البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

March / 21 / 2022  |  1158معنى الحياة والمأزق الوجودي، استقراء نقدي لأعمال فلاسفة غربيين

صابرين زغلول السيد المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ربيع 2021 م / 1442 هـ
معنى الحياة والمأزق الوجودي، استقراء نقدي لأعمال فلاسفة غربيين

تتحدّث هذه الدراسة عن تداعيات النقاش الفلسفيّ الذي جرى في الغرب حول طبيعة ومعنى الحياة والمأزق الوجوديّ الذي تعكسه تلك التداعيات. وقد سعت الباحثة الدكتورة صابرين زغلول السيّد إلى تظهير المعنى السلبيّ والتشاؤميّ للحياة البشريّة عند عدد من كبار روّاد الحداثة، ووقفت عند أبرز مواقفهم والأسباب التي أدّت بهم إلى النظر في معنى الحياة انطلاقًا من العدميّة واللّاجدوى.

ولعلّ أبرز الفلاسفة الذين تناولتهم هذه الدراسة بالنقد والتحليل هم: شوبنهاور ونيتشه وسارتر والبير كامو، باعتبار هؤلاء نماذج مؤسِّسة لعدميّة الحياة في الحداثة الغربيّة المعاصرة.

المحرِّر


ما الذي يجعل للحياة معنى؟ سؤال!! ربما يكون هو السؤال الأكثر أهمّيّة على الإطلاق، حيث يرتبط بشكل حيويّ ببقاء الإنسان وازدهاره، إنّه أيضًا السؤال الأكثر تعقيدًا؛ لأنّه يمسّ جوانب الحياة الإنسانيّة - البيولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والروحيّة كلّها؛ لذا تعدّ إشكاليّة معنى الحياة من أكثر الإشكاليّات التي واجهها الإنسان منذ أن وطأت قدمه أرض الله[1]، فهو المخلوق الوحيد الذي تعلّم أن يطرح الأسئلة، فإذا كانت للحيوانات غرائز ترشدها، فإنّ الإنسان بفطرته تعلّم دائمًا أن يطرح أسئلة عن معنى وجوده وحياته، فهو يسأل: من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ إلى أين أنا ذاهب؟…هل يوجد سبب للوجود؟ هل يوجد سبب للموت؟ هل هناك حياة بعد الموت أم أنّنا سنذهب في مهبّ الريح بمجرّد انتهاء هذه الحياة؟ وما معنى هذه الحياة من الأساس؟ وغيرها العديد من الأسئلة التي حاول الفلاسفة وغير الفلاسفة على حدّ سواء الإجابة عليها .

وعلى الرغم من أنّ السؤال عن معنى الحياة شكّل مصدر قلق إنسانيّ منذ بداية الحياة الإنسانيّة، إلّا أنّ أوّل ظهور للمصطلح الإنجليزيّ معنى الحياة (meaning of life) كان في عام 1834 في كتابات توماس كارلايل (1795-1881)[2]، وسرعان ما انتشر الاستخدام بين الفلاسفة وغيرهم في محاولة للإجابة على العديد من الأسئلة التي أثيرت حول هذا الموضوع، لكنّ معظم الإجابات عادت ولم تكن مبهجة، بل جاءت معظمها محمّلة بنظرة مظلمة متشائمة، ولا سيّما عند الفلاسفة الذين فقدوا حسّهم الدينيّ، حيث حاول هؤلاء إزاحة أغلال الدين، في محاولة للإجابة عن معنى الحياة دون الرجوع إلى الله.

فمنهم من فكّر في أن يكون معنى الحياة هو الإرادة العمياء وتحقيق الأنانيّة مهما كلّف ذلك، ومنهم من أقصى الضعفاء والمرضى من الحياة الإنسانيّة ليصبح قانونها الغالب هو البقاء للأقوى ولا مكان للضعفاء بهذا العالم، وعلى الضعيف أن يتوارى ليفقد مكانه في هذه الحياة، فعمل على التخلّص من القيود المقدّسة، وقام بقتل الله، وبدلًا من قتل الله، تمّ قتل القيمة الإنسانيّة، فاغترب الإنسان وتوارت معه كثير من الآمال الأخرويّة التي كانت أملًا يسعى للفوز بها، ومنهم من حوّل هذه الحياة إلى مسرح من العبث يفعل فيه كلّ فرد ما يشاء وقت ما يشاء طالما اختار ذلك بحرّيّته وإرادته، مما جعل الإنسان الغربيّ يقف وسط مأزق وجوديّ بين طريقين؛ إمّا اتّباع طريق الحرّيّة والعبث الوجوديّ، وإمّا أن ينأى بنفسه في وثبة نحو الدين، كِلا الموقفين شكّلا جوهر الفكر الغربيّ المعاصر لمعنى الحياة، بين إزاحة أغلال الدين، وبين وثبة من جديد نحو الدين تبنّاها عدد من الفلاسفة الغربيّين الذين حملوا على عاتقهم مهمّة الدفاع اللاهوتيّ والتوجّه من جديد -كلّما اشتدّ المأذق الوجوديّ للإنسان- نحو عمق الحياة الدينيّة لما تتركه من آثارعلى النفس والحياة الإنسانيّة.

في السطور الآتية سوف أناقش معنى الحياة وفقًا لتصوّر عدد من المفاهيم الوجوديّة، التي عملت وفقًا لمنظور إقصائيّ لكلّ ما هو مقدّس ودينيّ، وفيه أعطى الفلاسفة معنى للحياة من خلال وجهة نظر تحمل تداعيات ذاتيّة، معتمدة على عقل أداتيّ مرتبط بكلّ ما هو أرضيّ ودنيويّ، وتمثّل ذلك بصفة خاصّة لدى كلٍّ من شوبنهور ونيتشه وهيدجر وسارتر وألبير كامو كنماذج لهذا الاتجاه.

شوبنهور والمعنى المتشائم للحياة

يمكن القول إنّ وجهة الفيلسوف الألمانيّ آرثر شوبنهور (1788-1860) والذي كان معاصرًا لكاريل هي نقطة الانطلاق في البحث الفلسفيّ الغربيّ الحديث في مشكلة معنى الحياة، وقد طرح شوبنهور سؤاله عن معنى الحياة، فجاءت إجابته على هذا السؤال إجابة محبطة متشائمة، فقد رأى أنّ الغرض من الحياة هو المعاناة، حيث إنّنا نُعاقب على الخطيئة ونُعاقب على جريمة الولادة، ونُعاقب على وجودنا، إنّنا دائمًا نتألّم، إنّ الحياة التي نعرفها - كما يبيّن شوبنهور- هي أشبه بحكاية ماكبث التي يرويها أحمق، إنّها «مهزلة» على حدّ تعبيره؛ ذلك أنّ الإنسان لا يتغيّر، وخصاله الأخلاقيّة تظلّ كما هي طوال حياته، ولأنّه يعيش حياة من الرتابة، حيث يدور في فلكه الخاصّ دون انحراف، فقد وجَبَ عليه أن يؤدّي الدور الذي عليه، دون أدنى انحراف عن شخصيّته؛ وبما أنّ الفلسفة والدين وحتّى الخبرة الحياتيّة لا يمكن أن تحدِثَ أيّ تحسّن فيه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه في الفلسفة الغربيّة الحديثة هو عن معنى الحياة على الإطلاق؟[3].

بدأ شوبنهاور فلسفته بالبنية الميتافيزيقيّة التي ورثها عن كانط وأخذ يفرّق بين الشيء في ذاته (النومين) وعالم الظواهر (الفينومين)، وقد رأى أنّ الشيء في ذاته هو إرادة الحياة، فمن خلال إرادة الحياة «والإرادة وحدها هي التي يمكن أن تمنحنا مفتاح تفسير ظاهرة وجودنا الخاصّ وتكشف لنا عن مغزى وجودنا وتبيّن لنا الآليّة الباطنيّة الكامنة وراء الوجود و أفعاله وحركاته»[4].

 فمن خلالها نستطيع تفسير الوجود والعالم والحياة، إنّها المحرّك الأوّل الذي يحرّك كلّ الموجودات، كما أنّها أيضًا سرّ الوجود، فالإرادة ببساطة هي القوّة الأساسيّة والواقع الذي تكمن وراءه كلّ الأشياء، بينما العالم الذي نعرفه ونعيش فيه، عالم الظواهر(الفينومين)، هو مجرّد مرآة لهذه الإرادة، وهو غير حقيقيّ على الإطلاق. «بل ربما يكون شيطانيًّا،  إنّه كفاح أعمى، وشغف لا يهدف في النهاية إلى أيّ شيء سوى الاستمرار في تعظيم الذات، التي هي في حد ذاتها تناقض داخليّ، وسيظلّ هذا الصراع الداخليّ مستمرًّا بين بلايين الأشياء الفرديّة في مثل هذا العالم»[5]، حيث تنغمس الذات في هذا الصراع وينغمس الآخرون، ولن يجد الإنسان إلّا حياة البؤس والمعاناة؛ لذلك يعيش الجميع تقريبًا، حياة لا معنى لها من الخارج والداخل، إنّها حياة مملّة وبلا معنى.

 لذلك يؤكّد شوبنهور أنّ عالم الظواهر هو عالم مليئ بالبؤس والألم والمعاناة. ونادرًا ما نحصل فيه على مكان للسعادة؛ لذا كان قطبا الحياة البشريّة هما الألم (العوز، والرغبة، والتوتر) والملل.

لقد شكّلت الإرادة اللبنة الأساسيّة التي بُنيت عليها فلسفة شوبنهور ككلّ، وقد ظهر ذلك مع ظهور كتابه الرئيسيّ: (العالم إرادة وتمثّلًا)، حيث وضع شوبنهور بعدًا معرفيًّا لمفهوم الإرادة، فقد جعل منها الجوهر الأساسيّ للوجود والذات الإنسانيّة، وهنا يختلف مع كانط الذي جعل الفكر جوهر الوجود الإنسانيّ، ومن خلال ذلك أكّد شوبنهور أنّ العالم ليس تصوّرًا خالصًا ومحضًا فقط، بل هو إرادة تسكن الإنسان وتسبق العقل وتتقدّم عليه وغير خاضعة لمقولتي الزمان والمكان، باعتبار أنّها مستقلّة وغير خاضعة لا لقوانين الطبيعة ولا لمبدأ العقل الذي تسبقه وتحدّده[6].

لقد أطاح شوبنهور بسلطة العقل لإفساح المجال لسلطة الإرادة وحدها، بل ذهب أبعد من ذلك، وجعل العقل خادمًا تقوده الإرادة، وبالتالي فالإرادة كما يصوّرها شوبنهور هي الإنسان الأعمى القويّ الذي يحمل العقل على كتفيه باعتباره إنسانًا مبصرًا وأعرج، فنحن لا نريد شيئًا؛ لأنّنا وجدنا أسبابًا له، ولكن نجد أسبابًا له لأنّنا نريده[7]، وهذا شبيه بقول باروخ إسبينوزا بأنّنا لا نرغب في الأشياء لأنّها طيّبة، بل نعتبرها طيّبة لأنّنا نرغب فيها، وهذا يدلّ على نسبيّة المعرفة من إنسان لآخر، حيث الذات البشريّة هي التي تخلع على الشيء أهمّيّته، فالخير هو ما يظهر لي لا أن يكون الموضوع خيرًا في حدّ ذاته، وكذلك الشرّ وهو ما ينعكس على معنى القيم الإنسانيّة؛ لذا يؤكّد شوبنهور أنّ معنى حياة المرء لا تعتمد على الظروف الخارجيّة للفرد، بل على الطريقة التي ينظر بها المرء إلى الحياة، حيث ينظر كلّ إنسان إلى الحياة بشكل مختلف، وبالتالي فإنّ معنى الحياة يختلف اختلافًا كبيرًا من شخص لآخر، فالحياة بالنسبة لشخص قاحلة، مملّة، وسطحيّة، بينما هي عند شخص آخر غنيّة وممتعة ومليئة بالمعنى.

لدى شوبنهور إجابة تكمن في «الخلاص»، والخلاص هو الإنكار التامّ للإرادة، حيث يجيب شوبنهور أنّ معنى الحياة هو الإنكار والهدوء وإلغاء إرادة الحياة التي هي أساسًا الذات، والتي يرى أنّ أكثر ما يعبّر عنها بوضوح هي البوذيّة التي تحاول تحقيق النيرفانا أو العدم، والتي تعدّ بالنسبة لشوبنهور الحالة المثاليّة للحياة.

ويحلّل ذلك بأنّ البشر يمثّلون أعلى تطوّر ممكن للأخلاق والذكاء[8]. لقد أراد شوبنهورللإنسان أن يصبح أسمى قيمة موجودة في عمليّة الخلق، بل حولّه ليصبح (الكائن الأعلى)، ومن وجهة نظره لا يوجد أيّ دليل على وجود كائن أعلى من البشر، ولا يمكن أن يكون هناك.

لذا يعتقد، أنّ القدّيسين والزهّاد في جميع الأديان هم الأكثر أخلاقًا وفكرًا من إخوانهم البشر، بل هم القادرون على رؤية أنّ هذا العالم الذي هو أسوأ العوالم الممكنة، لذلك كانت أخلاق القدّيسين هي التي تقودهم بالبصيرة إلى إماتة أنفسهم أو إنكارها، ومن ثمّ يتضح لشوبنهاور أنّه إذا حاولنا أن نتخيّل كائنًا أكثر ذكاءً وصالحًا (على سبيل الافتراض)، مثل الله، أو كائنًا متفوّقًا بشكل (حتى لو بشكل هامشيّ على القدّيسين )، فسوف ندرك أنّ مثل هذا الكائن سوف يقضي على نفسه على الفور عندما يدرك مدى تمرّد هذا العالم[9].

وإذا كان شوبنهور قد أنكر وجود الله، فإنّ حجّته في ذلك هي حجّة نفسيّة يقودها فقط من أجل تحويل الإنسان إلى كائن أعلى، ويبدو من هذا أنّ الإلحاد عنده هو انعكاس واضح لفلسفته، نظرًا لأنّ هذا العالم هو في الأساس إرادة أبديّة عمياء للحياة، فلا يبدو أنّ ثمّة أيّ حاجة لإله ذكيّ وصالح يخلق هذا العالم. وقد نشر ذلك في كتابه العالم إرادة وتمثّلًا الذي عبّر من خلاله عن إلحاده الضمنيّ، وليس معلنًا بشكل مباشر كما فعل نيتشه في موت الإله. 

فريدريك نيتشه (1844-1900)

 لم تكن فلسفة نيتشه أقلّ تشاؤمًا من فلسفة شوبنهور، حيث لم يُبصر هو الآخر سوى الوجه القاتم من الحياة عندما انطلق من وحي فلسفة شوبنهور، من خلال كتابه «العالم إرادةً وتمثّلًا» وعلى الفور تأّثر بفكر شوبنهاور واستشعر انجذابًا عميقًا نحوه، وكما يقول أحسّ بأنّ هذا الكتاب كُتب خصيصًا له.

فسار على خطى شوبنهور التشاؤميّة، وإن اختلف معه في زوايا الرؤى التي سعى إليها كلٌّ منهما، فإذا كان شوبنهور أعطى مكانة لرجال الدين وأنّهم الأكثر أخلاقًا وفكرًا، فإنّ نيتشه عكس ذلك، حيث رأى تغلغل الفكر العدميّ في مجمل القيم السائدة في الحضارة الغربيّة الحديثة، تلك الحضارة التي نخرتها العدميّة في عمقها الأكثر حيويّة، بعد أن صارت كيانًا يقوده أسوأ العبيد، وهم في الغالب من رجال الدين الذين اعتبروهم عظماء البشريّة، في حين أنّهم في الحقيقة لم يكونوا سوى مخادعين محتالين، قادوا الحضارة الغربيّة الحديثة إلى حتفها الحتميّ، الذي عكس تجلّياته الواضحة في الإنسان –العدميّ– الحديث .

لقد كانت هذه الحضارة -كما يراها نيتشه- مجرّد أصنام أو أوثان صنعتها البشريّة في زمن سكون الحياة وغروب القيم، تتساوى في ذلك «القيم التي تقوم على أساس عقليّ فلسفيّ، والتي تقوم على أساس لاهوتيّ كهنوتيّ؛ لذلك وضع الأخلاق الأفلاطونيّة والأخلاق المسيحيّة في كفّة واحدة، وشنّ عليها حربًا لا هوادة فيها»[10]؛ لذا حاول نيتشه تحطيم أصنام هذه الحضارة، ورأى أنّه لا بدّ للإنسان أن يحيا خارج المقدّس، فإن كان التقديس ضرورة للحياة، فلا ينبغي أن نقدّس الوهن والضعف؛ لأنّ الحياة «لا تعلن عن وجودها مع الضعيف، أو المريض، أو الصغير، أو كلّ ما ينتسب بصفة قاطعة إلى أعراض الحضارة المنحطّة»[11]؛ لأنّها كما يرى كانت السبب في ذلك النّحول الذي ضرب الإنسانية في صميها، و بالتالي لا بدّ من قلب معادلة الحياة من الارتباط بالأرض إلى التوق للمتعالي السماويّ. ويرجع نيتشه السبب في قلب قيم معادلة الحياة إلى السلطة الدينيّة، ولا سيّما اليهود الذين أسسوا لقلب هذه المعادلة والذي يعدهم نيتشه أكبر المخادعين، وأكثر العدميّين إسهامًا في التأسيس لسلطة الكهنوت.

لقد أحيطت طبقة الكهنوت كما يرى نيتشه بهالة من القداسة استطاعت من خلالها قلب الحقائق وتأويلها تأويلًا أرهبت به مريديها وعبيدها -ذوي القابليّة للاستعباد- لقد كان هذا التأويل فيما يرى نيتشه هو حيلة رجل الدين في إحداث التحوّلات في المفاهيم الإلهيّة، والتي من خلالها استطاعت تزوير ماضي الشعب اليهوديّ، وفي الوقت ذاته الحفاظ على تفوّق الطبقة الكهنوتيّة من خلال منحها سلطة إلهيّة، حيث أرادت هذه الطبقة التحكّم في الإنسان أن يبقى دومًا ناحلًا ضعيفًا، حتى تُبقي على قوّتها ذاتها، وتبقى هي دومًا المسيطرة على الحياة. وعندئذ، كان على الإنسان أن يدرك أنّه آيل لا محالة إلى عصر من أسوأ العصور انحطاطًا وتدهورًا؛ لأنّه صار فعليًّا في «قبضة أسوأ الأيدي، وأنّه محكوم من جانب غير المناسبين والحمقى ورجال الخداع والانتقام، من يسمّون أنفسهم بالقدّيسين، أولئك الذين يشوِّهون العالم، والذين يطعنون الإنسانيّة»[12]، لقد أراد نيتشه تحرير الإنسان من قبضة هؤلاء القدّيسين ورجال الدين؛ لأنّهم يوهمون الإنسان بسبل الخلاص الموعود، وبالسعادة الأبديّة في عالم الخلود الذي ليس له مكانة إلاّ في مخيّلتهم المريضة بالعالم الآخر، أمّا الحقيقة التي يؤمن بها نيتشه، فهي الحياة هنا على هذه الأرض التي نحيا عليها وما عدا ذلك فهو باطل وزيف.

من هنا أرجع نيتشه آفة الحضارة الحديثة وما تعاني منه من أزمة في القيم إلى ما خلقه اليهود من أوهام، كبّلت الحياة البشريّة داخل أسوار المعبد أو الكنيسة، وبالتالي أصبحت كلّ حياة خارج هذه الأسوار حياة لا تطاق وليس لها معنى.

المشكلة المطروحة (هنا) هي مشكلة معنى الحياة؛ معنى مسيحيّ أو معنى مأساويّ، في الحالة الأولى ينبغي أن تكون الطريق المفضية للقداسة؛ وفي الثانية يبدو الوجود قدّيسًا كفاية بذاته، بحيث يبرّر فضلًا عن ذلك آلمًا بلا حدود، إنّ الإنسان المأساويّ يثبت حتّى الألم الأكثر حدّة؛ لشدّة ما هو قويّ وغنيّ وقادر على تأليه الوجود، بينما ينفي المسيح رغم أنّه المصير الأشدّ سعادة على الأرض؛ لأنّه فقير وضعيف ومحروم إلى حدّ الألم من الحياة بكلّ أشكالها، بينما ديونسيوس هو وعد حياة سوف يولد مجدّدًا إلى الأبد، وسوف يعود من أعماق الانحلال[13] ومن هذه المفارقة ينتهي نيتشه إلى أنّ تعاليم ديونسيوس تجعل الإنسان في اشتياق دائم للجسد، وللأرض، فضلًا عن أنّ «تأكيد الحياة هو الذي ينهض برفعة البشريّة، وتهيئة حياة خصبة مليئة بالوفرة»[14].

من هنا كانت دعوة نيتشه لرفض الإنسان العدميّ –الدينيّ–؛ لأنّه رأى فيه عدوًّا للحياة، وقضى على كلّ ما هو حيويّ فيها، فبعد أن قدّس إله السماء، وخلق العالم الآخر، انتهى إلى خلق عالم أخلاقيّ مشبع بقيم وهميّة تدين الحياة، كالصبر والتواضع والشفقة، بل وروح الزهد والتصوّف الذي يقضي على أسمى الغرائز في الحياة الإنسانيّة، ومن هنا تكون الحياة قد فقدت قيمتها من خلال حكم الضعفاء لها الذين تخلّوا عن أخلاق البطولة، وأخذوا بمبادئ المساواة والديمقراطيّة؛ لذا يرفض نيتشه الدين والأخلاق والعقل؛ لأنّها أسهمت جميعها في أفول الحياة، وللسبب ذاته يرفض المساواة والديمقراطيّة، باعتبارها أصنامًا أو أوثانًا سياسيّة ودينيّة جاءت في زمن الانحطاط الذي ساد فيه الكهنة ورجال الدين، ومن ثمّ تكون «الحركة الديمقراطيّة هي وريث الحركة المسيحيّة»[15]؛ لأنّها تكفر بسيادة الأقوياء، وتقدّس الضعفاء والمنحطّين، الذين بسوء تقويمهم للأشياء قلبوا القيم، وسمّوها بغير ما هي عليه في الواقع.

لهذا يصرّ نيتشه على رفض الحياة السماويّة والمقدّسة ويؤكّد بأنّنا لكي نعيش المعنى الحقيقيّ للحياة، فعلينا أوّلًا إثباتها داخل الحياة الأرضيّة ذاتها، ومن ثمّ علينا إعادة النظر في التأويلات المقترحة للوجود والحياة، ومن خلال هذا التأويل اعتبر نيتشه أنّ «السعادة ليست الهدف، بل الهدف هو الإحساس بالقوّة، ففي الإنسان، والإنسانيّة ككلّ، توجد قوّة هائلة وكبيرة، تبحث عن طريق ومخرج، لأنْ تتحقّق، لأن تُـنفق، وتخلق»[16] هذه القوّة تكمن في الإرادة أو إرادة القوّة.

إنّ إرادة القوّة هي جوهر فلسفة نيتشه، بل جوهر الحياة بالنسبة له، إنّها ليست مجرّد خاصيّة من خصائصها، بل هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق السعادة في هذا العالم؛ لذا «رأى أنّه حيثما توجد الحياة توجد أيضًا إرادة القوّة»[17]، وهنا يحيلنا نيتشه إلى ضرورة إدراك الصلة بين معنى الحياة وإرادة القوّة، حيث يرى أنّ الحياة نوع من التوازن بين القوى، وهذا التوازن لا يتحقّق إلاّ بأفعال السيطرة، فأن نحيا معناه «أن نسيطر ونتحكّم في كل ّ ما هو غريب وضعيف، ونضعُه في صورته الحقيقيّة»[18].

إنّ إرادة القوّة في فلسفة نيتشه هي صراع الأقوياء، من أجل تحطيم الانحطاط الذي عرفته أوروبا خلال فترة زمنيّة طويلة؛ لذلك يصف نيتشه الحياة على أنّها «صراع، وهي تأبى الاستكانة، لكن إذا كانت القوى التي تهيمن هي قوى منفعلة أو سلبيّة، فإنّ الإرادة تتجّه إلى الانحدار بالقوّة، وهو ما يبيّنه التاريخ المظلم للإنسان»[19]؛ لهذا يرفض نيتشه كلّ حياة مستسلمة للدّعة والسكون، أو للطمأنينة والسلم، وبالتالي أصبح الصراع مفهومًا مركزيًّا في فلسفته للحياة، ذلك أنّ مدى التقدّم في الحياة والحضارة ككلّ، يُعزى بشكل أساسيّ إلى حركة ذلك الصراع الذي توجّهه إرادة القوة، وأنّ سكونه معناه سكون الحياة نفسها، وهو سكون تنتشر تجلّياته في كلّ مناحي الحياة، التي اعتبرها نيتشه التجسيد الواقعيّ لمفهوم إرادة القوّة، والتي يبدو أنّها «تسري في كلّ مظاهر الحياة، في المجتمع والدولة، ولكنّها تتركّــز أكثر في الأفراد، في عظماء التاريخ... وقد وصف نيتشه هذه الإرادة بالقوّة لتمييزها عن الإرادة الضعيفة؛ ليؤكّد أنّ الحياة لا تنمو إلّا بالقوة، على المرء أن يتحدّث عن إرادة القوّة، أي عن إرادة المزيد من الحياة»[20].

لقد كانت محاولة نيتشه في ابتكار مفهوم الإنسان الأعلى من أجل إضفاء معنى وقيمة للحياة من خلال مفهومه للعدميّة بنوعيها[21] المختلفَيْن والذي تجلّى بعدم الإيمان بوجود حقيقة وإنكار للعالم الميتافيزيقيّ وانحطاط للجنس البشريّ، لكن الفكرة النيتشويّة ارتدّت على صاحبها، وأضفت مزيدًا من البؤس والشقاء للحياة، حيث كانت فكرة إرادة القوّة والإنسان الأعلى مصدر إلهام لكثير من الحركات التعسّفيّة التي عرفها التاريخ الإنسانيّ. 

فإذا كان نيتشه قد صبّ هجومه على الحضارة الأوروبيّة وأشكالها التاريخيّة ممثّلة في الأنساق التربويّة ومؤسّساتها، فقد كان لذلك نتائجه بأن عاش الإنسان الغربيّ وقتذاك لحظات فقدان الثقة بكافّة المراكز والأنظمة، والتي رسخت في الأذهان والعقول وشكّلت تراثًا ثقافيًّا عاش عليه الإنسان الأوروبيّ عقودًا متتالية يثق في قدرتها على بناء الحياة الكريمة للإنسان، إلّا أنّ نيتشه بفلسفته كان خير من يمثّل الفوضى الحضاريّة والفكريّة، حيث زعزعت فلسفته كلّ الثوابت الإنسانيّة وشكّكت الإنسان نفسه في هويّته ومعرفته بذاته ووجوده، والتي نتج عنها هوّة عميقة ليس بين الإنسان وذاته فحسب، بل بين الإنسان والآخر.

 إذن فما كانت النتيجة التي يعطيها لنا نيتشه لمعنى الحياة إلّا أنّها سخيفة، تلك السخافة التي تولّدت بالبعد عن  الله، من هنا أصبحت الفلسفة النيتشويّة هي حافّة الهاوية للحياة ذاتها.

جان بول سارتر (1905-1980)

ينطلق سارتر في بنائه لمعنى الحياة من ثلاثة قضايا رئيسة: الحرّيّة والعبث في الوجود وإنكار فكرة الإله، ففي كتابه «الوجود والعدم» (1943) يؤكّد سارتر على جوهر الحرّيّة، وأنّنا أحرار بشكل جذريّ، ليس فقط في فعل ما نريد، ولكن أيضًا لتحديد ما نريد، هذه الحرّيّة هي التي تمثّل الخطّ الفاصل الأساسيّ بين الوجود لذاته (être-pour-soi) (الأشخاص) وبين الوجود في ذاته (être-en-soi) (الأشياء).

ذلك أنّ البشر ليسوا مصنوعات يدويّة، بل هم موجودون مسبقًا، فوجودهم يسبق جوهرهم أو ماهيّتهم، من هنا قال سارتر إنّ «الوجود يسبق الماهيّة»، حيث يولد الإنسان ويحيا سنين طويلة يكون فيها ثابتًا ومتغيّرًا في آن واحد؛ فهو ثابت لأنّه معروف منذ اليوم الأوّل من عمره كإنسان غنيّ أو فقير، معلّم، جاهل... وهذا الجوهر أو الماهيّة لا يتحدّد إلّا بعد الوجود[22].

ويعترف سارتر بأنّ ثمّة وقائع حتميّة، حيث يوجد عدد هائل من الحقائق عن أنفسنا -حقائق ثقافيّة مثل الحقبة التاريخيّة التي ننتمي إليها وحقائق بيولوجيّة، مثل الميراث الجينيّ- بحيث لا يمكننا فعل أيّ شيء حيالها. لكنّه يرفض ما يسمّى بـ «الحتميّة النفسيّة»[23] التي تنصّ على أنّ تصرّف المرء يتحدّد بالكامل من خلال واقعه، وأنّه يتحدّد بشكل حتميّ غير قابل للتغيير من خلال الماضي، حيث تحدّد الطبيعة والتنشئة «أن أكون هذا النوع من الأشخاص الذي أنا عليه بلا تغيير»[24]، بعبارة أخرى فجوهر الإنسان هو ماضيه، فالجوهر هو ما كان»، وهو اقتباس اتخذه سارتر من هيجل لتلخيص فرضيّة الحتميّة النفسيّة.

و تنكر الحتميّة النفسيّة تمييز سارتر الأساسيّ بين «الشيء لذاته» وبين «الشيء في ذاته»، فلا يُرى أيّ فرق وجوديّ بين الإنسان والصخرة على سبيل المثال، فلكلٍّ منهما «جوهر»، ويعتقد سارتر أنّ الحتميّة النفسيّة خاطئة تمامًا، وحجّته في هذا هي ما يسمى أحيانًا حجّة «الشعور بالحرّيّة: إنّ كوننا أحرارًا هو ببساطة حقيقة فوريّة لا جدال فيها للوعي الذاتي، إنّها أكثر يقينًا من أيّ شيء آخر، فعلى سبيل المثال، أثناء المشي لمسافات طويلة على طريق جبليّ طويل، أنظر من فوق الحافة إلى المنحدر الهائل أدناه وأعرف ببساطة أنّه إذا اخترت أن ألقي بنفسي، فإنّ ذلك لا يعني سوى الموت. من هنا ينشأ القلق من الشعور في مواجهة الحرّيّة المطلقة»[25].

ويستخدم سارتر لتوضيح ذلك بما يعرف بظاهرة «الاستجواب»، حيث يرى إنّ قوّتي في حجب الموافقة عن الافتراضات المفتوحة للشكّ غير محدودة على الإطلاق. لا شيء يمكن أن يجبرني على الاعتقاد بأنّ 2 + 2 = 5، وبالمثل -نظرًا لأنّه مؤكّد تمامًا- لا شيء يمكن أن يجبرني على حجب الموافقة من «2 + 2 = 4»[26].

ونلاحظ تأثّر سارتر بديكارت، وتفكيره في الذات بنفس الطريقة تمامًا. فما أنا عليه، هذا الكائن الحاضر، ليس سوى الحرّيّة، لا شيء سوى قوّة الموافقة والمعارضة. ما أنا عليه، على وجه الخصوص، هو قوّة القبول أو المعارضة من ذاتي السابقة، الذات التي أسّستها.

 أنا القوّة! إمّا لاختيار تلك الذات لتكون ذاتي الحاليّة أو رفضها لصالح شيء آخر.

يقول سارتر: «على الرغم من أنّني ولدت في (جوهر) إلّا أنّه في هذه اللحظة بالذات يمكنني الاختيار بالرفض أوالاستبدال بآخر؛ نظرًا لأنّ رفضي اختياري لهويّة جديدة هو المصادقة على الهويّة الحاليّة، لذا فإنّ الخيار الوحيد الذي لا يمكنني اتخاذه هو عدم الاختيار. ذلك أنّ الإنسان محكوم عليه إلى الأبد بالحرّيّة»[27].

ومع ذلك، من يقرأ سارتر بعناية، لا يجد أنّ هذه الحرّيّة أمر مبهج على الإطلاق. بعيدًا عن كونها نعمة،  وأنّها شيء محكوم علينا به إلّا أنّها «تسبّب لنا الكرب»[28]، هذا الكرب الذي نسعى لتغطيته من خلال الانغماس في «سوء النيّة»، وما سوء النيّة  بالنسبة لسارتر إلّا محاولة لخداع الذات، حيث نسعى لإقناع أنفسنا بأنّنا جزء من ترتيب السببيّة والحتميّة، بنفس الطريقة التي نضع فيها زجاجة حبر أو صخرة، فنحاول إنكار وجودنا الخالي من الجوهر، فنتحوّل من ذات إلى وجود بلا معنى، وكأنّنا روبوتات متحرّكة لإقناع أنفسنا بأنّ وجودنا هو جوهرنا تمامًا، كما هو الحال بالنسبة لوجود الصخرة أو أيّ شيء وضعناه في مكانه. وهناك مثال سارتر الشهير على محاولة تحويل الذات إلى شيء، وهو مثال النادل الباريسيّ[29] الذي كانت إيماءاته مثاليّة جدًّا، وهي مبالغة تمنحه صفة روبوتيّة، وهذا بالضبط ما يسعى النادل لإقناع نفسه بأنّه كذلك.

وفي الواقع، الحرّيّة التي ينادي بها سارتر تنطوي على مسؤوليّة، تلك المسؤوليّة هي التي تعطي للحرّيّة معنى، فنحن مسؤولون عن أفعالنا، ومن ثم، فمهما فعلنا، سواء أكانت عواقب أفعالنا جيّدة أو سيّئة، فلا ينبغي أن نلوم الآخرين؛ لأنّ الاختيار «يتجاوز كلّ الأسباب كما أنّه غير مبرّر»[30]، ويأتي عدم التبرير من عبثيّة الوجود وسخافته، فيقول سارتر: «أدركت عبثيّة اختياري وبالتالي وجودي»[31].

ولكن ما الذي يعنيه سارتر بكلمة «عبث»؟

 دعا سارتر إلى عبثيّة الحياة، حيث تظهر الحياة بشكل عشوائيّ، مما يدلّ على لا معقوليّة الوجود الإنسانيّ، فكلّ الأحداث في حياة كلّ إنسان تتمّ «بالصدفة» وبشكل عرضيّ غير مخطّط له، أي ليس هناك ضابط أو قانون معيّن يحكم حياة أيّ إنسان.. إنّما تتمّ أحداث حياته بالمصادفة؛ لذلك كان الإنسان وحيدًا في هذه الحياة، يأتي وحيدًا، ويعيش وحيدًا، ويموت وحيدًا .. وبالتالي لا معنى لحياته.

والسؤال لماذا يتعارض وجود الله مع الحرّيّة عند سارتر؟

   لم يبتعد سارتر عن رؤية نيتشه، حيث يرى «أنّ آلام الإنسان هي عكس آلام المسيح، لأنّ الإنسان يفقد نفسه كإنسان لكي يولد الله، لكن فكرة الله متناقضة…. لذلك كان شغف الإنسان بها عديم الفائدة»[32]. ويجاهر سارتر بإلحاده ويرى أنّ وجود فكرة الله، الكائن الأسمى، القادر على كلّ شيء، كلّيّ العلم، والقادر على كلّ شيء، هذا الإله هو الذي يضع نهايات الإنسان؛ لأنّه يعطي الانطباع بأنّ الله هو الذي أسّس بالفعل الإنسان مهما كانت أفعاله في الحياة، وبهذا المعنى، لم يعد الإنسان حرًّا في فعل الأشياء بدافع إرادته؛ لذلك لا يمكننا التحدّث عن الحرّيّة -وفقًا لسارتر- إذا كان هناك إله، وبالتالي، فإنّ رفض وجود الله أمر لا بدّ منه للتحدّث عن الحرّيّة.

 علاوة على ذلك، فإنّ الإنسان حرّ، ليس لأنّه يتمتّع بحرّيّة اختيار إطاعة القوانين الأخلاقيّة أم لا، ولكن لأنّ الإنسان خال تمامًا من الحدود والتعريفات، إنّه حر في وضع قوانينه الأخلاقيّة وخلق قيمه الخاصّة.

وإذا كان الوجود يسبق الماهيّة بحيث يسبق وجودُنا جوهرَنا، فلا يوجد إله يعطينا الجوهر، ونحن نختار بحرّيّة كيف سنصبح، على عكس الكراسي والطاولات، علينا أن نصنع أنفسنا، وبذلك نكون وحدنا مسؤولين عن الجوهر الذي نصنعه؛ لذلك يدّعي سارتر أنّه «إذا لم يكن الله موجودًا، فهناك على الأقلّ كائن واحد يسبق الوجود فيه الجوهر، كائن موجود قبل أن يتمّ تعريفه بأيّ مفهوم، وهذا الكائن هو الإنسان»[33]. و «إذا كان الله موجودًا، فإنّ الإنسان لا شيء»[34]، فالإنسان هو الوحي الحقيقيّ بأنّه لا يوجد إله بالفعل، فليس للإنسان جوهر ثابت، بل هو يصنعه من نفسه من خلال خياراته وأفعاله الحرّة، ومهما كانت نتيجة اختياره، فهو مسؤول عنها.

 وعلى الرغم من الأهداف التي وضعها سارتر لفلسفته في البحث عن مكانة للإنسان داخل هذا الوجود، وهي المكانة التي يكون فيها الإنسان محبًّا ومسؤولًا عن قراراته، ويكون هو سيّد موقفه، إلّا أنّ الأمرانتهى بسارتر إلى تشاؤمه بشكل مفرط، فالحياة بالنسبه له أصبحت بدون معنى، ويعترف سارتر بأنّه هو ذاته لم يأخذ العالم على محمل الجدّ، بل جاءت كلّ قراراته ذاتيّة منطلقًا من كبريائه الشخصيّ، وهذا ما يتضح في أقوال سارتر من خلال مذكّراته التي كتبها، فيقول: «فقدت إيماني في سنّ الثانية عشرة، لكنني أعتقد أنّني لم أؤمن أبدًا بقوّة كبيرة.... كان الله موجودًا لكنّي لم أشغل نفسيّ به إطلاقًا... لم أشغل ذهني بهذا الإله الميت أكثر مما كنت قلقًا بشأن الله حيًّا. أعتقد أنّه سيكون من الصعب العثور على أيّ شخص أقلّ تديّنًا منّي. لقد حسمت السؤال مرّة واحدة وإلى الأبد في سن الثانية عشرة»[35] يختتم سارتر اجتراراته حول الله والإلحاد وموقفه الشخصيّ بملاحظة مفادها: «لم آخذ العالم على محمل الجدّ أبدًا... لكنني كنت ملحدًا بدافع الكبرياء... وجودي ذاته كان مبنيًّا على الكبرياء… لم يكن هناك مكان على الإطلاق لله بجواري، كنت دائمًا مصدر أصولي الخاصّة، لدرجة أنّني لم أستطع رؤية الدور الذي يمكن أن يلعبه ككائن قدير في حياتي. بعد ذلك، أدّى الفقر المؤسف للفكر الدينيّ إلى تعزيز إلحادي، الإيمان سخيف أو هو سوء نيّة... بسبب الافتقار للإيمان، اقتصرت على التخلّي عن الجدّيّة[36]. لم يفقد سارتر إيمانه فقط، ولكنّه فقد كلّ معنى للحياة؛ لذا أصبحت وجوديّتة هي فلسفة الفجيعة، إنّه يتوق إلى أمر من الله يؤسّس فيه حرّيّة الفرد، ولكن الله غائب في فلسفته، وكان من الطبيعي أن تنتهي  بالعدميّة حول معنى الحياة، وبالتالي حول قيمتها. فإذا كان الله قد مات فكلّ الأشياء مباحة - لا قيمة لها.

لقد حاولت فلسفة سارتر خلق الذات النيتشويّة التي جعلت حياتنا مبنيّة على خيار غير مبرّر، وبالتالي أصبحت بلا معنى ولا تستحق العيش، وهذا للأسف جوهرالفلاسفة الوجوديّين الذين اجتروا على الله.

ألبير كامو (Albert Camus) (1913-1960)

يعدّ الفيلسوف والمفكّر الفرنسيّ ألبير كامو من أبرز الفلاسفة الذين قدّموا تقويمًا سلبيًّا لمعنى الحياة، وذلك وفقًا لمنظورين أساسيّين:

الأوّل: هو وصف كامو للحياة البشريّة، على أنّها عبثيّة وبلا معنى.

والثاني : هو رأي كامو في مسألة الله، والذي ينكر الحقائق المتعالية أو الخارقة للطبيعة.

 لقد لعبت تقلّبات كامو الشخصيّة دورًا كبيرًا في تطوير أفكاره الفلسفيّة، و»هذا هو ما يفسر سبب العدميّة الشديدة والتشاؤم في عمله، حيث نشأ كامو في ظلّ حياة عاشها في مواجهة دائمة وصراع مع المرض والمعاناة والقمع والجوع والمجاعة والزلازل والموت والظلم وغيرها من المآسي البشريّة ذات الصلة. بجانب ذلك يكشف سرد سيرته الذاتيّة حقيقة أنّ كامو عانى من مرض نادر (السلّ)، وعانى من فقر مدقع وسلسلة من الاضطرابات والحروب المدمّرة وما صاحبها من وفيات ومعاناة وتدمير تسببوا في نظرته العدميّة التشاؤميّة.

لذلك أصبحت، ظاهرة المعاناة (الإنسانيّة) هي التيّار الموضوعيّ الخفيّ الذي عبّر عن فكر كامو، ففي روايته، الطاعون، أظهر كامو حرفيًّا المعاناة الفرنسيّة تحت الاحتلال الألمانيّ خلال الحرب العالميّة الثانية، وكيف يتمرّد الجنس البشريّ ضدّ عالم سخيف وفي روايته أسطورة سيزيف ومقالات أخرى، حاول كامو تشخيص الوضع الإنسانيّ في عالم من المعتقدات والآمال المحطَّمة.

لذلك أعطت فلسفة كامو اهتمامًا فائقًا ومحاولة لتبرير معنى الحياة البشريّة والوجود، وبعبارة أخرى، كان السؤال عن قيمة الحياة أو عدمها هو أكثر الأسئلة إلحاحًا من بين جميع القضايا التي تطرحها فلسفة كامو؛ لذلك كانت المشكلة الفلسفيّة الحقيقيّة لكامو تتعلّق بالحكم على ما إذا كانت الحياة تستحقّ العيش أم لا، ويزعم كامو أنّ الحياة عبثيّة ولا معنى لها، ويتّضح ذلك عندما عرض مسألة معنى الحياة، في روايته أسطورة سيزيف، حيث شبّه كامو معاناة الإنسان فى هذه الحياة بمعاناة (سيزيف)، وسيزيف هو شخصيّة يونانيّة أسطوريّة عبثت مع ملَك الموت حسب المعتقدات الإغريقيّة، فغضب منه الإله الأكبر (زيوس) وعاقبه بأن جعله يحمل صخرة كبيرة لأعلى أحد الجبال، ثم ما إن يصل للقمة حتى تعود الصخرة للتدحرج إلى الأسفل، ثم يجبره زيوس على حملها مرّة أخرى لأعلى الجبل وهكذا، فى عقاب أبديّ ومجهود قاسٍ ليس له أيّ معنى ولا جدوى، وحتى يخرج الإنسان من مأزق المجهود الروتينيّ السيزيفيّ القاتل والخالي من الجدوى، وفي ضوء ذلك، يلقي كامو نظرة فلسفيّة على مسعى الحياة ليظهر أن الوجود البشريّ ليس أقلّ جدوى، ولا أقلّ عبثيّة من وجود سيزيف.

هذا يعني أنّ كامو يصوّر الحياة على أنّها صراع عبثيّ. ويجادل بأنّه بالنظر إلى عبثيّة الحياة، فإنّ الكون يخلو من الهدف والمعنى، بما في ذلك جميع المساعي أو النضالات البشريّة طالما أنّ البشر يبذلون كلّ طاقتهم في الدفع أو النضال ضدّ العبث أو الإحباط.

السؤال المهم الآن هو: ما الذي يشكّل بالضبط العبث أو الإحباط الذي يجعل حياة الإنسان ووجوده بلا هدف ولا معنى له؟ بحسب كامو، إنّها المشاكل الوجوديّة المحبطة للإنسان، وهي الكرب، والمعاناة، والمرض، والموت، والقلق، والخوف، وعدم اليقين، وكلّها تتآمر لجعل الوجود البشريّ مبهمًا وبلا معنى. وفي تصوّركامو، فإنّ عيش العبث يعني الافتقار التامّ للأمل، والرفض الدائم وعدم الرضى[37]، وبالتالي فإنّ الفهم العام لفلسفة كامو هو ذلك الذي يحدّد تأكيدها على العبثيّة واللامعنى في الكون بالدعوة إلى اليأس، ومع ذلك فإنّ العيش العبثيّ ليس رخصة لليأس، كذلك فإنّ القول إنّ الحياة عبثيّة ولا معنى لها في قاموس كامو ليس إذنًا صريحًا بالتمسّك أو الاستنتاج بأنّ الحياة لا تستحقّ العيش، يقول كامو: «أنّ الناس تتلاعب بالكلمات وتتظاهر بالاعتقاد برفض منح معنى للحياة والذي يؤدّي بالضرورة إلى إعلان أنّها لا تستحقّ العيش»[38].

ويؤكّد كامو قصده بأنّ السؤال الأساسيّ ليس حول ما إذا كان يجب أن يكون للحياة معنى لكي نعيشه، ولكنّ السؤال: «هل سيتمّ عيشها بشكل أفضل إذا لم يكن لها معنى»[39]، والنتيجة هي «أنّ الحياة البشريّة أو الوجود يكمن في أن الحفاظ على الحياة وإبقائها حيّة هو قبل كل شيء من خلال التفكير فيها»[40].

لقد كان اهتمام كامو بمشكلة الانتحار يمثّل رد الفعل المحتمل على العبث، ومع ذلك فإنّ الانتحار -حسب قوله- ليس خيارًا، أو حلًا للعبثية، بل يصفه بالجبن ويضح ذلك في قوله «الانتحار تنصّل».

فالانتحاركما يعتقد (سواء أكان ذلك فيزيائيًّا أم فلسفيّا) ليس حلًّا أصيلًا أو صالحًا لمشكلة العبث أو اللامعنى للحياة. ومع ذلك فالفرد بالنسبة لكامو دائمًا ما يواجه تحدّيًا فيما يتعلّق بالقرار الذي يجب اتخاذه لإدراك بأنّه لا شيء في الحياة.

أما الخيار الثاني: فهو يتعلّق بالحلول الدينيّة

في هذا الصدد، تحاول فلسفة كامو الوجوديّة دحض و إنكار الأطروحة المركزيّة لوجهات النظر التي تسعى إلى تأكيد وجود مجال متسامٍ يمكن من خلاله اشتقاق المعنى والقيمة؛ لأنّه يصرّ على عدم وجود أيّ فكرة متسامية، وبالتالي لا توجد وحدة نهائيّة، إلهيّة أو علمانيّة، تفسّر كلّ شيء؛ لذلك يرفض مفهوم الوحدة التي يرى أنّها تمثل الحلقة المفرغة الكافية لخنق آمالنا، وبالتالي ينكر وجود فكرة المطلق المتسامي.

ووفقًا له، فإنّ قبول المطلق هو التخلّي عن البحث عن التفسير، حيث إن المرء يشرح بعبارات شيء غير مفهوم عقلانيًّا، ومن ناحية أخرى، ينكر كامو المطلق لأنّ قبوله يرقى إلى تقديم إشارة لـ توكيد الله المسيحيّ، الذي يرفضه كامو.

 و نظرًا لوجود وانتشار الشر والمعاناة غير المبرّرة في العالم، فلا يستطيع كامو أن يرى أيّ مصالحة بين وجود الله ووجود معاناة لا مبرّر لها، ومن خلال هذه المعاناة، يصرّ كامو على أنّه لا يمكن أن نفهم بشكل عقلانيّ كيف يمكن أن يوجد إله طيّب وكلّيّ بلا حدود في مواجهة الشرّ الهائل والمعاناة في العالم. تلك الحجّة كانت الحجّة الرئيسة لتبرير الإلحاد المعاصر وعدم الاعتراف بوجود إله، وعلى هذه الخلفيّة لإنكار المطلق، يتأمّل كامو الحياة (البشريّة) والوجود. ونلاحظ أنّ وجهة نظره حول الحياة والوجود تتشابه مع تلك التي يتبنّاها العلماء والفلاسفة العدميّون والملحدون، بما في ذلك آرثر شوبنهاور وجان بول سارتر، حيث ترتبط العدميّة الوجوديّة لديهم بالاعتقاد بأنّ الحياة لا معنى لها.

من هنا يصبح وجود الله وجميع التعاليم اّلدينيّة عن الخلق وحياة الإنسان أو وجوده أمرًا غير مقبول بشكل واضح لكامو؛ ذلك أنّه يعلّق رفض الله على وجود المعاناة والشر غير المبرّرين في العالم، ووفقًا لكامو، لا يمكن أن يبرّر الله (إن وجد)، وعلى الإنسان أن يتحمّل مسؤوليّة حساب نفسه.

لذلك أصبح وجود عالم متسامٍ هو من قبيل العزاء والسعي وراء العبث. ويفسّر كامو الحلّ الدينيّ على أنّه «انتحار فلسفيّ»[41]. مرّة أخرى، يرفض كامو الخيار الدينيّ على أساس أنّه مراوغ ومخادع بشكل واضح. ويرى كامو أنّ تبنّي حلّ خارق للطبيعة لمشكلة العبث (على سبيل المثال، من خلال نوع من التصوّف أو قفزة الإيمان) هو القضاء على العقل، وهو أمر قاتل ومدمّر للذات مثل الانتحار الجسديّ[42].

الخيار الثالث: لترياق مشكلة العبثيّة هو ببساطة قبول واحتضان العبث والعيش معه في سلسلة متّصلة. بالنسبة لكامو، هذه هي القيمة الحقيقيّة والأصيلة والحلّ المقبول أخلاقيًّا لمشكلة العبثيّة وانعدام معنى الحياة، وهو يصرّ على أنّه بما أنّ العبث لا مفرّ منه، وهو سمة مميزة للحالة الإنسانيّة، فإنّ الاستجابة المناسبة لها هي قبوله الكامل والشجاع والثابت.

 إنّ فكرة احتضان العبث بشجاعة هي نقطة انطلاق فلسفة كامو في التمرّد. بالنسبة لكامو التمرّد وليس الانتحار هو الاحتجاج الصحيح ضدّ العبثيّة، وقد تمّ التأكيد في فلسفة كامو على التمرّد وبشكل كبير من خلال حجّة مفادها أنّ التغلّب على الشعور بالفراغ في قلب الإنسان ومقاومة الظلم الكونيّ للبشر هو الالتزام بتمرّد دائم ومحاربة الشرّ في العالم. إنّ التمرّد هو الذي يضفي معنى لحياة الإنسان و وجوده. يقول كامو:

«التمرّد هو أحد المواقف الفلسفيّة المتماسكة الوحيدة، إنّه مواجهة مستمرّة بين الإنسان وغموضه، إنّه إصرار على شفافية مستحيلة. إنّه يتحدّى العالم من جديد كلّ ثانية»[43].

 إنّ التمرّد بالنسبة لكامو هو الحلّ لمشكلات الحياة، مثل الشرّ والمعاناة والظلم والقمع والموت والمرض والشموليّة، فهو في الأساس ثورة، على أنّ مصطلح الثورة يتّخذ مفهومًا آخر في فلسفة كامو، فإذا كانت الثورة هي الانتفاضة من خلال روح المعارضة ضدّ أيّ ظلم أو قمع أو إهانة للحالة الإنسانيّة، إلّا أنّ فكرة الثورة في فلسفة كامو تأتي بدلالة واسعة، حيث تأتي فكرتها مصاحبة لفكرة العبث التي خصّص لها كامو كتابًا كاملًا بعنوان المتمرّد.

وفيه نلاحظ ضمنيًّا فكرة كامو عن حقيقة الثورة وأنها تفوق الإيماءات الفرديّة أو فعل الاحتجاج الانفراديّ بكثير، و يجادل كامو بإسهاب لإظهار أنّ فعل التمرّد الضميريّ هو في نهاية المطاف أكثر بكثير من مجرّد لفتة فرديّة أو فعل احتجاج فرديّ، حيث يقول إنّ: «المتمرّد يرى أنّ ثمّة مصلحة مشتركة أهمّ من مصيره، وأنّ ثمّة حقوقًا أهمّ منه»[44].

هذا يعني أنّ مصطلح «ثورة» لا يمكن أن يكون له معنى إلّا في سياق التضامن البشريّ، بالنظر إلى أنّ الثورة الحقيقيّة تتمّ ليس فقط من أجل الذات، بل بالتضامن مع الآخرين وبدافع التعاطف معهم. الصداقة الإنسانيّة والأخوّة والالتقاء لمحاربة الشرّ مقابل الميول الأنانيّة والفرديّة التي تسمح صراحة بمواقف غير مبالية تجاه محنة الآخرين في خضم المعاناة والكوارث.

وعلى الرغم مما، تسعى إليه فلسفة كامو الوجوديّة في الدفاع عن المصير المشترك والوعي الجماعيّ لمحاربة المعاناة والشرّ والظلم في العالم، إلّا أنّنا نلاحظ مما سبق أنّ خطاب العدميّة الذي تبنّاه كامو يوحي بفكرة أنّ العالم بلا معنى أو هدف. بالنظر إلى هذا، فإنّ الوجود نفسه وكلّ عمل ومعاناة وشعورهو في النهاية فارغ بلا معنى، وهذا ما انعكس في نهاية روايته القصيرة «الغريب»، حيث يكتشف بطل كامو في ومضة من البصيرة أنّ الكون ليس له معنى ولا إله يعطيه معنى، فيقول: «لا أريد أن أضيّع ما تبقّى من وقتي مع الربّ»[45]، ويستطرد فيقول: «فيم يهمّني موت الآخرين وحبّهم، فيم يهمّني آلهة والحيوات التي نختارها والمصائر التي نصطفيها»[46].

لذلك جاءت فكرة كامو برمّتها عن معنى الحياة توحي بنوع من السذاجة الوجوديّة والتشاؤم الذي يقلّل بشكل كبير من قيمة الحياة، ولا يعطي أيّ معنى للوجود البشريّ.هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ إنكار الجانب الروحيّ للحياة، كما في حالة الوجوديّة الملحدة، يرقى إلى التقليل الواضح من حياة الإنسان ووجوده، حيث سعت خيوط الإلحاد الواضحة في فلسفتهم إلى التقليل من قيمة الحياة ذاتها .

كيركيغارد بؤس الحياة من دون الله

في أواخر القرن التاسع عشر قدّم الفيلسوف الوجوديّ الدنماركيّ، سورين كيركيغارد، (1813-1855) نوعًا من الدفاع اللاهوتيّ، وكان يرى أنّ حياة المرء يمكن أن تكون ذات معنى وتستحقّ العيش فقط إذا كان المرء يؤمن بصدق وعاطفة بالله المسيحيّ.

ويتم ذلك من خلال وثبة (قفزة) التي تجعل من الإيمان المسيحيّ متجاوزًا لكلّ الأدلّة العقلانيّة، بل تتعارض معها؛ لذا يجب على المرء أن يقفز من المعرفة إلى الإيمان المسيحيّ -الشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يجد فيه المعنى الحقيقيّ- قفزة فوق حدود الفطرة السليمة والعقل؛ ولذلك يجب أوّلًا قبول الإيمان المسيحيّ حتّى لو كان سخيفًا؛ لأنّه المصدر الوحيد المناسب لعمق المعنى الذي يجب على الإنسان أن يواصل مسيرته فيه مع الشعور بأنّ الحياة جديرة بالاهتمام.

ويعتقد كيركجارد أنّ الحياة تعيش على ثلاث مستويات أو مراحل مختلفة: المرحلة الجماليّة، والمرحلة الأخلاقيّة، والمرحلة الدينيّة.

يعيش الإنسان في المرحلة الجماليّة الحياة على المستوى الحسّيّ فقط، حياة تتمحور حول الذات والمتعة، وهذا لا ينبغي أن يكون مذهب المتعة الجسميّة. يمكن أن يكون الإنسان في هذا المستوى مثقفًا جدًّا، وحتّى حذرًا؛ ولكن مع ذلك، تدور حياته حول نفسه وتلك الأشياء المادّيّة -سواء أكانت جنسيّة، أو فنًّا، أو موسيقى، أو أيّ شيء آخر- التي تجلب له المتعة.

إنّ مفارقة الحياة على هذا المستوى تؤدّي في النهاية إلى التعاسة، فالإنسان في المرحلة الجماليّة يتّصف بالأنانيّة ولا يجد في الحياة أيّ معنى ولا إشباعًا لمعنى الحقيقة؛ لذلك يصل الإنسان في النهاية في المرحلة الجماليّة إلى حياة مليئة بالملل، وهو نوع من أمراض الحياة، ومع ذلك فهذه ليست النهاية، لأنّه في هذه المرحلة فقط يكون الشخص مستعدًّا للعيش في المستوى الثاني من الحياة، وهو المستوى الأخلاقيّ.

وفي هذه المرحلة الأخلاقيّة، فإنّ الحياة هي نوع من القفزة يحفزّها عدم الرضى إلى مستوى أعلى، حيث يؤسّس المرء القيم الأخلاقيّة عبر شخصيّته ويوجّه الحياة من خلال المعايير الموضوعيّة، حيث لم تعد الحياة تُعاش فقط للذّة وللمتعة؛ بدلًا من ذلك، يتعيّن على المرء أن يبحث عن الخير الأخلاقيّ، وأن يغيّر سلوكه ليتوافق مع هذا الخير، وهكذا فإنّ الإنسان في المرحلة الأخلاقيّة هو الإنسان الأخلاقيّ.

لكن الحياة على هذا المستوى أيضًا تنتهي بالتعاسة، فكلّما حاول المرء بصدق جعل حياته متوافقة مع المعايير الموضوعيّة للخير، كلّما كان أكثر وعيًا أنّه لا يستطيع القيام بذلك؛ لذا كان السعي بجديّة في الحياة الأخلاقيّة، عندما يؤدّي في النهاية إلى الشعور بالذنب واليأس.

لكن هناك مرحلة أخرى على طريق الحياة، وهي المرحلة الدينيّة.

هنا يجد المرء مغفرة الخطايا وعلاقة شخصيّة مع الله، حيث يرتبط الإنسان في هذه الحياة بالخالق، ليجد لنفسه وجودًا حقيقيًّا وإنجازًا حقيقيًّا.

ويرى كيركجارد أنّ الانتقال من كلّ مرحلة هو بمثابة القفزة؛ لذلك كان قرار الإيمان هو خيار بلا معايير، وبتعبير كيركجارد قفزة إيمان في الظلام، ومع ذلك لا يمكن إعطاء الإنسان أسبابًا عقلانيّة لوثبة الإيمان، لذا سيبقى في حالة يأس ووجود غير أصيل.

ويصف فرانسيس شيفر (1912-1984) وضع الغرب بالمأزق الحديث، أو المأزق البشريّ، ووفقًا لشيفر يمكن تتبّع الثقافة الغربيّة الحديثة بأنّها «خطّ اليأس» الذي يخترق الفلسفة والأدب والفنون على التوالي، ويعتقد أنّ جذور المشكلة تكمن في الفلسفة الهيجيليّة، وتحديدًا في إنكارها للحقائق المطلقة، حيث طوّر هيجل الثالوث المقدّس، وبات لا يُنظر إلى التناقضات على أنّها أضداد مطلقة، بل كحقائق جزئيّة يتمّ تجميعها في الكلّ ليصبح الكلّ واحدًا في النهاية، وهو أمر مطلق ومتناقض.

من وجهة نظر شيفر، فإنّ نظام هيجل تقويض مفهوم الحقائق المطلقة مثل: «هذا الفعل خاطئ من الناحية الأخلاقيّة» أو «هذه اللوحة قبيحة من الناحية الجماليّة» من خلال تجميعها في الكلّ، وقد شقّ هذا الإنكار للمطلقات طريقه تدريجيًّا عبر الغرب في الثقافة، مما نتج عنها اليأس؛ لأنّ مساعي الإنسان بدون المطلق تتدهور إلى العبث.

ويرى شيفلد أنّه من خلال إعادة التأكيد على الإيمان بإله مطلق يمكن للإنسان تجنّب الانحطاط الحتميّ، واللامعنى، واليأس؛ ذلك أنّ النظرة التوحيديّة للعالم يمكنها إنقاذ الجنس البشريّ من نفسه، إنّ مجرد إنكار الله يجعل الحياة البشريّة بلا قيمة، لذا يقول فرنسيس شيفر في كتابه إله غير صامت:

«ما لم يعد الإنسان الغربيّ إلى العالم المسيحيّ وما لم ير الحياة، فلن يوقف أيّ شيء من التدهور»، وذلك بالرجوع للإيمان بالله؛ ولذلك صاح شيفر في كتابه إله غير صامت بعبارته «إنّ كلّ مشاكل الإنسان تنشأ من محاولة الإنسان التفرّد بذاته بعيدًا عن الله»[47].

معقوليّة  الإيمان عند كريج

يطرح وليم لين كريج (١٩٤٩- ) معنى الحياة من خلال معقوليّة الإيمان في محاولة لاكتناف المأزق البشريّ الذي يعيش فيه الإنسان المعاصر والذي يحاول دائمًا أن يجد المعنى الحقيقيّ لوجوده، وقد وضع كريج مناظرة بين معنى الحياة في وجود الله ومعناها في عدم وجوده ردًا على الملاحدة الذين ينفون وجود الله، وما تلك الحياة بالنسبة لهم إلّا حياة دنيوّية يعيشون ويهلكون فيها بلا أيّ معنى لها، وبالتالي ليس هناك خلود أو جزاء على أعمالهم؛ ولأنّ معنى الحياة يشكّل أحد الصعوبات التي يجدها كريج عقبة في سبيل الإيمان لدى الملحدين، يحاول كريج من الناحية العقليّة البرهنة على أهمّيّتها، وبالتالي أهمّيّة وجود خالق لها وهو الله، ويبدأ بفرضيّة رهان باسكال والذي مؤدّاه ضرورة المغامرة في رهان على احتماليّة وجود الله أو عدم وجوده، وينبغي أن يكون الاختيار بشكل براجماتيّ متساوٍ «من حيث تعظيم السعادة، فإذا كان أحد الرهانات أنّ الله موجود أو لا، فإنّ أحدهما لا بدّ أن يكسب»[48] ويتّفق كريج مع باسكال بأنّه يجب على الإنسان أن يضع نصب عينيه ما سوف يحصده في حال اختار واحدًا دون الأخر، فيرى أنّه في حالة وجود الله، فستكون «الحياة الأبديّة والسعادة اللانهائيّة، وإذا لم يكن موجودًا، فإنّ المرء لم يخسر شيئًا...، وبالتالي فإنّ الخيار الحكيم الوحيد هو الاعتقاد بأنّ الله موجود»[49] ويصيغ كريج بطريقة منطقيّة هذا الرهان كالتالي:

- إن آمنت بالله وكان الله موجودًا، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا ربح لا محدود.

- إن لم تؤمن بالله وكان الله موجودًا، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنّم، وهذه خسارة لا محدودة.

- إن أمنت بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.

- إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنّك ستكون قد عشت حياتك، وهذا ربح محدود.

لذلك يعرض كريج هذا الرهان في مقدمة فرضيّاته لأهمّيّة وجود الله في حياتنا «لأنّك إذا فزت، تكسب كلّ شيء؛ إذا خسرت، تخسر شيئًا»[50]؛ ولهذا فالإيمان بالله هو الخيار الأفضل مقارنة مع عدم الإيمان به، لذا فالحياة الدينيّة هي الحياة الحقيقيّة التي يستطيع الإنسان من خلالها تحقيق السعادة التي ينشدها دائمًا، لذلك يرى كريج أنّ المرحلة الدينيّة التي عرضها كيركجورد هي مرحلة لا تخضع لحكم العقل، ذلك أنّ «الإيمان ليس معرفة، ولا فلسفة، ولا منطقًا، ولا علمًا، وإنّما هو أمر وجوديّ عميق، لا يتأتّى بالمعرفة، بل يتذوّقه الإنسان ويعيشه تجربة حيّة فوريّة، الإيمان حالة أبعد مدى من العقل، لا يمكن تقويمها بمقاييس العقل»[51]؛ ولذلك يرى كريج أنّ تجربة الإيمان هي تجربة اختيار الإنسان دون إعطاء أيّ أسباب منطقيّة لهذه الوثبة كما قال كيركجورد، فالحياة بدون وجود المطلق الكلّيّ هي حياة عبثيّة سخيفة ولن نحصد من ورائها إلّا العدم، لذا علينا ضرورة الانتباه لما دعا له اللاهوتيّ بول تيليش (1886- 1965م) «التهديد بعدم الوجود »[52]، بحيث يواجه الإنسان نفسه ويعلم أنّه يومًا ما لن يعود موجودًا، ولن يكون بعد الآن، وسوف يموت، وإذا علم الإنسان بهذه الحقيقة، فإنّ تفكيره سيصبح مهدّدًا، لأنّه يومًا ما سوف يتوقّف عن الوجود، وأنّه لن يكون موجودًا.

ومن هنا أكّد كريج على مسؤوليّة الإنسان لاختياراته سواء أكان خياره الإيمان أو الإحاد؛ ولذلك أوَّل كريج َ قول نيتشه بأنّ الله قد مات تأويلًا جديدًا، وأنّه ما هو إلّا تحذير للإنسان الذي قتل الله في قلبه، حيث رأى كريج أنّ هذه الصيحة هي أذان بالعدميّة القادمة التي سيجنيها الناس نتيجة لتصرّفاتهم؛ ولهذا يعرض كريج سؤال نيتشه كيف نكون القتلة؟ ونطلب الراحة لأنفسنا! يقول كريج إنّ «هذا السؤال لينتشه يكشف عمّا سيدركه الناس من أثار ستترتّب على إلحادهم، وهذا الإدراك من شأنه أن يبشّر بعصر العدميّة»[53]. ويرى كريج بأنّه على الرغم من المغزى العميق لطرح نيتشه، إلّا أنّه يكشف عن عدم اتساق الملحدين مع أنفسهم لوجود فجوة عميقة بين اعتقاداتهم وأعمالهم، ويعطينا كريج بض الأمثلة على ذلك، حيث ذهب برتراند راسل إلى أنّه «يجب علينا أن نبني حياتنا على الأساس المتين لليأس العنيد»[54]، وذلك من خلال الاعتراف بأنّ العالم هو حقًّا مكان رهيب نستطيع التوصّل فيه بنجاح إلى شروط الحياة، ومن ضمن الأمثلة أيضًا لعدم اتساق الفلاسفة مع أنفسهم ما ذهب إليه ألبير كامو (1913-1960م) بأنّه «يتعيّن علينا أن نعترف بصدق بسخافة الحياة، ثم نعيش في حبّ بعضنا»[55]، وكذلك جدال سارتر بأنّ المرء قد يخلق معنى لحياته باختياره بحرّيّة لاتّباع مسار عمل معيّن، وقد اختار سارتر الماركسية.

يرى كريج بأنّ هؤلاء غير متّسقين تمامًا في تأكيدهم على القيم التقليديّة للحبّ، فنجد كامي متمسّكًا بكلٍّ من عبثيّة الحياة وأخلاقيّات الحبّ الإنسانيّ والإخاء وهذان الأمران غير متوافقين منطقيًّا، و برتراند راسل، أيضًا، كان منخرطًا بمشاكل المجتمع وقضاياه وفي الوقت نفسه جاءت أراؤه الأكثر إثارة للجدل فيما يتعلّق بالحرّيّة الجنسيّة، وأدان بشدّة الأعمال التي من قبيل مضايقة المثليّين جنسيًّا وإساءة معاملتهم، والتلقين الدينيّ للأطفال، وهي تلك الأراء التي أثّرت بشكل كبير في الحياة الفكريّة والاجتماعيّة الغربيّة المعاصرة كما نلاحظها اليوم.

ويطرح كريج سؤالًا جدليًّا، فيقول: «إذا كان الإلحاد هو الحقّ، فماذا نقول عن الأفعال الإنسانيّة النبيلة»؟

هل نقول إنّها ستذهب سدى بلا أيّ مكافأة؟  ويمثّل بالعديد من الأفعال النبيلة التي حدثت في عصره، ويرى أنّه «من وجهة النظر الإلحاديّة طالما لا يوجد إله، فإنّ أفعال الإنسان النبيلة ستضيع هباءً إذا لم يكن هناك سبب»[56]؛ ولهذا يقدّم كريج ثلاثه أسباب لماذا الحياة ستكون سخيفة بلا معنى من دون الله

1- إذا لم يكن الله موجودًا، فإنّ الحياة لا معنى لها في نهاية الأمر؛ لأنّ حياتك محكوم عليها أن تنتهي بالموت، ثمّ في نهاية المطاف لا يهمّ كيف تعيش، وفي النهاية فإنّه لا فرق بين ما إذا كنت موجودًا أم لا.

بالتأكيد، قد تكون حياتك ذات أهمّيّه نسبيّة في أنّك أثّرت على الآخرين أو أثّرت على مجرى التاريخ، ولكن في نهاية المطاف مصير البشريّة محتوم بالفناء في نهاية المطاف، لا فرق فيما كنت تفعله في حياتك، فهو غير منطقيّ، وبالتالي فإنّ إسهامات العالم في النهوض بالمعرفة البشريّة، وبحوث الطبيب لتخفيف ألم المعاناة، وجهود الدبلوماسيّ لضمان السلام في العالم، وتضحيات الناس الطيّبين في كلّ مكان لتحسين الكثير من الجنس البشريّ - في نهاية المطاف كلّ هذه لا تأتي بأيّ شيء، وبالتالي، إذا كان الإلحاد صحيحًا، فإنّ الحياة لا معنى لها في نهاية المطاف .

2- إذا لم يكن الله موجودًا، فيجب علينا أن نعيش إلى النهاية بدون أمل، فلا أمل للخلاص، ليس هناك أمل للخلاص من الشرّ. على الرغم من أنّ كثيرًا من الناس يتساءلون كيف يمكن لله الذي خلق العالم أن يخلق فيه الشرّ بما فيه من المعاناة في العالم بسبب وحشية الإنسان للإنسان. على سبيل المثال، فإنّ الرعب من الحربين العالميّتين خلال القرن الماضي دمّر بشكل فعال كلّ تفاؤل ساذج في القرن التاسع عشر بشأن التقدّم البشريّ. فإذا لم يكن الله موجودًا، فإنّنا محبوسون بدون أمل في عالم مليء بالمعاناة التي لا مبرّر لها، ولا أمل في الخلاص من الشرّ، إذا لم يكن هناك الله، لا يوجد أمل في الخلاص من المرض، والموت.

3– إذا كان الله موجودًا، فإنّ ذلك لا يشكّل فرقًا كبيرًا بالنسبة للجنس البشريّ بصفه عامّة فحسب، ولكنّه يمكن أن يحدث تغييرًا في الحياة بالنسبة لك أيضًا. وباعتراف كريج، حتى لو كانت الأدلّة على وجود الله وضدّه على قدم المساواة تمامًا، فإنّ الشيء العقلانيّ الذي علينا القيام به، هو أن نؤمن بالله. وهذا يعني أنّه من غير العقلانيّ عندما تكون الأدلّة مساوية أن نفضّل الموت على الحياة واليأس على الأمل والسعادة.

لذا يرى كريج أنّ الأدلّة غير متساوية تمامًا، لأنّ هناك أسبابًا وجيهة للاعتقاد بالله. فإذا مات كلّ فرد من الوجود عند وفاته، فما المعنى النهائيّ الذي يمكن أن يُعطى لحياته؟ هل يهم حقًا ما إذا كان موجودًا على الإطلاق أم لا؟!

لكي يجيب كريج على هذا السؤال، يطرح قصّة من الخيال العلميّ عن رائد فضاء تقطّعت به السبل في قطعة قاحلة كلّها صخور، حيث فقد في الفضاء الخارجيّ، وكان معه قارورتان: إحداهما تحتوي على سمّ والأخرى جرعة تجعله يعيش إلى الأبد ويحصل على الخلود أراد الرجل بسبب ضياعه، أن ينهي حياته ويبتلع السمّ، ولكن بعد ذلك، ما أثار رعبه أنّه اكتشف أنّه ابتلع القارورة الخاطئة -لقد شرب جرعة الخلود، وهذا يعني أنّه ملعون بالوجود إلى الأبد- حياة لا معنى لها ولا تنتهي. وعلى غرار ذلك، إن لم يكن الله موجودًا، فإنّ حياتنا مثلها تمامًا، ستستمر وتظلّ بلا معنى تمامًا. إذن فالأمر ليس مجرد خلود يحتاجه الإنسان إذا أراد أن تكون حياته مهمّة في النهاية؛ لأنّه يحتاج في النهاية إلى الله والخلود ومعًا.

خاتمة نقديّة

من كلّ ما سبق نلاحظ أنّ الأفكار العبثيّة التي جاء بها كلّ من شوبنهور ونيتشة وسارتر وألبير كامو عملت على إنكار القيمة الأسمى للحياة البشريّة، باعتبار الوجود البشريّ إن هو إلّا وجودٌ عبثيٌّ وغير منطقيّ، ولا يقود إلى أيّ مكان ولا يضيف شيء. لقد حاول هؤلاء الفلاسفة الذين مرَّ ذكرهم تسويق فكرهم العدمي من خلال تقطيع سبل الحياة إلى أشلاء، بمحاولتهم اكتساح كلّ مقدَّس  والعمل على تشويهه، ثم إلى تقويض كل القيم والأخلاق، من خلال رفض جميع المبادئ الأخلاقيّة، والإصرار على العيش من دون وازعٍ أخلاقيٍّ، بالإضافة إلى العمل على نشر الأنانيّة على قاعدة الإلتزام الوحيد لأيّ فرد هو نفسه.

 لقد جاء المأزق الوجوديّ  نتيجة محاولتهم الإجابة عن معنى الحياة  دون الرجوع إلى الله، وذلك  بالتّحرّر من أيّ قيودٍ دينيّةٍ وأخلاقيّةٍ، وبالتالي جاءت إجاباتهم  ليس وراءها إلّا الظلام الحالك، ما عكس أفكارهم العدميّة  على جوهر الواقع الغربي المعاصر، فإذا نظرنا من زاوية التّحليل التّطبيقي، سنجد أنّ كلّ المشاكل الاجتماعيّة التي يعاني منها الغرب من إباحة الإجهاض ووأد الأطفال، هي ثمرة لتلك الفلسفة التي أسّست لعلمنةٍ إقصائيّةٍ للإيمان الدّيني، وأطلقت موجاتٍ ثقافيّةً موازيةً في حقول الحياة المختلفة.

ولعلّ ما نشهده في تاريخ الفنون الغربيّة ما يُفضي إلى اليقين بأنّ التأسيسات الفلسفيّة المشار إليها، كان لها دورٌ وازنٌ وحاسمٌ في رسم الخطوط الأساسيّة للتهافت في معنى الحياة.

يظهر ذلك على سبيل المثال لا الحصر من خلال مسرحيات العبث، التي مصداقها الأبرز مسرحيات صمويل بيكيت (Samuel Beckett) (١٩٠٦-١٩٨٩)؛ حيث ساهمت أفكار شوبنهور ونيتشة في بناء فكر بيكيت المسرحي، الذي يرى أنّ الناس يولدون ويحيون ويموتون ومعظم أيّام حياتهم تعيسة. يقول بيكيت: «إنّه أنا الذي لا أعرف عنه شيئا، فأنا اسم ولا وجود لضمير يدلّ علي هويتي، فأنا لست حتي هذا الضمير»[57]. فإذا توقّفنا عند روايته في (انتظار جودو) نجد روايته بأكملها تقوم على رجلين فقط؛ حيث يقوم الرجلان بمحادثةٍ تافهةٍ أثناء انتظار وصول رجل ثالث، ولكنّه لا يصل أبدًا. يقول بيكيت: «حياتنا هكذا؛ نحن فقط نقتل الوقت في الانتظار - من أجل ماذا، لا نعرف»[58]. وفي مسرحيّة أخرى هي (نهاية اللعبة) يقدّم بيكيت تصويرًا مأساويًّا للإنسان، من خلال تصريحاته للفكر العبثي وبالعدميّة التي تتجسّد في عنوان المسرحيّة؛ حيث تطلّ النّهاية من قبل البداية، تُفتتح المسرحيّة بكلمات «انتهت، انتهت، لقد انتهت، ربما على وشك النهاية، (صمت)»، كذلك كتب بيكيت مسرحيّةً أخرى لمدّة  30  ثانية، وهي  أقصر مسرحيّة في التاريخ، وهي بعنوان “Breath”  «نفَس»، وفيها تخلو المسرحية من أيّ حوار أو مناقشة، فقط تسجيل للحظة من بكاء طفل، يليه تسجيل لاستنشاق بطيء عبر عمليّتي الزفير والشهيق الواضحتين، ويرافقه زيادة أو نقص في كثافة الضوء، وينتهي بصوتٍ يشبه البكاء أو الصرخة العالية، لا أحد يظهر على المسرح، ولكن فقط قمامة، وخردة متنوّعة ومتناثرة وغير منتظمة.

يجلس الجمهور ويحدق بصمت في تلك الزبالة. ثم تُغلق الستارة. هذا كلّ شيء. وعلى أيّ حال، فلقد عكست مسرحيات بيكيت بؤس الإنسان ووحدته وعجزه عن فهم حياة يعيش فيها، تلك الحياة التي لا يستطيع أن يتحكّم في أبسط الأمور وبالتالي أعظمها وأشدها تأثيرًا على مصيره، وكأنّ الإنسان يولد لينتظر مصيرًا محتمًا لا مهرب منه.

لقد فهم جان بول سارتر وألبير كامو هذا أيضًا -على نحو ما سبق-؛ حيث صوّر سارتر في مسرحيّته( No Exit)  (لا مخرج) الحياة على أنّها جحيمٌ، ثم يكتب سارتر في مكان آخر عن «غثيان» الوجود. فالإنسان، كما يقول، يغرق في قارب بدون دفّة في بحر لا نهاية له.

ويصور أرشيبالد ماكليش (Archibald Macleish) (1916-١٩٨٢)[59] في قصيدته «نهاية العالم»، الحياة على أنّها سيرك أحمق، حتى ينتهي العرض يومًا ما: لا شيء، لا شيء، لا شيء على الإطلاق.

كذلك كتبت آين راند[60] أنّ الإنسان محقٌّ تمامًا في مدح فضائل الأنانيّة. فتقول «عش تمامًا من أجل ذاتك؛ في الواقع، لا أحد يحاسبك!، لأنّ الحياة أقصر من تعريضها للخطر، سيكون من الحماقة فعل أيّ شيء آخر… سوى المصلحة الذاتيّة الخالصة، من الغباء التّضحية من أجل شخص آخر[61].

ولم يكن هذا الانعكاس العبثيّ على الثقافة الغربية فقط، بل امتدّ إلى بعض الفلاسفة غير الوجوديين، مثل توماس ناجل (١٩٣٧-  )، وأليكس روزنبرج (١٩٤٦- ). وهما من أبرز فلاسفة العلم التحليلي اللذين قدَّما حججًا تضامنيّة مع ألبرت كامو للحياة العبثيّة. وعليه سيذهب توماس ناجل إلى القول إنّ «البحث عن مبرّراتٍ نهائيّةٍ عن الله أو الدين أو السلطة أو الأسرة أو الدولة لا جدوى منه، لأنّ الغرض منها  يجب أن يظهر بالقدر نفسه من العبث إذا تراجعنا خطوةً إلى الوراء. إنّها ليست أكثر من هروب من العبث، وليست حلاً»[62]. كذلك ذهب روزنبرج  إلى أنّ العبث يظلّ ثابتًا في وجه العلم، والأكثر من ذلك سيظلّ حليفًا غير متوقّع له[63]

لقد كان معنى الحياة  عند هؤلاء الفلاسفة العبثيين مجرّد مسألة «خلق» فردي، يجنح على شواطئ «العبث» ويذهب بعيداً في العدميّة. وهو الأمر الذي سينتهي بالحياة الغربية إلى التيه واللَّامعنى. وهذا في حدّ ذاته ما جعل التفكير باللاّجدوى ينعكس بآثاره الكارثية على معظم نواحي الحياة الغربيّة التي حاولت إهمال الجانب الأخلاقي والديني. ولقد بات واضحاً أن المأزق الوجودي صار اليوم وبسبب من الثقافة العدمية السائدة، هو السمة الغالبة على حياة الغرب المعاصر. وهذا ما تبيِّنه اختبارات العلمنة الحادة، التي أنجبت الإلحاد واللاَّيقين، التي تكرَّست على مدى قرون متعاقبة.

المصادر ومراجع

- ألبير كامو: الغريب، ترجمة: محمد أيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2014.

- شوبنهور  العالم إرادة وتمثلًا، ترجمة: سعيد توفيق، مراجعة فاطمة مسعود، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2006.

- عادل العوا: العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس للدراسات والترجمة والتنشر، الطبعة الأولى 1986.

- عبد الرحمن بدوي: الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات، الكويت، ط2، 1976.

- عطية، أحمد عبد الحليم، نيتشه وجذور ما بعد الحداثة، دار الفارابي، بيروت.

- فرديريك نيتشة: إرادة القوة، ترجمة: محمد الناجي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2011.

- فرديريك نيتشه: هذا الإنسان، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت.

- فرنسيس شيفر: «إله غير صامت». ترجمة: جوزيف صابر. دار الثقافة. القاهرة 1978.

- يسري إبراهيم: فلسفة الأخلاق، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2007.

المصادر بالأجنبية

- WILLIAM LANE CRAIG,  Reasonable Faith, Christian Truth and Apologetics Third Edition, Wheaton, Illinois, Published by Crossway books ,third edition -2008.

- Berman, D. (1998). Schopenhauer and Nietzsche: Honest atheism, dishonest pessimisim. In C. Janaway (Ed.), Will- ing and nothingness. Oxford: Oxford University Press.

- Camus, A. 1955 The Myth of Sisyphus and Other Essays, Translated from the French by Justin O’Brien, New York: Penguin Books.

- Craig,  Reasonable Faith, Christian Truth and Apologetics.

- Craig, The Absurdity of Life without Godhttps://www.reasonablefaith.org/writings/popular-writings/existence-nature-of-god/the-absurdity-of-life-without-god/

- https://iep.utm.edu/mean-ear/

- Meaning of Life: Early Continental and Analytic Perspectives https://iep.utm.edu/mean-ear/

- Sarter 1985. Existentialism and Human Emotions..,

- Sarter(1956) Bein and Nothingness, trans,H.E.Barenes (New York :Philosophical ,

- Sarter, 1992. Notebooks for an Ethics. Translated by David Pellauer. Chicago: University of Chicago Press.

- Sarter. 1984. War Diaries. Translated by Q. Hoare. London: Verso.

- Sartre, 2001. The Age of Reason. Translated by Eric Sutton. London: Penguin Books,

- Schopenhauer, A. The Essays of Arthur Schopenhauer: The Wisdom of Life. T. B. Saunders (tr.). 1860. rpr. in The Project Gutenberg EBook of The Essays of Arthur Schopenhauer, 2004,

- The Meaning of Life: Early Continental and Analytic Perspectives, Internet Encyclopedia of Philosophy.

- Loren Eiseley | American anthropologist | Britannica تم الدخول بتاريخ 25-

-------------------------------

[1]*- باحثة وأستاذة فلسفة الدين بجامعة عين شمس – جمهوريّة مصر العربيّة.

- راجع. Loren Eiseley | American anthropologist | Britannica تم الدخول بتاريخ ٢٥/٢/٢٠٢١.

[2]- The Meaning of Life: Early Continental and Analytic Perspectives, Internet Encyclopedia of Philosophy

[3]- Schopenhauer, A. The Essays of Arthur Schopenhauer: The Wisdom of Life. T. B. Saunders (tr.). 1860. rpr. in The Project Gutenberg EBook of The Essays of Arthur Schopenhauer, 2004, p14

[4]- شوبنهور: العالم إرادة وتمثّلًا، ترجمة: سعيد توفيق، مراجعة فاطمة مسعود، المشروع القوميّ للترجمة، الطبعة الأولى ٢٠٠٦، ص١٤٣.

[5]- Schopenhauer, A. The Essays of Arthur Schopenhauer: The Wisdom of Life, p18.

[6]- عادل العوا: العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1986، ص١١٩.

[7]- Berman, D. (1998). Schopenhauer and Nietzsche: Honest atheism, dishonest pessimisim. In C. Janaway (Ed.), Will- ing and nothingness. Oxford: Oxford University Press.         

[8]-Berman, D. (1998). Schopenhauer and Nietzsche:, p121.

[9]- Ipid, p122. 

[10]- يسري إبراهيم: فلسفة الأخلاق، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2007، ص190.

[11]- The Meaning of Life: Early Continental and Analytic Perspectives https://iep.utm.edu/mean-ear

[12]- فرديريك نيتشه: هذا الإنسان، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت، ص١٦٣.

[13]- فرديريك نيتشه: إرادة القوّة، ترجمة: محمد الناجي، إفريقيا الشرق، المغرب، ٢٠١١، ص٣٦٢.

[14]- عطية، أحمد عبد الحليم، نيتشه وجذور ما بعد الحداثة، دار الفارابي، بيروت.

[15]- Meaning of Life: Early Continental and Analytic Perspectives https://iep.utm.edu/mean-ear/

[16]- Ibid.

[17]- يسري إبراهيم: فلسفة الأخلاق، ص٢٤٣.

[18]-عبد الرحمن بدوي: الأخلاق النظريّة، وكالة المطبوعات، الكويت، ط2، 1976، ص282.

[19]- The Meaning of Life: Early Continental and Analytic Perspectives https://iep.utm.edu/mean-ear/

[20]- Ibid.

[21]- العدميّة عند نيتشه جاءت على نوعين، أحدهما العدميّة الكاملة (النشطة) والأخرى العدميّة غير الكاملة (السلبيّة)، حيث حدّد العدميّة غير المكتملة بالنفعيّة والمادّيّة والوضعيّة التي تحاول الهروب من العدميّة دون مواجهة معضلة الأخلاق والقيم التي تظهر في المقدمة في حالة وفاة الله. من ناحية أخرى، فإنّ العدميّة الكاملة تهتمّ بشدّة بموت الله ونهاية كلّ القيم والأخلاق الأبديّة. يمكن أن تعمل بطريقة نشطة من خلال السعي لتدمير القيم والأخلاق التي حدّدها، أو بطريقة سلبيّة من خلال رفض القيم والأخلاق التي اعترف بها نيتشه في فلسفة شوبنهاور.

[22]- Sarter(1956) Bein and Nothingness, trans, H.E.Barenes New York :Philosophical , p30

[23]- Ibid, p31.

[24]- Ibid, 35.

[25]- Ibid, 31.

[26]- Ibid, p 33.

[27]- Sartre, 2001. The Age of Reason. Translated by Eric Sutton. London: Penguin Books, p242.

[28]- Ibid, p 29.

[29]- Ibid, p 59.

[30]- Ibid ,p479.

[31]- Ibid, p480.

[32]- Sarter, 1992. Notebooks for an Ethics. Translated by David Pellauer. Chicago: University of Chicago Press. p 784.

[33]- Sarter 1985. Existentialism and Human Emotions.., p15.

[34]- Ibid, p168.

[35]- Sarter. 1984. War Diaries. Translated by Q. Hoare. London: Verso., p265.

[36] - Ibid, p577.

[37] - Camus, A. 1955 The Myth of Sisyphus and Other Essays, Translated from the French by Justin O’Brien, New York: Penguin Books. p. 3.

[38]- Camus. A, The Rebel, p 33.

[39]- Ibid, p, 55.

[40]- Ibid, p, 57.

[41]- Ibid, p 55.

[42]- Ibid, p 55.

[43]-Ibid, p, 56.

[44]- Camus, A. 1955 The Myth of Sisyphus, p, 77.

[45]- ألبير كامو: الغريب، ترجمة: محمد أيت حنّا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى ٢٠١٤، ص١٣٨.

[46]- المرجع السابق، ص١٣٩.

[47]- فرنسيس شيفر: «إله غير صامت». ترجمة: جوزيف صابر. دار الثقافة. القاهرة 1978.

[48]-  WILLIAM LANE CRAIG,  Reasonable Faith, Christian Truth and Apologetics, Third Edition, Wheaton, Illinois, Published by Crossway books, third edition, 2008, p50.

[49] - Ibid, p50.

[50]- Ibid, p51.

[51] - Ibid, p70.

[52]- Ibid, p72.

[53] -Ibid, p73.

[54] -Ibid , p78.

[55]Craig, The Absurdity of Life without Godhttps ://www.reasonablefaith.org/writings/popular-writings/existence-nature-of-god/the-absurdity-of-life-without-god/

[56] - Craig, Reasonable Faith, Christian Truth and Apologetics, p82.

[57]- Knowlson, James, Damned to Fame: The Life of Samuel Beckett, London: Bloomsbury, 1996, p.410.

[58]- Ibid, p 608

[59]- أرشيبالد ماكليش شاعر وكاتب وناقد مسرحي أمريكي يرتبط اسمه بالمدرسة الحداثية الشعرية.

[60] - أليسا زينوفيفناروزنباوم (١٩٠٥ـ ١٩٨٢) كاتبة وروائية وفيلسوفة وكاتبة مسرح روسية أميركية .

[61]- Robert L. Powell, Ayn Rand’s Heroes: Between and Beyond Good and Evil, Ayn Rand’s Heroes: Between and Beyond Good and Evil, 2006, p 165.  

[62]-Nagel, Thomas. Mind and Cosmos. New York: Oxford University Press, 2012. P, .    

[63]- Rosenberg, Alexander. The Atheist’s Guide to Reality, New York: W. W. Norton & Company, 2011

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف