البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إقبال اللاهوري وعلم اجتماع المعرفة

الباحث :  مجيد كافي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  59
السنة :  السنة الخامسة عشر خريف 1431هجـ 2010 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 13 / 2015
عدد زيارات البحث :  1782

إقبال اللاهوري وعلم اجتماع المعرفة

مجيد كافي (*)

يُعتبر الحديث عن موضوع إحياء المعرفة الدينيَّة واحداً من الأبحاث الهامَّة المطروحة في آثار إقبال اللاهوريّ. حاول إقبال، في مسألة إحياء الفكر الدِّينيّ في الإسلام، توضيح أصول الإسلام من خلال العلم والفلسفة الحديثة. وتمسَّك بالفلسفة الغربيَّة لأجـل الوصول إلى الهدف المنشود. فذكر دليلاً عن كانت (Kant) لتوضيح عجز العقل عن معرفة الحقيقة، واستند إلى نظريّة إينشتين النسبيّة لرفض النزعة الماديّة، واستشهد ببركسون لتوضيح فضيلة الإشراق. وبشكلٍ عام كان متأثِّراً بفلسفة هيغل إلى حدودٍ بعيدةٍ.
ممَّا لا شك فيه أنَّ إقبال واحد من أشهر المفكِّرين الدِّينييِّن المعاصرين، حيث أمضى عمراً في إمداد الأمَّة الإسلاميَّة المظلومة بالعلم والمعرفة. بحث إقبال عن حلول جديدة لمشكلات العصر من خلال الإسلام والقرآن، وكان يَعتبر القرآن عاملاً هاماً في التحوُّلات التي شهدها العالم كما أن له تأثيره المعنويّ والروحيّ (1) . كان إقبال شديد التألّم من سيطرة الفكر والفلسفة اليونانيَّة على أذهان علماء الدّين، فعمل وبشجاعة على تحرير الدِّين من سلطة هذه الروح المعوجَّة واعتبر ذلك شرطاً أساساً في تجديد حياة المعرفة الدينيّة.
وعمل على إحياء الفلسفة الإسلامية الدينية مستفيداً من الفلسفة الإسلامية والآراء الفلسفية الحديثة. ومع اعتقاده بتحوّل المعرفة الدينيّة، إلا أنَّه لا يَعتبر الدوام
________________________________________
(*) باحث وكاتب من إيران، ترجمة د. علي الحاج حسن.
(1) راجع، سروش، عبد الكريم، رازدانى وورشنفكرى وديندارى، ص 59 و 60.

[الصفحة - 257]


والثبات مخالفين لأصول الدين، بل كان يَعتبر ذلك شرطاً أساساً للدِّين، لذلك كان يَعتبر التديّن أمراً ممكناً في عصر التكنولوجي (2) .
سنحاول في هذه الدِّراسة الاطلال على أهمّ الموضوعات المطروحة في مجال علم اجتماع المعرفة وذلك في آثار إقبال، مع أنَّنا نشاهد أبحاثاً مفصّلة حول موضوعات متفرِّقة من أبرزها في مجال المجتمع، الظواهر الاجتماعيّة، المعرفة الدينيّة، علاقة الفرد بالمجتمع والأصول الأساس للأمَّة الإسلاميَّة النموذجيَّة.
علم المعرفة
يعتقد إقبال أنَّ حياة الإنسان وحركته التكامليَّة والمعنويّة متوقِّفان على إقامته علاقة وارتباطاً بالواقع المواجِه له، والمعرفة هي الوسيلة الوحيدة لإقامة هكذا ارتباط. وللمعرفة مراتب متنوِّعة. والإدراك الحسيّ واحدٌ من تلك المراتب حيث يصل الإدراك الحسيّ إلى مستوى الكمال من خلال الفهم (3) . وأمَّا الإدراك الحسيّ فلا يُمكنه الوصول إلى الحقيقة الكاملة إلا إذا اقترن بعاملٍ آخر وهو القرآن المعبَّر عنه بـ(القلب) أو (الفؤاد) (4) .
ويُضيف إقبال إلى مصادر المعرفة الثلاث أي الإشراق أو التجربة الداخليّة، التاريخ والطبيعة، ثلاث وسائل معرفيّة أُخرى أي الحسّ، والعقل، والإدراك القلبيّ المطابق لآيات القرآن الكريم. ويَعتقد إقبال بأنَّ الاعتماد على الحقائق الغيبيّة هو إحدى خصائص الفكر الإسلاميّ باعتبار إقباله الشديد على تعاليم الدِّين الإسلاميّ وتأثّره بها. ويَعتبر أنَّ القرآن الكريم قد بيّن آيات الحقيقة من خلال الشمس والقمر وامتداد الظلِّ وتعاقب الليل والنهار واختلاف ألسنة البشر وألوانها وتعاقب أيّام السعادة والشقاء على حياة الناس، وكافَّة نواحي الطبيعة التي تُدرَك كما هي عليه بالحسّ.
يَعتقد إقبال مستلهماً من آيات القرآن الكريم (5) أنَّ الإنسان يُمكنه رسم تصوّر عن الأمور المحيطة به بمعنى إدراك هذه الأمور وإخضاعها. ومن هنا تتخذ
________________________________________
(2) سروش، عبد الكريم، القبض والبسط النظريّ للشريعة، ص 5.
(3) إقبال اللاهوري، محمد، إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 17.
(4) م. ن، ص 20.
(5) الروم، 22ـ 24؛ البقرة، 164؛ آل عمران، 190؛ الأنعام، 99؛ النحل، 79 و...

[الصفحة - 258]


المعرفة البشرية لوناً تصورياً. وبهذه المعرفة التصورية يتمكن الإنسان الاقتراب من مشاهدة الحقيقة والواقع (6) .
يشتمل علم المعرفة عند إقبال على مستوَيين من المعرفة: المعارف التي تحصل عن طريق التجارب الخارجيّة والعلوم الواقعة في دائرة تأثير الزمان والمكان. يَعتقد إقبال كما (كانت) أنّ المعرفة تتحدَّد من خلال المكان والزمان، ويوافقه على أنَّ الزمان والمكان ليسا حقيقتين خارجيَّتين، بل هما حالتان من إبداع أذهاننا لنتمكَّن من إدراك الحقائق. يصل (كانت) من خلال القول بذهنيَّة الزمان والمكان إلى النتيجة التالية وهي: إنَّ جميع معارفنا عبارة عن المظاهر فقط، ويُخالفه إقبال في إمكانيَّة المعرفة من المظاهر فيما يتعلَّق بالأشياء في نفسها. يقول إقبال: ما دام هذا الأمر متعلِّقاً بالمستوى المتعارف للتجربة، فإنَّ رأي (كانت) صحيح، ولكن هل يُمكن اعتبار المستوى المتعارف للتجربة هو المستوى الوحيد المنتِج للمعرفة؟
يُدخل إقبال المستوى الثاني للمعرفة من خلال هذا السؤال ويَعتقد خلافاً (لكانتْ) أنَّ المعرفة لا يُمكن حصرها في مستوىً واحدٍ؛ لأنَّ الزمان والمكان اللذين هما قوالب لكلِّ تجربةٍ عند (كانت)، يمتلكان مفهوماً ثابتاً، بل يتغيَّر هذا المفهوم من خلال زيادة أو تقليل العوامل النفسيَّة. إنَّ هذا الأمر يَجعل المستوى الآخر من التجربة المختلف عن المستوى المتعارف للتجربة المكانيّة ـ الزمانيَّة التي تحدَّث عنها (كانت) ممكناً، حيث يُظهر ماهيّة الواقع كما هو عليه (7) .
يَعتبر إقبال أنّ هذا المستوى من المعرفة التي هي أعلى من المعارف الأخرى، يَقع تحت تأثير التجارب الباطنيَّة، والكشف والشهود أو كما يعبِّر عنها (الأدب الصوفيّ). ويَعتقد بأنَّ للتجربة الداخليّة قيمةً معرفيّةً؛ لأنَّ التجربة الباطنيّة الصوفيّة أسلوب من أساليب تحصيل المعرفة المستقلِّ عن الحواسِّ والتجربة الخارجيّة.
ويؤكِّد إقبال أنَّ الصوفي يصل إلى نوعٍ من المعارف في مراحل الكمال التي
________________________________________
(6) إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 17.
(7) راجع، (نامة فلسفة) رسالة الفلسفة، مقالة كانت، (إقبال وسطوح معرفت) إقبال ومستويات المعرفة، عشرت أنور، خريف 1378.

[الصفحة - 259]


تؤدّي إلى اتِّصاله بالحقيقة المطلقة، أي الباري تعالى، ولا توجَد أيّ معرفة تبيِّن الاتِّصال بهذه المنزلة الرفيعة (8) .
إنَّ عقيدة إقبال هذه والتي تجعل جميع المعارف البشريّة تصدر عن التجربة الخارجيّة المتَّصِلَةِ بالزمان والمكان، ما هي إلا رؤية علم معرفيّة في خصوص (الاعتقاد التاريخيّ). ويَعتقد إقبال بأنّ الإلهام والعلم ليسا نقيضين، بل الإلهام مكمِّل للمعرفة البشريّة في الوصول إلى السعادة الدنيويّة والأخرويّة. ويَعتبر إقبال أنّ الدِّين والعرفان بالإضافة إلى العلم والفلسفة، طرق أربع لاكتساب المعرفة. وعلى هذا الأساس يكون الوحي مصدَراً لقسمٍ من معارف الإنسان.
يُعْتبر علم المعرفة عند إقبال معارضاً للسنّة الفلسفيّة والمعرفيّة التقليديّة وهو بعبارة أخرى معرفة واقعيّة معارضة للمثاليَّة اليونانيّة. فالسنّة الفلسفيّة الأفلاطونيّة تقوم على نفي العالم المادّي على أساس أنّه مظهر لعالم المُثل، وذلك خلافاً للاعتقادات الإسلاميّة القائلة بواقعيّةٍ ما للعالم (9) .
يؤكِّد إقبال أنّ الفكر الإسلاميَّ يؤسِّس لرؤيته على أساس الأمور الذاتيَّة والملموسة، أي المحدودة بحدودٍ معيَّنةٍ، لذلك يجب أن يَبدأ كلُّ تحقيقٍ ودراسة من الذاتيَّات. وهذا يعني أنّ الوجود مقدَّم على الفكر والماهيّة (10) .
يَرفض إقبال اعتبار التعقّل الصرف هو المسؤول عن إيجاد فارقٍ بين الوجود والفكر، ويَعتقد بأنَّ الاستدلال والتعقّل قاصرين عن تعليل التجارب المتعاليَة والوجدانيَّة للنفس، التي هي نوعٌ من التجارب العرفانيّة. يؤيِّد إقبال كما يدافع عن الاتِّحاد بين الفكر والعمل كما هو عليه عند الوجوديِّين والبراغماتيِّين. ويحصل هذا الاتِّحاد عن طريق نشاط النفس، أمَّا التعقّل فلا طريق له إلى هذا النوع من الاتِّحاد؛ لأنَّ طبيعة التعقّل انقساميَّة بالذَّات وليست اتِّحاديّة. فالتعقّل لا يُضفي أيّ قدرةٍ على العلم، والعلم الفاقد للقدرة لا فائدة منه. وأمّا مصدر القدرة، فهو معرفة النفس، ومعرفة النفس تعني الإدراك الحرّ والخلاق المستتر بالقوَّة في كلِّ نفس (11) .
________________________________________
(8) راجع، (در شناخت إقبال) في معرفة إقبال، مجموعة مقالات المؤتمر العالمي لتكريم إقبال اللاهوري، ص 184، وسوف نذكر هذا المصدر لاحقا تحت عنوان مجموعة مقالات.
(9) راجع، (نواى شاعر فردا يا أسرار خودى ورموز بى خودى)، الأسرار الذاتية ورموز نفي الذّات،ص 33.
(10) راجع، مجموعة مقالات، ص 417.
(11) م. ن، ص 418.

[الصفحة - 260]


بناءً على ما تقدَّم يعتقد إقبال أنَّ مجال العرفان والإشراق أعلى من مجال العلم والعقل. ويَعتبره مكمِّلاً للممارسات الفكريَّة والعقليّة عند الإنسان ويقول: صحيح أنَّ العلم والعقل يقرِّباننا إلى الواقع عند مشاهدة وإدراك عالم الطبيعة، أمَّا أقرب الطرق وأدقّها فهي تلك التي تُضفي عمقاً على رؤيتنا، وتزيح الحجب عن القلوب لنصبح من أهل البصيرة (12) .
يَعتقد إقبال بأنَّ العلم يجب أن يكون أداةً ووسيلةً للحفاظ على الحياة وتنظيمها، ويجب أن يكون أيضاً مطلباً لذات البشر وعامل تثبيتٍ لهم. ويجب أن يكون العلم وسيلةً لإحياء الضرورات الاقتصاديَّة والعلميَّة والفنيَّة للبشر، والعلم بمنزلة زاد الحياة الاجتماعيَّة (13) .
ويَعتقد إقبال أنَّ العلم الذي ظهر في الغرب مضرٌّ بسعادة الإنسان، وهو لا يتسم بصفة الكمال. ويؤكِّد إقبال رؤية الفيلسوف الدنماركي سورن كيركغارد (1813-1855) الذي يَعتبر مشكلة العلم الجديد تتمثّل في عجزه عن تعليم (كيفيَّة الحياة) (14) . ويشعر العقل العلميّ عند (كيركغارد) والعقل الروحانيّ عند إقبال بالخسارة؛ لأنَّ الإنسان قد نسيَ الحياة بشكلٍ إنسانيّ بعد وجود العلم الجديد (15) . إنَّ العلم والفنّ والحضارة في نسختها الجديدة تمتص دم أبناء البشر عندما توجه مواعظها عن المساواة والأخوّة. أمَّا العلم الذي يَفتخر به علماء الغرب فهو ليس سوى سيفٍ في يد مجنون (16) . يَعتقد إقبال في علم المعرفة بأنَّ التخلّص من هذه المشكلة يتوقَّف على تلفيق العقل الغربيّ والعشق الشرقيّ في معرفة الحقيقة. ويتوجَّه إقبال نحو العلم الذي يُمكِنه أن يكون نديماً وأنيساً للقلب والإلهام والذي يَعمل كإبراهيم في تكسير أصنام وجوده، العلم الذي تَمتزج فيه تجليَّات الكليم ومشاهدات الحكيم. وبعبارةٍ أُخرى، العلم الذي يَحصل عليه عالم الطبيعة من خلال إدراك الوقائع المشهودة والمحسوسة، سيكون علماً ضعيفَ البصر ما لم يقترن ببصيرة موسى (17) .
لذلك يجب على العلم أن لا يكون مانعاً للإنسان من المجاهدة والمبارزة (18) .
________________________________________
(12) م. ن، ص 278.
(13) (نواى شاعر فردا يا أسرار خودى ورموز بى خودى)، الأسرار الذاتية ورموز نفي الذّات، ص 20
(14) (كليات أشعار فارسي مولانا إقبال لاهورى)، مجموعة الشعر الفارسي لإقبال اللاهوري، ص 274.
(15) راجع، مجموعة مقالات، ص 403.
(16) (كليات أشعار فارسى مولانا إقبال لاهورى)، مجموعة الشعر الفارسي لإقبال اللاهوري، ص 258.
(17) مجموعة مقالات، ص 89.
(18) لمزيد تفصيل حول خصائص العلم الجديد عند إقبال راجع (نواى شاعر فردا يا أسرار خودى ورموز بى خودى)، الأسرار الذاتية ورموز نفي الذّات، ص 61 وما بعدها.

[الصفحة - 261]


المنهج عند إقبال
يُمكن التركيز على ثلاث مسائل في معرفة المنهج عند إقبال:
1 ـ أهميَّة التجربة الخارجيَّة: يَعتقد إقبال بأنّ القرآن الكريم قد جعل الاختبار والتجربة إحدى المراحل الضروريَّة للحياة الروحيَّة عند الإنسان، ويتطلَّع بالسويَّة إلى جميع ساحات التجربة البشرية من حيث الأهميَّة ويَعتبر أنَّ للجميع نصيباً في معرفة الحقيقة والواقع النهائيّ الذي تتجلّى علائمه في الباطن والظاهر (19) . ومن هنا كان يَعتبر المنهج التجربي للعلوم وتقديس الطبيعة من جملة الأمور الإسلاميّة والأساس التي غَفِلَ عنها المسلمون.
2 ـ أهميَّة التجرية الباطنيَّة: يؤكِّد إقبال على التجارب الخارجيَّة ويَعتبر في الوقت عينه أنَّ التجربة الباطنيَّة والمعرفة المعنويَّة نوعٌ من التجربة، وهما كباقي التجارب الأخرى التي تمتلك حق الوجود والاتّباع (20) . يتحدَّث إقبال عن أهميَّة التجربة الدينيّة في المعرفة ويبيِّن أهميَّة الإلهام الذي يَحظى بمنزلة عليا في فلسفته. ولذا يَعتقد أنَّ الفكر والإلهام، وبعبارةٍ أخرى الفكر والشهود، ليسا على طرفي نقيض، وأنَّ مقام التجربة العرفانيَّة من حيث علم المناهج ليس أقلّ من مقام التجارب البشريَّة، لا بل لا يُمكن الشكّ في أهميَّة التجربة العرفانيَّة لمجرَّد أنَّها ليست محسوسةً ولا مشهودةً(21) . ومن هنا فالتجربة الدينيّة حالةٌ من الإحساس والتجربة اللذين هما مظهران للمعرفة. ويَطرح إقبال الإلهام والعشق إلى جانب العقل، والأيام تُثبِتُ أنَّ حرارة العشق تمتلك معرفةً حقيقيّةً وليس من دورٍ للعقل سوى الاطِّلاع. لذلك كانت البصيرة والإلهام علاجاً لآلام الإنسان (22) .
3 ـ رفض العقلانيَّة المحضة: يَعتبر إقبال أنَّ العقلانيَّة المعارِضة للتجربة لا تتناسب مع القرآن الكريم، فالقرآن يتطلَّع بشكلٍ كامل إلى الطبيعة. والعقل لا يتمكَّن بمفرده من هداية الإنسان حتَّى لو امتلك آلاف الأفكار. ومن هنا كانت سعادة وهداية الإنسان خاضعةً لمحبَّة وعشق الله تعالى. ولكنَّ هذا العشق يَمتلك
________________________________________
(19) إقبال اللاهوري، إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 20.
(20) سروش، عبد الكريم، تفرّج صنع، ص 374.
(21) سعيدي غلامرضا، (انديشه هاى إقبال اللاهورى)، أفكار إقبال اللاهوري، ص 182.
(22) مجموعة مقالات، ص 82.

[الصفحة - 262]


تقنيَّات خاصّة وفنوناً مميَّزة بحيث يتمكَّن من هداية الإنسان (23) .
يَعتقد إقبال أنَّ المعرفة الواقعيَّة لحقيقة العالم هي خديعةٌ إذا ما حصلت عن طريق العقل، بل لا يُمكن الوصول بواسطته إلى الحقيقة والهدف (24) . وعندما يصبح المجتمع وحياة الإنسان مهدَّدين من قبل العقل والعقلانية، عند ذلك ينهض جيش العشق للدِّفاع عنه (25) .
الأسرار الذاتيّة والإشارات الناقدة للهويّة
نشأت جميع آراء إقبال من مفهوم (الذّات). طبعاً لا يُمكن إدراك وتقييم أيٍّ من آرائه إلا إذا فهمنا المقصود من (الذّات) التي هي المحور الأساس لأفكاره.
يَعتقد إقبال أنَّ المعرفة الذاتيَّة ومعرفة الذَّات من جملة ما يمتاز به الإنسان، ويعبِّر عنهما بـ (الذَّات). ولا يمكن إدراك الذَّات بالحواسّ، بل يُمكن إدراكها من خلال التجربة الداخليّة والكشف والشهود. تختصُّ فلسفة إقبال بتمامها وضمن إطار شرح الوقائع والظواهر العلميَّة بتوضيح وشرح الصفات والآثار العلميّة التي لا تقبل التغيير والمختصّة بالذّات. وهذا يعني أنَّ إقبال يبذل جهداً كبيراً في توضيح وتفسير وتنظيم هذا المعنى في ظلال الظواهر العلميّة (26) .
إنَّ مفهوم الذَّات هو مفهوم إنسانيّ ـ اجتماعيّ، قد بُيِّنَ في قالب المفاهيم الفلسفيَّة. ومفهوم الذَّات عند إقبال عبارة عن الإحساس وإدراك الشخصيَّة. الرؤية الذاتيّة والتفكير بالذَّات، ومعرفة النفس وإدراكها. طبعاً يوضح هذا الأمر في قالب مفهوم فلسفيّ. وبعبارةٍ أُخرى، استحضر إقبال الذّات في الوهلة الأولى باعتبارها تفكيراً اجتماعيّاً وثوريّاً، ثمَّ بعد ذلك اتَّجه ناحية فلسفته (27) .
يَعتقد إقبال أنَّ الذَّات هي المفهوم المفقود في المجتمعات الإسلاميَّة عموماً والهند بشكلٍ خاصّ. أمَّا المجتمعات الإسلاميَّة التي نسيت نظام الإسلام القِيَميّ وتعلَّقت قلوب أفرادها بالنِّظام القِيَميّ الغربيّ فيجب أن يرجعوا ويعودوا بأنفسهم
________________________________________
(23) (كليات أشعار فارسى مولانا إقبال لاهورى)، مجموعة الشعر الفارسي لإقبال اللاهوري، ص 250.
(24) م. ن، ص 246.
(25) مجموعة مقالات، ص 82.
(26) سعيدي غلامرضا، (انديشه هاى إقبال اللاهورى)، أفكار إقبال اللاهوري، ص 321.
(27) مجموعة مقالات، ص 23.

[الصفحة - 263]


لإحياء النِّظام القِيَميِّ في الإسلام، وهذا هو المفهوم الذي عمل إقبال على إحيائه. إلا أنَّ إحياء هكذا مفهوم إنسانيّ ـ اجتماعيّ غير ممكنٍ من دون الاستعانة بالبيان الفلسفيّ. ومن هنا يُمكن القول إنّ المفهوم المقصود عند إقبال هو مفهوم اجتماعيّ مائة بالمائة. طبعاً هو ليس اجتماعيّاً بمعنى أنّه لا ينظر إلى الفرد، بل جذره يرجع إلى الفرد، لأنَّ الفرد هو واحد من المفاهيم الاجتماعيّة في الإسلام، وما لم تثبت شخصيَّة الذَّات في الفرد لا يظهر المجتمع على صورته الحقيقيَّة والثابتة(28) . أمَّا شرط مقاومة التغرُّب عنده فهو العودة إلى الذَّات، وعدم التغرّب عنها. أمّا كيف يمكن وجدان هذه (الذَّات)؟ فيعتقد إقبال أنّ طريق ذلك هو الصلابة في المعرفة الدينيّة (29) .
أمَّا المنهج الصوفيّ في العالم الإسلامي القائم على أساس (وحدة الوجود) فقد أنكر حقيقة ذاته. إنَّ هذه الرؤية تجعل آثار وظواهر العالم وهميّة وغير حقيقيّة وتحمل الإسلام إلى مستوى وجوب الاعتقاد بالله وبالوجود الثابت والأزليّ، وأنَّ ما وجد في العالم ما هو إلا ضمن سلسلة ترابيّة حصلت بواسطة الفيض. لذلك يُصبح ربُّ النوع أو الوجود قائماً مقام ذات الباري تعالى. لقد ساهمت هذه الرؤية في سوق عددٍ من المسلمين نحو الرفض والنفور من الحركة والحياة، وبالتالي الاتّجاه نحو اللامبالاة. أمَّا الفكر الذي يَعتمد على هذه الرؤية وهذه النظريّة، فإنّه يؤدِّي إلى زوال طاقة البشر تماماً لتصبح الحياة مجرَّد رؤيا لا قيمة فيها لأيِّ سعي وجهاد (30) .
يؤكِّد إقبال على حقيقة وواقعيَّة (الذّات) ويَنتقد هذه الرؤية بشدَّة. ويتمكَّن الإنسان بواسطة الشهود من الوصول إلى حقيقة الذَّات المسلِمة التي هي المحور الأساس لشخصيَّة الإنسان. وتنمو وتتكامل الذَّات من خلال الميول والرغبات على شكل شخصيّةٍ ذات إرادة، وتُلازمها الرغبات والميول المحيطة، لذلك يكون نموّ وتكامل، لا بل ووجود الذَّات، منوطاً بنوعٍ من العلاقة مع الواقع العينيّ والآفاقيّ كحقيقة الوجود والعالم والمجتمع (31) .
________________________________________
(28) م. ن، ص 24.
(29) سروش، عبد الكريم، قصة أرباب معرفت، ص 451.
(30) سعيدي غلامرضا، (انديشه هاى إقبال اللاهورى)، أفكار إقبال اللاهوري، ص 89.
(31) م. ن، ص 99 و 100.

[الصفحة - 264]


إنَّ الذي يؤسِّس لعلم اجتماع المعرفة عند إقبال هو العلاقة بين (الذَّات) و(المجتمع)، وصناعة الذَّات أو أنواع الفكر الذّاتيّ بصورٍ متنوِّعة طبقاً لمختلف الشروط التاريخيّة ـ الاجتماعيّة. بناءً على ذلك فإنَّ علم اجتماع المعرفة عند إقبال يُشير إلى أنَّ ظهور وصناعة أنواع (الذَّات) يخضع لتأثير العوامل الخارجة عن محيط الذّات، أي العوامل الاجتماعيّة. ويعتقد إقبال أنَّ العشق والمحبَّة ضروريَّان لتثبيت الذَّات في الفرد والمجتمع، فالعشق وسيلةٌ لتتمظهر الذَّات بوجودها وتصل إلى الكمال، لذلك يجب على المجتمعات الإسلاميَّة والأشخاص الذين يرغبون في حفظ وتقوية ذواتهم، امتلاك العشق والمحبَّة (32) .
ما هي حقيقة الذّات؟ هل الذَّات من عوارض المادَّة تظهر على شكل إنسانٍ خلال عمليَّة التكامل؟ إذا كان الأمر كذلك تُصبِح الذَّات على شكل صوَر المادّة حيث يؤدِّي انقطاعها عنها إلى أن لا يَبقى لها وجود. يميل الماديّون إلى القول بأنّ المادّة تصل في مسيرتها التكامليّة إلى مرحلةٍ تُصبح فيها خواصّها الفيزيائيّة والكيميائيّة قادرة على تحصيل الوجدان (الشعور أو المعرفة) وعلى امتلاك الحياة. يتَّخذ الموجود الحيّ لنفسه الشكل العضويّ. ويتركَّز الوجدان والشعور والمعرفة في سلسلة أعصاب الموجود العضويّ. وبما أنَّ المادّة الحيّة تمتلك حركة وذهن الموجود العضويّ الذي يتحرَّك في مسيرٍ تكامليّ ويتَّخذ لنفسه صوراً أخرى، عندها تصبح المعرفة ذاتيَّةً له. والسبب في ذلك أنَّ هيكل ذهن الإنسان أعقد وأكمل من ذهن أيِّ حيوانٍ آخر. أمَّا إقبال فيُخالف هذه الرؤية بالكامل، فلو كانت صحيحةً فهذا يعني أن لا حياة أخرى وراء هذه الحياة. ويَعتقد بأنَّ الذَّات ليست الشكل المتكامل للمادّة، بل هي الحقيقة النهائيَّة للعالم، وهي حقيقة تقوم بخلق المادّة لأجل إظهار صفاتها وتجعلها وسيلةً لإظهار وتجلِّي ذاته (33) .
يَعتقد إقبال بأنَّ (الذَّات) تنمو وتتكامل عند اجتماعها بالذاتيَّات الأخرى والمجتمع وليس عند الانزواء والابتعاد عن المجموع؛ لأنَّ الفرد لا يتمكَّن بمفرده
________________________________________
(32) (نواى شاعر فردا يا أسرار خودى ورموز بى خودى)، الأسرار الذاتية ورموز نفي الذّات، وراجع، مجموعة مقالات، ص 30.
(33) م. ن، ص 16، ولمزيد تفصيل راجع، مجموعة مقالات، ص 30 وما بعدها.

[الصفحة - 265]


من تأمين حاجيَّاته، إلا إذا عاش جنباً إلى جنب مع أفراد المجتمع وحاول المواءمة بين ذاته والثقافة الاجتماعيَّة للمجتمع (34) . الذَّات لا تنفكُّ عن المجتمع من وجهة نظر إقبال لا بل تعرف بالصورة الجمعيّة. يَعتبر إقبال بناءً على هذه الرؤية أنّ المجتمع هو ظاهرة عينيَّة تمتاز عن الذَّوات التي تقوم بإيجادها. ويَظهر مدى تأثّر إقبال في هذه الأمور بالتعاليم الدينيَّة والاجتماعيَّة، ويَعتبر المجتمع ليس كلاًّ يتمتّع بوحدةٍ معيَّنةٍ.
تجدر الإشارة إلى أنَّ المجتمع من وجهة نظر إقبال يقوم بتنظيم شكل وصورة الذَّات ولا يتدخَّل في أصل إيجادها. بعبارةٍ أُخرى، فإنَّ عمق التعيّن في الذَّات عبارة عن تأثير المجتمع والعوامل الاجتماعيَّة في تشكيل الذَّات، ولا يصحُّ القولَ بأنَّ المجتمع خالقٌ للذَّات. طبعاً يجب البحث في المجتمع الذي يترك أفضل تأثير على نموِّ وتكامل وحريَّة الذَّات، ويجب قبل دراسة ماهيَّة هكذا مجتمع مثاليّ من وجهة نظر إقبال، إدراك نوع العلاقة الصحيحة والمعقولة بين المجتمع والفرد. فمن جهةٍ يَعتبر بعض المفكِّرين أنَّ نموَّ وتكامل الفرد هو هدفُ التحوُّلات الاجتماعيَّة وتطوير الحياة، والحكومة ما هي إلا وسيلةٌ لهذا التكامل، ومن جهةٍ ثانيةٍ يَعتقد أتباع نظريَّة هيغل أنَّ الدولة عبارة عن مؤسَّسة أعلى من الفرد ولها حقوق أكثر أهميَّة من حقوق الفرد. اختار إقبال الرؤية المعتدِلَة حيث يعتقد بضرورة التحاق كلّ فردٍ بالمجتمع، لا بل عليه أن يقوم بعمليَّة إفناء لذاته وهويَّته في نظام وثقافة الأمَّة، ليتمكَّن الجميع من حيازة قوَّةِ وعَظَمةِ الماضي والمجتمع وضمّها إلى المجتمع، لذلك كان التكامل والنموُّ الفرديّ غير ممكنٍ، إلا إذا عمل الفرد على جذب العوامل المؤهِّلة لتكامله المعنويّ من ثقـافة المجتمع الذي يتعلّق به.
في المقابل ينبغي على المجتمع أن يؤدِّي حقَّ الفرد في نموِّه وتكامله وأن لا يتدخَّل في خصوصيَّات نموِّ وتكامل الفرد، بل يجب أن ينحصر تدخّله في تكامل الفرد في المسائل التي تحمل مصلحةً له (35) .
________________________________________
(34) م. ن، ص 89.
(35) سعيدي غلامرضا، (انديشه هاى إقبال اللاهورى)، أفكار إقبال اللاهوري، ص 107ـ 108.

[الصفحة - 266]


هل نشاطات الذَّات صادرةٌ عنها أو عن المحيط والمجتمع؟ وبعبارةٍ أُخرى هل الذَّات مجبَرة أو مختارة؟ ما هو الدليل الذي يَجعل المجتمع مؤثِّراً في الذَّات وليس خالقاً لها؟ إنّ حقيقة النشاطات الإراديّة للإنسان والتي تصدر عنه في حياته تُشير إلى أنَّ ما يقوم به الإنسان عن إرادة ورؤية متحرِّرٌ من قيود ومحدِّدات العوامل الاجتماعيّة، فالإنسان يتقدَّم ويتطوَّر بشكلٍ مستمرّ، لا بل قد تكون الحريَّة أمراً يستلهمه الإنسان بشكلٍ مباشِر، لذلك فالحريَّة ليست أمراً استدلاليّاً أو استنتاجيّاً وتصوريّاً. صحيح أنَّ الإنسان يَعيش في بيئةٍ قد أُعدَّت له مسبَقاً، ومع ذلك فهو يمتلك القدرة على تغييرها طبق إرادته. وأمَّا إذا واجهت حريَّته إحدى المشكلات في المحيط والمجتمع الذي يَعيش فيه فهو يمتلك القدرة للتصرّف التلقائيّ. وعلى هذا الأساس فالمشكلات والموانع تمتلك خاصيَّة زيادة القدرة الذاتيّة (36) . ومن هنا فالمجتمع يترك أثراً على الذَّات ولا يكون خالقاً لها باعتبار حريّة الإنسان.
تُعتبر (الذات الجمعيّة) واحدةً أخرى من العناصر المفهوميَّة لتفكير إقبال في نظامه الفلسفيّ، حيث يَعتبر ذلك نظاماً ثقافياً مستقلاً يقابل التغرّب عن الذّات الاجتماعيَّة. أمَّا الذَّات الجمعيَّة فهي ذات مشترَكةٌ بين جميع أفراد المجتمع، وعلى هذا الأساس فالذي يؤثِّر على حياتنا ليس ذات الأفراد بل المجتمع. إنَّ السعادة والهدوء الاجتماعيّ في كلِّ مجتمعٍ يتوقَّفان على كمال ونموِّ الذَّات الجمعيّة والاجتماعيَّة لذلك المجتمع. وتحقّق الذَّات الجمعيَّة للمجتمع ممكنٌ في ظلِّ الحفاظ على الثقافة والسُنَن الاجتماعيّة لديه. يَهتمّ إقبال عند دراسة الدور الهام للثقافة والسُنن في الحياة الاجتماعيّة للمجتمع بتاريخ اليهود. فإذا كان اليهود طوال التاريخ أمّةً صغيرةً عانت المشاكل والصعوبات المختلفة، إلا أنَّهم تحمّلوا كلَّ ذلك للحفاظ على بقائهم واستمرارهم. والسبب في ذلك أنَّ اليهود كانوا في جميع مراحل الأزمات والمشاكل أوفياء لثقافتهم وسُنَنِهم. وفي خصوص التعيّن الاجتماعيّ الثقافي والسُننيّ... في إيجاد الذّات الجمعيَّة يَعتقد إقبال بأنَّ أيَّ مجتمعٍ
________________________________________
(36) م. ن، ص 100ـ 101.

[الصفحة - 267]


يحاول إيجاد ثقافة وتقاليد مفيدة في مرحلة الهدوء والاستقرار، يتمكّن عند الأزمات من التمسّك بها للحفاظ على النموّ والتطوّر (37) .
عندما تعمُّ الذَّات الجمعيَّة كافَّة أفراد البشر بالتمام وتصبح جميع النقاط متطابقةً معها، عندها تصل الذَّات الجمعيَّة الصادرة عن المماثلات إلى أعلى مستوياتها. في هذه الحالة تزول فرديَّة الفرد وتتحوَّل الذَّات الجمعيَّة لتُصبح فقداناً للذَّات والهويّة. يقول إقبال عندما نريد أن نبحث عن الذَّات وعن تقوية هويَّة الإنسان، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ هناك أشخاصاً قد ضربوا حصاراً حول أنفسهم بعيداً عن المجتمع، وبدأوا الحياة مستقلِّين. بل يجب أن تفنَى الذَّات الفرديَّة في المجتمع، أيَّ الابتعاد عن الذّات والارتباط بالمجتمع. وعلى هذا الأساس فإنَّ معنى (عدم الذّات) يعني فناء الذَّات في المجتمع الإسلاميّ (38) .
يُساهم التحاق الذَّات الفرديّة بالذّوات الأخرى في تشكيل (الأمَّة). يَعتقد إقبال أنَّ مجرَّد اجتماع عددٍ من الذَّوات لا يؤدِّي إلى وجود الأمّة، بل يحتاج ذلك إلى فكر واحدٍ. وأمَّا أفضل أنواع الفكر وأهمّها هو فكر (النبوّة). وتُقدِّم النبوّة للمجتمع إيماناً ووحدةً وفكراً تؤدِّي إلى تربيته وكماله (39) .
إنَّ رموز التغرُّب عن الذَّات هي نتيجة الفلسفة الذاتيَّة. يَشرح إقبال في رموز التغرّب الذاتيِّ الأصول الأساس والتي هي أساس تشكيل الأمَّة الإسلاميَّة المثاليَّة، ويحدِّد علاقة المسلمين بالمجتمع والدولة الإسلاميّة على أساس قانون القرآن والسنّة. صحيح أنَّ مخاطَبي إقبال من المسلمين إلا أنَّه يعتبر ذلك طريقَ سعادةٍ لجميع البشر. أراد إقبال تقديم تعريف جديدٍ في مقابل الماديّين والشيوعيّين الذين يَعتبرون العالم آلةً لا روح فيها، والبشر مجرّد أفراد مجبورة لا إرادة لها، وأراد أيضاً تقديم رؤيةٍ مطابِقَةٍ لأصالة الحياة وأصالة التجربة وأصالة الحركة مقابل الصوفيِّين الذين يَعتبرون الدنيا مجرَّد وهمٍ وخيال وأنَّ غاية الحياة الفناء في الفناء (40) .
إنَّ المنظومة الشعريَّة التي قدَّمها إقبال مبيِّناً فيها رموز التغرّب عن الذّات هي
________________________________________
(37) م. ن، ص 114ـ 115.
(38) (نواى شاعر فردا يا أسرار خودى ورموز بى خودى)، الأسرار الذاتية ورموز نفي الذّات، ص 91.
(39) ن. ن، ص 102، ولمزيد تفصيل راجع، مجموعة مقالات، ص 91 وما بعدها.
(40) م. ن، ص 84.

[الصفحة - 268]


في الواقع نوعٌ من التأسيس لدولةٍ إسلاميَّة تضمُّ كافَّة المجتمعات البشريَّة. وهي بمثابة خطّة عمليَّةٍ مفصَّلة لإيجاد نظامٍ إسلاميّ ترتسم خطوطه الأساس من خلال الاهتمام بالأيديولوجيا، وتستقي من رسالة الإسلام كل ما يرتبط بأسلوب التعبير، كيفيّة التفكير والأخلاق الاجتماعيّة (41) . بناءً على ما تقدّم يَبحث عن الأسرار الذاتيّة في (ذات الفرد)، أي إنَّه يسعى لإحياء الإحساس بالذّات وبالهويّة الإنسانية عند الشخص المسلم، إلا أنَّ رموز التغرّب عن الذّات ترتبط بمسائل المجتمع الإنسانيّ والذَّات الاجتماعية، وبعبارة أخرى تبحث هذه الرموز عن العلاقة بين الفرد والمجتمع وهويَّة قومٍ ما.
الاجتهادات والمحدِّدات الاجتماعيّة
يُلاحظ الإنسان في مراحل حياته وجود أصولٍ ثابتةٍ وأبديّةٍ للدّين. ويواجه متغيّرات وتحوّلات في الطبيعة والمجتمع. وبما أنَّه لا يتمكَّن من إهمال أيٍّ منهما، فيجب عليه إقامة نوع من التوافق والمواءمة بينهما؛ و(الاجتهاد) عبارة عن المواءمة والتطابق بين الأصل الثابت والأبديّ للدِّين والمتغيِّرات التي تحصل في الحياة الإنسانيّة وفي المجتمع الإنسانيّ. أمَّا فيما يتعلَّق بضرورة الاجتهاد من وجهة نظر إقبال فيُمكن القول إنَّنا لو تركنا أصول الدِّين الأبديّة، فسنُبتلَى بما ابتليَ به الغرب اليوم أي بـ (الحيرة). والمسلمون لا يجب أن يصلوا إلى حالة من الحيرة والضياع. ومن جهةٍ أُخرى يؤدّي غضُّ النظر عن المتغيِّرات والتحوّلات التي تحصل على مستوى الحياة الإنسانيّة والاجتماع الإنسانيّ إلى انحطاط المسلمين وتخلّفهم. يقول إقبال: «الإسلام يطلب الوفاء فيما يتعلَّق بالله، وليس الوفاء للحكومة الاستبداديّة... وأمَّا المجتمع المبنيّ على هكذا تصوّرٍ عن الواقع فيجب أن يعمل على المواءمة في حياته بين مقولتي الأبديّة والتغيير» (42) .
يَعتقد إقبال بأنَّ الإنسان المعاصر يَحتاج إلى عناصر ثلاثة:
1 ـ التفسير الروحانيّ للعالم؛
________________________________________
(41) سعيدي غلامرضا، (انديشه هاى إقبال اللاهورى)، أفكار إقبال اللاهوري، ص 72ـ 73.
(42) إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 169.

[الصفحة - 269]


2 ـ الحريّة الروحيّة للفرد؛
3 ـ الأصول الأساس والدّائمة ذات التأثير العالميّ والتي تبيّن التكامل الاجتماعيّ للإنسان على أساس مبانٍ روحانيّة. لا ينبغي أن يعمَدَ المفكِّرون المسلمون إلى رفض التحوّل والتكامل الاجتماعيّ للإنسان ولا يَنبغي لهم عزل ذلك عن الجذور النفسيّة وأصول ما بعد الطبيعة، أي تلك الأمور التي ابتليَ بها الغرب والتي أدَّت به إلى الحيرة والضياع، بل يَجب عليهم قبول التحوّلات الاجتماعية وتبنِّيها على أساس المباني الروحانيّة (43) .
لعلَّ من أبرز أركان تجديد الفكر الدينيّ عند إقبال، ضرورة الاجتهاد والاحتفاظ ببابه مشرَّعاً. صحيح أنَّ هذا النوع من التفكير يؤدِّي إلى إيجاد حلول للمسائل الفكريّة والفلسفيّة إلى حدودٍ معيَّنة، إلا أنَّه يَظهر غالباً في الأنظمة والقوانين الاجتماعيّة التي هي حلقة اتِّصاله بعلم اجتماع المعرفة. كان إقبال يَعتقد بأنَّ مسائل العالم الإسلاميّ متجدِّدة ومتغيِّرة بسبب ضعف المذاهب الفقهيّة التقليديّة عن مواجهة الأوضاع والأحوال الاجتماعيّة.
هل يُمكننا مواجهة المجموعة الفقهيّة بتوجّهات جديدة بحيث لا يؤدِّي ذلك إلى انهيارها؟ هل يدلُّ تاريخ وبناء الفقه على إمكان تقديم توضيح جديد لأصوله أو لا يدلّ؟ وبعبارةٍ أُخرى، أودُّ أن أطرح السؤال التالي: هل يَقبل الفقه الإسلامي التحوّل والتطوّر؟ يرى إقبال أنَّ روح الإسلام واسعة ولا يجب تصوّر محدوديّتها.
حاول المفكِّرون المسلمون بشكلٍ مستمرّ المطابقة بين معرفتهم الدينيّة والعناصر الثقافيَّة الواردة من شعوبٍ مختلفة في العالم. وكما يقول هورتن (44) فقد ظهر أكثر من مائة نظامٍ كلاميّ في الإسلام منذ العام 185 إلى العام 490 هجريّ، وهذا أكبر شاهد على أنّ الفكر الإسلاميّ يحمل القابليّة للقبض والبسط.
يَعتقد إقبال بأنَّ الأوضح من ذلك روح قبول النظريّات المتنوِّعة من قبل الإسلام وذلك في مجالات الفقه والحقوق (45) . وعلى هذا الأساس فإنَّ التوسّع
________________________________________
(43) مجموعة مقالات، ص 257.
(44) horten، استاذ اللغات السامية في جامعة بون.
(45) إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 87.

[الصفحة - 270]


السياسيّ للإسلام يقضي بضرورة ظهور نظامٍ فقهيّ وحقوقيّ منظَّم ومدوّن في الإسلام. وقد عمل الفقهاء القدماء لتقديم منظومةٍ عظيمةٍ من الأفكار الفقهيّة حيث تجلَّت نهايةً في المذاهب الفقهيّة المعروفة (46) . ويُضيف إقبال قائلاً: منذ أواسط القرن الأوَّل وحتَّى بداية القرن الرابع الهجريّ وُجد في الإسلام أكثرُ من تسعة عشر مذهباً فكريّاً ونظريّة حقوقيّة. وهذا يؤكِّد مقدار سعي المجتهدين القدماء لتقديم إجابات على ضروريّات الحضارة المتحرِّكة نحو التطور. وبعد اتِّساع رقعة الفتوحات الإسلاميّة، وما تلاها من اتِّساع في الرؤى والآفاق، لم يكن أمام الفقهاء الأوائل سوى إلقاء نظرةٍ واسعةٍ على أوضاعهم وأحوالهم ومطالعة الآداب والعادات والتقاليد التي دخلت حظيرة الإسلام (47) .
يُمكن القول بناءً على نظريَّات علم اجتماع العلم والمعرفة بأنَّ التفسيرات والتوضيحات المتنوِّعة التي قدَّمها فقهاء الشريعة (من وجهة نظر إقبال) هي نتيجة إدراكهم وفهمهم المتنوّع للطبيعة والمجتمعات المختلفة وللشعوب والثقافات المتعدّدة. ويَتوافق ادِّعاء إقبال حول تأثير المحيط الاجتماعيّ على فتاوى فقهاء الإسلام، مع مفهوم هيغل التالي وهو أنَّ الأصول الأساس أو المقولات الذهنيَّة تتبدّل وتتحوّل مع مرور الزمان وتعاقب الثقافات.
ويَعتقد إقبال بوجود ثلاثة أسباب أدّت إلى ركود الفقه في القرون الماضية:
1ـ الأوّل أفكار المعتزلة المدافعين عن المواءمة بين العقل والشرع. وقد ساعدت هذه الرؤية في رواج أفكار الذين يَعتقدون بأنّ عاقبةَ الاجتهاد لن تكون سوى الاضطراب والضياع الفكريّ والاجتماعيّ. يُضاف إلى ذلك ما كان يتصوَّره بعضهم من خطرٍ يشكِّله العقل على الحكومة الإسلاميَّة، فمنعوا دخول الأفكار الجديدة في الأنظمة الفقهيَّة واعتبروا أنَّ حفظ الوضع الموجود هو عاملٌ أساس للحفاظ على وحدة المجتمع والدولة الإسلاميّة؛ وذلك لأنَّهم لا يتمكّنون من إدراك كيفيّة وجود الحريّة الفكريَّة في المجتمع مع احتفاظ المجتمع بثباته، فكانوا
________________________________________
(46) م. ن، ص 170.
(47) م. ن، ص 188ـ 189.

[الصفحة - 271]


يظنّون بأنَّ شيوع الأفكار الحرَّة يؤدِّي إلى انهيار الحياة الاجتماعيّة والثقافة والدِّين.
2ـ الأمر الثاني هو التقليد والتصوّف والابتعاد عن النشاطات الاجتماعيّة.
لقد ساهم التصوّف في الغفلة عن أهمِّ تعاليم الإسلام المتعلِّقة بالأمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة. لقد جذب التصوّف الإفراطيّ أفضل وأهمّ الاستعدادات والطاقات في العالم الإسلاميّ، وعلى هذا الأساس تصدَّى المتوسِّطون من الناحيتين الفكريّة والمعنويّة للقيادة الفكريّة والمعنويّة للناس في المسائل الاجتماعيّة، وفي أغلب الأحيان كان الناس يَفتقرون في حياتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة إلى قيادةٍ مفكِّرةٍ. لذلك كانت التبعيّة الكاملة للمذاهب الفقهيّة الأربعة، ودخل مفهوم (التقليد) الفقه الإسلاميّ من دون دليل (48) . ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ إقبال قد وضع المعلول مكان العلّة؛ لأنَّ التصوُّف معلول للفساد الاجتماعيّ والثقافيّ في حياة المسلمين وليس علّة لذلك.
3ـ بعد الهجوم المغوليّ عمل المحافظون من المفكِّرين في العالم الإسلاميّ على منع أيّ نوع من الإبداع الفكريّ، حيث كانوا يَخشون من أن تؤدِّي الإبداعات إلى مزيدٍ من التفسّخ في المجتمع الإسلاميّ. وقد ساهمت هذه الحالة في سيطرة حياةٍ اجتماعيّةٍ واحدةٍ على المجتمع؛ لأنَّ حفظ النِّظام الاجتماعيّ هو المسألة الوحيدة المسيطرة عليهم. ويُضيف إقبال أنَّ هذا الشكل من التعاطي مع الظواهر الاجتماعيَّة، وإن كان يُحافظ على النِّظام الاجتماعيّ، إلا أنَّه يَقف حائلاً أمام النموِّ الداخليّ للأفراد وظهور أفراد مفكِّرين، مع العلم أنّ أكثر ما يَحتاج إليه المجتمع الإسلاميّ هو الإبداع الفكري المتجدِّد أكثر من حاجته للحفاظ على النّظام الاجتماعيّ (49) .
يَعتقد إقبال بأنَّ هذه العوامل والأسباب ساهمت في عجز الفقه المتأخِّر عن تقديم جوهر عقيدة التوحيد بما يَتناسب مع التحوّلات التي تحصل على مستوى الحياة الاجتماعيّة للإنسان على شكل علاقاتٍ وأطرٍ حقوقيَّة ومؤسَّساتٍ اجتماعيَّة فعَّالة ومناسبة. ويؤكِّد بأنَّ التوحيد، الذي هو روح الإسلام، لا يُمكنه أن يكون مجرَّدَ
________________________________________
(48) تحدث إقبال فيما بعد واعتبر أن التقليد يؤدّي إلى مزيد من الاطمئنان في أحكام الدين بالأخص في مرحلة الانحطاط، والتقليد أفضل من الاجتهاد الفردي، واتباع السلف الصالح يوصل السالك بشكل أسرع إلى المقصد.
(49) مجموعة مقالات، ص 254ـ 256.

[الصفحة - 272]


نظامٍ عقائديّ، بل يجب تطبيقه على نمط العلاقات والأطر الحقوقيّة والمؤسّسات الاجتماعيّة. أمّا جوهر التوحيد في الحياة الاجتماعيَّة فهو عبارة عن المساواة والمسؤوليَّة المشترَكة والحريَّة. ويجب تطبيق هذه الأصول الثلاثة في المؤسَّسات الاجتماعيَّة والعلاقات الحقوقيّة، لذلك كانت الدولة في الإسلام عبارة عن محاولة لإخراج وإظهار هذه الأصول العليا على شكل قوى زمانيّة ـ مكانيّة تتحقَّق في منظومة اجتماعيّة معيّنة. وبعبارةٍ أُخرى يجب تعريف مفاهيم الحريّة، المساواة والمسؤوليّة المشتركة في كلِّ عصرٍ بما يتناسب مع ذلك العصر وإظهار مصاديقها في كلِّ عصرٍ على شكل العلاقات والأطر الحقوقيّة والمؤسسات الاجتماعيَّة. يَعتقد إقبال بأنَّ هذا العمل هو أهمّ اجتهاد ومعنىً لكون الدولة إلهيّة في الإسلام، والإسلام عبارة عن سعي لإضفاء الفعليّة على ما هو روحانيّ ومقدّس في النِّظام الاجتماعيّ (50) .
يواجه الإسلام في عصر النهضة الصناعيّة قوىً متعدِّدة ويخضع لتأثيرها حيث أدَّت إلى توسيع المعرفة البشريّة لتشمل جميع المجالات بما لا سابق له، وهذا أمر لا يمكن إنكاره. ولحسن الحظّ فقد التفت المسلمون إلى هذه القضيَّة باعتبار ما يشعر به المسلمون من ضغطٍ تمارسه القوى العالميّة الجديدة؛ ولأنَّ التجربة السياسيَّة للشعوب الأوروبيّة ما زالت ماثلةً في أذهان المسلمين، فقد اهتمّوا شيئاً فشيئاً بالقِيَم والأفكار الاجتماعيَّة. لقد تقدَّمت الدول الإسلاميَّة خطواتٍ كبيرةً إلى الإمام بعد نموِّ الروح الاجتماعيّة وتشكيل المجاميع القانونيّة بالتدريج.
وقد يُساهم انتقال الاجتهاد من فقهاء المذاهب إلى مجمع تقنينٍ إسلاميّ في امتلاك الشعوب آراء ونظريَّات صائبةٍ تكون سهيمةً في مسائل القانون وفي عمليّة التقنين (51) . ومن هنا يُدافع إقبال عن التفسير و(الاجتهاد) تحت عنوان (التحرّر). إنَّ دعوى الجيل المسلم الجديد مواكبةَ التحرّر واتِّباعه، حيث حاولوا تفسير الأصول الحقوقيّة للإسلام في ظلِّ تجاربهم وأوضاع حياتهم الجديدة، هي دعوى صحيحة تماماً (52) . مع العلم أنّ القرآن الكريم لا يقف أمام عمليَّة تفعيل الفكر والنشاط القانونيّ
________________________________________
(50) م. ن، ص 258.
(51) إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 198.
(52) م. ن، ص 192.

[الصفحة - 273]


البشريّ، بل إنَّ سِعَة هذه الأصول تشكِّل دافعاً لإيقاظ الفكر البشريّ (53) . والنتيجة أنَّه ينبغي إحياء قانون الشريعة في ظلِّ الفكر والتجربة الجديدين (54) .
كان إقبال يُدرِك بوضوح أنَّ هذا الاجتهاد الجديد، ونظراً لكونه نوعاً من التحرّر من الأطر والنُظم السالفة، قد سجّل آثاراً خطيرة أيضاً. لذلك يقول في حَلّ هذه المشكلة: يَميل المتحرِّر إلى العمل كقوّةٍ تؤدّي إلى الزوال والتلاشي وإحلال الأفكار العصبيّة والقوميّة مكان النظرة الإنسانيّة الشاملة التي تعلَّمها المسلمون من الدِّين. ويَخشى إقبال من أن تُسيطر حالةٌ من القوميَّة السلبيَّة أو الأفضليَّة العرقيَّة، وبالتالي من توجيه ضربةٍ مهلكةٍ لأصول الإسلام الخالدة. ويُضيف لزوم الاعتبار من الوضع الذي ساد أوروبا حيث استبدلوا الأخلاق المسيحيّة العامّة بالأخلاق القوميّة وذلك في حركة الإصلاح البروتستانتيّ، ويقول بأنَّنا لا نريد أن نسمح للأخلاق القوميّة في هذا البلد وذاك البلد المسلم بأن تحلّ مكان الأخلاق الإسلاميّة العامّة (55) .
لقد كانت هذه الرؤية الجزميَّة والمطلَقة عند إقبال نتيجةَ المرارة التي يَراها في النسبيّة التي عاشتها أوروبا في عصر النهضة. لقد كانت النسبيّة البروتستانتيّة تجربةً زادت من خوفه، حيث لا يَنبغي للمسلمين كما يَعتقد إقبال التخلّي عن مسألة المعرفة الدينيّة لا بل المواءمة بين أبديّة الدّين وتغيير الطبيعة وبالتالي تغيّر الأولويَّات وترك العديد من الأصول الأبديّة والخالدة (56) .
يَعتقد إقبال بأنَّ معرفةً واحدةً وفقهاً واحداً لا يمكنهما أن يكونا موجودين على مدى الأعصار، لأنَّ بنيانهما الوجوديّ أي الطبيعة وظروف المجتمعات والثقافات في حالة تغيّرٍ دائمٍ. ويجب أن يُرافق التحوّل الاجتماعي نوعاً من التجديد الفكريّ في المعرفة الدينية بشكلٍ عام والفقه بشكلٍ خاص. وهذا يعني فهم خصائص المعرفة ضمن ملاحظة التحوّلات والمتغيِّرات التي تحصل فيها في إطار الزمان وفهم مبانيها الوجوديّة في هذه المرحلة من النموّ والتقدّم. إنَّ هذه المسألة هي بعينها مسألة (الاعتقاد التاريخيّ) عند إقبال حيث يَلعب المحيط ،
________________________________________
(53) م. ن، ص 191.
(54) م. ن، ص 179.
(55) مجموعة مقالات، ص 258.
(56) سروش، عبد الكريم، رازدانى، روشنفكرى وديندارى، ص 60.

[الصفحة - 274]


التاريخ، التقاليد والمؤسَّسات الاجتماعيَّة دوراً هاماً في اختلاف المجتمعات من حيث المعرفة الدينيّة والسلوك الاجتماعيّ والثقافيّ. ويَعتقد إقبال بأهميَّة وفعاليَّة الفقه في عمليَّة الحفاظ على المجتمعات الإسلاميّة، والتكامل الاجتماعيّ للإنسان على أساس المعاني الروحانيّة والابتعاد عن الحيرة والضياع.
إحياء المعرفة الدينيّة
يؤكِّد إقبال على ضرورة إحياء الفكر والمعرفة الدينيّة في مقابل مسألة المواءمة والتطابق بين أصول الدِّين الثابتة والدّائمة وبين العالم المتحوّل وتعقيدات الحياة. ويَعتقد بأنَّ التعقيد المتزايد في الحياة المتحرّكة، والتي هي في حال توسّع، أوجد أوضاعاً جديدة تحتاج إلى أسلوب تفكيرٍ جديد، وهذا يَستلزم إعادة قراءة وتفسير الأصول القديمة بأسلوبٍ جديدٍ. وهذه هي الأصول التي تَحتاج إليها الأمّة التي لم تصل في يومٍ من الأيّام إلى مرحلة تذوّق لذَّة النموّ الروحي، بل عاشت فيها من خلال الصورة العلميّة والتعليميّة فقط (57) .
وعلى هذا الأساس كان إحياء المعرفة الدينيَّة عند إقبال عبارة عن تحديد موقف الدِّين في جغرافيا المعرفة الجديدة. أمَّا الشرط الأساس لإحياء المعرفة الدينيَّة عند إقبال فهو تحصيل واكتساب العلوم والمعارف الجديدة. ويَعتقد بأنَّ عمليَّة إحياء الفكر الدينيّ أهمُّ بكثيرٍ من المواءمة مع الظروف الاجتماعيّة العالميّة وتحصيل العلوم. أمَّا إذا جُهِّز العالِمُ الإسلاميّ بالمعرفة والتجربة الجديدين، عند ذلك يُمكنه الاشتغال بمسألة التجديد والإحياء المطلوب، مع العلم أنَّ عمل التجديد أكثر جديَّة من المواءمة مع ظروف الحياة الجديدة (58) .
يتَّضح من خلال عبارات إقبال المتقدِّمة أنَّ المجتمع والعوامل الاجتماعيّة، والتي تتغيّر بتغيّر العلوم والتكنولوجيا، تترك آثاراً كبيرة على المعارف الدينيّة)وتُساهم في تقديم تفسيرٍ وقراءةٍ جديدين لها. طبعاً يُمكننا أن ندرِكَ من خلال عباراته أيضاً أنَّ درجة التعيّن لا تكون على نحو العليّة، بل تُشير فقط إلى تأثير
________________________________________
(57) إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص 185.
(58) م. ن، ص 203.

[الصفحة - 275]


المجتمع والعوامل الاجتماعيّة على المعرفة والفكر الدينيّ. إذاً المعرفة التي تحصل، بالإلهام من الدِّين، تمتلك خصائص اجتماعيّة، أي إنَّها تتجاوز الفرد لتصل إلى المجتمع. وفي التجربة الذاتيَّة تنفذ الحياة والمعرفة الدينيّة بين الأفراد فتظهر واحدةً من خلال المجموع، وهذا هو الطابع الحقيقي للمعرفة الشبيه بالحياة (59) .
يُمكن تقسيم الحياة الدينيَّة من وجهة نظر إقبال إلى ثلاث مراحل. والمراحل الثلاث هذه عبارة عن (الإيمان)، (الفكر) و(الاكتشاف).
في المرحلة الأولى تكون الحياة الدينية كالنظم والانضباط التي يقبلها الفرد أو القوم على صورة أوامر غير مشروطة، ومن دون إدراك عقلانيّ للغرض النهائيّ من إجراء ذاك الأمر. قد يحمل هذا الوضع نتائج كبيرة في التاريخ السياسيّ والاجتماعي لقومٍ ما. ولكن لن يكون له نتائج هامّة على مستوى التطوير الذَّاتيّ والتكامل الفرديّ. يَلي هذه المرحلة من الانقياد الكامل للنُّظم والانضباط مرحلةٌ أخرى يحصل فيها الفهم العقليّ للانضباط والمنشأ النهائي له. يتمُّ في هذه المرحلة الالتفات إلى أساس الحياة الدينيّة في نوعٍ ممّا وراء الطبيعة. ومن أبرز نتائج ذلك اكتشاف رؤية منطقيّة حول العالم الذي يكون الله تعالى جزءاً منه؛ تستبدل ما وراء الطبيعة في المرحلة الثالثة بعلم النفس وتظهر الحياة الدينيّة على شكل أمنية العلاقة المباشرة مع الحقيقة المطلقة. يَحصل الفرد في هذه المرحلة على شخصيّة حرَّة. طبعاً لا يكون ذلك عن طريق التفلّت من قيود وضوابط القانون، بل عن طريق اكتشاف المصدر النهائيّ في أعماق الضمير الذّاتي الخاصّ (60).
يُطلق على الدِّين في المرحلة الثالثة تسمية (الباطنيّة)، وهو اسم غير مقبول ويُفرَض فيه وجود ممثِّل للدّين في الجانب الفكريّ يَعتمد على أفكار عن الحياة والواقع ويُخالف التوجّه التجربيّ الرائج في زماننا. أمَّا الدين الأعلى فهو الذي لا يكون الهدف منه سوى البحث عن حياة أفضل، لا بل هو تجربة، والعلم يعترف بضرورة هذه التجربة قبل علمه بذلك. الدين عبارة عن سعي أصيل لتصفية
________________________________________
(59) م. ن، ص 63.
(60) م. ن، ص 205.

[الصفحة - 276]


الضمير البشريّ، ومن هنا تكون نظراته النقديّة إلى التجربة الذّاتية بنفس المستوى التي تنظر الطبيعة فيه إليه (61) .
إنّ هدف الدّين والمعرفة الدينيّة هو قيام الأمّة الواحدة من شعوبٍ مختلفةٍ وإيجاد وجدان جمعيّ في هذه المجموعة اللامتجانسة. والإسلام لا يتعلّق ببلدٍ أو أرضٍ خاصّة، وهدفه إيجادُ نموذجٍ للمجتمع البشريّ المثالي بحيث يحصل هذا حيث يكون المؤمنون من أصول عرقيّة متنوِّعة، وتتشكّل من هذه المجموعة نواة وأمّة يمتلك أفرادها ضميراً خاصاً.
طبعاً لا يَحصل هذا الأمر بالسهولة التي يتصوَّرها بعضهم، وقد وُفِّق الإسلام من خلال نُظمه الخاصّة إلى إيجاد شيءٍ شبيهٍ بالوجدان الجمعيّ في هذه المجموعة اللامتجانسة. لا بدّ في تكامل هكذا مجتمع من وجود قِيَم حياتيّة خاصّة حتَّى في عدم إمكانيّة التغير ـ الذي لا يحمل مضاراً من الناحية الاجتماعيّة بالأخص في الجوانب المتعلِّقة بالأكل والشرب والطهارة والنجاسة ـ وهذا يُضفي روحانيَّةً خاصةً على هكذا اجتماع (62) .
يتحدّث إقبال حول خطأ هذا الفرض أيْ دور الدِّين في أمور الدنيا عموماً والسياسة خصوصاً حيث يكون فكر الدولة غالباً في النِّظام الإسلاميّ وتكون له القيادة على جميع الأفكار الأخرى المندرجة تحت هذا النِّظام.
صحيحٌ أنَّ الإسلام يُجيز الفصل بين الدِّين والسياسة في النِّظام الدّيني ـ السياسيّ. ولكن يجب الالتفات إلى أنَّ الدِّين والدنيا ليسا جانبين منفصلين أحدهما عن الآخر. فشكل وحقيقة كلِّ عملٍٍ مهما كان متعلقاً بالدنيا يرتبط بالفكر الذي يحمله العامل. فالعمل يصبح دنيوياً وغير مقدَّس عندما نأتي به بقصد الانفصال والابتعاد عن الإطار اللامحدود للحياة الموجودة في ما وراء ذلك. وإذا كان الباعث على هذا العمل هو ذلك العالم كان عملاً دينيَّاً وروحانيّاً. في الإسلام حقيقة واحدة، فإذا نظرنا إليه من بُعدٍ واحد فهو نظام ديني، وإذا نظرنا إليه من بُعدٍ آخر، فهو نظام دولة. ليس من الصحيح القول بأنَّ
________________________________________
(61) م. ن، ص 206.
(62) م. ن، ص191.

[الصفحة - 277]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف