البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حركات التشيُّع في المغرب ومظاهره

الباحث :  د. عبد اللطيف السعداني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  27
السنة :  السنة السابعة خريف 1423هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  3279
حركات التشيُّع في المغرب
ومظاهره

د. عبد اللطيف السعداني

تحقيق وتقديم: أ. الحسين الإدريسي (*)

مقــدِّمـــــة
يقول ابن بسام، في تعليقه على قصيدة لأبي عمر بن درَّاج القسطلي التي قالها في رثاء علي بن حمود: «وهذه القصيدة له طويلة، وهي من الهاشميات الغر...، لو قرعت سمع دعبل بن علي الخزاعي والكميت بن زيد الأسدي لأمسكا عن القول، وبرآ إليها من القول والحول، بل لو رآها السيد الحميري وكثير الخزاعي لأقاماها بيِّنة على الدعوى، ولتلقَّيا بشارة على زعمهما بخروج الخيل من رضوى...» (1).
إذا وضعنا هذا النص في إطاره التاريخي والأدبي لوجدناه يعبِّر عن محاولة الأندلسيين إبراز نبوغ شعرائهم وأدبائهم، بعد أن ضاقوا ذرعاً بتقليد كل شيء آت من المشرق، وتضايقوا من نظرة المشارقة إلى المغاربة والأندلسيين باعتبارهم تبعاً لهم في كل شيء، وقد أوضح ابن بسام، في مقدمة «الذخيرة»، هذا المقصد بوضوح، كما أبرزه مصنفون وشعراء آخرون، وفي ذلك قال ابن حزم الظاهري:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
وإذا كانت هذه نظرة القدماء، باقتضاب شديد، فما هي وجهة نظر المحدثين في هذه المسألة؟
لا شك في أن بعض النظرات الاستعلائية، من المشارقة إلى المغاربة، قادت
________________________________________
(*)المرحوم د.عبد اللطيف السعداني کان أستاذ الأدب الفارسي في جامعة الرًّباط،و الأستاذ حسين الإدريسي باحث من المغرب
(1)ابن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج1، ص 80.

[الصفحة - 146]


إلى رد فعل متطرِّف لا يصمد أمام النقد، وأحسن من مثَّل ردة الفعل هذه هو الدكتور محمد عابد الجابري في مشروعه الذي أسماه «نقد العقل العربي»، ووصل إلى خلاصة مبتسرة مفادها أن المدرسة المغربية الأندلسية عقلانية وعلمانية، بينما المدرسة المشرقية عرفانية صوفية هرمسية تصل بالعقل إلى الاستقلالية. لكن الباحثين المغاربة كانوا أوَّل من فنَّد هذه النظرة التجزيئية الضيِّقة، ونذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، الأستاذ طه عبد الرحمان والأستاذ الهاني إدريس، ومن المشارقة من تصدَّى لهذا الطرح الضيق، نذكر منهم السيد كامل الهاشمي والدكتور جورج طرابيشي وطيب تيزيني وعلي حرب... وبين التضخيم والإلغاء تضيع الرؤية، وتحتِّم على الباحث الجاد والمتوازن أن ينأى عن النظرة الإقليمية الضيقة من دون إقصاء ولا استعلاء، لكن الحقيقة المرة التي لا يمكننا أن نتجاوزها تخبرنا بأن التراث الأدبي والفكري في الغرب الإسلامي ظل مغيَّباً من جل الدراسات الأدبية والفكرية، وحتى إن اهتم بعضهم به كانت النتائج مشوَّهة إما لعدم سلامة المنهج أو لعدم مراعاة خصوصية هذا التراث وتميُّزه من غيره، ولا نريد أن نسقط في التعميم لأن هناك دراسات جديرة بالتقدير على مستوى التأليف والتحقيق والتأريخ، ولقد كان بحث السيد حسن الأمين «بنو مرين»، في العدد الرابع عشر من مجلة «المنهاج»، ضمن هذا المجهود النيِّر، والعلمي الذي لا يجب إغفاله. ويمكن أن أقسم الدارسين المغاربة الذين اهتموا بهذا التراث إلى قسمين:
الأول: وهو جيل المؤسسين الذين نفضوا الغبار عن المخطوطات واقتحموا مجاهل المكتبات بحثاً وتحقيقاً بإرادة كبيرة رغم ضعف الوسائل، وقام هذا الجيل بدراسات قيمة، وله يعود الفضل في إخراج هذا التراث من المطامير والخزانات الخاصة وإنقاذه من التلف والضياع.
والجيل الثاني: وكان قد تتلمذ على يد الجيل الأول، وهو فريق نشط من أساتذة الجامعات واصلوا مهمَّة التحقيق والدراسة والتصنيف والتأليف، وقدموا صورة واضحة عن هذا الأدب والفكر، بل وصححوا كثيراً من الآراء المغلوطة لبعض المستشرقين وبعض المشارقة الذين ردَّدوا أقوال المستعربين الإسبان، وهم لا يزالون يتابعون مهمتهم بحثاً وتكويناً، وستكون وقفتنا اليوم مع رائد من روَّاد الجيلين:
________________________________________

[الصفحة - 147]


الأول والثاني في الوقت نفسه، وهو المرحوم الدكتور عبد اللطيف السعداني خريج جامعة طهران سنة 1964. وقد كان من الباحثين الأوائل ـ إلى جانب بن تاويت التطواني ـ الذين استطاعوا الجمع بين ثقافتين عانتا كثيراً من التهميش والتجاهل من باحثي الأدب العربي، ويتعلق الأمر بالثقافة المغربية الأندلسية والثقافة الفارسية وما تحملانه من خصوصية ضمن التراث الإسلامي والإنساني. والغريب في الأمر أن نجد باحثين عرب يأخذون من هذين الثقافتين بوساطة الثقافة الغربية، وهذا ما يقود إلى نتائج مبتسرة ومكرورة.
لقد كان الدكتور عبد اللطيف السعداني أستاذاً للأدب الفارسي في جامعة الرباط وبعد ذلك في فاس، وقد أشرف على تكوين كثير من الأساتذة الجامعيين الذين يملأون الساحة الثقافية اليوم بحثاً وتمحيصاً. وقد خوَّله إطلاعه الواسع على الثقافتين الفارسية والمغربية الأندلسية أن يلج باب الدراسات المقارنة، كما قدَّم بحوثاً قيمة نشرت في بعض دوريات جامعتي الرباط وفاس، غير أن الأستاذ فارق الحياة وهو في أوج عطائه، وكان سعيه مشكوراً إذ أوقد مصابيح كثيرة هي في حاجة، من جيل الباحثين الجدد، لأن يواصلوا المهمة، وألَّا يتنكروا لجيل الأساتذة المؤسسين. ولا تزال الدكتورة مهوش أسدي، حرم الأستاذ عبد اللطيف السعداني، تواصل مهمة التدريس في جامعة فاس في تخصص اللغة الفارسية وآدابها، كما أننا نتمنى من د. مهوش أسدي أن تنير لنا طريق ذلك الأستاذ الراحل وتزيل عنه وعن بحوثه بعض ما علق بها من الغبار، هذه البحوث التي كان لها فضل السبق في إثارة قضايا سكت عنها الكثيرون، ووفاء منا لمجهودات هذا الرجل الكريم نقوم بتقديم محاضرته هذه للقراء والنقاد والدارسين بعد أن قمنا بمراجعة النص الأصلي والقيام ببعض التصويبات، ومراجعة مصادره ومراجعه وتحقيقها وإثبات إحالاتها، وللإشارة فإن الدكتور السعداني كان قد قدَّمها في المؤتمر الألفي لشيخ الطائفة الطوسي (قده) في إيران، وقد طبعت حينها في كراسة متواضعة نشرتها (دانشكاه مشهد ـ داشنكاه إلهيات ومعارف إسلامي، مركز تحقيقات ومطالعات) سنة (1398هـ) تحت عنوان «حركات التشيع في المغرب ومظاهره». ويبدو أن الدكتور السعداني كان قداقتحم غمار هذا البحث منذ أكثر من عشرين سنة، وفي ذلك الوقت كان كثير من المصادر
________________________________________

[الصفحة - 148]


المغربية الأندلسية لا يزال مفقوداً أو مخطوطاً، وقد يلاحظ الباحث ذلك في هوامش هذا البحث، لكن وللأسف لم يضف الدارسون شيئاً جديداً، وبعض الدراسات التي تناولت الموضوع لم تخل من نزعات مذهبية ضيِّقة، ولذلك نأمل أن يكون نشر هذا البحث في «المنهاج» الغراء منطلقاً لمناقشة هذا الموضوع من زوايا متعدِّدة.
المحاضرة
عادات مستقرَّة في بلاد المغرب
بحلول شهر محرَّم، من كل عام، يتغير وجه الحياة في المغرب؛ حيث يدع الناس أيام الدعة والاستكانة إلى الأهواء، ويتبدَّلون بها عودة إلى محاسبة النفس، فيستيقظ الضمير فيهم وتعود الذكرى إلى حياتهم الإسلامية لتنير فيهم واقعهم وما هم عليه، وتحيي في إيمانهم المعنى الخفي للحقيقة التي انتقلت من الوحي النبوي إلى آل بيته وأبناء عترته. تلك هي ذكرى عاشوراء، واستشهاد سيدنا الحسين. ففي هذا الشهر ترى الناس في جميع مدن المغرب في هرج ومرج لا يمكن أن يوصف إلَّا بأن حدثاً عظيماً قد حلَّ بهم، وأي حدث أعظم من الفتنة الكبرى التي أدَّت إلى انهيار ذلك الطود العظيم حفيد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، فإذا هم منصرفون إلى القيام بأعمال وتصرفات امتزجت اليوم فيهم جميعهم، وحلت من السنَّة محلًّا مرموقاً مترقباً، ولكن الزمن أكسب هذه المناسبة طابع العادة حتى لا يكاد إلا القليل يدرك مغزاها الحقيقي.
غير أن الأمر الذي تعرَّف عليه أهل المغرب، ونظروا إليه نظرة احترام وتقديس هو أن شهر المحرَّم شهر العزاء يهيمن فيه الأسى والحزن العميق على القلوب، فلا يباح مطلقاً التجمُّل حتى ولا غسل بيوت أو ثياب، ولا تزف عروس، ولا تدق طبول أو تسمع مزامير، بل إن الناس يلبسون في هذه المناسبة لباس العزاء؛ وهي في بلاد المغرب ثياب بيضاء. وتبدأ الأسر العلوية هذه المواسم، منذ اليوم الأول من المحرم إلى العاشر منه، أما باقي الشرفاء فيتمون إلى آخر الشهر، ويطبخ في اليوم المشهود الأكل للتصدُّق به، وقد جعلت طبقة التجار هذه المناسبة لبذل المال، فكان هذا اليوم هو يوم الزكاة في السنة، لكأنما يرمز ذلك إلى محاسبة الأعمال. أما الآخرون فيمسكون عن الأكل في هذا اليوم احتساباً لله. ولا ينفك الحزن غالباً على أحوالهم
________________________________________

[الصفحة - 149]


حتى ليعتقدوا أنه غالباً ما يصادف أن يبكي الإنسان في هذا اليوم، يوم عاشوراء، بل لتجدنهم سعداء بتلك الدموع الغالية التي تذرف تعبيراً عن الألم لفقدان شهيد الحق. أما الأطفال فلهم من هذه الذكرى اللعب، ونلاحظ من بينها قلل (براميل) الماء الصغيرة التي تهدى إليهم من ذويهم، وذلك رمز للظَّمأ الذي مات به شهيد الذكرى. وأكبر ما يستوقف الملاحظ هو بقايا مشاهد المراثي التمثيلية بالكراكيز التي تقام كل سنة في المدن: مكناس وفاس ومراكش.
فكيف استقرت هذه العادات في الحياة المغربية؟ وإلى أي حد تغلغلت في عقيدة المغاربة؟ إن المغاربة، منذ بداية تاريخهم الإسلامي، لهم حب شديد وتعلق كبير بآل البيت الأطهار، وليس أدل على ذلك من مؤازرتهم لهم حيث وجدوا عندهم الملاذ الأخير بعد أن حوربوا في بلادهم ويئسوا من البقاء فيها، فالتجأوا إلى بلاد المغرب، فأيدهم المغاربة ونصروهم واعترفوا بحقهم، وبذلك تكونت في رحاب المغرب الأقصى وبين ظهراني المغاربة الدولة الهاشمية الإدريسية، وهي أول دولة علوية تتكون في العالم الإسلامي. كما أن أول دولة شيعية ـ وهي الدولة الفاطمية ـ نشأت وترعرعت في بلاد المغرب بتونس، وكان هذا الأمر نفسه هو الدعامة الأساسية لتكوين الدولة السعدية والدولة العلوية بعد ذلك في المغرب. وهذا فضل للمغاربة سجلوه في تاريخ العقيدة يقضي الإنصاف أن نذكره لهم هنا.
دولة الأدارسة
بعد أن انجاب الظلام، في وقعة فخ، ثاني ذي الحجة سنة 169هـ، عن مقتل الإمام محمد (النفس الزكية) بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (*)، تفرق أبناء عبد الله في الأرض شذر مذر، وولى كل وجهة يطلب
________________________________________
(*) في سنة في 169هـ، «ظهر الحسين بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب في المدينة، وقتل في «فتح» عند مكَّة،... وهُزم من كان معه، وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، فأتى مصر، وعلى بريدها واضح، مولى صالح بن المنصور، وكان شيعيَّاً لعلي، فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة، بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر...». ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت: دار صادر، 1385هـ ـ 1965م، المجلد السادس، ص 90 و93.

[الصفحة - 150]


النجاة بالأمانة التي يحملها بين جوانبه، ويبحث عن المكان الجدير بها ليبث السر ويذيع الأمر... وسقط الأخوة الواحد تلو الآخر في ميدان الجهاد من أجل الدعوة في مختلف بقاع العالم الإسلامي. وكان إدريس، أحد هؤلاء الأخوة، قد يمم وجهه شطر بلاد المغرب يرافقه ويرعاه مولاه راشد، وكتبت له الأقدار النجاة من الأخطار التي كانت تترصد آل البيت حيث ما كانوا والتي كانت ترافقه وهو ينتقل من الحجاز إلى مصر، ومنها إلى برقة والقيروان ثم طنجة، وأخيراً استقر به المطاف، غرَّة ربيع الأول سنة 182هـ، في مدينة «وليلي». وبذلك خُطَّ في تاريخ الشرفاء العلويين عهد جديد يبشر بالخير..
وما أن عرف صاحب «وليلي» عبد الحميد الأوربي نسب المولى إدريس الشريف حتى رحب به وأنزله المكان الجدير به، وسمع به أهالي قبائل أوربة البربر فهرعوا يسلمون إليه قيادهم شاكرين لله هذه النعمة، معبرين عن ذلك بقولهم: «الحمد لله الذي أتانا به وشرفنا بجواره فهو سيدنا ونحن عبيده نموت بين يديه». فأخذ منهم عبد الحميد البيعة للمولى إدريس.
كان هدف المولى إدريس، منذ اللحظة الأولى، هو نشر الإسلام على نطاق واسع بين مختلف قبائل البربر المغربية؛ إذ أن أكثرهم كان لا يزال يدين باليهودية والنصرانية. وعاود هذه الحملة التطهيرية سنة 173هـ، وأردفها بأخرى حتى أسلمت بلاد تامسنا وتادلا، ممهداً لإرساء أسس دعوته، ولكنه لم يستمر طويلًا في القيام بالأمر فقد عاجلته القوى المترصدة لآل البيت (عليهم السلام)في بغداد بعد أن قضت على كل أثر لهم في الشرق، فقتل ولمَّا يمر على حكمه سوى زمن يسير. ثم ما لبثت النكبات أن بدأت تظهر من جديد، فقتل مولاه راشد الذي أخلص للدعوة لآل البيت، وتفانى في خدمة المولى إدريس، وكان له أكبر الأثر في تكوين هذه الدولة الفتية. وركدت أمور هذه الحركة الإسلامية المباركة في بلاد المغرب قليلًا، غير أن البربر استمروا في الوفاء للعهد الذي بذلوه إلى أن شب إدريس الثاني الابن الوحيد الذي تركه مؤسس دولة الأدارسة من زوجته البربرية «كنزة»، وبلغ الحادية عشرة، فتسلم زمام الأمور وتابع القيام بهذه المسؤولية...
فبرزت المرحلة الثانية من مسيرة الدولة الإدريسية، وما زال يوطِّد دعائمها،
________________________________________

[الصفحة - 151]


فكان مما عمد إليه واهتم به قطع الصلة بين المغربين وبين الدولة العباسية (2)واستئصال الخوارج الصفرية من البلاد. وبهذا نرى أنه وضع الخطة التمهيدية الثانية، وأفسح في المجال للدعوة والقائمين بها. ومضى خلفاؤه من بعده في محاربة الخوارج كما فعل علي بن عمر بن إدريس ويحيى بن إدريس الذي قضى على الخارجي الثائر في فاس عبد الرزاق الفهري الصفري (3). ولكن خلفاء المولى إدريس الثاني واجهوا، في سبيل نشر دعوتهم والإعلان عنها، عراقيل كثيرة وصعاباً جمة، فقد كثرت الاضطرابات والقلاقل من كل جانب بعد أن وزعت المملكة بينهم، واستفاد المتربصون شراً والطامعون في احتلال البلاد. فالأمويون في الأندلس يحاولون بإصرار بسط نفوذهم على المغرب والسيطرة على دولته، ويستخدمون لذلك جميع الوسائل ليضطروا حكامه إلى الخضوع حتى أنهم سلطوا عليهم أشد الحقد وأرادوا استئصالهم من المغرب نهائياً، وظلوا لهم بالمرصاد إلى آخر أيامهم حتى أجلوا عن أوطانهم ورحلوا إلى الأندلس... إلى جانب هذا كان على مسرح المغرب في المرحلة الحساسة لتكامل دولتهم نشوء الدولة الفاطمية في تونس ومزاحمتها في تزعم هذه الحركة.
ومع ذلك، فقد تخللت مرحلة حكم الشرفاء الأدارسة للمغرب أوقات أعلن فيها الحكم الشيعي الصريح ومذهبه حيث سمحت الفرصة بالبوح بعقيدتهم. ذلك أن هذه الدولة كانت تشهد على حدودها الشرقية مولد أول دولة شيعية هي الدولة الفاطمية في تونس، وسرعان ما تم الأمر لهذه الدولة، وبدأت توسع رقعة سلطانها في المغرب من جهة وتتطلع إلى مصر من الجهة الأخرى، ففي سنة 305هـ توجه مبعوث عبد الله «مصالة بن حبوس المكناسي»، قائد عبيد الله المهدي، إلى المغرب، ووصل إلى فاس حاضرة الأدارسة فحاصرها، وكان أميرها يحيى بن إدريس الإدريسي الأمير الذي ملك جميع بلاد المغرب وبلغت الدولة الإدريسية في عهده أعلى مقام وأصبحت الحال على وشك الاستقرار. فشدد الحصار إلى أن صالحه هذا الأمير بقبول طاعة عبيد الله الشيعي، فأبقاه على حكم باقي البلاد المغربية، وكان من الجائز أن تسير أمور الأدارسة والفاطميين على أحسن ما يرام، وأن ينمو هذا الاتجاه الجديد في العقيدة المغربية يؤازر أحدهما الآخر ويعينه لو لم يدب الحقد والحسد
________________________________________
(2)تاريخ ابن خلدون، ج1، ص 27.
(3)الدكتور حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج1، ص 163.

[الصفحة - 152]


إلى ابن أبي العافية فيوغر صدر «مصالة» على يحيى الإدريسي ويوقع بينهما وهو يظهر النصح للشيعة والإخلاص لهم والتمسك بدعوتهم. وهنا يتحول اهتمام الأدارسة فينصرفون إلى الانشغال بمبارزة العداء الذي يواجههم، وتتم المؤامرة فيعزل يحيى، ولكن أهل فاس لا يقبلون «ريحان» بديله عليهم من قبل العبيديين، ثم لا يلبث أن يثور الحسن الحجام بن محمد بن القاسم بن إدريس سنة 310هـ، ولكنه يلقى حتفه بسبب خيانة عامل فاس سنة 313هـ. وهنا ينتهي عهد الأدارسة في فاس؛ حيث يعتصمون «بحجر النسر» بالريف، ذلك المعقل الذي بناه أخو الحسن الحجام إبراهيم سنة 313هـ، وظل ابن أبي العافية متحكماً في المغرب من طرف العبيديين إلى سنة 320هـ؛ حيث خلع طاعتهم ودعا للأمويين، فحاربه الفاطميون، وخرج إذ ذاك الأدارسة من حصنهم «حجر النسر» بعد أن ظلوا فيه أربعة أعوام، وانضموا إليهم في قتال موسى بن أبي العافية حتى قضوا عليه... ولكن البلاد بقيت مع ذلك في قبضة الأمويين إلى سنة 323هـ؛ حيث قدم ميسور الفتى إلى المغرب من لدن أبي القاسم عبد الله المهدي على أثر وفاة والده، وحاصر مدينة فاس إلى أن تمكن منها، وبقيت هذه المدينة تحت إمرة الفاطميين حتى سنة 330هـ، أي مدة ثماني عشرة سنة فتولى الأدارسة جميع البلاد قائمين بدعوة أبي القاسم الشيعي. ويظهر أنه تم بذلك اجتماع هاتين الحركتين وبدا الانسجام بينهما... فنجد الأدارسة في هذه المرحلة يظهرون تشيعهم؛ إذ ملك منهم إذ ذاك القاسم بن محمد بن القاسم بن إدريس الثاني الملقب بـ «كنون» وقام بدعوة الشيعة (4).
غير أن القوة التي كانت تجاورهم من الشمال كانت تهددهم باستمرار، فما أن توفي «القاسم» سنة 337هـ، وتولى ابنه «أبو العيش أحمد بن القاسم» حتى دعا إلى الأمويين وبايع لعبد الرحمن الناصر لدين الله (300 ـ 377)، ويمتاز هذا الأمير بأنه كان يتوق إلى الجهاد في بلاد الأندلس وبها مات سنة 343هـ، تلك البلاد التي كان لها في ما بعد شأن في تاريخ هذه الدعوة، فما لبث الفاطميون أن أعادوا الكرة سنة 349هـ، وردوا الأمور في المغرب إلى نصابها. وبعد هذا ظهر آخر ملوك الأدارسة، وهو أخو أبو العيش، الحسن بن كنون مبايعاً للعبيديين ثم للأمويين «خوفاً منهم لا حباً فيهم» كما يقول ابن أبي زرع في كتابه القرطاس (5)إلى أن دارت عليه الدائرة،
________________________________________
(4)الأنيس المطرب بروض القرطاس في ملوك المغرب ومدينة فاس، ابن أبي زرع، ج1، ص 127.
(5)المصدر نفسه، ج1، ص 138.

[الصفحة - 153]


فأبعد وأهله عن المغرب، وانتهى الأمر أن حاربهم وقتل وهو يحاربهم سنة 375هـ، وبذلك انقرضت الدولة الإدريسية وهي تخوض المعارك (6). لقد ملكت هذه الدولة العلوية الشريفة بلاد المغرب زهاء مئتين وثلاث سنوات، وبسطت نفوذها من السوس الأقصى إلى مدينة وهران، وبالرغم من هذه المدة الطويلة فإنها لم تتمتع بالاستقرار الذي يمكنها من خوض المعارك الفكرية والعقديَّة التي كانت على أهبة القيام بها بعد المعارك السياسية (7)، فقد أصابتها هزات عنيفة من كل جانب، وقصرت عن الوصول إلى مستوى منافسيها في الخلافة لـ «ضعف سلطانهم وقلة مالهم» (8)، على أن هناك في رأينا عاملين أساسيّين آخرين كان من شأنهما أن لا يشجعا على ظهور التشيع في المغرب يجب أن يضافا إلى ما تقدم. فبالرغم من أن المغرب قد عرف ظهور دولة المذهب الشيعي ومبادئه فإن ازدهار هذا المذهب وبلوغ الدولة الفاطمية شأواً كبيراً تم بعيداً عن البلاد المغربية في مصر، وقد كان هذا من الأهداف التي جعلت الفاطميين ينقلون دولتهم من المغرب إلى مصر. كما ازدهر الفكر الشيعي في البلاد الشرقية مثل إيران، حيث كانت هذه البلاد مستعدة فكرياً لقبول العقائد الشيعية والخوض فيها لما عرفته من قبل ذلك من فلسفات وعلوم ومعارف، كما أنها كانت مستعدة روحياً لذلك بعدما عاشت الصراع السياسي الذي خاضه أئمة التشيع. وهذا كله لم يكن يتوافر في البلاد المغربية التي كانت عقيدتها الإسلامية ولا تزال بسيطة وإيمانها بهذه العقيدة ساذجاً.
ومهما يكن من أمر فقد بذل المغاربة للأدارسة الولاء ودانوا لهم بالطاعة الكاملة إخلاصاً منهم في محبة آل البيت، وأوضح دليل على هذا التفاني في الإخلاص لهم أنهم كانوا دائماً معهم يؤيدونهم في حالاتهم جميعها، في متابعتهم للمروانيين، وفي متابعتهم للعبيديين.
دولة بني حمُّود
كاد أثر دولة الأدارسة ينمحي، أو هكذا ظن أعداؤهم الأمويون بعد أن أجلوهم عن معاقلهم في الرِّيف الذي كان يدين لهم بالحب، وفي جبال إغمارة التي ظلت تنقاد لهم وتعظمهم (9)بعد إبعادهم عن بلادهم حتى لم يبق منهم بالعدوة رئيس (10)
________________________________________
(6)رغم زوال الدولة الإدريسية فإن المذهب الشيعي ظل رائجاً في المغرب كله إلى أواسط القرن الخامس الهجري كما يظهر من كلام صاحب الاستقصاء، ج1، ص 138.
(7)الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج3، ص 167.
(8)الناصري، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، ص 205.
(9)نرى ذاك حتى في زمن متأخر عن هذا العهد في آخر الدولة الحمودية. فعندما طرد محمد المهدي أخاه السامي من الأندلس ذهب هذا إلى المغرب ونزل بجبال غمارة. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص 272.
(10)ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في ملوك المغرب ومدينة فاس، ج1، ص 138.

[الصفحة - 154]


ونفيهم إلى الأندلس. غير أن التشيع الموروث لأولاد إدريس (11)خلد هذه الدولة إلى الأبد في نفوس المغاربة والبربر بعامة، فلم تخب دولتهم ولا زال أمرها بل سرعان ما انتقلت إلى الأندلس لتزيل دولة بني أمية وتخلفها، وكانت حركة أولئك النازحين إلى هذه البلاد من تلك الأسرة الإدريسية الذين استقروا سنة 324هـ بقرطبة تحت رعاية ملكها الحكم الأموي الرمز الأول لهذا الانتقال. كما انتقلت مع البربر الفاتحين للأندلس في ذلك العهد الذين حفظوا للشرفاء عهد المحبة والولاء، فما أن ظهر أحفاد للأدارسة على مسرح الحياة السياسية بالأندلس حتى التفوا حولهم ودعوا لهم.. كان ذلك عندما عبر اثنان من أعقاب الأدارسة إلى بلاد الأندلس في خدمة سليمان بن الحكم الأموي، وهما القاسم وعلي ابنا حمود بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس الثاني بن إدريس الأول. وكان أول أمرهما ومبدأ نشأة الدولة في أسرتهما أن وليّاً قائدين على المغاربة في الأندلس، ثم وكل سليمان القاسم أمور الجزيرة الخضراء، وعلياً وهو الأصغر أمور سبتة وطنجة. وقد كانت لقبائل صنهاجة (12)وزناتة وبني يفرن بتاكرونة (13)وبرغواطة (14)اليد البيضاء في مدهم بالمساعدة وشد أزرهم، حتى قال الشاعر أبو عبد الله الرعيني في مدح القاسم:
ولما دعا الشيطان في الخيل حزبه وأقبل حزب الله فوق خيوله
كتائب من صنهاجة وزناتة تضايقت في عرض الفضاء وطوله
ويكفي دليلًا على هذه الصلة الوثيقة التي كانت تربط هذه الأسرة الهاشمية وبرابرة المغرب أن زوال ظلهم عن قرطبة يعزى إلى ما أخذه عليهم أهل هذه البلاد من ميلٍ إلى البربر (15).
ولم يخف بعض الناصحين لملك سليمان، من البربر الموالين للأمويين، تخوفهم من تولية هذين العلويين الطالبيين (16)؛ إذ سيظل هذا الحق مطلوباً ما دام فيهم عرق ينبض... ولم يمض زمن يسير حتى بدت رايات الدعوة العلوية يقودها أحد ذينك النازحين الحموديين إلى الأندلس علي بن حمود سنة 457هـ. واستجابت الرغبة الدفينة في قلوب مواطنيهم الذين كانوا يسكنون قرطبة فسما ذكرهم (17). ومنذ ذلك الحين تكونت هذه الدولة. أطلق بعضهم عليهم الحسنيِّين، وسماهم بعض آخر
________________________________________
(11)ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج4، ص 330.
(12)عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص 38.
(13)نزل إدريس بن يحيى الحمودي، الملقب بالعالي، في آخر أيامه عند بني يفرن بتاكرونة، المعجب، ص 241.
(14)اعتمد إدريس بن يحيى الحمودي، في أول أيامه، على البرغواطيين، فولى مدينة سبتة وطنجة رجلين من هذه القبيلة، المعجب، ص 41.
(15)ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص 282.
(16)لسان الدّين بن الخطيب السلماني، أعلام الأعلام في من بويع بالخلافة قبل الاحتلام، ص 128 و129.
(17)ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في ملوك المغرب ومدينة فاس، ج1، ص 143.

[الصفحة - 155]


«العلويِّين» أو «العلويِّين الأدارسة» أو «الفاطميين»، ومهما تكن التسمية فإن هذه الدولة قامت لإرجاع الحق المغصوب لآل البيت من أسرتهم. ونلاحظ أن الظروف كانت تفرض قيام من يدافع عن هذا المبدأ؛ إذ إن الشيعة كانوا يمرون بأوقات عصيبة، فقد ساءت حالهم بتونس ولاقوا التقتيل والتعذيب، وقامت الفتن بين السنة والشيعة على أشدها في العراق بواسط (18). من ذلك نستبين الهدف الذي قصدت إليه هذه الدولة، وقد كان في أمرين أساسيين:
ـ أولهما مناهضة الحكم الأموي في الأندلس.
ـ وثانيهما الدعوة للدولة العلوية وللمذهب الشيعي.
أما الهدف الأول فقد أصابت منه الكثير حتى ذكر أنهم كانوا سبب زوال الأمويين من الأندلس والقضاء على دولتهم (19). أما الدعوة للدولة العلويَّة فإنهم نجحوا في القيام بها إلى حد بعيد، فكونوا دولة بجميع مظاهرها وتلقبوا بألقاب الخلافة مثل «الناصر لدين الله» و «المأمون» و «المستنصر» و «المتأيد»، وبسطوا نفوذهم على كثير من بلاد الأندلس، فكانت عاصمتهم مالقة، وملكوا الجزيرة الخضراء وقرطبة وإشبيلية وغرناطة والمرية وقرمونة ورندة وأعمالها ومن مدن المغرب طنجة وسبتة. وخطب لهم في جميع هذه البلاد وضربت السكة باسمهم.
أما تشيعهم فقد ظهرت آثاره عليهم، لكن المصادر التي بين أيدينا، وهي مصادر في أغلبها تؤيد المذهب السني، تقول: إنهم «تشيعوا ولم يظهروا ذلك ولا غيروا على الناس مذهبهم» (20)، ولم تعقب على ذلك ولا علقت عليه مما يكاد يحس معه من الإشارات العابرة أنها أغفلت الحديث عن هذا الأمر، وغضت الطرف عنه، ولم تذكر إلا ما اضطرت إليه اضطراراً عند نقل شعر لأحد شعراء الأندلس في هذه المرحلة مثلًا؛ إذ كان من اللازم الإشارة إلى الشعر الشيعي، وقد بلغ في هذا العصر شأواً عالياً. على أننا يجب أن لا نغفل ما يكون قد ركن إليه دعاة هذه الدولة من السرية التي تحتِّمها الظروف القاسية التي تواجه كل عقيدة تحاول الظهور في محيط جديد.
ومع ذلك، نستطيع أن نتبين الجو الذي خلفه وصولهم إلى الحكم وآمال الناس
________________________________________
(18)ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص 295.
(19)ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج4، ص 228.
(20)ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص 274. والمعجب للمراكشي، ص 300.

[الصفحة - 156]


فيهم. يقول أبو عبد الله الرعيني الأعمى، من قصيدة في القاسم بن حمود يذكر فيها خيران الصقلبي وقتل المرتضى المرواني وفتح غرناطة:
لك الخير خير أن مضى لسبيله وأصبح ملك الله في ابن رسوله
وفرق جمع الكفر واجتمع الورى على ابن حبيب الله بعد خليله
وقام لواء النصر فوق ممنع من العز جبريل أمام رعيله
وأشرقت الدنيا بنور خليفة به لاح بدر الحق بعد أفوله
على أن أهم ما كان الناس يمجدون به هذه الدولة وما يرجون منه كل الخير هو نسبهم الهاشمي، لذلك كان هؤلاء الأمراء يسلكون نهج أجدادهم في إعطاء صورة لتلك العهود التي يرجونها بوجودهم. فعندما تولى علي بن حمود، الملقب بالناصر لدين الله، أخذ الحكم بقوة وساس الناس بالعدل حتى نقلت في ذلك الأخبار العجيبة، ووجد الناس في كنفه الأمن والطمأنينة، وقد قصده الشاعر أحمد بن عبد المالك بن شهيد، وقال وهو يودع قرطبة ملتجئاً إلى مالقة:
عليكم بداري فاهدموها دعائماً ففي الأرض بناؤون لي ودعائم
إذا هشمت حقي أمية عندها فهاتا على ظهر المحجة هاشم
وطبعاً كان كباقي أسرته متشيعاً. ونستطيع أن نستدل من الأوصاف التي وسم بها أن الأفكار الشيعية كانت تروج بالأندلس آنذاك، فقد كان ذا ولع بالمدائح النبوية، فكثر هذا الفن في عهده وشاع في الأندلس في ذلك الحين، وكان يجزل العطاء لشعر المدائح النبوية، وقصده الشعراء المتشيعون، فهذا عبادة بن ماء السماء كان معروفاً بالتشيع يمدحه ويثبت أحقيته في الإمامة ويهيب بالناس إلى طاعته. يقول:
أبوكم علي كان بالشرق بدء ما ورثتم وذا بالمغرب أيضاً سميه
فصلوا أجمعون وسلموا له الأمر إذ ولاه فيكم وليه
ويصف أبو عبد الله الرعيني القرطبي علياً هذا بالإمام فيقول:
سقا منبت اللذات منها ابن هاشم إذا انهملت من راحتيه الغمائم
إمام، إمام الدين حد حسامه طرير، ومنه في يد الله قائم
________________________________________

[الصفحة - 157]


وقد قيلت في رثاء علي بن حمود إحدى الروائع من غرر الشعر الشيعي لأبي عمر أحمد بن دراج القسطلي أبدع فيها وأجاد، فاستنزعت من أبي الحسن علي بن بسام في كتابه «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» إطراء جميلًا واعترافاً جعلها في قمة الشعر الشيعي، فقال عنها: «وهذه القصيدة له طويلة، وهي من الهاشميات الغر... لو قرعت سمع دعبل بن علي الخزاعي، والكميت بن زيد الأسدي لأمسكا عن القول وبرآ إليها من القول والحول، بل لو رآها السيد الحميري وكثير الخزاعي لأقاماها بيِّنة على الدعوى، ولتلقِّياها بشارة على زعمهما بخروج الخيل من رضوى...»(21). وتبدأ هذه القصيدة ببكاء شجي، بكاء تجهش به قلوب الشيعة في كل مكان، ويتردد معناه في الشعر الفارسي، مستوحى من حمرة شمس الأصيل، يقول:
لعلك يا شمس عند الأصيل شجيت لشجو الغريب الذليل
فكوني شفيعي إلى ابن الشفيع وكوني رسولي إلى ابن الرسول
ثم يصف الواقعة الأليمة التي حلَّت بآل البيت، فيقول:
تهاوت بهم مصعقات الرواعـ د في مدجنات الضحى والأصيل
بوارق ظلماء ظلم قبيح دمى من حمى أو دما من قتيل
فأذهل مرضعة عن رضيع وأنسى الحمائم ذكر الهذيل
ويصف فيها علي بن حمود ونسبه، فيقول:
لعل عواقبه إن تتم فتهدي الغريب سواء السبيل
إلى الهاشمي إلى الطالبي إلى الفاطمي العطوف الوصول
إلى ابن الوصي إلى ابن النبي إلى ابن الذبيح إلى ابن الخليل
وهذه القصيدة طويلة تنوف على سبعين بيتاً (22)، كلها ذات نفس واحد إلى آخرها، وقد ختمها مؤكداً مقام آل البيت وأحفادهم بني حمود، وإمامتهم المدعمة بالكتاب وبالمنطق، فيقول:
فأنتم هداة حياة وموت وأنتم أئمة فعل وقيل
وسادات من حل جنات عدن جميع شبابهم والكهول
وأنتم خلائق دنيا ودين بحكم الكتاب وحكم العقول

________________________________________
(21)ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج1، ص 70.
(22)ديوان ابن دراج القسطلي، تحقيق الدكتور محمود علي مكي، ص 75 ـ 81.

[الصفحة - 158]


أما ابن علي بن حمود، وهو يحيى بن علي بن حمود، الملقب بالمعتلي بالله، فقد زاد على من سبقه من بني حمود بمزيةٍ، رفعته مقاماً سنيَّاً تلك هي كرم الولادة، فأمه هي بنت محمد بن الأمير حسن بن القاسم، فهو إذن هاشمي الأبوين. وقل أن اجتمع ذلك لأحد من خلائف الإسلام إلا ثلاثة من أبناء القرشيات كان هو مكمل أربعتهم. أولهم جدهم الأعلى سيدنا علي بن أبي طالب (كرم وجهه)، وثانيهم ابنه سيدنا الحسن، والثالث هو الأمين محمد بن هارون. وقد زاد إلى هذا الشرف ولوعه بتهذيب النفس والتخلق بالفتوة شأن جده (الفتى) فكان شغوفاً بالفروسية وجري الخيل والخروج للقنص.
ولقد قصد الشعراء، كما أشرنا في ما سلف، بني حمود ينثرون في مدحهم درر الشعر. وإذا كان في عمل هؤلاء الشعراء ما يعبر عن عصرهم لأنهم لسان المجتمعات في مختلف العصور، فإننا نجد ذلك إن أغفلنا جانب التقرب في مديحهم؛ حيث إن شعرهم يحمل نزعة روحية ورسالة عقديَّة تنم عن الإيمان بأهل البيت ومذهب أشياعهم في إمامتهم وعصمتهم وحقيقتهم التي قال عنها أحدهم: إنها قبس من نور الله، بل إننا لنجد من بينهم بعض الشعراء ممن عرفوا بالتشيع. ومن ذلك نجد قصيدة طويلة قالها أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الفندقي الأشبوني في إدريس بن يحيى بن علي بن حمود الملقب بالعالي (434 ـ 438)، وكان معروفاً بالخير والعدل ننقل منها هذه الأبيات:
يا بني أحمد يا خير الورى لأبيكم كان وفد المسلمين
نزل الوحي فاجتبى في الدجى فوقهم الروح الأمين
أنظرونا نقتبس من نوركم إنه من نور رب العالمين (23)
هكذا عاش جزء كبير من الأندلس إحدى مراحل تاريخه في مطلع القرن الخامس، وظل تحت حكم آل البيت المتشيِّعين يتبادل السلطة فيه الأبناء والأخوة وأبناء الأعمام من بني حمود طوال ثمان وخمسين سنة (24)، وهم يحاولون نشر الرخاء والإخاء وإقامة العدل، حتى نجد هذه الصفة تلزم سيرة أكثر ملوك هذه الدولة في ما ذكر في شأنهم، وحتى قال الشاعر ابن مقانا في ذلك:
خلقوا من ماء عدل وتقى وجميع الناس من ماء وطين
________________________________________
(23)ابن سعيد، رايات المبرزين وشارات المميزين، ص 33 و34.
(24)لسان الدين بن الخطيب، أعلام الأعلام في من بويع بالخلافة قبل الاحتلام، ص 122.

[الصفحة - 159]


وحتى أن خمسة منهم قد لقَّبوا أنفهسم بالهداية، وفي ذلك أحد مظاهر نزعتهم الشيعية (1).
من مظاهر التَّشيُّع
ومرَّت هذه الدولة الهاشمية كما مرَّت سابقتها، يكتنف الغموض أمر الدعوة الشيعية في أيامها ومدى أثره في المجتمع الذي مارست فيه الحكم. ونحن لا يمكننا أن نقتنع باقتصار تأثيرهم على من حولهم من الشعراء فقط وعدم وجود صدى لهذه الدعوة بين مختلف الطبقات من الناس. ومن حسن حظنا هذه المرة أن أحد أعلام المفكرين في القرن الثامن الهجري، لسان الدين بن الخطيب، أتحفنا بإشارة ذات أهمية كبرى. والفضل في ذلك يعود إلى إحدى النسخ الخطية الفريدة من مؤلفه التاريخي: «أعلام الأعلام في من بويع بالخلافة قبل الاحتلام» التي حفظتها لنا خزانة جامعة القرويين في مدينة فاس من عاديات الزمن (25). وبهذه الإشارة تنحل العقدة المستعصية، وينكشف لنا ما كان غامضاً من قبل، وهو ما أغفل الحديث عنه المؤرخون مما كان يجري في الأندلس من أثر التشيع. ذلك أن ابن الخطيب، عند حديثه عن دولة يزيد بن معاوية، انتقل به الحديث إلى ذكر عادات الأندلسيين وأهل شرق الأندلس، وبخاصَّة في ذكرى مقتل سيدنا الحسين من التمثيل بإقامة الجنائز وإنشاد المراثي. وقد أفادنا عظيم الفائدة، حيث وصف أحد هذه الاحتفالات وصفاً حياً شيقاً حتى ليخيل أننا نرى إحياء هذه الذكرى في بلد شيعي. وذكر أن هذه المراثي كانت تسمى الحسينية وأن المحافظة عليها بقيت مما قبل تاريخ عهد ابن الخطيب إلى أيامه. ونبادر الآن إلى نقل هذا الوصف على لسان صاحبه:
«ولم يزل الحزن متصلًا على الحسين والمآتم قائمة في البلاد، يجتمع لهما الناس ويختلفون لذلك ليلة يوم قتل، بعد الأمان من نكير دول قتلته ولا سيما بشرق الأندلس، فكانوا على ما حدثنا به شيوخنا من أهل المشرق (يعني مشرق الأندلس) يقيمون رسم الجنازة حتى في شكل من الثياب يستخبي خلف سترة في بعض البيت وتحتفل الأطعمة والشموع ويجلب القراء المحسنون ويوقد البخور ويتغنى بالمراثي الحسنة» (26).
________________________________________
(1)اعتمد المؤلف على مخطوطة «أعلام الأعلام في من بويع بالخلافة قبل الاحتلام» للسان الدين بن الخطيب، وقد تم تحقيق هذا الكتاب ووضع له عنوان آخر هو: «تاريخ إسبانيا الإسلامية».
(25)يعود الفضل في اكتشاف هذه النسخة الفريدة من هذا الكتاب واطلاعنا عليها إلى العلامة السيد العابد الفاسي مدير خزانة جامعة القرويين.
(26)ابن الخطيب، أعلام الأعلام في من بويع بالخلافة قبل الاحتلام. نسخة خطية، ص 36 ـ 38.

[الصفحة - 160]


وفي عهد ابن الخطيب كان لا يزال لهذه المراثي شأن أيضاً، فإنه في سياق حديثه السابق زادنا تفصيلًا وبياناً عن الحسينية وطقوسها، فقال:
«والحسينية التي يستعملها إلى اليوم المسمعون فيلوون لها العمائم الملونة، ويبدلون الأثواب في الرقص كأنهم يشقون الأعلى عن الأسفل بقية من هذا لم تنقطع بعد، وإن ضعفت، ومهما قيل (الحسينية) أو (الصفة) لم يدر اليوم أصلها».
وفي المغرب اليوم لا يزال أولئك «المسمعون» الذين أشار إليهم ابن الخطيب يعرفون بهذا الاسم وينشدون. وكثرت في إنشادهم على الأخص المدائح النبوية. كما أن الموسيقى الأندلسية الشائعة اليوم في بلاد المغرب تشتمل في أكثرها على المدائح النبوية أيضاً.
كما أفادنا ابن الخطيب، بنقله أنموذجاً لهذه المراثي، مدى عناية الشعراء بهذا الموضوع وعرَّفنا بأحد الشعراء الشيعة في الأندلس الذي اشتهر برثاء سيّدنا الحسين. وهو أبو البحر صفوان بن إدريس التيجيبي المرسى (561 ـ 598هـ). وهذه القصيدة كانت مشهورة ينشدها «المسمعون» منها (27):
سلام كأزهار الربى يتنسَّم على منزل منه الهدى يتعلم
على مصرع للفاطميين غيبت لأوجههم فيه بدور وأنجم
على مشهد لو كنت حاضر أهله لعاينت أعضاء النبي تقسم
على كربلاء لا أخلف الغيث كربلا وإلا فإن الدمع أندى وأكرم
مصارع ضجت يثرب لمصابها وناح عليهن الحطيم وزمزم
ومكة والأستار والركن والصفا وموقف جمع والمقام المعظم
وبالحجر الملثوم عنوان حسرة ألست تراه وهو أسود أسحم
وروضة مولانا النبي محمد تبدى عليه الشكل يوم تخرم
ومنبره العلوي للجدع أعولا عليهم عويلًا بالضمائر يفهم
ولو قدرت تلك الجمادات قدرهم لدك حراء واستطير يلملم
وما قدر ما تبكي البلاد وأهلها لآل رسول الله والرزء أعظم
لو أن رسول الله يحيا بعيدهم رأى ابن زياد أمه كيف تعقم
________________________________________
(27)المصدر نفسه، ص 37 و38.

[الصفحة - 161]


وأقبلت الزهراء قدس تربها تنادي أباها والمدامع تسجم
تقول: أبي هم غادروا بنى نهبة كما صاغه قيس وما مج أرقم
سقوا حسناً للسم كأساً روية ولم يقرعوا سنَّاً ولم يتندموا
وهم قطعوا رأس الحسين بكربلا كأنهم قد أحسنوا حين أجرموا
فخذ منهم ثأري وسكن جوانحا وأجفان عين تستطير وتسجم...
ونتلمس هذه الحركة في ما بعد عصر مبدع هذه القصيدة الحسينية، فنعثر على أثر للفكر الشيعي؛ حيث نلتقي بأحد أدباء الأندلس في النصف الأول من القرن السابع الهجري هو القاضي أبو عبد الله القضاعي البلنسي (المقتول في 20 محرم سنة 658هـ)، ونقف على اسم كتابين من مؤلفاته العديدة موضوعهما هو رثاء سيدنا الحسين، أولهما: «معدن اللجين في رثاء الحسين». ولا يعرف اليوم أثر لهذا الكتاب غير اسمه، وثانيهما: «درر السمط في أخبار السبط». وكان كل ما بقي من هذا الكتاب هو ما نقله المقري في كتابه: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب». وقد اعترف المقري بأنه أغفل نقل بعض الفقرات من الكتاب ممَّا «يشم منه رائحة التشيع» (28)ثم إنه اكتفى بنقل جزء من الباقي فقط. ونضيف هذا القول الواضح والشهادة الصريحة إلى ما أشرنا إليه سابقاً عن علة سكوت كتب التاريخ وغيرها عن الإشارة إلى آثار التشيع في المغرب والأندلس. ولم يخل عمل المقري مع ذلك، من إعطائه حكماً موضوعياً عن هذا الكتاب. فقال: «وهو كتاب غاية في بابه» (2). وقد اكتشف هذا الكتاب أخيراً برمته. واستطعنا أن ندرك عن كثب أهميته البالغة في هذا الباب (29).
ومهما أطلنا في التنويه بهذا الكتاب وأسلوبه الجميل وبيانه الرائع وتأثيره البالغ في سامعيه بوصفه لتلك الحوادث المؤلمة من تاريخ الإسلام، فإن ذلك لا يكفي لبيان منزلته في الأدب الشيعي. وهو على كل حال يقدم لنا الدليل القاطع على رواج حركة التشيع في الأندلس في هذا العصر. ولكي نأخذ فكرة واضحة عن ذلك أنقل بعض الفقرات من هذا الكتاب مما لا يبقى معه شك بتشيع صاحبه. بدأ بتحية آل البيت والشهادة بحبهم: «أولئك السادة أحيِّي وأفدي، والشهادة بحبهم أوفي وأؤدي، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» (3).
ثم خاطبهم وذكر نقاء حقيقتهم النبوية، وعاقبة أمرهم:
________________________________________
(28)المقري، نفح الطيب، ج4، ص 506.
(2)العنوان الأصلي للكتاب هو «معدن اللُّجين في رثاء الحسين»، وقد حذف المؤلِّف كلمة معدن فأضفتها. تم تحقيق هذا الكتاب سنة 1972، تطوان، من تحقيق الأستاذين عبد السلام الهراس وسعيد أحمد أعراب وتقديمهما، وصدر تحقيق آخر للكتاب نفسه سنة 1987 لعز الدين موسى، ولكنه لم يضف أي شيء، بل أخذ كثيراً من التحقيق الأول ولم يشر إليه إطلاقاً.
(29)يوجد هذا الكتاب الآن قيد التحقيق حيث يهيأ للطبع قريباً.
(3)درر السمط في خبر السبط، ص 3.

[الصفحة - 162]


«يا لك أنجم هداية، لا تصلح الشمس لهم عن آية. كفلتهم في حجرها النبوة فللَّه تلك النبوة، ذرية بعضها من بعض. سرعان ما بلى منهم الجديد وغرى بهم الحديد نسفت أجبلهم الشامخة، وشدخت غررهم الشادخة، فطارت بطررهم الأرواح، وراحت عن جسومهم الأرواح، بعد أن فعلوا الأفاعيل، وعيل صبر أقتالهم وصبرهم ما عيل» (4).
ويتحسَّر عليهم ويعرِّض بأعدائهم، فيقول:
«أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوى، قعد بالحسين حقه وقام بيزيد باطله وأخلاقه، حضر موقف القضاء الخصمان، وعنت الوجوه للرحمن، جاء الحق وزهق الباطل، إن الإمامة لم تكن للئيم ما تحت العمامة من سبط هند وابنها دون البتول ولا كرامة، يسر ابن فاطمة للدين يسميه وابن ميسون للدنيا تستهويه، أعطوا فكل ميسر لما خلق له، فأما هذا فتحرج وتأثم، وأما ذاك فتلجلج وتلعثم، مشى الواحد إلى نور يسعى بين يديه، وعشى الثاني إلى ضوء نار لا يغروها لديه، يا ويح من وازى الكتاب فقال والدنيا أمامه: كانت بنو حرب فراعنة، فذهب ابن بنت رسول الله ليخرجهم من العراق فانعكس الروم وحورب ولا فارس والروم» (5).
وعندما يصف الحادث المفجع لقتل سبط الرسول نحسّ أن قلبه يكاد ينفطر من الأسى، فيقول:
«عاشر محرم أبيحت الحرمات، وأفيضت على النور الظلمات، فتفاقم الحادث، وحمل على الطيبين الأخابث، وضرب السبط على عاتقه ويسراه، وما أجرأ من أسال دمه وأجراه، ثم قتل بعقب ذلكم وغودر حتى العاديات ضبحاً» (6).
ويضيف مشيراً في الأخير إلى أن هذه الداهية كانت السبب في إدبار عز المسلمين: «أية فتنة عمياء، وداهية دهياء، لا تقوم بها النوادب، ولا تبلغ معشارها النوائب. طاشت لها النهى وطارت، وأقبلت شهب الدجى وغارت. لولاها ما دخل ذل على العرب ولا ألف صيد الصقر بالخرب ونسف النبع بالغرب. فانظر إلى ذوي الاستبصار خضع الرقاب نواكس الأبصار.
وإن قتيل الطف من آل هاشم أذل رقاب المسلمين فذلت (7)»
________________________________________
(4)المرجع نفسه، ص 6 و7.
(5)المرجع نفسه، ص 40 ـ 42.
(6)المرجع نفسه، ص 55 و56.
(7)المرجع نفسه، ص 65 و66.

[الصفحة - 163]


وفي الأخير، يعود إلى تأكيد الإيمان بهم والتعلق بحبهم وتفضيلهم على أعدائهم، يقول:
«ما عذر الأمية وأبنائها، في قتل العلوية وإفنائها، أهم يقسمون رحمة ربك؟ كم دليل في غاية الوضوح، على أنهم كسفينة نوح؛ من ركب فيها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق، ثم يحسسهم آل الطليق ويطرهم آل الطريق، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. نساؤهم أيامن أمية، وسماؤهم أرض بني سمية.
من عصبة ضاعت دماء محمد و بنيه بين يزيدها وزيادها
كان الحسين يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا، ويزيد يتلف العمر تبريحاً وعدوانا.
عمرك الله كيف يلتقيان» (30) (8).
وقد بقي لهذا الكتاب ونزعته الشيعية صدى انتقل إلى المغرب وظل بها زمناً طويلًا، فبعد ثلاثة قرون من تأليفه نعثر على شرح له لأحد المغاربة هو الفقيه الأديب سعيد الماغوسي الملقب بـ «بوجمعة» المولود سنة 950هـ. ويعدُّ هذا الشرح اليوم من المفقودات. غير أن ابن القاضي يخبرنا في كتابه درة الحجال (31)أنه كان موجوداً في خزانة المنصور السعدي في مدينة مراكش، وتظهر عناية ملوك المغرب بمثل هذه التآليف، في ما قيل من أن شارح هذا الكتاب أخذ مكافأة على تأليفه وزنه ذهباً.
اتصال بالتشيُّع لم ينقطع
هكذا عرف المغرب هذه العقيدة خلال تاريخه، وقد استمر على اتصال بها إلى اليوم في ما نشاهده من مظاهر اجتماعية وثيقة بحياته العائلية حتى تغلغلت في روحيته، وإن أقوى تلك الصلات التي ستظل تلازم عقيدته إلى آخر الدهر صلة الإيمان بالإمام المهدي وخروجه في آخر الزمان ليقوم بأمر الدين، فيحيي الشريعة ويملأ الأرض عدلًا كما ملئت ظلماً.
والمغاربة يتعلقون بهذه العقيدة بشدة، غيرة منهم على الدين حتى لنرى اليوم من ضاقت حاله واشتد عليه الأمر، ويئس من الجور وفساد الاعتقاد والأعمال في المجتمع يصعد زفرة من الأعماق داعياً الله أن يفرج الكرب بخروج صاحب
________________________________________
(30)اعتمدنا، في ما نقلناه، مخطوطة كتاب «درر الصمت في خبر السبط» التي تهيأ للطبع بتحقيق الدكتور عبد السلام الهراس والأستاذ سعيد أعراب.
(8)المرجع نفسه، ص 67 و68.
(31)ابن القاضي، درة الحجال في أسماء الرجال.

[الصفحة - 164]


«السيف». والآراء متضاربة عند العامة عن مكان بظهوره. وقد تعلق الناس بخاصَّة بفكرة خروجه في قلب مدينة فاس من وسط مزار المولى إدريس الثاني ابن منشى الدولة الإدريسية الهاشمية. وذلك يرمز إلى ربط هذه العقيدة بآل البيت. ومن الناس من كان يعتقد ظهوره بالسوس الأقصى، وفي رباط ماسة في الصحراء المغربية. ولكي نرى كيف أن هذه العقيدة كانت شائعة بين الناس في المغرب وإلى أي حد تمسك بها المغاربة نذكر أنها كانت الدعامة الأساسية لقيام دولة بربرية حكمت المغرب في القرن السادس الهجري، تلك هي دولة الموحدين (515 ـ 621هـ).
فمؤسس هذه الدولة هو محمد المهدي بن تومرت، شريف يتصل نسبه بسيدنا الحسن ابن سيدنا الحسن ابن سيدنا علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، قام بالمغرب سنة 515هـ، وكان مبدأه الأساسي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان تقياً ذا ورع وصلاح فذاع اسمه وطار صيته وتعلق به الناس ورأوا الخلاص على يديه. وادعى أنه هو محمد بن عبد الله المهدي المعصوم، فبايعوه على ذلك. وكتب لأتباعه كتباً منها: «أعز ما يطلب» و «عقائد في أصول الدين». وكان في ما يظهر ينزع إلى التشيع (32). ثم انطلق ينشر دعوته بالسيف، وأرسل أول جيوشه لمحاربة المرابطين في مدينة مراكش سنة 517هـ تحت شعار «الإقرار بالإمام المهدي المعصوم» (33). وقد قال فيه أحد الشعراء قصيدة طويلة مطبقاً أوصاف الإمام المهدي التي وردت في الأحاديث عليه، ومدعياً أنه هو المهدي المنتظر، أنشدها على قبره. قال فيها:
سلام على قبر الإمام الممجد سلالة خير العالمين محمد
ومحيي علوم الدين بعد مماتها ومظهر أسرار الكتاب المسدد
أتتنا به البشرى بأن يملأ الدنا بقسط وعدل في الأنام مخلد
ويفتح الأمصار شرقاً ومغرباً ويملك عرباً من مغير ومنجد
فقد عاش تسعاً مثل قول نبينا فذلك المهدي بالله يهتدى
وقد كان لهذه الدولة الموحدية التي أنشأها المهدي بن تومرت شأن عظيم في تاريخ المغرب، وازدهرت في أيامها العلوم والآداب والفنون والعمران.
واتخذت المهدوية مظهراً آخر في الفكر المغربي عندما امتزجت بالروح
________________________________________
(32)عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص 112 و113 والناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، ص 140.
(33)المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص 115.

[الصفحة - 165]


الصوفية فتجلَّت في القرن السابع الهجري في نظريات عرفانية، ومشاهدات روحانية، ولطائف ربانية. ذلك عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الحاتمي. فقد ذكر أن هذا الأمر هو الكنز الخفي بالبحر الغربي (34). ووحد بين المشرق والمغرب حيث يكون طلوعه. وفي ذلك يقول الشيخ الأكبر: «فصل ـ ولما كان فتح المدينة التي هيأتها هكذا بالتكبير والتهليل، وفي مقدمة العسكر جبريل، وقد عطف اللواء المشرق نحو بلاد المشرق، ورياح المغرب تزعجه، وبشائر الفتح تلهجه والملائكة به حافون، وعليه ملتفون وأمامه مصطفون».
ثم يدعو الشيخ الأكبر إلى التشبث بالإمام، ومتابعته، والتحفز لتلك الرحلة الكبرى، فيقول:
«فإذا أخذت في الرحيل، فاطو بساطك أيها الخليل، وسر معه بما معك من كثير أو قليل، فإن لم يكن عندك قوة مال ولا طاقة لك بحمل العيال، فسر إلى معدن الإمام، ليحثو لك من المال إن استطعت أن تحمله، وذلك أيضاً له علامة مع جلى الجبهة وقنى الأنف، وسيرته في الملك بين اللين والعنف، فاصحب الركب المحفوظ المصان الملحوظ، فإنه لا خير في ما تبقى بعده، ولكن الخير أمامه وعنده».
________________________________________
(34)الشيخ محيي الدين بن العربي، عنقاء المغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب، ، ص 67 و69 و70.

[الصفحة - 166]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف