البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الذكر المحفوظ قراءة جديدة في تاريخ جمع القرآن وما روي في تحريفه (2)

الباحث :  السيّد عليّ الشهرستاني
اسم المجلة :  تراثنا
العدد :  110
السنة :  السنة الثامنة والعشرون / محرم - جمادى الاخرة 1433 هـ
تاريخ إضافة البحث :  March / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  9749
الذكر المحفوظ
قراءة جديدة في تاريخ جمع القرآن وما روي في تحريفه (2)
السيّد عليّ الشهرستاني
تكلّمنا في العدد السابق عن الإنزالين الدفعي والتدريجي للقرآن ، موضّحين معنى العرضة ، وما قيل عن ترتيب القرآن ، هل هو توقيفي أم اجتهادي ؟ آتين بالروايات الدالّة على إشراف النبيّ(صلى الله عليه وآله) وجبريل(عليه السلام) على ترتيب الآيات في السورة .
ثمّ أشرنا إلى وجود أقوال أربعة في جمع القرآن وتأليفه ، وبيّنا أوّله وهو جمع القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأنّه أمر بجمع ما نزل عليه إلى ذلك الحين ، مؤكّدين وجود مصاحف ناقصة للصحابة يقرؤون فيها ، وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)أكّد على عدم تنجيسها ، وحملها إلى بلاد الكفر و . . . ، وأنّ ما قالوه في تفسير جمع القرآن بأنّه يعني الحفظ لا الكتابة ، هو باطل .
قالوا بذلك لسلب فضيلة جمع القرآن للإمام عليٍّ(عليه السلام) وإعطائها لآخرين ، مع أنّه الأولى بذلك ـ عدا كونه أوّل كتّاب الوحي ، وصهر الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وزوج البتول(عليها السلام) ، وابن عمّه ، وأوّل القوم إسلاماً ـ وذلك لكونه عِدْل القرآن ، وأحد الثقلين ، والقائل : سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار .
ثمّ صاروا إلى التشكيك في روايات جمع الإمام للقرآن وتضعيفها ،
صفحه 78
وحملها على الجمع في الصدور ، وأكثر من ذلك أنّهم رووا على لسانه أنّه قال : «أعظم الناس أجراً في المصاحف أبوبكر ، رحمة الله على أبي بكر هو أوّل من جمع كلام الله بين اللوحين»(1) . وقوله في مصحف عثمان : «والله لو ولّيت لفعلت مثل الذي فعل»(2) .
والآن مع القول الثاني في الجمع والتأليف :
2 ـ الجمع بعد وفاة رسول الله مباشرة بواسطة الإمام عليّ(عليه السلام):
عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعليٍّ(عليه السلام): يا عليّ ، القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليٌّ(عليه السلام) فجمعه في ثوب أصفر ،ثمّ ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتّى أجمعه ، فإنّه كان الرجل لَيَأْتيه فيخرج إليه بغير رداء حتّى جمعه ، قال: وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لو أنّ الناس قَرأوا القرآن كما أُنزل ما اختلف اثنان»(3) .
وعنه(عليه السلام) أيضاً ، عن أبيه ، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): «ما أحد من هذه الأمّة جمع القرآن إلاّ وصيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)»(4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصاحف 1 / 154 الرقم 17 و 18 و 19 ، تاريخ دمشق 30 / 380 ، 381 ، تاريخ الإسلام 3 / 115 ، تاريخ الخلفاء : 86 .
(2) أنظر البرهان للزركشي 1 / 240 ، الاتقان للسيوطي 1 / 166 ، تاريخ دمشق 39 / 44 ، 246 ، 248 ، تاريخ ابن شبة 3 / 995 .
(3) تفسير القمّي 2/451 وعنه في بحار الأنوار 89/48/ح 7 .
(4) تفسير القمّي 2/451 وعنه في بحار الأنوار 89/48/ح 5 ، وفي بصائر الدرجات : 214 ح 5 من الباب 5 بسنده عن الباقر(عليه السلام) قال: «ما أجد أحداً من هذه الأمّة من جمع القرآن إلاّ الأوصياء» .
صفحه 79
وعن الباقر(عليه السلام) أيضاً : «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّل الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب والأئمّه من بعده»(1) .
وقوله(عليه السلام) : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»(2) .
وهذه النصوص تؤكّد أنّ القرآن غير مجموع كاملاً على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ممّا دعى النبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يكلّف الإمام أمير المؤمنين عليّاً(عليه السلام) أن يجمعه بين الدّفتين ; لأنّ تنفيذ هذه المهمّة وإكمالها لا يتمّ إلاّ بيد وصي محمّد(صلى الله عليه وآله)وهو عليّ ابن أبي طالب(عليه السلام) .
نعم ، إنّها كانت مكتوبة في صحف ، على أشكال مختلفة في الحرير والقرطاس والعسب والكتف ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) أراد من الإمام أن يوحّد شكلها ونظمها ، وأن يجمعها ما بين اللّوحين مع تفسيرها النبويّ .
وقد ذكر الأُستاذ عزّة دروزه في كتابه (القرآن المجيد) الخبر الآنف المروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) ثمّ قال : «وهذا يفيد أنّ القرآن كان يدوّن على وسائل الكتابة المعروفة ، وكان مدوّناً كذلك في حياة النبيّ ، وكان النبيّ يُعْنَى بحفظه في بيته»(3) .
كما يؤكّد خبر وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) لعليٍّ(عليه السلام) في أمر جمع القرآن ما رواه العيّاشي في تفسيره في ذيل رواية : «قال عليّ: إنّ رسول الله أوصاني إذا وارَيْتُهُ في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتّى أؤلِّف كتاب الله ; فإنّه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أصول الكافي 1 / 228/1 ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الإئمّة(عليهم السلام) .
(2) اُصول الكافي 1 / 228 .
(3) نصوص في علوم القرآن 3 / 436 عن كتاب دروزه .
صفحه 80
جرائد النخل وفي أكتاف الإبل . . .»(1) .
وجاء في تفسير الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) : أنّ المراد بالكتاب هنا أجزاء القرآن المتفرّقة والّتي كانت في دار النبيّ(صلى الله عليه وآله) فورثها منه عليّ(عليه السلام) وجمعها وورثها من عليّ(عليه السلام) الأئمّة(عليهم السلام) من بعده ، رواه المحدّث البحراني عن ابن شهرآشوب عن الإمامين الصادق والباقر(عليهم السلام)في تفسير (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) أنّهما قالا : «هي لنا خاصّة وإيّانا عنى»(2) .
وقال الطبرسي بعد نقله الأقوال : «وهذا أقرب الأقوال ; لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاصطفاء والأجتباء وإيراث علم الأنبياء ، إذ هم المتعبّدون بحفظ القرآن»(3) .
وإنّي نظراً لحساسيّة الموضوع كان عليّ أن آتي أوّلاً بالأخبار الموجودة في كتب الشيعة الإمامية عن مصحف الإمام عليٍّ(عليه السلام) ، ثمّ أقوال علمائهم فيه ، وبعدها أذكر روايات الجمهور وأقوال علمائهم في ذلك كي أكون موضوعيّاً وشموليّاً في بحثي ، ولا أنحاز لطرف دون آخر .
وإليك الآن الروايات في كتب الإمامية :
* في بصائر الدرجات للصفّار (ت 290 هـ) بإسناده عن سالم بن أبي سلمة ، عن الإمام الصادق(عليه السلام) . . . أنّه: «أخرج المصحف الذي كتبه عليّ(عليه السلام)وقال: أخرجه عليّ(عليه السلام) إلى الناس حيث فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذاكتاب الله كما أَنزل اللهُ على محمَّد وقد جمعته بين اللَّوحين ، قالوا: هو ذاعندنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير العيّاشي 2/66 ، وعنه في بحار الأنوار 28/227/ح 14 .
(2) مناقب بن شهرآشوب 3 / 274 ، وسائل الشيعة 27 / 200/33590 .
(3) تفسير مجمع البيان 8 / 245 .
صفحه 81
مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه ، قال : أما والله لا ترونه بعديومكم هذا أبداً ، إنّما كان عَلَيَّ أن أخبركم به حين جمعته لتقرؤوه»(1) .
* وروى العيّاشي (ت 320 هـ) في تفسيره عن بعض أصحابنا عن أحدهما(عليهما السلام): . . . «فلمّا قُبِضَ نبيُّ الله(صلى الله عليه وآله) كان الذي كان; لِما قد قُضِيَ من الاختلاف ، وعمد عمر فبايع أبا بكر ولم يُدفَن رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد ، فلمّا رأى ذلك عليٌّ(عليه السلام) ورأى الناسَ قد بايعوا أبا بكر خشي أن يفتتن الناس ، ففرغ إلى كتاب الله وأخذ يجمعه في مصحف ، فأرسل أبو بكر إليه أن : تَعالَ فبايع ، فقال عليٌّ(عليه السلام): لا أخرج حتّى أجمع القرآن ، فأرسل إليه مرّة أخرى ، فقال: لا أخرج حتّى أفرغ ، فأرسل إليه الثالثَة ابن عَمٍّ له يقال له: قنفذ ، فقامت فاطمة بنت رسول الله(عليها السلام) تحول بينه وبين عليّ(عليه السلام) فضربها»(2) .
* وفي تفسير فرات الكوفي (ت 325 هـ) بسنده عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)في تفسير (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)قال: « . . . ومرض يوم الإثنين! وقال: يا عليّ لا تخرج ثلاثة أيّام حتّى تؤلّف كتاب الله ، كي لا يزيد فيه الشيطان شيئاً ولا ينقص منه شيئاً ، فإنّك في ضِدّ سُنَّةِ وصيِّ سليمان عليه الصلاة والسلام . فلم يضع عليٌّ رداءه على ظهره حتَّى جمع القرآن ، فلم يزد فيه الشيطان شيئاً ولم ينقص منه شيئاً»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بصائر الدرجات : 213 باب أنّ الأئمّة عندهم جميع القرآن ، بحار الأنوار 89/88 / ح28 ، والكافي 2/633/ح 23 وشرح أصول الكافي للمازندراني 11/86 وفيهما جمعته من اللوحين .
(2) تفسير العيّاشي 2/307/ح 134 ، بحار الأنوار 28/231/ح 16 ، غاية المرام 5/337 . وفيه : ففزع إلى كتاب الله ، بدل : ففرغ .
(3) تفسير فرات الكوفي: 398 / ح 530 ، بحار الأنوار 23 / 249 / ح 23 ، قال المجلسي: «في ضدّ سنّة وصيّ سليمان» إشارة إلى أنّ إبليس وضع كتاب السحر تحت سرير سليمان ولبَّس الأمر على الناس .
صفحه 82
* وفي إثبات الوصية للمسعودي (ت 346 هـ) في خبر طويل: « . . . إنّ أميرالمؤمنين بعد أن فرغ من غسل الرسول وتحنيطه وتجهيزه ودفنه . . . قال: إنّ لي بخمسة من النبيّين أسوة . . . ثمّ ألّف القرآن وخرج إلى الناس وقد حمله في إزار معه وهو يَئِطُّ(1) من تحته ، فقال لهم: هذا كتاب الله قد ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله كما أُنزل .
فقال بعضهم: اتركه وامض .
فقال لهم: إنّ رسول الله قال: إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي . . .»(2) .
* وفي الخصال للصدوق (ت 381 هـ) بسنده عن مكحول ، قال: قال أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): «لقد علم المستحفظون من أصحاب النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله) أنّه ليس فيهم رجل له منقبة إلاّ وقد شركته فيها وفَضَلْتُهُ ، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم» ، إلى أن يقول :
«وأمّا الخامسة والخمسون فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لي: سيفتتن فيك طوائف من أمّتي فيقولون: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)لم يخلّف شيئاً فبماذا أَوْصَى عليّاً؟ أو ليس كتاب ربّي أفضل الأشياء بعد الله عزّوجلّ ، والذي بعثني بالحقّ لئن لم تجمعه بإِتقان لم يجمع أبداً ، فخصّني الله عزّوجلّ بذلك من دون الصحابة»(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وفي نسخة : ينط .
(2) إِثبات الوصية للمسعودي : 123 .
(3) الخصال : 579 أبواب السبعين وما فوقه/ح 1 ، بحار الأنوار 31/443/ح 2 .
صفحه 83
* وفي مناقب الخوارزمي (ت 568 هـ) عن عبد خير ، عن عليّ(عليه السلام) أنّه قال: «لمّا قُبِضَ رسول الله(صلى الله عليه وآله) أقسمت ـ أو حلفت ـ أن لا أضع ردائي عن ظهري حتّى جمعت القرآن»(1) .
وفيه عن عليّ بن رباح: «جمع القرآن على عهد رسول الله عليُّ بن أبي طالب وأبيُّ بن كعب»(2) .
قال ابن النديم ـ بسند يذكره ـ: «إنّ عليّاً رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأقسم أنّه لا يضع عن ظهره رداءه حتّى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيّام(3) حتّى جمع القرآن ، فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه(4) ، وكان المصحف عند أهل جعفر .
قال: ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني(رحمه الله) مصحفاً قد سقط منه أوراق بخطّ عليّ بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مرّ الزمان»(5) .
وهكذا روى أحمد بن فارس ، عن السّدّي ، عن عبد خير ، عن عليّ(عليه السلام)(6) .
هذه بعض النصوص الشيعية ، وهناك أخبار اُخرى تفيدنا في بيان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر مناقب الخوارزمي : 94/ح 93 ، حلية الأولياء 1/67 .
(2) المناقب للخوارزمي : 93/ح 91 .
(3) قال الطريحي (ت 1085 هـ) في مجمع البحرين 1/399 مادّة جمع : وفي نقل آخر إنّ أمير المؤمنين جمع القرآن بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) بمدّة قدرها سبعة أيّام بعد وفاته ، وهو موجود في كتابي التوحيد والأمالي للصدوق أيضاً .
(4) لا نقبل كلام ابن النديم ، لأنّ الصحف كانت في بيت رسول الله وخلف فراشه والإمام جمعها منها لا من قلبه .
(5) الفهرست لابن النديم : 41 .
(6) الصاحبي : 326 .

صفحه 84
علاقة الإمام عليّ(عليه السلام) بالقرآن الكريم وأنّ عنده علم الأنبياء والمرسلين ، نأتي بها كأدلّة داعمة لقولنا ، وهي :
* عن سُلَيْمِ بْنِ قَيْس الهِلالِيِّ (ت76 هـ) وهو يتحدّث عن تلك الحقبة الّتي عاشها الإمام(عليه السلام) بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله): « . . . لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه ، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه ، وكان في الصحف والشِّظاظ والأَسيار والرقاع . فلمّا جمعه كلّه وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبوبكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه عليّ(عليه السلام):إنّي لمشغول وقد آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي رداء إلاّ للصلاة حتّى أؤلّف القرآن وأجمعه .
فسكتوا عنه أيّاماً ، فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثمّ خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فنادى عليّ(عليه السلام) بأعلى صوته: يا أيّها الناس ، إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) مشغولاً بغسله ، ثمّ بالقرآن حتّى جمعته كلّه في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل الله تعالى على رسول الله(صلى الله عليه وآله) آية إلاّ وقد جمعتها ، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعلّمني تأويلها .
ثمّ قال لهم عليّ(عليه السلام): لئلاّ تقولوا غداً: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ) . ثمّ قال لهم عليّ(عليه السلام): لئلاّ تقولوا يوم القيامة إنّي لم أَدْعُكُمْ إلى نُصْرتي ولم أذكّركم حقّي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته .
فقال عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه»(1) .
* وفيه أيضاً على لسان طلحة: «يا أبا الحسن ، شيء أريد أن أسألك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب سُلَيْم بن قيس : 147 ، الاحتجاج 1/107 ، بحار الأنوار 28/265 ، 89/40 .
صفحه 85
عنه: رأيتُكَ خرجتَ بثوب مختوم عليه فقلت: (يا أيّها الناس ، إنّي لم أزل مشغولاً برسول الله(صلى الله عليه وآله) ، بغسله وتكفينه ودفنه ، ثمّ شُغِلْتُ بكتاب الله حتّى جمعته ، فهذا كتاب الله مجموعاً لم يسقط منه حرف) ، فلم أر ذلك الكتاب الذي كتبتَ وألَّفت ، ولقد رأيتُ عمر بعث إليك ـ حين استخلف ـ أن : ابعث به إلَيَّ ، فأبيتَ أن تفعل . فدعا عمر الناس ، فإذا شهد اثنان على آية قرآن كتبها وما لم يشهد عليها غير رجل واحد رماها ولم يكتبها! . . .
فأجابه أمير المؤمنين(عليه السلام) قائلاً:
يا طلحة ، إنّ كلّ آية أنزلها الله في كتابه على محمّد(صلى الله عليه وآله) عندي بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي .
وتأويل كلّ آية أنزلها الله على محمّد(صلى الله عليه وآله) . وكلّ حلال أو حرام ، أو حدّ أو حكم ، أو أيّ شيء تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخطّ يدي حتّى أَرْش الخَدْش .
قال طلحة: كلّ شيء من صغير أو كبير أو خاصّ أو عامٍّ ، كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو مكتوب عندك؟ قال: نعم ، . . . إلى أن يقول الإمام عليّ(عليه السلام):
فلمّا قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله(صلى الله عليه وآله) بغسله ودفنه ، ثمّ شغلت بالقرآن ، فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلاّ للصلاة حتّى أجمعه في كتاب ، ففعلت»(1) .
* وفيه أيضاً احتجاج ابن عبّاس على معاوية إذ قال : يا معاوية ، إنّ عمر ابن الخطّاب أرسلني في إمارته إلى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) : إنّي أريد أن أكتب القرآن في مصحف ، فابعث إلينا ما كتبت من القرآن . فقال(عليه السلام) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب سُلَيْم بن قيس:209 ـ 216 ، وانظر الاحتجاج:223 ، بحار الأنوار 26/65 ، 31/423 ، و 89/41 ، وتفسير الصافي 1/42 .
صفحه 86
تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه . فقلت : ولم ؟ قال(عليه السلام) : لأنّ الله يقول : (لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) ، يعني لا يناله كلّه إلاّ المطهّرون . إيّانا عنى ، نحن الذين أذهب الله عنّا الرجس وطهّرنا تطهيرا . وقال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) ، فنحن الذين اصطفانا الله من عباده ، ونحن صفوة الله ، ولنا ضربت الأمثال ، وعلينا نزل الوحي . قال : فغضب عمر وقال : إنَّ ابن أبي طالب يحسب أنّه ليس عند أحد علم غيره ، فمن كان يقرأ من القرآن شيئاً فليأتنا به ، فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه ، وإلاّ لم يكتبه . فمن قال ـ يا معاوية ـ إنّه ضاع من القرآن شيء فقد كذب ، هو عند أهله مجموع محفوظ(1) .
* وروى الكليني (ت 329 هـ) في الكافي عن الإمام عليّ(عليه السلام) أنّه قال: «وقد كنت أدخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) كلّ يوم دَخْلة فيخلّيني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله(صلى الله عليه وآله) أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه . فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بَنِيَّ .
وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سَكَتُّ عنه وفَنِيَتْ مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عَلَيَّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصِّها وعامّها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها ، وحفظها ، فما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب سليم بن قيس الهلالي : 369 ، وقريب منه في الاحتجاج 2 / 7 .
صفحه 87
نسيتُ آية من كتاب الله ولا عِلْماً أملاه عَلَيَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علَّمَهُ اللهُ ـ من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية ـ إلاّ علَّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً ، فقلت: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يَفُتْني شيء لم أكتبه ، أفتتخوّف عَلَيَّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا ، لستُ أتخوّف عليك النسيان والجهل»(1) .
وعنه(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ كلّ آية أنزلها الله في كتابه على محمّد(صلى الله عليه وآله) عندي بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي .
وتأويل كلّ آية أنزلها الله على محمّد(صلى الله عليه وآله) وكلّ حلال أو حرام أو حدّ أو حكم أو أيّ شيء تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي حتّى أرش الخدش»(2) .
* وذكر المسعودي(3) (ت346 هـ) في إثبات الوصية موقف الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) من الحوادث الّتي أعقبت وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، قال: « . . . ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما أُنْزِل ، فقال له بعضهم: اتركه وامضِ ، فقال لهم: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لكم: (إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، كتاب الله ، وعترتي ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) ، فإن قبلتموه فاقبلوني معه ، أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله . فقالوا: لا حاجة لنا فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي (الأصول) 1/64 ، فضل العلم باب 21/ح 1 ، وشرح أصول الكافي للمازندراني2 /306 ، جامع أحاديث الشيعة 1/16 .
(2) الاحتجاج 1/223 ، كتاب سُلَيْم بن قيس:211 ، بحار الأنوار 31/424 .
(3) ذكرناه على القول بأنّه شيعي .
صفحه 88
ولا فيك ، فانصرف به معك لا تفارقه ولا يفارقك ، فانصرف عنهم فأقام أمير المؤمنين(عليه السلام)ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(1) .
* وفي خصائص الأئمّة للشريف الرضي (ت 406 هـ) عن هارون بن موسى ، عن أحمد بن محمّد بن عمّار ، عن أبي موسى الضرير ، عن الكاظم(عليه السلام) ، عن أبيه (عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لعليٍّ(عليه السلام) حين دفع إليه الوصية: . . . إنّي لأعرف خلاف قولهم ، فإذا قبضتُ وفرغتَ من جميع ما أوصيتك به ، وغيّبتني في قبري فالزم بيتك ، واجمع القرآن على تأليفه ، والفرائض والأحكام على تنزيله ، ثمّ امض على عزائمه وعلى ما أمرتك به ، وعليك بالصبر على ما ينزل بك منهم حتّى تقدم عليّ»(2) .
* وروى الطبرسي (ت 548 هـ) احتجاج الإمام عليّ(عليه السلام) على الزنديق الذي قال له: «لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم . . . ، حيث يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في جملة جوابه: قال: (يُرِيْدُوْنَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله) ولقد أُحْضِروا الكتاب كُمُلاً مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام ، فلمّا وقفوا على ما بيّنه الله من أسماء أهل الحقّ والباطل ، وأنّ ذلك إن أظهر نقض ما عهدوه ، قالوا: لا حاجة لنا فيه ، نحن مستغنون عنه بما عندنا ، وكذلك قال: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إثبات الوصية:123 .
(2) خصائص الأئمّة:72 ، وعنه في بحار الأنوار 22/483 ـ 484 ، تاريخ الأنبياء باب وصيّته عند قرب وفاته/ ح 30 باختلاف يسير .
صفحه 89
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)»(1)(2) .
نلخّص هذه الروايات في نقاط :
1 ـ إنّ كتابة القرآن كانت بوصية من رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
2 ـ إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد عيّن مكان تلك الصحف وأنّها كانت في بيته وخلف فراشه .
3 ـ خوف الرسول(صلى الله عليه وآله) من أن تضيّع أُمّته القرآن كما ضيّعت اليهود التوراة .
4 ـ إنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) جمع الموجود من القرآن في ثوب أصفر ثمّ ختم عليه في بيته .
5 ـ إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعليّ(عليه السلام) : يا عليّ لا تخرج ثلاثة أيّام حتّى تؤلّف كتاب الله كي لا يزيد فيه الشيطان شيئاً ولا ينقص منه شيئاً . . . فلم يزد الشيطان شيئاً ولم ينقص منه شيئاً .
6 ـ تعهّد الإمام عليّ(عليه السلام) أن لا يخرج من بيته بغير رداء حتّى يجمع القرآن .
7 ـ إنّ جمع جميع القرآن هو من سمات وصيّ محمّد(صلى الله عليه وآله) ، وما ادّعى أحدٌ غيرُهُ جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب .
8 ـ لو قرئ القرآن كما أُنزل ما اختلف اثنان .
9 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) أخرج الكتاب إلى الناس ولكنّهم رفضوه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران: 187 .
(2) الاحتجاج 1/383 ، وعنه في بحار الأنوار 90/126 ، تفسير الصافي 1/47 ، تفسير نورالثقلين 1/421 ، تفسير كنز الدقائق 2/312 .
صفحه 90
10 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) أخبرهم بأنّه جمع القرآن كي يقرؤوه .
11 ـ خشية الإمام(عليه السلام) من أن يفتتن الناس .
12 ـ أبو بكر كرّر إرسال موفده إلى الإمام(عليه السلام) للبيعة ، والإمام(عليه السلام)يمتنع ، وفي المرّة الأخيرة هجم قنفذ على الإمام(عليه السلام) فحالت الزهراء(عليها السلام) بينه وبين الإمام(عليه السلام) .
وفي النصوص الاُخرى وقفنا على اُمور اُخرى منها :
13 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) جمع المصحف وكتبه على تنزيله وتأويله وناسخه ومنسوخه و . . .
14 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) قدّم مصحفه للخلفاء كي لا يقولوا غداً (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ) .
15 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) وضّح خصائص مصحفه لطلحة وأنّه يحتوي على مجموعتين :
أحدهما : فيه كلّ آية أنزلها الله في كتابه على محمّد(صلى الله عليه وآله) فهي مكتوبة عنده بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يده .
والثانية : فيها تأويل كلّ آية أنزلها الله على محمّد(صلى الله عليه وآله) وكلّ حلال وحرام ، فهي أيضاً مكتوبة عنده بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وخطّ يده حتّى أَرْش الخدش .
16 ـ إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يخلو بالإمام عليّ ويخبره بما نزل عليه من آية فكان يمليها عليه ويقرئها إيّاه ، والإمام(صلى الله عليه وآله) كان يكتبها بخطّه .
17 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) ـ حين تقديمه مصحفه للخلفاء ـ استدلّ بحديث الثقلين فقال : فإن قبلتموه فاقبلوني معه أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله ، قالوا : لا حاجة لنا فيه .
صفحه 91
18 ـ إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعليّ(عليه السلام) : إنّي لأَعْرفُ خلاف قولهم ، فإذا قبضت وفرغت من جميع ما أوصيتك به ، فالزم بيتك واجمع القرآن على تأليفه والفرائض والأحكام على تنزيله . . . وعليك الصبر على ما ينزل بك منهم حتّى تقدم عَلَيَّ .
19 ـ في الخبر : لقد أحضرت الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل . . . لم يسقط حرف (الف) ولا (لام) .
* * *
هذه هي بعض النصوص الحديثية الشيعية ، يُضاف إليها أقوال علماء المذهب الشيعي الإمامي في ذلك ، لأهمّية البحث القصوى ، ولكون مصحف الإمام عليّ(عليه السلام) هو أوَّلَ كتاب قد دُوّن في الإسلام ، وإنّ إثباته أو نفيه هي القاعدة الأساسية الّتي يبتني عليها بحثنا .
أقوال علماء الشيعة في مصحف الإمام عليّ(عليه السلام):
قال الفضل بن شاذان (ت 260 هـ) في مقام الاحتجاج على العامّة ما لفظه: «ثمّ رويتم بعد ذلك كلّه أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) عهد إلى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)أن يؤلّف القرآن فألّفه وكتبه ، ورويتم أنّ إبطاء عليّ على أبي بكر البيعةَ ]على ما [زعمتم لتأليف القرآن ، فأين ذهب ما ألّفه عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)حتّى صرتم تجمعونه من أفواه الرجال؟! ومن صحف زعمتم كانت عند حفصة بنت عمر بن الخطّاب؟!»(1) .
وقال الصدوق (ت 381 هـ) في الاعتقادات: «اعتقادنا أنّ القرآن الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإيضاح:222 .

صفحه 92
أنزله الله تعالى على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس . . . إلى أن يقول:
كما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) جمعه ، فلمّا جاءهم به قال: هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم ، لم يُزَدْ فيه حرف ، ولم يُنْقَصْ منه حرف ، فقالوا: لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك . فانصرف وهو يقول: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)»(1) .
وروى(رحمه الله) أيضاً في التوحيد والأمالي خطبة لأمير المؤمنين(عليه السلام) ، قال: «قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في خطبة خطبها بعد موت النبيّ(صلى الله عليه وآله) بسبعة أيّام ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن»(2) .
وقال الشيخ المفيد (ت 413 هـ) : «لا شكّ أنّ الذي بين الدفّتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله وليس فيه شيء من كلام البشر ، إلى أن يقول :
وقد جمع أمير المؤمنين(عليه السلام) القرآن المنزل من أوّله إلى آخره ، آلفه بحسب ما وجب من تأليفه . . .»(3) .
وقال أيضاً في كتاب آخر : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم يُنْقَصْ من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران: 187 ، الاعتقادات للصدوق:86 ، والحديث تجده في بصائر الدرجات:213/ح 3 والكافي 2/633/ح 23 .
(2) التوحيد:73/ح 27 ، الأمالي:399/ح 9 ، وفيه: بتسعة أيّام وقد أشار الطريحي في مجمع البحرين 1/398 إلى مفاد هذه الرواية في مادّة (جمع) .
(3) المسائل السروية : 78 ـ 82 المسألة التاسعة صيانة القرآن من التحريف ، لزوم التقيّد بما بين الدفّتين .
صفحه 93
مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله(1) ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله تعالى : (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف ، وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادَّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، واللهَ أسأل توفيقه للصواب»(2) .
وقال ابن شهرآشوب (ت 588 هـ) في المناقب حكاية عن قول الآخرين: « . . . ضَمَّنَ اللهُ محمَّداً أن يجمع القرآن بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليُّ ابن أبي طالب ; قال ابن عبّاس: فجمع اللهُ القرآنَ في قلب عليٍّ ، وجَمَعَهُ عليٌّ بعد موت رسول الله بستّة أشهر» .
وفي أخبار ابن أبي رافع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ ، هذا كتاب الله خذه إليك ، فجمعه عليّ في ثوب فمضى إلى منزله ، فلمّا قُبِضَ النبيّ(صلى الله عليه وآله) جلس عليّ(عليه السلام) فألّفه كما أنزله الله ، وكان به عالماً» . وحدّثني أبو العلاء العطّار ]الحَسَنُ بْنُ أَحمد الهمدانيّ [والموفّق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن عليّ بن رباح: أنّ النبيّ أمر عليّاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كان من منهج الصحابة أن يدوّنوا ما سمعوه من رسول الله في تفسير الآية وشأن النزول على هامش المصحف ، وعمر كان ينهى عن هذا العمل لأمور سياسية كان قد رجاها في خلافته ، وقد ذكرنا بعضها في كتابنا منع تدوين الحديث ، فقد يكون ما فعلوه في مصحف أمير المؤمنين كان بقرار من عمر ، فعن عامر الشعبي قال : «كتب رجل مصحفاً وكتب عند كلّ آية تفسيرها ، فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين» كنز العمال 2 / 204 عن ابن أبي شيبة .
(2) أوائل المقالات : 81 ، القول في تأليف القرآن وما ذكر من الزيادة فيه والنقصان .
صفحه 94
بتأليف القرآن فألّفه وكتبه» .
]وعن [جبلّة بن سحيم ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ، قال: «لو ثنيت لي الوسادة وعُرِفَ لي حقّي لأخرجت مصحفاً كتبته وأملاه عَلَيَّ رسولُ اللهِ»(1) .
ورويتم أيضاً أنّه إنّما أبطأ عليّ(عليه السلام) عن بيعة أبي بكر لتأليف القرآن . . . .(2) .
وقال أيضاً في مقدّمة كتاب معالم العلماء في فهرست كتب الشيعة: «بل الصحيح أنّ أوّل من صنّف فيه أمير المؤمنين(عليه السلام); جمع كتاب الله جلّ جلاله»(3) .
وقال السيّد ابن طاووس (ت 662 هـ) في سعد السعود نقلاً عن كتاب محمّد بن منصور المقرئ: «إنّ القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت ، وخالفه في ذلك أُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ثمّ أعاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا عليّ بن أبي طالب ، وأخذ عثمان مصحف أُبيّ وعبدالله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة فغسلها غسلاً ، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ، ومصحفاً لأهل المدينة ، ومصحفاً لأهل مكّة ، ومصحفاً لأهل الكوفة ، ومصحفاً لأهل البصرة ، ومصحفاً لأهل الشام»(4) .
كما أنّه(رحمه الله) نقل كلام الرهني ما لفظه: «قلت: ولم يدع أبو حاتِم ـ مع ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مناقب آل أبي طالب 1 / 320 ، باب درجات أمير المؤمنين(عليه السلام) .
(2) حلية الأولياء 1/67 وعنه في مناقب آل أبي طالب 1/319 .
(3) معالم العلماء في فهرست كتب الشيعة:38 .
(4) سعد السعود:278 .

صفحه 95
قاله وهجاؤه الكوفة وأهلها ـ ذِكرَ تأليف عليّ بن أبي طالب القرآن وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)عهد إليه عند وفاته أن لا يرتدي بُرْدَهُ إلاّ لجمعة حتّى يجمع القرآن ، فجمعه ، ثمّ حكى عن الشعبي على إِثر ما ذكره أنّه قال: كان أعلم الناس بما بين اللوحين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)»(1) .
* وقال العلاّمة الحلّي (ت 726 هـ) في كشف اليقين وهو في مقام بيان فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام): «وإنّه(عليه السلام) اشتغل بجمع القرآن بعد موت النبيّ(صلى الله عليه وآله)قبل كُلّ أحد . روى أبو المؤيّد ]يعني أَخْطب خوارزم الموفّق بن أحمدالحنفي[ ، بإسناده إلى عليّ(عليه السلام) ، قال: لمَّا قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) أقسمت أن لاأضع ردائي عن ظهري حتّى أجمع ما بين اللوحين ، فما وضعت ردائي عن ظهري حتّى جمعت القرآن . . .»(2) .
وقال أيضاً في تذكرة الفقهاء: «يجب أن يُقرأ بالمتواتر من القراءات وهي السبعة . . . ويجب أن يُقرأ بالمتواتر من الآيات وهو ما تضمّنه مصحف عليّ(عليه السلام) لأنّ أكثر الصحابة اتّفقوا عليه ، وحرق عثمان ما عداه»(3) .
بهذا فقد عرفت أنّ أخبار المصحف موجودة في الكتب الحديثية والفقهية والكلامية والتفسيرية الشيعية ، وفي بعضها ترى الإمام(عليه السلام) قد جمعه في ثلاثة أيّام ، وفي أُخرى سبعة أيّام ، وفي ثالثة ستّة أشهر . فكان علينا السعي للجمع بين تلك الأقوال ، وخصوصاً حينما نرى أنّ أخبار مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) لم تنحصر في كتب الشيعة ، بل هي موجودة في كتب الجمهور أيضاً ، وإليك تلك الأخبار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سعد السعود:228 .
(2) كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين: 65 .
(3) انظر تذكرة الفقهاء 3/141/مسئلة 227 مبحث الوضوء .
صفحه 96
أخبار مصحف الإمام عليّ(عليه السلام) في كتب الجمهور:
* روى الصنعاني (ت 211 هـ) بسنده عن عكرمة ، قال: «لمّا بويع لأبي بكر تخلّف عليّ في بيته ، فلقيه عمر ، فقال: تخلّفت عن بيعة أبي بكر؟ فقال: إنّي آليت بيمين حين قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن لا أرتدي برداء إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتّى أجمع القرآن ، فإنّي خشيت أن يتفلَّت القرآن ، ثمّ خرج فبايعه»(1) .
* وروى ابن سعد (ت 230 هـ) في الطبقات الكبرى عن إسماعيل ابن إبراهيم عن أيّوب وابن عون ، عن محمّد ، قال: «نُبِّئْتُ أنَّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر ، فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا ولكنّني آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلاّ إلى الصلاة حتّى أجمع القرآن . قال: فزعموا أنّه كتبه على تنزيله ، قال محمّد: فلو أصيب ذلك الكتاب كان فيه علم قال ابن عون: فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب ، فلم يعرفه»(2) .
* وروى ابن أبي شيبة (ت 235 هـ) في مصنّفه قال: «حدّثنا يزيد بن هارون ، قال: أخبرنا ابن عون ، عن محمّد ، قال: لمّا استخلف أبوبكر قعد عليّ في بيته ، فقيل لأبي بكر ، فأَرْسَلَ إليه: أَكَرِهْتَ خلافتي؟
قال: لا ، لم أكره خلافتك ، ولكن كان القرآن يزاد فيه ، فلمَّا قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) جعلتُ عَلَيَّ أن لا أرتدي إلاَّ إلى الصلاة حتَّى أجمعه للناس .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصنّف لعبدالرزّاق 5/450/ح 9765 باب بيعة أبي بكر ، شواهد التنزيل للحسكاني1 /37/ح 24 وفيه فإنّي خشيت أن ينقلب القرآن .
(2) الطبقات الكبرى 2/338 .
صفحه 97
فقال أبوبكر: نِعْمَ ما رأيت»(1) .
وفي شواهد التنزيل أنّ جماعة قالوا لأبي بكر: «إنَّ عليّاً قد كرهك ، فأرسل إليه ، فقال: أَكَرِهْتَنِي؟ فقال: والله ما كرهتك ، غير أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)قُبِضَ ولم يُجْمَعِ القرآن ، فكرهت أن يزاد فيه ، فآليتُ بيمين أن لا أخرج إلاَّ إلى الصلاة حتّى أجمعه . فقال: نِعْمَ ما رأيت»(2) .
* وذكر البلاذري (ت 279 هـ) في أنساب الأشراف ما نصّه: «المدائني ، عن مسلمة بن محارب ، عن سليمان التيمي ، وعن ابن عون: أنّ أبابكر أرسل إلى عليّ يريد البيعة ، فلم يبايع .
فجاء عمر ومعه قبس ، فتلقّته فاطمة على الباب ، فقالت فاطمة: يابن الخطّاب ، أتراك محرّقاً عليَّ بابي؟
قال: نعم ، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك .
وجاء عليٌّ فبايع ، وقال: كنتُ عزمت أن لا أخرج من منزلي حتّى أجمع القرآن»(3) .
* وفيه أيضاً : «حدّثنا سلمة بن الصقر ،وروح بن عبدالمؤمن ، قالا: ثنا عبدالوهاب الثقفي ، أنبأ أيّوب ، عن ابن سيرين ، قال: قال أبوبكر لعليّ(عليه السلام): أكرهت إمارتي؟
قال: لا ، ولكنّي حلفت أن لا أرتدي بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) برداء حتّى أجمع القرآن كما أنزل»(4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصنّف لابن أبي شيبة 6/148/ح 20230 ، باب 35/ح 2 .
(2) شواهد التنزيل 1/37/ح 22 .
(3) أنساب الأشراف 1/586 ، أمر السقيفة وبيعة أبي بكر .
(4) أنساب الأشراف 2/269/أمر السقيفة .
صفحه 98
* وقال اليعقوبي (ت 292 هـ) في تاريخه: «وروى بعضهم أنّ عليّ ابن أبي طالب كان جمعه لمّا قبض رسول الله وأتى به يحمله على جمل ، فقال: هذا القرآن قد جمعته ، وكان قد جزّأه سبعة أجزاء ، فالجزء الأوّل البقرة . . .»(1) .
* وروى ابن الضريس (ت 294 هـ) في فضائل القرآن: «أخبرنا أحمد ، ثنا أبو عليّ بشر بن موسى ، ثنا هوذة بن خليفة ، ثنا عوف ، عن محمّد بن سيرين ، عن عكرمة فيما أحسب ، قال:
لمّا كان بعد بيعة أبي بكر ، قعد عليّ بن أبي طالب في بيته ، فقيل لأبي بكر: قد كره بيعتك . فأرسل إليه ، فقال: أكرهت بيعتي؟ . فقال: لا والله ، قال: ما أقعدك عنّي؟ قال: رأيت كتاب الله يُزاد فيه ، فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلاّ لصلاة جمعة حتّى أجمعه ، فقال له أبوبكر: فإنّك نِعْمَ ما رأيت .
قال محمّد ]بن سيرين[: فقلت له(2) : ألّفوه كما أنزل الأوّل فالأوّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يؤلّفوه ذلك التأليف(3) ما استطاعوا . قال محمّد: أراه صادقاً»(4) .
* وفي كتاب المصاحف للسجستاني (ت 316 هـ) بسنده عن ابن سيرين أنّه قال: «لمّا توفّي النبيّ(صلى الله عليه وآله) أقسم عليّ أن لا يرتدي برداء إلاّ لجمعة حتّى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل ، فأرسل إليه أبوبكر بعد أيّام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي 2/135 .
(2) أي لعكرمة .
(3) يعني به تأليف علي(عليه السلام) .
(4) فضائل القرآن لمحمّد بن أيّوب بن الضريس:36/ح 21 .
صفحه 99
أَكَرِهْتَ إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا والله ، إلاَّ أنِّي أقسمت أن لا أرتدي برداء إلاَّ لجُمْعَة ، فبايعه ثمّ رجع»(1) .
* وروى الجوهري (ت 323 هـ) في كتاب (السقيفة وفدك) عن يعقوب ، عن رجاله ، قال: «لمّا بويع أبوبكر تخلّف عليّ فلم يبايع ، فقيل لأبي بكر: إنّه كره إمارتك ، فبعث إليه ، وقال: أكرهت إمارتي؟
قال: لا ، ولكنَّ القرآنَ خشيتُ أن يزاد فيه ، فحلفت أن لا أرتدي رداء حتّى أجمعه ، اللهمّ إلاَّ إلى صلاة الجمعة»(2) .
* وفي كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري (ت 395 هـ): أبو أحمد ، عن الصولي ، عن الغلاّبي ، عن أحمد بن عيسى ، عن عمّه الحسين (ذي الدّمعة) بن زيد ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال: «لمّا قُبِضَ رسول الله (صلى الله عليه وآله)تشاغل عليّ(عليه السلام) بدفنه ، فبايع الناس أبابكر ، فجلس عليّ(عليه السلام)في بيته يجمع القرآن ، وكتبه في الخزف وأكتاف الإبل وفي الرِّقِّ»(3) .
* وفي حلية الأولياء لأبي نعيم (ت 430 هـ): حدّثنا سعد بن محمّد الصيرفي ، حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا إبراهيم بن محمّد ابن ميمون ، حدّثنا الحكم بن ظهير ، عن السدّي ، عن عبدخير ، عن عليّ ، قال: «لمّا قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) أقسمت ـ أو حلفت ـ أن لا أضع ردائي عن ظهري حتّى أجمع ما بين اللوحين ، فما وضعت ردائي عن ظهري حتّى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصاحف للسجستاني 1/169/ح 31 ، وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر 42/398 ،399 .
(2) السقيفة وفدك: 66 ، وانظر مصنّف بن أبي شيبة 6/148/ح 30230 . وانظر شرح نهج البلاغة 6/41 .
(3) الأوائل لأبي هلال:103/ح 70 .
صفحه 100
جمعت القرآن»(1) .
* وروى المستغفري (ت 432 هـ) في فضائل القرآن بإسناده عن كثير بن أفلح ، قال: «اختلف الناس في القراءة في إمارة عثمان . . . إلى أن قال فلمّا قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) لزم عليّ بن أبي طالب بيته ، فقيل لأبي بكر: إنّ عليّاً كره إمارتك ، فأرسل إليه أبوبكر فقال له: تكره إمارتي؟ فقال: لا ، ولكن كان النبيّ(صلى الله عليه وآله)حيّاً والوحي ينزل ، والقرآن يزاد فيه ، فلمّا قبض النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، جعلت على نفسي أن لا أرتدي بردائي حتّى أجمعه للناس ، فقال أبوبكر: أحسنت ، قال محمّد: فطلبت ما أَلَّفَ فأعياني ، ولم أقدر عليه ، ولو أصبته كان فيه علمٌ كثيرٌ»(2) .
* قال ابن عبدالبرّ (ت 463 هـ) في الاستذكار: «وجَمْعُ عليّ بن أبي طالب للقرآن أيضاً عند موت النبيّ(صلى الله عليه وآله) وولاية أبي بكر ، فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السبعة لا كجمع عثمان على حرف واحد ـ حرف زيد بن ثابت ـ وهو الذي بأيدي الناس بين لوحي المصحف اليوم»(3) .
* وفي شواهد التنزيل للحسكاني (من اعلام القرن الخامس) بسنده عن السدي ، عن عبدخير ، عن عليّ(عليه السلام)أنّه: «رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فأقسم أن لا يضع على ظهره رداءً حتّى يجمع القرآن ، فجلس في بيته حتّى جمع القرآن ، فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن ، جمعه من قلبه ، وكان عند آل جعفر»(4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حلية الأولياء 1/67 ، ترجمة الإمام عليّ ، وانظر كنز العمّال 13/66/ح 36473 .
(2) فضائل القرآن للمستغفري 1/358/ح 420 .
(3) الاستذكار 2/485 .
(4) شواهد التنزيل 1/37/ح 23 ، الصاحبي ، لابن فارس:326 .
صفحه 101
وفي خبر آخر عن السدّي ، عن عبد خير ، عن يمان ، قال: «لمّا قبض النبيّ(صلى الله عليه وآله) أقسم عليّ ـ أو حلف ـ أن لا يضع رداءه على ظهره حتّى يجمع القرآن بين اللوحين ، فلم يضع رداءه على ظهره حتّى جمع القرآن»(1) .
* وروى الحسكاني في شواهد التنزيل بإسناده عن محمّد بن سيرين أنّه قال: «لمّا مات النبيّ(صلى الله عليه وآله) جلس عليٌّ في بيته فلم يخرج ، فقيل لأبي بكر: إنّ عليّاً لا يخرج من البيت كأنّه كره إمارتك . فأرسل إليه فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: ما كرهت إمارتك ولكنّي أرى القرآن يزاد فيه ، فحلفت أن لا أرتدي برداء إلاّ للجمعة حتّى أجمعه . قال ابن سيرين: فنبّئت أنّه كتب المنسوخ وكتب الناسخ في أثره»(2) .
* وقال محمّد بن عبدالكريم الشهرستاني (ت 548 هـ) في مقام التعليق على جمع الخلفاء للقرآن: «كيف لم يطلبوا جمع عليّ بن أبي طالب؟! أو ما كان أكتب من زيد بن ثابت؟!
أو ما كان أعرب من سعيد بن العاص؟!
أو ما كان أقرب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الجماعة؟! بل تركوا بأجمعهم جمعه واتّخذوه مهجوراً ، ونبذوه ظهريّاً ، وجعلوه نسياً منسيّاً ، وهو(عليه السلام) لمّا فرغ من تجهيز رسول الله(صلى الله عليه وآله) وغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، آلى أن لا يرتدي بُرداً إلاَّ لجمعة حتّى يجمع القرآن; إذ كان مأموراً بذلك أمراً جزماً ، فجمعه كما أنزل من غير تحريف وتبديل ، وزيادة ونقصان . وقد كان أشار النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى مواضع الترتيب والوضع ، والتقديم والتأخير ، قال أبو حاتم : إنّه وضع كلّ آية إلى جنب ما يشبهها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شواهد التنزيل 1/27/ح 25 ، وانظر المناقب للخوارزمي:94/ح 93 .
(2) شواهد التنزيل 1/38/ح 27 .
صفحه 102
ويروى عن محمّد بن سيرين أنّه كان كثيراً ما يتمنّاه ، ويقول: لو صادفنا ذلك التأليف لصادفنا فيه علماً كثيراً .
وقد قيل: إنّه كان في مصحفه المتن والحواشي; وما يعترض من الكلامين المقصودين كان يكتبه على العرض والحواشي»(1) .
* وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (ت 571 هـ) عن ابن سيرين ، قال: «قال عليّ (عليه السلام): لمّا مات رسول الله(صلى الله عليه وآله) آليت أن لا آخُذَ عَلَيَّ ردائي إلاَّ لصلاة جمعة حتَّى أجمع القرآن ، فَجَمَعَهُ»(2) .
* وفي شرح النهج لابن أبي الحديد (ت 656 هـ) ، قال أبو بكر ]الجوهري[: «وقد روي في رواية أخرى أنّ سعد بن أبي وقّاص كان معهم في بيت فاطمة(عليها السلام)والمقداد بن الأسود أيضاً ، وأنّهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً(عليه السلام) ، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت ، فخرج إليه الزبير بالسيف ، وخرجت فاطمة(عليها السلام) تبكي وتصيح ، فنهنهت من الناس ، وقالوا: ليس عندنا معصية ولا خلاف في خير اجتمع عليه الناس ، وإنّما اجتمعنا لنؤلّف القرآن في مصحف واحد ، ثمّ بايعوا أبا بكر فاستقرّ الأمر واطمأنّ الناس»(3) .
* وقال محمّد بن جزي الكلبي (ت 741 هـ) في التسهيل لعلوم التنزيل: «كان القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) متفرّقاً في الصحف وفي صدور الرجال ، فلمّا توفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) قعد عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ، ولكنّه لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار 1/120 ـ 121 .
(2) انظر تاريخ دمشق 42/398 ،399 .
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/57 .
صفحه 103
يوجد»(1) .
* وقال الذهبي (ت 748 هـ) في تاريخ الإسلام في ضمن عدّة روايات في فضائل الإمام عليّ(عليه السلام) ، قال: «ومنها عن سليمان الأحمسي ، عن أبيه ، قال: قال عليّ: والله ما نزلت آية إلاَّ وقد علمت فيما نزلت ، وأين نزلت ، وعلى من نزلت ، وإنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً ناطقاً»(2) .
* وقال محمّد بن سيرين: «لمّا توفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أبطأ عليّ عن بيعة أبي بكر ، فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا ، ولكن آليت لا أرتدي بردائي إلاَّ إلى الصلاة ، حتّى أجمع القرآن ، فزعموا أنّه كتبه على تنزيله ، فقال محمّد: لو أصبتُ ذلك الكتاب كان فيه العلم»(3) .
* وقال سعيد بن المُسَيّب: «لم يكن أحد من الصحابة يقول: (سلوني) إلاَّ عليّ»(4) .
هذه هي مجموعة من النصوص وهي تنبئك عن اتفاق الفريقين على وجود هذا المصحف ، وللمزيد يمكنك الرجوع إلى كتاب البرهان للزركشي (ت 794 هـ) ، والفرقان لابن الخطيب (ت 809 هـ) ، والإتقان للسيوطي (ت 911 هـ) ، ومناهل العرفان للزرقاني (ت 1367 هـ) ، وغيرهم كي ترى أنَّ امتداد الاعتراف بوجود هذا المصحف كان سائداً حتّى في العصور اللاحقة .
وهذه الروايات والأقوال وإن كنّا لا نقبل تفصيلاتها ، لكنّها متّفقة على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التسهيل لعلوم التنزيل 1/4 .
(2) تاريخ الإسلام 3 / 637 ، وذكره أيضاً ابن سعد في الطبقات الكبرى 2 / 338 ، والبلاذري في أنساب الأشراف 2 / 99 طبعة مؤسسة الأعلمي .
(3) الاستيعاب لابن عبدالبر 3 / 974 ، شرح ابن أبي الحديد 6 / 41 .
(4) تاريخ الإسلام 3/637 ـ 638 .
صفحه 104
أمر واحد وهو أنّ عليّاً قد جمع القرآن مدوّناً كما تقول به الشيعة .
كما يلاحظ فيها سكوت أبي بكر عن عملية جمع الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) للمصحف ـ مع تأويله وتفسيره ـ أيّام خلافته ، وقوله للإمام(عليه السلام): «نعم ما رأيت» ، وفي آخر: «أحسنت» ، وهما يشيران إلى وجود هذا المصحف وكتابته قَبْلَ عهد أبي بكر; لأنّ جمع القرآن لا يأتي بين عشية وضحاها ، بل في النصوص الاُخرى إشارة إلى أنّه(عليه السلام) كتبه منذ عصر الرسول(صلى الله عليه وآله) .
كما أنّ نصوص تدوين الإمام(عليه السلام) للمصحف عند الفريقين تخطّىء ما حُكي عن ابن أبي قحافة من أنّه كلّف زيداً بجمع القرآن; لأنّه لو كان قد كلّفه لما قبل عذر الإمام(عليه السلام) وتعليله ، ولقال له: لا أقبل تعليلك; لأنّي كلّفت زيد بن ثابت بهذه المهمّة .
نعم قد يقال بأنّه كلّف زيداً بعد الأشهر الستّة الّتي جلس فيها الإمام(عليه السلام)في بيته ، أي أنّه كلّفه بهذا الأمر بعد أن ردّ مصحف الإمام عليّ(عليه السلام) ، لاشتماله على فضائح القوم من لسان رسول الله(صلى الله عليه وآله) في تفسير الآيات ; لأنّ في خبر الاحتجاج: «فلمّا فتحه أبو بكر خرج في أوّل صفحة فضائح القوم . . .»(1) .
فلو قلنا بهذا الاحتمال فهو يصحّح ما جاء في الكتب الشيعية من أنّ الخليفة أراد بجمعه حذف تلك الأسماء ، لقول الراوي في تلك الأخبار: «ثمّ أحضروا زيد بن ثابت ـ وكان قارئاً للقرآن ـ فقال له عمر: إنّ عليّاً جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار ، وقد رأينا أن نؤلّف القرآن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاحتجاج 1 / 227 .
صفحه 105
ونسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار ، فأجابه زيد إلى ذلك . . .»(1) .
وكلامي هذا لا يعني بأنّي أُريد أن أصحّح كلام الطبرسي في الاحتجاج ، لكنّي أَقُوْلُ: إن أردتم أن تقولوا بذلك فيترجّح مدّعى الشيعة الإمامية .
بعد كلّ هذا علينا أن نلخّص كلام الجمهور في نقاط :
1 ـ تخلّف الإمام عليّ(عليه السلام) عن بيعة أبي بكر واشتغاله بجمع القرآن .
2 ـ قالوا لأبي بكر إنّ عليّاً كره مبايعتك ، أو إنّ أبا بكر قال لعليّ : كرهت خلافتي ، فأجاب الإمام(عليه السلام) في بعض الأخبار بأنّه خشي «أن ينفلت القرآن» ، وفي آخر : «رأيت كتاب الله يزاد فيه» ، وفي ثالث : «بأنّ النبيّ كان حيّاً والوحي ينزل عليه والقرآن يزاد فيه فلمّا قبض . . .» ، وفي كلّ ذلك يقول أبوبكر : «فإنّك نعم ما رأيت» . وفي آخر : «لقد أحسنت» .
3 ـ حلف الإمام(عليه السلام) ألاّ يرتدي برداء حتّى يجمع القرآن كما أنزل ، قال ابن سيرين : «نبِّئت بأنّه كتب المنسوخ وكتب الناسخ» ، وفي آخر عنه : «فزعموا أنّه كتبه على تنزيله» وقال أيضاً : «طلبت ما ألّف فأعياني» . وفي كلام الجزي : «فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كثير ولكنّه لم يوجد » .
4 ـ حمل الإمام عليّ مصحفه إلى القوم على جمل ثمّ قال : «هذا القرآن قد جمعته» . قال اليعقوبي : «كان قد جزّأه سبعة أجزاء ، فالجزء الأوّل البقرة . . .» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاحتجاج 1 / 228 .
صفحه 106
5 ـ في كلام ابن عبدالبرّ : «إنّ الإمام(عليه السلام) جمع القرآن عند موت النبيّ(صلى الله عليه وآله)وولاية أبي بكر على حسب الأحرف السبعة ، لا كجمع عثمان على حرف واحد ـ حرف زيد بن ثابت ـ» .
6 ـ قال الإمام(عليه السلام) ـ حسب رواية الذهبي ـ : «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت ، وأين نزلت»(1) ، وعلى من نزلت . قال سعيد ابن المسيّب : «لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلاّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)»(2) .
إذاً مسألة جمع القرآن ترتبط بنحو وآخر بالإمام عليّ(عليه السلام) وأمّا سائر الجامعين للقرآن ، فقد كانوا من الصحابة ، وهم ليسوا بمعصومين باعتراف الجميع ، وخصوصاً زيد بن ثابت الذي خالفه كبار الصحابة أمثال ابن مسعود ، هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى لم يرد دليل من العقل أو الشرع على وجوب اتّباع مصحف صحابي بعينه ، لاحتمال وقوعه في الغلط والاشتباه ، وأن يكون ممّن قدّم ما أخّره الله أو أخّر ما قدّمه الله . لهذا نرى الخلفاء اعتمدوا شاهدين عند تدوينهم المصحف ، أي أنّهم اعتمدوا البيّنة لا التواتر في عملهم ، ومعناه عدم اعتقادهم بوجود نسخة صحيحة عند أحد من الصحابة بحيث يمكن اعتمادها أصلاً في تدوين المصحف .
أو قل إنّهم بادّعائهم الخاطئ أرادوا أن يقولوا بشيء خطير وهو وجود تواتر إجمالي على عدم تحقّق جمع القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فإنّهم بهذا الكلام ضربوا الدين في صميمه ; لأنّه لو ثبت ما قالوه لأمكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الإسلام 3/637 .
(2) تاريخ دمشق 42/399 .
صفحه 107
ادّعاء وقوع التحريف في الكتاب العزيز ; لأنّ العقل لا يمكنه أن يثبت بأنّ المجموع حالاً هو جميع القرآن ، وذلك لعدم تصدّر المعصوم ـ وهو رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ لتدوينه وترتيبه وجمعه بين اللوحين ، بل أنّ جمعه قد حصل بعد وفاته وفي أيّام الفتنة وظهور البدع و . . .
فمن الطبيعي أن يُشكّ بهكذا جمع للقرآن ولا يطمئنّ إليه ، بل يحتمل الزيادة والنقصان فيه ، إذ العقل والشرع يمنعان من اتّباع غير العلم .
لكنّا لا نقبل هذا الكلام ، ونرى فيه مساساً بالدين ، مؤكّدين على أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو نفسه الذي نزل على النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله) ، وأنّه(صلى الله عليه وآله)هو الذي أشرف على ترتيبه وتدوينه ، وأنّ الناس كانوا يقرؤون بسوره وآياته في عهده ثمّ من بعده ، بلا زيادة ولا نقصان ، ومعناه أنّ الأطروحة الآنفة هي أطروحة خاطئة وأنّ التواتر بقرآنية هذا القرآن هو الذي يصحّح قرآنيّته لا ما اعتبروه من شهادة الاثنين في طريقة جمع الخلفاء ، فإنّا لا نقبل أطروحتهم لأنّها أقرب إلى التحريف من القول بحجّية القرآن .
إذ أنّ للشيعة سنداً صحيحاً إلى مجموع هذا القرآن ، خصوصاً أسنادهم من أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) إلى الإمام الصادق(عليه السلام) والذي رواه الجمهور أيضاً ، كما لهم أسانيد للآيات آية آيه موجودة في التفاسير الروائية ; وإنّ أسانيد روايات أهل البيت والقراءات السبع موجودة في تفسير التبيان للشيخ الطوسي يمكن للباحث مراجعتها .
ويضاف إليه بأن النسخة المطبوعة من القرآن في المدينة المنوّرة هي المروية عن حفص عن عاصم عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، فهي ليست نسخة عثمان بن عفّان أو مصحفه كما يقولون; لأنّه لم تثبت قراءته عليه وعلى أُبيّ بن كعب حسبما
صفحه 108
سيأتي لاحقاً .
وباعتقادي أنّهم أرادوا بأطروحتهم الخاطئة أن يرفعوا بضبع الخلفاء الثلاثة في مسألة جمع القرآن على حساب المساس بتواتر القرآن .
احتماء الخلفاء بالصحابة ومصاحفهم
من الثابت عند أئمّة أهل البيت أنّ مصحف الإمام عليّ(عليه السلام) هو عبارة عن المصحف الأصل والأمّ الذي كتبه الإمام(عليه السلام) وورثه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
وقد احتمل بعض الباحثين أن يكون مصحف الإمام(عليه السلام) هو أصل لـ : (المصحف الإمام) ، وذلك لاعتماد الجمهور على قراءة الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) أكثر من اعتمادهم على قراءات الآخرين من كَتَبَة الوحي ومصاحفهم(1) أي أنّهم اعتمدوا على قراءة الإمام عليّ(عليه السلام) أكثر ممّا اعتمدوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أمثال: معاذ (صحيح البخاري 4/1913/ح 4718 ، عن أنس ، الجمع بين الصحيحين2 /569 ، في المتّفق عليه من مسند أبي حمزة أنس بن مالك) ,وأبي الدرداء (المصدر السابق) ,وأبي أيّوب الأنصاري (طبقات ابن سعد 2/357 ، التاريخ الأوسط 1/41) ,وعبادة بن الصامت (طبقات ابن سعد 2/357 ، التاريخ الأوسط 1/41) , وسعيد بن عبيد (الإصابة 3/68/الترجمة 3178 ، لسعيد بن عبيد ، طبقات ابن سعد 4/374) , وعبدالله بن عمرو بن العاص (انظر الإصابة 4/192/الترجمة 4850 ،الاستيعاب 3 /9560/الترجمة 1618) , وعثمان (شرح النووي على صحيح مسلم 16/19) , وأبي بكر (فتح الباري 9/51 ،52 ، شرح النووي على صحيح مسلم وعمر (شرح النووي على صحيح مسلم 16/19 ، وانظر عمدة القاري20 /26 ، قال: فالخلفاء الأربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله ، وذكره أبو عمرو وعثمان بن سعيد الداني ، و . . .) .
ومجمع بن جارية (فتح الباري 9/194 ، عمدة القاري 20/129) ، وغيرهم .
صفحه 109
على قراءات من عُدُّوا في ضِمْنِ جامِعي القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
ويضاف إلى هذا الكلام أنّ المصاحف الخمسة الّتي اعتمدها عثمان لا يمكننا اعتبارها النسخ الأُمّ لمصحفه ، وذلك لتشكيك أصحابها بمنهج عثمان في الجمع وعدم ارتضائهم ذلك المنهج .
ولأنّ تصحيح مصحف عثمان عند المسلمين لا يرجع إلى جمعه وجمع الخلفاء من قبله لتلك الصحف ، بل يرجع إلى القراءة الرائجة آنذاك بين المسلمين وتصحيح كبار الصحابة لها .
ولا يستبعد أن يكون عثمان ومن تقدَّمه قد احتَمَوا بمصاحف جامعي القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) لتصحيح عملهم ، وهذا لا يعني بأنّ الموجود هو عين مصحف أبي موسى الأشعري ، أو أُبيّ بن كعب ، أو ابن مسعود ، أو عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، وحتّى أنّه لم يكن نفس مصحف حفصة وعائشة المدَّعى اعتمادها ; لأنّ منهج عثمان ومن سبقه لم يكن إلاّ إثبات الآية بعد شهادة شاهدين على صحّة كتابتها بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، اللَّذَين أوَّلهما ابن حجر: بالحفظ والكتاب(1) ، في حين كان أصحاب المصاحف لا يرتضون عمل عثمان وزيادته ونقصانه لمصاحفهم ; لأنَّ قراءة الناس للقرآن واشتهار آياته وسوره بينهم هو الذي صحّح المصحف الرائج ، ولنقوم بتحقيق بسيط حول النسخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر فتح الباري 9/14 ـ 15 ، قال ابن حجر: «إنّ أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ، قال: وكأنّ المرادبالشاهدين الحفظ والكتاب أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب ، كتب بين يدي رسول الله»(صلى الله عليه وآله)» .
صفحه 110
المعتمدة صحف عثمان بن عفّان وزيد ابن ثابت ، لنرى هل حقّاً أنّها اعتمدت ، أم أنّها كانت غطاءً ومبرّراً فقط .
نسخة أبي موسى الأشعري:
كان لأبي موسى الأشعري نسخة يقرأ بها أهل البصرة وضواحيها ، فطلبوا منه تسليمها ، فسلّمها لهم واقترح على اللَّجنة بأن لا ينقصوا من مصحفه شيئاً ، إذ قال: «ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها ، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه»(1) ، ومعنى كلامه أنّ كلّ ما في مصحفه قرآن قطعاً ، لذلك لم يرض بحذف شيء منه ، لكنّه في نفس الوقت احتمل وجود نقص عنده ـ لأنّه لم يدّع كمال مصحفه ـ لذلك أجاز لهم أن يضيفوا عليه ، لكنّهم لم يأخذوا بكلامه ، وتعاملوا مع نسخته تعاملاً آخر ، مستفيدين من اسمه ومصحفه سياسيّاً لا علميّاً ووثائقيّاً ، مريدين اعتباره مشاركاً في عمل اللجنة لكن عملهم هذا ذهب هباءً ; لأنّ الأُمّة وعلى رأسهم الصحابة لم يأخذوا بما جاء في مصحف عثمان على نحو الفرض والإلزام بل أخذوا يصحّحون القراءة الموجودة فيه ، وإنّ عثمان بن عفّان قبل تصحيحهم تحت طائلة وجود اللحن فيه وأنَّ العرب ستقيمه بألسنتها ، ومعناه جواز التصحيح في نسخة مصحفه; لأنّها ليست النسخة الأمّ .
نسخة اُبيّ بن كعب:
ومثله هو حال أُبيّ بن كعب ، فقد كان من المعارضين للخلفاء ، ومن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ المدينة 2/120 ،121/ح 1724 .
صفحه 111
الإثْنَيْ عَشَرَ الذين أنكروا على أبي بكر الخلافة(1) . فإنّ مخالفته للخلفاء لا تتّفق مع ما نسبوا إليه من دعمه لهم وللمصحف الذي دوّنوه ، مع أنّه كان قد توفّي قبل تدوين المصحف الإمام حسبما ستقف عليه لاحقاً ، وإليك الآن بعض النصوص الدالّة على مخالفته للشيخين ، وأنّه مات قبل تدوين المصاحف .
فقد أخرج النَّسائِيُّ عن قيس بن عبادة قال: «بينا أنا في المسجد في الصفّ المقدّم فجذبني رجل من خلفي جذبة فَنَحّاني وقام مقامي ، فوالله ما عقلت صلاتي ، فلمّا انصرف إذا هو أُبَيُّ بن كَعْبِ فقال: يا فتى لا يسوؤك الله إنّ هذا عهد من النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلينا أن نليه ، ثمّ استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد وربّ الكعبة ، ثلاثاً ، ثمّ قال: والله ما عليهم آسَى ولكن آسى على من أضلّوا ، قلت: يا أبا يعقوب ما تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء»(2) .
وفي نصّ آخر: «هلك أهل العقدة وربّ الكعبة ، ألا لا عليهم آسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الاحتجاج : عن أبان بن تغلب ، عن الصادق جعفر بن محمّد : أنّ أبيّ بن كعب قام فقال:«يا أبا بكر لا تجحد حقّاً جعله الله لغيرك ولا تكن أوّل من عصى رسول الله في وصيّه وصفيّه . . .» الاحتجاج 1/102 .
وفي الخصال بسنده عن زيد بن وهب قال: «كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدّمه على عليّ بن أبي طالب اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، وكان من المهاجرين . . . وأُبيّ بن كعب» .
وفي تاريخ اليعقوبي 2 : 124 : تخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع عليّ منهم . . . واُبيّ بن كعب .
(2) سنن النسائي (المجتبى) 2/88/ح 808 ، المستدرك للحاكم 1/334/ح 778 ، قال:صحيح على شرط البخاري ولم يخرّجاه مدارك الضمآن:115/ح 398 .

صفحه 112
ولكن آسى على من يُهلكون من المسلمين»(1) .
وروى أبو بكر الجوهري عن البراءِ بن عازِب ، أنّه: «كان في جماعة منهم المقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وسلمان الفارسيّ وأبو ذرّ وحذيفة وأبو الهيثم بن التيهان ـ وذلك بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ وإذا حذيفة يقول لهم : والله ليكوننّ ما أخبرتكم به ، والله ما كَذَبْتُ ولا كُذِّبْتُ ، وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين» .
ثمّ قال: «ائتوا أُبيّ بن كعب ، فقد علم كما علمت .
قال: فانطلقنا إلى أُبيّ ، فضربنا عليه بابه حتّى صار خلف الباب ، فقال: من أنتم؟ فكلّمه المقداد ، فقال: ما حاجتكم؟ فقال له: افتح عليك بابك ، فإنّ الأمر أعظم من أن يجري من وراء الحجاب ، قال: ما أنا بفاتح بابي وقد عرفت ماجئتم له كأنّكم أردتم النظر في هذا العقد .
فقلنا: نعم .
فقال: أفيكم حذيفة؟
فقلنا: نعم .
قال: فالقول ما قال ، وبالله ما أفتح عنّي حتّى تجري عَلَيّ ما هي جارية ، ولَما يكون بعدها شرّ منها ، وإلى الله المشتكى»(2) .
وعن عُتَي بن ضمرة السعدي ، قال : «قلت لاُبيّ بن كعب : مالكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح ابن حبّان 5/556/ح 5181 ، الأحاديث المختارة 4/30/ح 1257 ، مصنّف ابن أبي شيبة 7/468/ح 37294 ، وصحيح ابن خزيمة 3/33/ح 1573 . وفي بعض النصوص «هلك أصحاب العقبة» وهم الذين أرادوا قتل النبيّ(صلى الله عليه وآله) في عقبة هرشي ، وهم نفسهم أصحاب العقد أو العقدة ، لأنّ القائمين بمؤامرة العقبة هم نفسهم أقطاب الخلافة .
(2) السقيفة وفدك:49 ، وعنه في شرح النهج 2/51 ـ 52 ، والنص منه .
صفحه 113
أصحاب رسول الله نأتيكم من البعد نرجو عندكم الخير أن تعلّمونا فإذا أتيناكم استخففتم أمرنا كأنّا نهون عليكم ؟
فقال : والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولن فيها قولاً ، لا اُبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني ، غير أنّ هذه الجمعة لم تأت إلاّ وكان قد فارق الحياة»(1) .
وعن جندب ، قال : «أتيت منزله . . . فسلّمت عليه ، فردّ عَلَيَّ السلام ثمّ قال : ممّن أنت ؟ قلت : من أهل العراق .
قال : أكثرت منّي سؤالاً .
قال : لمّا قال ذلك غضبت ، قال : فجثوت على ركبتي ، ورفعت يدي ـ هكذا وصف ـ حيال وجهه فاستقبلت القبلة ، قال : قلت : اللهمّ نشكوهم إليك ، إنّا ننفق نفقاتنا وننصب أبداننا ، ونرحل مطايانا ابتغاء العلم ، فإذا لقيناهم تجهَّموا لنا .
قال : فبكى أُبيّ ، فجعل يترضّاني ويقول : ويحك : لم أذهب هناك ، لم أذهب هناك ! قال : ثمّ قال : اللهمّ أعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلّمنّ بما سمعت من رسول الله لا أخاف فيه لومة لائم ، لكنَّ القدر كان أسبق منه ، فلقد عاجله الموت قبل أن يأتي ذلك الموعد الذي عزم أن يتحدّث فيه بما علمه»(2) .
كان هذا كلامه عن أمر الخلافة ، وأمّا أمر القرآن ، ففي المصاحف عن أبي إدريس الخولاني : «إنَّ أبا الدرداء ركب إلى المدينة في نفر من أهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبقات الكبرى 3 / 61 .
(2) الطبقات الكبرى 3 : 61 و 62 .
صفحه 114
دمشق ، ومعهم المصحف الذي جاء به أهل دمشق(1) ليعرضوه على أُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وعليّ وأهل المدينة ، فقُرِئ يوماً على عمر بن الخطّاب ، فلمّا قرؤوا هذه الآية : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) ، وَلَوْ حَمَيْتُم كَمَا حَمَوا لَفَسَدَ المَسجِدُ الحَرَام ، فقال عمر : مَن أقرأكم ؟ قالوا : أُبيّ بن كعب ، فقال لرجل من أهل المدينة : ادع لي أُبَيّ بن كعب ، وقال للرجل الدمشقي : انطلق معه .
فذهبا فوجدا أُبَيّ بن كعب عند منزله يهيِّء(2) بعيراً له هو بيده ، فسلَّما عليه ، ثم قال له المدني : أجب ـ أمير المؤمنين ـ عمر ، فقال أُبَيّ : ولِمَا دعاني أمير المؤمنين ؟
فأخبره المدني بالذي كان ، فقال أُبَيٌّ للدمشقي : ما كنتم تنتهون معشر الركيب ، أو يشدفني(3) منكم شرّ .
ثمّ جاء إلى عمر وهو مشمِّر والقطران على يديه ، فلمّا أتى عمر ، قال لهم عمر : اقرؤوا ، فقرؤوا (ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام) ، فقال أُبَيّ : أنا أقرأتهم ، فقال عمر لزيد : اقرأ فقرأ زيد قراءة العامّة ، فقال : اللَّهُمَّ لا أعرف إلاَّ هذا ، فقال أُبَيّ : والله ـ يا عمر ـ إنّك لتعلم أنّي كنت أحضر ويغيبون وأُدعى ويُحجبون ويصنع بي ، والله لئن أحببت لألزمنَّ بيتي فلا أحدِّث أحداً بشيء»(4) .
إنَّ أُبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود كانت لهما قراءة ثابتة تخالف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قبل خلافة عثمان وفي عهد عمر بن الخطّاب على الأرجح .
(2) هكذا في المطبوع لكن قد يكون يَهْنَأ أو يَهْنِئُ بمعنى يطليه بالقطران ، أنظر تاريخ دمشق 68 / 102 .
(3) معناه يرتفع إليّ منكم شرّ ، أي يصيبني منكم شرّ .
(4) المصاحف 2 / 560 / ح 516 .
صفحه 115
قراءة الخلفاء الثلاثة ، فقراءتهما سواء أُخذ بها أم تركت فهي تنبئُ عن وجود اختلاف في القراءة بين هذين الصحابيّين وغيرهما وبين الخلفاء ، ونحن سنوضّح بعد قليل بأنّ أُبَيّاً وابن مسعود كانا من الثابتين على ولاء أهْلِ البيت(عليهم السلام)المختصّين بهم في العهد الأوّل بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وأنّ أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يرجّحون قراءتهما على قراءة الخلفاء ويقرؤون بما يوافق قراءة أُبيّ بن كعب .
وأنّ أُبيّاً حاول الإجهار بما يكنّه ضميره في أُخْرَياتِ حياته لولا حلول الموت ، وكذا الحال بالنسبة إلى قراءته فقد اتُّهم بأنّه أقرّ للمنسوخ ، وقد يكونون نسبوا إليه قراءات لم يقرأ بها تصحيحاً لقراءات الآخرين .
كما حكي عنه قوله: «لأقولنّ فيها قولاً لا أُبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني»(1) ، وهذا يحمل في طيّاته معاني كثيرة أتركها للقارئ كي ينتزعها .
ويؤكّد كلامنا قولُ عمر ـ في رواية البخاري ـ: «أقرؤنا أُبيّ ، وأقضانا عليّ ، وإنّا لندع من قول أُبيّ ، وذاك أنّ أُبيّاً يقول : لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وقد قال الله تعالى (مَا نَنَسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا)»(2) .
وقولُ عمر الآخر : «أبيّ أقرؤنا ، وإنّا لندع من لحن أبيّ ، وأبيّ يقول أخذته من في رسول الله فلا أتركه لشيء ، قال الله تعالى (مَا نَنَسَخْ مِنْ آيَة أَوْنُنْسِهَا)»(3) . فيه ما فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد 3/500 ، تهذيب الكمال 2/270 ، تاريخ دمشق 7/340 ، سير أعلام النبلاء 1/399 .
(2) صحيح البخاري 4/1628/ح 4211 .
(3) صحيح البخاري 4/1913/ح 4719 .

صفحه 116
وفي تفسير مصابيح الأسرار لمحمّد بن عبدالكريم الشهرستاني (ت 548 هـ): « . . . وقد خالفه أُبيُّ بن كعب ومنعه من مصحفه ، وكان يقول: سعيد بن العاص أعرب الناس ، ولم يقرأ قطّ على رسول الله سورة إلاّ قرأ عليه النبيّ سورة»(1) .
أجل إنّهم تعاملوا معه ومع مصحفه بعنف ، فقد أُخذ مصحفه من ابنه محمّد بعد وفاته ـ في عهد عثمان ـ وقد أخبر محمّد بن أُبي وفد العراق لمّا قدموا عليه فقالوا: «إنّا تحمّلنا(2) إليك من العراق ، فأَخْرِجْ لنا مصحف أُبيّ ، فقال محمّد: قد قبضه عثمان ، قالوا: سبحان الله أخْرِجْه ، قال: قد قبضه عثمان»(3) .
ومعناه أنّ أهل العراق كانوا يبحثون عن نسخة أُبيّ بحيث يرسلون وفداً إلى ابنه للوقوف عليها ، لكنّ ابنه قال لهم: إنّ الأمر قد خرج من يدي; إذ أبيد المصحف ضمن ما أبيد وأحرق من المصاحف .
ولا يستبعد أن يكون عثمان وأنصاره قد استغلّوا اسم أُبيّ لإعطاء الشرعية لمصحفهم .
هذا عن نسخة أبي موسى الأشعري وأُبيّ بن كعب . وإليك الآن الكلام عن نسخة حفصة .
نسخة حفصة بنت عمر:
وأمّا نسخة حفصة(4) فهم أيْضاً اتّخذوها غطاءاً لعملهم ، ولم يكونوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير مصابيح الأسرار 1/3 .
(2) تحمّلنا إليك أي رحلنا .
(3) كنز العمّال 2/248/ح 4781 ، عن أبي عبيد في الفضائل وابن أبي داود .
(4) وهي نسخة أبي بكر التي كانت عند عمر .

صفحه 117
يريدون اعتمادها أصلاً في عملهم ، بل أخذوها لكي يرفعوا التناقض المحتمل تصوّره بين نسختها وبين نسخة الخليفة عثمان; لأنّ النسخة الأولى الموجودة عند حفصة هي ممّا جمعه زيد أيضاً على عهد الشيخين ، فأراد عثمان أن لا يحصل التعارض بين النسختين أي بين ما نسخه زيد لعثمان وما نسخه للشيخين من قبل «فأرسل عثمان إليها فأبت أن تدفعها ، حتّى عاهدها لَيَرُدَّنَّها إليها ، فبعثت بها إليه ، فنسخ عثمان هذه المصاحف ، ثمّ ردّها إليها ولم تزل عندها .
قال الزهري: أخبرني سالم بن عبدالله: «أنّ مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف الّتي كتبت بها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إيّاها ، فلمّا توفّيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبدالله بن عمر ليرسل إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبدالله بن عمر ، فأمر بها مروان فشُقِّقت»(1) .
فإباء حفصة إعطاء نسخة المصحف الموجود عندها إلى عثمان ، وعزيمة مروان على تشقيقها وتمزيقها ، أو تحريقها ، يشيران إلى وجود مغايرة في مصحفها عمّا في المصحف الذي أراده عثمان ، وكلامها قريب من كلام أبي موسى الأشعري المذكور آنِفاً . ولا يخفى عليك بأنَّ المستشرقين استشمّوا رائحة التحريف في الكتاب العزيز ، من هكذا نصوص .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر فتح الباري 9/20 ، صحيح بن حبّان 10/365/ح 4507 ، وفيه: أرسل ابن عمر إلى مروان فحرقها مخافة ، مسند الشاميّين 4/235/ج 3168 ، وفيه: فأرسل بها عبدالله بن عمر فأمر مروان فشُقِّقت .

صفحه 118
نسخة عائشة بنت أبي بكر:
أمّا دعوى اعتماد عثمان على نسخة عائشة ، فهي كغيرها من الدعاوي الفارغة التي اعتُمدت لتصحيح عمل زيد بن ثابت ، فقد جاء في رسالة عثمان إلى الأمصار الّتي أُرسلت إليها المصاحف قوله: « . . . فأرسلتُ إلى عائشة أمّ المؤمنين أن ترسل إليّ بالأدم الذي فيه الذي كُتب عن فم رسول الله حين أوحاه الله إلى جبريل وأوحاه جبريل إلى محمّد وأنزله عليه . . .»(1) .
فلو صحّ اختصاصها بمصحف دون غيرها من نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) فلماذا لا نراها تنقل عنه شيئاً حينما كانت تُسأل عن بعض المسائل ؟!
بل لماذا لا تستشهد بمصحفها وما فيه من الآيات في المسائل الخلافية الواقعة بينها وبين نساء النبيّ الأُخْرَياتِ اللاّتي كنّ يخطِّئنها في مسألة رضاع الكبير(2) وأمثاله ؟! على أنّها ادّعت بأنّه أُنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يُحَرِّمن) ثمّ نسخت تلك بخمس معلومات ، فتوفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهنّ فيما يُقرأ من القرآن(3) ، فلماذا لا تريهنّ تلك الآية في مصحفها لحلّ الاختلاف ؟!
أيّ قرآن هذا الذي تقوله؟! هل هو القرآن الذي أُخذ عن فم رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! أَو أنّه القرآن الذي جمعه زيد بأمر عثمان وأشرك اسمها فيه؟! أَو أنّه قرآن ثالث؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ المدينة لابن شبة 2/120/ح 1722 .
(2) المستدرك للحاكم 4/179/ح 3317 ، سنن البيهقي الكبرى 7/459/ح 15426 ، مسندالشاميّين 4/192/ح 3079 .
(3) صحيح مسلم 2/1075 ، باب التحريم بخمس رضعات/ح 1452 ، سنن الدارمي 2/209/ح 2253 ، المجتبى 6/100/ح 3307 .
صفحه 119
فلو كان القرآن المكتوب عندها هو الذي أُخذ عن فم رسول الله(صلى الله عليه وآله)والذي أوحاه الله إلى جبريل(عليه السلام) ، فهل هناك من مبرّر لكي تأمر مولاها أن يستكتب لها نسخة من القرآن المتداول مع إضافة جملة جديدة فيه لم تكن في المصحف (وصلاة العصر) ، كلّ ذلك وهي التي عندها المكتوب «عن فم رسول الله(صلى الله عليه وآله)» كما ادّعاه عثمان في رسالته إلى الأمصار؟!
فقد أخرج مسلم بسنده عن أبي يونس مولى عائشة أنّه قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً ، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي (حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) ، فلمّا بلغتُها آذنتُها ، فأملت علَيَّ (حافِظُواعَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) وصلاة العصر (وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ)»(1) .
كلّ هذه القرائن والنصوص تشير إلى أنّ عثمان كان يريد بجمعه للمصاحف أن يعطي مشروعيّة لعمله ، والقول أنّه دوّن مصحفه عَلى وَفْقِ مصاحف الصحابة وأمّهات المؤمنين وأنّه لم ينفرد بالرأي .
صحيح أنّ الأُمّة قبلت بالمصحف الرائج وحبّذت توحيد المصاحف ، لكن توحيدهم على قراءة واحدة ، وهي قراءة زيد بن ثابت كان لا يرضي الكثيرين منهم ، كما أنّ كبار الصحابة كانوا يشكّكون في صلاحية اللَّجنَةِ المشرفة على هذا العمل ، أو وجود بعض الصحابة ضمنها مثل أُبيّ بن كعب .
فلو كان عثمان باحثاً عن الأفضل كان عليه ـ تأكيداً على حسن نيّته ـ أن ينتدب إلى هذا العمل كبارالصحابة أمثال ابن مسعود ذلك الغلام المُعَلَّم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم 1/437/ح 629 .
صفحه 120
والذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أُمّ عبد»(1) ، وعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله)وابن عمّه ، وأن يأخذ بمصحف أُبيّ بن كعب كما هو لأنّه سيّد القراء ، لا أن ينتدب صغار الصحابة مثل زيد بن ثابت ويتّخذ مصاحف كبار الصحابة غطاءً لتصحيح عمل زيد بن ثابت ، وحتّى أنّه لو أراد أن ينتدب صغار الصحابة بدعوى أنّهم أقلّ تعصّباً لرأيهم واعتزازاً بعلمهم ـ حسب قول الدكتور هيكل ـ فكان عليه أن ينتدب أمثال عبدالله بن عبّاس حبر الأمّة ، وغيره من صغار الصحابة ولا يكتفي بزيد بن ثابت فقط .
نعم ، إنّهم أدرجوا أسماء بعض هؤلاء الصحابة في ضِمْنِ المُشْرِفيْنَ على عمل اللجنة كإدراجهم اسم أُبيّ بن كعب ، لكن من الصعب قبول هذا الكلام ، وذلك لوفاته قبل ذلك التاريخ وفي آخر عهد الشيخين وأوائل عهد عثمان بن عفّان على وجه الخصوص ، وإنّ إتيان محمّد بن اُبي بمصحف أبيه إلى القوم يؤكّد عدم وجود اُبيّ في ذلك التاريخ ، إذ لو كان موجوداً لآتاهم هو بنفسه بمصحفه لا أن يؤتى بمصحفه بواسطة ابنه محمّد وخصوصاً قد عرفت بأنّه مات قبل مجيء الجمعة !!!
إنّ عمل عثمان كان إساءة لهؤلاء الصحابة ، وتجريحاً لهم وإن جاء تحت غطاء التجليل والاحترام لكبار الصحابة وإشراكهم في عملية الجمع ، ولأجل ذلك امتنع ابن مسعود أن يسلّم نسخته إلى اللجنة ، مصرِّحاً بأنّه أعلم من زيد ، وأنّه عرف الإيمان وزيد في صلب أبيه الكافر(2) ، كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن ابن ماجة 1/ 49 / ح 138 ، وانظر الأحاديث المختارة 1/ 93 / ح 18 ، 1 /385 / ح268 .
(2) انظر سنن الترمذي 5/285/ح 3104 وفيه : والله لقد أسلمت وإنّه لفي صلب رجل كافر .قال : حديث حسن .

صفحه 121
أنّه طلب من الذين نسخوا عن مصحفه بأن لا يسلّموا ما استنسخوه إلى عثمان ، بقوله: «أيّهاالناس إنّي غالٌّ مصحفي ، ومن استطاع أن يغلّ مصحفاً فليغلل ، فإن الله يقول: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)»(1) ، وفي رواية أخرى قال: «أيّهاالناس غلُّوا المصاحف فإنّه من غلَّ يأت بما غلَّ يوم القيامة ونعم الغلُّ المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة»(2) .
بهذا فقد عرفتَ حال من ادُّعِي كونهم من اللّجنة ، أو من الذين اعتمد عثمان على مصاحفهم ، فإنّ الواقع هو انحصار ذلك بزيد بن ثابت وقراءته ، رغم مخالفة قراءته لقراءة غيره من الصحابة .
وزيد قد تكلّمنا عنه بعض الشيء(3) وعرفت موقفه في السقيفة ومدح أبي بكر له ، واستخلاف عمر له على المدينة ، وأنّه ما رجع إلاّ وأقطع لزيد حديقة من نخل(4) .
وفي الطبقات : «إنّ عمر كان يفرّق الناس في البلدان وينهاهم أن يفتوا برأيهم ويحبس زيداً عنده» ، إلى أن قال :
«وكان عمر يقول : أهل البلد ـ يعني المدينة ـ يحتاجون إلى زيد فيما يجدون عنده ، فيما يحدث لهم مما لا يجدون عند غيره»(5) .
وفي بعض المصادر : وما كان عمر وعثمان يقدّمان على زيد أحداً في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة»(6) .
وفي اُسد الغابة والاستيعاب : «كان زيد عثمانياً ولم يشهد مع عليّ شيئاً من حروبه»(7) .
وأنّه كان أحد الأربعة الذين دافعوا عن عثمان ، حين لم ينصره من الصحابة غيرهم(8) .
وكان على قضاء عثمان(9) ، وعلى بيت المال والديوان له(10) ، وكان عثمان يستخلفه على المدينة ، وكان يذبّ عن عثمان حتّى رجع لقوله جماعة من الأنصار(11) .
وقد قال للأنصار : إنّكم نصرتم رسول الله فكنتم أنصار الله ، فانصروا خليفته تكونوا أنصار الله مرّتين ، فقال الحجّاج بن غُزَيَّة : والله إِنْ تدري هذه البقرة الصيحاء ما تقول . . .
وفي نصٍّ آخر : إنّ سهل بن حنيف أجابه فقال : يا زيد أشبعك عثمان من عضدان المدينة(12) .
يضاف إليه أنّ بني عمرو بن عوف أجلبوا على عثمان وكان زيد يذبّ عنه ، فقال له قائل منهم : وما يمنعك ؟ ما أقلّ والله من الخزرج من له عضدان العجوة مالك .
فقال زيد : اشتريت بمالي ، وقطع لي إمامي عمر ، وقطع لي إمامي عثمان .
فقال له ذلك رجل : أعطاك عمر عشرين ألف دينار .
فقال : لا ولكن كان عمر يستخلفني على المدينة ، فوالله ما رجع من مغيب قطّ إلاّ قطع لي حديقة من نخل(13) .
كما يظهر من كلام البلاذري أنّه كان أحد الذين هجموا على بيت فاطمة الزهراء(عليها السلام) بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)(14) . ولا يمكن التفصيل أكثر من هذا في حالة زيد ، ومن أراد المزيد فليراجع كتب التراجم والرجال .
كان هذا حال مصاحف الصحابة وأصحابها ، ومصحف زيد بن ثابت وشخصه بالخصوص !
موقف أُبيّ وابن مسعود من السلطة:
لا يسعنا إلاّ أن نؤكّد بأنّ أتباع سلطة الخلافة قد نسبوا إلى ابن مسعود وأُبيّ بن كعب وعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وحتّى إلى ابن عبّاس قضايا لا تتّفق مع سيرتهم ، فقالوا: عن ابن مسعود: بأنّه حكّ المعوّذتين من القرآن ، وعن أبيّ أنّه أضاف سورتي الحفد والخلع إلى القرآن ، وعن عليّ بن أبي طالب أنّه أتى بقرآن جديد ، وعن ابن عبّاس أنّه روى الإسرائيليّات ، وهكذا .
وإنّك سترى أنّ ابن مسعود كان يقرأ بالمعوّذتين في صلاته ، وكانتا
في مصحفه ، وقد دافع عنه ابن حزم في المحلّى وقال: «وكلّ ما روي عن ابن مسعود من أنّ المعوّذتين وأمّ القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصحّ ، وإنّما صحّت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أمّ القرآن والمعوّذتان»(15) ، بل صحّح السيوطي إسناد ما مرّ بطرقهم(16) .
وقال ابن حجر: «وقد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك ، إلى أن قال: قال الفخرالرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظنّ أنّ هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل . والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل»(17) .
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أنّه(صلى الله عليه وآله) قرأهما في الصلاة(18) ، وزاد ابن حبّان من وجه آخر عن عقبة بن عامر أيضاً: «فإن استطعت أن لاتفوتك ]قراءتهما[ في صلاة فافعل»(19) ، وأخرج أحمد من طريق أبي العلا ابن الشخير عن رجل من الصحابة أنّ النبيّ أقرأنا المعوّذتين وقال: «إذا أنت صلّيت فاقرأ بهما»(20) وإسناده صحيح(21) .
وهذه الروايات تؤكّد تواتر وجود المعوّذتين في القرآن ، وانعقادُ الإجماع القطعيّ على قرآنيّتهما اليوم كاشف عن إجماع الصحابة على ذلك .
وحكى الزرقاني عن بعضهم أنّه قال: «يحتمل أنّ ابن مسعود لم يسمع المعوّذتين من النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولم تتواترا عنده ، فتوقّف في أمرهما . وإنّما لم ينكر ذلك عليه ، لأنّه كان بصدد البحث والنظر ، والواجب عليه التثبّت في هذاالأمر» .
قال الزرقاني: «ولعلّ هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس; لأنّ قراءة عاصم عن زرعة عن ابن مسعود ثبت فيها المعوّذتان والفاتحة وهي صحيحة ، ونقلها عن ابن مسعود صحيح ، وكذلك إنكار ابن مسعود للمعوّذتين جاء من طريق صحّحه ابن حجر ، إذن فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود ، جمعاً بين الروايتين .
وما يقال في نقل إنكاره قرآنية المعوّذتين يقال في نقل إنكاره قرآنية الفاتحة . بل نقل إنكاره قرآنية الفاتحة أَدْخَلُ في البطلان وأغرق في الضلال ، باعتبار أنّ الفاتحة أمّ القرآن وأنّها السبع المثاني الّتي تُثَنَّى وتكرّر في كلّ ركعة من ركعات الصلاة ، على لسان كلّ مسلم ومسلمة . فحاشى لابن مسعود أن يكون قد خفي عليه قرآنيّتها ، فضلاً عن إنكاره قرآنيّتها . وقصارى ما نقل عنه أنّه لم يكتبها في مصحفه ، وهذا لا يدلُّ على الإنكار .
قال ابن قتيبة ما نصّه: وأمّا إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنّه أنّها ليست من القرآن ـ معاذ الله ـ ولكنّه ذهب إلى أنّ القرآن إنّما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشكِّ والنسيان والزيادة والنقصان .
ومعنى هذا أنّ عدم كتابة ابن مسعود للفاتحة في مصحفه كان سببه
وضوح أنّها من القرآن ، وعدم الخوف عليها من الشكّ والنسيان والزيادة والنقصان»(22) .
ثمّ أضاف: «أنّنا إن سلّمنا أنّ ابن مسعود أنكر المعوّذتين وأنكر الفاتحة بل أنكر القرآن كلّه ، فإنّ إنكاره هذا لا يضرُّنا في شيء; لأنّ هذا الإنكار لا ينقض تواتر القرآن ، ولا يرفع العلم القاطع بثبوته القائم على التواتر . ولم يقل أحد في الدنيا: إنّ من شرط التواتر والعلم اليقينيِّ المبنيِّ عليه ألاّ يخالف فيه مخالف . وإلاّ لأمكن هدم كلّ تواتر ، وإبطال كلّ علم قام عليه ، بمجرّد أن يخالف فيه مخالف ، ولو لم يكن في العير ولا في النفير .
قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظنّ ابن مسعود أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن ، لأنّه رأى النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعوّذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنّه ، ولا نقول إنّه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار»(23) .
وعن زرارة عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أنّه: «سئل عن المعوّذتين: أهما من القرآن؟
فقال الصادق(عليه السلام): هما من القرآن .
فقال الرجل: إنّهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ولا في مصحفه .
فقال أبو عبدالله(عليه السلام): أخطأ ابن مسعود ـ أو قال: كذب ابن مسعود ـ هما من القرآن . . .»(24) .
وروى الكليني بسنده عن عبدالله بن فرقد والمعلّى بن خنيس قالا: «كنّا عند أبي عبدالله ومعنا ربيعة الرأي فذكرنا القرآن ، فقال أبو عبدالله: إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالٌّ .
قال ربيعة: ضالٌّ؟
فقال: نعم ضالٌّ ، ثمّ قال أبو عبدالله: أمّا نحن فنقرأ على قراءة أُبيٍّ»(25) .
وليس في هذا الكلام وما جاء قبله تجريح لابن مسعود الذي تصوّر كثير من الناس بأنّه من آل محمّد لكثرة دخوله وخروجه عليهم(26) ، كما أنّه كان أحد السبعة الذين بهم يرزق العباد ويمطرون(27) ، وهو أيضاً من جملة تلك العصابة المؤمنة(28) والصالحة(29) الّتي شهدت جنازة أبي ذر الغفاري حسب تعبير الرسول .
وإنّ تعليل الإمام(عليه السلام): «إن كان ابن مسعود لا يقرأ . . .» يفهم منه بأنّ السجية العامّة لابن مسعود كانت موافقة قراءته لقراءة أهل البيت ، لكن إن كان ابن مسعود لا يقرأ بتلك القراءة فهو ضالٌّ ، وهو مثل كلام الباري جلّ وعلا: (لَوْكَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
أمّا موضوع اختيار الإمام(عليه السلام) قراءة أُبيّ فهو أيْضاً لا يعني وجود إشكال في قراءة ابن مسعود ، بل لاشتمال مصحف أُبيٍّ على أكثر ممّا اشتمله مصحف ابن مسعود من قراءات لجدِّه الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) ، والذي قراءتُهُ قراءة رسول الله على نحو القطع واليقين .
وقد يكون الإمام(عليه السلام) انتخب قراءة أُبيٍّ لتقليل الحدّة الموجودة بين أهل البيت(عليهم السلام) وبين مَسْلكِ أتباع الخُلَفاء ، لأنّ السلطة كانت تريد الاحتماء بقراءة أُبيّ في الظاهر ، وفي المقابل كانوا على صِدام واضح مع ابن مسعود ومصحفه ، فقد يكون الإمام(عليه السلام) أراد بقوله الإشارة إلى أنّه يقرأ بقراءة من يرتضونه من الصحابة .
فالإمام(عليه السلام) حينما يقول: «أمّا نحن فنقرأ على قراءة أُبيّ» لا يعني بكلامه أنّ مصحف الإمام أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) ليس موجوداً عنده(عليه السلام) ، بل إِنّهم يقولون بذلك كي يصحّحوا للناس قراءتهم من خلال حجّية قراءة أُبيّ عندهم ، وهو ما رأيناه في قول بعض أصحاب القراءات بأنّ الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام) قرءا على أبي عبدالرحمن السلمي ، فهذا الكلام لو صحّ فهو لإلزام الآخرين بقراءتهما ، لأنّ سبطي رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يحتاجان في تصحيح قراءتهما إلى أمثال أبي عبدالرحمن السلمي ، لكن لمّا كان السياق العامّ الأخذ عن هؤلاء القرّاء لا عن غيرهم ، كان من الحكمة إرشاد الناس عَمَلاً إلى صحّة الأخذ عن السلمي وغيره ، وهذا يشبه ما قاله الإمام الصادق(عليه السلام)عن أبيه الباقر(عليه السلام)من أنّه كان يحدّثهم عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكانوا يكذّبونه لعدم إدراكه لعصر النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فلمّا رأى الإمامُ الباقرُ(عليه السلام) ذلك حدّثهم عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، وكان جابر يأتيه يتعلّم منه . ونحن سنأتي بهذا الخبر في الهامش بعد قليل .
أمّا بالنسبة إلى ما نسبوه إلى أُبيِّ بْنِ كَعْب من أنّه أدخل سورتي الحفد والخلع في القرآن ، فهو لم يضف هاتين السورتين إلى القرآن بل أضافهما عمر ابن الخطّاب ثمّ نسب ذلك إلى أمثال أُبيّ بن كعب ، وقد يكونانِ ذهبا معاً إلى هذا الرأي ، لكنّ هذا لا يدعو إلى التعريض به وبقراءته ومصحفه; لأنّه ـ حسبما يقولون ـ اجتهد ، والمجتهد إن أصاب فله أَجْرانِ وإن أخطأ فله أجرٌ واحِدٌ!!!
وباعتقادي أنّ ابن مسعود وأبيّ بن كعب حوربا لأجل ارتباطهما بأهل البيت وحبّهما لعليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) ، وما جاء في بعض الأخبارمن سقوط بعض السور أو الآيات أو زيادتها في مصحف هذا أو ذاك لا يصير سبباً للوهن في الكتاب العزيز الموجود بين الدفّتين; لأنّها أخبار شاذّة ومردودة لا يعتمد عليها عند الفريقين .
أجل ، لا يمكن لأحد أن ينكر شدّة عثمان مع الصحابة ، فقد ضرب عمّار بن ياسر وداس على مذاكيره فأصابه الفتق(30) ، وأمر ابن زمعة أن يُخرج ابن مسعود من المسجد فأخرجه وضرب به الأرض فكسر ضلعاً من أضلاعه ، فقال ابن مسعود: «قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان» .
قال الراوي: «فكأنّي أنظر إلى حموشة ساقي عبدالله بن مسعود ورجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان»(31) .
كما أحرق عثمان مصحف ابن مسعود ممّا دعاه أن يقول: «لو ملكت كما ملكوا لصنعتُ بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي»(32) .
وطبق هذا الأصل وهذه السياسة أراد النهج الحاكم أن يفرضوا رأيهم على أبي الدرداء فلم يخضع لهم أبو الدرداء .
فقد روى البخاري في صحيحه قال: «قدم أصحاب عبدالله (ابن مسعود) إلى الشام ، ومنهم علقمة فجاءهم أبو الدرداء ، وقال: أيّكم يقرأ على قراءة عبدالله؟ قالوا: كلّنا ، قال: فأيّكم يحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة ، قال: كيف سمعته يقرأ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ؟ قال علقمة: (والذكر والأُنثى) قال أبو الدرداء: أشهد أنّي سمعت رَسُوْلَ اللهِ يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) والله لا أُتابعهم»(33) .
وأترك الكلام عن التهم الموجّهة إلى الإمام عليّ(عليه السلام) وابن عبّاس ، لأنّ قراءة هذا البحث كاف للوقوف على ما نريد قوله بهذا الصدد .
وقفة مع صاحب (معجم القراءات القرآنية):
ولنذكر الآن كلام الدكتورين أحمد مختار عمر وعبدالعال سالم مكرم في مقدّمة كتابهما (معجم القراءات القرآنية) عن مصحف الإمام عليّ(عليه السلام); إذ قالا:
«وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا يدلّ على أنّ عليّاً كانت فكرة جمع المصحف مستقرّة في ذهنه قبل أن يجمع أبو بكر مصحفه .
ولمصحف عليّ قيمة تاريخية ، إلى جانب أنّ عليّاً كان من القرّاء ، فقراءته يمثّلها مصحفه .
وقيمته التاريخية ترجع إلى أنّ قراءات أربعة قرَّاء من القرّاء السبعة تنتهي إلى قراءة عليّ كرّم الله وجهه ، أمّا هؤلاء القرّاء الأربعة فهم:
1 ـ أبو عمرو بن العلاء . . .
2 ـ عاصم بن أبي النَّجُوْدِ . . .
3 ـ حمزة الزيّات . . .
4 ـ الكسائي . . .
ثمّ أضافا قائلَيْن: وممّا يجب أن نَلْفِت النظر إليه أنّ مصحف (عليّ) كرّم الله وجهه لا يختلف عن مصحف عثمان المصحف الإمام ، اللهمّ إلاّ في القراءة الّتي يحتملها رسم المصحف العثماني ، فإنّ عليّاً كرّم الله وجهه كتب مصحفه على حسب القراءة الّتي سمعها من الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وقد كُتِبَ مصحف أبي بكر على مرأى ومسمع منه ، فلو كان هناك خلاف في ترتيب أو تباين في زيادة أو نقص لما سكت عليّ ، ولأظهر رأيه في وضوح; لأنّه لا يليق برجل مثله وهو من هو في الإسلام أن يسكت عن شيء لا يرتضيه في المصحف الذي هو دستور الأمّة ، وعماد العقيدة .
إنّ قراءة عليّ في مصحفه لا تخرج عن الرسم العثماني . . .»(34) .
ثمّ أشار الاُستاذان إلى بعض القراءات الشاذّة عن الإمام أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام) فقالا: « . . . في ضوء هذه القراءات السابقة المنسوبة إلى الإمام عليّ كرّم الله وجهه تقرّر ما يلي:
1 ـ ليس مصحف عليّ ـ الذي احتفظ به إلى عهد عثمان ، قبل أن يقوم عثمان بتوحيد المصحف الإمام ، وحرّق جميع ما سواه ـ مخالفاً للمصحف الإمام إلاّ في القراءات التفسيرية أو الأُحادية .
2 ـ بعد توحيد المسلمين على مصحف واحد ، كانت هناك قراءات أُحادية منسوبة إلى عليّ كرّم الله وجهه ، وتناقل الرواة تناقلاً لم يصل إلى حدّ التواتر هذه القراءات الّتي سُجّلت في كتب التفسير واللغة والقراءات .
3 ـ وبعد مرحلة توثيق النصّ القرآني في عهد عثمان . . . كان لنا أن نعتدّ بقراءة في مجال التوثيق غير القراءات العامّة المشهورة .
4 ـ ما نسب إلى الإمام عليّ من القرآن فهو مخالف لما في المصحف الذي بين أيدينا متجاوزاً مخالفة الرسم ، لا يعتدّ به في مجال القراءات الصحيحة أو الشاذّة ، وإنّما هو تفسير من كلام عليّ(عليه السلام) لا من كلام الله تعالى .
وقد تنبّه إلى هذه الحقيقة جماعة من أهل الإمامية ، فقد قالوا عن المصحف الإمام ـ وهو مصحف عثمان الذي احتفظ به ليكون مرجعاً لمصاحفه العثمانية الأُخرى ـ قالوا: إنّه لم ينتقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزّلاً(35) ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو من القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً . . . .
إلى أن يقولا:
وقد سجّلنا آنفاً رأي فريق من الشيعة ـ وهم الإمامية ـ حيث يعتبرون تفسيرات الإمام عليّ أو تأويلاته للقرآن من قبل القرآن تفسيراً ومجازاً ، لا واقعاً وحقيقة .
وما نسب إلى الإمامية من اتّهام كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان بأنّهم حرّفوا القرآن أو أسقطوا منه ، أو زادوا عليه ، فهو محض افتراء بعيد عن الحقّ ، دفع إليه هوى النفس ، ووسوسة الشيطان .
والواقع أنّ الإمامية لم يكونوا جميعاً على هذا الرأي ، فقد بيّنّا فيما سبق أنّهم مؤمنون بأنّ القرآن لم يحدث فيه تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقص ، وما نسب إلى الإمام عليّ من قرآن فهو تفسير معنى جاء بأسلوبه ومن نسج كلامه . . .»(36) .
ولنا وقفة مع ما كتبه هذان الاُستاذان ، فنقول:
نحن مع تقديرنا للاُستاذين وما أبدياه من رأي ، علينا أن نبدي وجهة نظرنا في ما قالاه أيضاً ، لأن الآراء تعبّر عن الأفكار ، وهي منتزعة من القناعات والتصوّرات وإن كانت ملاحظاتنا دقيقة يعذر فيها المتساهل ، وإليك ملاحظاتنا .
1 ـ إنّ قولهما: «مصحف عليّ لا يختلف عن مصحف عثمان إلاّ في القراءة الّتي يحتملها رسم المصحف العثماني ، فإنّ عليّاً كتب مصحفه على حسب القراءة الّتي سمعها من الرسول» ، قد يُفهَمُ منه أنّ قراءة مصحف عثمان كانت تختلف عن قراءة رسول الله(صلى الله عليه وآله) الّتي سمعها منه الإمام عليّ(عليه السلام) ، وهذا ردٌّ لمصحف عثمان المخالف لقراءة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، لأنّا لا نقبل ما قالوه عن مصحف عثمان وأنه كتب بشكل يحتمل جميع القراءآت; لأنّ كثيراً من القراءآت لا يمكن إدخالها تحت هذه الضابطة كما هو معلوم .
2 ـ إنّ قولهما: «وقد كتب مصحف أبي بكر على مرأى ومسمع منه» ليس بصحيح; لأنّ أبا بكر دعا إلى كتابة المصحف مخالفةً لمصحف الإمام عليّ(عليه السلام) ، حسبما ما مرّ عليك في خبر الاحتجاج وغيره ، فإنّهم لم يَدْعُوهُ للمشاركة في هذا الجمع ، ولم يشاوروه ، ولم يُرُوه ذلك المجموع عندهم من الآيات والسور ، وحتّى أنّهم لم يروه آية منه بالرغم من معرفتهم بمكانته عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)وقربه منه(صلى الله عليه وآله) .
مع العلم بأنّ المدوَّن على عهد أبي بكر كان صُحُفاً ولم تصل إلى حدّ المصحف .
3 ـ إنّ قولهما: «فلو كان هناك خلاف في ترتيب أو تباين في زيادة أو نقص لما سكت» ، فهو صحيح من جهة وغير صحيح من جهة اُخرى .
فصحيح من جهة أنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) لم يخالف مصحفهُ مصحف أبي بكر ولا مصحف عمر ولا مصحف عثمان لا لجهة صحّة منهجية أبي بكر وطريقته في جمع القرآن ، بل للتواتر الحاصل عند المسلمين على قرآنية هذا القرآن وقراءة رسول الله(صلى الله عليه وآله) والصحابة به .
أمّا الشيء الغير الصحيح في كلام هذين الاُستاذين فهو قبول الإمام عليّ(عليه السلام) بترتيب مصحف أبي بكر وعمر وعثمان فهذا غير صحيح; لأنَّ ترتيب مصاحف أُبيّ وابن مسعود وعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يخالف ترتيب مصاحف الخلفاء ، مع التأكيد على أنّ أبا بكر لم يكن له مصحف وأقصى ما فعله هو جمع الصحف .
4 ـ إنّ قولهما: «إنّ قراءة عليٍّ في مصحفه لا تخرج عن الرسم العثماني: يعني في القراءة» يخالف قولهما الآخر: «مصحف عليّ لا يختلف عن مصحف عثمان إلاّ في القراءة» ، فلا أدري هل الرسم غير القراءة ، أم أنّه يعني القراءة أيضاً ، وهل يخالف مصحف الإمام عليّ(عليه السلام) مصحف عثمان أو لا يخالف؟
5 ـ قد يكون هذان الأستاذان أرادا بقولهما السابق أن يقولا: بما أنّ مصحف عليّ(عليه السلام) يطابق مصحف عثمان ، ومصحف عثمان ـ على فرض صحّته ـ نُسِخَ من صحف أبي بكر الموجودة عند حفصة ، فيكون مصحف عليّ(عليه السلام)مطابقاً لمصحف أبي بكر ، وهو مقبول عند عامّة الناس والصحابة .
فالأستاذان ـ في الفقرة السابقة ـ قد قبلا بوجود مخالفة ما بين مصحف عثمان ومصحف الإمام عليّ(عليه السلام) ، لكنّهما علّلا ذلك بأنّ الموجود في مصحف أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) هو من تفسير الإمام(عليه السلام) لا من كلام الله تعالى ، مع أنّ الإمام(عليه السلام) لم يقبل بهذا التبرير والتعليل ، بل يعتقد بأنّ الموجود في مصحفه من تفسير وتأويل قد أخذه من فم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وليس هو من تفسيره وكلامه(عليه السلام) .
ولا يمكن انفكاك كلام الرسول(صلى الله عليه وآله) عن القرآن المجيد; إذ لا يتصوّر معرفة مراد كلام الله إلاّ بعد معرفة تفسيره من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
وقد كان الصحابة يكتبون ما ليس قرآناً في مصاحفهم ، كالذي كانوا يكتبونه شرحاً لمعنى أو بياناً لناسخ ومنسوخ أو نحو ذلك(37) .
وعليه فمصحف الإمام عليّ(عليه السلام) هو المصحف الأكمل من بين مصاحف الصحابة ; لأنّ فيه الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، والتنزيل والتأويل ، كما فيه معنى بعض الآيات وبيان شأن نزولها ، إلى غير ذلك من الجهات العلمية الملحوظة في التفاسير وكلّها كان قد أخذها من رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
وقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يؤكّد للناس بأنّ القرآن لا يُفهم ولا يُدرك بحقائقه إلاّ به أو بالأوصياء من بعده ، وأنّ كلامه حجّة على الناس كما أنّ القرآن حجّة عليهم ، فقد جاء عنه(صلى الله عليه وآله)في ذيل بعض النصوص الصادرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ألا وإنّي قد أوتيت القرآن ومثله»(38) ، وفي آخر: «ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله»(39) .
وروى ابن حزم في الأحكام عن العرباص بن سارية ، أنّه: «حضر رسول الله يخطب الناس وهو يقول : أيحسب أحدكم متّكئاً على أريكته قد يظنّ أنّ الله لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في القرآن ، ألا وإنّي والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنّها لمثل القرآن .
قال ابن حزم: صدق النبيّ هي مثل القرآن ولا فرق في وجوب كلّ ذلك علينا ، وقد صدق الله تعالى إذ يقول: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) .
وهي أيضاً مثل القرآن في أنّ كلّ ذلك وحي من عند الله ، قال الله عزّوجلّ: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)»(40) .
وأمّا قولهما: «وما نسب إلى الإمامية من اتّهام كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان بأنّهم حرّفوا القرآن أو أسقطوا منه أو زادوا عليه ، فهو محض افتراء بعيد عن الحقّ ، دفع إليه هوى النفس ، ووسوسة الشيطان» .
فنحن نقدّر ونشكر الأستاذين لقولهما كلام الحقّ وأنّ اتهام الشيعة حقّاً هو محض افتراء; لأنّ المصادر السنّية نسبت إلى أبي بكر وعمر وعثمان أقوالاً يُشَمُّ منها رائحة التحريف(41) ولم تأت من قبل الشيعة .
وأنّ أخبار التحريف في كتب الجمهور ، لم ينحصر نقلها عن الشيخين فقط ، بل هي منقولة أيضاً عن أبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهم ، بل أخبار التحريف قد تراها في كتب الشيعة أيضاً ، فإن ما حكوه من أقوال أو روايات موجودة عند الشيعة ، فإنّها لا تعني شيئاً ، بقدر ما ترى الزيادة والنقيصة في القرآن على لسان الخلفاء ، فقد يكون الإمام عليّ(عليه السلام) ـ في قوله (رأيت كتاب الله يزاد فيه) أو (خشيت أن ينفلت القرآن) ـ كان قلقاً وخائفاً من ورود أمثال تلك الروايات وعلى لسان الخلفاء بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
فلو صحّت تلك الأخبار ـ وما قاله عمر: «بأنّ القرآن كان ألف ألف حرف وسبعة وعشريْنَ ألف حرف»(42) .
وقوله أو قول غيره: «فقدنا فيما فقدنا من القرآن»(43) .
أو «أُسقط فيما أُسقط»(44) ، أو «أسقط قرآن كثير ذهب مع محمّد»(45) .
أو قوله: «لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ، وما يدريك كلّه قد ذهب منه قرآن كثير» .
أو قوله لحذيفة: «كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: ]والكلام لحذَيفةِ[: ثنتين أو ثلاثاً وسبعين ، قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة وإن كان فيها لآيةِ الرجم»(46) .
لو صحّت تلك الأخبار لكان معناها وجود التحريف في القرآن على لسان الصحابة وفي كتب أهل السنّة ، فلا مبرّر بعد هذا لاتّهام الشيعة بأنّهم نسبوا التحريف إلى الخلفاء . وهذا الكلام يفهمه كلّ محقّق وعالم بالتراث والنصوص .
لكنّ هذه الروايات غير مقبولة عندهم وساقطة عن الاعتبار لا يؤخذ بها; ـ كما هي عندنا أيضاً ـ لأنّهم فسّروها وأوّلوها بما يتطابق وعقيدتهم وعقيدة كلّ مسلم في القرآن ، وهذا ما فعله الشيعيّ أيضاً مع الأخبار الموجودة في كتبه ، فروايات التحريف ساقطة عن الاعتبار عند الفريقين; وإنّ وجود أمثال تلك الأخبار في المعاجم الحديثية لا يعني شيئاً ; لأَنَّ وجودها شيء ، وصحتّها والإيمان بها شيء آخر .
كما أنّي لا أنكر بأنّ الشيعي قد يستشهد ببعض الأخبار الدالّة على الزيادة والنقصان في كتب أهل السنّة دفاعاً عمّا يُتّهم به من القول بالتحريف ، ولكي يقول للآخرين بأنّ الموجود في كتبهم ليس بأقلّ ممّا في كتب الشيعة; لأنّ تلك الأخبار قد خرجت في أُمّهات كتبهم كصحيح
البخاري وصحيح مسلم وموطّأ مالك وسنن الترمذي ومسند أحمد .
مؤكّدين بأنَّ أخبار التحريف الموجودة في كتب الشيعة غالبها من كتاب التنزيل والتحريف للسياري الزنديق الزائغ عن المذهب والعقيدة الحقّة ، أو من كتب ضعاف ، أو غيرها من كتب الأخبار لكنّها تُفسّر وتُأَوَل بصورة لا تخدش بحجيّة القرآن الكريم عندهم(47) .
ولا يخفى على الباحث بأنّ منزلة تلك الكتب عند الجمهور لم تكن كمنزلة الكافي وتفسير القمّي وأمثالها عند الشيعة; لأنّ الشيعة لا تعتقد بصحّة جميع ما في الكافي أو تفسير القمّي وأمثالها ، بعكس الآخرين الذين يعتقدون بصحّة جميع ما في الصحاح الستّة ، بل قالوا عن بعضها بأنّها قد انتقيت من بين ستمائة ألف(48) أو ثلاثمائة ألف(49) حديث صحيح عندهم .
والأعجب من كلّ ذلك أنّهم لا يعتقدون بصحّة أحاديث عرض الحديث على كتاب الله ، بل يرون أحاديث العرض من وضع الزنادقة(50) .
وفي المقابل يعتقدون بأنّ السنّة المدّعاة قاضية على الكتاب العزيز ، ومعنى كلامهم هو لزوم الأخذ بروايات التحريف; لورودها في الصحاح والسنن مع علمهم بمنافاتها لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقوله تعالى: (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) . لكونها سنّة صحيحة وردت في الصحاح ، وهي قاضية على القرآن؟!!
فالاعتقاد بكون السنّة قاضية على الكتاب ، مع صحّة جميع ما في الصحاح وإن خالف القرآن تسبّب إشكالية كبرى في طريقة استدلالهم ، وهذا ما لا يلحظ عند الشيعة .
وعليه فلو روى الكليني حديثاً يُشَمُّ منه رائحة فإنّه التحريف لا يعني صحّة ذلك الحديث عنده أو إيمانه به ، فلا يجوز تكفيره وتكفير أيّ محدّث خصوصاً مع تصريحه بأن ليس كلّ ما في كتابه هو ممّا يعتقده ويؤمن به .
فقد جاء في منشور وحدوي القول : بأنّ أكبر دليل على اتّفاق المسلمين بشأن وحدة النصّ القرآني ، هو وحدة المصاحف الموجودة في جميع أرجاء العالم الإسلامي ، ولايوجد مصحف واحد فيه أدنى اختلاف عن المصحف الآخر حتّى في الحروف . اللهمّ إلاّ ما كان من اختلاف القراءات ، وهو اختلاف يرتبط غالباً باللهجات ، أو بطبيعة رسم المفردة العربية آنذاك بلا نقط ولا شكل ، فالقرآن شيء والقراءات شيء آخر .
الدكتور شاهين ومصحف الإمام عليّ(عليه السلام):
هذا وقد تعرّض الدكتور شاهين إلى موضوع مصحف الإمام عليّ(عليه السلام)مؤكّداً بأنّ قراءات أربعة من القرّاء السبعة تنتهي إلى الإمام(عليه السلام) ، فذكرها
مسندة(51) ، ثمّ جاء بذكر ثالث ورابع منها فقال:
«3 ـ حمزة الزيّات ، عن جعفر الصادق ، عن محمّد الباقر ، عن عليّ ابن الحسين زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب .
4 ـ الكسائي ، وقد قرأ على حمزة بسنده المتقدّم» . ثمّ قال:
«وربّما كان سند قراءة حمزة هو أهمّ ما يَلْفِتُ النّظر في هذه الأسانيد ، وذلك أنّه ينتظم سلسلة الرُّواة الأئمّة الطّاهرين من آل البيت ، بحيث ]نستطيع في ضوء ذلك أيضاً[ أن نطمئنّ إلى أنّ هؤلاء الأبرار من آل البيت(عليهم السلام)لم يخرجوا على إجماع المسلمين على المُصْحَف الإمام(52) وآية رضاهم به إقراؤهم النّاس بمحتواه ، دون زيادة أو نقص ، أو ادّعاء يمسّ كمال هذا الأثر الخالد من وحي السّماء» .
وأضاف: «وقد وجدنا الإمام عليّاً حريصاً كلّ الحرص على سلامة النّصّ القرآنيّ على ما هو عليه في رسم عُثمان ، زاجراً كلّ من يريد المساس بهذا الرّسم ، وذلك فيما ذكره ابن خالويه بصدد قراءته(عليه السلام): (وطلع منضود) بالعين بدل الحاء الّتي جاءت بها القراءة العامّة (وَطَلْح مَنضُود) . قال: قرأهاعليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه) على المنبر ، فقيل له: أفلا تغيّره في المصحف؟ قال: ما ينبغي للقرآن أن يهاج ، أي لا يغيّر .
فأيّ حرص أعظم من هذا الحرص على أن يظلّ رسم المصحف كما هو ، دون أن يمسّه أدنى تغيير ، ولو بقلب العين حاء ، أو الحاء عيناً ، فليس المهمّ في نظر عليّ(عليه السلام) أن يتمّ التغيير على حسب قراءته ، ولكنَّ المهمّ ألاّ يسنّ للناس هذه السنّة الّتي تعدّ سابقة خطيرة ، تشجّعهم فيما بعد على إحداث ما يرون ضرورته من تعديلات ، قد تحكمها الأهواء وتوحي بها ، فيتعرّض النصّ المُنَزّل بذلك لأخطار التحريف والتزييف ، وليس عليّ بالذي تفوته هذه النقطة الخطيرة ، فإنّ من سنّ سنّة سيّئة تحمّل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . ولقد أثابه الله على هذه السنّة الحسنة ، حين منعهم من إحداث التعديل ، فصان كتاب الله إلى يوم القيامة .
وقد كان أمر الحديث عمّا نسب في التّاريخ إلى عليّ ـ من أنّ له مُصْحَفاً ـ أمراً هَيِّناً لا يكاد يبلغ بنا ما بلغه الحديث عن مُصْحَف ابن مسعود أو أُبيّ ، لولا أنّ اعتبارات سياسيّة وتاريخيّة قد ارتبطت بالحديث عنه ، وزاد الغُلاة من الوضّاعين المشكلة اشتعالاً بما ألصقوه بهذا المُصْحَف من روايات ، وما حاكوا حوله من أقاصيص ، افترق النّاس في أمرها ، وليس الافتراق في مثل هذه المواضع بالأمر الهيّن: إذ هو متّصل بمزالق عقديّة خطرة ـإلى أن قال شاهين ـ:
من أجل هذا ، نرى لزاماً علينا أن نتناول قضيّة مُصْحَف عليّ بشيء من التّفصيل من وجهة نظر بعض طوائف الشّيعة ، وذلك بعدما عرفنا موقفه من المصْحَف الإمام بأسانيد ثابتة ثبوتاً قطعيّاً . . . ، إلى أن قال تحت عنوان (عودة إلى الحديث عن مصحف عليّ):
فإذا علمنا أنّ عليّاً لم ترد عنه أيّة رواية من هذا الّذي تقدّم ، أدركنا أنّ مُصْحَفه الّذي ارتضاه لم يكن سوى هذا المُصْحَف الإمام الّذي لو لم يقم به عُثمان لقام به هو ، وليس بين أيدينا بعد ذلك مرويّاً عن عليّ سوى مجموعة من القراءات الّتي تُنْسب إلى الاختلاف اللّهجيّ أحياناً ، وتعزى إلى الزّيادة البيانيّة أحياناً أُخرى ، وهو بهذا لا يختلف مطلقاً عمّا روي عن عبدالله بن مسعود من هذا النوع ، أو عن أبيّ بن كعب وابن عبّاس إلاّ في طابع المفردة المروية أو بعبارة أصحّ: في طبيعة الحروف الخاصّة بعليّ بن أبي طالب ، من حيث هو متمثّل لبيئة معيّنة تضع بصماتها على مفرداتها ، وقارئ ذو نظر ورأي في البيان القرآني ، يُضمِّن قراءته وتفسيراته بعض آرائه(53) ، شأن بقية صحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله)ممّن أُثِرَتْ عنهم هذه المصاحف والقراءات»(54) .
ثمّ قال: «قرأ عليّ: (فمن خاف من موص حيفاً) بالحاء والياء ، بدلاً من (جنفاً) في القراءة العامّة .
وقرأ: (يحرّفون الكلام) ، والقراءة العامّة: (الكلم) دون ألف .
وقرأ: (أن يكون عُبَيداً لله) على التصغير ، والعامّة: (عَبْدَاً لله) .
وقرأ: (يوم حصده) بغير ألف ، والعامّة: (يوم حصاده) .
وقرأ: (ورياشاً) بالألف ، والعامّة: (وريشاً) .
وقرأ: (وإن يروا سبيل الرشاد) بألف ، والعامّة: (الرشد) .
وقرأ: (وعلى الثلاثة الذين خالفوا) ، والعامّة: (خلّفوا) .
وقرأ عليّ وجماعة كثيرة: (قد شعفها) بالعين المهملة ، والعامّة: (شغفها) بالمعجمة .
وقرأ: (أفلم يتبيّن الذين آمنوا) ، والعامّة: (أفلم ييئس) .
وقرأ: (لنثوينّهم) بالثاء ، والعامّة هي: (لنبوّئنّهم) .
وقرأ: (ثمّ ننحي الذين اتّقوا) بحاء مهملة ، والعامّة: (ننجي) بالجيم .
وقرأ: (يا ويلنا مِنْ بَعْثنا) ، والعامّة: (مَنْ بَعَثَنا) على الاستفهام .
وقرأ: (جِيلاً) بالياء ، والعامّة: (جِبِلاًّ) بالباء .
وهذه النماذج الّتي سقناها تعبّر تعبيراً صادقاً عن الطابع الذي يسمّ كلّ ما روي عن عليّ تقريباً ، فليس في قراءاته زيادات في النصوص ، غير ما لاحظناه من أنّه قرأ كما قرأ ابن مسعود وابن عبّاس وأبيّ بن كعب: (وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصباً) ، والقراءة العامّة هي: (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة غَصْباً) . فهذا الفرق تفسيريٌّ محض ، ولا يعدّ طبقاً لما أُثِرَ عن عليّ وسائر الصحابة من إقرائهم بالمصحف الإمام ، سوى بيان للمراد من الآية فحسب .
أمّا بقية رواياته فهي من ذلك النوع الموافق للرسم دائماً ، مهما توهّم القارئ وجهاً للمخالفة ، فالروايات الّتي تختلف عن القراءة العامّة بإشباع الألف أو قصرها هي قراءات موافقة للرسم تماماً; لأنّ الإملاء العثماني قد جرى على عدم رسم الألف في أكثر المواضع ، وبذلك تحتمل الكلمة كلا النطقين ، ومن ذلك مثلاً: (ملك يوم الدين) الّتي نقرؤها بالألف الممدودة على صورة (مالك) ، وهي في قراءة أبي عمرو بن العلاء الصحيحة وفي قراءة غيره (ملك) مقصورة ، وهذا هو شأن: (الكلام والكلم) ، و (حصاده وحَصده) ، (ورياشاً وريشاً) و (الرشاد والرشد) و (خالفوا وخلفوا)» . انتهى كلام الدكتور شاهين .
وعليه فالقرآن المطبوع في المدينة المنوّرة هو المرويّ عن حفص ، عن عاصم ، عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) .
وقد ذكر أبو عمرو الداني بأنّ السلمي أخذ القراءة أيضاً عرضاً على عثمان وابن مسعود وأُبيّ بن كعب وزيد بن ثابت .
لكنّ شعبة شكّك في سماعه من عثمان وعبدالله بن مسعود ، ولم يتأكّد سماعه من زيد وأُبيّ ، وحتّى لو قلنا بأنّه أخذ عن أُبيّ وابن مسعود فهما تلميذا الإمام عليّ(عليه السلام) وإنّ قراءتهما توافق قراءةَ أهل البيت(عليه السلام) .
أجل ، إنّ الذهبي وغيره استدلّوا على لقياه عثمان وسماعه منه بأدلّة منها رواية البخاري ـ الذي يشترط المعاصرة والسماع ـ له ، وعنعنته عن عثمان كما في مسند أحمد : حدّثنا عبدالله ، حدّثني أبي ، ثنا محمّد بن جعفر وبهز وحجّاج ; قالوا : حدّثنا شعبة ، قال : سمعت علقمة بن مرثد يحدّث عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن عثمان بن عفّان ، عن النبيّ أنّه قال : «إنّ خيركم من عَلَّمَ القرآن أو تعلَّمه» .
قال محمّد بن جعفر وحجّاج ، قال أبو عبدالرحمن : «فذاك الذي أقعدني هذا المقعد» .
قال حجّاج ، قال شعبة : «ولم يسمع أبو عبدالرحمن من عثمان(رضي الله عنه) ولا من عبدالله ، ولكن قد سمع من عليّ(رضي الله عنه)» .
فَتَعَقُّبُ أحمد للرواية ونقله كلام حجّاج عن شعبة جاء للقول بعدم وثوقه بهذه العنعنة والرواية .
وفي الطبقات الكبرى في ترجمة السلمي : «واسمه عبدالله بن حبيب ، روى عن عليّ وعبدالله وعثمان ، وقال حجّاج بن محمّد ، قال شعبة : لم يسمع أبو عبدالرحمن السلمي من عثمان ولكن سمع من عليّ(55)» .
وفي الجرح والتعديل : حدّثنا عبدالرحمن ، نا عليّ بن الحسن ]الهسنجاني[ ، ثنا أحمد ]بن حنبل[ ثنا حجّاج ـ يعني ابن محمّد الأعور ـ قال قال شعبة : لم يسمع أبو عبدالرحمن من عثمان ولكن ]سمع[ من عليّ(56) .
وفيه أيضاً حدّثنا عبدالرحمن ، حدّثني أبي ، نا معاوية بن صالح بن أبي عبدالله الأشعري ، قال : حدّثني يحيى بن معين ، نا حجاج بن محمّد ، عن شعبة ، قال : لم يسمع أبو عبدالرحمن السلمي من عثمان ولا من عبدالله بن مسعود ولكنّه قد سمع من عليّ(57) هذا أوّلاً .
وثانياً : نصّ السلمي بأنّه أخذ القرآن من عليّ(عليه السلام)(58) ، كما أنّه قال : «ما رأيت رجلاً أقرا من عليّ»(59) ، وهذا النصّ الأخير يشير إلى اختصاص السلمي بعليٍّ; لأنّه لا يعقل أن يقول (ما رأيت أحداً أقرأ من عليٍّ) ثمّ يعتمد قراءة غيره .
وثالثاً : بما أنّ السلمي كوفيّ فلا يستبعد أن يكون عرض ما سمعه من عثمان ـ على فرض صحّة سماعه منه ـ على عليّ أيّام خلافته في الكوفة ، فكانت القراءة النهائية موافقة لقراءة الإمام عليِّ(عليه السلام) ، ويؤيّده نصّ
الثقات للعجلي : «أبو عبدالرحمن السلمي المقرئ الأعمى ، كوفيّ من أصحاب عبدالله ، ثقة ، وكان يقرئ في زمان عثمان وقرأ على عثمان بن عفّان ، وعرض على عليّ بن أبي طالب»(60) .
أمّا أخذه عن ابن مسعود فهو الآخر يرجع إلى الإمام عليّ(عليه السلام) أيضاً ; لأنّ ابن مسعود صرّح بأنّه أخذ بضعاً وسبعين سورة من في رسول الله(صلى الله عليه وآله)(61) والباقي أخذها من خير الناس علي بن أبي طالب(عليه السلام)(62) .
وقد قال الذهبي في معرفة القرّاء الكبار : «وروى حفص بن سليمان ، قال : قال لي عاصم : ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبدالرحمن السلمي عن عليّ(رضي الله عنه) ، وما كان من القراءة التي أقرأت بها أبا بكر ابن عيّاش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زرّ بن حبيش عن ابن مسعود»(63) .
وبذلك يكون زر بن حبيش قد قرأ القرآن كلّه على عليّ بن أبي طالب(64) ، كما أنّه قرأ على ابن مسعود أيضاً ، فابن مسعود كان قد قرأ على عليّ(عليه السلام) فتعود قراءته إلى الإمام عليّ(عليه السلام) أيضاً .
وللبحث صلة . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصاحف لابن أبي داود 1/184/ح 52 .
(2) المصاحف لابن أبي داود 1/185/ح 53 .
(3) في العدد السابق من هذه المجله .
(4) تهذيب تاريخ دمشق 15 / 45 ، سير أعلام النبلاء 2 / 234 ، الإصابة 1 / 562 .
(5) الطبقات 2 / 116 ، تهذيب تاريخ دمشق 5 / 45 ، كنز العمّال 16 / 7 ، سير أعلام النبلاء 2 / 434 .
(6) تهذيب تاريخ دمشق 5 / 45 ، طبقات ابن سعد 2 / 115 ، كنز العمّال 16 / 6 ، تذكرة الحفّاظ 1 / 32 .
(7) اُسد الغابة 2 / 222 ، والاستيعاب بهامش الإصابة 1 / 554 .
(8) أنساب الأشراف 5 / 60 ، تاريخ الطبري 5 / 97 .
(9) الكامل لابن الأثير 3 / 187 .
(10) الكامل 3 / 191 ، اُسد الغابة 2 / 222 ، أنساب الأشراف 5 / 58 و 88 ، الاستيعاب بهامش الإصابة 1 / 553 .
(11) تهذيب تاريخ دمشق 15 / 45 .
(12) العضيدة : نخلة قصيرة ينال حملها والخبر موجود في أنساب الأشراف 5 / 78 ، الكامل 3 / 191 ، تاريخ الاُمم والملوك 4 / 430 .
(13) تهذيب تاريخ دمشق 5 / 451 ، سير أعلام النبلاء 2 / 434 ، الإصابة 1 / 562 .
(14) أنساب الأشراف 1 / 375 .
(15) المحلّى 1/13 ، ومناهل العرفان 1/191 عن كتاب القدح المعلّى لابن حزم أيضاً .
(16) الدرّ المنثور 8/684 .
(17) فتح الباري 8/743 ، جاء عن الرازي في تفسيره الكبير 1/75 ، «فقد نقل عن ابن مسعودحذف المعوّذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظنّ به وأن نقول إنّه رجع عن هذه المذاهب» ، وقال في 1/178: «واعلم إنّ هذا في غاية الصعوبة لأنّا إذا قلنا إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذ كان ابن مسعود عالماً بذلك . . .» .
(18) مناهل العرفان: 191 ، عن صحيح مسلم ، باب فضل قراءة المعوّذتين 1/558 .
(19) صحيح ابن حبّان 5/150/ح 1842 .
(20) مسند أحمد بن حنبل 5/24/ح 20299 .
(21) مجمع الزوائد 7/148 ، باب ما جاء في المعوّذتين .
(22) مناهل العرفان: 192 .
(23) المصدر السابق .
(24) وسائل الشيعة 6/115/باب جواز القراءة بالمعوّذتين/ح 5 ، عن طبّ الأئمّة للزيّات:114 .
(25) الكافي 2/634/باب النوادر/ح 27 .
(26) المعرفة والتاريخ 2/315 ، وفيه وما أراه إلاّ عبداً لآل محمّد ، تاريخ دمشق 33/84 ، 85 ،115 ، وفيه وما أراه إلاّ عبد آل محمّد ، سير أعلام النبلاء 1/468 .
(27) الكنى والألقاب 1/216 ، عن تقريب المعارف:234 .
(28) مسند أحمد 5/155/ح 21410 ، و 5/166/ح 21505 ، عن أبي ذر قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين . . .الخ» ، وانظر مجمع الزوائد 9/331 ، قال: رواه أحمد من طريقين ورجال الطريق الأوّل رجال الصحيح .
(29) كتاب الفتوح لابن أعثم 2/377 ، تاريخ الطبري 2/630 ، الكامل في التاريخ 3/27 ، وفيه عن أبي ذر قال: سيشهدني قوم صالحون يلون دفني .
وكان ابن مسعود قد شهد جنازة أبي ذرّ ، انظر المتسدرك للحاكم 3/52/ح 4373 ، قال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه ، تاريخ دمشق 66/217 ، الإصابة 7/129/ترجمة أبي ذرّ الغفاري .
(30) أنساب الأشراف 6/163 ، شرح النهج 3/50 .
(31) شرح النهج 3/4 ، الشافي في الامامة 4/282 .
(32) انظر محاضرات الأدباء ، للراغب 4/419 ، باب جمع المصاحف .
(33) صحيح البخاري 6/84 ، باب وما خلق الذكر والأنثى .
(34) معجم القراءات القرآنية 1/14 ـ 15 .
(35) وهو مثل الحديث القدسي الذي يكون منزلاً لكنّه ليس بقرآن .
(36) معجم القراءات القرآنية 1/17 ـ 18 .
(37) مناهل العرفان : 188 .
(38) مسند أحمد 4/130/ح 17213 ، الكفاية للخطيب:23 .
(39) مسند أحمد 4/130 ، سنن ابن أبي داود 4/200/ح 2604 .
(40) الأحكام لابن حزم 2/159 فصل فيما ادّعاه قوم من تعارض النصوص .
(41) سنأتي ببعضها في جمع القرآن على عهد عمر بن الخطّاب .
(42) المعجم الأوسط 6/361/ح 6616 ، الدرّ المنثور 8/699 ، ومجمع الزوائد 7/163 عن الأوسط للطبراني .
(43) كنز العمّال 6/86/ح 15372 ، عن التمهيد لابن عبدالبرّ 4/276 .
(44) كنزل العمّال 2/240/ح 4741 ، عن أبي عبيد في فضائله ، وانظر معتصر المختصر2 /80 .
(45) مصنّف عبدالرزّاق 7/330/ح 13364 ، وعنه في الدرّ المنثور 6/558 .
(46) كنز العمّال 2/203/ح 4550 ، وروي أيضاً قريباً منه ، عن زر قال سألت أُبيّ بن كعب عن آية الرجم . . . الخ ، انظر الأحاديث المختارة 3/370/ح 1164 ، وقال: إسناده صحيح .
(47) سنناقش تلك الروايات في القسم الثاني من هذه الدراسة .
(48) تغليق التعليق 5/421 ، قال البخاري: صنّفت الصحيح في ستّة عشرة سنة وخرّجته في ستمائة ألف وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله .
(49) تاريخ بغداد 13/110 ، عن مسلم بن الحجّاج ، قال: صنّفت هذا المسند الصحيح في ثلاثمائة ألف حديث مسموعة .
(50) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ، للشوكاني: 291 ، قال الخطابي: وضعته الزنادقة ، وانظر موضوعات الصغاني: 76/ح 135 ، كشف الخفاء 1/89/ح 220 ، و2 /569 .
(51) وهم:
1 ـ أبو عمرو بن العلاء عن نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، وهما قرأا على أبي الأسودالدؤلي ، وهو قرأ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب .
2 ـ عاصم بن أبي النجود ، عن أبي عبدالرحمن السلمي ، وهو قرأ مباشرة على عليّ ،وقراءة عاصم من طريق حفص بن سليمان بن المغيرة هي الشائعة الآن في أكثر بلادالمشرق .
3 ـ حمزة الزيّات . . .
(52) هذا هو اصطلاح خاص بمصحف عثمان الذي كان يقرا فيه .
(53) تقدّمت الإشارة إلى أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يدوّن آراءه الشخصية وإنما دوّن العلوم التي أخدها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
(54) تاريخ القرآن:200 .
(55) الطبقات الكبرى 6 / 172 .
(56) الجرح والتعديل 1 / 131 .
(57) الجرح والتعديل 1 / 131 .
(58) الطبقات الكبرى 6 / 172 .
(59) المصنف لابن أبي شيبة 1 / 390 ، وشواهد التنزيل للحسكاني 1 / 33 و 34 .
(60) معرفة الثقات للعجلي 2 / 413 .
(61) صحيح البخاري 6 / 102 .
(62) المعجم الكبير 9 / 76 / ح 8446 ، المعجم الأوسط 5 / 101/ ح 4792 ، تاريخ دمشق 42 / 401 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 403 عن الطبراني ، شرح الأخبار 1 / 144/83 ، بحار الأنوار 40 / 180 .
(63) معرفة القراء الكبار 1 / 92 .
(64) كنز العمال 2 / 351 .
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف