يتناول هذا الحوار مع الباحث والأكاديمي الجزائري د.مبروك بوطقوقة الكيفيّة التي عالج فيها الأنثروبولوجيون الغربيون قضايا التاريخ الإنساني، وبيّن جملةً من الثّغرات والعيوب النّظرية انطلاقًا من المرجعيّة العِلمويّة التي حكمت رؤيتهم في سياق تحليلهم للاعتقادات الدينيّة والتقاليد الثقافيّة ذات الصّلة بالبُعد المادي للتاريخ الغربي.
وفي ما يلي نص الحوار:
«المحرّر»
* ما دلالات مصطلح «أنثروبولوجيا»، لا سيّما أنّ البعض يتحدّث عن تداخله، في البدايات، مع مصطلح أثنولوجيا وأثنوجرافيا، وذلك على غرار ما قام به «مارسيل موس»؟
- قبل الدخول في متاهات المصطلحات وتشابكاتها يمكن القول، وبكلّ بساطة، بأنّ الأنثروبولوجيا هي الفرع المعرفي الذي يتّخذ من الإنسان بكلّ امتداداته الفيزيولوجيّة والاجتماعيّة والثقافيّة موضوعًا للدّراسة، أي أنّ الأنثروبولوجيا هي علم البحث عن الإنسان، ولكن بما أنّ هناك علومًا أخرى تتّخذ من الإنسان موضوعًا للدّراسة كالنّفس الذي يدرس السلوك الإنساني، فإنّ ما يُميّز تخصّص الأنثروبولوجيا هو منهجها الشمولي أو الكلي، فهي تدرس الإنساني دراسةً شاملةً وكليّةً من أجل فهمه بطريقةٍ صحيحةٍ، فالأنثروبولوجي حين ينزل إلى الميدان لدراسة مجموعة بشريّة ما فإنّه يدرس نظام القرابة والدين والعادات والطقوس والسلطة والاقتصاد وغيرها لتكتمل لديه قطع الأحجية ويتمكّن من النّظر إلى تلك المجموعة البشريّة من كلّ الزوايا الممكنة.
من جهة ثانية تتميّز الأنثروبولوجيا بمنهجها المتفرّد، وهو استخدام الملاحظة بالمشاركة، وهنا فإنّ الباحث لا يقف موقف المتفرّج المنفصل عن مجتمع البحث، بل يندمج فيه ويشارك في نشاطاته ويصبح فردًا منه مما يعطيه فرصةً لفهم المجتمع من الداخل.
أمّا إذا عدنا لموضوع تعدّد المصطلحات وتشابكاتها (إثنوغرافيا، إثنولوجيا، أنثروبولوجيا) فقد اقترح الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ستروس في كتابه «الأنثروبولوجيا البنيوية» تفسيرًا يستحقّ التنويه بهذا الخصوص، فهو يرى أنّ العلاقة بين هذه المصطلحات علاقةٌ خطيّةٌ تتابعيّة بالترتيب التالي: إثنوغرافيا ثم إثنولوجيا وأخيرًا أنثروبولوجيا.
تشكّل الإثنوغرافيا المرحلة الأولى من العمل، وتُشكّل المرحلة الوصفيّة للتخصّص، وفيها ينزل الباحث إلى الميدان ويسعى إلى جمع المواد والمعلومات والبيانات من خلال وصف الواقع كما هو بعاداته وتقاليده وأعرافه، أي أنّه لا يقف عند حدّ الأنشطة الماديّة للشعوب التي يدرسها، إنّما يتجاوزها إلى طقوسها الروحيّة وقيمها المعنويّة.
أمّا الإثنولوجيا فتشكّل المرحلة الثانية، أي أنّه بعد أن يعود الباحث من الميدان، فإنّه يحاول أن يحلّل المواد والبيانات التي جمعها في سبيل الوصول إلى فهمها، وهنا ينتقل الباحث من المستوى المادي إلى مستوى أوّل من التجريد، وهنا قد يكون تركيز الباحث جغرافيًّا (مثلا في منطقة معيّنة نجد كذا وكذا من العناصر) أو تاريخيًا (مثلا أنّ العنصر الفلاني تطوّر عبر العصور من إلى ...) وهكذا.
أمّا الأنثروبولوجيا والتي تُشكّل الحلقة الثالثة والأخيرة من هذه السلسلة، فهي المستوى التجريدي الخالص للتخصّص، وفيها يتمّ استخدام المقارنة، أي مقارنة الشعوب الإنسانيّة قصد الفهم الأعمق للكائن الإنساني، فهي تشكّل منهجًا يسعى إلى تجميع المعرفة بالإنسان من الجوانب كافّة؛ وذلك بهدف تقديم فهمٍ متكاملٍ ومترابطٍ على الإنسان ونتاجه الحضاري في الماضي والحاضر، أو كما قلنا في بداية إجابتنا على السّؤال الأنثروبولوجيا هي الدراسة الكلية للإنسان في امتداداته البيولوجيّة والاجتماعية والثقافيّة.
وبهذا تكون الأنثروبولوجيا أكثر الدّراسات الإنسانيّة شمولًا في معالجتها للإنسان؛ إذ تهتمّ بدراسة الإنسان ككائن بيولوجي حي وكصانع للثقافة وحامل لها سواء في الماضي أو الحاضر، وتحاول استشراف رؤًى منهجيّةً جديدةً للمستقبل الذي ينتظر هذا الإنسان، والموضوعات الأساسيّة المترابطة والتي يمكن اعتبارها محور اهتمام الأنثروبولوجيا تتصل بوصف وتوثيق وتفسير مختلف أوجه التشابه والاختلاف (المقارنة) بين الجماعات العرقيّة والثقافيّة.
* للأنثروبولوجيا فروع عدّة، ما هي أهمّ هذه الفروع وما الفروقات بينها؟ ومن هم أهمّ شخصيات كلّ فرع؟
- تقليديًا هناك اختلاف كبير في تحديد فروع الأنثروبولوجيا، إلا أنّ التقسيم الأبسط والأكثر انتشارًا هو التقسيم الرباعي الذي يتمّ بمقتضاه تقسيم الأنثروبولوجيا إلى أربعة فروع، قد تختلف تسميتها من مدرسة إلى أخرى وهي:
1-الأنثروبولوجيا الطبيعيّة أو البيولوجيّة أوالبيوأنثروبولوجيا والتي تُعنى بدراسة تطوّر الصّفات البيولوجيّة للإنسان واختلاف الأعراق والشعوب من الناحية الفيزيائيّة.
2- الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة أو الثقافيّة أو الإثنولوجيا وتُعنى بدراسة المجتمعات والثقافات في كلّ أنحاء العالم.
3- السوسيولسانيات أو أنثروبولوجيا اللّغة وتُعنى بدراسة كيفيّة تأثير اللّغة على المجتمع والحياة الاجتماعيّة والثقافيّة من جهة وتأثير المجتمع في اللغة وتغيّرها وتطوّرها من جهةٍ ثانيةٍ.
4- علم الآثار ويُعنى بدراسة اللّقى الأثريّة من أجل إعادة بناء ثقافات الماضي وتحليلها واستخلاص بعض الحقائق عن أساليب المعيشة ونوع الغذاء وطرق الصيد والمناخ وغيرها.
وحاليًا يبدو هذا التقسيم متجاوزًا لازدياد التباين بين هذه الفروع؛ حيث تفرّع علم الآثار إلى عشرات التخصّصات والأمر نفسه بالنسبة للسوسيولسانيات، أمّا الأنثروبولوجيا الفيزيائيّة فأصبحت تخصّصًا طبّيًّا بحتًا له فروعه الخاصّة، وأصبحت الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة والثقافيّة بمثابة الفرع الوحيد الذي بقي وفيًا للتخصّص الأصلي ومُعبّرًا عنه وممثّلًا له.
وربّما مردّ ذلك إلى أنّ أغلب النّقاشات الكبرى والحوارات والنظريات استأثر بها هذا الفرع الذي عرف ظهور العديد من المدارس والتيّارات والكثير من الروّاد والمنظّرين الذين أثروا الحقل بنظرياتهم وأفكارهم، ويعود لهم الفضل في تطوير الأنثروبولوجيا حتى وصلت إلى ماهي عليه اليوم، مثل: الإنجليزي إدوارد تايلور صاحب مقولة الثقافة، ومواطنه جيمس فريزر رائد دراسة الأساطير القديمة، والأميركي التطوّري لويس مورغان مؤسّس أنثروبولوجيا القرابة وواضع النموذج التطوّري للبشريّة، والبولوني الإنجليزي برونيسلاو مالينوفسكي الذي وضع أسس العمل الميداني بعد أن قضى أربع سنوات كاملة في جزر التروبرياند، والأميركي مؤسّس المدرسة الثقافيّة الأميركية التي تعطي الأولويّة للثقافة ممثّلة في الدين والرموز واللغة، وتلميذته الأشهر مارغريت ميد المرأة التي تركت بصماتها في تاريخ الأنثروبولوجيا من خلال دراستها حول سنّ الرشد في جزر ساموا وتأثيرها الكبير في الحركة النسويّة الأميركيّة والعالميّة، وروث والفرنسي كلود ليفي ستروس صاحب البنيوية التي أقرّت وحدة النوع البري وساهمت في تفكيك المقولات العنصريّة والتطوريّة، والأميركي كليفورد غيرتز أب صاحب الثقافوية التي تغزو عالم اليوم، هؤلاء جميعًا وغيرهم كان لهم تأثير قوي في المُضيّ قدمًا بالفكر الأنثروبولوجي من أجل الوصول إلى الفهم الأفضل للإنسان، وبعضهم امتدّ تأثيره حتى خارج الأنثروبولوجيا مثل مرغريت ميد ونضالها النسوي وكلود ليفي ستروس الذي أثّرت بنيويّته في كلّ الحقول المعرفيّة والأدبيّة والفنيّة.
* غالبًا ما يتمّ الرّبط بين الأنثروبولوجيا والاستعمار، لا سيّما وأنّ مجال هذا العلم ظلّ محصورًا، بحسب تعبير جيرار لكلرك، بالمجتمعات التي أُطلق عليها تباعًا اسم: المجتمعات المتوحّشة، البدائيّة، التقليديّة، القديمة. على أنّ هذا الربط لا ينبع من عقليّة المؤامرة؛ إذ إنّنا نجد دراساتٍ غربيةً أقامت هذا الربط. (انظر مثلاً: الأنثروبولوجيا والاستعمار لجيرار لكلرك). برأيكم، ما هي دوافع الاستعمار وأهدافه في إنشاء هذا العلم؟ وإلى أيّ مدى استطاع تحقيق أهدافه؟ وهل تصلح هذه الدّراسات اليوم بعد التطوّر الكبير الذي شهدته تلك المجتمعات؟
- الحديث عن علاقة الأنثروبولوجيا بالاستعمار حديث ذو شجون وذو تاريخٍ طويلٍ، تتمايز فيه الرّؤي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لذا نرى أنّه من المهمّ أن نتناوله بحذرٍ شديدٍ تلافيًا لأيّ تحيّزاتٍ أيديولوجيّةٍ أو حتى شعوريّة يمكن أن تؤثّر في المقاربة السليمة للموضوع.
من جهةٍ أولى، لا أحد يستطيع أن يُنكر أنّ الأنثروبولوجيا كعلمٍ ولدت في حجر الاستعمار، وساهمت عبر تاريخها ومقولاتها ونظرياتها وخاصة منها النظريّة التطوريّة في شرعنته علميًا وأخلاقيًا، وعملت عبر دراساتها ومناهجها وأدواتها على مساعدته في السيطرة على الشعوب المستعمرة، وكانت الحجّة الأساسيّة لذلك هي «فكرة مسؤوليّة نشر الحضارة الغربية» وتمدين الشعوب المتخلّفة حتى تصل إلى مرحلة الرّشد الحضاري، لذلك كانت الأنثروبولوجيا هي وسيلة الإنسان الغربي المُعجب بحضارته وتفوّقه لاستكشاف الآخر غير الغربي البدائي والمتوحّش والمتخلّف وإحكام سيطرته واستغلاله ونهب ثرواته ومقدّراته، وقد اندرج الأنثروبولوجيون آنذاك في هذا المسعى بعضهم بوعي وبعضهم بغير وعيٍ وعملوا على تفكيك المجتمعات المحليّة.
* ربطًا بالسؤال السابق، ما هي أهمّ القضايا المعاصرة التي يسعى الاستعمار لإثارتها ودراستها في الأنثروبولوجيا اليوم؟
- ربّما يُمكننا اليوم الحديث عن الإمبرياليّة أكثر من الاستعمار على أساس أنّ كلمة مستعمر مشتقّة من الكلمة اليونانيّة (colonus) التي تعني المزارع، ففي القديم كان المستعمر يأتي معه بالناس للإقامة في أراضي الشعوب المستعمرة وزراعتها واستغلالها، أمّا الامبريالية فمشتقّة من الكلمة اليونانيّة (imperium) وتعني القيادة، أي هيمنة بلد على آخر باستخدام وسائل مباشرة، والإمبرياليّة جاءت كتعويض عن انتهاء الاستعمار مما يسمح للدول المهيمنة باستمرار الاستغلال الاقتصادي والسياسي بعد انتهاء الاستعمار العسكري المباشر، لذلك ربّما يكون من الأفضل طرح السؤال عن أهم القضايا الأنثروبولوجيّة التي تسعى الإمبرياليّة اليوم لإثارتها، ومن المؤكّد أنّ طرح السؤال بهذه الطريقة يجعل الإجابة أسهل، ولكن قبل الإجابة ربّما يكون من المفيد معرفة الميكانيزمات التي تستخدمها الإمبرياليّة لتحديد القضايا التي عليها إثارتها وتجهيزها والدفع بها لتكون ضمن بؤرة الاهتمام البحثي المحلي، بما يضمن لها الاستفادة منها خاصّة في ظلّ عدم القدرة على التواجد الفعلي في الميدان، وهنا يمكن القول بإيجاز إنّ كلّ الدّول الغربيّة تقريبًا تُمارس نوعًا من الإمبرياليّة الأكاديميّة عبر استخدام مجموعة من الأذرع البحثيّة التي تتغلغل داخل الدّول والمجتمعات النامية تحت مسمّيات مراكز البحوث والدّراسات أو باستخدام والمؤسّسات الأكاديميّة المانحة العابرة للحدود والتي تفرض أجندتها البحثيّة على الباحثين المحليين، والذين غالبًا ما ينساق الكثير منهم بوعيٍ أو بغير وعيٍ وراء هذه الأجندات نظرًا لما تقدّمه من الامتيازات الماديّة والمعنويّة، بل للأسف الكبير ظهر ما يُطلق عليه «الباحث المقاول» الذي يسعى للحصول على العقود البحثيّة دون النّظر في الشرعيّة الأخلاقيّة للأبحاث أو مناقشة الأهميّة السياقيّة لها ما دامت ستدرّ عليه عائدًا نفعيًّا، وهو ما يخلق نوعًا من السيولة التي تؤدّي إلى إهمال القضايا البحثيّة المحوريّة والأساسيّة للمجتمعات لصالح قضايا بحثيّة مختلقة لا تخدم سوى أجندة الأطراف المهيمنة.
أمّا من ناحية المواضيع، فإنّ الإمبرياليّة تسعى لدراسة المواضيع التي تخدم مشاريعها في المنطقة وتحقّق مصالحها حتى لو لم تكن ذات أهميّة للدول والمجتمعات المستهدفة، وهنا يُمكننا القول إنّ هناك نوعين من المواضيع، النّوع الأوّل هو ما يُعزّز معرفة الدول المهيمنة بالواقع الداخلي للمجتمعات، ما يُسهّل إحكام السيطرة عليها مثل مواضيع الشباب والمرأة والسياسة والهجرة والديمقراطية وغيرها.
النوع الثاني هو إثارة مواضيع بحثيّة تركّز على تغيير نظام التمثّلات وتغيير التوجّهات العامّة للمجتمعات من خلال كسر الحواجز النفسيّة خاصّة لدى الفئات العمريّة الأصغر تجاه قضايا إشكاليّة وشائكة في مجتمعاتهم، وربّما يُمكننا من خلال هذا المنظور فهم تركيز المؤسّسات الغربيّة البحثيّة على قضايا مثل الجندر والجنس والمثليّة وبعض المواضيع ذات الطابع الديني الخاص في العالم العربي والإسلامي، رغم أنّها لا تمثّل أيّ قضايا محوريّة مثل الفقر والهشاشة والفساد والقمع وغيرها من القضايا التي تستحق من الباحثين اهتمامًا خاصًا واستعجاليًا.
وهنا أحبّ أن أقول إنّه من المهم أن نركّز على إطلاق المراكز البحثيّة المحليّة التي تستطيع أن تواجه هذا التمييع وتركز على القضايا البحثيّة المُلحّة والمهمّة التي تحتاجها مجتمعاتنا وتستغلّ الطاقات الأكاديميّة المحليّة بما يحدّ مصالح مجتمعاتنا ودولنا.
* لو توقّفنا قليلًا عند الأنثروبولوجيا الثقافيّة ومساهمات ادوارد تايلور (صاحب كتاب الثقافة البدائيّة). سنجد أنّ المرحلة الكولونياليّة الكلاسيكيّة، بوصفها عملًا استعماريًا تقليديًا يرتكز على الاحتلال المباشر، قد انحسر كثيرًا، لا سيّما مع توجّه الغرب نحو استعمار ثقافي يؤمّن له مصالحه، ثم تطوّر هذا النّوع من الاستعمار مع الثورة الكبيرة في عالم الاتصالات. إلى أيّ مدى ترون أنّ الدّراسات الأنثروبولوجيّة الثقافيّة بالفعل ترتبط بأهداف استعمارية؟ وفي حال رأيتم وجود رابط فما هي أسس هذه الرؤية ومكوّناتها الأساسيّة؟
- شكّلت المدرسة التطوريّة، بنموذجها التراتبي للشعوب والثقافات الذي يضع الرجل الغربي في قمّة هرم الحضارة، الأساس الأخلاقي الذي شرعن للتمدّد الاستعماري بحجّة أنّ الشّعوب البدائيّة لا تزال في مرحلة «الطفولة الحضارية» مما يجعلها غير قادرةٍ على إدارة أمورها بنفسها، ومن هنا يجب السّعي لمساعدتها على التطوّر والوصول إلى ما وصل إليه الرجل الأبيض، إلّا أنّ ما كان يقع على أرض الواقع كان شيئًا مختلفًا، فقد كان الاستعمار عمليّة ممنهجة للاستيلاء على أراضي الشّعوب واستنزاف ثرواتها واستعبادها والسيطرة عليها بما يخدم مصالح المستعمر فقط.
ورغم أنّ الأجيال اللّاحقة من الأنثروبولوجيين، خاصّة أصحاب المدرسة الثقافيّة والبنيويّة، عملوا على تحرير الأنثروبولوجيا من الأفكار التطوريّة والعنصريّة، ونادوا بالمساواة الثقافيّة ووحدة التنوّع البشري، وعملوا على جعل الأنثروبولوجيا علمًا تحرّريًا يُساهم في تخليص الشعوب من نير الاستعمار، وفي هذا الإطار نشير إلى النداء الشهير «العرق والتاريخ» الذي كتبه كلود ليفي ستروس بطلب من اليونسكو وحطّم فيه خرافة العرق المتفوّق.
ومع كلّ هذه الجهود إلّا أنّ القوى الاستعماريّة لم تتخلَّ يومًا عن تطويع أيّ فرع من العلوم لخدمة مصالحها بما في ذلك الأنثروبولوجيا، خاصّة مع ارتفاع حدّة التّنافس الدولي والحرب الباردة حتى ظهر ما يسمّى بـ «عسكرة العلوم» وهو مصطلح يشير إلى قيام الجيوش بتمويل أبحاث علميّة تهدف إلى مساعدتها على ربح الحروب، وفي كثير من الأحيان تتم هذه العلميّة في سريّةٍ تامّةٍ وبالتواطؤ من العلماء أنفسهم بدرجات مختلفة، والأنثروبولوجيا ليست استثناء في هذا الموضوع، وقد بينت الكثير من الأبحاث التي نشرها أنثروبولوجيون محترمون حقيقة هذا الأمر، وأخصّ بالذِّكر هنا البروفيسور «ديفيد إتش برايس» أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة سانت مارتن في لاسي بواشنطن، والذي بيّن في ثلاثيّته الشهيرة كيف قامت المخابرات الأميركية والبنتاغون، بل وحتى مؤسّسات التمويل الضخمة مثل وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية بتوظيف علماء الأنثروبولوجيا خلال الحرب الباردة؛ من أجل تحقيق أهداف غير عسكريةٍ تحت غطاء البحث الأنثروبولوجي، وهو ما سمّاه «الاستخدام المزدوج» وتتبع برايس تاريخ التوظيف الأميركي خاصّة الاستخباراتي للأنثروبولوجيا؛ لبسط الهيمنة الأميركية على دول العالم الثالث.
وقد قام الكثير من الأنثروبولوجيين بمواجهة هذه الممارسات والاحتجاج عليها، وقد لعبت جمعيّة الأنثروبولوجيين الأميركيين دورًا بارزًا في هذا المجال من خلال معارضتها الصريحة لبرنامح HTS الذي وظف بموجبه الجيش الأميركي أنثروبولوجيين في أفغانستان والعراق؛ من أجل مساعدته في تفكيك المعارضة المسلّحة التي كان يُواجهها في هذين البلدين. كما أنّه في سنة 2013 استقال الأنثروبولوجي الأميركي المعروف مارشال ساهلينز من الأكاديمية الوطنية للعلوم اعتراضًا على استخدام الأنثروبولوجيين التابعين للأكاديمية في مشاريع بحثيّة مشبوهة أخلاقيًا بتمويل من معهد البحوث العسكريّة، وهذا العرض يُبيّن لنا الصراع القائم في الجماعة العلميّة الأنثروبولوجيّة الأميركية والانقسام الذي يمزّقها نتيجة لتدخل المؤسّسات السيادية الأميركية وضغطها المتواصل عليها.
* يبدو أنّ ثمّة خلاف بين الأنثروبولوجين أنفسهم حول الدين، بين تيّار يمكن وصفه بأنّه يميل إلى الإيمان، وتيّار يوصف بأنّه ملحد. ويقع هذا الخلاف حول ما سمّاه «بيير بورديو» بـ«المجال الديني». هل يمكن لكم أن تشرحوا لنا تفصيل الخلافات بين الأنثروبولوجيين حول الدين؟ وما هي أهمّ محاور الخلاف؟ ومن أبرز الروّاد في هذه المناقشات؟
- شكّل الدين -باعتباره منظومةً من المعتقدات التي تشكّل رؤية الناس للعالم وتؤثّر في تصرّفاتهم- أحد التيمات المفضّلة في الأنثروبولوجيا، بل يشكّل الدين أحد الميادين الكبرى للأنثروبولوجيا، وهو الأنثروبولوجيا الدينيّة التي وضع أسسها الأنثروبولوجي البريطاني ذائع الصيت ادوارد تايلور من خلال دراساته حول الأرواحيّة وتطوّر الممارسات الدينيّة والتي ضمّنها في كتابه الشهير «الثقافة البدائيّة»، وقد سعى بعض الأنثروبولوجيين الأوائل لاستكشاف مجموعات بشريّة لا تتوفر لديها تصوّرات دينيّة لكنّهم لم يفلحوا؛ حيث بيّنت الاستكشافات التقارير الاثنوغرافيّة أنّه حتى السكان الأصليين في أستراليا والذين كانوا يعتبرون الأكثر (بدائيّة) بالمفهوم التطوري كان لديهم إيمان بقوى غيبيّة بغض النّظر عن طبيعة هذه القوى، وكان لهم «شامان» أو زعيم روحي، ويستخدمون نوعًا من «التمائم» لدرء الأخطار والشرور، ومع ذلك حاولت التطوريّة في القرن التاسع عشر النّظر إلى الدين باعتباره مرحلةً سابقةً على التفكير المنطقي، أي أنّ الدين كان محاولة لفهم الطبيعة الغامضة في ظلّ عدم التوصّل لتفسيراتٍ علميّةٍ، إلّا أنّ هذه النّظرة الوضعيّة للدين لم تصمد هي الأخرى بعد أن أكّدت المعلومات الإثنوغرافيّة أنّ الدين ظاهرةٌ عامّة لا يخلو منها مجتمع.
ومن الأمور الخلافيّة بين الأنثروبولوجيين فيما يتعلّق بالدين هو الطبيعة التوحيديّة أو التعدّديّة، ففي حين ذهب القائلون بالاحيائيّة (حياة المادة) والارواحيّة (عبادة الكائنات) والمانا (عبادة الأجداد) والشامانيّة (عبادة الأرواح) إلى أنّ التعدّديّة هي الأصل وأن التوحيد هو مرحلة لاحقة، ويُشكّل الفرنسي ليفي بروهل أحد أبرز القائلين بهذا القول بعد ذهابه إلى أنّ عقل البدائي عقلٌ لا منطقيّ (وهو ما ثبت خطأه بعد ذلك)، لذلك قام باختراع الأساطير للتعبير عن تجربته الروحيّة.
أمّا القائلين بالتوحيديّة على العكس رأوا في الوحدانيّة أساس التجربة الروحيّة للإنسان، الذي بمجرّد أن صنع شيئًا توصّل إلى ضرورة وجود صانعٍ أوّليٍّ أزليٍّ لهذا الكون، ويتصدّر هذا الرأي تلميذ تايلور أندرو لانغ الذي كشف أنّ كلّ الشعوب البدائيّة لها «كائن أعلى واحد وأزلي» واستشهد بقبائل سمانغ ماليزيا وناصره في ذلك «فلهايم شميدت» الذي اعتمد على التقارير الاثنوغرافيّة التي أكّدت أنّ كلّ الشّعوب التي لا زالت في مرحلة «التقاط الثمار» تعتقد في إله واحد وهو ما يُؤكّد أنّ التوحيد هو الأصل في التجربة الدينيّة للإنسان وأنّ التعدّد ظهر لاحقًا.
* في إطار الخلافات التي وقعت بين الانثروبولوجيين، كان موضوع «المقدّس» عنوانًا بارزًا. وقد هيمنت في بداية القرن العشرين نظريّة مفهوم المقدّس عند «دوركايم» و«أوتو» و«فان دير لووف» و«مرسي الياد» و«كايوا». وربّما كانت طبيعة النّظرة للمقدّس، وربطها بالأساطير والخرافات من أهمّ العوامل التي أدّت لتطرّف الأنثروبولوجيا ونظرتها السلبيّة للدين. كيف تقيّمون نظرة الأنثروبولوجيين للمقدّس؟ وأين تكمن عناصر الخلل الرئيسيّة من وجهة نظر إسلاميّة؟
- يُعتبر المقدّس أحد المقولات المحوريّة في الأنثروبولوجيا الدينيّة، وشغل حيّزًا كبيرًا في الدّراسات الأنثروبولوجيّة، ويمكن تعريفه بأنّه منظومة رمزية «فوق طبيعية»؛ لأنّ الإنسان حين يتعامل مع الطبيعة من حوله يقوم بإعطاء الأشياء معاني تنزع عنها معناها البسيط ليدخلها في منظومة من الرموز والقيم، أي يرفعها من البُعد الطبيعي إلى البُعد فوق الطبيعي، وبهذا يصبح لدينا عالمان متمايزان ومتضادان: المقدّس السماوي والمدنّس الأرضي (أو الدنيوي)، وهذا التقسيم يسهّل على الناس عمليّة التصنيف أثناء مواجهتهم مع العالم، فكلّ ما ينتمي لعامل المقدّس يحظى بالتبجيل، وكل ما ينتمي للمدنّس يحظى بالاحتقار، ويستمدّ المقدّس هيبته من ارتباطه بما سمّاه «مرسيا إلياد» الحدث السببي الأوّل الذي يتطلّب تأبيده لدى المجموعة البشريّة لكي يبقى حيًّا في أذهان أفرادها أمران متساوقان: أسطورة تروي الحدث في الماضي، وطقس يحاكيه في الحاضر. وقد لقيت الأساطير والطقوس باعتبارها تجليًا للمقدّس اهتمامًا كبيرًا حتى أصبحت في كثير من الأذهان ردفًا للدين، والمشكلة هنا أنّ بعض الأنثروبولوجيين الغربيين قاموا بعمليّة تعميم واسعة رغم وجود فروقٍ جوهريّةٍ بين الأديان وهنا مربط الخلل، وعلى سبيل المثال فنحن كمسلمين مؤمنين نرى أن لا مكان في الدين الإسلامي للحديث عن الأساطير والطقوس لكن هناك عقيدة وشعائر وشريعة، عقيدة يؤمن بها المسلم كالإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر، وشعائر يؤدّيها كالصلاة والحج، بالإضافة إلى منظومةٍ عمليّةٍ وأخلاقيّةٍ عليه الالتزام بها وهي الشريعة، وهذا يُحيلنا إلى فكرة الاحترام للآخر من خلال التعرّف عليه بشكلٍ صحيح أوّلًا، لذلك خلقنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف كما يقول القرآن الكريم، فالمعرفة تستوجب الاحترام لا الاحتقار.
* طالما أنّ ثمّة إجماع على أنّ الأنثروبولوجيا هو علم غربي محض، إلى أيّ مدى يُمكن تأسيس أنثروبولوجيا عربيّة أو إسلاميّة؟
- لطالما هام العرب بفكرة توطين المعرفة، أي أن يكون لهم معرفةٌ خاصّة بهم، وكأنّهم استثناء في هذا الكون، وعلى مدى العقود الماضية رأينا الكثير من الكتابات والخطابات حول علم الاجتماع العربي وعلم الاجتماع الإسلامي وعلم الاجتماع الوطني، ويُمكننا قول الشيء نفسه عن الأنثروبولوجيا، وتعالت الأصوات والشعارات المطالبة بضرورة التأسيس لأنثروبولوجيا عربيّة أو إسلاميّة، والإشكال في هذه الحالة بالإضافة إلى «الكسل الأكاديمي» المبني على إنكار الآخر، هو إقصاء البُعد الكوني لنا كعربٍ وكمسلمين، فنحن لسنا استثناء بين الشعوب، بل نحن جزء من هذا العالم، يصدق علينا ما يصدق على غيرنا، وتحكمنا القوانين الاجتماعيّة نفسها التي تحكم كلّ المجموعات البشريّة، ومن هنا فطرح الموضوع بهذه الطريقة ليس بذي جدوى، وهو ما أكّدته الأحداث فيما بعد، فلا نحن صار لدينا أنثروبولوجيا عربيّة ولا إسلاميّة ولا هم يحزنون، وهو ما يؤكّد أنّ الأمر كان مدفوعًا بصعود نوع من الايديوجيا القوميّة والدينيّة المحافظة.
إنّ ما ينبغي التفكير فيه حقًّا هو التأسيس لمفاهيم ابستمولوجيّة نقديّة انعكاسيّة تصلح في السياق العالمي والمحلي في الوقت ذاته، وهو ما ذهب له الأنثروبولوجي المغربي الكبير عبدلله حمودي في كتابه الأخير «المسافة والتحليل»، وعبّر عن ذلك بقوله «المسافة في أقصى حميمية»، المسافة عند حمودي هنا لا تعني الابتعاد عن المجتمع، بل قدرة الباحث على التموقع بالنسبة لمجتمعه من جهة وحفاظه على خيط رفيع من الحميمية تسمح له بفهم أفضل لمجتمعه من جهة ثانية، وذلك باستخدام «الاغتراب الممنهج»، أي تجميد كلّ معرفةٍ سابقةٍ عن هذه المجتمعات ومساءلتها وفحصها، وتعلم لغات عالميّة من شأنها فتح الأعين على الكثير من الأمور المسكوت عنها في لغته الأصليّة، والاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى بما فيها مجتمعات المستعمر نفسه، بمعنى أنّ ننطلق من داخل الأنثروبولوجيا كعلم لا من خارجها إذا أردنا التأسيس لدراسات أنثروبولوجية رصينة تخدم نتائجها مجتمعاتنا، وكلّ طريق غير ذلك لن يوصلنا إلى شيء.