البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

March / 19 / 2021  |  2555نقد فكرة الألوهية في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية (سقراط ـ أفلاطون ـ أرسطو)

غيضان السيد علي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2021 م / 1442 هـ
نقد فكرة الألوهية في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية (سقراط ـ أفلاطون ـ أرسطو)

تدخل فكرة الألوهيّة كحلقةٍ مركزيّةٍ في فلسفة أفلاطون على الرغم من اللّبس الكبير الذي رافقها ردحًا من الزمن. سوى أنّ هذه الفكرة ستحتلّ الموقعيّة نفسها بين الثلاثي المؤسّس للحكمة اليونانيّة (سقراط وأفلاطون وأرسطو). وفي هذا البحث سنقرأ مسعًى مقارنًا يُحلّل مسألة الألوهيّة وينقدها عند كل ضلعٍ من أضلاع هذا المثلث.

المحرّر


يرى الكثير من المؤرّخين أنَّ العصر الذي شهد ظهور الفلاسفة الثلاثة العظام (سقراط  أفلاطون  أرسطو)، هو عصر الفلسفة اليونانيّة الذّهبي، حيث إنَّه العصر الذي بلغ فيه النّشاط الفلسفي في بلاد اليونان أَوَجَهُ من القوّة والازدهار؛ إِذ بات بإمكان كلّ فيلسوف أن يُعبّر عن مذهبه الفلسفي بصورةٍ متكاملةٍ، ثابتة الأركان، متعدّدة الجوانب. ولذلك دَأَبَ مؤرّخو الفلسفة القُدماء والمحدثون تقسيم الفلسفة اليونانيّة إلى قسمين: الفلسفة اليونانيّة ما قبل سقراط، والفلسفة اليونانيّة ما بعد سقراط. وبغضّ النّظر عن اتّفاقنا مع هذه التسمية أو اختلافنا معها يظلّ هذا هو حال معظم المؤرّخين الذين أرّخوا للفلسفة اليونانيّة. ولا شكّ أنّهم مُحقّون في هذا إلى حدٍّ كبيرٍ؛ حيث عكست فلسفة هؤلاء الفلاسفة الثلاثة قمّة التّطوّر العقلي والفلسفي التي وصلت إليه الفلسفة اليونانيّة؛ حيث إنّهم قد امتلكوا القدرة الفعليّة على إثارة القضايا الفلسفيّة التي أثارها الأقدمون، ولكن بشكلٍ جديدٍ ومبتكرٍ تخلّصوا فيه إلى حدٍّ بعيدٍ من مواكبة معالجة الشرقيين القُدامى لها. فإليهم يُعزى تحوّل الفكر اليوناني من النّظر في مشكلات الطبيعة وما ورائها إلى مشكلات وقضايا الإنسان بحسب مقولة «شيشرون» الشهيرة: «إنَّ سقراط هو من أنزل الفلسفة من السّماء إلى الأرض»، وإليهم يُعزى التحوّل الكامل إلى العلوّ على الواقع المحسوس، والبحث عن معرفة المُثل العليا كالحق والخير والجمال، وإليهم يرجع اكتشاف المنطق الصحيح للتفكير الإنساني، وصياغة قوانين الفكر الأساسيّة، تلك القوانين التي إن خالفها الإنسان جاء فكره متناقضًا خاطئًا مليئًا بالمغالطات.

وبالرغم من رفض كاتب هذه السطور لمقولة المعجزة اليونانيّة، إلّا أنّنا لا نستطيع أن ننكر فضل الفلسفة اليونانيّة على الحضارة البشريّة، ولكنّنا ضدّ المبالغة والتهويل في أن ننسب إليها كلّ ما هو جوهريّ ومفيد وأصيل، وإغفال ما للحضارات الأخرى من مساهمات لولاها ما توصّل الفيلسوف اليوناني أو غيره إلى ما توصّل إليه. بل لا يُمكننا النّظر إلى كلّ ما قالته على أنَّه الصواب عينه، بل ننظر إليها من خلال كونها جهدًا إنسانيًّا له ما له وعليه ما عليه. ومن ثم دارت فكرة هذا البحث الأساسيّة حول تفنيد فكرة الألوهيّة ونقدها، في عصر الفلسفة اليونانيّة الذهبي، عند فلاسفتها الثلاثة المرموقين، وكيفيّة تصوّرهم للإله وتأرجحهم بين القول بالوحدانيّة والتعدّد، والوقوف على نقاط الضّعف لديهم، والتي حالت بينهم وبين الوصول إلى التوحيد الخالص للإله.

ولقد اعتمدنا في بحثنا هذا على المنهج التحليلي؛ لتحليل النصوص ومعرفة مضامينها الحقيقيّة وعدم الوقوف عند فهم الآخرين لها ومتابعة تحليلاتهم، كذلك يمثّل المنهج النّقدي هو المنهج الرئيس الذي يتمّ من خلاله مقاربة آراء هؤلاء الفلاسفة وما كُتب عنهم. هذا فضلًا عن المنهج التاريخي الذي ُيراعي التسلسل التاريخي لتطوّر الأفكار والمفاهيم الدينيّة عند فلاسفة اليونان الكبار، الذي ما زال لا غناء لأيّ باحثٍ في الفلسفة بكلّ فروعها عن الرجوع إلى آرائهم والاستئناس بها في بحثه الفلسفي.

أوّلًا: سقراط والتأرجح بين الشرك والتوحيد

احتلّ سقراط (Socrates 469- 399 ق.م) مكانةً عظيمةً في تاريخ الفلسفة اليونانيّة كأوّل الفلاسفة الكبار دون أن يكتب حرفًا واحدًا في الفلسفة أو في غيرها! فإنّ من أعجب طرائف التاريخ الفلسفي أنّ هذا الفيلسوف الذي اختار بإرادته حياة يملؤها النّقاش والتّحاور الشفاهي لم يكتب شيئًا من ذلك، هذا الفيلسوف شاء قدره أن يكون أوّل من تصلنا حياته وأفكاره كاملةً عبر كتابات الفلاسفة والمؤرّخين من تلاميذه ومُحبّيه، وذلك عبر محاورات أفلاطون الأولى، ومذكّرات كسينوفون، ومؤلّفات أرسطو، ومسرحيّة السحب لاريستوفان. لدرجة أنّ الصعوبة الحقيقيّة التي تُواجه من يؤرّخ له، هي: كيف يُمكننا التمييز بين الحقيقي والزائف فيما كُتب عنه ونسب إليه؟!

وقد اكتسب سقراط مكانته العظيمة في تاريخ الفلسفة بأكمله لسببين اثنين: أوّلهما أنّه كان من أوائل الفلاسفة الذين عاشوا أفكارهم، فارتبط لديه القول بالفعل ارتباطًا وثيقًا، جعل حياته الأخلاقيّة والسياسيّة مضرب الأمثال بين معاصريه ومثالًا يُحتذى لكلّ محبّ للفضيلة والعدالة والتقوى في أيّ زمان ومكان. وثانيهما: أنَّه كان أوّل شهداء الفلسفة وأوّل من دفع حياته ثمنًا لالتزامه بأفكاره وإصراره على مواصلة رسالته الإصلاحيّة مهما كان الثمن ومهما كانت النتائج[1].

وقد استولت فكرة الألوهيّة على تفكير سقراط؛ إذ ثبت من المحاورات السقراطيّة لأفلاطون، والتي عبرت عن فكر سقراط، أنَّه كان رغم إيمانه بالديانات اليونانيّة التقليديّة وخاصّة الديانة الأوليمبيّة، كان فيما يبدو مؤمنًا بصورةٍ من صور الوحدانيّة؛ حيث كان كثيرًا ما يستخدم فى هذه المحاورات لفظ الإله بصيغة المفرد، فقد فعل ذلك فى مطلع دفاعه عن نفسه في محاورة «الدفاع» حينما قال: «حسنا فلتسير الأمور على النحو الذي يراه «الإله». ثم قوله بعد ذلك أنّه كان يُحاول أن يجعل كلمة «الإله» هي العليا، وأنَّه يُطيع «الإله» أكثر من طاعته لقومه، وأنّه لا يخاف من أحد طالما يطيع «الإله». وقد اختتم خطابه الايماني هذا في محاورة «الدفاع» بعد الحكم عليه بقوله: «لقد أزفت ساعة الرحيل، وسينصرف كلّ منّا إلى سبيله؛ فأنا إلى الموت، وأنتم إلى الحياة، والله وحده عليم بأيهما خير»![2]. ومن هذه العبارات وغيرها نكتشف أنّ سقراط كان بالفعل مبتدعًا لاتّجاهٍ روحيٍّ يميل إلى الصوفيّة؛ حيث كان اعتقاده الأساسي أنَّ «الإله» خيّر، وأن للكون عقلًا مدبّرًا خيّرًا، وهذه النّظرة المؤمنة بأنّ للكون إلهًا يدبّره ويرعاه كانت ضيقة جدًا عند اليونانيين السابقين على سقراط.

ومن ثم ذهب الكثير من الباحثين إلى أنّ سقراط لم يدعْ في عصره أقلّ مجال للشّكّ في وجود الإله الحكيم المدبّر للكون والحائز كلّ صفات العظمة والجلال، وهو عنده لم يخلق العالم لضرورة، بل تفضّلًا منه وإنعامًا وحبًا في خلق الكون وإيصاله إلى الكمال، وهذا الكون عنده سائر على أتمّ نظام، لا خضوعًا لضرورة، ولكن وفاقًا للجمال والانسجام. وكان يعتقد أنَّ الإله لا يُخطئ، ولا ينخدع ولا يغيب عنه في هذا الوجود كبير ولا صغير، وأن نظراته مصوبة إلى كلّ فرد في هذا الكون وأنّه محيط بأسرار جميع جزئيات الكائنات، وأنّه يعلم أتمّ العلم حتى بخلجات نفوس الناس وخطرات قلوبهم وحركات مشاعرهم وإحساساتهم[3].

أي أنّ سقراط  حسب تلك الآراء التي توصّل إليها الباحثون من مطالعة مذكرات اكسينوفون  لا يعترف بوجود الإله فحسب، وإنّما يعترف  أيضًا  بسهره على تنظيم الكون، وهو لا يعترف بهذا فحسب، وإنّما هو يعترف مع ذلك بسهره على خطوات الأفراد وتصرّفاتهم جميعًا. وهو عنده قد أمر الناس بالصلوات والتنسك، ولكنّه لا يرضيه منهم أن يعملوها لنفع مادي، بل لفوائدهم الروحيّة، وتنقية نفوسهم من أدران المادة وإلحاقهم بعالم النور في الملأ الأعلى[4].

ولذلك قال عنه الشهرستاني: «من مذهب سقراط أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه حيًا قيومًا؛ لأنّ العلم والقدرة والجود والحكمة تندرج تحت كونه حيًا والحياة صفة جامعة للكل، والبقاء والسرمد والدوام يندرج تحت كونه قيومًا، والقيوميّة صفة جامعة للكلـ«[5]. وهنا نجد أنّ نصوصًا متعدّدة تشير إلى أنّ سقراط آمن بإله واحد، لا يمكن للعقل أن يسبر غوره، فهو يتجاوز حدود العقل، ولا تنطبق المعرفة اليقينيّة عليه، أزلي أبدي، من الممكن الاستدلال عليه من خلال أفعاله وآثاره.

ليس هذا فحسب، وإنّما آمن سقراط بالخلود واعتقد أنّ النّفس متمايزةٌ عن البدن، فلا تفسد بفساده، بل تخلص بالموت من سجنها وتعود إلى صفاء طبيعتها. وقد مال سقراط إلى الإيمان بعقيدة الخلود الأخروي تحت تأثره بالديانات الشرقيّة التي أفردت مساحات واسعة للإيمان بالحياة الأخرى في عالم ما بعد الموت وهو عالم الخلود اللّا نهائي. ولا شكّ أنّ سقراط قد وجد في عقيدة الخلود شفاءً من القلق ونجاةً من الشّكّ وصيانة من الظلم، وروحًا تعيد إلى شباب الأثينيين ما يفقدهم إياه الشك من قوة الإيمان وأمان الفضيلة.

ولكن هل نسلم في ظلّ ما سبق أن أوردناه من أقوال بأنّ سقراط قد آمن بوجود إله واحد خالق للكون، ومالك يوم الدين في الحياة الأخرويّة، وكأنّه نبي من أنبياء الله الذين عرفتهم الديانات السماوية؟ وهل يسلم هذا التسليم في ظلّ إجماع المؤرّخين بأنّه لم يكتب حرفًا واحد؟ وإنّما استنكر أن يضع العلم في جلود الضأن! ومن ثم فإلى أيّ مدى يصدق ما قيل عنه؟ وخاصّة أنّنا إذا رجعنا إلى محاورات أفلاطون وهي المصدر الأوثق لدى المؤرخين في فهم فلسفة سقراط الإلهيّة لوجدنا أنّ سقراط يرى أنّ الدين هو «فن التبادل التجاري بين الإنسان أو الآلهة» أو هو «فنّ الأخذ من الآلهة ثم اعطائهم»[6]. وهو الأمر الذي يتواتر ذكره في بقية المحاورات؛ إذ يذكر سقراط مصطلح «الآلهة» في كلّ محاوراته ما عدا محاورة «الدفاع» التي يكثر فيها سقراط من ذكر مصطلح «الإله» المفرد؛ فالذي يأمره بالفحص وإيضاح أنّ كلمة البشر لا تساوي شيئًا هو «الإله»، والذي يطيعه سقراط هو «الإله»، والذي لا يكذب هو «الإله».

ومن ثم يتساءل الدكتور مصطفى النشار: هل يؤدّي استخدام سقراط صيغة «الإله» المفرد إلى إله بعينه؟ وهل هو «أبوللون» أم إله غيره؟ أم هي الألوهيّة بوجه عام؟ ثم يُقرّر أنّنا لا يجب أن نبالغ في أهميّة استخدام سقراط للفظ «الإله» مفردًا كما ورد في نصوص كثيرة من محاورتي «الدفاع» و«أقريطون»، فهو يستعمل الإله أو الآلهة بغير اكتراث، فهو قد ذكر حاكم أعلى للكون على خلاف مع الآلهة الصغرى، وفي الوقت نفسه اعتقد بحق في الآلهة الشعبيّة المتعدّدة (واكسينوفون قد أكّد هذا في دفاعه ضدّ الاتهامات التي وُجّهت لسقراط بإهمال عبادتهم)[7]. يبدو أنّ سقراط كان قد اعتقد في الآلهة المتعدّدة كمظاهر مختلفة للروح العليا كما أشار إلى ذلك جوترييه[8].

إذًا، تختلف فكرة الإله عند سقراط عن غيره من السابقين في الفلسفة اليونانيّة؛ فالألوهيّة لديه قريبة من فكرة العناية الإلهية من حيث الاعتناء بالوجود. ولذلك لا يجب أن نسير مع هؤلاء الذين يرون أنّ سقراط موحد شأنه في ذلك شأن الموحدين في الأديان السماوية. فهذا بلا شكّ مجافيًا للحقيقة، تلك الحقيقة التي تقول إنّ تطوّر العقل يستلزم الاتّجاه نحو الوحدانيّة، ولكن العقل عاجز بمفرده عن الوصول إليها دون معاونة الوحي، فبلا شكّ كان سقراط حكيمًا على قدرٍ عالٍ من الرجاحة العقلية، فاقترب كثيرًا من تصوّر الوحدانيّة لكنّه لم يصل إليها. فاعتقد في إله واحد ولكن قال معه بآلهة أخرى رأى فيهم مظاهر مختلفة للروح العليا.

نخلص من هذا أنَّ سقراط قد اعتقد في الإله ذي العقل السامي، المسؤول عن نظام العالم، مبدع الإنسان، وللإنسان علاقة خاصّة مع الإله، فعقول البشر تتحكّم في أجسامهم، كما أنّ الإله يتحكّم في حركات العالم رغم أنّها أقلّ من عقل الإله، إلّا أنّها تعمل على المبادئ نفسها. فلقد بلغ لاهوت سقراط قضيّةً بسيطةً، إذًا، هي أنّ الكون الإلهي عبارة عن مجتمع من الموجودات البشريّة السامية والموجودات الإلهيّة، ويحتمل أن يكون على رأسهم، إله سام، كامل الخير، عادل[9].

وإذا كان يُمكننا أن نجتهد في هذا المجال، فإنّنا نرى أنّه كان وراء اتّهام سقراط بأنّه يكفر بالآلهة هو قوله بإله واحد فوق هذه الآلهة الصغرى، وأنّ هذا الإله الأعظم هو من خلق الكون واعتنى به، وهو الذي خلق الإنسان وصوره في أبهى صورة؛ إذ دعا سقراط محاوره «أريستوديموس» الذي لم يكن يعتقد بوجود الآلهة ولا يقدسها أن ينظر إلى المخلوقات الحيّة ذات الإحساس؛ لكي يقنعه بأنّها لا يُمكن أن تكون وليدة المصادفة البحتة أو المادة، وإنّما يدلّ تركيبها على أنّها من نتاج عقل مدبّر منظّم؛ إذ كان يكفي في نظر سقراط أن ننظر إلى الجسم البشري لكي نرى كيف نُظّمت أعضاؤه بطريقةٍ تتيح لها القيام بوظائفها على خير وجه، مما يثبت لنا أنّها موضع عنايةٍ إلهيّةٍ. ويضرب سقراط مثلًا لهذه العناية بالعين التي خُلقت بشكلٍ يتحمّل مسؤوليّة حمايتها، وكيف تُفتح هذه الجفون عند الإبصار ثم تغلق عند النوم، وكيف خُلقت الأهداب وكأنّها ستر للعين لكي تمنع العرق من أن يسيل عليها من الرأس، كذلك فإنّ عناية الآلهة تمتدّ أيضًا لتكلأ حياة البشر؛ ولذلك فإنّ عبادتها وتقديسها فريضة عليهم[10].

وسبحان الله؛ إذ يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (الذاريات: 21)، وكيف تدلّنا الآيات والعبر الموجودة في النّفس البشرية على الصانع الخالق. ولا شكّ أنّ سقراط قد فطن لذلك، وعدَّه دليلًا على وجود الآلهة. والجدير بالذكر أنَّ هذا الدليل لم يكن هو الدليل الوحيد عند سقراط على وجود الآلهة، ولكنّه رأى أنّ القوانين ليست من اختراع البشر ولكنّها من وحي الآلهة، ولذلك كان القانون الأوّل لدى الناس جميعًا هو احترام الآلهة. ولذلك كان يرى أنّ القوانين لا بدّ أن تكون صادرةً عن قوّة حكيمةٍ عادلة شاملة تقوم بالحقّ وتحرّك الكون بأصولٍ أزليّةٍ أبديّةٍ ثابتةٍ، ليست عرضةً للتغيير والتبديل، ولا تختلف باختلاف الزمان والمكان، والدليل على وجود هذه القوّة إنّما هو وجود الإنسان وعقل الإنسان الذي ينعكس فيه العقل الإنساني والحكمة الإلهية. فللكون صانع حكيم وعقل مدبر لا يفعل جزافًا ولا يحكم بالهوى، بل كلّ شيء عنده بمقدار. ولذلك كان سقراط يعارض كلّ آليّة في تفسير الأشياء، ويؤكّد أنّ الكون خاضعٌ في وجوده وفي سيره لتدبير عقلي إلهي في ظلّ قانون العناية الإلهيّة وهو موجّه إلى غاية مرسومة تسير وفق خطّةٍ معقولةٍ وكلّ ما فيه مرتّب ترتيبًا من شأنه أن يحقّق العدل والخير والجمال ويخدم غايات الإنسان العليا، وهذه الغايات هي ما ترشدنا في نظر سقراط إلى وجود كائن خلق ذلك، ويجب تقديس هذه الآلهة بتقديم القرابين حسب الشعائر الموجودة في إقليمنا[11].

ومن ثمّ نستطيع فهم قبول سقراط لحكم الإعدام بنفسٍ راضيةٍ؛ حيث كان يرى أنّ الآلهة هي التي وضعت القوانين، وأنّ إدانته كانت نتيجة إجراءٍ قانونيٍّ سليمٍ، وأنّه لا يجوز لإنسان التمرّد على القوانين التي وضعتها الآلهة أو أن يقترف شيئًا ضدّ القانون، اجتنابًا لغضب الآلهة[12]. ولذلك رفض سقراط الهرب إلى تساليا بعد أن دبّرت فئة من أصدقاء أفلاطون وتلاميذه خطّةً تمكّنه من الهرب، وسارت الخطة على أروع ما كان يُراد لها أن تسير، ومن الجائز كما يرى رسل أنّ أصحاب السلطان في أثينا كان يسرّهم غاية السرور لو لاذ سقراط بالفرار[13]. ولكن كان احترام سقراط وتبجيله لتلك القوانين التي كان يعتقد أنّ الآلهة هي التي سنّتها.

وفي نهاية رحلتنا مع سقراط نجد أنّه يتأرجح بين القول بإله واحد وآلهة متعدّدة، ويرجع ذلك إمّا لأنّه يطلق لفظ الإله (المفرد) ويقصد به (الجمع)، ولذلك يستخدم تارة لفظ الإله بصيغة (المفرد) ولفظ الآلهة بصيغة (الجمع) تارة أخرى. أو أنّه كان بالفعل يؤمن بإله واحد ولكنّه كان يخشى السّلطات والعامّة فكان يستخدم لفظ الآلهة للتورية والتقيّة. وهذا الأمر كان أبعد ما يكون عن سقراط الذي اشتهر بشجاعته وجرأته حتى أمام الموت. ولذلك يكون سقراط أبعد ما يكون عن فكرة التوحيد في الأديان السماوية التي تعني إفراد الله بالخلق والتدبر، وإخلاص العبادة له وترك عبادة ما سواه، من إثبات ما له من الأسماء الحسنى والصفات العُليا، وتنزيهه عن النقص والعيب، وعن مشابهته للحوادث.

ثانيًا: نقد التصوّر المثالي للإله الأفلاطوني

نعني بالتّصوّر المثالي ذلك التصوّر المُخالف للتصوّر المادي لأصل الكون، فإذا كان الفلاسفة السابقون على سقراط يرون أنَّ المبدأ الثابت خلف التغيّرات الطارئة في الكون هو بالضرورة مبدأ مادي؛ إذ تصوّره «طاليس» على أنّه الماء، و«أناكسيمندر» على أنّه «الأبيرون» أو اللّا متناهي، وتصوّره «أنكسيمانس» على أنّه الهواء، و«هيرقليطس» على أنّه النّار، وأصرَّ الفيثاغوريون على أنَّه العدد، بينما أعلن الفلاسفة الإيليون أنَّ موجودهم الأوّل مستدير ذو ثقل، وإن كانوا قد حاولوا أن يسموا به بعض الشيء عن الموجودات المحضة، لكن هذه النعوت التي خلعوها عليه كانت كافية لإثبات اخفاقهم في تجريده. لكن أفلاطون (Plato 428 -348 ق.م) قد رأى أنَّ المبدأ الأوّل للأشياء جميعًا لا يمكن أن يكون ماديًا، وذهب إلى تصوّر ذلك المبدأ الأوّل على أنّه لا بدّ أن يكون روحيًّا مثاليًا كاملًا منزّهً عن كلّ نقصٍ وصورةٍ، وهو بسيط تمامًا وصادق في أقواله وأفعاله، يتّصف بكلّ صفات الكمال[14].

وقد تغلغل هذا التّصوّر المثالي للإله، أو الصانع الأوّل، أو مُوجِد الكون في كلّ فلسفة أفلاطون فجعل لكلّ مظهرٍ ماديٍّ روحًا خفيةً، حتى إنَّه جعل للأرض نفسًا، وقال إنَّها الألوهيّة الأولى، وإنّها أقدم من تلك الألوهيات التي توجد في السماء! ثم أخذ يحدثنا عن صانع عظيم قام بتشكيل المخلوقات من مادّة قديمة، ومن هذه المخلوقات الكائنات البشرية والكائنات الإلهيّة التي سمّاها أفلاطون بالأرواح الوسطى أو الآلهة الثانوية.

وبناءً على ما سبق، هل قال أفلاطون بالإله الواحد أو بالآلهة المتعدّدة؟ لا شكّ أنّ أفلاطون هو تلميذ سقراط الوفي، وهو الذي دوَّن معظم فلسفته التي وصلت إلينا، وهذا ما سيجعل التأثير السقراطي واضحًا جدًا عليه، وخاصّة فيما يخصّ التصوّر الإلهي. لكنّنا لا يجب أن ننسى ذاك التأثير السماوي المتمثّل في الديانة اليهوديّة التي نزلت في عهد أفلاطون وخاصّة أنّه زار مصر معقل هذه الديانة في هذا العصر، وبلا شكّ أنّه تأثّر ببعض تعاليمها في تصوّره لطبيعة الإله بجانب تأثّره بالتّراث اليوناني الذي قال بتعدّد الآلهة. ولذلك لم يكن غريبًا أن يبدو التصوّر الأفلاطوني للإله يعبّر عن قمّة التصوّر اليوناني للإله، حتى وإن بدا مشوبًا بالكثير من التصوّرات الشركيّة المتعدّدة. لكن وجود التأثّر بالديانة اليهوديّة السماويّة هو ما جعل تصوّر أفلاطون للألوهيّة يؤثّر في تاريخ الفلسفة اللّاحق عليه عبر العصور الفلسفيّة التالية سواء المسيحيّة أو الإسلاميّة أو الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

وقد عرَّف أفلاطون الإله بأنّه هو الكائن المطلق والعقل الكامل والخير الشامل في آنٍ واحد. فلئن كان العالم إلهيًا فما ذلك إلّا لأّن الكون يحلّ فيه. وهذا الحضور الإلهي هو النظام الذي أوجده عقله المبدع للنظام، فحيث لا يوجد الإله لا توجد إلا الفوضى والتشوش[15]. فالإله لديه ليس هو «الصانع» وليس «الخير» وليس «الأب» وليس «القبطان» وليس «الواحد» بل هو الإله الذي يتّصف بأنّه صانع وخيّر وأب للعالم وقبطان الأشياء وواحد. ولكن لا يجب أن نفهم من هذا أنَّه قام بالتوحيد المنزّه للإله عمّا سواه وعن غيره من المخلوقات، ولكنّه رأى أنّ الوجود الإلهي يشغل كلّ شيء في هذا الكون، وإن كان هناك إله عظيم فإنّ هناك آلهة أخرى ثانويّة أوجدها هذا الإله لتساعده في إيجاد العالم. وهذا يُفسّر  في رأينا  ما قد يبدو تضاربًا في وجود لفظة «الإله» مع لفظة «الآلهة» في سياق واحد عند أفلاطون.

يرى جلّ الباحثين في الفلسفة اليونانيّة أنَّ استخدام الفلاسفة اليونان للفظ «الإله» بصيغة المفرد من قبيل إطلاق الجزء بغرض قصد الكل، كإطلاقنا في اللّغة العربية على سبيل المثال صيغة (المرء) ونقصد بها الناس جميعًا. وإن كنت أرى أنّ استخدام أفلاطون ومن قبله سقراط للفظتي: «الإله» و«الآلهة» بالتبادل ليقصد بهما شيء واحد أمر له ما يبرّره؛ إذ إنّه كان يقصد الإله الذي يحتاج إليه في لحظةٍ معيّنةٍ وفي مجالٍ معيّنٍ؛ حيث كان لكلّ إله مهمّة معيّنة في مجال خاص به لا يشاركه فيه إله غيره. أو أنّه كان يقصد  على أرجح الاحتمالات  أنّ كلّ نفس تحاكي الإله الذي اتبعت موكبه. فكلّ فرد من المؤمنين بالدين اليوناني كان يُؤْثر إلهًا من بين الآلهة على الآخرين؛ فيخلص له العبادة ويتقرّب إليه بالقرابين، ويرى بقيّة الآلهة مساعدة له. فإذا قال الإله فإنّه يقصد إلهه الخاص من بين الآلهة المتعدّدة، ولم يكن ذلك كفرًا يُعاقب عليه القانون اليوناني، حيث كان يتيح لكلّ فرد أن يختار إلهه الخاص من بين الآلهة، وكان هذا يمثّل اعتراف ببقيّة الآلهة طالما اختار من بينهم إله خاص به.

ولم يكن هذا التفسير الذي خلصنا إليه بدعةً ابتدعناها لكن بالرجوع وبالقراءة المتأنّية لمحاورة «فايدروس» لأفلاطون هو ما يحيلنا إلى هذا التفسير؛ حيث يقول أفلاطون: «كلّ نفس تحاكي الإله الذي اتبعت موكبه: فإذا كان الذي استسلم للحب من أتباع «زيوس» قد استطاع تحمل صدمات هذا الإله ذي الريش، فإنّ أتباع «آريس» الذين انساقوا في دورته عندما يمتلكهم الحب، ويظنون أنّهم أصيبوا بظلم من جانب محبوبيهم فإنّهم ينقادون للقتل، ويكونون على استعداد للتضحية بأنفسهم وبمحبوبيهم في الوقت نفسه. وهكذا الأمر بالنسبة لكل من كان تابعًا لإله فإنّه يقضي حياته في تمجيد هذا الإله وفي محاكاته بقدر طاقته»[16].

ومن ثم نستطيع فهم قضيّة الألوهيّة عند أفلاطون بعيدًا عن أوجه اللّغط التي أثارها الكثير من المفسرين والشرّاح، وتتسق مع مثالية التصوّر الأفلاطوني للإله غير المجسّد من خلال المبادئ الأربعة التي شكّلت ما يُمكن تسميته باللاهوت الأفلاطوني، وهذه المبادئ الأربعة[17]، هي:

المبدأ الأوّل: إنّ الآلهة موجودة؛ حيث يرى أفلاطون أنّها المصدر المحدّد للتصوّرات والأشياء الموجودة في العالم، فالآلهة تحيي الشمس والنجوم، وهم يوجّهون حركات الأجسام السماويّة في مدارها المنتظم، كما أنّها مبادئ حيّة، فالآلهة هي التي نسميها الأرواح أو الأنفس الموجودة في أجسام النجوم الفيزيقية، فحركات «روح الإله» السماوية المباشرة في وفاق مع أفضل نموذج، حركة الكلّ ويترتّب على هذه الحركات نشأة الفصول على أرضنا، ونستطيع من خلالها قياس الزمن بالسنة والشهر واليوم.

المبدأ الثاني: إنّ الآلهة تعنى بشؤون البشر: ففي أحداث الفصول على الأرض توجه الآلهة وتتحكّم في الأحوال الفيزيقيّة لحياتنا. ولو توافق الوجود الإنساني مع هذه النواميس، فسينجح في تحقيق السعادة البشريّة، ولو أنَّ الإنسان قصَّرَ ولم يكترث بما تحويه هذه النواميس، فإنّهم سوف يُواجهون بعقباتٍ من قبيل ما ينظرون إليه على أنّه عقاب طبيعي من الآلهة.

المبدأ الثالث: الآلهة غير قابلة للفساد: وهذا التصوّر قادم من التّراث الإغريقي الأسطوري. فالآلهة غير قابلة للفساد ولها قدرات تفوق قدرات البشر. وقد رأى أفلاطون أنّ الآلهة هي التي سنّت القوانين؛ ولذلك فهي تعبر شريعة إلهيّة إذا انصاع إليها الفرد تحقّقت له السعادتين الدنيويّة والأخرويّة؛ وخاصّة أنّ خلود الرّوح لم يعد خرافةً عند أفلاطون؛ حيث أكّد مرارًا على أنّ الإنسان إذا كان محدودًا بعمره، فإنّه بالرغم من ذلك خالد؛ إذًا، لن يتخلّص الشرير من شرّه بالموت؛ لأنّ الموت ليس نهاية وجوده، فكلّ إنسان يحمل معه إلى العالم الأدنى ماهيّته، وذلك أنّ الرّوح تتقدّم بعد الموت إلى المحاكمة، فإن كانت روحًا حكيمةً اهتدت في طريقها إلى العالم الآخر، بمَلَك أمين فلا تضلّ طريقها، أمّا الروح الدنسة فتتخبّط هنا وهنالك دون أن تجد لها رفيقًا يؤنسها أو دليلًا يهديها.

المبدأ الرابع: الخطة الإلهيّة المقدّسة: فالخطّة الإلهيّة المقدّسة في تنظيم كلّ شيء إلى الأفضل تعني أن يوجد بالنسبة لكلّ شخص موجود في العالم مكان معدّ، مكان مناسب لقدراته واهتمامه، فبعض النّاس تناسبهم حياة الزّراعة، والبعض الآخر تناسبهم حياة العمل الإداري الحكومي.

وقد أقرّ أفلاطون هذا اللّاهوت وعمل بمقتضاه؛ فآمن بوجود الآلهة، وكان هذا الإيمان في نظره من يجعل الإنسان في دائرة التقوى بعيدًا عن الكفر والعصيان والفسوق؛ لأنّ المرء إذا أنكر وجود الآلهة فإنّه بلا شكّ خارج الدين الصحيح، وليس هذا فقط وإنّما جعل الإيمان بوجود الآلهة فريضة على كلّ مواطن في الدولة، فسنّ قانونًا من القوانين لتحمي به الدولة الإيمان من التشويه، والمواطنين من الملحدين، ونص هذا القانون على أنّ إنكار وجود الإله جريمة في حقّ الدولة يجب أن يُعاقب عليها القضاء؛ لأنّ هذا الإنكار يُؤدّي مباشرة إلى سوء السيرة وفسادها والإخلال بالنظام الاجتماعي[18]

وإذا كان من أهمّ ما يميّز اللّاهوت الأفلاطوني أنّه يرفض بشدّة تجسيد الإله، فالإله غير مجسّد ولا يمكن أن يتجسّد، فهو المحرّك الذي يحرّك المادة ويخرجها إلى هذا النظام الذي نراه في هذا الكون. فإنّه يؤخذ على أفلاطون أنّه لم يحدّد لنا ماهيّة هذا الإله على وجه الدقّة والتحديد، ولذلك نراه يطلق صفة الألوهيّة على كلّ ما هو غير مرئي، وأن الكون مليء بالآلهة غير المرئيّة. فكثيرٌ من المُثل تُدعى آلهة، والأرواح الخيّرة تُدعى آلهة، بجوار آلهة الكواكب وآلهة الأوليمب والجن. وهذا يعود بنا إلى مقولة طاليس «الكون مليء بالآلهة». ولذلك لم يهتم أفلاطون كثيرًا بالتساؤل الجوهري: هل هناك إله واحد أو آلهة متعدّدة؟ ولكنّه كما سبق أن قلنا إنّه يرى أنّ لكلّ إنسان إلهًا مقرّبًا من بين الآلهة المتعدّدة إذا آمن به فقد آمن بالآلهة وسقطت عنه تهمة الكفر والضلال. وهو الأمر الذي يصرّح به في محاورة القوانين بأنّ هناك آلهة تُعنى بشؤون البشر لا يُمكن رشوتها أو شراء إرادتها.

كما يؤخذ على أفلاطون أنّه وضع إزاء الإله الخالق مادّة غير مخلوقة يصنع منها الكون، مما لا يليق بمقام الألوهيّة وقدرتها غير المتناهية، فإذا كان لدى الإله القدرة على صنع هذا العالم والاعتناء به، فما الذي يحدّ قدرته عن خلق هذه المادة الأولى؟! أعتقد أنّ هذا تضادّ ناتج عن قصور عقليّة أفلاطون عن تصوّر الخلق من عدم. كما أنّ مثل هذا الرأي الأفلاطوني يعدّ معارضًا لسمو الإله لما يترتّب عليه من أنّه لو لم توجد المادة لما صار الله صانعًا ولا موجدًا للعالم.

كذلك يُمكننا أن نأخذ على التصوّر الأفلاطوني للإله أنّه أوجد فوق الإله عالمًا إلهيًا سامٍ هو عالم المُثل أو عالم الحقيقة المعقولة التي يتكوّن منها الجوهر الإلهي. وهذا ما لا يليق بجلال الإله الذي ليس فوقه شيء ولا يشبهه شيء.

ومن ثم فقد كانت هذه أهم المآخذ التي يمكن أخذها على التصوّر المثالي الأفلاطوني للإله.

ثالثًا: نقد تصوّر أرسطو للإله بوصفه المحرّك الأوّل

يرفض أرسطو(Aristotle 384 -322 ق.م) تصوّر أفلاطون حول عالم المُثل، ويرى أنَّ الوجود المادي عنده هو الوجود الحقيقي وليس عالم المُثل المجرّد عن المادة، وهنا تظهر إشكاليّة وجود الإله عند أرسطو، فهل يعود أرسطو مرّة أخرى لتجسيد الإله أم يرفض وجوده على الإطلاق؟ أم إنّ عدم تجسيد الإله سينقذ نظريّة المحرّك الأوّل؟ تلك النظريّة التي يمكن اعتبارها المدخل الحقيقي لتناول قضيّة الألوهيّة عند أرسطو.

في الكتاب الثاني عشر من كتاب الميتافيزيقا يستخدم أرسطو الدليل الكسمولوجي في محاولته لتفسير الحركة، والمثال الأوّل هو الحركة الأزليّة الدائريّة للسماوات، وهو يرى أنّ التفسير العقلي الوحيد المقبول هو القول بوجود محرّك أوّل هو الذي يحرّك الأشياء جميعًا، وإن كان هو نفسه لا يتحرّك، فهو الجوهر الأزلي غير المتحرك؛ ولذلك أطلق عليه أرسطو «المحرّك الذي لا يتحرّك». وقد جعل من دليل الحركة هذا أوّل أدلّته على وجود الله، وهو الدليل الذي نجده يتردّد عبر تاريخ الفكر الفلسفي كلّه بشكلٍ مستمرٍّ. وينصّ هذا الدليل كما صاغه أرسطو على: «أنّ كلّ متحرّك يستلزم علّة تحرّكه، ولا يمكن أن نتسلسل إلى ما لا نهاية دون الوقوف عند محرّك أوّل يُحرّك ولا يتحرّك». ويرى أرسطو أنّه بالنسبة للموجودات الصناعيّة (غير الطبيعية) تكون هذه العلة خارجيّة، أما الكائن الطبيعي فعلّة حركته هي ما فيه من طبيعة أو ما فيه من نفس[19]. أي أنّ أرسطو يميّز بين حركة تأتي للجسم من الخارج وهي تلك الحركة التي تحرّك الجمادات، أمّا الكائنات الحيّة فتتحرّك عن طريق محرّك داخلي ذاتي هو النفس. ومن ثم يقرّر أرسطو ثنائيّة النّفس والجسد.

 ومن ثمّ، فقد أكّد أرسطو في أكثر من موضعٍ على أنّ الإله يُحرّك ولا يتحرّك، وذلك لسببين أوّلهما: إنّ هذا المحرّك لو كان متحرّكًا لاحتاج إلى محرّكٍ يُحرّكه فيحصل بذلك التسلسل والدور، ولذلك كان لا بدّ من الوقوف عند محرّك أوّلٍ يُحرّك ولا يتحرّك. وثانيهما: إنّ كلّ متحرّك ناقص؛ لأنّه يتحرّك لموقع أفضل مما هو عليه الآن، وخير يشتاقه لاستكمال ذاته. وطالما سلّمنا أنّ هذا المحرّك في أفضل حال وفي غاية الكمال، فلو فرضنا وجود الحركة في المبدأ الأوّل لكان ذلك انحطاطًا من كماله، وانتقالًا من الخير الكامل إلى ما هو شرّ منه لا محالة؛ إذ ليس هناك خير يناله ولا رتبة إلا وهي دون رتبته. ومن ثم وجب ولزم أن يكون المحرّك الأوّل غير متحرّك.

ويُطبّق أرسطو مبدأ المحرّك الأوّل على النباتات والحيوانات والإنسان بل وعلى الكواكب والأجرام السماوية. فيرى أنّ كلّ هذه الحركات تعود إلى محرّك أوّل هو الفلك المحيط أو ما يُسمّى بالسماء الأولى التي تتحرّك بفعل مبدأ حركتها الأوّل، فتتحرّك معها كلّ الموجودات السماوية بفعل ما فيها من مبدأ داخلي للحركة. ولكن ما هي العلّة الأولى لهذه الحركة؟ يرى أرسطو أنَّ العلّة الأولى هي المحرّك الأوّل الذي يُحرّك ولا يتحرّك؛ حيث لا يجوز التسلسل إلى ما لا نهاية مما يستوجب الوقوف عند علّة أولى تُحرّك ولا تتحرّك، وتكون بمثابة جوهر يحتاج الكل إليه ولا يحتاج هو إلى أحد، وهذا يقتضي ألّا يكون جسمًا.

يتّضح مما تقدّم أنّ الإله عند أرسطو لا يمكن أن يكون جسمًا، فهو جوهر روحي منزّه عن ثنائيّة المادة والصورة، حيث إنَّ الموجودات الطبيعيّة كلّها ذات مادة تمثّل وجودها بالقوّة، وذات صورة تمثّل وجودها بالفعل، وهي تمثّل ماهيتها وكمال تحقّقها. لكن الإله عند أرسطو يتميّز على تلك التفرقة؛ حيث إنَّه هو الذي يُصوّر المادة، ولو كان هو ذاته مكوّن من مادة وصورة لاستلزم الأمر لمن هو أعلى منه يقوم بعمليّة التصوير هذه، وهو الأمر الذي يقتضي التسلسل إلى ما لا نهاية وهو الأمر الذي يرفضه المنطق الأرسطي.

وذلك طبقًا لنظريّة أرسطو في الجوهر؛ حيث يرى أنّ هناك ثلاثة أنواع من الجوهر: جواهر يُدركها الحسّ وتتعرّض للفناء، وجواهر يُدركها الحس، لكنّها لا تتعرّض للفناء، وثالثة لا تُدرك بالحس ولا هي معرّضة للفناء؛ أمّا الفئة الأولى فتشمل النبات والحيوان، وتشمل الثانية الأجرام السماوية (التي اعتقد أرسطو أنّها غير قابلة للتغيّر ما عدا الحركة) وأمّا الفئة الثالثة فتشمل النّفس العاقلة في الإنسان، كما تشمل الله[20].

ورغم هذا الاتّساق المنطقي الظاهر في نظريّة المحرّك الأوّل عند أرسطو إلّا أنّ هناك تناقضًا يبدو للمدقّق من قول أرسطو : «إنّ الجوهر الحقيقي هو الجوهر الجزئي المركّب من مادة وصورة، وأنّ أساس التفرّد هو وجود الهيولى»[21]. فكيف إذًا يتوافق وصف أرسطو للمحرّك الأوّل بأنّه جوهر بأعلى معنى للكلمة في الوقت الذي يقول عنه إنّه صورة خالصة؟! ألا تقتضي «الفردانيّة»  كما يتساءل د. مصطفى النشار  هنا لو أخذنا بمنطق المذهب الأرسطي أن يوجد في الجوهر الأوّل شيء من الهيولى فلا يكون الإله/ المحرّك الأوّل إذن صورة خالصة[22].

ولكن أرسطو يتجاوز هذا القول ويُقرّر أنّه يوجد جوهر أزلي غير متحرّك، مفارق للأشياء المحسوسة، ولقد ظهر كذلك أنّ هذا الجوهر لا يُمكن أن يكون له عِظم، بل إنّه لا أجزاء له ولا يقبل القسمة؛ لأنّه يحدث الحركة في زمنٍ لا متناه. لكن لا شيء من الأشياء المتناهية له قوّة لا متناهية، ولمّا كان كلّ عِظم إما متناهيًا أو غير متناه، كان لا يمكن للسبب المتقدم أن يكون ذا عظم متناه؛ ولا يمكن أن يكون ذا عظم غير متناه؛ لأّن العظم غير المتناهي لا وجود له ألبتّة. بل قد ظهر أيضًا أنّه غير منفعل ولا يُمكن أن يتغيّر؛ لأنّ جميع التغيّرات الأخرى متأخّرة عن التغيّر في المكان. فمن الواضح إذن لماذا يكون للمحرّك الأوّل هذه الصفات[23].

لكن ما هو جدير بالذكر ها هنا أنّ المحرّك الأوّل  الإله عند أرسطو  لا يُحرّك العالم فيزيقيًا عن طريق الاتصال المباشر، بل يحرّكه بوصفه موضوعًا للشوق والرغبة. أي أنّ إله أرسطو يقضي حياته في الاستمتاع بتأمّل ذاته دون أن يهتمّ أدنى اهتمام بالموجودات الأرضيّة. فهو إذًا  إله صنع العالم من المادة الأولى، وتركه دون عناية يُواجه مصيره المحتوم. وتلك نقطتان يتّضح فيهما ضعف العقل البشري مهما بلغت درجة نضجه وعجزه عن الوصول بمفرده للحقيقة الكاملة.

وهو الأمر الذي يُؤدّي بنا إلى ضرورة التّساؤل عن طبيعة هذا المحرّك الأوّل وصفاته؛ إذ كان من أهم الصفات التي وصف بها أرسطو الإله أنّه محرّك أوّل يُحرّك ولا يتحرّك، أزليّ، صورة خالصة. حيث إنّه لمّا كانت الحركة عمومًا أزليّة في رأي أرسطو، وجب بالتالي أن يكون المُحرّك الأوّل أزليًا. فإذا تناولنا الصفة الأولى وهي صفة (المحرك الذي لا يتحرك) بالتحليل والنّقد وجدنا أنّها صفةٌ مشتركةٌ بين الإله وبين الأفلاك السماويّة، فكلاهما يُحرّك ولا يتحرّك. وهو الأمر الذي جعل برتراند رسل (Bertrand Russell 1872- 1970) يرى أنّ الله لا يُمكن تعريفه بقولنا إنّه «المُحرّك الذي لا يتحرّك» بل إنّنا على خلاف ذلك  نرى مقدماته منتهية بنا إلى نتيجة هي أنّ ثمّة سبعة وأربعين أو خمسة وخمسين محركًا لا يتحرّك. ولا يوضّح أرسطو العلاقة بين هذه المجموعة من المحرّكات التي لا تتحرّك وبين الله؛ فالتفسير الطبيعي لعبارته هو أنّ هنالك سبعة وأربعين أو خمسة وخمسين إلهًا؛ لأنّ أرسطو  بعد ذكره لإحدى الفقرات السالفة  يمضي فيقول: «لا ينبغي لنا أن نتجاهل هذه المشكلة، وهي: هل نفرض وجود جوهر واحد من هذا القبيل، أو نفرض أكثر من جوهر واحد» ومن ثم تراه يأخذ في البحث الذي ينتهي به إلى القول بوجود سبعة وأربعين أو خمسة وأربعين محرّكًا لا يتحرّك[24].

أمّا الصفة الثانية التي يتّصف بها إله أرسطو بأنّه لا يُفكّر إلّا في ذاته أو فيما هو كامل فقط، كونه أزليًا وباعتباره فكرًا خالصًا وسعادة، وتحقيقًا كاملًا للنفس، دون أن يكون أمامه من الغايات غاية لم تتحقّق، وعلى نقيضه يكون العالم المحسوس، ذلك العالم الناقص، عالم الرغبات والطموحات البشرية، التي تتحرّك شوقًا وحبًا إلى الله. فالإنسان يتعقّل ذاته وغيره، وهذا على خلاف الإله الكامل الذي لا يتعقّل إلا الكامل، وما دام ليس هناك كامل إلا الإله ذاته فإنّ الإله لا يتعقّل إلا ذاته؛ لأنّه لو عقل غيره فقد فكّر فيما هو ناقص، وانحطّت بالتالي قيمته وضاع تمييزه. إنّه إذًا لا يُمكن أن يفكّر إلّا في ذاته. وهنا يُصبح الإله منفصلًا انفصالاً تامًا بينه وبين العالم، وهو الأمر الذي يترتّب عليه نتائج خطيرة جدًا، منها:

إنّ الإله لا يعتني بالعالم ولا يُفكّر به ولا يعيره اهتمامًا، رغم أنّه علّته الفاعلة، وهذه نظرةٌ مجافيةٌ تمامًا لتصوّر الإله في الأديان السماوية.

إنّ الإله الأرسطي لا يعلم عن هذا العالم شيئًا محدّدًا؛ لأنّه لا يصحّ أن يفكّر الكامل في الناقص. ولا أدري ما فائدته للعالم وللمخلوقات البشرية ما دام لا يفكر فيهم ولا يعيرهم اهتمامًا بوصفهم كائناتٍ ناقصةً. فهو إله غريب تمامًا عن العالم، وليس له أي تأثير مباشر، ولا يعتني بأموره ولا يتدخّل فيها من الأساس.

إنّ الإله ليس خالقًا للعالم؛ إذ يتنافى القول بأزليّة المادة مع القول بأنّ الإله خالقه ومبدعه. والمعروف أنّ أرسطو يؤمن بأزليّة المادة وأزليّة الحركة وأزليّة الزمان. ومن ثمَّ فلا مجال للقول بأنّ الإله عند أرسطو قد خلق الكون من العدم.

ولا شكّ أنّ هذه الصفة بهذا التصوّر تُجافي صورة الإله وطبيعته وصفاته وعلاقته بالعالم في كلّ الأديان السماوية.

وربما تكون الصّفة الأهم للإله الأرسطي هي الصفة الثالثة التي تقرّر (وحدانية الإله). فهذا الإله كما يُقرّر أرسطو هو «فعل محض»، أي لا يجوز أن يداخله شيء مما هو بالقوّة؛ إذ لو كان ذلك لاحتاج إلى فاعل آخر يخرجه من القوّة إلى الفعل، فيكون وجوده مستفادًا من غيره. ولذلك فهو واحد من كلّ وجه، ويدلّ على وحدته انتظام العالم وتناسب الحركات بعضها ببعض، فإنّ ذلك لا يتصوّر إلّا إذا كان المحرّك واحدًا، وهو بسيط لا تداخله الكثرة بوجه؛ إذ لو فرضنا فيه شيئًا من الكثرة لداخله شيء من المادة والتغيّر وإمكان الوجود وجواز الانحلال؛ إذ إنّ كلّ مركب سائر إلى الانحلال، متوقّف على وجود أجزائه لبقاء وجوده، فلا يكون الواحد إلّا بسيطًا[25]. وإنّه على حسب تعبيره «وعلى مثل هذا المبدأ تعتمد السماوات والعالم الطبيعي»[26]. فهل يعدّ أرسطو حقًا من الموحدين المؤمنين بوحدانيّة الإله؟ يرى د. مصطفى النشار أنّ الحقيقة أنّه في أغلب ما كُتب، وبالذات في الكتاب الثاني عشر من الميتافيزيقا الذي يحتوي على نظريّته في الألوهيّة، يشير إلى الإله بلفظ المفرد، كما يتحدّث عن صفاته، وكأنّه من المفروغ منه أن يكون «المحرّك الأوّل» أو«العقل الأوّل» واحدًا؛ نظرًا لما نجده في هذا العالم الطبيعي من نظام وغائية يفترضان تلقائيًا أن يكون المهيمن على العالم «محرّك أوّل» واحد. ومع ذلك فهو يتحدّث بإعجاب عن السابقين عليه ممن نظروا إلى الأجرام السماوية وعدوها آلهة، وهو كذلك يُشير إلى هذه الموجودات السماويّة بأنّها ذات عقولٍ مفارقةٍ. وهذا يوضّح أنّه لم يكن موحّدًا مخلصًا للوحدانية إخلاصًا تامًا[27].

أي أنّ أرسطو شأنه شأن سقراط وأفلاطون ظلّ متأرجحًا بين القول بالوحدانيّة وبين الشّرك والقول بتعدّد الآلهة، فتارة نجده يؤمن بإله واحد حي قيوم، أزلي، خيِّر، بسيط غير منقسم ولا ذي أجزاء، روح خالصة لا صورة له، لا يتأثّر بمؤثّر ولا يتغيّر، لا امتداد له؛ لأنّه فوق الامتداد. لكنّه من ناحية أخرى لا يفكر في العالم الناقص؛ إذ إنّه مما ينقص من كماله أن يفكّر في شيء إلا ما هو كامل، أعني نفسه. وعلى هذا فهو إله لا يعرف العالم الدنيوي الأرضي الناقص، ولا يحبّه.

وهكذا يقضي إله أرسطو حياته في الاستمتاع بتأمّل ذاته دون أن يهتمّ أدنى اهتمام بالموجودات الأرضيّة. كما يبقى تعريف الإله بأنّه المحرّك الذي يحرّك ولا يتحرّك أقوى نقاط الضعف في نظريّة أرسطو الإلهيّة؛ إذ إنّه يسلم في نظرياته الفلكية بأنّ هناك العديد من الكواكب والأجرام السماوية التي تتراوح ما بين 47: 55 التي تحرك ولا تتحرّك دون أن يفرّق بين هذه المحركات وبين الإله، مما يجعل التفسير الطبيعي لذلك أنَّ هناك سبعة وأربعين أو خمسة وخمسين إلهًا عند أرسطو. ولا شكّ أنّ هذه هي طبيعة العقل الإنساني مهما كمل عندما يفكّر في الإله بمفرده دون الاستئناس بالوحي السماوي.

أي أنَّ أرسطو بعد أن عارض المذاهب الفلسفيّة السابقة عليه التي تفسّر العالم بالمادة والاتّفاق أي الصدفة، وبعد أن أثبت أنَّ في العالم شيئًا آخر غير المادة هي الصورة، وشيئًا آخر غير الاتفاق هو الغائيّة، عجز عن استكشاف مبدأ للصوريّة والغائيّة؛ لأنّه تصوّر الله منعزلًا في ذاته، لم يخلق العالم، ولا يعلمه، ولا يعني به، بحجّة أنّ العالم شيء أدنى بالقياس إلى الله، وأنّ من الأشياء ما عدم رؤيته خير من رؤيته. ورغم ذلك مُثّل الإله بأمير الجيش، الذي يجتمع تحت رايته جيش جرّار فيه القويّ والضعيف، والشجاع والجبان، وسائر الصفات المتراتبة من التدني والانحطاط إلى النُّبل والسمو، ورأى أنّه بدون هذا الأمير لا يستقيم وجود هذا الجيش ولا تنتظم حركاته.

ومن ثم استحقّ أرسطو نقد تلامذته المنصفين وأخلافه المعقولين، ووجّهوا إليه أسئلةً نقديّةً من قبيل: كيف يقود الأمير جيشًا لم يبصره ولا يعتني به ولم يخطر له على بال؟! وكيف يصحّ تدبير العالم من متحيّز في نفسه مقصور على ذاته لا يجاوزها؟! ومن أين وجود العالم في بدء نشأته؟ ومن أين بقاؤه إن لم يكن للمبدأ الأوّل حظّ في تدبير أمور العالم ولا أدنى إلمام به؟ والحقّ أنّها أسئلةٌ وجيهةٌ لها مبرّراتها التي تعجز عن الإجابة عليها ميتافيزيقا أرسطو.

أي أنّ الإله كان عنده قوّة حكيمة مدبّرة منزّهة عن كلّ نقصٍ متّصفة بكل كمال، أزليّة عالمة بكلّ شيء، لكنّها لم تخلق هذا الكون ولا تتولى تدبيره المباشر، فهناك إذًا انفصال تام بين الله وبين العالم، أي أنه جعل العالم في مقابل الإله لا اتصال بينهما ولا تأثير. فكانت ألوهيّته جليلة المبدأ، نبيلة الغاية، رديئة الوسائل، سيئة النتيجة.

فالإله الأرسطي بناء على نظريّة «المحرّك الأول الذي لا يتحرّك» محرّكًا جاهلًا، وقائدًا أعمى، وعلّة أولى غير منشئة، وبناء على ذلك نستطيع أن نقول إنّ أرسطو لم يكن بذلك متّفقًا مع المنطق القديم الذي وضع أسسه.

خاتمة

ومما تقدّم نخلص إلى مجموعة من النتائج التي توصّلنا إليها عبر بحث موضوع نقد فكرة الألوهيّة عند فلاسفة اليونان في العصر الذهبي (سقراط ـ أفلاطون ـ أرسطو)، ومن أهمّ هذه النتائج:

استطاعت هذه الدّراسة أن تُثبت أنّ العقل البشريّ مهما بلغ من عبقريّة، ومهما أوتي من براعة في الاستدلال والاستنباط لا يستطيع أن يتوصّل إلى تصوّر نقيّ كامل عن الله سبحانه وتعالى بمفرده وبدون مساعدة من الوحي السماوي، وهذا ما يمكن ملاحظته بقوّة على محاولات فلاسفة اليونان العظام: سقراط وأفلاطون وأرسطو والذي لا ينكر أحد رجاحة عقولهم، ولا سمّو أنفسهم وإخلاصهم في سبيل الوصول إلى الحقيقة المجرّدة للإله. ومع ذلك لم يستطيعوا فُرادى أو مجتمعين أن يتوصّلوا إلى التجريد التام النهائي للإله، كما لم يستطيعوا الوصول إلى فكرة الخلق من العدم، فهذه فكرة تكاد تكون مستحيلةً على العقل الإنساني، ولذلك قال فلاسفة اليونان فرادى ومجتمعين بضرورة الخلق من مادة أولى تصوّروها أزليّة. وهو الأمر الذي يعارض سمو الإله، لما يترتّب عليه من أنّه لو لم توجد هذه المادة لما صار الله صانعًا ولا موجدًا للعالم.

بالرغم من حرص فلاسفة اليونان في العصر الذهبي ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد على تنزيه الإله عن المادة وتقديمه على أنّه يحوز الكمال في الروحانيّة السامية، وأنّه مقياس الأشياء جميعًا وأنّ قدراته لا متناهية إلا أنّهم وقعوا في التناقض عندما آمنوا بفكرتي «القدر» و«الضرورة» اللتان تتحكّمان في كلّ شيء، وفي الآلهة نفسها. وقد تسرّبت هاتان الفكرتان إلى فلاسفة اليونان في العصر الذهبي من الأساطير اليونانيّة القديمة، وأخذوا بهما في تفسير الموجودات الطبيعية والأعمال الإنسانيّة.

لم يستطع فلاسفة اليونان في العصر الذهبي التخلّص مما ورثوه من الآراء والأساطير التي كانت سائدة في الديانة الشعبية لأثينا، ويظهر ذلك من وجود صور مختلفة للتعدّد رغم سعيهم الدائب نحو توحيد الإله وتنزيهه ووصفه بصفات تنزهه؛ فتأرجح سقراط بين الشرك والتوحيد؛ ففي الوقت نفسه الذي تحدّث فيه عن إله واحد ذي عقل سام، مسؤول عن نظام العالم، وخالق للإنسان، اعتقد في الآلهة المتعدّدة كمظاهر مختلفة للروح العُليا. وبالرغم من تعريف أفلاطون للإله بأنّه هو الكائن المطلق والعقل الكامل والخير الشامل في آنٍ واحد، إلّا أنّ رؤيته للألوهيّة بدت مشوبة بالكثير من التصوّرات الشركيّة المتعدّدة، كما أنّه أوجد فوق الإله عالمًا إلهيًا سامٍ هو عالم المُثل أو عالم الحقيقة المعقولة التي يتكون منها الجوهر الإلهي. وهذا ما لا يليق بجلال الإله الذي ليس فوقه شيء ولا يشبهه شيء، وقطعًا لم يهتدِ أفلاطون بنور الوحي السماوي الذي أضاء عصره في مصر التي زارها في ذلك الحين. كما بدا أرسطو في تصوّره للإله أو المحرّك الأوّل الذي يُحرّك ولا يتحرّك، متأرجحًا بين الإله الواحد والقول بالتعدّد؛ إذ يقول تارة بمحرّك أوّل واحد وتارة أخرى بمحركين أوائل عدّة إمَّا أن يكون عددهم 47 أو 55 محرك أو إله.

إنّ فلاسفة اليونان في العصر الذهبي من سقراط حتى أرسطو قد أَوْلوا أهميّة كبرى للوصول إلى حقيقة الإله؛ فاقتربوا كثيرًا بفضل عقولهم الراجحة من توحيد الإله، لكنّهم لم يستطيعوا التخلّص التام من الإرث اليوناني الكبير من الخرافات والأساطير التي كانت سائدة في عصرهم، وخاصّة فيما يتعلّق بالدين الشعبي اليوناني، فوقعوا في الشّرك والتعدّد، فكانت ألوهيتهم  في حقيقة الأمر  جليلة المبدأ، نبيلة الغاية، رديئة الوسائل، سيّئة النتيجة. ولكنّهم مع ذلك، والحقّ يُقال لم يستكينوا لرأيٍ نهائيٍّ وصلوا إليه، بل واصلوا البحث ولم يقطعوا برأيٍ معيّنٍ وعدّه نهائيًا. ومن ثمَّ كانت الخطيئة الكبرى لفلاسفة العصور الوسطى أنّهم نظروا إلى تلك الجهود على أنّها نهائيّة؛ فداروا في فلكها دونما إضافة شيءٍ يُعتدّ به في مجال الألوهيّة.

---------------------------------


[1]-  النشار، مصطفى: تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي (السوفسطائيون- سقراط- أفلاطون)، لا ط، القاهرة، دار قباء للنشر والتوزيع، 1999، ج2، ص 103-104.

[2]- أفلاطون: محاورة الدفاع، ترجمة: زكي نجيب محمود، لا ط، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2001، ص110.

[3]-  غلاب، محمد: الفلسفة الإغريقية، ط1، القاهرة، ج1، 1938، ص 180.

[4]- غلاب، محمد: الفلسفة الإغريقية، م.س، ص 181.

[5]-  الشهرستاني: الملل والنحل، صحّحه وعلّق عليه: أحمد فهمي محمد، ط2، بيروت، دار الكتب العلمية، 1992، ج2، ص401.

[6]-Taylor (A.E.), Plato, The man and his work, Meridian Books, New York, 1957, p.147.

[7]-  النشار، مصطفى: فكرة الألوهية عند أفلاطون وأثرها في الفلسفة الإسلامية والغربية، ط2، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1988، ص93.

[8]- Guthrie (W.K.C.), Socrates, Cambridge, Cambridge University Press, 1971, p.156.

[9]-  النشار، مصطفى، فكرة الألوهية عند أفلاطون وأثرها في الفلسفة الإسلامية والغربية، م.س، ص 94؛ وانظر أيضًا:

Long (W.), Religion in The Idealistic Tradition an essay in J. Clayton Feaver And William Harosz, Religion in Philosophical an cultural Perspective, affiliated East-West Press PVT.LTD, New Delhi, p.39.                              

[10]-  حلمي مطر،أميرة: الفلسفة عند اليونان، لا ط، القاهرة، دار النهضة المصرية، 1977، ص 153-154.

[11]- النشار، مصطفى، فكرة الألوهية عند أفلاطون وأثرها في الفلسفة الإسلامية والغربية، م.س، ص95.

[12]- Xenophon, Memorabilia of Socrates, Translated by R.J.S. Waston, in “ Socrates Discourses” , J.M. Dent & Son LTD, London, 1951, p. 112.

[13]-  برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ك1، الفلسفة القديمة، ترجمة: زكي نجيب محمود، مراجعة: أحمد أمين، لا ط، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2012، ص 224.

[14]- Plato, The Republic, Translated with an introduction By H.D.P. Lee, Penguin Books, Reprinted 1962, pp.379- 382.

[15]-  النشار، مصطفى، فكرة الألوهية عند أفلاطون وأثرها في الفلسفة الإسلامية والغربية، م.س، ص243.

[16]-  أفلاطون: محاورة فايدروس، ترجمة وتقديم: أميرة حلمي مطر، لا ط، القاهرة، دار النصر للتوزيع والنشر، د.ت، ص88.

[17]- انظر: النشار، مصطفى، فكرة الألوهية عند أفلاطون وأثرها في الفلسفة الإسلامية والغربية، م.س، ص220-222.

[18]-  كرم، يوسف: تاريخ الفلسفة اليونانية، ط3، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1953، ص 231.

[19]- أرسطو: كتاب الميتافيزيقا، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، ط3، القاهرة، دار نهضة مصر، 2009، [ك12، ف7، 20-35]، ص 540.

[20]-  برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ك1، الفلسفة القديمة، م.س، ص270.

[21]- نقلا عن: النشار، مصطفى: أرسطوطاليس- حياته وفلسفته، ط1، القاهرة، دار الثقافة العربية، 2002، ص220.

[22]-  م.ن.

[23]- أرسطو، كتاب الميتافيزيقا،[ك12، ف7، 20-35]، م.س، ص 542.

[24]-  برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ك1، الفلسفة القديمة، ص 271.

[25]-  محمد غلاب، الفلسفة الإغريقية، ج2، القاهرة، الطبعة الأولى، 1938، ص 87.

[26]- أرسطو، كتاب الميتافيزيقا،  [ك12، ف7، 13-15]، ص 541.

[27]- مصطفى النشار، أرسطوطاليس- حياته وفلسفته، ص222.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف