البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

January / 29 / 2022  |  1385نقض وبتر أُصول الفلسفة المادِّية الغربية في نظرية الجوهر الميتافيزيقي عند أوائل الحكماء اليونانيين

د. سنوسي سامي المرکز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية صيف 2021 م / 1442 هـ
نقض وبتر أُصول الفلسفة المادِّية الغربية في نظرية الجوهر الميتافيزيقي عند أوائل الحكماء اليونانيين

مُستَخْلص:

إن الباحث في العقائد الإيمانية لا يفتأ يقف على تشكلاتها الأولى في تاريخ المجتمعات الإنسانية، ولعّلنا نجد أهم تلك التشكلات في تاريخ الأفكار الدينية والفلسفية، ولما شاع أن الحضارات القديمة وأخصُّها الحضارة اليونانية مَوْطنا لها، حاولنا بدورنا تحليل نظريات المفكرين آنذاك؛ بوصفهم من الأوائل الذين قدَّموا فلسفات في تعْليل الجوهر الميتافيزيقي، ولكن ما يُلفت الـتَّأمل هو اختلافهم حول طبيعته، فثَبُتَ منهم من يرى أن جوهر الكوْن ماديٌّ جسمانيٌّ، ومنهم من يراه روحانيا ميتافيزيقيا، وبناء على هذا التباين، استندنا إلى تحليل رؤية أشهر الحكماء، وقد عُرفوا بالحكماء السَّبْعة، لتُفضي مُحاولتنا في الأخير إلى عرض مفاهيم الجوهر الميتافيزيقي في حكمتهم، وتاليا نقضها بأدلة عقلية ومنطقية انتصارا منّا للدين التوحيدي الحنيف. 

الكلمات المفتاحية: { الجوهر الميتافيزيقي، الجوهر المادي، الجوهر الروحاني، الحكماء السبعة}.

 

Abstracts

Refuting and Discrediting the Origins of Western Material Philosophy in the Theory of the Metaphysical Essence of the Early Greek Sages

Dr. Sanusi Sami, Department of Philosophy,

Abul-Qasim Saadallah University, Algeria

 

Researchers in faith doctrines do not cease to firmly point out their first formations in the history of human societies. Moreover, it is likely that one may find the most important of these formations in the history of religious and philosophical ideas. Since rumor had it that the ancient civilizations, especially the Greek civilization, were their home, the research attempts in its turn, to analyze the theories of the thinkers at that time. Significantly, they were regarded as one of the first to present philosophies in explaining the metaphysical essence. Nonetheless, what draws the most attention is their disagreement about its nature.

Therefore, conclusions were two-folded, where some see on the one hand that the essence of the universe is materially physical, while on the other hand some of them see it as metaphysically spiritual. Accordingly, and on the basis of this contrast, the research depends on the analysis of the vision of the most famous sages, who were known as the Wise Seven.

Generally, the paper attempts to present readers with the concepts of metaphysical essence according to their wisdom at that time. Subsequently, the aim is to refute it with rational and logical evidence in order to achieve victory for the one and truly monotheistic religion.

Keywords: Metaphysical Essence; Physical Essence; Spiritual Essence; The Wise Seven.

مقدّمة:

كلّما مرت القرون الزمنيّة على تراث فكريّ ما، فإنّه إمَّا يتعرّض إلى تناسٍ صارخ وتلاشٍ طامسٍ، وإمّا أنّ يتعاظَم الإخبار به من طرف الأوّلين للآخرين، بل وقد يعرِضُ لهؤلاء المؤرّخين والرُّواة أن يكابروا في تبجيل هذا التراث إلى حدٍّ يظلّ يتجلّى على راهنهم الفكريّ، ربما من قبيل الإعجاب، ولعل الفكر الفلسفيّ اليونانيّ حاز شرف التعظيم وسَلِم تاليًا من النّسيان والتلاشي، ليس فقط في حلقات التأْريخ للحضارة الغربيّة، بل عَظُم شأنه والإنباءُ به عند مؤرّخي ورُواة حضارتنا الإسلاميّة، حتى وإن كان ثمّة محاكاة لبعضهم وإنكار لبعضهم الآخر.

وعندما نتكلّم عن الحلقات المتقدّمة من الفكر الغربيّ اليونانيّ، فإنّ من المفيد أن يبتدئ كلامُنا عن أولئك الأوائل الذين حاولوا إرساء قواعد ركينة لهذا التراث الذي تجذَّر كلّ هذه القرون، وأثَّر في هذه الحضارات من بعده، وعليه سنعمد ـــ بحول الله ــــ إلى تحليل رؤية الحكماء المتقدّمين من الحضارة الإغريقيّة، بوصفهم أئمّة الحكمة وأساطينها الذين بعثوا الفلسفة وأرْسوا لها الأركان لتدوم هذه القرون وتُنقل إلينا الأخبار عنها باسم حكمائها، واستمرار انبثاق الأتباع لحكمتهم إلى يوم الناس هذا.

وقَفَ اختيارنا في هذا الغرض على رهْط الحكماء الأوائل ومقالاتهم في الجوهر الميتافيزيقيّ، وكانت الغاية من وراء اختيار حِكْمتهم، هي تحليل أهمّ الأسس الكبرى التي بُني عليها الفكر الغربيّ القديم، وتاليًا نقد ونقض هذه الأسس، وكذلك للخروج عن الطريقة السائدة التي تميّزت بالتأْريخ السرديّ الوصفيّ للولوج إلى طريقة أكثر موضوعيّة هي طريقة التأْريخ التقويميّ أو النقديّ، وكلّما تأصّلت في قرونها الأولى، كلّما كان التأْريخ أكثر نزاهة وأقرب إلى الموضوعيّة العلميّة، وقد اجتهدنا بدوْرنا أن نقوّم مقالات هؤلاء الحكماء بناءً على ناقلين غربيّين، ومن الصعوبات المعرفيّة أنّ نُصوص الحكماء المتقدّمين قليلةٌ وعزيزة، ما عدا ما نُقل عنهم من طرف المتأخّرين، إلّا أفلاطون، فيستثنى منهم لمـُصنفاته الكثيرة.

وقبل طرْح الإشكال وتجزئته لا يفوتنا أن نبيّن أنّ الجوهر الميتافيزيقيّ روحيٌ ومادّيّ، الروحيّ يتوافق مع مقولة «الميتافيزيقيّ»، لكن الشُّبهة قد تتبادر للقارئ في التنافر الحاصل بين مقولتي المادّيّ والميتافيزيقيّ، لكن يَسعُنا أن نبيّن أنّ المادّيّ هاهنا ليس المقصود منه ذلك المصطلح المضاد للروحيّ كما هو رائج، بل المراد منه ــــ حسب الحكماء ــــ جوهر الموجودات الأوَّل وأصلها، وهو الحاوي الأكبر، حتى لو كان له تجلٍّ في عالم الطبيعة ــــ كما سيأتي ذكره ـــــ، أو إن شئت توضيحًا آخر، المادّيّ عند الحكماء كهيولى أرسطو، هي لا مُتعيّنة؛ وهي أصل العالم ومادَّتُه التي نظَّمَها المحرّك الأوّل؛ لذا ترتفع الشبهة في عَدَم تَوَافق المادّيّ هنا مع مقولة الميتافيزيقيّ. ونلخّص فنطرح الإشكال كالآتي: ما هي مفاهيم الجوهر الميتافيزيقيّ عند الحكماء اليونانيّين الأوائل؟ وإذا كان المنطق العقليّ يفرض جوهرًا واحدًا، فلماذا تعدّدت صوَرهُ بين المادّيّ والروحيّ عند هؤلاء الحكماء؟ أَليس هذا داعيًا كافيًا لتهافت الرواسي الكبرى والـمُؤَسِّسات الأولى للفلسفة الغربيّة التي ما انفكّ حكماؤها الأوائل يؤسّسون لها؟ كيف السبيل إلى بتْر ونقد ونقْض مقالاتهم التي كانت مقدّمات ضروريّة لتطوّر الفكر المادّيّ الإلحاديّ، وتاليًا ما فتئ المتأخّرون من الفلاسفة يخرجون عن أصولها؟ 

أوّلًا: مداخل في سبيل إيضاح المفاهيم المِفْصليّة والقاعديّة:

ابتداء سنختار في تحديد ضبط المفاهيم الفلسفيّة ذات الوضع الغربيّ تيّارات الفلسفة الغربيّة، بوصفها آخر ما آلت إليه هذه الفلسفة من نتائج وقناعات مبرهن عليها، ولعلّ موسوعة لالاند المسمّاة باسم لصاحبها وجامعها ومؤلّفها لالاند الفيلسوف الفرنسيّ من الموسوعات المعاصرة المعتمدة في ميدان الفلسفة وضبط مفاهيمها، ولعلّ جُهد فيلسوفها لالاند بارز في ثنايا ضخامة الموسوعة وما اشتملت عليه من مفاهيم، خاصّة لجهة وتعريفاتها ونسبتها لأمّهات مذاهبها. كما لا يعني هذا اقتصارنا عليها؛ بل سنسعى من حين لآخر إلى الفلاسفة الوسيطيّين؛ المسلمين والمسيحيّين واليهود، بوصفهم الحاملين لتراث الفلسفة القديمة، ولاسيّما اليونانيّة منها، وهذا بطبيعة الحال اتّباعًا وشرحًا وإضافة، لكن قبل الشروع في الأَرْخَنة النقديّة لفلسفة الحكماء في الجوهر وتجلّياته الروحيّة والمادّيّة، يَسعنا فيما يلي الوقوف على ضبط المفاهيم المفصليّة كنحو الجوهر، والجوهر المادّيّ، والجوهر الروحيّ، ومن هم الحكماء الأوائل؟.

1 ـــــ ضبط مفهوم الجوهر:

جاء في موسوعة لالاند الفلسفيّة تعريف وتفهيم للجوهر، فقيل إنّ: «الجوهر/Essence، ميتافيزيقيًّا في مقابل عرَض كلّ حادث، ما يُعدّ مكوّنًا أساس الوجود، في مواجهة التغيّرا، التي لا تَطاله إلّا سطحًّيا، أو ظرفيًّا، هذا الجوهر يضعه البعض في العامّ، ويضعه البعض الآخر في الخاصّ، وأصحّ المعاني أنّ الوجود الحقيقيّ لشيء ما إنّما هو ما ندعوه جوهرًا»[1]، إذًا الجوهر عند الفلاسفة ــــ حسب لالاند ـــ هو الوجود الحقيقيّ، والمقابل ـــ منطقيًّا ـــ للوجود غير الحقيقيّ، كالوجود العرَضيّ، ونحن نعلم أنّ المناطقة قسَّموا الوجود إلى الوجود المفارق، وهو الجواهر المتعالية، والوجود المحايث للواقع الحادث، وهو جوهر الأعراض الجزئيّة والقريبة.

لهذا فالجوهر هو أوَّل المقولات العشر عند أرسطو، فيقول:» فأمّا الجوهر الموصوف بأنّه أوّليّ بالتحقيق والتقديم والتفضيل، فهو الذي لا يُقال على موضوع ما ولا في موضوع ما، ومثال ذلك «إنسانٌ ما» أو «فرسٌ ما»، فأمّا الموصوفة بأنّها جواهر ثوانٍ، فهي الأنواع التي فيها توجد الجواهر الموصوفة بأنّها أوّل»[2]، وهاهنا نستفيد من كلام أرسطو أنّ الجواهر فيها الأوائل وفيها الأواخر، أمَّا الأوائل فهي التي ليست موضوعًا ما، ولا هي في موضوع ما، فنستنتج إذَّاك أنّها مُفارقة، وأمّا الجواهر الأواخر أو الجواهر الثواني في اصطلاح أرسطو، فهي إمّا موضوع ما أو حالَّة في موضوع ما. فنستنج حينئذ أنها غير مفارقة، بل من الأعراض، أو كما أطلق عليها الأنواع الصادرة من الجواهر الأُوَل.

كما تجدر الإشارة إلى أنّ فائدة الجوهر الأوَّل تكمن في الإيجاد والإحداث لباقي الجواهر الثواني، فوجودها يعني بالضرورة وجوده، وعدمها يعني عدَمه، وطالما الأفضليّة في التقدّم هكذا يحوز الجوهر الأوّل عند كلّ الفلاسفة على الشَّرف والسببيّة في إخراج الموجودات من اللّاشكْل واللّاصورة لها نحو صورتها الحقيقيّة، وبدون الجوهر لا إخراج لها ولا وجود متعيّن في عالم الأعراض القريبة. يقول أرسطو:» فيجب إذن إن لم تكن الجواهر الأُوَل، ألّا يكون سبيل إلى أن يوجد شيء من تلك الأُخَر»[3].

2 ــــ ضبط مفهوم الجوهر المادّيّ/ الجسمانيّ:

إنّ الجوهر كما اتضح، خفيٌّ يتقدّم الموجودات شرفًا وقوة، له من قوّة الإيجاد للأعراض ما يجعله أصلًا لها؛ لذا قسّمَهُ الفلاسفة إلى جسمانيّ وروحانيّ،» فالجسمانيّ نوعان: فلكيّ وطبيعيّ، فالطبيعيّ نوعان: بسيط ومركّب، فالبسيط أربعة أنواع؛ نار وهواء وماء وأرض، والمركّب نوعان: جماد ونامٍ»[4]. انطلاقًا من هذا التعريف وقياسًا على تراث الفلسفة اليونانيّة الطبيعيّة نستخلص تعريفا آخر يجمع أصول الجواهر المادّيّة والجسمانيّة عند الفلاسفة الطبيعيّين، ومنهم الحكماء السبعة، هذا التعريف سيبيّن لنا ماهّية الأسطقسّات الأربعة التي: «يتكوّن بعضها عن بعض؛ لأنّها هي الجواهر الأُول الطبيعيّة، وأن موادّها واحدة في النوع، ومادّة كلّ واحد هي بعينها مادّة الآخر، على طريق التعاقب، وكانت إنّما تصير أسطقسّات، لأجل أنّ كلّ واحد منها يتكوّن عن كلّ واحد؛ وأنّ سائر الأجسام المتكوّنة إنّما تتكوّن عنها، وأنّ فيها مبادئ وقوى بها يتكوّن بعضها عن بعض، ولأجلها يتكوّن عنها سائر الأجسام المتكوّنة»[5].

لعلّ هذا التعريف بيَّن لنا حقيقة الأسطقسّ الذي عَدَّه الحكماء الأوائل مادّة الأجسام كلّها، هذه الأخيرة التي تُعدّ أعراضًا بالقياس إلى جواهرها الأسطقسّات، وإذا كان ذلك، فإنّ مجمل الفلسفة الطبيعيّة اليونانيّة تقوم أركانها على هذه الجواهر الأربعة الهيولانيّة أو المادّيّة، وتتخذ من الأعراض الجسمانيّة استدلالًا عليها، وعلى جوهريّتها لها، فتكون بهذا العناصر البسيطة الأربعة مقدّمات ضروريّة ينبغي أن يفقهها وبإمعانٍ كلّ دارسٍ لأصول الفلسفة اليونانيّة الطبيعيّة، بوصفها المجمل الخام للفلسفة الغربيّة القديمة التي زعم حكماؤها أنّ أصل العالَم وجوهَره الأوّل مادّيّ. 

3 ـــــ الجوْهر الروحانيّ/ المُفارق وغيرُ الجسمانيّ:

الجوهر الروحيّ هو المقابل من حيث الماهيّة الجوهر المادّيّ الجسمانيّ، وهو مفارق لا يُدرك بالآليّات الحسّيّة القادرة على إدراك العالم المادّيّ بجواهره المرئيّة، ويعود هذا المصطلح إلى استخدام الفلاسفة الحكماء اليونان الأوائل، فالجوهر الفرد (Monade) «مصطلح قديم جدًّا من أصل فيثاغوريّ، طبّقه أفلاطون على الأفكار، وصار المصطلح مشهورًا بفضل ليبنتز[6]* الذي عرّف الجوهر الفرد بأنّه جوهر لطيف، أي بلا أجزاء»[7]، فالمعروف عن أفلاطون أنّه قال إنّ العالم الحسّيّ بقدر ما تتكثّر فيه الموجودات وتتعدّد فإنّ نماذجها واحدة، وهي من أصل مُفارق في عالم مثاليّ لا يُدرك بالحواس الجسمانيّة، بل قوّة إدراكه هي العقل، ولا يتسنّى له ذلك إلّا بالتأمّل العقليّ، فيرى حينئذ أنّ عالَم الأشياء مجرّد نسخ عن الأفكار المثاليّة، بالتالي فهي جواهرها الحقيقيّة، ومن طبيعتها أنّها فردة، لا تتعدّد ولا تتكثّر؛ لذلك أطلق عليها أفلاطون المثل أو النماذج الأزليّة والأبديّة، هذه إشارة إلى أنّ الجوهر الفرد الروحانيّ عند الحكماء الإلهيّين هو الأصل، وليس الجوهر المادّيّ الفائض عنه.

وبالجملة «الجواهر الروحانيّة فاعلة ولا تدرك بطريق الحواس، ولا تعرف إلّا بطريق العقل، وبما يصدر عنها من الأفعال العقليّة»[8]، وكذلك يمكن القول «إنّ ماهيّة الجوهر جوهرًا بمعنى أنّه الموجود في الأعيان لا في موضوع، وهذه الصفة موجودة لماهيّة الجواهر المعقولة. إنّ الجوهر الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم، على أنّه قوّة فيه، أو صورة له بوجه»[9] .

هذه إذًا توضيحات بسيطة لمعاني الجوهر المادّيّ والروحيّ، وعمومًا «الجوهر ينقسم إلى بسيط روحانيّ كالعقول والنفوس المجرّدة، وبسيط جسمانيّ كالعناصر، وهو اصطلاح إغريقيّ يخصّ طبيعة المسيح وما إذا كان جوهره واحدًا؛ أي أنّه من طبيعة واحدة إنسيّة، أو أنّه من جوهرين، أي طبيعتين متخالفتين؛ إنسيّة وإلهيّة»[10]، والمميز الأكبر بينهما هو اختصاص الجوهر المادّيّ بالجسمانيات والعوالم المحسوسة، واختصاص الجوهر الروحيّ بالمعقولات والروحانيّات المفارقة، المضادّة بطبيعتها لكلّ ما هو جسمانيّ؛ لذا اخترنا نحن ــــ في تقديرنا ـــ مصطلحي المادّيّ والروحيّ للوقوف على الطبيعة الميتافيزيقيّة للجوهرين، وعلى الغموض الفلسفيّ الذي أسّس عليه الحكماء اليونان الأوائل فلسفتهم في تصوّر هندسة عامّة للكون أو الوجود من جهة أخرى. وسنحاول أن نورد قراءة نقديّة لنظريّات هؤلاء وهم يبنون أصول نظريّاتهم الفلسفيّة مبيِّنين ـــ بحول الله ــــ نقائض نظريّاتهم ومفارقات وقعوا فيها جعلت أوّل من يخرج عن أصول تفكيرهم أولئك الحكماء الذين خلفوهم من أهل اليونان وغير اليونان.

3 ـــ الحكماء الأوائل ومنهم الحكماء السبعة:

ينقسم هذا المصطلح إلى مقولتين هما مقولة «الحكماء» ومقولة «السبعة»، والقارئ لهذا المصطلح في تاريخ الفلسفة العام وتاريخ الفلسفة القديمة، يتساءل عنه كنحو أن يقول: لماذا الحكماء سبعةٌ؟ أو يقول: هل الحكماء سبعة فقط؟ وما عداهم ليسوا بحكماء؟، فقد يتبادر إلى عقله أمران أو عِلَّتان، فإمّا أن يكون الحكماء سبعة بالنظر إلى إمامتهم في صناعة الحكمة أو الفلسفة وتضلّعهم في مباحثها الكبرى، ولكن يبقى السؤال عالقًا بشأن السَّبعة؛ إذ هم في البراعة والتضلّع في الحكمة يفوق رهطهم العدد سبعة، وهو الأمر ذاته الذي يستدعي العلّة الثانية، وهي أنّ السبعة عدد مقدّس عند كلّ الحكماء، ولاسيّما هؤلاء الذين سنتطرق إليهم، وفضلًا عن ذلك أغلبهم برعوا في صناعة الرياضيّات أو علم الكمّ المتّصل والمنفصل، فتكون مقولة السبعة صفة لمقولة الحكماء، ليس من قبيل العدّ وإنّما من قبيل التقديس والرِّفعة والمنزلة؛ إذ السبعة كعدد لا يلحق إلّابالمقدّس الكامل في الإبداع والخلق، ونحن نعلم هذا في الأديان السماويّة، وفي القرآن كثير من الآيات تصف الصفة السباعيّة للموجودات الشريفة المخلوقة من طرف الله ـــ تعالى ـــ كالسموات السبع، والسبع المثاني، وهلم جرّا؛ فبان إذًا أنّ الحكماء السبعة هم «قدماء أساطين الحكمة»[11]، فهم آباؤها الكبار وأئمّتها الأُوَل، الذين منهم تُستأنف حركة الفلسفة وما جرى فيها من مباحث وما أُبدع فيها من نظريّات. 

    ولكن نحن سنحاول الوقوف على أبرز هؤلاء، وكان قد وقف عليهم أكبر مؤرّخي الحكمة والحكماء، ولعلّ أبرزهم قد اتفق حولهم المؤرّخون، «فالحكماء السبعة الذين هم أساطين الحكمة من الملطيّة[12]*، وساميا[13]*، وأثينيّة، وهي بلادهم، وأمّا أسماؤهم؛ فهي: تاليس الملطيّ، وأنكساغوراس، وأنكسمانس، وأنباذوقليس، وفيثاغورس، وسقراط وأفلاطون»[14].

وبالجملة الحكماء السبعة، هم أولئك النفر الذين قدَّموا مغامرات عقليّة في سبيل رسْم خارطة للناس، ليُبيّنوا لهم الكيفيّة التي حدث فيها الكون وعن ماذا حدث؟ وإلى أين سيؤول؟ وبذا قدَّم كلّ واحد منهم على حدة نظريّة خصَّصها لدراسة جوهر الموجودات، وانقسمت إذَّاك مساعيهم إلى طريقين: طريق جَوْهرها الموجودات بالجوهر المادّيّ الذي منها تصدر وإليه تفتقر وتصير، وطريق آخر جَوْهَرَها بالجوهر الروحيّ المضادّ للمادّيّ؛ لـمُفارقته عالم المواد الجسمانيّة وتميُّزه بطبيعة عقلانيّة سماويّة مفارقة؛ فكان أشرف الجواهر وبه تكون الموجودات، وإليه تفتقر وإليه تصير، وفيما يلي سنعمد ـــ بعون الله ــــ إلى ذكر نظريّاتهم في مفاهيم الجوهر ونقض مقالاتهم العارضة في المفارقات العقليّة والمنطقيّة.

ثانيًا: تحليل ونقد ونقض مقالات الحكماء الأوائل في الجوهر الميتافيزيقيّ: 

1ــــ مقالات طاليس/ Thales. الملطيّ ونقضها:

يعدّ طاليس الملطيّ اليونانيّ من هؤلاء الذين نُدرِّسهم لطُلابنا في المراحل الإعداديّة بأنّه عالم رياضيّ وفلكيّ، لكن في نهاية المراحل الإعداديّة نعود إليه مرّة أخرى، ونقول عنه إنّه أبو الفلسفة على الإطلاق، باعتبار أنّه أوَّل من طرح سؤالًا فلسفيًّا عن أصل الوجود، فحاز إذَّاك على شرف إمامة الفلسفة نشأةً وظهورًا في اليونان القديمة، فهل صح ما ساد اعتقاده؟ أي هل يستحقّ طاليس هذا التعظيم والتبجيل أم أنّ التحليل والنقد غابا في التأريخ له، فتَأسْطر الرَّجل وعظُمت صورته في عقول لاحقيه من المهتمّين بالفلسفة والكونيّات كما كان هو نفسه؟. 

في الحقيقة طاليس من الفلاسفة القائلين بالجوهر الميتافيزيقيّ المادّيّ، وهو «أحد الحكماء السبعة في اليونان، كلّ منهم اشتهر بحكمة قالها، وتجري الرواية بأنّ حكمته التي قالها هي :»أفضل الأشياء هو الماء»، وبناء على ما يقوله أرسطو فإنّ طاليس قد ذهب إلى أنّ الماء هو العنصر الأصليّ الذي تتألّف منه سائر العناصر جميعًا، ويعتقد أنّ الأرض مرتكزة على الماء»[15]

وبالنظر إلى ما أورده برتراند راسل هنا، نستفيد أنّ طاليس أشار إلى أنّ الماء هو العنصر الوحيد والجوهر الميتافيزيقيّ الأصليّ الذي تصدر منه سائر الموجودات، لكن ما يُعاب على هذا الزعم هو أنّ مقالته هذه مجرّد طرح أسطوريّ رغم ما يعتريه من شبهة علميّة، والاعتراض بيِّن من جهة ما ذكر أرسطو عنه، حيث قال إنّه كان يعتقد، والاعتقاد ـــ كما هو معلوم ـــ لا يفيد اليقين المطلق، وفي هذا الصدد «تتألّف فلسفته ـــ إذا جاز لنا أن نسمّيها فلسفة بقدر ما نعرف  ـــــ من قضيّتين: أوّلًا: أنّ أصل الأشياء جميعًا هو الماء، وكلّ شيء يعود إلى الماء، وثانيًا: أنّ الأرض قرص مسطّح مستوٍ يطفو على الماء، والقضيّة الأولى التي هي القضية الرئيسيّة تعني أنّ الماء هو النوع الأوّل الواحد للوجود، وأنّ كلّ شيء آخر في الكون ليس إلّا مجرّد تغيّر للماء، ولا بدّ أن ينشأ سؤالان على نحو طبيعيّ، لماذا اختار طاليس الماء مبدأً أوّلًا؟، وبأيّ عمليّة يمكن للماء ـــ في رأيه ـــ أن يتغيّر إلى الأشياء الأخرى؟ كيف تشكّل الكون ماءً؟ ونحن لا نستطيع أن نجيب عن كلا السؤالين على وجه اليقين.»[16]

إذًا، لقد اكتسح الغموض فلسفة طاليس الذي عُدَّ أبًا للفلسفة القديمة، فمن جهة، الجوهر المائيّ الذي اعتقده يبقى مجرد فرض فلسفيّ غير مبرهن بدلائل كافية، وهو الأمر الذي جعل مؤرّخيه يطرحون الأسئلة باسمه دون ذكر حلول أو حتى مقاربات لها، هذا ما جعل طاليس الملطيّ سائلًا أكثر منه منظّرًا حكيمًا في حكمته، وجعل ماءه ماءً فلسفيًّا ليس أكثر، «أمّا كيف ظهر الكون ـــ في رأي طاليس ـــ من الماء فهي مسألة أكثر مدعاة للشكّ. وأغلب الظنّ أنّه لم يطرح على نفسه هذا التساؤل، ولم يُدْلِ بأيّ تفسير، وعلى أيّ حال لم يعرف شيء بهذا الصدد. لماذا يجب أن يقال إنّ الفلسفة بدأت هنا بصفة خاصّة؟ إنّ دلالة طاليس ليست في أنّ لمائه الفلسفيّ أيّ قيمة في ذاته بل في أنّه كان أوّل محاولة مسجّلة لشرح الكون على مبادئ طبيعيّة وعلميّة دون عون من الأساطير والآلهة المصطبغة بصفة إنسانيّة»[17]  

لقد رأينا بعد هذا الإيراد أنّ طاليس من حكماء الجوهر الميتافيزيقيّ المادّيّ، وهذا الجوهر هو الماء الذي به تكوّنت كلّ الموجودات وإليه تصير، وحتّى الأرض فهي قرص يسبح فوق الماء في تصوّر طاليس، وعليه يكون الطرح الطاليسيّ مُنْشِئ الفلسفة المادّيّة الطبيعيّة في الفلسفة القديمة، والذي عقبته مزاعم أخرى تدور تارة في التأصيل بالجواهر المادّيّة، وتارة أخرى بالجواهر الروحيّة.  

وبالجملة؛ هذا ما ذكر عنه الغربيّون، أمّا عن المسلمين فقد قال الشهرستانيّ:» الماء قابل لكلّ صورة، فذكر أنّ من جمود الماء تكوّنت الأرض، ومن انحلاله تكوّن الهواء، ومن صفوة الهواء تكوّنت النار، ومن الدخان والأبخرة تكوّنت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكوّنت الكواكب، فدارت حول المركز دوران المسبّب على سببه بالشوق الحاصل فيها وإليه. قال: والماء ذكر والأرض أنثى وهما يكونان سفلًا، والنار والهواء أنثى وهما يكونان»[18].

إنّ ما نحلّله في إيراد الشهرستاني هو أنّه بيّن طاليس فيلسوفًا متبنّيًا التأصيل المادّيّ للكون، وذلك واضح في شرحه لاستحالات الماء وتكوّنه من شكل إلى آخر، فتارة يتجمّد فيكون أرضًا، وتارة ينحلّ فيستحيل هواءً، وتارة ثالثة نارًا وهكذا، لكن الجوهر الميتافيزيقيّ أو الفلسفيّ الأوحد هو دائمًا الماء، الذي هو مبدأ الأشياء ومصيرها الغائيّ. وإلى هنا نستنتج أنّ طاليس يتصدّر الحكماء السبعة في القول بالجوهر الميتافيزيقيّ المادّيّ، لكن زعمه هذا مجرد طرح أسطوريّ لا يرقى إلى كونه نظريّة علميّة واضحة المعالم؛ لذا قال بشأنه راسل: «ونحن لا نعلم عن طاليس إلّا علًما أضأل من يُعيننا على تكوين صورة لفلسفته ترضينا؛ غير أنّنا نعلم عن خلفائه في ملطيا أكثر جدًا مما نعرف عنه(...) نعم، إنّ ما قرّره من علم ومن فلسفة كان ساذجًا»[19]. فهذه ّمجمل المحطّات التحليليّة والنقديّة لحكمة الحكيم الأوّل من الحكماء السبعة، طاليس الملطيّ.

2 ـــــ مقالات أنكسمانس/Anaximanes ونقضها:

يعدّ أنكسمانس ثاني الحكماء السّبعة وأحد فلاسفة مدرسة ملطيا أو أيونيا، بعد طاليس وأنكسماندريس، ومجمل قوله في الجوهر الميتافيزيقيّ أنّ «العنصر الرئيسيّ هو الهواء، فالريح هواء، والنار هواء مخلخل، وإذا ما تكثّف الهواء، انقلب بادئ الأمر ماء، ثمّ إذا مضيت في تكثيفه انقلب ترابًا، وبعدئذ يكون صخورًا، ولهذه النظريّة حسنة هي أنّها تجعل الفوارق كلّها بين العناصر المختلفة، اختلافًا في الكمّيّة يعتمد كلّ الاعتماد على درجة التكثّف»[20]

إنّ القارئ لحكمة الحكماء السبعة - وبكلّ موضوعيّة علميّة - مثل ما قيل عن أنكسمانس يعرف أنّ هذه الفلسفة قريبة جدًّا من النصوص الأسطوريّة على شاكلة ملحمة جلجامش؛ لأنّ اعتقاده الهواء جوهرًا ميتافيزيقيًّا، هو في الحقيقة نوع من الاختلاف مع نظيره طاليس وأنكسماندريس لا أكثر ولا أقلّ، وكأنّ أحدهم قال باللون الأسود والآخر قال بالأبيض حتّى لا يكرّر ما قاله نظيره فقط، ودليل ذلك أنّ طاليس وأنكسمانس كلاهما قال بالجوهر من ملاحظة الطبيعة، أي فسّروا الوجود الكونيّ بعنصر طبيعيّ، لكن من منظور ميتافيزيقيّ، والاعتراض على زعم أنكسمانس يبدأ من نقطة مركزيّة، وهي غياب التعليل السببيّ المقنع لتأصيل كلّ الموجودات بالهواء، فما عاد ثمّة عنده تبرير فلسفيّ كامل أو على الأقلّ طبيعيّ علميّ يستند إلى التجربة.

وفيما يلي نصّ نقديّ يعترض على حكمة أنكسمانس بأسئلة مخلخلة لحكمته في جوهر الهواء، «لقد حدّد أنكسمانس هذا على أنّه عمليّتا التخلخل والتكثيف. فإذا آمنت ـــ كما فعل الفيزيائيّون الأُول ــــ أنّ كلّ نوع مختلف من المادة هو نوع أقصى للمادة، فإنّ مشكلة اختلاف الصفات الخاصّة بالعناصر الموجودة تظهر: فمثلًا إذا كانت هذه الورقة تتكوّن حقًّا من الهواء، فكيف نحسب لونها وصلابتها ونسيجها و...؟ إمّا أنّ هذه الصفات يجب أن تكون في الهواء الأصليّ، أو لا يجب أن تكون، فإذا كانت الصفات توجد فيه إذًا فإنّ الهواء لن يكون مادّة واحدة متجانسة حقًّا، بل يجب أن يكون ببساطة خليطًا من أنواع المادّة، وإذا لم تكن الصفات موجودة في الهواء، فكيف تنشأ هذه الخواص؟ كيف يمكن لهذا الهواء الذي ليس فيه صفات الأشياء التي نراها أن يبعثها؟»[21]

فقَهْنا إذًا الإشكالات الفلسفيّة والمفارقات المنطقيّة التي قد يطرحها القارئ لحكمة أنكسمانس، مضافًا إلى أنّ فلسفته ليست بمنأى عن التحليل والنقد والنقض، فقد يسألُ سائلٌ سؤالًا مفاده: إذا كان أنكسمانس قد وضع الهواء أوَّل عنصر ميتافيزيقيّ تصدر منه الموجودات وإليه تصير فما أحوجنا أن نطرح سؤالّا آخر أهمّ وهو: ما أصل هذا الهواء؟ هل يتقدّمه هواءٌ آخر أم ماذا؟

3 ـــــ مقالات فيثاغورس/  Pythagorونقضها:

فيثاغورس هو من أبناء بلدة ساموس وهي مدينة قريبة العهد ببلدة ملطيا، وإليه يُنسب مصطلح «فيلاسوفيا» أو «مُحِبُّ الحكمة»، فكان أوّل من أطلق مصطلح الفيلسوف مؤَصَّلًا بالحكمة النظريّة والعمليّة[22]، وُلد فيثاغورس حوالي 570 ق.م، و570 ق.م، ويُعرف بالنِّحلة الفيثاغوريّة أو المدرسة الفيثاغوريّة أكثر مما يعرف مستقلًّا، أي إّن الحكيم فيثاغورس أكثر ما يعرف بالحركة الدينيّة والنِحلة الأورفيّة التي اشتُهرت وقتئذ، والتي من مبادئها الكبرى الإيمان بعقيدة تناسخ الأرواح، وعَجلة الأشياء وضرورة التحرّر[23]، والتحلّي بأسمى الأخلاق الصوفيّة. ويحوز فيثاغورس على شرف إمامة التوفيق بين ثلاث صناعات تبدو متناقضة في الظاهر، هي الرياضيّات والتصوّف والفلسفة، «فالرياضة بمعنى التدليل القياسيّ القاطع تبدأ بفيثاغورس، وهي عنده ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصورة عجيبة من التصوّف، ولم يزل تأثير الرياضة في الفلسفة الذي يعزى إليه إلى حدّ ما، لم يزل منذ عهده حتى اليوم متّصفًا بالعمق وبعدم التوفيق في آن معًا»[24]. هذه عبارات موجزة عن الصورة الدينيّة والأخلاقيّة التي امتاز بها الحكيم فيثاغورس؛ لذا ذاع صيته ربما حتى أكثر من طاليس، وعُرف عند المتأخّرين أكثر من غيره في تلك الفترة الغامضة تَأْريخيًّا. لكن الأهمّ هو نظريّته في الجوهر الميتافيزيقيّ، ما قوله فيه؟ وكيف تصوّر نشأة الكون؟ هل أعاده إلى الواحديّة المادّيّة أم الواحديّة الروحيّة أم أعاده إلى التعدّد والتكثّر؟

كان فيثاغورس يعتقد أنّ الكون كلّه تناغم موسيقيّ، وكلّ شيء فيه يعود إلى العدد الذي هو الجوهر الميتافيزيقيّ الأوحد، يقول الشهرستانيّ :»مبدأ كلّ الموجودات هو العدد(...) فأوّل العدد هو الواحد، وله اختلاف رأي في أنّه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق، وميله الأكثر إلى أنّه لا يدخل في العدد، فيبتدئ العدد من اثنين»[25]

لاحظنا إذًا أنّ الشهرستانيّ لم يفصّل في شأن الواحد، هل حقيقته من الأعداد أم أنّه ينفصل عنها؟ وصرّح صاحب الملل والنحل أنّ «لفيثاغورس رأيًا في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله، وخالفه فيه مَن بعدهُ، وهو أنّه جرَّد العدد عن المعدود، تجريد الصورة عن المادّة، وتصوّره موجودًا محققًا وجرّد الصورة، وتحققها»[26].

والاعتراض بيّنٌ من جهة الشبهة الواقعة في ضرورة التفريق بين الواحد والعدد ككلّ، ليس من جهة تجريد الأعداد ــــ بصفتها جواهر ميتافيزيقيّة ـــ عن المعدودات، وإنّما من جهة غموض العلاقة بين الجوهر الميتافيزيقيّ الأوّل والأعداد التالية من بعده؟ لذا نجد «في التطبيق التفصيليّ لهذا المبدأ ـــ جوهر العدد ـــ على عالم الأشياء مزيجًا من التخيّلات الشاذّة، والمبالغات، أوّلًا: تنشأ كلّ الأعداد من الوحدة، وهي العدد الأوّل، وكلّ عدد آخر هو بكلّ بساطة وحدات كثيرة، (...) وقد وحَّد الفيثاغوريّون بين الفرديّ والمحدود وبين الزوجيّ واللامحدود، وكيفيّة التوحيد هذه تبدو مسألة مليئة بالشكوك»[27].

وبالجملة اتضح أنّ جوهر العدد في نظريّة فيثاغورس غامض ما عدا كونه يترجم المعدود فقط، ولا يمتّ بالجوهر الميتافيزيقيّ الأوّل والمبدع بصورة بيِّنة ومنطقيّة، خاصّة والإشكال لم يزل عالقًا بشأن الواحد الميتافيزيقيّ، والواحد العدديّ الفرديّ الذي يتصدّر التعداد إلى ما لا نهاية له في الإحصاء. وفي كلمة جامعة؛ إنّ الجوهر الميتافيزيقيّ الذي آمن به فيثاغورس لم يميِّزه عن الطبيعة تمييزًا مُفارقًا كتميُّز الروح عن الجسد، بل ميّزه فقط كتميّز القرص عن الدائرة، أو ما شابه هذا، وكأني به لم ينفكّ جوهر العدد عن كونه مجرد تعبير رياضيّ متطوّر ونحن نعلم عن عقلانيّة فيثاغورس الرياضيّة، فما يُستفاد من حكمته في الجوهر أنّه فاق نظيريه طاليس وأنكسمانس بأنّ جرَّد الجوهر عن الطبيعة الحسّيّة كجوهري الماء والهواء؛ إذ العدد غير المعدود، لكنّه لم يصرّح بتعاليه ميتافيزيقيًّا كما نزَّهنا - نحن في إيماننا - الله تعالى عن الكون، فليس كمثله شيء في الموجودات على الإطلاق. 

4 ـــــ مقالات أنباذوقليس/ Empedocles ونقضها:

هو الحكيم الرابع من رهط الحكماء السبعة وقد يجوز لنا أن نكنِّيه بحكيم الأسطقسّ؛ لأنّه عُرف بتأصيل الموجودات بالأسطقسّات الأربعة؛ «وجعل من التراب والهواء والنار والماء العناصر الأربعة (ولو أنّه لم يكن هو الذي استخدم كلمة عنصر)، وكلّ عنصر من هذه العناصر الأربعة قديم، لكن العناصر يمكن أن تمتزج بنسب مختلفة، فينتج عن امتزاجها المواد المركّبة المتغيّرة، التي نصادفها في العالم، والحبّ هو الذي هو الذي يصل هذه العناصر، والبغضاء هي التي تفصلها؛ وكان الحب والبغضاء ــــ في رأي أنباذوقليس ــــ عنصرين أوّليّين يتساويان منزلة مع التراب والهواء والنار والماء»[28].

بيَسير من التأمّل نستفيد أنّه في الوقت الذي أعْلم فيه طاليس بجوهر واحد هو الماء، وما الموجودات إلّا تحوّلات له، وأعْلَمَ أنكسمانس بجوهر الهواء وتحوّلاته، وتاليًا جوهر الواحديّة العدديّة مع فيثاغورس، قَلب أنباذوقليس الواحديّة المادّيّة والعدديّة إلى كثرة مادّيّة، بأن جمع العناصر الأربعة أو الأسطقسّات، وزعم أنّها لا تنفكّ عن التفاعل فيما بينها، وليست كما زعم طاليس يتحوّل الماء ويستحيل إلى جماد وهواء، أو كما زعم أنكسمانس في تحوّل الهواء. أنباذوقليس بحكمته هذه يُعد أبًا للفلسفة المادّيّة بامتياز؛ لأنّه من بعده اتّسعت الفلسفة الذرّيّة القائلة بالجوهر المادّيّ الواحد للموجودات؛ لأنّه بدون شكّ يرغب أن يضع نفسه في صلة مباشرة مع وحدة المادّة عند الأيونيّين وهراقليطس وغيره من فلاسفة الواحديّة المادّيّة[29].

إذًا، نستخلص أنّ الحكيم أنباذوقليس يؤمن بجوهر ميتافيزيقيّ مادّيّ، ذي صور أربعة، منفصلة تمامًا عن بعضها، وفي الآن نفسه تتفاعل بفعل الحبّ والكراهية ـــ كما زعم ـــ هذه الاعتقادات في الحقيقة تفضي به إلى الوقوع في انزلاقات ميتافيزيقيّة ومنطقيّة تمامًا كما وقع نظراؤه من قبله، فيمكن القول والاعتراض بأسئلة إحراجيّة من زاويتين:

النقض الأول ــــ ابتداءً عند تسليمنا جدلًا ـــ مع الحكيم أنباذوقليس ــــ أنّ العناصر أربعةٌ، وهي قديمة ومنفصلة عن بعضها بحسب نوع مادّتها الهيوليّة القديمة، فإنّ السؤال والاعتراض المنطقيّ والميتافيزيقيّ ينشأ عن أوّل هذه العناصر ما هو؟ هل هو الماء؟ أم الهواء؟ أم هو النار؟ أم التراب؟ لا شكّ أنّ أحدها يتقدّم الباقي منها، وفي حال القول بتقدّم إحداها، سينتفي حينئذ اعتقاد قِدَمها كلّها، وتبقى إمكانيّة القِدَم ثابتة لعنصر واحد مادّيّ ميتافيزيقيّ، على أقلّ التقديرات كماء طاليس أو هواء أنكسمانس، أمّا أنباذوقليس فَخَطْبه أكبر حين زعم أنّ العناصر أربعةٌ، وتاليًا هي كلّها قديمة وبسيطة، لا متقدّم فيها ولا متأخّر.

ـــــ النقض الثاني: عند الاعتقاد بقِدَم العناصر الأربعة كجواهر مادّيّة ميتافيزيقيّة لا تنفكّ الموجودات إلّا أن تصدر عنها، يتجّلى بوضوح الاحتكام إلى القول كذلك بقدم العالم كلّه؛ لأنّ حكمة أنباذوقليس تلزمه بحكمة فيزيائيّة مادّيّة محضة مفادها:» أنّ المادة ليست لها بداية ولا نهاية، وأنّها غير مخلوقة ولا يمكن إفناؤها، وهذا هو المبدأ الأوّل عند أنباذوقليس، لقد آمن بأنّه لا توجد صيرورة مطلقة وخلق كامل وتدمير كامل للأشياء، وآمن مع هذا بأنّ الأشياء تظهر وتفنى على نحوٍ ما»[30]

وبالجملة، وبعد هذا التوضيح، يمكن القول إن أنباذوقليس هو الحكيم الجامع لحكماء الجوهر الميتافيزيقيّ المادّيّ بعد طاليس ومدرسته الملطيّة، وهيراقليطس القائل بجوهر النار والتغيّر؛ «فكلّ شيء ينساب ولا شيء يسكن، كلّ شيء يتغيّر، ولا شيء يدوم على حال»[31]، وقد جمع أنباذوقليس جواهرهم الواحديّة المادّيّة ليجعلها أربعة، ويتمّ بذلك العناصر الطبيعيّة، ثمّ إنّه إليه تعود فكرة قِدَم العالم وقِدَم كلّ الجواهر التي ظلّت السِّمة البارزة في الفلسفة اليونانيّة كلّها، على استثناءات قليلة كأفلاطون وجالينوس بسبب فلسفتهما الإلهيّة ـــ كما قال عنهما أبو حامد الغزاليّ: «وحُكي عن أفلاطون أنّه قال: العالم مُكوّن ومحدَث، وذهب جالينوس في آخر عمره في الكتاب الذي سمّاه «ما يعتقده جالينوس رأيًا» إلى التوقّف في هذه المسألة»، وأنّه لا يدري ألعَالم قديم أو محدث؟»[32]، فما نستفيده هاهنا هو فكرة قِدم العالم بناءً على قدم الجواهر الأنباذوقليّة، وهي تلك الفلسفة التي ظلّ علم الكلام الإسلاميّ يُهفتها رادًّا في ذلك على دعاوى الحكماء اليونانيّين، ومن انتحل نحلهم من حكماء الإسلام. وفي عبارة جامعة يُعدّ أنباذوقليس إمامًا للمادّيّة في الفلسفة وناحتًا لفكرة قدم العالم في عقول الحكماء من بعده ولاسيّما أرسطوطاليس؛ أكبر فلاسفة اليونان تصنيفًا في الفلسفة وقولًا للحكمة وتبويبًا لمباحثها.

5 ـــــ مقالات أنكساغوراس/ Anaxagore ونقضها:

يضاف إلى الحكماء الأربعة المذكورين حكيم خامس هو أنكساغوراس، وقد كان ميلاده بآسيا الصغرى، حوالي 500 ق.م، ويذكر عنه أنّه ترك موطنه كلازومينيا، مبدلًا إيّاها بأثينا التي لم يسمع فيها عن الفلسفة والفلاسفة قبل أنكساغوراس، فكان هو الذي نقل الفلسفة إلى بلدة أثينا، وأصبحت في أيّامه المركز الرئيسيّ للفكر الفلسفيّ اليونانيّ، وفيها اتصل أنكساغوراس بكلّ المشهورين في عصره[33]، كما ينبغي التنبيه أنّ أثينا هي المقر الجامع لأكبر فلاسفة اليونان على الإطلاق، كأفلاطون وسقراط وحتى أرسطو رغم ارتحاله إليها من بلدته أسطاغيرا.

المهم من ذِكْر حكمة أنكساغوراس هو مقالاته في الجوهر الميتافيزيقيّ، أهُوَ يتفق مع سابقيه ومعاصريه من الحكماء أم أنّه عارضهم في مقالاتهم؟، ولاسيّما تلك المقالات التي ذكرناها وأجمع حكماؤها على الجوهر الميتافيزيقيّ ذي الطبيعة المادّيّة، لا شكّ أنّنا سنجد إعراضًا وإبدالًا عند أنكساغوراس، وهذا عائد ـــ بالطبع ـــ إلى قراءته لحكمة سابقيه وفقهها بصورة سمحت له أن يفحص ويمحّص ما يجب أن يُقال؛ فما قوله في الجوهر يا ترى؟

لعلّنا لا نجانب الصواب في تقريرنا أنّ أنكساغوراس يُعدّ من الأوائل الذين آمنوا بجوهر روحانيّ للعالم أو الكون؛ ذلك أنّنا نجده أعرض عن تلك الجواهر المادّيّة التي اعتقدها الحكماء من قبله، الماء والهواء والأسطقسّات الأربعة وغيرها، لقد تصوّر أنكساغوراس قوّة محركة ليست من طبيعة فيزيائيّة وغير جسمانيّة، هي العقل الكلّيّ،  هذا الأخير الذي ينتج الحركة في عالم الأشياء كلّها[34].

لكن النقد والنقض على جوهر العقل الكلّيّ لأنكساغوراس ينشأ من ناحية الغاية من وجود العقل أصلًا، ففي حكمته «العقل والمادّة يوجدان جنبًا لجنب منذ الأزل، إنّ العقل لم يخلق المادّة، وكلّ ما هنالك أنّه ينظّمه (العالم)، يقول أنكساغوراس: «إنّ الأشياء جميعًا كانت معًا متعدّدة بشكل لا متناهٍ، وقليلة بشكل لا متناهٍ، ثمّ جاء العقل وبثّ فيها النظام»[35]. هنا يبقى الإشكال عالقًا دومًا، وهو زمان وجود العقل والمادّة، فبكلّ روح علميّة وبكامل النزاهة المنطقيّة اقترب أنكساغوراس ــــ صراحة ـــ من إصابة كبد الحقيقة، التي تكاد توافق الأديان السماويّة في كون الخالق هو المدبّر والمبدع والباري للمادّة والمنظّم تاليًا لها وفق غائيّة كاملة الدقّة والنظام، لكن ما وقع فيه أنكساغوراس هو مأزق تسوية المادّة بالعقل الكلّيّ، من حيث الزمان الوجوديّ، قال إنّهما موجودان جنبًا لجنب منذ الأزل، ما يجعل العقل المنطقيّ والحس النقديّ يطرح سؤالًا هو: أيّهما يتقدّم الآخر؟ المادّة أم العقل الكلّيّ؟ هنا لم يقدّم أنكساغوراس علاجًا للإشكال؛ لأنّ عقله ـــ وببساطة ـــ لا يقبل أن يعمَد العقل الكلّيّ الميتافيزيقيّ إلى تنظيم مادّة هو أبدعها، فاختار أن يسوّي بينهما كتساوي مجيء العقل وجسم الإنسان، العقل غير جسمانيّ، لكنّه هو الناظم الكلّيّ للجسم، ولم يسبقه زمانًا بل أتَيا مع بعض بالتَّساوق، لم يتقدّم أحدهما الآخر. وبعبارة أخرى «من المحال أن يتبدّد شيءٌ إلى لا شيء، «فكأنّ هناك حفظًا للمادّة وتسرّبها مع سيل من الانقسام لا ينقطع ولا ينتهي»[36]، وإذَّاك يقع النقد، ويتبلور الاعتراض على حكمة أنكساغوراس، في كلمة جامعة؛ العقل الكلّيّ حكمة فعَّلت نشاط عقول كبيرة كعقلي أفلاطون وأرسطو، لكن يا ليت هذا العقل الأنكساغوريّ سبق وجودُه الميتافيزيقيّ وجودَ هذه المادة الجسمانيّة؟

6 ـــــ مقالات سقراط / Socrate وتلميذه أفلاطون / Platon ونقضها:

يعتبر سقراط الشخصيّة اللغز في الفكر اليونانيّ القديم رغم ذيوع صيته، وكثرة الإخبار عن سيرته، فمن الطريف أنّه «كان مؤمنًا، ولذلك شعر بالحيرة، ولذا تبدّلت حياته كما تبدّلت حياة النبي «موسى» حين سمع الإله من بين الأحراش المحترقة»[37]. إنّنا فضّلنا تلخيص مقالات سقراط وأفلاطون متلازمتين لسببين؛ أمّا الأوّل فلأنّ أفلاطون حكيم تتلمذ على يد الحكيم سقراط، وكما هو معلوم فإنّه قليلًا ما يخرج التلميذ عن أستاذه، وبذلك يتشابهان في مقالاتهما، بل ويتطابقان في الغالب، وأمّا السبب الثاني؛ فهو أنّ أفلاطون - ولولائه الكبير لأستاذه سقراط - صنّف محاوراته الفلسفيّة على لسانه، وهنا ينشأ السؤال: هل سقراط كان يقول الحكمة وتلميذه أفلاطون مجرّد كاتب فقط، أم أنّ سقراط لم يكتب كتابًا ولا رسالة؟ فعمد إذّاك أفلاطون إلى تخليد حكمته في محاوراته، وما فلسفته هو (أفلاطون) إلّا تدعيم وتطوير وشروح لفلسفة أستاذه، وبالجملة يتّفق أفلاطون وأستاذه في مقولة الجوهر الميتافيزيقيّ الروحيّ؛ لأنّه «أخذ عن فيثاغورس اليونانيّ وشارك سقراط في الأخذ عنه، ولم يشتهر ذِكْره بين علماء يونان إلّا بعد موت سقراط»[38]، فكلاهما يؤمن بإله الآلهة أو مثال المُثل وهو مفارق للموجودات السفليّة، واتفاقهما في قضيّة الجوهر هو السبب الوجيه الذي جعلنا نجتهد في إدماج حِكمتهما؛ لذا سنسعى إلى تلخيص مقالاتهما في الجوهر وتحليلها ونقدها ونقضها.

أفلاطون هو صاحب نظريّة المـُثل، لكن هي في الحقيقة نتيجة متطوّرة لنظريّة سقراط في المفاهيم العقليّة الجامعة للإدراكات الحسّيّة؛ لقد آمن سقراط بأنّ «كلّ معرفة هي معرفة من خلال المفاهيم، وأنّ العقل هو ملكة المفاهيم»[39]، والمفهوم الذي يقصده سقراط هو المقولة الجامعة للخصائص المشتركة لعالم الأشياء، وقد بلغ بالتعقيل الفلسفيّ درجة متقدّمة من المنطق، حيث تسنّى له أن يُجوهِر - إنْ صحّ القول - الموضوعات الحسّيّة وغيرها من الموضوعات المعنويّة في قوالب تشترك فيها؛ لذا فليس ثمّة سماء زرقاء، بل ثمّة مفهوم للأزرق ومفهوم للسماء، وما إلحاق صفة الزرقة للسماء إلّا عَرَضًا وليس جوهرًا، كون اللون الأزرق قد يضاف لغير السماء، فيُضاف للنجم مثلًا، وهكذا بالنسبة لسائر الأعراض المتعدّدة والمتكثّرة.

لا شكّ أنّ المفهوم السقراطيّ كان دافعًا قويًا ومقدّمة بالغة الأهمّيّة لتطوّر مفهوم الجوهر الميتافيزيقيّ من طبيعته المادّيّة التي شهدناها بوضوح مع الحكماء ما قبل ظهور سقراط وأفلاطون، نحو الجوهر الميتافيزيقيّ ذي الطبيعة الروحيّة، فمع أنكساغوراس إشارة غير مكتملة لروحانيّة الجوهر في مقولة العقل الكلّيّ، ولكن مع سقراط في فلسفة المفهوم أضحت روحنة الجوهر متجلّية، بأن جرَّد المفهوم شيئًا فشيئًا حتّى نادى في الناس بالتوحيد ونهى عن عبادة الأصنام التي هي مجرّد أعراض حسّيّة، لا تستحقّ حتى النحت والتشكيل في أحسن صورة، «نهى الرؤساء الذين في زمانه عن عبادة الشرك وعبادة الأوثان؛ فثوّروا عليه الغاغة(السّفلة من الناس)، وألجأوا ملكهم إلى قتله، فحبسه الملك، ثمّ سقاه السمّ، وقضيّته معروفة»[40].

إذًا لقد عرفنا أنّ الجوهر الميتافيزيقيّ عند هذين الحكيمين هو المفهوم الذي تطوّر مع أفلاطون وأصبح يسمّى بالمثال، وهنا يورد أفلاطون قولًا على لسان سقراط ومحاوره يقول: «والمثال كلّه كيف تتصوّره حاضرًا في كلّ واحد من الكثرة؟ هل يظلّ واحدًا أم ماذا؟.. ردّ سقراط قائلًا: وماذا يمنعه أن يبقى واحًدا يا بارمينيدس، إنّه في هذه الحالة يبقى واحدًا وهو هو، ويكون حاضرًا كلّه معًا في أشياء متكثّرة ومنفصلة، وعلى هذا يكون منفصًلا عن نفسه»[41]، هذه العبارة الأفلاطونيّة تلخّص لنا حكمة المثال ونظريّة المثل التي ظلّت الطابع المميّز لفلسفة أفلاطون والفلسفة العقلانيّة من بعده.

لكن النقد والاعتراض يلزم سقراط وتلميذه أفلاطون، خاصّة ونحن نقف أمام فلسفة تلفيقيّة غامضة بين عالم الحسّ وعالم المثل، لا شكّ أنّ أفلاطون وضع العرضيّات في العالم المحسوس واعتقد بالجواهر التي هي المثل في العالم المعقول، أو عالم المثل والنماذج الأزليّة، لكن هذا لا يسْلم من النقد؛ لأنّ المنطق المـُسيِّر هاهنا هو مجرد المشاركة فقط، ولكن هذه المشاركة ستكون من أهمّ الصعوبات والإشكالات الفارقيّة؛ إذ كيف لنا أن نربط المحسوس بالمعقول؟ وكلّ منهما له طبيعة مغايرة للآخر؟ كما يتعذّر تفسير المشاركة مادّيًّا بسبب اختلاف الطبيعتين، عالم الحسّ مادّيٌّ وعالم المثل روحانيٌّ، وهي أيضًا لا يقصد بها المحاكاة، وإذًا فسيظلّ الانفصال مطلقًا وتامًّا بين المحسوس ومثاله، أو بين المحسوس والمعقول، رغم رسوخ الاعتقاد الأفلاطونيّ/ السقراطيّ به[42].

إنّ نظريّة المثل الأفلاطونيّة بوصفها ذروة الجوهر الروحانيّ عند سابع الحكماء السبعة، وقد أَسْرَع أحد أبرز تلاميذ أفلاطون إلى إبطالها ووصفها بالرمزيّة والأدب الخياليّ لا أكثر، ويستوقفنا ردّ أرسطو على أستاذه حين وصف أفلاطون بالعمق الشعريّ والخياليّ في نظريّة المثل فقال: «وكما أنّ هذه الآلهة ليست سوى أناسًا مؤَلَّهين، فإنّ المثل ليست سوى أشياء الطبيعة وقد أضفى عليها الخلود» لقد قيل إنّ الأشياء هي نُسَخ للمثل، ولكنّنا نجد في الواقع أنّ المثل ليست سوى نُسَخ الأشياء»[43] .

وكأنّي بأرسطو يريد أن يقول إنّ عالم المثل ليس يوجد في عالمٍ ما ومفارق، بل إنّ وجوده في عقل أفلاطون فقط، وأمّا العالم الحقيقيّ - الذي يزعم أفلاطون زيفه - هو العالم الحسّيّ الطبيعيّ الواقعيّ الذي بنى عليه أرسطو فلسفته كلّها، مؤذِنًا في عقول الحكماء من بعده بالاعتراض على نظريّة أستاذه في جوهر المثال، والإعراض عنها مؤسّسًا نظريّة أخرى تقوم على أساس الواقع، وبهذا قَلَب مزاعم أستاذه، فاتّخذت مقولة الجوهر الكونيّ مسارًا آخر لن نتحدّث عنها هاهنا؛ لأنّ كلامنا كان مقرّرًا عن الحكماء السبعة، وبالجملة هذا ما أردنا تبيانه بخصوص مفاهيم الجوهر الميتافيزيقيّ المادّيّ والروحيّ في متن الفلسفة ما قبل الأرسطيّة؛ بداية بطاليس الملطيّ ووصولًا إلى أفلاطون الأثينيّ.

ولنا أن نختم بنصّ ابن خلدون الذي أجمل الإبطال لمزاعمهم وصرّح بتهافت دعاويهم؛ يقول:»واعلم أنّ هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأمّا إسنادهم الموجودات كلّها إلّا العقل الأوّل واكتفاؤهم به في الترقّي إلى الواجب، فهو قصور عمّا وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقًا من ذلك»[44]. هذا العقل الذي عهدنا تسميته بالجوهر الميتافيزيقيّ ذي التجلّي المادّيّ أو الروحيّ.

خاتمة:

بعد محاولتنا المتواضعة في تحليل ونقد حكمة الحكماء السبعة في الجوهر الميتافيزيقيّ بداية من طاليس الملطيّ ونهاية بأفلاطون الأثينيّ، نرى  أنّه من الأنسب الاجتهاد في استجماع أهمّ النتائج وتقديمها في شكل نقاط:

من خلال تحليل حكمة الحكماء السبعة، تبدو فلسفتهم - رغم بساطتها - بالغة الأهمّيّة بالنظر إلى تناميها شيئًا فشيئًا، وتأثيرها المتتالي على من لحقهم من حكماء أيضًا.

انقسم مفهوم الجوهر إلى جوهر مادّيّ شاهدناه مع طاليس في الماء، ومع أنكسمانس في الهواء، ومع أنباذوقليس في الأسطقسّات الأربعة، وإلى جوهر روحيّ لمسناه مع أنكساغوراس في العقل الكلّيّ، ومع سقراط وأفلاطون في المثل العليا، ويبقى جوهر العدد عند فيثاغورس متوسّطًا الطبيعتين المادّيّة والروحيّة، تمامًا كما توسّطت صناعة الرياضيّات العالم المعقول والعالم المحسوس.

تبيّن لنا أنّ الحكماء السبعة ولمّا تعدّد مفهوم الجوهر بينهم بتكثّر صوره، بات من الموضوعيّة العلميّة الإقرار بتهافت حِكْمتهم - على الأقلّ في إشكال الجوهر المتعدّد -؛ إذ ليس من المنطق في شيء أن يتصوّر عاقل تعدّد صور الجوهر؛ لأنّ الرويّة الناظرة بالبصيرة تبحث عن جوهر واحد، إليه تفتقر سائر الجواهر والأعراض. 

نستنتج في الأخير أنّ شيوع الكلام عن الجواهر المادّيّة عند أغلب الحكماء السبعة، ولاسيّما الأوائل منهم، أفضى إلى ميلاد فكرة قِدم العالم التي قال بها أغلب الفلاسفة الغربيّين المتقدّمين منهم والمتأخّرين، وهي الفكرة التي أجَّجت الصّراع بين الأديان السماويّة والفلسفات الأرضيّة، وقد تكفَّل علم الكلام الإسلاميّ منذ قرون خلت بالتصدّي لهذه الفكرة الغربيّة، والتي تعود بذور نشأتها الأولى إلى حكمة الحكماء السبعة في التأسيس للجوهر المادّيّ للكون.

ــــــ مكتبة البحث:

1 ــــ ابن خلدون: المقدّمة، تحقيق: حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، ط1، القاهرة، 2004، ص 662.

2 ــــ أرسطوطاليس: النصّ الكامل لمنطق أرسطو، تحقيق: فريد جبر، مراجعة: جيرار جيهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبنانيّ، ط1، بيروت، 1999.

3 ـــــ أفلاطون: محاورة بارمينيدس: ترجمة: حبيب الشارونيّ، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة، 2002.

4 ــــ أندري لالاند: موسوعة لالاند الفلسفيّة، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، ط2، بيروت/ باريس.

5 ـــــ برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربيّة، الفلسفة القديمة، ترجمة: زكي نجيب محمود، مراجعة: أحمد أمين، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 2010.

6 ــــ جعفر آل ياسين: فلاسفة يونانيّون، العصر الأوّل، مطبعة الإرشاد، ط1، بغداد، 1971.

7 ـــــ جورج رديبوش: سقراط، ترجمة أحمد الأنصاريّ، مراجعة: حسن حنفي، المركز القوميّ للترجمة، ط1، القاهرة، 2014.

8 ــــ جيرار جيهامي: موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، بيروت، 1998.

9 ــــ شمس الدين الشهرزوريّ: تاريخ الحكماء قبل الإسلام وبعده، تحقيق: عبد الكريم أبو شويرب، دار بيبليون، باريس، 2007.

10 ـــــ الشهرستانيّ أبو الفتح: الملل والنحل، ضبط وتعليق: كسرى صالح العلي، مؤسّسة الرسالة ناشرون، ط1، بيروت.

11 ـــــ عبد المنعم الحفنيّ: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 2000.

12 ـــــ عزّت قرني: الفلسفة اليونانيّة حتّى أفلاطون، طبع جامعة الكويت، 1993.

13 ـــــ علي سامي النشّار وآخرون: ديمقريطس فيلسوف الذرة، الهيئة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، الإسكندريّة.

14 ــــ علي سامي النشّار ومحمد علي أبو ريّان وعبده الراجحي: هيراقليطس فيلسوف التغير، دار المعارف، ط1، مصر، 1969.

15 ــــ الغزاليّ أبو حامد: تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، ط1، دت، مصر.

16 ــــ القفطيّ جمال الدين: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، تعليق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت، 2005.

17 ـــــ محمّد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفيّ اليونانيّ، الفلسفة اليونانيّة من طاليس إلى أفلاطون، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، ط2، الإسكندرية، 2014.

18 ـــــ وولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانيّة: ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 2005.

------------------------------


[1] أندري لالاند: موسوعة لالاند الفلسفيّة، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، ط2، بيروت/ باريس، ص 366.

[2] أرسطوطاليس: النصّ الكامل لمنطق أرسطو، تحقيق: فريد جبر، مراجعة: جيرار جيهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبنانيّ، ط1، بيروت، 1999، ص 40.

[3] أرسطوطاليس: المصدر نفسه: ص 41.

[4] جيرار جيهامي: موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، بيروت، 1998، ص 213.

[5] جيرار جيهامي: المرجع نفسه، ص 51.

[6]* ليبنتز / Leibniz فيلسوف ورياضيّ ألمانيّ حديث، من مؤلّفاته، "في إصلاح الفلسفة الأولى وفي معنى الجوهر"(انظر معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، ص 581)

[7] أندري لالاند :المرجع السابق: ص 828.

[8] جيرار جيهامي: المرجع السابق: ص 214.

[9] المرجع نفسه: ص 219.

[10] عبد المنعم الحفني: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 2000، ص 267.

[11] شمس الدين الشهرزوري: تاريخ الحكماء قبل الإسلام وبعده، تحقيق: عبد الكريم أبو شويرب، دار بيبليون، باريس، 2007، ص 42.

[12]* الملطية: وتسمى عند الغربيّين ميليتس، احتلها الفرس، وخربها المقدونيون، وتقع الآن في البلاد التركية.( انظر الملل والنحل للشهرستاني، ص 337).

[13]* ساميا: بلدة يونانيّة قديمة تسمى حاليا ساموس، وهي جزيرة يونانيّة شمالي بحر إيجة، قرب الساحل التركي.(انظر الملل والنحل ص 337)

[14] الشهرستاني أبو الفتح: الملل والنحل، ضبط وتعليق: كسرى صالح العلي، مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، بيروت، ص 337.

[15] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربيّة، الفلسفة القديمة، ترجمة: زكي نجيب محمود، مراجعة: أحمد أمين، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 2010.  ص 63.

[16] وولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانيّة: ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 2005، ص 26.

[17] وولتر ستيس:المصدر نفسه، ص 26.

[18] الشهرستانيّ أبو الفتح: المصدر السابق، ص 339.

[19] برتراند رسل: المصدر السابق، ص 62..63.

[20] برتراند رسل: المصدر نفسه، ص 66.

[21] وولتر ستيس: المصدر السابق، ص 30

[22] عزت قرني: الفلسفة اليونانيّة حتى أفلاطون، طبع جامعة الكويت، 1993، ص 33.

[23] وولتر ستيس: المصدر السابق، ص 32.

[24] برتراند رسل: المصدر السابق، ص 69.

[25] الشهرستانيّ أبو الفتح: المصدر السابق، ص 350.

[26] المصدر نفسه: ص 349.

[27] وولتر ستيس : المصدر السابق، ص 35

[28] برتراند رسل: المصدر السابق،  ص 109..110.

[29] علي سامي النشّار وآخرون: ديمقريطس فيلسوف الذرّة، الهيئة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، الإسكندريّة، ص 150.

[30] وولتر ستيس: المصدر السابق، ص 62.

[31] علي سامي النشار ومحمد علي أبو ريان وعبده الراجحي: هيراقليطس فيلسوف التغير، دار المعارف، ط1، مصر، 1969. ص 39.

[32] الغزاليّ أبو حامد: تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، ط1، دت، مصر، ص 88.

[33] وولتر ستيس: المصدر نفسه، ص 70.

[34] وولتر ستيس: المصدر السابق، ص 72.

[35] المصدر نفسه: ص 74.

[36] جعفر آل ياسين: فلاسفة يونانيّون، العصر الأوّل، مطبعة الإرشاد، ط1، بغداد، 1971، ص 94.

[37] جورج رديبوش: سقراط، ترجمة أحمد الأنصاريّ، مراجعة: حسن حنفي، المركز القوميّ للترجمة، ط1، القاهرة، 2014، ص 42.

[38] القفطيّ جمال الدين: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، تعليق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت، 2005، ص 20.

[39] وولتر ستيس: المصدر السابق، ص 99.

[40] الشهرستانيّ: المصدر السابق، ص 356.

[41] أفلاطون: محاورة بارمينيدس: ترجمة: حبيب الشاروني، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة، 2002، ص 18.

[42] محمّد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفيّ اليونانيّ، الفلسفة اليونانيّة من طاليس إلى أفلاطون، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، ط2، الإسكندريّة، 2014، ص 189.

[43] وولتر ستيس: المصدر السابق، ص 172.

[44] ابن خلدون: المقدّمة، تحقيق: حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث، ط1، القاهرة، 2004، ص 662.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف