاقتصاديّة أسقطتها أو قلّلت من شأنها. وإلّا لماذا كان سلوك المتعاملين في الأسواق الماليّة على هذا النحو الذي نشهده دائمًا، من عدم العقلانيّة وقلّة التبصّر وانعدام الحيلة، مما كبّد الاقتصاد خسائر هائلة، فاقت أحيانًا ما تسبّبه حروب كبرى وكوارث طبيعيّة عظيمة. وهل يعقل أيضًا بعد مرور أربعة قرون على قيام نماذج التمويل الحاليّة للاقتصاد، أن لا نضعها على محكّ المراجعة، أو نعثر على نماذج بديلة لها، لنبقى واقعين بين مطرقة انهيار البورصات وانفجار الفقاعات الماليّة والعقاريّة وسندان التذبذبات الحادّة في معدّلات الفائدة وفي حجم العرض النقدي. 

أدّت هيمنة النماذج الإرشاديّة وسطوة المجمّعات العلميّة بما فيها من نظريّات وعلماء، في المجال الاقتصادي كما في العلوم الطبيعيّة، إلى إبطاء التطوّر العلمي. وفي الآتي مثالان عن ملامح ثورتين معرفيّتين سرعان ما أجهضتا بسبب قوّة الفكر المدرسي السائد والكاريزما التي يتحلّى بها القائمون عليه:

 أستقي المثال الأوّل من الاشتراكيّة المثاليّة، والتي عدّها البعض تمهيدًا للماركسيّة، علمًا أنّ هذه الأخيرة تتحمّل قسطًا من المسؤوليّة عن إزاحتها من مسرح الفكر الاقتصادي مدّة طويلة من الزمن[14]. ومن روّاد هذه المدرسة المثاليّة المذكورة، جان شارل سيسموندي (1773-1842) وهنري دو سان سيمون (1760-1825) وغيرهما ممن عارضوا المبادئ التقليديّة للاقتصاد، ورأوا أنّ موضوعه المركزي هو الإنسان لا الأصول والثروات الماديّة.

وجّه أتباع هذه المقاربة نقدًا للملكيّة الخاصّة بوصفها قطب الرّحى في عمليّات الإنتاج والتوزيع دون أن يرفضوها رفضًا باتًا. فتكاملت أفكارهم مع آراء «التعاونيين» ممن وجدوا أنّ التعاون والمشاركة لا المنافسة، كفيلان بإعطاء حلول للمشكلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وذهب روبرت أوين (1771-1858) الذي يوصف بأنّه أبو الحركة التعاونيّة، إلى أقصى الحدود في دعوته إلى خلق مجتمع جديد، ينطوي على علاقات اقتصاديّة جديدة وبيئة اجتماعيّة ذات ملامح مختلفة (وهو ما حاول تطبيقه في إنشائه مستعمرات تعاونيّة للإنتاج). وتضمّنت أفكار أنصار هذه المدرسة الاشتراكيّة المبكرة، نزعات رومانسيّة مثل الدّعوة إلى إلغاء الرّبح عند أوين، والتعاون الشامل في الإنتاج والتوزيع والعودة إلى الأرض والعمل المشوق فيها عند شارل فورييه (1772-1837) ونظام الأجر المتساوي عند لوي بلان (1811-1883).

وعلى الرّغم من أنّ اليوتوبيا الاشتراكيّة هذه حظيت باحترام العديد من الماركسيين وتمتّعت بجاذبيّة عمليّة، فإنّها لم تقوَ على الصمود أو على الأقل لم تحظَ بالتقدير المناسب. ويمكن أن نعزو ذلك إلى قوّة التيّارات الأخرى التي تزامنت معها أو أعقبتها، وإلى الهيمنة الفكريّة التي مارسها مفكرون وعلماء اقتصاديون من ذوي التأثير التاريخي الكبير. ولعلّ العقبة الحاسمة أمام تطوّر الاشتراكيّة المثاليّة كانت ظهور كارل ماركس (1818-1883) على المسرح في وقت لاحق وقريب منها. صاغ ماركس مع فردريك انجلز (1820-1895) مذهبًا اقتصاديًّا يستقي جذوره  الفلسفية من المنهج الجدلي والماديّة التاريخيّة، وتتكوّن أعمدته من صراع الطبقات بوصفه محرّكًا لقوى الإنتاج وعلاقاته، ونقد الرأسماليّة القائمة على مصادرة فائض القيمة الذي ينتجه العمال، ليعرف هذا المذهب بالاشتراكيّة العلميّة تمييزًا لها عن سابقتها الطوباوية.

ساهمت مدرسة التحليل الحدي أيضًا في رسم المصير القاتم للاشتراكية المثالية. المدرسة التي أسّسها كارل منجر (1840-1921) ومن روّادها ستانلي جيفونز (1835-1887) وليون فالراس (1834-1910). وفي حين كانت نقطة ارتكاز الماركسيّة هي ربط الاقتصاد بفلسفة التاريخ، فإنّ مركز قوّة التحليل الحدي، تجسّد في إضفاء طابع موضوعي (رياضي) على المفاهيم الاقتصاديّة (من خلال اكتشاف فكرة المنفعة الحدية بوصفها أساسًا للقيمة)، على عكس الطابع الذاتي الأخلاقي الذي قامت عليه المقاربة المثالية.

وبذلك أُجهضت الاشتراكيّة المثاليّة على أيدي تيارين متناقضين؛ الماركسية الجديليّة من ناحية والرأسمالية الكلاسيكية ذات النزعة الكميّة من ناحية ثانية. لقد حافظت النزعة الرياضيّة على قوّتها طوال قرن ونصف وما زالت، على الرغم من الوهن الذي يعتريها خلال الأزمات الكبرى، بل كانت طوق النّجاة للمدرسة التقليديّة في تجديد قالبها النيوليبرالي الذي مكّنها من الاستمرار. وما زالت النزعة الرياضيّة، تتحكّم بمواضيع البحث الاقتصادي وأفضلياته، دافعة إلى الصدارة العناوين التي تعنى بسلوك الوحدات الاقتصاديّة الصغرى (الاقتصاد الجزئي)، وإلى الصفوف الخلفيّة تلك المعنيّة بسلوك الوحدات الكبرى (الاقتصاد الكلي)، ونجحت على نحو مؤذ في العقود الأخيرة بوضع أبحاث التنمية في بوتقة خاصّة معزولة.

لكنّ ظهور جون مينارد كينز (1883-1946) بنظريّته عن الطلب الكلّي الفعّال وأهميّة الإنفاق العام في مواجهة الأزمات، كان علامة فارقة ومؤثّرة ووقتًا مستقطعًا في مسار الرأسماليّة الكلاسيكيّة، وقد استمدّ كينز حضوره القويّ من الفشل المدويّ للأفكار التقليديّة في تجنّب أزمة الثلاثينيات وفي تجاوزها، ومن متطلّبات إعادة الإعمار الشاملة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يكن ممكنًا حصولها دون تدخّل عميق للدولة. وبالعموم، كانت النماذج الإرشادية الكبرى ومفكّروها سببًا في حرمان رؤى اقتصاديّة من مكانتها التي تستحقّها، فنظرت بدونيّة مثلًا إلى الأفكار التي تربط الاقتصاد بالأخلاق والقيم الاجتماعية والمنظور الانساني للخير والمصلحة العامة، مع أن البراهين التاريخية تساند مثل هذا المنحى.

وقد استغرق الأمر مرور أكثر من قرن من الزمن قبل أن تتراخى قليلًا قبضة الرؤية الجزئيّة عن الاقتصاد، فعادت العلاقة بينه وبين علم الاجتماع بالبروز مجدّدًا، على أيدي علماء وباحثين، أتوا بعد ثورشتاين فيبلن (1857-1929) الذي رفض إسباغ صفة عموميّة على الأفكار الاقتصاديّة، وشدّد على أثر البيئة الاجتماعيّة وتغيّر ظروف الزمان والمكان فيها[15]، ومن هؤلاء: جورج أكرلوف (1940) الذي اعتنى ببحث أثر التفاعلات الاجتماعية والمعايير الشخصيّة على السلوك الاقتصادي. وجيمس رونالد ستانفيلك   (1945 -)، الذي تغذّى من روافد فكريّة متعدّدة، مثل أعمال فبلين وكارل بولانيي[16] وجون كينيث غالبريث وبول سويزي وتوماس كون[17] وبول باران.

تضمّنت أفكار أكرلوف أراءً تعود إلى مرحلة ما قبل الثورة الحدية والرياضية في الاقتصاد، ومنها: اتّجاه الفائض الاقتصادي إلى التزايد والتركز في الاقتصاد الكلاسيكي الحر، والتدمير الخلّاق في الرأسمالية التي تفرض على الناس تغيير بيئاتهم الاجتماعيّة لمصلحة الإنتاج (يستلهم هنا من بولانيي رفض فصل الاقتصاد عن المجتمع)، والاختلال الناتج عن دولة الحد الأدنى، وبروز الطلب الاجتماعي على (سياسات غرضها) حماية الأمم من الاتّجاهات التدميرية للرأسمالية.

لقد كانت الشرور الناتجة عن سوء توزيع الدخل والثروة، وتهافت المبادئ التي قامت عليها النزعة الاستهلاكيّة، هي المعادل الموضوعي لسطوة النماذج الإرشاديّة، مما أعطى فرصة جديدة لانبعاث الأفكار الاقتصاديّة التي بقيت طي الكتمان مدّة طويلة من الزمن، فاستعادت المقاربات الأخلاقيّة والاجتماعيّة حقّها في الوجود على منصّة الفكر الاقتصادي، وصار ممكنًا تقبّل آراء من قبيل القول بأنّ المتعاملين في الأسواق لا يحرّكهم الجشع بقدر ما يتأثرون بدوافع خيرة تميل إلى الفضيلة (فكرة الأسواق الأخلاقية)[18].

نستمدّ مثالنا الثاني عن العقبات التي تحول دون نموّ أطروحات اقتصاديّة جديدة، من نطاق معرفيّ آخر. هنا سنتطرّق إلى الثورة المنهجيّة التي أحدثها العلّامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه الرائد اقتصادنا[19]. والثورة هنا مزدوجة في الفكرين الاقتصادي والديني. لقد استعان الشهيد الصدر بأدوات تحليل واجتهاد متنوّعة في بناء نظريّة اقتصاديّة متناسقة، لكنّه اعتمد القطع المنهجي بين المجال الفقهي ومجال بناء النظريّة، مما جنّب هذه الأخيرة مغبّة الخضوع للمعايير الصارمة التي تُعتمد في استنباط الأحكام. فالنظريّة بطبيعتها ظنيّة ومتغيّرة ومرنة عند التطبيق وخاضعة للتبدّل مع تطوّر العلوم الأخرى. والغرض الأساسي من وجود نظريّة إسلاميّة هو التعمّق بفهم مدلولات الدين ومنطوياته في سياقات نسبيّة لا تتعلّق بالتكاليف والأحكام، فتسعى إلى فهم وظيفة الدين في الحياة البشرية، وتحليل دور الفرد والمجتمع داخل المنظومة الدينية. وفي مقابل ذلك يبحث الاجتهاد الفقهي عن حقيقة شرعيّة ثابتة في مسائل متفرّقة تمسّ السلوك اليومي للناس.

إنّ القطع المنهجيّ الذي اعتمده الشهيد الصدر ما بين حقلي الفقه والنظريّة كان مجرّد بداية، لو استكملت لأوصلت ربّما إلى تطوير قواعد الاجتهاد الفقهي نفسه، وهذا لم يحصل. إنّ تطويرًا من هذا النّوع لا بدّ وأن يرتوي من معين ثورة منهجيّة تقوم على أمرين: أوّلهما فتح الأبواب الموصدة بين علوم الإسلام: الفقه والأخلاق والكلام والعقيدة الخ..، وتوسيع معنى الاجتهاد ليشملها جميعًا. وثانيهما النّظر إلى الدين على أنّه أوسع من النص، تبعًا لما يؤدّيه العرف والفطرة والسيرة التاريخية للأنبياء والرسل والأئمة من أدوار هامّة فيه، ولأنّ العقل ذو حضور قويّ في مجال الاجتهاد، فهو من أدلّة الاستنباط المعتبرة، ومن محدّدات الاتّجاه العام للتشريع.

نتحدّث عن الإسلام لا بوصفه دينًا سماويًا فحسب، بل لأنّ النظريات المأخوذة منه تعطي مساحة واسعة للعدالة وقيمها من زاويتين أخلاقية وعلميّة. لقد تلاقت العقلانيّة التاريخية مع الليبرالية الكلاسيكية في ربط القيم العليا بما فيها العدالة إمّا بالحتميّة التاريخيّة أو الاجتماعيّة، أو ببحث الإنسان عن المتعة واللّذّة. لكن العلاقة بين الأخلاق والمبادئ الاقتصاديّة تأخذ طابعًا عميقًا ومعقّدًا أكثر في الإسلام. الأخلاق ذات مصدر إلهيّ متسام، وبذلك هي أعلى من التعاقد الاجتماعي وأكثر رسوخًا ممّا هي عليه في المذهب الطبيعي، وغير منقادة كذلك للعقلانيّة التاريخيّة والجدليّة والأداتيّة التي بشّرت بها الحداثة. وبقول آخر، إنّ العدالة في الإسلام هي ذات مصدر أخلاقي نابع من إرادة الإنسان وأكثر ثباتًا من قوانين السّوق وقوانين التاريخ في آن معًا، لكنّها تأخذ بعين الاعتبار الحقائق العلميّة الفطريّة والنفسيّة والسلوكيّة والاجتماعيّة في اعترافها بالملكيّة الفرديّة (بتعريف خاص بهذا الدين)، وتؤمن كذلك بالتوزيع العادل الذي لا يعطلّ النمو، لكنّها تعطي الأولويّة للعدالة في توزيع الثروات الماديّة والطبيعيّة والبشريّة، على العدالة في توزيع مخرجاته والدخل الناتج عنه.

هذه الثورة العلميّة، التي قدّمت إضافة إلى الفكر الدّيني بنقله إلى حقل النّظريّة، وإلى الفكر الاقتصادي بجعل الأخلاق الدّينيّة جزءًا من أبعاده، لم يقيّض لها الاستمرار بفعل قوّة النّماذج الإرشاديّة القائمة، في الجانبين الدّيني والوضعي. لقد قاومت معاهد العلوم الدّينيّة محاولات التطوير المنهجي عند الشّهيد الصدر، فبقيت متمسّكة بمقتضيات الاجتهاد التقليدي الفردي القائم على التدقيق في النصوص، دون الغوص في عالم النّظريّة الواسع، وفيما ارتضت المجمّعات العلميّة الوضعيّة إعطاء فسحة لبعض التطبيقات الاقتصاديّة المرتبطة بالدين (مثل البنوك اللا ربويّة ومحاسبة الزكاة)، فإنّها أهملت عن عمد الإضافات النّظريّة المستمدّة من الفكر الدّيني ولم تعترف بها، بزعم أنّ مصادر المعرفة فيه مختلفة تمامًا عن مصادرها في العلوم الوضعيّة، وبدعوى أنّ الأخلاق الدّينيّة تلهم دوافع الخير عند النّاس في المساحات الواقعة خارج السّوق.

2 - الصّراع داخل البيئات العلميّة وفيما بينها

لا يجد المتمرّسون في العلوم الدقيقة والطبيعيّة أي حرج في توجيه اللّوم إلى المؤرّخين وعلماء الاجتماع والإنسانيات وإلى حد ما إلى علماء الاقتصاد، بدعوى أنّهم يتعاملون مع الحقائق العلميّة تعاملهم مع الاتّجاهات الأدبيّة أو الفنّيّة. فهذه الأخيرة يمكن أن تتقادم بل حتى تندثر، لكن نظريّة كالنسبيّة أو القوانين الثلاث للديناميكا الحراريّة لا ينتهي عهدها، وإذا طرأ عليها بعض التعديل أو التطوير، فإنّها ستمضي إلى الأمام في تفسير الأشياء، انطلاقًا من النّجاحات والإنجازات التي توصّلت إليها سابقًا.

والفارق الأساسي بين الثقافتين العلميّة والإنسانيّة بنظر علماء الطبيعة، أنّ الحوارات بين الفلاسفة قد لا تصل إلى نتيجةٍ حاسمةٍ متّفقٍ عليها ما دام أنّ أحد الطرفين أو كليهما يملك مهارة المحاججة والحوار. والأمر مختلف في مجال العلم، حيث الحقائق المختبرة والمجرّبة هي المعيار. فارق آخر بين الثقافتين يتمثّل في أنّ المعارف الإنسانيّة ترتكز إلى ما هو منطقي فيما يبحث العلم عمّا هو معقول[20].  فالمنطق لا يضيف معرفة جديدة، بل يفصح عن معارف متضمّنة في فرضيّاته، فيما الاكتشافات الجديدة لا تولد إلّا من رحم الملاحظة وتكرار التجربة، التي تبرز إلى العيان حقائق مؤكّدة لا يمكن التنكّر لها.

تختلف أيضًا الغاية من اكتساب المعارف الأساسية بين الاتّجاهين العلمي والإنساني، فاكتساب المعرفة الثقافيّة غرضه معرفة أشياء يعرفها الآخرون، وهنا تصير المعرفة مقترنة بالوجود الاجتماعي وسمة من سمات الانتماء، فالذي يجهل معارف ثقافيّة رائجة في محيطه، سيجد صعوبة في الاندماج به. أمّا امتلاك المعارف العلميّة من قبل أشخاص عاديين، فهدفه تكوين وجهات نظر بشأن قضايا تمسّ حياتهم مثل الاستنساخ الجيني وتطوير الطّاقة النّوويّة.. إلخ.

مع ذلك فإنّ من الخطأ بمكان التنكّر لوجود مكون اجتماعي في العلم. تفرض الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة نفسها على مسار البحث العلمي من نواح عدّة: تمويليّة وتكنولوجيّة وآيديولوجيّة بل وسوسيولوجيّة[21]. وهذه الظروف يمكن أن تبطئ أو تسرّع تقدّم مجال محدّد من مجالات العلم. إنّ النّقاش بخصوص الخلايا الجذعيّة مثلًا، ليس نقاشًا علميًّا صرفًا، بل له علاقة بالنّظرة إلى ما هو جائز وما هو ممنوع في التعامل مع الأجنّة (الإجهاض)، فإذا كانت آراؤنا الأخلاقيّة صارمة وعَدَدْنا الأجنّة كائنات حيّة من بداياتها، فهذا سيعرقل أبحاث الخلايا الجذعيّة، والعكس بالعكس. وبالتعبير الفقهي، كلّما كان نفخ الرّوح مبكّرًا ومقترنًا بانعقاد النّطفة كان صعبًا المضي قدمًا في هذا النّوع من الأبحاث.

وتأخذ السيطرة الاجتماعية على العلم نفوذها أيضًا في إطار المنافسة بين العلوم. فمثلًا رفضت خلال القرن الماضي ولعقود خلت، فكرة أنّ انقراض الديناصورات يعزى إلى ارتطام كويكب بالأرض، وكان سبب الرفض هو العقلية «فلسفية» التي هيمنت على الجيولوجيين آنذاك، فتبنّوا أفكارًا من قبيل أنّ الأرض شهدت أحداثًا كارثيّة شاملة مثل طوفان عظيم عمّ الأرض[22]. ولا يعزى ذلك إلى قوّة النّماذج الإرشاديّة كما ذكر أعلاه، بل للمنافسة بين حقلين علميين، إذ رفض علماء الجيولوجيا لوقت طويل التفسيرات الآتية من حقل الفيزياء الفلكية، لكن هؤلاء كسبوا في نهاية المطاف قصب السباق في البرهنة على أنّ انقراض الديناصورات سببه ارتطام كويكب قبل عشرات ملايين السنين.

تتأثّر العلوم الطبيعيّة بالسوسيولوجيا، من ناحية المنهج أكثر من تأثّر الحقائق العلميّة بها. فالجوهر الحقيقي للمنهج العلمي هو نفسه في العلوم الإنسانيّة والطبيعية والاجتماعية على حد سواء، والذي يجسّده الاختبار المتكرّر للأفكار والسعي إلى دفع حدود المعرفة والاكتشاف نحو آفاق كانت مجهولة من قبل، ولا يمكن أن نميّز هنا بين العلوم الثلاث في التعرّف الحقائق إلّا من حيث الأسلوب، فإذا كانت التجارب الطبيعيّة تجري في المعامل والمختبرات، فإنّ مختبر الأفكار الإنسانيّة هو التاريخ والمجتمع ورصد تغير الظواهر في الآماد الطويلة.

 وفي العموم، إنّ النماذج العلميّة على ما يقول «غريبين» مهمّة، لكنّها ليست الحقيقة، ولا بدّ لها  ـ كما أضيف ـ من التحلّي بأبعاد ميتافيزيقية، للوصول إلى تنوير مادي وإنساني/روحي جديد، وليس عودًا على بدء كما قد يُظنّ إلى ما قبل الحداثة والتنوير الماديين، فالعلم الكلاسيكي كما أستأنف الاقتباس من «غريبين»، تعامل مع الأشياء التي نراها ونلمسها، أما أفكار القرن العشرين وما بعده، فتتعامل من خلال النماذج الإرشاديّة الجديدة مع أشياء وحقائق لا يمكن إخضاعها للحواس والملاحظة والتجربة المعملية الصرفة، وهذا هو بيت القصيد في الذهاب إلى أقصى حدود المادة في التجربة، وإلى ما بعدها في الفهم والتصوّر والاعتقاد.

تضارب المشروعيات العلميّة.. مشكلة منهج أم تباين ثقافات؟

ينسب أوّل تنكّر فظّ للعلوم الإنسانيّة، إلى المحاضرة التي ألقاها تشارلو بيرسي سنو (وهو روائي متخصّص في العلوم الطبيعية)، في كامبريدج تحت عنوان «الثقافتان»[23]، ووصم فيها العلوم الإنسانيّة بعدم الدّقّة وقلّة الصرامة المنهجيّة، وأنّها لا تقدّم شيئًا للبلدان المتخلّفة. وقد ووجهت هذه المقالة بعاصفة من الرّفض المدوّي.

لا مناص من الاعتراف بأنّ العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة تلتزم المنهج العلمي، القائم بحدود معيّنة على الملاحظة والاختبار، لكن وفق صيغ تجريبيّة خاصّة بها وذات منحى تاريخي ووصفي. وتؤدّي هذه العلوم من دون شكّ وظيفة حيويّة في مجتمعات تعاني من أزمات متشعّبة وتمرّ راهنًا بتحوّلات عميقة، تحرّكها وقائع وسياقات سياسيّة واقتصاديّة وتكنولوجيّة.

ثم إنّ الفصل الحادّ بين الثّقافات العلميّة الثلاث، الطبيعيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، لا يأخذ بعين الاعتبار الفوارق الفرعيّة التي تقسّمها من الداخل. هناك مثلًا فارق جوهريّ وعميق على ما يذكر كيغان «بين الفيزياء والكيمياء من جهة والبيولوجيا من ناحية ثانية»، فالظواهر الفيزيائيّة والكيميائيّة لا تتغيّر مع الوقت وتتّسم قوانينها بالثّبات على مرّ الأزمنة، وتتقبّل التحليل الرياضي ويمكن التحكّم بها في التّجارب المخبريّة. وبخلاف ذلك، إنّ الكائنات الحيّة وأجهزتها الحيويّة وخلاياها وجيناتها أقلّ استجابة للتحليل الرياضي، ويعسر السيطر التامة عليها في التجارب المعمليّة، كما أنّ قوانينها ومركّباتها تتغيّر وتتطوّر مع مرور الزمن.

يذهب بعض الباحثين إلى ربط نوعي العلوم الطبيعية هذين بحقلين في الضفّة المقابلة. العلوم الاجتماعية برأيهم أقرب إلى علوم الأحياء التطوّريّة والبيولوجيّة بفعل قابليتها للتطوّر وتعقيد منظوماتها[24]. إنّ البنى الاجتماعية واللغات والملكات الشخصية والجينات كلّها عرضة للتغيير على الدوام، وتتسم بالتعقيد الذي يميّز المنظومات البيولوجية[25]. وفي المقابل ينجذب علم الاقتصاد، إلى النماذج الرياضيّة الشكليّة، بزعم ثبات المبادئ والقواعد التي يقوم عليها هذا العلم، على غرار مبادئ علم الفيزياء[26].

ومهما يكن من أمر، فإنّ المنهج العام للعلوم متقارب في أساليب الإثبات أو النفي، ومشكلاتها كما إشكالياتها متماثلة. التغاير يمسّ فقط مواضيع العلم، التي هي مثلًا المادة والطاقة والحركة في الفيزياء، والمعارف المنطقيّة المطبّقة على وحدات وعناصر في الرياضيات، وخواص المادة في الكيمياء، والندرة النسبيّة في الاقتصاد، والعلاقة بين الوحدات الاجتماعية والتفاعل فيما بينها في علم الاجتماع، والوجود في الفلسفة..إلخ. وتعاني العلوم إيّاها أيضًا من مشاكل متقاربة في الآونة الحالية، مثل تآكل روح الانتماء للمنتديات العلمية، وتفضيل الشهرة على التعاون ممّا خلق منافسة بين الباحثين تنافي أخلاقيات العلم، وطغيان المؤسّسة على الفرد، والاستغراق الشديد في التخصّص على نحو أغلق باب الاجتهاد العمومي.

ولا تخلو الموضوعات التي تعالجها الأنساق العلميّة الثلاث من تقاطع وتشابك، فالأخلاق وهي مجال فلسفي تطرح أسئلة على بحوث الأحياء وتقدّم إجابات على أسئلتها، والفلسفة والفيزياء يبدوان مترابطين في تحليل الظواهر والمفاهيم الواقعة على حافة الفهم البشري، مثل الزمن والبداية والنهاية والأزل والأبد والسرمدية و(ميتافيزيقيا) الأبعاد الملتفّة والخفيّة للمادة. والإلمام بعلم الاجتماع يبدو ضرورويًا لفهم آليات عمل المجاميع وفهم منافساتها الداخلية، وتفسير العقبات ذات المنشأ السوسيولوجي التي توقف تطوّر العلوم أو تبطئه مدّة من الزمن. وتستعير السياسة من البيولوجيا مثلًا مفهوم التعقيد، كما أنّ توزيع الموارد بين هذا المضمار العلمي أو ذاك، خاضع لمبادئ الاقتصاد السياسي، وحلّ معضلة إنتاج المعرفة التي لا تخضع لقوانين السّوق، موكلة إلى علم الاقتصاد. أمّا علم التاريخ فبمقدوره أن يؤدّي دور المختبر الزمني الهائل لاستخراج الحقائق العلميّة في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، ولاستنباط مبادئ أو نفي حقائق لا يمكن تعريضها للتجارب الآنية.

وإذا أردنا تصوّر وظيفة مشتركة ورئيسية للعلوم، فإنّها الضبط المتبادل، الذي يمنع هيمنة علم على آخر. العلوم الإنسانيّة تساهم في الرقابة على اختراق العلوم التطبيقية للمجتمع، بما في ذلك استيعاب الآثار الناشئة عن فائض التكنولوجيا في حياتنا اليومية. العلوم الطبيعية تضع حدًّا للأوهام التي تغذي تصوراتنا الخاطئة أو المحرّفة عن الانسان والطبيعة والبشرية والكون. والمثال الذي يتردد غالبًا، أنّ الاكتشافات العميقة للكون في الأبعاد الهائلة، وتحليل خصائص الحياة والمادة في الأبعاد متناهية الصغر، كسرت هالة الانسان عن نفسه، وخدشت نرجسيته الزائدة، وأعطته بابًا-إذا أراد- للعودة متواضعًا إلى رحاب الرحمة الإلهية. أما العلوم الاجتماعية والاقتصادية فبإمكانها إذا أحسنّا استعمالها، أن تقلّل المفاعيل السلبية لعدم المساواة في توزيع نواتج الحداثة التقنية والعلمية والرفاه الناشئ عنها.

3 - تضخيم المؤسّسات والتبعيّة للتكنولوجيا

تؤدّي مقاومة التغيير إلى انطفاء نزعات التحوّل الجذري، وما يصحّ على المجتمعات والدول، وعلى الاجتماع والسياسة، يصدق في مجال العلوم. لقد فقدت هذه الأخيرة ملامحها التاريخية التي انطوت على عبقريات فرديّة وهوامش واسعة للبحث الحر، بعد أن احتوتها المؤسّسات ذات النزعة المحافظة في طبيعتها في المجالات كافة.

ولعلّ التعبير الأبرز عن العوامل المؤسّسيّة المتحكّمة بنمو العلوم، هو ضخامة الترتيبات المطلوبة لإنجاز الأعمال البحثيّة في مجال الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا الجزيئية، فهنا تتصدّر المشروعات الكبرى التي تحتاج إلى بنى تحتيّة تقنيّة باهظة الكلفة، وفرق كبيرة من المتخصّصين.

أسفرت تلك المشاريع العلميّة الضخمة، عن أربعة أمور إشكالية: أوّلها، الحاجة إلى تمويل ضخم من المؤسّسات الخيريّة أو القطاع الخاص[27]. وثانيها: هو عدم التساوي في فرص الانخراط في هذه مشاريع، حيث يقتصر العمل فيها على أقليّة من المحظوظين دون أن يكونوا بالضرورة الأعلى كفاءة، وبذلك يحرم المجتمع من عطاءات أكفّاء لم يحالفهم الحظ، أو ألقت بهم رياح القدر بعيدًا عن التيّارات الكبرى لمشاريع البحث المموّلة جيدًا. وثالثها: انتقال ولاء المجتمع العلمي من المؤسّسات الأكاديميّة إلى المنظّمات الخيريّة والقطاع الخاص والبيروقراطيات الحكومية ولا سيما في جناحها العسكري والأمني، بعد أن غدت مصدر التمويل الأوّل، وعُهد إليها إدارة المشروعات العلمية فائقة الحجم. أمّا الأمر الإشكالي الرابع، فهو ضآلة نصيب العلوم الاجتماعية من التمويل مقارنة بنصيب العلوم الطبيعية منها وبالخصوص في المجالات التطبيقية والتكنولوجية.

لقد أضفى الأمر الأخير سمات تمييزيّة بين زملاء البحث في الجانبين. لكن الأقدار أنصفت علماء الاجتماع والاقتصاد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لازدياد الحاجة إليهم في مواجهة الاضطرابات التي مرّت بها الدّول والمجتمعات في تلك الآونة. أمّا الضحايا الأشدّ لهذه التراتبية، فكان من نصيب المتخصّصين في مجالات الفلسفة والتاريخ والآداب، الذين استبعدوا غالبًا من معادلات التمويل السخي، بدعوى أنّ مشاكل المجتمع تُحلّ، ورفاهيته تتحقّق، على أيدي أصحاب العلوم الطبيعية وحدهم. لكن تقدّم الصين وكوريا الجنوبيّة لم يكن بسبب امتلاكهما التكنولوجيا، بل لاعتمادهما كلٍّ بحسبه نموذجًا اقتصاديًا صائبًا من الناحية العلمية[28]، فيما لم يحم الاتحاد السوفياتي من السقوط امتلاكه ناصية التكنولوجيا، كما لم تنقذ البراعة العلمية الفائقة اليابان، من ركودها المستمر زهاء ربع قرن.

فجوة التكيّف الاجتماعي مع الابتكارات التقنية

تساهم السلع الجديدة التي تولّدها الثورات التكنولوجية في إحداث تحوّلات في الأنظمة الاجتماعية بمعناها الواسع، مما يدخل المجتمع في فجوة التكيف. وتنشأ هذه الفجوة من اختلاف وتائر التقدّم، السريعة على الصعيد التكنولوجي، والبطيئة على مستوى النّظم السياسيّة والعوامل الاقتصادية/الاجتماعية المطلوبة لاستيعاب الثورات التقنية. والتباين أيضًا ما زال قائمًا بين الاتّساع الهائل في المجال الافتراضي والنمو الطبيعي للابتكارات والتجديدات في المجال المادي الملموس (لاحظ الفارق بين زيادة سرعة الاتصالات من جهة والمواصلات من جهة ثانية). وستزداد فجوات التكيف خطورة كلما كان التوازن مختلًا بين تقدم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة من جهة والعلوم الطبيعية من جهة ثانية، وكلّما كان الاختلال حاضرًا أيضًا بين البحوث التطبيقية الأكثر خضوعًا لمبادئ السوق وقوانينه والبحوث النظرية الأقرب إلى تمثيل المصلحة العامة والخاضعة لقواعد الاختيار العام (Public choice).

وهناك العديد من الأمثلة على التغيّرات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن الثورات التكنولوجية. ففي السياسة حدث انزياح في فهم الديموقراطية من تمثيل الغالبية إلى بناء الإجماع، إذ يكفي أن تحتجّ أقليّة بمسمّيات المجتمع المدني أو غيره، حتى تُقوض نتائج عمليات ديموقراطية. وفي الاجتماع، اتّسع مفهوم الخصوصيّة السيبرانيّة ليخترق الأسرة ويهدّد بتفكيكها. وفي الاقتصاد: تغيّر معنى التبادل (النقدي) مع بروز ظاهرة المقايضة «الرقمية» من جديد، والانتقال من اقتصاد تبادل الملكية إلى اقتصاد تبادل المنفعة (اقتصاد الشبكات).. إلخ. لكن الأكثر حراجة مما سبق الفوضى الثقافية التي أوجدتها التكنولوجيا، دافعة إلى السطح المعاني الهشّة على حساب المعاني المركّبة والعميقة، ومقوّضة بذلك التّراث الانتقادي الذي جسّد التعدّديّة بأبعد معانيها. فعاد الاستقطاب حول اعتقادات أو انتماءات أوّليّة ليسود من جديد، ولم يعد الجدل أو الحوار (كالذي نجده في مواقع التواصل الاجتماعي) يتمتّع بالجديّة والصدقيّة اللازمين لإنتاج معارف أو توافقات جديدة، فيما هو يوغل في تعبئة عالم قائم على ثنائيات صارمة.

لنوسّع دائرة الرؤية قليلًا. تفرض التكنولوجيا إيقاعها على العلوم الثلاث، فتدفع العلوم الدقيقة إلى الأمام في تغذية راجعة، فيما تبدي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة استجابة أقل. المشكلة في هذه الأخيرة أنّها تقدّم ردودًا ناقصة وأحيانًا في اتّجاه واحد على الأسئلة التي يطرحها التقدّم التكنولوجي. لننظر مثلًا إلى الطريقة التي تعالج فيها هذه العلوم أثر وسائل الاتّصال والميديا على المحيط الاجتماعي للأفراد، حيث تضع نصب أعينها ضبط السلوك البشري تجاه الابتكارات الجديدة في هذا المجال، لكنّها لا تتعدّى ذلك إلى محاولة فرض قواعد وشروط على إنتاج التكنولوجيا نفسها وتحديد ما يجب تطويره واستحداثه منها وما لا يجب. وبقول آخر تنطلق العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في هذا المجال، من فرضيّة مفادها أنّنا قادرون على التحكّم بسلوك المنخرطين في عالم الاتّصال، أمّا تكنولوجيا الاتّصال نفسها ومنتجاتها، فيُتعامل معها بوصفها موضوعًا مستقلًا يقع خارج متناول العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، ولديه قوانين ذاتيّة للنّمو والتّطوّر.

وربّما تقودنا هذه العلوم إلى ارتكاب أخطاء والتمسّك بها دون هوادة بدعاوى علميّة زائفة. فعلى سبيل المثال أفسدت الأزمات الاقتصاديّة والماليّة العالميّة على أنصار المذهب الكلاسيكي، نعيم التحليل الآلي والرياضي للعلاقات الاقتصادية، ومع ذلك ما زالت مبادئه تلهم جزءًا كبيرًا من صانعي السياسات في الدول والمؤسّسات العالمية، تبعًا لمصالح خاصة أو تصوّرات خاطئة. وبذلك تتضافر أمور عدّة على تشكيل عقبات كأداء تحول دون مرور الثورات العلمية في مجال العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، بقدر ما يحدث في المجالات العلمية الأخرى.

انحناءات الفضاء الاجتماعي

تؤدّي الثورات التكنولوجيّة إلى انحناءات (بمفهوم آينشتين) في الفضاء الاجتماعي (والاقتصادي/السياسي)، فتتغيّر محاور الجذب وتحصل تبدّلات في خطوط القوّة واتّجاهاتها، مما يبرز الحاجة، في سبيل التكيّف، إلى الانتقال من التوازن القائم إلى توازن جديد.

وبوسعنا أن نرى كيف يُحدث التقدّم التكنولوجي تموّجات في المجتمع والمجال العام على نحو يصعب التّحكّم به والاستجابة له إلّا بعد مدّة طويلة من الزمن. وتقود الابتكارات التكنولوجية التي تأتي على شكل موجات إلى تغيّرات عميقة في العالم، فارضة إيقاعها القوي على الصُّعد كافة، بما فيها العلوم الطبيعية. وهكذا نشهد تسلسلًا مخالفًا لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الأمور، حيث صار الطّلب على التكنولوجيا هو قاطرة البحوث التطبيقيّة، وهذه بدورها توجّه الأبحاث الأساسيّة والنّظريّة، بدلًا من أن يحدث العكس. وفي حين يفترض أن يكون دور العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ضبط الآثار الجانبيّة للثورات التكنولوجية، مع التّحلّي منهج انتقادي تجاهها، نراها تُستَتبع أكثر فأكثر لمصادر القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة النابعة من الاقتصاد الجديد.

تحدث الثورات والمنتجات التقنيّة أيضًا، تبدّلات في موازين السّلطة العالميّة، من خلال كسر المفاهيم النمطيّة عن المجتمع، الذي تحوّل معناه من مجموعة أفراد مع تاريخ وثقافة مشتركين، إلى مجتمع افتراضي، وعالم لا تفصل حدود مادية بين «شعوبه»، مما يبعث على الاعتقاد حسب ريفكن بأنّ الدولة الأمّة لن تقوى على الصمود[29]، على الأقل بصيغتها الراهنة.

لا شكّ أنّ للتقنيات الجديدة فضل في تحقيق قفزات إلى الأمام في النظريّة العلميّة، لكن تطوّرها لا يمثّل استجابة لدواعي اجتماعية، بقدر ما يأتي على خلفيّة متطلّبات جيوسياسية أو اقتصادية، كالحاجات العسكرية في الحروب، وتطوّر نماذج الاستهلاك في السّوق. ويمكن أن نضرب مثالًا بالتقدّم التكنولوجي أثناء الحرب العالميّة الثانية، وانعكاسه على العلوم. فالجيولوجيون عكفوا على مشروعات وثيقة الصّلة بالحروب البحرية، مما أحدث تطوّرًا هائلًا في تكنولوجيا الاستشعار البحري وتحليل قاع المحيطات. وقد ساعد هذا الأمر على حسم جدالات بشأن نظريات علميّة كانت موضع جدل كنظريّة الزحزحة القارية[30].

ولا يقف الأمر عند تبعيّة العلوم بأبعادها الثلاث الطبيعية والإنسانيّة والاجتماعية للتكنولوجيا، بل تضاف إليها التبعية للسلطات التي تخلقها التكنولوجيا ولمؤسّسات السلطة عمومًا، حيث تتحكّم المؤسّسات بالقسم الأكبر من البحوث. فلنقارن مثلًا بين البحوث الاقتصادية التي تنتج لمصلحة صندوق النقد الدولي، والسياسية التي تُعد لمصلحة وكالات الأمن القومي ومراكز التفكير المرتبطة بها، وبين ما يُنتج من أبحاث لمصلحة الجامعات والمعاهد الأكاديمية بالاستقلال عن البرامج الحكومية والمشاريع التي تديرها الشركات والكارتيلات الاقتصادية العالمية.

وجه آخر من وجوه تبعيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية للتكنولوجيا، تجسّدها التغيّرات القهريّة التي تتعرّض لها على المستوى المنهجي، بسبب اجتياج التقنيات عالم البحث. فبقدر ما ساهم الكمبيوتر مثلًا في تطوير الأبحاث الاجتماعية والإنسانيّة، وتسهيلها وزيادة كفاءتها، بقدر ما أدّى إلى تشييئها وتقريبها من العلوم البحتة. ونذكر على سبيل التكرار هنا هيمنة الرياضيات على الاقتصاد، وامتزاجه بالعلوم القائمة على التجربة البحتة، وبروز فروع هجينة كالمقاربات العصبيّة والمعلوماتيّة والفيزيائيّة للاقتصاد، ومقاربة النّظم المتعدّدة ونظريّة الفوضى، والاقتصاد الحراري...إلخ[31].

وتعطّل تبعيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية لعلوم التجريب والثورات التكنولوجية، قدرتها على إطلاق ثورات موازية للثورات العلمية، وهو أمر لا بدّ منه للانخراط في عمليّة الضبط المتبادل بين المجالات العلميّة المختلفة، ولجعل التطوّر البشري متّسمًا بالحدّ الضروري من التوازن والاستقرار. وسنلاحظ هنا أنّ سطوة التكنولوجيا المرتبطة بالسّوق أو بالهيمنة أو بالمصالح السياسيّة، يصعب مقاومتها مجتمعيًّا، ما لم يصاحب تطوّرها، تطوّر مماثل في العلوم غير التجريبية.

وسأختم بأمثلة عن الضبط المتبادل الممكن بين العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة من ناحية وعالم التكنولوجيا من ناحية ثانية. فمن الأمور ذات الدلالة الإيجابيّة أنّ القانون، أباح تقييد الحريات العامّة و«المسّ» بالحريات الفرديّة، للتخفيف من غلواء التطوّر التقني، أو لتعميم منافعها، مثل وضع حدٍّ أقصى للسرعة المسموح بها، مهما زادت قوّة محرّكات السيارات، أو فرض التقيّد بالإرشادات الصحيّة أو تناول اللّقاحات في أزمنة الوباء.

ومن الصّور السلبية، نذكر مثلًا استعمال دعاوى علميّة في قضايا اجتماعيّة مثل تنظيم الزواج المثلي قانونيًا، وتشريع الإجهاض، والسماح بضخّ محتوى إباحي ومحرّم ومناقض للفطرة البشريّة السليمة، على مدار الساعة ووضعه في متناول الجميع، فضلًا عن تسخير العلوم الرياضية في البرهنة على نظريات اقتصادية مبرّرة للفقر ومسوّغة لعدم المساواة.

4 - معضلة اتّخاذ القرار

كانت الأزمات الاقتصاديّة والأمنيّة والعسكريّة، سببًا في تعزيز نفوذ السلطات التنفيذية على حساب مثيلالتها التشريعية، حيث تقلّصت أدوار الهيئات المنتخبة لمصلحة غير المنتخبة منها كالبنوك المركزية، وتعاظمت سطوة أجهزة الضّبط الاجتماعي والقوى التي لم تخرج من صناديق الاقتراع كمنظّمات المجتمع المدني، إلى حد باتت معه المسيّر للحياة العامّة. ولم يعد نادرًا أن تملأ الاحتجاجات «المدنية» و«القمع» المضاد لها، الفترات الفاصلة بين المواسم الانتخابية. مما يلقي بظلال من التساؤل عن مستقبل الديموقراطية التي لم تعد تبسط مظلّتها إلّا على أقل القرارات والسياسات أهميّة.

لقد كشفت الجائحة والكوارث الشبيهة لها، عن مدى التضخّم في أدوار الأجهزة الطرفيّة في الدولة الحديثة، فالسلطات النقدية كانت المموّل الأوّل لبرامج مواجهة الوباء لا الحكومات، من خلال «خلق» آلاف مليارات الدولارات وضخّها في الأسواق النقديّة فورًا (أكثر من تريليوني دولار في الولايات المتحدة الأميركية وحدها)، فيما كانت الحركات المدنية والكارتيلات الكبرى الضاغط الأكبر على الدول للحد من إجراءات الإغلاق والوقاية من الفيروس، أما الأجهزة العميقة في الدول فتولّت رعاية المنافسة فيما بينها على إنتاج لقاحات أو علاجات قبل الآخرين، بل سعت دون رادع أخلاقي إلى عرقلة جهود الدول الأخرى في هذا المضمار.

وبناء عليه، لا بدّ من تجاوز السؤال التقليدي المطروح حاليًا في ظلّ وباء كورونا، عمّا إذا كانت الدولة الشموليّة المركزيّة أكثر فعاليّة في مواجهة الكوارث من الدولة الديموقراطية. فما ينبغي تسليط الضوء عليه والعناية به، هو طريقة عمل الأنظمة أكثر من طبيعة النظام السياسي نفسه، ويجري ذلك من خلال تحديد من يتولّى رسم السياسات واتّخاذ القرار: المؤسّسات الواقعة في صلب الدولة أم التي على هامشها؟ وبناء عليه، يعزى فشل النموذج الغربي في استيعاب كارثة الوباء، إلى تعدّد الشركاء في اتّخاذ القرارات المفصليّة وتشتّت عمل البيروقراطية المسؤول عن تنفيذه، فيما نجحت الصين بذلك بسبب اتباعها منهجًا معاكسًا.

ولذلك، دعنا لا نلقي بالًا للنّقاش السياسي الدائر حول هذه النقطة، فلا فائدة ترتجى من عقد مقارنات بين نظام «شمولي» وآخر «ديموقراطي»، فهذا خروج عن الموضوع، واسترسال في مناكفات آيديولوجية عقيمة. كالاستهجان الذي لاقاه امتداح التجربة الصينيّة في مواجهة كوفيد- 19، بوصفه، حسب الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، دعاية للنموذج «الاستبدادي الصيني».

المطلوب إذًا، مراجعة أسلوب عمل الأنظمة وبيئاتها وسلوك متّخذي القرار، بدلًا من توجيه النقد إلى السمة الأساسية التي تصف بها نفسها (الحرية، العدالة، الرفاهية..). ويمكن أن نعدّ رأي عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران جوهريًا في هذا المجال، بإشارته إلى الخلل الذي أوجدته الحداثة في بنيات التضامن التقليدية بين المواطنين والعمال وأرباب العمل وبين الآباء والأبناء، والتي باتت ضرورية -كما أضيف- في ظل التقلص المتواصل لدور الدولة.

لقد كشف الوباء عن التشوّهات التي أوجدتها الرأسماليّة في بيئات العمل،  بفرضها قيودًا بيروقراطية زائدة عن المطلوب على العمال، وتكريس التناقض بين السعادة «النفعية» وقيم العمل، وبتعبير موران، يجسّد السباق نحو الربحيّة أحد جوانب القصور في التفكير الإنساني، وهو مسؤول عن عدد لا يحصى من الكوارث البشرية[32] بما فيه الوباء الحالي.

أي دور للدولة؟

لا شكّ أنّ الدولة فقدت في العقود الأخيرة جزءًا لا يستهان به من دورها، لكنّها لم تخسر القدرة على استعادة هذا الدور في ظروف مناسبة، فلديها ما يكفي من الشرعيّة والبنى التحتيّة لفعل ذلك، وها هي تستردّ بريقها خلال عقد من الانهيارات الماليّة والكوارث البيئيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وتوفّر للمجتمع الملاذ الأخير في وجه الكوارث والأزمات والمحن، فيما يقف الفاعلون الجدد عديمي الحيلة ومكتوفي الأيدي إزاءها.

صحيح أنّ انخراط الأفراد في بيئة تكنولوجية فائقة التطوّر، قوّى حضورهم ووسّع المجال العام المفتوح أمامهم، لكن ذلك لم يكن بالضرورة على حساب نفوذ الدولة، بل ربّما اقتطع هؤلاء الأفراد نفوذهم المستجد من المساحة التي تشغلها السّلطات الاجتماعيّة والتقليدية. فما زالت الدولة لاعبًا معتبرًا في مجال فرض الأمن السيبراني، ووضع النّظم والقواعد، بل إنّها تتمتّع بالإمكانيات اللازمة لتسخير العلوم الاجتماعية والاقتصادية والإنسانيّة للتحكم بالفضاء الافتراضي والعوالم التقنيّة الأخرى، وتتحدي «الفردانية الرقمية» بما تملكه من أدوات ضبط وتحكّم وهيمنة صلبة وناعمة.

ومع ذلك، أضفت ثورة المعلومات مسحة ديموقراطيّة على نشر البيانات وتداولها، فلم تعد الدولة وكيلها الوحيد، وصارت الشبكات العنكبوتية المسرح المفتوح لتوزيع وتجميع وتفكيك وإعادة التجميع المرن والسريع لهياكل ومؤسّسات وجماعات عند الطلب[33].

ثمّ إنّ فائض الإحساس بالهويّة الذي تتيحه هذه الشبكات قد يعيدنا إلى نقطة الصفر من العالمية إلى «القبيلة» دون المرور بحلقة وسيطة هي الدولة، فالوصول السّهل والمكثّف للمعلومات يفضي إلى قيام نظم ما بعد حداثيّة، قائمة على التشكيك بكلّ شيء، بما في ذلك الشرعيّة الكلاسيكيّة لأنظمة الحكم، والاستقواء مثلًا بزخم مواقع التواصل الاجتماعي لتغيير الوقائع أو استثمارها لغايات خاصّة.

ويقترب النموذج السياسي المنبثق من الشبكات المعلوماتية أيضًا، إلى سحب الاعتراف تدريجيًا بحكم الغالبية، مما يعني الانزياح تدريجيًا إلى ما يشبه سلطة التوافق التام. وبقول أوضح، تتولّى حركات الاحتجاج «المدني» في بعض الأحيان، منع المؤسّسات الرسميّة من ممارسة سلطتها في قضايا ترفضها الأقلية، أو تقدّم على إفراغ نتائج الانتخابات من مضمونها، وهذا أسهل عليها من تغيير تلك النتائج من خلال الطعن، أو المطالبة بإعادة عمليات الاقتراع أو حتى انتظار الانتخابات القادمة.

هذه النماذج الجديدة لممارسة السلطة ستفضي في خاتمة الأمر إلى جعل الفضائين السياسي والاجتماعي متطابقين إلى أبعد الحدود، ولم يكن هذا ممكنًا لولا هيمنة التكنولوجيا على المجتمع، وتأخّر العلوم الاجتماعية والإنسانيّة عن القيام بدورها المأمول في ترميم الانحناءات التي تحدثها الابتكارات الجديدة في الفضاء الاجتماعي، فيما كان دورها فعّالًا أكثر في حسم الجدل أو ترشيده بشأن انقسامات اجتماعيّة أخرى ذا منحى أخلاقي وقيمي (كالموقف من الاستنساخ والهندسة الجينية والاجهاض وأبحاث الخلايا الجذعية..).

ثالثًا: العلم والبحث العلمي في سياقات جديدة: نحو مجتمع ما بعد رقمي

أطلقت الجائحة ديناميكيات جديدة في استكشاف الحقائق الاجتماعية الخفيّة، فسلطت الضوء على الأزمات المعروفة مثل تداخل العوامل العرقيّة والطبقيّة والنوعيّة في جعل فرص الحياة غير متساوية بين البشر. في بعض البلدان (كالولايات المتحدة الأميركية) كان ذوو البشرة السوداء أكثر عرضة للوباء، فيما عانت الدول الأفقر في العالم من صعوبات كبيرة في تمويل برامج مكافحته، ويرتقب أن يطول انتظارها للقاح حال التثبت من إنتاجه والتثبت من سلامته.

لقد طرحت الجائحة أسئلة حرجة على العلوم ذات الصلة المباشرة بها (الأبحاث الطبية على نحو خاص) وعلى البيروقراطيات الحكوميّة، وكلاهما ظهر قليل الجهوزيّة وعديم الحيلة في إدارة تدخّل فعّال وفوريّ وسريع، لكن الأسئلة الأكثر إشكالية كانت من نصيب العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، والتي بدت قليلة الحيلة في التوقّع والاستشراف والتصحيح وتفسير أوضاع مجتمع ما بعد الكارثة وتسييره واستيعاب تداعياته.

فما الذي ستكون عليه نظرتنا للمستقبل بعد أن كسر الوباء ما كنّا نعتقد أنّنا نعرفه عن الاقتصاد والمجتمع والحوكمة والخبرة والعلم؟ وكيف يمكن أن تُطوّر الأبحاث في الميادين الثلاثة للعلم (الطبيعية والإنسانيّة والاجتماعية) على نحو يمكّنها من تقديم بدائل قابلة للتطبيق للخروج من الستاتيكو المفقر الراهن؟ وما هو السبيل الممكن، لوضع طاقاتنا العلمية والأبحاث التطبيقية في خدمة السياسات العامة[34]؟ وكيف يسخّرُ كلّ ذلك للوصول إلى مجتمع جديد، مجتمع ما بعد رقمي؟

1 - الحل من منظور الفلسفة السياسيّة:

أعاد انتشار وباء كورونا طرح أسئلة فلسفيّة مهملة عن مقدار معرفة العلوم الدقيقة بالظواهر الطبيعية، ومعرفة العلوم الاجتماعية والإنسانيّة بالفرد والمجتمع والسياسة. بل قُدّمت براهين على محدودية النماذج العلمية في استيعاب المتغيّرات المطلوبة لاستشراف الظواهر قبل حصولها وفهمها عند الحدوث. وينمّ ادّعاء قدرات تفسيريّة فائقة وأبديّة للنماذج والنظريات ولا سيّما في الحقول غير التجريبية، عن غرور العقل، ونقص في التواضع المعرفي، والإنسان مدعو إلى صرف جهد إضافي في تفسير التاريخ والوقائع الاجتماعية والتأقلم معها، عوضًا عن زعم امتلاك موهبة إخضاع كلّ شيء لسلطته.

وتبدو المنافذ المفتوحة بين العلوم الطبيعيّة وعلوم الإنسان والمجتمع، ذات أثر ضارّ في وضعها الحالي، ولا تخلو العلاقة من تبعيّة وهيمنة، فالاكتشافات والاختراعات والابتكارات التي تسفر عنها العلوم الدقيقة والتطبيقية تخطّ للبشريّة مسارات إلزاميّة ولا بديل لها في سيرهم نحو المستقبل. وتستنفد العلوم الاجتماعية والإنسانيّة وسعها للحاق بالركب وأحيانًا من غير طائل، وينصب هذا المسعى في حدّه الأدنى على إسباغ الشرعيّة والمشروعيّة على المسارات التي خطّتها التقنيّة للبشر، وتنظيم المجتمع على أساسها من خلال التشريعات والنّظم الجديدة ومراجعة القيم بما يتناسب معها، وحده الأعلى محاولة ضبط هذه المسارات واستيعاب نتائجها. فمثلًا التكنولوجيا هي التي وضعت الإنسان دون خيار منه على جادة ثورة المعلومات، فيما ارتضت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة لنفسها مهمّة رصف هذه الجادّة ووضع علامات المرور والوقوف وتطوير عادات البشر وسلوكهم، للتأقلم مع شروط العيش في المجتمع المعلوماتي.

ومع ذلك، تضعنا الأزمات أمام مفترقات طرق، بين ما توجّهنا إليه التكنولوجيا وما تفرضه علينا أحاسيسنا الفطريّة ومبادئنا الاجتماعيّة وميولنا الفكريّة، أو بين المسارين «المادي» و«الإنساني»، وهذا ما نجده مثلًا في التساؤلات المطروحة في زمن الجائحة، عن جدوى فرض العزل لحماية أرواح أقلية معرضة للخطر في مقابل التفريط بالنمو الاقتصادي. وهذا السؤال ليس طارئًا أو يتيمًا، بل هو امتداد لسؤال آخر: هل نقلّل من رفاهيّة مجموع الناس لمنع إلحاق الأذى بأقليّة منهم، أو هل ندفّع الطبقتين الوسطى والعليا ثمن إنقاذ مجموعة من النّاس من براثن الفقر، وهو يشبه سؤال ثالث، هل نقيّد حيويّة الفئات الشابّة لانقاذ المسنين؟

الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون بالنفي، إذا أردنا أن نكون أوفياء لمسار التقدّم المتسارع الذي أطلقت شرارته الثورة الصناعية الأولى وما تبعها من اضطهاد كان هدفه تعظيم القيمة المضافة المستخرجة من عمل ملايين البؤساء (وصولًا إلى الليبرالية الجديدة)[35]. والإجابة هي نعم، إذا كنّا حريصين على المبادئ القيميّة التي أرستها الثورات الدينيّة والرّسالات السماويّة، أو إذا شاء بعضهم، أن نكون ضنينين بمبادئ التنوير الصافية الخالية من شوائب الرأسمالية والحداثة وما بعدها. وبقول موجز: سنرفض التضحية بالمكاسب التي حصلت عليها الفئات المحظيّة في المجتمع، إذا تمسّكنا بإيماننا الزائف بالتطوّر المادي على الطريقة الرأسمالية، وسنقبلها إذا اتّبعنا استراتيجيّة أصيلة (دينية بالأساس)، خارج التحجّر الذي قادتنا إليه الحداثة الليبراليّة وما بعدها.

وبناء عليه لا تُدان الليبراليّة الجديدة على النحو المذكور، بسبب ما تفصح عنه من تعظيم لدافع الربح والكسب وحثٍّ على زيادة المنفعة والمتعة بوصفهما علامتين بارزتين في طريق الرفاهية، بل لما تسكت عنه أيضًا، بتركها زمام الأمور إلى التكنولوجيا في تقرير مصير البشر وتحديد مستقبل عيشهم، وهكذا صارت التكنولوجيا ذاتيّة التطوّر في جانب والسوق المفلتة من عقالها في جانب آخر، وجهان لعملة واحدة مآلها سلب الإنسان الحر حقّ اختيار نظام حياته.

بناء التّوافق في مجتمعات منقسمة

في كتابه الرائد «العدالة كإنصاف» يعدّد جون رولز أربعة أدوار للفلسفة السياسية، يتصدرها دورها العملي في إيجاد أرضية مشتركة ومعقولة لاتفاق سياسي بشأن مسائل معينة أدت إلى نزاع عميق، وتعذر التوافق بشأنها[36]. وبناء عليه تكون إحدى مهمات الفلسفة السياسية في ظرفنا الراهن البحث عن هياكل ملائمة تستطيع التعامل الاستباقي واللاحق مع التناقضات التي تنشأ في غضون الأزمات والاضطرابات الاجتماعية وما بعدها.

وكما ورد أعلاه سنلاقي انقسامًا بالرأي عمّا ينبغي فعله: نغلق الاقتصاد من أجل خفض الإصابات أم نتحمّلها للحفاظ على وتائر النمو؟ نقوّي حضور الدولة المركزيّة والأجهزة المنتخبة في الحياة الاقتصادية من خلال زيادة الرقابة وفرض الضرائب مثلًا أم نكتفي بإطلاق يد البنوك المركزية غير المنتخبة لخلق الأموال وإدارة أسعار الفائدة؟ نركز الجهد على تلبية حاجات المواطنين داخل الحدود دون الاهتمام بما يجري خارجها أم نقوّي بنى التضامن العالمي ضمن منظور للمصلحة العامّة الدولية عابر للحدود؟ بمن نهتم أكثر بالمهمّشين والمستبعدين أم بالفئات الأكثر نفوذًا في هياكل السّلطة الاقتصاديّة والسياسيّة أم بكلّ الفئات؟ هل نعيد النّظر في توزيع مواردنا الماليّة والبشريّة والعلميّة والتكنولوجيّة ما بعد الوباء للتركيز على حاجات البقاء أم نعود إلى ما كنّا عليه فتقود التكنولوجيا الاستهلاكية حياتنا وتحدّد أولويّاتنا وتفضيلاتنا؟ هل نتمسك بالتعريف التقليدي للرفاهية على أنّها تعظيم المنفعة من خلال تعظيم الاستهلاك بغض النّظر عمّا نستهلكه، أم نضيف إليه أو ربّما نستبدل به تعريفًا آخر يعطي الأولويّة لحاجات البقاء ومقتضيات الأمن الصحي والغذائي والاجتماعي؟

الدور الأساسي للفلسفة السياسية هو إذًا المساهمة في بناء مساحات مشتركة في المجتمع، بشأن الأسئلة العالقة كالمذكورة أعلاه، وهذا بالتكامل مع أدوارها الأخرى، المتمثّلة في وضع أهداف سياسيّة «عقلانيّة» للمجتمع، تجسد التسوية بين تصوراتنا المطلقة عن الخير والجمال والقيم من ناحية والأسس العقلانية التي تقوم عليها مؤسّساتنا السياسية من ناحية ثانية، وهو ما يأتي في إطار استكشاف طوباوي لحدود الإمكان السياسي. فمما كشف عنه الوباء أنّ علوم الإنسان والمجتمع، لم تتطوّر بما فيه الكفاية لجعل النّظم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة قادرة على إقامة التسوية المرجوّة، ما بين العقلانيّة المؤسّساتيّة ومنظوراتنا المسبقة والمتّفق لما خيّر وصحيح وعادل.

ثورات متزامنة

وتمتدّ الأزمة إلى علوم الطبيعة والعلوم الدقيقة التي استتبعت أيضًا للتكنولوجيا المرتبطة بالسّوق والسّلطة، لكن علوم الإنسان والمجتمع ظلّت أبطأ من غيرها في مواكبة التحوّلات الناشئة عن تسارع الحداثة التقنية. وإذا كان انبثاق الثورات العلميّة بحسب «كون» سببه عجز منظومة علميّة عن تقديم إجابات شافية لأسئلة جديدة يطرحها علينا الوجود والطبيعة، فلا بدّ من أن يتكامل هذا الانبثاق أو أن يكون مصحوبًا، مع ثورات موازية في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة (الاقتصاد، القانون، النفس..) وفي الفنون والآداب أيضًا، دون أن تفقد هذه الأخيرة استقلالها، في رسم مسارها التطوّري الخاص والرّدّ عن أسئلة جديدة تواجهها. من قبيل: لماذا لا يؤدّي نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى خفض الفقر واللا مساواة؟ ولماذا لا تترافق الزيادة في إنتاج السّلع والخدمات واستهلاكها مع زيادة موازية في الرفاه؟ ولِمَ لم تفضِ الهندسات الاجتماعيّة إلى القضاء المبرم على الأمراض الاجتماعيّة كالجريمة والإدمان؟ وما هو السبب الذي جعل الديموقراطية تقف عند حدود الدول دون أن تتعدّاها إلى العلاقات فيما بينها؟

إنّ أيّ نموذج إرشاديّ جديد (برادايم) في مجال العلوم الدقيقة يحدث تغييرًا في فهمنا لعالم الطبيعة ونظرتنا إليه، ولا بدّ أن يصاحبه حكمًا تغيّر في نظرتنا للذات والاجتماع الإنسانيين، فلا مناص والحال هذه من أن يكون تطوّر العلوم في أزمنة متقاربة ومسارات متوازية، وإلّا اختلّ التوازن بين عالم المادة وعالم الإنسان، أو بالتعبير الإيماني، بين كتاب التكوين والخلق وكتاب التنزيل والوحي.

إنّ تحديد الموقع الهامشي للأرض مثلًا بوصفها نقطة زرقاء باهتة في أطراف أطراف الكون، ودعوى تشارلز دارون في نظريّة النشوء والارتقاء ومزاعم سيغموند فرويد عن قوّة تحكّم الأنا الدنيا بالبشر، والقفزات المذهلة في عالم الذكاء الاصطناعي، أفسدت جميعها على الإنسان نرجسيّته وعرّفته بموقعه الفعلي في الكون الأوسع، لكن ذلك برّر لفلاسفة الحداثة وروّادها ردّة فعلهم الخاطئة، بتمجيد العقلانيّة الأداتيّة الهادفة إلى إخضاع الطبيعة للإنسان والإنسان للآلة، أو في زرع الشكّ بوجود الحقيقة من أساسها في أفكار ما بعد الحداثة.

وبالعودة إلى ما بدأناه؛ إنّ وضع أطروحتي «كون» و«رولز» في سياق واحد، من شأنه أن يؤكّد دور الفلسفة السياسيّة في تطوير نظرتنا للأشياء، بل حتى في تجاوز الإنسداد الرّاهن في مقاربة الأزمات توقّعًا وتفسيرًا ومعالجة. ونقتبس على سبيل الاستشهاد من بولانيي، نظرته للسياسة بوصفها نقطة مركزيّة في هذا السياق. فالسياسة برأيه هي التي تعطي معنى للظواهر الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إذ يمكنها مثلًا أن تغيّر شكل الصّراع الطبقي إذا غّيرت معنى الملكية، أو أضفت عليه أبعادًا قانونيّة أخرى، وبوسع السياسة أيضًا أن تعدّل مفاهيم كبرى مثل الحقوق وحدود الحريات العامّة، وتراتبيّة القيم الليبرالية والفردية والاجتماعية. يمكن للسياسة كذلك أن تنظّم الأولويات التي تمسّ حياة الناس: أيّهما أكثر أهميّة من الآخر الترفية أم التعليم؟ الاقتصاد أو الصحة؟ وهل نعطي قيمًا ماليّة للأنشطة الاجتماعية في احتساب الدخل الوطني مثل العمل المنزلي؟ أم نبقيها خارج منطق السوق، حتى لا تفقد طبيعتها الأصلية بصفتها فعلًا إنسانيًّا خاليًا من الدوافع الأنانية.

يمكننا بالسياسة أن نغّير مثلًا معنى الديموقراطية والاستبداد والمواطنة والانتخاب والسيادة والحدود والعلاقات الدولية. لكن مشكلة النّظم الحديثة ذات الطابع العمومي، أي التي تصلح للمجتمعات والثقافات المختلفة، أنّها لم توفّر لنا ما يكفي من أدوات منهجيّة لتفسير أوضاعنا الراهنة، ولم تقدّم لنا أطرًا صالحة لاحتواء نواتج العلوم والبناء عليها. بل إنّ نواتج العلوم تتطوّر في أحيان كثيرة في اتّجاه مضادّ لمنظومات الحداثة العموميّة لفرط ما تنطوي عليه من خصوصية، فعلى سبيل المثال، يتناسب المنهج التجريبي مع أوضاع الدول والمجتمعات الغربية أكثر من غيرها، ومع ذلك جرى إقحامه في صلب علم الاقتصاد، بل إنّ النظرية العملاقة التي أتى بها كينز عن الطلب الفعال ودور الإنفاق الحكومي في تحفيز النمو والبطالة الإجبارية، لا تناسب إلّا اقتصادات بلغت مستويات متقدّمة من النّضج دون نظيراتها النامية. وهذا ينطبق أيضًا على رفض الزعم القائل بأنّ النّظم السياسية صالحة لكلّ مكان وزمان، وأنّ قواعد الصراع والتوافق هي نفسها في كل المجتمعات، وكذلك أساليب مواجهة الأزمات والمشاكل المستعصية.

2 - أدوار متكاملة للعلوم:

هناك فرصة للعلوم الاجتماعيّة والاقتصادية والتاريخية والإنسانيّة، لتكون أكثر تكاملًا في أهدافها وطموحاتها، فتضع الإنسان في مركز الاهتمام، وبالخصوص لمساعدته على مواجهة التوتّرات التي تحدثها مخرجات العلوم في محيطه الخاص وبيئة عيشه، وما تسببه له من اغتراب.

إنّ هذا يطرح الحاجة لتحديد نوع البحث الاجتماعي والاقتصادي الذي نريده، لسبر غور المنظومات التي نحيا في ظلالها وتفكيكها وتركيبها من جديد، وتحقيق طموح أعلى ببناء المجتمعات على أسس مختلفة. ففرادة الوباء واستثنائيته لا تكمن في آثاره الصحيّة وسرعة انتشاره، بل في التجربة الجديدة التي لا تتكرّر سوى مرّة في العمر، والمختبر الواقعي الذي أوجده لخوض غمار تجارب حياتيّة قد لا تكون مسبوقة، كتغيّر شكل المدرسة والمعمل وطرق التواصل المهني، فضلًا عن التمرين الذي خضناه في توجيه دفّة العلوم بسرعة نحو مقاصد جديدة تحت نار الأزمة. ففي خضم الكوارث يتاح للإنسان تجديد وعيه بحاجاته وغايات عيشه وإعادة استكشاف محيطه، لكن ذلك أتى على حين غرّة، وفرض علينا القيام بكلّ التصحيحات التي فوتناها دفعة واحدة، أو كما يعبّر بعضهم أجبرنا الوضع الذي نحن فيه على بناء سفينة أثناء الإبحار.

لقد اتّسع فضاء العمل والدراسة والبحث من خلال المشاركة عن بعد والتخفيف من السمات البيروقراطية للعمل، وفي المقابل خفّت العلاقات السلطويّة غير المبرّرة، والتي أضفتها الرأسماليّة على نظم الإنتاج، كالدور المبالغ فيه الذي يعطى لأرباب العمل وروّاد الأعمال في مقابل التقليل من شأن العمّال. ساهمت عمليات التأقلم السريعة إزاء الجائحة (كالتعليم عن بعد والعمل عن بعد)، في فضح الرأسماليّة المتستّرة بحجب ثقيلة من الأردية البيروقراطية المؤسّساتية والهيكليّة، والتي أخفت عيوبها وهناتها تحت غطاء مبهج من الوفرة والإنتاج الغزير، وبفعل ذلك تسنّى للرأسمالية دون وجه حقّ إدارة الجزء الأكبر من أوقات الناس بالحدود التي تفوق حاجات الإنتاج وبما يخدم علاقات السلطة.

لقد حان الوقت لإعادة النّظر بالأطر التقليديّة المنظّمة للأنشطة الاقتصاديّة، حتى لو أدّى ذلك إلى إعادة ترتيب أولويات الوظائف والهيكل الاجتماعي المرتبط بالعمل، وترتّب عليه إعادة توزيع السّلطة بين الفئات الاجتماعيّة في المجالات كافّة. لقد أبرز الوباء، وفي سياق مضاد للعولمة، أهميّة بنى التضامن والعيش التقليدية، في تمكين المجتمع من تحمّل التبعات المؤلمة للكوارث، ومن مظاهر ذلك، العودة إلى الأسرة من خلال  الحجر المنزلي، وازدهار العمل الخيري الذي ضاهى أحيانًا البرامج الحكوميّة في مواجهة الوباء. وعلى المستوى السياسي جرى الانصراف إلى تنظيم سياسات داخلية ذات طابع دفاعي واحترازي بدلًا من الانشغال بهموم خارجيّة لا طائل منها، أو بعلاقات دوليّة كلّ همّها السّعي المحموم وراء الرّبح والسيطرة وبسط النّفوذ والاستحواذ على أسواق جديدة.

وإذا أردنا أن نملك رؤية متكاملة للمجتمع الجديد، لا بدّ من التعامل أيضًا مع دورين يمكن أن تؤدّيهما العلوم في مواجهة التحدّيات الجديدة. الأوّل هو المساهمة في تحقيق التكيّف الاجتماعي مع الثورات التكنولوجية والعلمية، وتهذيب استخداماتها، وإيجاد الخلفيّة النظريّة التي تسوّغ إجراءات قد لا تصادف قبولًا حسنًا من المنتجين والمستهلكين، مثل تقييد الولوج إلى الفضاء السيبراني، ومنع العبث بالقيم بما يتناسب مع الحداثة الرقميّة وما بعدها، وإعادة تنظيم جدول الأعمال الاجتماعي بحيث لا يجري المسّ بالمصالح الجوهريّة للمجتمع لمصلحة رغبات فئات صغيرة، على حساب قضايا عموميّة الأثر كالفقر واللا مساواة والأميّة والإدمان والجريمة.

وتبرز هنا أهميّة علوم الدين بوصفها إحدى المساحات التي تحرز استقلالًا في عالم التبعيّة للتقنية، وخصوصًا في المجالات التي تظلّ فيها العلوم الأخرى معلّقة بأذيال التجديدات والابتكارات الاستهلاكية، وعاجزة عن الإفلات من جاذبيتها.

وفي جميع الأحوال، هناك فرصة نادرة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعية، للقيام بما لم تتمكن منه في السابق، في ظلّ انكفاء الأبحاث التطبيقيّة إلى وضع دفاعي، فهي الآن ملزمة بتقديم إجابات على إشكاليّات تنبع من الواقع، فيما كانت تصنع الحقائق والوقائع (من خلال التجديدات والابتكارات) وتوجب على المجتمع الجري وراءها.

 وثاني المهام المطلوب في رسم الدور الجديد للعلم: إزالة العقبات من أمام انبثاق ثوراته أو تطوّره المطّرد كالتبعيّة للتمويل وتقنيات الاستهلاك والمؤسّسات الكبرى واختلال العلاقة بين مجالات العلم، والتعريف المختزل لمعنى اقتصاد المعرفة الذي يفرض على النّاس مقياسًا قاصرًا لحاجاتهم[37].

وينطوي هذا الدّور أيضًا، على توسيع نطاق عمل العلوم، للمساهمة في تحديد معالم المجتمع الجديد الذي نرغب بانبثاقه من رحم الكوارث والأزمات التي يمرّ بها العالم، ولتكون أبحاثه حاضرة في ترتيب أولويّات المجتمع وموارده في مواجهة الوقائع والأزمات المفاجئة، والوصول إلى نظم مستقرّة ومتوازنة[38].

واستطرادًا يجب التمييز بين الأنظمة المستقرّة أو التي تميل إلى الاستقرار، والأنظمة المتّجهة نحو الفوضى، وهذا التمييز ضروري لوضع سياسات احترازية مسبقة لما قبل الكارثة وما بعدها، وتقدير الموارد الضرورية لذلك. فالنّظام غير المستقرّ يعجز عن مقاومة التقلّبات ولا يستطيع التأقلم السريع معها، في حين يحافظ النّظام المستقرّ على خصائصه في جميع الحالات.

تبدو النيوليبرالية مثالًا واضحًا عن الأنظمة غير المستقرة، والتي يمكن تفسيرها بنظرية الكارثة أو نظرية الفوضى أو كليهما معًا. فمنذ أن تربعت النيوليبرالية على رأس النظام العالمي في العقد الأخير من القرن الماضي، ازداد ابتعاد المنظومات الاقتصادية والسياسية العالمية عن نقاط الاستقرار. حيث تواترت الأزمات الكارثية والمفاجئة، واتسعت دورات الركود وفشلت السياسات المضادة لها، وكانت الصفة الدائمة الملازمة للأسواق المالية هي السقوط المفاجئ في الفوضى. وبخلاف ذلك، كان الميل إلى الاستقرار هو سيّد الموقف في المرحلة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانقضاء الحرب الباردة، وقت كانت استراتيجيات التنمية وسياساتها هي الشغل الشاغل للعديد من الدول والمؤسسات العالمية والمنتديات العلمية.

وعلى الرغم من فقدان الاستقرار المذكور، ما زال مجتمع الأبحاث الاقتصاديّة يميل إلى دعم النهج النيوليبرالي، مع وجود مراجعات محدودة، الغرض منها إكساب هذا النهج قدرًا من المرونة التي تبقيه على قيد الحياة، وإعفاء المجمّعات العلميّة من مراجعة نماذجها الإرشاديّة المتقادمة، رغم مرور زمن طويل على ولادة آخر النظريات الكبرى في الاقتصاد.

3 - إعادة التفكير بتمويل الأبحاث ونماذجها:

تبرز أزمة الوباء الحاجة لمنح الأبحاث الأساسيّة الأولويّة التي تستحقّها، فمن دونها لا يمكن إحداث اختراقات على المدى المتوسّط والطويل، فالأبحاث التطبيقية لا يمكن أن تستجيب للكوارث فور ظهورها إلّا إذا استندت إلى خلفيّة قويّة من المعارف النظريّة، ذات الصّلة بها.

في أميركا مثلًا يأتي تمويل الأبحاث الأساسيّة غالبًا من مؤسّسة العلوم الوطنيّة NSF التي تملك موازنة مقدارها ثمانية مليارات دولار في حين تمول الأبحاث التطبيقيّة من المؤسّسة الوطنيّة للصحّة NIH التي تملك موازنة مقدارها واحد وأربعون مليار دولار أميركي[39]، وهذا في الميدان الطبي وحده، ولنتصوّر كم ستخطو العلوم الأساسية قدمًا إلى الأمام لو ردمت هذه الهوة[40].

ولا يمكن فهم فجوة التمويل هذه دون التمعّن بعلاقتها بالسّوق، فالتكنولوجيا التي هي المجال التطبيقي الأهم للعلوم، تقوم بإحدى وظيفتين، إما إنّها موجود لحلّ مشكلات محدّدة أو يجب إيجادها لفعل ذلك، والمعادلة مكوّنة من جانبين: المهندسون المعنيون بتطوير تكنولوجيات جديدة ورجال الدعاية والإعلان المولجون بنجاح المشروع في السوق.

ولم يكن الأمر على هذا النحو دائمًا، ففي السابق كانت مراكز الأبحاث والمعامل والمختبرات في الشركات الكبرى شبيهة بتلك الموجودة في الجامعات، أي كانت تنطلق من حاجات تظنّها مهمّة للمجتمع، أما الآن فكلّ شيء يبدأ بما تفضّله السوق[41]. ولهذا الغرض اعتمدت إدارات البحوث التنظيم اللا مركزي، واندمج أخصّائيو التكنولوجيا في فرق تطوير الإنتاج، ليكونوا أكثر حساسيّة للتغيرات في الطلب الآتي من الأسواق. وحيث إنّ ما تملكه الشركات الكبرى من رأس مال وخبرة يفوق ما يملكه الآخرون كالجامعات والمعاهد الأكاديمية، فسيكون بمقدورها وضع اليد على أولويات البحث بشقّيه النّظري والتطبيقي، وترتيبها كما يشاء القائمون عليها.

البحوث الأساسيّة بخلاف ذلك يصعب إخضاعها للسوق، أو ربطها بمصالح سلطويّة أو ماديّة مباشرة، ولا يمكن للمشتغلين في هذا الحقل وضع توقّعات محدّدة لما ستفضي إليه أعمالهم من نتائج. ففي المراحل المبكرة للعلم وُجدت مشاريع البحث النظري بسبب رغبة تعتري العلماء إلى دفع حدود المعرفة إلى أقصى حد ممكن في الفضاءات المعرفية غير المستكشقة، وليس تلبية لنداء خارجي مصدره السوق أو السلطة، وكما يصف تريفيل «كل شيء يبدأ مثل ومضة مصباح في رأس عالِم يفتش عن نقطة معرفية تقع على حافة المجهول»[42]. وهذا يحيلنا إلى وجه من وجوه الشبه بين ما يدور في عقل باحث وبين ما يختلج في وجدان أديب أو خيال فنان.

إن الوصول إلى نموذج متوازن للتمويل بين البحوث الأساسية والدراسات التطبيقية لا يخلو من آثار عملية، وسيترك بصمة إيجابية على أرض الواقع، فالسباق الحالي مثلًا للحصول على لقاح لفيروس كوفيد-19، لا يدور فحسب في مضمار التجارب في المعامل أو المختبرات، بل في مساحة أوسع تشكّل المبادئ النظريّة تربتها الخصبة، فالبحوث الأساسية ستظلّ دائمًا بمثابة المياه التي ترفع كلّ السفن.

الانفتاح المنهجي

تكشف الكوارث والأوبئة والأحداث السياسيّة والأمنيّة المفاجئة، عن الحاجة للحصول على بيانات ونتائج سريعة قابلة للاستخدام، وهو ما يشكّل حاجةً ملحّةً للباحثين والصحفيين وقادة الأعمال. ونظرًا للسرعة التي يحتاجها النّاشطون في الحقل العام ومتّخذو القرار، فإنّ النموذج الكلاسيكي للبحث يبطئ هذا المسار بإعطائه أولويّة فائقة للتّثبّت العلمي والجودة الأكاديميّة على الحاجات العمليّة. يدعو ذلك إلى التفكير بنموذج جديد للنشر لا يقتضي انتظار استكمال الشروط التقليديّة والمعروفة، كمراجعة الأقران (Peer-reviewed) والتحكيم وموافقة إحدى المجلات الأكاديمية على النشر. إنّ هذا يستغرق وقتًا قد تصبح معطيات الأبحاث والمقالات العلميّة في غضونه قديمة العهد وقليلة الفائدة خلال أوقات الانتظار الطويلة[43]. فضلًا عن ذلك قد تؤدّي شروط التثبّت والقبول والتحكيم إلى انغلاق المجمّعات العلميّة على نفسها، وإبطاء تكوّن الثورات أو الوثبات العلميّة، فيما تقتضي استمراريّة النمو اجتماعًا علميًّا منفتحًا وتقبّلًا للأفكار الجديدة، وهامشًا واسعًا لانتقاد النظريات الكبرى والعلماء المرموقين.

في الاقتصاد مثلًا، صار النّظام الجامعي خاضعًا للتصوّرات المسبقة المبنيّة على حاجات السوق، وتخبرنا لائحة الفائزين بجوائز نوبل للاقتصاد عن كثير من خفايا عوالم البحث الاقتصادي؛ إذ إنّها تسلّط الضوء على الاتّجاهات البحثيّة المفضّلة لدى مانحي الجائزة أكثر ممّا تدلّ على جودتها الفعليّة، علمًا أنّ هؤلاء المانحين يصغون باهتمام لما يدور في أروقة متّخذي القرار في المجتمع العلمي، أو مؤسّساته العميقة، ومصالح الممولين، أو آيديولوجيا الفئات المهيمنة. وتضمّ اللائحة المذكورة في الغالب متخصّصين في مجالات الرياضيات والاقتصاد القياسي آتين بمعظمهم من حقول لا علاقة لها بالاقتصاد السياسي، ممن لا يلقون بالًا للحقائق التاريخيّة التي تقف وراء تطوّر نظم الإنتاج وبزوغ الأفكار الكبرى[44].

ولكي تكتمل دائرة السيطرة على نمو العلم، يجري استغلال ما تقدّم لتضييق النادي المعترف به للعلوم. ويحضرنا هنا نظام الترقّي الذي يملك ذراعًا طويلة هي النشر في مجلات أكاديميّة محدّدة تتبنّى العقيدة المهيمنة، فخلال المسار الطويل الذي يسبق ظهور بحث ما على صفحات إحدى المجلات المذكور، تمارس لجان التحكيم سلطة الضبط والتنقيح تحت مسميات علميّة شتى، وتتقن مهمّة غربلة الأبحاث وتحديد صلاحيتها للنشر. ومع مرور الوقت يتأقلم الباحثون مع متطلبات النّشر وشروطه، وتتقارب تدريجيًّا أعمالهم من حيث المواضيع والمنهجيّات والنتائج التي يُتوصّل إليها، إلى حدود لا يكاد يُميّز بينها. وغالبًا ما يستفاد من هذا النّوع من الأبحاث في اتّخام السير الذاتية لأصحابها من أجل الترفيع والترقية أو تليمع صورهم الأكاديمية، أكثر من أي شيء آخر.

لا تُنكر مثلًا البراعة التي تتحلّى بها الأبحاث الاقتصادية التطبيقية ذات المنحى الرياضي، لكنّها تشغل من دون وجه حقّ ولا مبرّر معقول مساحة زائدة في مجال الإنتاج والنشر العلميين، بل إنّها تقضم الفسحة المتبقّية للبحوث الأساسية، وللأنشطة العلميّة المعنيّة بتطوير الفكر الاقتصادي التي ترمى تدريجيًا إلى خارج المنصّة الأكاديمية الرئيسيّة.

إنّ إحدى النتائج المعروفة لهذا الانغلاق المنهجي في ميدان علم الاقتصاد، هي رفع فرضيّاته النيوكلاسيكية إلى مصاف الحقائق العلميّة الثابتة اعتمادًا على البرهنة الرياضية، لكن التمادي في هذا المسار، أفضى إلى ربط قاطرة النظريات الاقتصادية بعلوم طبيعية كالفيزياء وعلم الأعصاب والبيولوجيا وغيرها. وفي حين يركز الاقتصاد السياسي على الصراع بشأن رفع أسعار بعض مدخلات الإنتاج وخفض أخرى (الربح والأجر والفائدة)، وتوزيع القيمة المضافة وإعادة توزيعها، وفيما يهتمّ الاجتماع الاقتصادي (أو الاقتصاد الاجتماعي)، بالعوامل المشكّلة للسلوك الاقتصادي والمؤثّرة فيه، فإنّ غواية جعل الاقتصاد جزءًا من العلوم الطبيعية أو مماثلًا لها، يجرّده من خلفياته الفكريّة، ويفصله عن التجارب الإنسانيّة التي يعبّر عنها، ويقوّي المزاعم بشأن استقلال نواميسه عن نفوذ الفاعلين المجتمعيّين وعن السياقات التاريخيّة للظواهر الاقتصادية.

والمشكلة ليست في الرياضيات نفسها التي غزت علم الاقتصاد على نحو خاص، والعلوم الاجتماعية والسياسية بدرجات متفاوتة، بل فيما أدّى إليه ذلك من تجاهل للتعقيد الذي يسم الظواهر الاجتماعية. وقد سمح ذلك ببروز جيل من العلماء شديدي التخصّص، ممن لا يتحلّون بمهارات فكريّة ومعرفة تاريخيّة توازي قدراتهم التقنية. ومن هذا الباب جرى تمرير فرضيات لا تتحلّى بالحدّ الأدنى من الواقعيّة، لكنّه النّقاش بشأنها نفيًا أو إثباتًا استهلك  جهودًا طائلة من العلماء والباحثين وأهدر ولا يزال الكثير من الحبر.

ولنتفحّص، مثالًا على ذلك، إحدى هذا النّوع من الفرضيّات ذائعة الصيت؛ فرضيّة توفّر المعلومات التامّة في السوق[45]. لقد جرى اللّجوء إلى هذه الفرضيّة لإثبات عقم تدخّل الدولة في الاقتصاد، وللقول بلغة رياضيّة حاسمة، إنّ حضورها ثقيل الوطأة ومخلّ بالتوازن في جميع الحالات، ومن شأنه التقليل من رفاهية المجموع. علمًا أنّ الشواهد التاريخيّة والحقائق الموضوعيّة قدّمت براهين كثيرة عل عكس ذلك، بل بيّنت أنّ الاقتصاد متضمَّنٌ في المجتمع، وأنّ النّشاط الاقتصادي يدور في بيئة من عدم اليقين والمعلومات الناقصة.

ألحق هذا التحريف المنهجي وتحيّزاته الآيديولوجية، ضررًا بالغًا بمنطق السياسات العامة، وحال دون قيام أنظمة اقتصادية، توازن مثلًا بين الدولة والسوق، بين الكفاءة الاقتصادية وبين العدالة، بين الإنتاج الموجّه لتحقيق الرفاهيّة الآنية للأفراد وذاك الهادف إلى تحقيق رفاهيّة المجموع وضمان أمن المجتمع على المدى الطويل، أو الموازنة بين تخصيص ما يكفي من الموارد من ناحية لتلبية متطلّبات النمو والتنمية، وتحقيق الجهوزيّة الدائمة من ناحية ثانية لمواجهة الأحداث السيّئة غير المتوقّعة والكوارث الدوريّة التي تصيب البشر.

وفي جميع الحالات لا مناص من تصحيح آليات البحث، ومراجعة نماذجه وتحريره من سطوة التمويل وسلطة المؤسّسات، لإعادة العلوم إلى السياق العام لتطوّر المجتمع، حتى تؤدّي دورها في الحفاظ على توازنه واستقراره ونموّه الطبيعي.

4 - إصلاح السياسات:

أظهرت التّطوّرات الاقتصاديّة والسياسيّة خطأ توقّعاتنا بخصوص العولمة، التي عجزت عن حماية البشرية في الظروف الاستثنائية والمنعطفات الحرجة. كان الأمن الاجتماعي هو الضحيّة الأولى للعولمة الليبرالية التي انتقصت من السيادة، وهذه لا بدّ منها لوضع سياسات تلائم مجتمعًا بعينه. لقد فقدت الحدود وظائفها كافة السياسية والاقتصادية والثقافية، وصارت المجتمعات متماثلة في أنماط العيش والاستهلاك والعلاقات بغض النّظر عمّا تنطوي عليه من فروقات. جرى ذلك ضمن تصوّرات ثبت خطؤها بشأن المفعول السحري المدّعى للتجارة الدولية، في تعظيم النمو وتأمين الحاجات الأساسية ومتطلبات الرفاه لجميع الأطراف.

اعتاد الاقتصاديون، كما يذكر ستيغليتز، على الاستهزاء بالدعوة إلى اعتماد سياسات أمن غذائي أو طاقوي. بدعوى أنّ اللّجوء إلى البلدان الأخرى يسيرٌ في عالم معولم. لكنّهم لم يعوا أنّ الحدود ستستعيد مجدها في الظروف الطارئة. كانت أزمة فيروس كورونا تذكيرًا قويًا بأنّ الوحدة السياسيّة والاقتصاديّة الأساسيّة لا تزال الدولة القومية، وهذه عادت إلى تزمّتها القديم في التمسّك دون هوادة بما تملكه من معدّات ومنتجات طبيّة للوقاية في مواجهة الخطر.

لقد أقمنا سلاسل إنتاج طويلة لخفض الكلفة، مفترضين دوام الانفتاح بين الدول. كنّا في ذلك قصيري النظر، وارتضينا الاعتماد على نظام غير مرن وعرضة للانقطاعات. أبرز هذا النّظام قدرة على استيعاب المشكلات الصغيرة، لكنّه كشف عن هشاشته في وجه الاضطرابات الكبرى وغير المتوقّعة. كان علينا تعلّم درس المرونة من الأزمة المالية عام 2008. بدا النظام المالي الذي أنشأناه مترابطًا وكفؤًا وقادرًا على امتصاص الصدمات الصغيرة، لكنّه تداعى بسرعة في الاختبارات الجدية، ولولا عمليات الإنقاذ الحكومية الضخمة، لحدث ضررٌ أشمل وأكثر إيلامًا. لقد أغرانا الإنقاذ ذي الكلفة الباهظة بتجاهل العبر المستقاة من دروس الأزمة التي مرّت على ما يبدو مرور الكرام فوق رؤوسنا.

إنّ أيّ نظام اقتصادي نعتزم بناءه بعد هذا الوباء، يجب أن يتحلّى ببعد النّظر والمرونة في الأجل الطويل، وأن يأخذ بعين الاعتبار أنّ العولمة الاقتصاديّة تجاوزت كثيرًا العولمة السياسية، أي أنّ المصالح السياسيّة أقل تشابكًا فيما بين الدول مقارنة بالتشابك بين المصالح الاقتصادية، بل إنّها قادرة على تعطيلها. ومن أجل ذلك يتعين على البلدان أن تسعى جاهدة لتحقيق توازن أفضل بين الاستفادة من العولمة مع الحفاظ على درجة عالية من الاعتماد على الذات.[46] وحتى لو لم تتمكّن النّظم المعولمة الحالية من تصحيح نفسها للتعامل الفوري مع المخاطر الكبرى فبوسعها تعزيز القدرة على التخفيف من أثرها الداهم [47].

ويبدو رأي أستاذ الاقتصاد في جامعة ييل روبرت شيللر زاخرًا بالدلالات، فالتغييرات الأساسيّة والمفاجئة التي أحدثها الوباء تشبه ما يجري في أوقات الحرب، مع أنّ العدو في هذه الحالة فيروس لا قوّة أجنبيّة. وبما أنّ النّاس يواجهون العدو نفسه فهذا يبعث على التفاؤل برفع مستوى التعاطف داخل البلدان وفيما بينها. وبرأيه هناك سبب آخر للأمل، يعبّر عنه الاقتراب من فكرة الدّخل الشامل من خلال تعميم المعونات الطارئة وبرامج الرعاية الصحية الشاملة على أوسع نطاق. ولأنّ البشريّة حسب شيللر تقف في الجانب نفسه في هذه الحرب، فسيُوجد ذلك حافزًا مشتركًا لبناء مؤسّسات دولية جديدة تحسّن قدراتنا على تقاسم المخاطر وإدارتها بين البلدان. وحتى لو تلاشى مناخ الحرب مرّة أخرى، فإنّ هذه المؤسّسات الجديدة ستستمر[48].

هذا الرأي المتفائل لا يلحظ مقدار الأنانيّة السياسيّة التي ينطوي عليه فهمنا للسيادة الوطنية والعلاقات الدولية، وقد عزّز علم السياسة ذلك بجعل القوّة هي الأساس في الصّراع الدائم على السّلطة والنّفوذ. إنّ سطوة المصالح وتحجّر المقولات العلميّة سيظلّ ماثلًا أمامنا بصفته عنصر مقاومة للتغيير. وستعيد المؤسّسات الدوليّة التمسّك بالمبادئ التي استندت إليها في رسم سياساتها التي ثبت خطؤها. ففي وقت يعاني مليارات الناس بسبب الافقار الناتج عن الجائحة، يجد كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي جيتا جوبيناث أنّ الخطر لا يكمن هنا، بل في استقواء التيّار غير المتحمّس للعولمة بالتداعيات الاقتصاديّة للوباء، والمخاوف الناشئة عن الحدود المفتوحة، لفرض قيود  دائمة على الانفتاح العالمي، وفرض قيود حمائية على التجارة تحت ستار الاكتفاء الذاتي وتقييد حركة الناس بحجة الصحة العامة[49].

إنّ التفكير بالآثار البنيويّة للجائجة وردود الفعل الأساسيّة تجاهها، يجب أن لا ينسينا آثارها المباشرة التي إذا تركت لملهاة السياسات النيوليبرالية فستتجذر مع مرور الوقت ناشرة المزيد من الآلام الدائمة، ومحركة مخاطر استراتيجية وعميقة. ومن الآثار المباشرة التي تستحق الاهتمام، الركود المزمن الذي هو مزيج من الانخفاض في نمو الإنتاجيّة، ونقص عائدات الاستثمار الخاص، والانكماش طويل الأمد. وكذلك اتّساع الفجوة بين الدول الغنيّة وبقية العالم والتي ستزيدها ضراوة تصاعد القوميّة الاقتصادية وصولًا إلى حدّ الشوفينيّة. ويُضاف إلى ذلك التوتّرات الناشئة عن تحكّم الولايات المتحدة الأميركية بالسيولة النقديّة رغم تراجعها الاقتصادي[50]، وهذا يقوّي نزعتها العدوانيّة ضدّ الآخرين، ويفاقم التضارب الشديد بين السياسات القوميّة للدول[51].

وإلى جانب ذلك، إنّ مبرّر وجود الحكومات لا ينحصر في إدارة الأزمات أو معالجتها، بل يتعدّاه إلى تسليط الضوء على المخاطر المستقبليّة، واتّخاذ إجراءات استباقيّة تجاهها. ويبدي قليلٌ من الأكاديميين والعلماء خارج القطاع العام، استعدادهم للقيام بأعمال غير مموّلة جيدًا ولا تلبّي غرضًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا خاصًّا. وحتى لو قام القطاع الخاص بخطوات استباقيّة لمواجهة المخاطر، فلا يكون يستهدف من حيث المبدأ مصلحة عموم المجتمع[52].

 لا يمكن الاستسلام للوضع الحالي، الذي تسيطر فيه السياسات الليبراليّة على عقول متّخذي القرار، وهو ما من شأنه إضعاف الأمن الحيوي للمجتمعات، وتحريك النّزاعات وشدّ مستويات الرّفاه نحو الأسفل، ومنع العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والدقيقة من القيام بدورها في هذا المجال. والقرينة على ذلك، هو استسهال الدول خلق سيولة نقديّة جديدة بدلًا من إعادة توزيع جريئة للثروة والمداخيل، وتغذية الوهم القائل بأنّ المصارف المركزيّة تستطيع التصرّف «برشاقة وجرأة وإبداع» في الأوقات العصيبة، وعلى نحو أفضل مما تفعله الحكومات، وأنّها خطّ دفاع قوي ضدّ الأزمات الاقتصادية والمالية. لكن ما تقوم به المصارف المركزية في واقع الحال هو الدفاع عن الأنظمة الاقتصادية والمالية والنقدية القائمة وشدّ أزرها. وفي خاتمة المطاف، إنّ أيّ تغيير لأوضاعنا في مواجهة الأزمات الداهمة لا بدّ وأن يكتسي طابعًا سياسيًا، وهذا يشمل إصلاح السياسات العامة وآليات اتّخاذ القرار، وإعادة النّظر بأجهزة السلطة وخيوط القوّة بأبعادها الداخليّة والخارجيّة، المحليّة والمعولمة، والقيام بكل ما يلزم في إطار نهضة علميّة شاملة، تعيد غرس موضوعات العلم وقضايا البحث في تربة المجتمع.

خلاصة:

أبرزت الكوارث وآخرها جائحة كورونا، أنّ أزمة العلوم التي هي في صلب أزماتنا الكبرى، تعبّر عنها وجوه متعدّدة من الاختلالات والفشل، وعقبات تبطئ مضيّها قدمًا إلى الأمام، وهذا من شأنه أن يبطئ تدفّق الإنجازات العملية، أو ينحرف بها عن جادتها الصحيحة، معطّلًا قواها الكامنة ووظائفها الحضاريّة المفيدة. 

إنّ أوّل ما يحضرنا في تحليل أزمة العلوم تلك، اضطراب التوازن بين العلوم الثلاث الطبيعيّة والإنسانيّة والاجتماعية/الاقتصادية، واختلاله ثانيًا بين العلوم النظريّة والعلوم التطبيقيّة التي بات بيدها زمام المبادرة، وفشل العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة ثالثًا في المساعدة على تحقيق التكيّف الاجتماعي مع الموجات التكنولوجية المتواترة، والتي خلّفت وراءها انحناءات في الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وتلوح في أفق الأزمات رابعًا، التبعية المتزايدة في مشاريع البحث العلمي للتمويل والبيروقراطيات الحكومية والشركات الضحمة، التي انتقل الولاء إليها بدلًا من المؤسسات والمعاهد الاكاديمية والجامعية الأم، ويزداد إلى جانبها خضوع أجندات البحث العلمي ومواضيعه لمتطلبات الصراع والحروب والمشاريع العسكرية.

أمّا العقبات التي تعرقل النموّ التكاملي للعلوم، سواء أتى ذلك على شكل ثورات أو كان تراكميّا مطردًا، فيعزى أغلبها إلى قوّة المجاميع العلميّة ورسوخ النماذج الإرشادية ومرجعياتها وانغلاقها على نفسها، مما يصعّب مرور النظريات الجديدة. وغالبًا ما تكون فترات الانتظار بين انعطافة علميّة وأخرى، طويلة جدًا في العلوم الإنسانيّة والاجتماعية مقارنة بالعلوم الطبيعية.

وقد تعزى العثرات المزروعة في طريق العلم، إلى الاقتصاد السياسي لتمويل الأبحاث، أو إلى سوسيولوجيا العلم التي تعكسها الانقسامات غير المبرّرة في مجتمع البحث العلمي والمنافسة غير النزيهة بين باحثيه. وقد ظهر واضحًا بدلالة الجائحة وغيرها من الكوارث، أنّ قوانين السّوق لا تصلح لحلّ مشكلة الإنتاج العلمي على المدى الطويل لانحيازها إلى تلبية الحاجات المباشرة، وضعف قدرتها على التقاط الطلب الاجتماعي الذي لا  تعبّر عنه مؤشّرات السّوق، مثل التعامل الاستباقي مع الكوارث.

تبدأ رحلة الخروج من الأزمة بإعطاء قيمة متساوية للعلوم وثقافاتها المتعدّدة، وتحقيق التّكامل وتفعيل الضبط المتبادل فيما بينها، وانتزاع زمام القيادة من يد التكنولوجيا المحكومة لمجتمع الاستهلاك أو المنشئة له. وبذلك تصبح الجادة التي تسير عليها العلوم نحو المستقبل أكثر رحابة، ولديها ما يكفي من السّعة لاستيعاب جميع المسارات الممكنة والضروريّة. ولا نعود مضطرّين، والحال هذه، إلى المفاضلة مثلًا بين تطوير تكنولوجيا الاتّصالات والمواصلات، أو زيادة جهوزيتنا لمواجهة الجوائح، أو إقامة أنظمة مبكرة لرصد الكوارث والمعالجة الاستباقية لها، كما لا نكون ملزمين مثلًا بتطوير دراسات الاقتصاد الجزئي ذات الطابع الرياضي، على حساب أبحاث التنمية التي تعطّل نموها تقريبًا في الربع الثالث من القرن الماضي. كما لا يكون نجاح برامج غزو الفضاء والوصول إلى عمق الأفلاك السماوية، متزامنًا بالضرورة مع انهيار مفاجئ لأبحاث الحرب ضدّ مرض السرطان، كما حصل في سبعينيات القرن الماضي.

أخيرًا، إنّنا بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى نهضة معرفيّة موازية أو حتى مقابلة للثورات التكنولوجية، لكبح جماحها ولإعادة العلوم النظريّة والأبحاث الأساسيّة إلى المنصّة الرئيسيّة للمجتمعات، أو بعبارة أخرى، لا مناص من إخضاع العلوم ولا سيّما التطبيقية/التكنولوجية منها، لمتطلبات التقدّم الاجتماعي وللسياق التاريخي لنمو الحضارة الإنسانيّة، وهذا يحتاج إلى فلسفة سياسية جديدة ذات وظيفتين تحليلية في مجال التفسير والتأويل، وتأسيسية في مجال إيجاد البدائل، والتي من خلالها يستكشف حدود الإمكان السياسي ويعمل على توسيعه وتعظيمه باستمرار.

لقد ضيّقنا دون مبرّر زوايا مجتمع البحث، مع أنّا نملك ما يكفي من الموارد لتحريك القوس بأكمله ورمي سهم المعرفة إلى أبعد مدى ممكن، وهذه هي المهمّة التي لا مناص منها لبناء مجتمع جديد، متوازن ومستقر، عابر للتكنولوجيا الرقمية بالخصوص، وقادر على مواجهة ما ينتظرنا من أزمات وكوارث وفوضى، وذلك بأقل الخسائر وأدنى الأثمان.

المصادر والمراجع

باللغة العربية

استيغليتز، جوزيف؛ اليورو.. كيف تهدد العملة الموحّدة مستقبل أوروبا (الجزء الثاني) -ترجمة مجدي صبحي يوسف؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون واللآداب؛ عالم المعرفة 477؛ اكتوبر 2019.

إسماعيل، إسراء؛ استخدامات غير آمنة..تطبيقات النانوتكنولوجي في المجالات العسكرية؛ المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة؛ 6 ديسمبر 2015؛ https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/667/

الببلاوي، حازم؛ دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي؛ القاهرة: دار الشروق؛ الطبعة الأولى؛  1995.

تداعيات كورونا في مرآة مفكرين وفلاسفة السياسة والمستقبليات؛ موقع عربي 21، 4/4/2020.

تريفيل، جيميس؛ لماذا العلم؟ -ترجمة: شوقي جلال؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ عالم المعرفة 372، فبراير.

تريفيل، جيميس؛ لماذا العلم؟- ترجمة شوقي جلال؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ عالم المعرفة 372؛ فبراير 2010.

توماس كون؛ بنية الثورات العلمية-ترجمة حيدر حاج إسماعيل؛ بيروت: المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية؛ الطبعة الأولى، سبتمبر 2007.

رولز، جون؛ العدالة كإنصاف.. إعادة صياغة-ترجمة د.حيدر حاج إسماعيل؛ بيروت: المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية؛ كانون الأول (ديسمبر) 2009.

شومبيتر، جوزيف أ.؛ تاريخ التحليل الاقتصادي/المجلد الأول-ترجمة حسن عبد الله بدر؛ القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة؛ 2005.

الصدر، محمد باقر؛ «اقتصادنا؛ بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ط11؛ 1979.

«الإسلام يقود الحياة»؛ بيروت: دار التعارف للمطبوعات؛ 2003.

غريبين، جون؛ تاريخ العلم 1543-2001 (الجزء الثاني) -ترجمة شوقي جلال؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون واللآداب؛ عالم المعرفة 390؛ يوليو 2012.

فضل الله، عبد الحليم؛ التكافل الاجتماعي في الاسلام وأثره على الأمن الأسري؛ مؤتمر الأمن الأسري 2016-2017؛ تنظيم الرابطة اللبنانية الثقافية؛ بيروت: 2019؛ ص:105-106.

فلوريدي، لوتشيانو؛ الثورة الرابعة.. كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الانساني-ترجمة لؤي عبد المجيد السيد؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ سلسلة عالم المعرفة 452؛ سبتمبر 2017.

فوراي، دومينيك؛ اقتصاد المعرفة- ترجمة د. محمد عرب صاصيلا؛ دمشق: مكتبة دار طلاس؛ الطبعة الأولى؛ 2003.

قرم، جورج؛ حكم العالم الجديد.. الآيديولوجيات والبنى والسلطات المعاكسة؛ بيروت: الشركة العالمية للكتاب؛ الطبعة الأولى؛ 2010.

كيغان، جيروم؛ الثقافات الثلاث.. العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانيات في القرن الحادي والعشرين-ترجمة د. صديق محمد جوهر؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والآداب والعلوم؛ والمركز القومي للترجمة 2476؛ عالم المعرفة 408؛ يناير 2014.

باللغات الأجنبية

Antonipillai, Justin &Michelle, K.Lee; Intellectual Property and the US economy-2016 Update; Economics and Statistics Administration; HH & U.S Patent and Trademark Office (USPTO); 2016.

Engels, Frederick.; Socialism: Utopian and Scientific; Marxists.org. Retrieved July 3, 2013.-

Foreign Policy; APRIL 15, 2020.

Galbraith, John Kenneth; A History of Economics: The Past as the Present; Penguin Economics

Greenwald, Bruce C. & Stiglitz, Joseph E.; Externalities in Economies with Imperfect Information and Incomplete Markets; The Quarterly Journal of Economics, Volume 101, Issue 2, May 1986, Pages 229–264,

Harrison, Neils E.; Complexity in the World Politics: Concepts and Methods of a New Paradigm; New York: State University of New York Press, Albany; 2006.

Holford, Madne & Morgan, Ruth; Four Ways Sciences Should Transform after Covid-19; 17 June 2020.

Importance of Research and Development for the Cosmetic Industry; https://www.ambujasolvex.com/

Morin,  Edgar; Cette Crise Nous Pousse Sur Notre Mode de Vie, Sur nos Vrais Besoins Masques dans les alienations du quotidian; Le Monde ; 19/4/2020.

Nelson, Alondra; Society after Pandemic; SSRC; April 23,2020.

Penguin books; 1991.

Pitman, Simon; Cosmetics companies prove one of the lowest investors in R&D; https://www.cosmeticsdesign-europe.com/Article/2005/12/12

Rifkin, Jeremy; The Age of Access; Tarcher/Putnam; 2000

Snow, C.P.; The Two Cultures (The Red Lecture 1959 );Cambridge University Press; 1959

Stanfield, James Ronald; The Economic Thought of Karl Polanyi.. Lives and Livelihood; Palgrave macmillan;1986

Stiglitz E., Joseph & Shiller, Robert J., & Others; How the Economy Will Look After the Coronavirus Pandemic;

Stiglitz, Joseph E.; Economics of the Public Sector; London : W.W.Norton & Company ; 3th Edition;2000.

The Next Catastrophe; the Economist; June 27th July; 2020.

Tomar, Sanjiv; Nanotechnology: The Emerging Field for Future Military Applications;  New Delhi: The Institute for Defence Studies and Analyses; October 2015.

V.Roth, William, JR; Final Report of the Advisory Commission to Study the Consumer Index; U.S. Government Printing Office; Dec.1996

Veblen, Thorstein; The Theory of the Leisure Class: An Economic Study of Institutions; New York: MacMillan;1899

-----------------------------

[1]*ـ رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق واستاذ جامعي.

[2]-  للمزيد انظر: لوتشيانو فلوريدي؛ الثورة الرابعة..كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الانساني-ترجمة لؤي عبد المجيد السيد؛ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ سلسلة عالم المعرفة 452؛ سبتمبر 2017؛ ص: 212. و:

 https://www.mcit.gov.sa/ar/media-center/news/95696، و:  https://infogram.com/

[3]- انظر: Sanjiv Tomar, Nanotechnology: The Emerging Field for Future Military Applications, (New Delhi: The Institute for Defence Studies and Analyses, October 2015).

د.اسراء اسماعيل؛ استخدامات غير آمنة..تطبيقات النانوتكنولوجي في المجالات العسكرية؛ المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة؛ 6 ديسمبر 2015؛ https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/667/

[4]-  انظر: 

Simon Pitman; Cosmetics companies prove one of the lowest investors in R&D; https://www.cosmeticsdesign-europe.com/Article/2005/12/12

Importance of Research and Development for the Cosmetic Industry; https://www.ambujasolvex.com/

[5]-  أنظر: توماس كون: بنية الثورات العلمية-ترجمة حيدر حاج إسماعيل، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية، سبتمبر 2007.

العنوان الأصلي: Thomas S Kuhn; The Structure of Scientific Revolution ; 3rded; University of Chicago;1996

[6]-  انظر: جيميس تريفيل: لماذا العلم؟-ترجمة: شوقي جلال، لا ط، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة 372، فبراير 2008، ص147.

العنوان الأصلي للكتاب:  James Trefil; Why Science?; Teachers College Press & NSTA Press; 2008.

[7]-  انظر: توماس كون: بنية الثورات العلمية، م.س، ص63 وص99-100.

[8]-  انظر: جيميس تريفيل، لماذا العلم؟، م. س، ص147.

[9]-  انظر: توماس كون، بنية الثورات العلمية، م.س، ص 154-156.

[10]-  م.ن، ص159-179.

[11]- انظر: غريبين، جون: تاريخ العلم 1543-2001 (الجزء الثاني)-ترجمة شوقي جلال، لا ط، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون واللآداب، عالم المعرفة 390، يوليو 2012، ص107-108 و 114-116 و 169.

العنوان الأصلي للكتاب: John Gribbin; Science…A History; Penguin Books, UK.2002

[12]-  م.ن، ص368.

[13]-  للمزيد أنظر:See: John Kenneth Galbraith; A History of Economics: The Past as the Present; Penguin Economics

Penguin books; 1987, 1991.

[14]- للمزيد عن الاشتراكية المثالية راجع:

- Frederick Engels. “Socialism: Utopian and Scientific (Chpt. 1)”. Marxists.org. Retrieved July 3, 2013.

- Leopold, David (2018). “Marx, Engels and Some (Non-Foundational) Arguments Against Utopian Socialism”. In Kandiyali, Jan (ed.). Reassessing Marx’s Social and Political Philosophy: Freedom, Recognition and Human Flourishing. Routledge.

- حازم الببلاوي: دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي، ط1، القاهرة، دار الشروق،  1995.

[15]-   من أعماله الرائدة:

Thorstein Veblen; The Theory of the Leisure Class: An Economic Study of Institutions; New York: MacMillan;1899

[16]-  انظر مثلًا كتابه:

Stanfield, James Ronald The Economic Thought of Karl Polanyi.. Lives and Livelihood; Palgrave macmillan;1986

[17]-  العيسوي، ابراهيم: تجديد الفكر الاقتصادي، ط1، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 2019، ص209-210.

[18]-  انظر مثلًا: كتاب الأسواق الأخلاقية لبول زاك:

P.Zak; Moral Markets: The Critical Role of Values in the Economy; Princeton University Press; 2008.

للمزيد انظر: العيسوي، ابراهيم، تجديد الفكر الاقتصادي، م.س، ص211-234.

[19]-  انظر: الصدر، محمد باقر الصدر: «اقتصادنا»، ط11، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1979؛ «الإسلام يقود الحياة»، لا ط، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 2003؛ فضل الله،عبد الحليم: التكافل الاجتماعي في الإسلام وأثره على الأمن الأسري، مؤتمر الأمن الأسري 2016-2017، تنظيم الرابطة اللبنانية الثقافية، بيروت، 2019، ص105-106.

[20]-  انظر: تريفيل، جيميس، لماذا العلم؟، م.س، ص29.

[21]-  انظر: بخصوص سوسيولوجيا الاقتصاد بوصفه مثالًا على سوسيولوجيا العلوم:

جوزيف أ. شومبيتر: تاريخ التحليل الاقتصادي، ترجمة حسن عبد الله بدر، لا ط، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، المجلد الأول، ص65-85.

[22]-  انظر: جيميس تريفيل، لماذا العلم؟، م.س، ص87-88.

[23]-  See: C.P. Snow; The Two Cultures (The Red Lecture 1959 );Cambridge University Press 1959.

[24]-  جيروم كيغان: الثقافات الثلاث..العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانيات في القرن الحادي والعشرين، ترجمة: د. صديق محمد جوهر، لا ط، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والآداب والعلوم والمركز القومي للترجمة 2476، عالم المعرفة 408، يناير 2014، ص311-313.

العنوان الأصلي للكتاب:

Jerome Kagan; The Three Cultures: Natural Sciences, Social Sciences, and Humanities in the 21th Century; Cambridge University Press; UK; 2004.

[25]-  انظر:Neils E. Harrison; Complexity in the World Politics: Concepts and Methods of a New Paradigm; New York: State University of New York Press, Albany; 2006; P; 8-16.

[26]-  جيروم كيغان، الثقافات الثلاث، م.س، ص320-321.

[27]-  كيغان، جيروم، الثقافات الثلاث، م.س، ص10.

[28]-  انظر: فضل الله، عبد الحليم: «أي منطلقات نظرية لبناء سورية المستقبل»، الأخبار، 8 نيسان 2019.

[29]-  انظر:  Jeremy Rifkin; The Age of Access; Tarcher/Putnam; 2000

[30]-  انظر: جون غريبين؛ تاريخ العلم؛ م. سبق ذكره؛ ص: 172-175.

[31]-  انظر: العيسوي، ابراهيم، تجديد الفكر الاقتصادي، م.س..

[32]- Edgar Morin: “Cette Crise Nous Pousse Sur Notre Mode de Vie, Sur nos Vrais Besoins Masques dans les alienations du quotidian”; Le Monde 19/4/2020.

[33]-  فلوريدي، لوتشيانو، الثورة الرابعة، م.س، ص 220-232.

[34]- Society after Pandemic; SSRC; by Alondra Nelson; April 23, 2020.

[35]-  انظر: تداعيات كورونا في مرآة مفكرين وفلاسفة السياسة والمستقبليات؛ موقع عربي 21، 4/4/2020

[36]-  انظر: رولز، جون: العدالة كإنصاف.. إعادة صياغة-ترجمة د.حيدر حاج إسماعيل، لا ط، بيروت: المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية، كانون الأول (ديسمبر) 2009.

[37]- See: Commitee on Finance, United States Senate, William V.Roth, JR., Chairman; Final Report of the Advisory Commission to Study the Consumer Index; U.S. Government Printing Office; Dec.1996.

[38]-   انظر: العيسوي، إبراهيم، تجديد الفكر الاقتصادي، م.س، ص329-336؛ وحول معلمات الكارثة Catastrophe flags

انظر: Sergienko O.A., Glofaiva I.P., Tatra M.S; The Catastrophe Theory as a Conceptual and Methodological Basic for Assessing the Stability of Socio-Economic System.

[39]- Madne Holford & Ruth Morgan; Four Ways Sciences Should Transform after Covid-19; 17 June 2020.

[40]-  See: Justin Antonipillai,&Michelle K.Lee; Intellectual Property and the US economy-2016 Update; Economics and Statistics Administration; HH & U.S Patent and Trademark Office (USPTO);2016.

[41]-  تريفيل، جيميس، لماذا العلم؛ م.س، ص 152-154.

[42]-  م.ن، ص153.

[43]-  انظر: Madne Holford & Ruth Morgan; Four Ways Sciences Should Transform after Covid-19; Op.Cit.

[44]-  للمزيد انظر: قرم، جورج: حكم العالم الجديد..الآيديولوجيات والبنى والسلطات المعاكسة، ط1، بيروت، الشركة العالمية للكتاب، 2010، ص132-151

[45]-  للمزيد عن مراجعة هذه الفرضية ونقدها أنظر من أعمال جوزيف ستيغليتز:

- Bruce C. Greenwald, Joseph E. Stiglitz; Externalities in Economies with Imperfect Information and Incomplete Markets; The Quarterly Journal of Economics, Volume 101, Issue 2, May 1986, Pages 229–264, https://doi.org/10.2307/1891114

- Joseph E. Stiglitz and Andrew Weiss; Credit Rationing in Markets with Imperfect Information; The American Economic Review; Vol. 71, No. 3 (Jun., 1981), pp. 393-410.

- Joseph EStiglitz; Capital Market Liberalization, Economic Growth, and Instability; World Development; Volume 28, Issue 6, June 2000, pp. 1075-1086

[46]- Joseph E. Stiglitz, Robert J. Shiller, &Others; How the Economy Will Look After the Coronavirus Pandemic;

Foreign Policy; APRIL 15, 2020.

[47]- The Next Catastrophe; the Economist; June 27th July; 2020.

[48]- Ibid.

[49]- Ibid

[50]-  للمزيد عن دور اقتصاد أميركا وعملتها ومؤسساتها المالية دور الملجأ الأخير حتى في الأزمات التي تتنبع منها كأزمة 2008؛ انظر:

جوزيف استيغليتز: اليورو.. كيف تهدد العملة الموحّدة مستقبل أوروبا، ترجمة مجدي صبحي يوسف، لا ط، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون واللآداب، عالم المعرفة 477، اكتوبر 2019، الجزء الثاني. العنوان الأصلي:

Joseph E. Stiglitz; The Euro: How a Common Currency Threatens The Future of Europe; 2016

[51]-  Joseph E. Stiglitz, Robert J. Shiller, &Others; How the Economy Will Look After the Coronavirus Pandemic; Op.Cit.

[52]-  للمزيد دور القطاع الخاص في إنتاح المعرفة والسلع العامة ومعضلتها انظر:

- فوراي، دومينيك: اقتصاد المعرفة، ترجمة: د. محمد عرب صاصيلا، ط1، دمشق، مكتبة دار طلاس، 2003. العنوان الأصلي بالفرنسية:

Dominique Foray; L¢Economie De La Connaissance; Paris : Editions La Couverte ; Octobre ; 2000.

- Joseph E.Stiglitz; Economics of the Public Sector; London: W.W.Norton & Company; 3th Edition; 2000.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف