البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العقل والإيمان الدينيّ

الباحث :  محمد محمد رضائي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  66
السنة :  السنة السابعة عشر صيف 1433 هجـ 2012 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 16 / 2015
عدد زيارات البحث :  4197

العقل والإيمان الدينيّ

محمد محمد رضائي(*)

تمهيد
من أهمّ المسائل التي تعتني بها فلسفة الدين, مسألة علاقة الإيمان بالعقل. فالعديد من التساؤلات المهمَّة تعالج ضمن هذا العنوان ومنها:
هل أنّ الاعتقاد الدينيّ أمر عقليّ أم أنّ الإيمان من حيث الأساس نشاط مناقض للعقل أو على الأقل غير عقليّ؟ ولو فرض عجزنا عن إثبات مسائل الاعتقاد الدينيّ بواسطة العقل, فهل يكون القبول بها أمراً عقلانيّاً؟ وعلى سبيل المثال, لو لم يكن باستطاعتنا إقامة أيِّ دليلٍ عقليٍّ على وجود الله تعالى, فهل يكون الإيمان بوجود الله عقلانيّاً؟
هناك رأيان متناقضان ومتعارضان في العالم المسيحيّ بخصوص علاقة الإيمان بالعقل:
1- الرأي الأوّل يرى أنّ الإيمان أو بعبارةٍ أُخرى المعتقدات الإيمانيّة تنسجم مع العقل. فعلى سبيل المثال, الإيمان بالله ينسجم مع العقل ويُطلقون على هذا الرأي المذهب العقليّ.
2- الرأي الثاني يرى أنّ الإيمان أو بعبارةٍ أُخرى المعتقدات الدينيّة لا تنسجم مع العقل ويُطلقون عليه المذهب الإيمانيّ.
________________________________________
(*) باحث وأستاذ جامعي، من إيران، ترجمة صالح البدراوي.

[الصفحة - 263]


سوف نتعرّض بداية لتوضيحٍ إجمالي لهذين الرأيين. ونودّ الإشارة إلى أنَّ هذه الآراء تنقسم بدورها إلى فروع أخرى، وسنشير إجمالاً إلى بعض منها. وفي الختام سنتطرق إلى رأي الإسلام بهذا الخصوص.
النظريّة العقليّة
يتّجه الكثير من المفكِّرين والمتكلِّمين والفلاسفة في العالم الغربيِّ إلى تبنّي نظريّة الانسجام بين العقل والإيمان. ومن هؤلاء توماس اكويناس (توما الأكويني) (1224ـ 1274), وفلاسفة مدرسة ديكارت (Cartesian School), وجان لاك (1632ـ 1704), وايمانويل كانت (1724ـ 1804), ووليام كليفورد (1845-1879)، وريتشارد سوين برن (1934ـ )؛ ولكنّهم مع ذلك يختلفون فيما بينهم في حدود هذا الانسجام. فيرى بعضهم وجوب الإيمان بالقواعد الأساسيّة للديانة المسيحيّة. وبعضهم الآخر يرى أنّ جميع التعاليم الدينيّة تنسجم مع العقل. وسنشير في هذه المقالة إلى آراء بعض منهم. كما أنّ المراد بالعقل هنا هو المعقول أو البرهان العقلي, والمراد بالإيمان, القبول والتسليم المقترن بالاطمئنان بالشيء.
نظريّة توماس اكويناس (توما الأكويني)
يُعتبر توما الأكويني أحد أبرز المتكلّمين والفلاسفة المسيحيّين ويرى: أنّ العقل ينسجم مع الدين والإيمان بشكل كامل تقريباً. فمن المعاني المركوزة لدى الإنسان الغربيّ في القرن الثالث عشر مقولة إنّ الفيلسوف شخص لا دين له؛ بمعنى أنّ الفيلسوف بما أنّه ذلك الشخص المولود قبل السيّد المسيح(ع), فلم يكن باستطاعته الاطِّلاع على حقيقة المسيحيّ, وهذا ما كان عليه حال أفلاطون وأرسطو؛ وبناء على ذلك، يُعدّ أرسطو ممن لا دين له؛ وإن كان هذا لا يمنع من بعض الاستثناءات أيضاً؛ ومن هنا, عندما كان ينطق أحد المتكلّمين بكلمة فيلسوف فإنّه يعني بذلك عادةً شخصاً غير مسيحيّ سخّر نفسه
________________________________________

[الصفحة - 264]


يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القدللدّراسة في مجال الفلسفة فحسب. كما لا يتبادر إلى أذهانهم إمكانيّة أن يكون الإنسان فيلسوفاً وفي نفس الوقت يكون قدّيساً(1) . أمَّا بالنسبة لتوما الأكويني فقد اعتبر أنّ آراء أرسطو وأفكاره الفلسفيّة تنسجم مع المسيحيّة، وبعبارةٍ أُخرى أنّه عمّد أرسطو بغسل التعميد(2) . ولم يكن يتصوَّر على الإطلاق أنّ بوسع أحد أن يجد أيّ تناقض بين الأهداف المنشودة من الدّراسات والأبحاث الفلسفيّة والأهداف المنشودة من الأبحاث الكلاميّة.
ويعتقد أنّ الهدف النهائي لكليهما واحد. فلو كانت معرفة الله تعالى هي أعلى قمّة يمكن أن يصل إليها العقل البشريّ, فهناك انسجام وتوافق بين تعاليم معلّم الحقيقة المسيحيّة وتعاليم الفيلسوف. وعلى مستوى المعرفة الطبيعيّة, يُعدّ الفيلسوف متكلِّماً(3) .
ويرى توما, أنّ الاسم الحقيقيّ للحكمة, هو عيسى المسيح؛ وبناء على ذلك, فإنَّ عيسى هو الحقيقة. وماذا يقول عيسى نفسه بهذا الخصوص؟ جواب توما عن هذا التساؤل على النحو التالي:
بناء على ما قاله عيسى, فالحكمة الإلهيّة تشهد بأنه ذو جسم إستعاري؛ جاء إلى هذا العالم ليكشف عن الحقيقة: «أنا ما ولدت وأتيت العالم إلا لأشهد للحق» (4) .
ويُثبت الفيلسوف الأعظم, أنّ الفلسفة الأولى هي علم الحقيقة؛ ولكن ليس أيّة حقيقة كانت؛ بل الحقيقة التي هي مصدر كلّ الحقائق؛ أي الحقيقة التي تعود للمبدأ الأوّل وهو مبدأ جميع الموجودات.
ومن البديهي أنّ الحقيقة العائدة لهذا المبدأ هي مصدر جميع الحقائق؛ لأنّ الأشياء لها في الحقيقة نفس الوضع والترتيب الذي لها في عالم الوجود(5) .
ويطرح الأكويني موضوعاً آخر بهذا الخصوص وهو وجود التعليم المقدّس. التعليم المقدّس من التعاليم والأوامر ومعلِّمها الله تعالى. لا شك في أنّ الكتاب المقدّس يليق بهذا العنوان؛ لأنّه يتضمَّن كلام الله تعالى بعينه.
إذاً, هل كان من الضروري أن يبلّغ الله تعالى الناس مجموعة من التعاليم عن طريق الوحي؟ يرى توماس أنّه بالإضافة للعلوم الفلسفيَّة المتولِّدة من العقل الإنسانيّ,
________________________________________
(1)- تشيلسون, مبانى فلسفة مسيحيت، ص 24, ترجمة والسيد محمود الموسوي, قم, دار نشر بوستان كتاب, 1375.
(2)- المصدر نفسه، ص 27 .
(3)- المصدر نفسه، ص 35.
(4)- يوحنا، 18: 37.
(5)- تشيلسون، مبانى فلسفة مسيحيت، مصدر السابق.

[الصفحة - 265]


فإنّ يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القدوجود عِلْمٍ آخر مُلهَم من قِبَل الله تعالى ضروريٌّ لفلاح الانسان. ولهذا اختار الله تعالى بإرادته أن يجعل الانسان سعيداً. ويصل في استنتاجه من هذا الكلام إلى أنّ الهدف النهائيّ للإنسان هو اللقاء السعيد والحياة الأبديّة مع الله(6) .
ويرى أيضاّ أنّ أيّ إنسان لن يفلح أبداً إلا إذا عرف هدفه النهائيّ وهو الله تعالى. ففلاح الإنسان الذي يعني التقرّب إلى الله تعالى إنّما يرتبط بمعرفته بالله الذي لا يتحقّق عن طريق الوحي فحسب, بل يتحقّق كذلك عن طريق العقل(7) .
كما يطرح توما سؤالاً آخر مفاده هل باستطاعة الأبحاث الفلسفيَّة أن تقدّم معرفةً عن الحقائق بخصوص الله, أو بعبارةٍ أُخرى إذا ترك الله الناس وشأنهم, فكم يفلح منهم في الحصول على معرفةٍ من هذا النوع؟ إجابة توما على النحو التالي:
الحقائق عن الله, وبالشكل الذي يستطيع العقل أن يدركها, يمكن معرفتها بواسطة عددٍ قليلٍ من الأفراد فقط؛ وذلك بعد فترةٍ طويلةٍ من الزمن وبكثيرٍ من الأخطاء؛ ولهذا السبب يقول توما: من أجل المزيد من الفلاح والاطمئنان للإنسان من الضروريّ أن يتعلّم الانسان الحقائق الإلهيّة عن طريق الوحي؛ وبناء على ذلك, بالإضافة للعلوم الفلسفيّة التي يقيّمها العقل ويدرسها, من الضروريّ أن يُصار الى التعليم المقدّس عن طريق الوحي؛ ذلك أنّ الناس يتوصَّلون إلى حقائق منجية عن الله عن طريق الإيمان بصورة أسرع منه عن طريق العقل الطبيعيّ. ولو كان الناس مضطّرين للحصول على هذه الحقائق عن طريق الدراسة الفلسفيّة, فسيحرم الكثير منهم من تلك الحقائق؛ وعليه فالإيمان أفضل من العقل لتحقّق اليقين وبخاصة في المواضيع الإلهيّة. والدليل على هذا الأمر, هو الأخطاء والتناقضات التي ارتكبها الفلاسفة في سعيهم للحصول على معرفة الله تعالى عن طريق العقل ومن دون الاستعانة بالوحي(8) .
كما يؤمن توما أنّ الموضوع الواحد يُمكن ان يُدرس من زوايا متعدّدة. فالفيلسوف يتناول مسألة الله عن طريق العقل، والمتكلِّم يدرك نفس الموضوع عن طريق نور الوحي الإلهيّ، مثلما يدرس المنجّم والفيزيائيّ الظاهرة الواحدة
________________________________________
(6)- المصدر نفسه، ص 41.
(7)- المصدر نفسه، ص 42.
(8)- المصدر نفسه، ص 44.

[الصفحة - 266]


كالخسوف مثلاً؛ فالفيزيائيِّ يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القديدرسها عن طريق المشاهدة المباشرة والمنجّم عن طريق البرهان الرياضيّ(9) .
وفيما يتعلَّق بعلاقة التقدّم والتأخّر بين الفلسفة والتعليم المقدّس يرى توما أنّ التعليم المقدَّس يَستخدم العلوم الأخرى ويسخِّرها لحسابه ويجعلها في خدمته, وبعبارةٍ أكثر صراحة, إنّ العلوم الأخرى هي خادمة لهذا العلم، «الحكمة أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة »(10) . وبناء على ذلك, فالتعليم المقدّس ليس مبنياً على العلوم الفلسفيّة بمعنى أنّه لا يأخذ أصوله منها. والتعليم المقدّس ليس رهيناً فيما يُعرف أو يُتعلّم بالعلوم الفلسفيّة. التعليم المقدَّس يأخذ من هذه العلوم أسلوب توضيح موضوعاته, وبعبارةٍ أُخرى يأخذ منها كلَّ ما يسهِّل فهم تعاليمه بشكل أفضل والواقع هو كذلك؛ ومن هنا, فالتعليم المقدَّس يأتي بالمرتبة الأولى من حيث الأهميّة للمتكلِّم ويلجأ للأساليب والمفاهيم الفلسفيّة بغرض توضيح معنى تعاليمه بشكلٍ أفضل(11) . وعندما يُنكر المخالفون للتعليم المقدّس الذين لا يؤمنون إطلاقاً بالوحي الإلهيّ بعضاً من أمور الإيمان أو مضامينه الضروريّة, ففي هذه الحالة يعلم المتكلِّم علم اليقين بأنّ الشخص المخالف مخطئ؛ لأنّه يخالف الوحي الإلهيِّ الذي يمثِّل التعاليم التي لا تقبل الخطأ. ومن ناحيةٍ أُخرى, لا يستطيع المتكلِّم أن يُقيم الدليل على الفيلسوف الذي يستنتج براهينه من العقل, مستفيداً بذلك من حقيقة الإيمان. العمل الوحيد الذي يمكن أن يقوم به المتكلِّم هو أن يرفض الاستخدام الخاطئ للعقل مستفيداً بذلك من العقل نفسه. وبعبارةٍ أُخرى, فضلاً عن أنّ المتكلِّم مطمئن لحقيقة التعليم المقدَّس, يجب عليه أن يُبرهن كما لو أنّه الفيلسوف بعينه(12) .
نقد وتحليل
توما هو أحد أكبر المتكلِّمين والفلاسفة المسيحيّين العقليّين ممّن لعب دوراً كبيراً في التبيين العقلانيّ للتعاليم المسيحيّة, ولكنّه مع ذلك, يبدو أنّه وقع في بعض الأخطاء في آرائه. فهو في مسألة تقدّم أو تأخّر
________________________________________
(9)- المصدر نفسه، ص 46.
(10)- أمثال سليمان 9 : 3.
(11)- تشيلسون، مبانى فلسفة مسيحيت، مصدر سابق، ص 65.
(12)- المصدر نفسه، ص 66.

[الصفحة - 267]


التعليم المقدَّس على العلوم الفلسفيّة يرى أنّ التعليم يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القدالمقدَّس غير مبني على أيِّ قاعدةٍ من القواعد الفلسفيّة. هذا الرأي هو تعبيرٌ آخر عن المذهب الإيمانيّ إذ يجب علينا أن نؤمن أولاً بتعاليم الكتاب المقدّس لكي نفهمه. وما يقوله توما: «التعليم المقدَّس ضروريٌّ لسعادة الانسان » هو بنفسه حكم عقلي, كما أنّ مقولة «يجب علينا اتباع تعاليم الله؛ لأنّ الله هو الكمال المطلق وهو خالق الانسان واتباع الكمال المطلق أمر مطلوب », هو حكمٌ عقليٌّ؛ وبناء على ذلك, لا يمكن الدِّفاع عن عقيدة توما القائلة إنّ التعليم المقدّس أو الأمور الإيمانيَّة غير مبنيّة على أيِّ قاعدةٍ فلسفيّةٍ وعقليّةٍ. ويبدو أيضاً أنّ قول توما: «لو أنّ الله ترك الناس وشأنهم, فإنّ قلّةً منهم يستطيعون الحصول على الحقائق الكاملة للسعادة » لا يخلو من ملاحظة. فلو أنّ بعض الأمور الإيمانيّة أو التعليم المقدّس كأن أرقى من مستوى العقل, فلن يحصل عليه العقل بسهولة, وهذا ما يعتقده توما نفسه من أنَّ التثليث أمر يتعلَّق بالإيمان المسيحيّ, ولن يستطيع العقل أن يحصل عليه أبداً؛ ومن هنا يظهر خطأ مقولته, إذ بناء عليه لن يكون بإمكان العقل أن يصل إلى كافة المعتقدات الإيمانيّة.
إيمانويل كَنْت
كَنْت, هو رمز آخر لكبار الفلاسفة الغربيّين الذي عدّه بعض المفكِّرين في عداد القائلين بقيام التوافق الكامل بين العقل والدين. وسنتطرق الآن إلى توضيح بعض آراء كَنْت بخصوص العلاقة بين العقل والدين بصورة إجماليّة.
من خلال تقسيمه للعقل إلى نظريٍّ وعمليّ, يرى كَنْت أنّه فيما يتعلَّق بالعقل النظريّ, بما أنّ العقل النظريَّ يمتلك جملةً من المقولات والمفاهيم التي يمكن الاستفادة منها في مجال التجربة فقط, فهو عاجز تماماً عن إثبات ونفي الأمور الميتافيزيقيّة (ما وراء الطبيعة)؛ ومن هنا, فإنّ كَنْت (لا أدريّ) في دائرة العقل النظريّ. فهو يرى أنّ الإنسان عاجز عن إثبات أو نفي وجود الله وصفاته والنفس وكلُّ أمرٍ غير تجريبيّ. فالإنسان غير قادر على إقامة الدليل على وجود المذكورات أو
________________________________________

[الصفحة - 268]


عدم وجودها؛ ذلك أنَّ الوجود والعدم يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القدمن جملة مقولات العقل التي لها دور فاعل في حقل التجربة فحسب. فلو أطلق العقل النظريّ مفاهيمه من قبيل الوجود والعدم على الأمور غير التجريبيّة, فسوف يُقحم نفسه في المغالطة؛ ولكنّه في مجال العقل العمليِّ يرى أنّ العقل العمليّ له القدرة على إثبات وجود الله والنفس وخلودها, كما ألّف كتاباً عن الدّين سمّاه الدّين في دائرة العقل المجرَّد ورأيه في هذا الكتاب يقوم على وجود التوافق الكامل بين العقل العمليّ والدّين.
وانطلاقاً من أنّ كَنْت ينفي أيّ معرفة نظريّة بخصوص الله تعالى, فليس بمقدوره أن يقبل بأيّ إلهيَّات عقليّة سوى الإلهيّات القائمة على الأخلاق(13) . كما يقول إنّه ليس بوسعنا أن تكون لنا أيّة واجبات تجاه الله(14) .
يقول كَنْت بالاستقلال الذاتيّ للأخلاق، ويعتقد بأنَّنا ندرك الله عن طريق الأخلاق والعقل العمليّ فقط؛ وحتَّى قبل الإذعان بربِّ الإنجيل يجب أن نقارنه بنظريَّة الكمال الأخلاقيّ أو أصولنا الأخلاقيَّة(15) ؛ وبناء على ذلك, فنحن في الواقع لسنا بحاجة إلى أن ننظر في الدّين لمعرفة القانون الأخلاقيّ أو بهدف إطاعة القانون. فحريّة الانسان واستقلاله لا يمكن أن تقوم على أيِّ شيء غير العقل نفسه. فلو اعتبرنا أنّ الأخلاق تعني التسليم والإخلاص لإرادة الله, فقد أصبحنا بذلك في المعنى الآخر للإرادة؛ بمعنى أن نجعل الله تعالى في مقام المثيب والمعاقب بعد القانون الأخلاقيّ, ونكون قد أخذنا بقاعدة الاحتياط وهدفنا من إطاعة القانون الأخلاقيّ هو الخوف من العقوبة والطمع بالثواب وهذا العمل يقضي على قيمنا الأخلاقيّة(16) ؛ لأنّ القانون برأي كَنْت, إنّما يكون ذا قيمة أخلاقيّة عندما نكون نحن الواضعين له. وتدّعي الأديان التاريخيَّة أنّ الكتب المقدّسة هي المصدر الأساسيّ للحقيقة الدينيّة ويجب أن يخضع الانسان لذلك. يقول كَنْت:
«بما أنّ الهدف الوحيد لتلاوة الكتب المقدَّسة, هو إصلاح الإنسان, إذن يجب تفسير الكتاب المقدّس وفقاً للقانون الأخلاقيّ وليس العكس »(17) .
نحن ننظر إلى مضامين الكتاب المقدّس على أنّها وحي صادق عندما تتمكَّن تعاليمه
________________________________________
(13)- Kant ,Immanuel, The critique of Practical Reason , Tr , Abbott,T,k,pp.289-361,In , Great Book Of the Western world , Eds , Hutchins , R.M Chicago… , Encyclopedia Britannica INC, VOL,42, 1952.
(14)- Sulivan , R.J , Immanuel Kant,s Moral theory , New York, Cambridge university press، p:262, 1989.
(15)- Kant ….. . Religion within the Limits of Reason Alone, tr, with an Introduction and notes by Greene , TM , Hudsin . H.H. New York . Harper torchbooks the cloister Library, 1960.
(16)- Sulivan , R.J ,: 263.
(17)- Kant ….. . Religion within the Limits of Reason Alone, tr, with an Introduction and notes by Greene , TM , Hudsin . H.H. New York . Harper torchbooks the cloister Library, 1960.

[الصفحة - 269]


يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القدالأخلاقيَّة من التوافق مع القواعد التي سبق وأن عرفنا صحّتها بناء على أساس أدلّة عقلانيّة فحسب. وهذا يعني أنّه يجب علينا أن نفسِّر الكتاب المقدَّس تفسيراً رمزياً في الغالب, وليس تفسيراً لغوياً ولفظياً(18) . وبناء على ذلك, فإنّنا نعتدّ بعقلنا العمليّ على أساس الاعتقاد والعمل الدينيّ فقط. وفي هذه الحالة يجب أن تقتصر المدعيات الدينيّة على تلك التي تنسجم مع أدلّتنا الأخلاقيّة في نطاق العقل المجرَّد(19) . حتّى أنه يجب عليّ في البداية أن أعرف الشيء المكلّف به قبل أن أتمكّن من قبوله بصورة أمرٍ إلهيّ؛ ومن هنا, فالأخلاق ليست بحاجة للدّين أبداً, بل تكتفي بنعمة العقل العمليّ المحض(20) ؛ ولكن لمّا كان جعل المدعيَات الأخلاقيّة الإلزاميّة من المحسوسات أمراً صعباً بدون تصوّر الله تعالى وإرادته, نستطيع بواسطة العقل أن نؤمن فقط أنّه لكي نصبح متدينين ولدينا تكليف أخلاقي معيّن, يجب أن ننظر الى جميع تكاليفنا وكأنّها أوامر الله وأنّنا نقوم بهذا العمل بسبب الروح وتقوية نوايانا وعزمنا الأخلاقيّ(21) . وبناء على ذلك, فالخصائص الأساسيّة للدّين الأخلاقيّ, ليست في العقائد القطعيّة والمناسك الدينيّة, بل في الرغبة القلبيّة لأداء جميع التكاليف الإنسانيّة على شكل أوامر إلهيّة(22) .
نقد وتحليل
1- لقد توصَّل كَنْت إلى هذه النتائج بناء على أُسس قانونه الفلسفيّ. ومن الطبيعيّ أنَّ أي ملاحظة أو نقد لأُسسه تلك, يجعل قانونه الفلسفيّ موضعاً للنقد والملاحظة. ومن أُسس قانونه الأخلاقيّ مقولة إنّ طاعة الانسان لأوامر الله أمر لا ينسجم مع حريَّة الانسان. وعقيدةٌ كهذه ليست صحيحةً. فلو كان الله موجوداً عاقلاً غير متناهٍ كما يقول كَنْت بذلك, ففي تلك الحالة لو توصَّل العقل البشريّ مختاراً إلى النتيجة القائلة إنّ إطاعة الأحكام الإلهيّة أمر مطلوب للإنسان, فهذه التبعيّة تنسجم مع حريَّة الإنسان. ولذا فإنّ طاعة أحكام الله أمر ينسجم بشكلٍ كاملٍ مع حريَّة الإنسان.
2-
________________________________________
(18)- المصدر نفسه، ص 95.
(19)- المصدر نفسه، ص90.
(20)- المصدر نفسه، ص3.
(21)- المصدر نفسه، ص 142.
(22)- محمد رضايي ، محمد ، تبيين ونقد فلسفه اخلاق كانت، ص ، 268، قم، بوستان كتاب، 1379ش.

[الصفحة - 270]


يؤمن كَنْت أنّ جوهر الدّين هو في الأخلاق؛ ولكن لا تستوجب هذه العقيدة إنكار العبادات والمناسك الدينيَّة؛ لأنّها فضلاً عن كونها لا تشكِّل مانعاً أمام الوصول إلى نيل الأهداف الأخلاقيَّة, فإنَّها تعتبر من جملة الأساليب والطرق لتحقيق أكثر ما يمكن من الأهداف الأخلاقيّة.
لو كان نيل الكمال الأخلاقيّ أو القداسة أمراً لازماً وضرورياً برأي كَنْت, ولو كانت الرغبات والميول الحسيّة تقف مانعاً أمام الوصول إلى القداسة, فلا بدّ من البحث عن سبيلٍ ما للتغلّب عليها ما أمكن. إنّ عدم اقتراح مثل هذا السبيل يمثِّل النقص الموجود في القانون الأخلاقيّ لكَنْت؛ وأمَّا الدِّين, فإنّه يقترح سبلاً متعددةً على شكل مناسك من أجل تحقيق الأهداف الأخلاقيّة والتغلّب على الميول الماديّة أو تقويمها, فعندما نقوم بأدائها تتصاعد فينا حالة التغلّب على الميول والأهواء.
3- للدّين أبعاده وجوانبه المتعدّدة، والبعد الأخلاقيّ هو أحد أبعاده، وأمّا البعد الآخر فهو البعد المعرفيّ. فلا ينبغي لنا أن نحرم أنفسنا من البُعد المعرفيّ وكذا من سائر الأبعاد الأخرى. ولو أنَّ الربّ الخيّر والعقل اللامتناهي أنزل جملةً من القوانين والتعاليم لهداية الناس ونيلهم للخير الأفضل أو الكمال المطلق في إطار الدّين عن طريق الوحي, ففي تلك الحالة, يجب عليهم أن يتعلَّموا لغة هذا الدّين ليفهموا قوانينه وتعاليمه ويطبِّقوها عمليّاً بهدف الحصول على المزيد من الخير الأفضل؛ لأنّ أياً من تلك القوانين لم يصدر جزافاً؛ ومن هنا, لا يحقُّ لنا أن نتّخِذَ من أحد أبعاد الدين قطب الرحى ونفسر البقيّة تفسيراً رمزيّاً وفقاً له، أو أن نجعلَ عقلنا المتناهي محوراً وعلى أساسه نقبل بعض الأوامر ونكفر ببعضها الآخر. ولو قمنا بذلك فإنّنا نكون قد اتّخذنا عقلنا المتناهي أساساً ومحوراً وأهملنا العقل اللامتناهي وهذا الأمر ليس صحيحاً؛ وبناء على ذلك ليس من الصحيح أن نفسِّر الدين في إطار الأخلاق تفسيراً رمزياً أو أن نسيء إلى بعض التكاليف.
________________________________________

[الصفحة - 271]


المذهب الإيمانيّ
المذهب الإيماني, عبارة عن موقف يرى أنَّ العقل العينيّ غير مناسب للإيمان الدينيّ, وبعبارةٍ أخرى, هذه النظريّة لا تتبنّى مقولة إخضاع القوانين ونُظُم المعتقدات الدينيّة للتقييم العقليّ. فالإيمان ليس بحاجة للعقل لكي يفسّر نفسه ويرى أنّ السعي من أجل تطبيق واستخدام المقولات العقليّة للدّين أمراً غير مجدٍ تماماً. الإيمان, يصنع تفسيره ومعياره الخاص به في باب التقييم الداخليّ. وهناك قراءتان للمذهب الإيمانيّ هما:
- من المضحك حقاً عندما يصار إلى تقييم الدين بالمعايير العقليّة؛ وهذا يعني أنّ الدين والإيمان, نقيضان للعقل.
- الدّين عبارة عن نشاط يكون العقل فيه غير فاعل حقاً، ولا قيمة له. الإيمان ليس ضدّ العقل؛ بل هو أوسع من العقل. يقول متكلّم القرن الثالث ترتوليان: (ما الرابط بين أثينا وأورشليم؟) (يقصد بكلمة أثينا, فلسفة اليونان, وبأورشليم الكنيسة المسيحيّة). الإجابة الممكنة على النحو التالي: الإيمان والفلسفة لا علاقة لهما ببعضهما بعضاً إطلاقاً, فهما متناقضان تماماً(23) . ويبدو أنّه يرى أنَّ الايمان الدينيّ ضد العقل البشريّ وأوسع منه.
ومن المحتمل أن يكون للقديس بولس في (Corinthians) نفس هذا الرأي؛ إلا أنّ الكثير من الإيمانيّين, نظير كالون, يدافعون عن الرأي الثاني. ولعلّ بالإمكان اعتبار باسكال (1623ـ1662) أيضاً من ضمن المدافعين عن القراءة الثانية للمذهب الإيمانيّ؛ لأنه يقول:
للقلب أدلّته الخاصة به، لا يعرفها العقل, كما أنّ بعض الأفراد من الممكن لهم تعطيل القوى القادرة على الاستدلال لكي يؤمنو(24) .
ونظراً لأهميّة شخصيّة مثل كيركغارد في المذهب الإيمانيّ, سنطرح رأيه بهذا الخصوص بشكل مجمل.
________________________________________
(23)- Pojmam , Louis , Philosophy of Religion, America, Waedsworth Publishing Company:397, 1987؛ مايكل بيترسون، ص33.
(24)- پترسون ، مايكل ، .... عقل و اعتقاد دينى، ص 33، طهران، طرح نو ، 1376 ش.

[الصفحة - 272]


كيركغارد
يبدو أنّ الفيلسوف الدنماركيّ سورن كيركغارد, أبو المذهب الوجوديّ، يوافق على كلتا القراءتين للمذهب الإيمانيّ. ويرى أنّ الإيمان، وليس العقل, يُعدّ أسمى فضيلة يستطيع الانسان الوصول إليها. الإيمان أمر ضروريّ لإرضاء أعمق المتطلّبات الانسانيّة. فإذا كان كَنْت العقليّ قد دافع عن شعار «الدين ضمن حدود العقل المجرَّد », فإنّ كيركغارد يدافع عن شعار «العقل ضمن حدود الدّين المجرّد ». إنّه يدّعي دون خوف أنّ الإيمان أسمى من العقل وأفضل منه. والإيمان وحده هو الذي يبشِّر بالسعادة الأبديّة في مسير الإنسان نحو التكامل. لقد كان كيركغارد يعتقد بأنّه قلَّما يكون العقل هادياً ومرشداً أساسيَّاً لنا في حياتنا اليوميّة. وطبقاً لتعبير هيوم, لعلّ بإمكاننا أن ننسب هذه العقيدة لكيركغارد من أنّ العقل تابع للإيمان وعبدٌ له ويجب أن يكون كذلك؛ لأنَّنا جميعاً يتكوَّن لدينا في البداية إيمان أساسي بشيء ما, ومن ثمَّ يتحرَّك العقل ويأخذ دوره لعقلنة المشاهدات والالتزامات.
ويرى كيركغارد أنّ المعرفة في ميدان المسائل الغيبيّة (ما بعد الطبيعة) ليست أمراً مطلوباً؛ بل حتّى أنّها تحول دون الجهود التي تُبذل من النوع الإنسانيّ لاستخدام ما هو أساسي لإحداث أفضل صور التغيير والتكامل لديه. ويرى أنّ الايمان يُعدّ أسمى فضيلة؛ لأنّ الايمان بنحو عينيّ, غير يقينيّ. ويرتبط نضج الشخص في الذّات والنفس, بالشكّ والخطر, وامتلاك الجرأة في أعماق الماء في عمق يزيد على سبعين ألف فاتوم (وحدة لقياس عمق الماء).
الإيمان, هو إخلاص العاشق لمعشوقه عندما تكون جميع الأدلّة ضدّ المعشوق. الإيمان, هو أعمق حالات الشوق والأمل في النفس ولا يستطيع بُعدنا العقليّ أن يصل إلى كنهه. وحتّى لو كان لدينا دليل مباشر على الربوبيّة أو المسيحيّة, فلا نريده؛ لأنّ الحتميّة العينيّة تسلب الجرأة والشجاعة من السالك الدينيّ وتتنزّل بها إلى مجموعة من الحتميَّات الرياضيّة المملّة.
________________________________________

[الصفحة - 273]


وطبقاً لرأي كيركغارد, فالإيمان الدينيّ الأصيل يظهر عندما يصل العقل إلى منتهى قدرته. وحينئذ يرى الفرد أنّه لا وجود لأيِّ هدف للحياة من دون الله تعالى.
ووفقاً لهذا النمط من التفكير, يُصبح الله أصل الموضوع؛ ولكن ليس بأسلوب غير مجدٍ لما يُفهَم من هذا المصطلح بشكل عام. ففي تلك الطريقة, يرتبط الفرد بالله وذلك عندما يتسبّب الجدل الديالكتيكيّ ببلوغ الرغبة والشوق إلى نقطةٍ يائسة ويساعده على الايمان بالله مع اليأس والإحباط. في تلك الحالة من المستبعد أن يكون أصل الموضوع أمراً جزافاً؛ بل هو ضرورة الحياة بالضبط(25) .
ويتناول روبرت آدمز براهين كيركغارد بخصوص المذهب الإيمانيّ على النحو التالي:
1- برهان التقريب (approximation argument) :
- كلّ دراسةٍ تاريخيّة تتوصَّل في نهاية الأمر إلى نتائج تقريبيّة؛
- النتائج التقريبيّة غير كافيةٍ للإيمان الدينيّ الذي يقتضي نتائج قطعيّة؛ وبناء على ذلك, فإنّ أي دراسةٍ تاريخيّةٍ غير كافيةٍ للإيمان الدينيّ.
2- برهان التأخير(postponement argument):
- لا يستطيع الإنسان أن يمتلك إيماناً دينيّاً رصيناً ما لم يكن ملتزماً بشكل كامل بالاعتقاد الدينيّ.
- لا يمكن للإنسان أن يكون ملتزما التزاماً كاملاً بعقيدةٍ دينيّةٍ مبنيّةٍ على دراسةٍ يمكن أن تقع الحاجة في المستقبل لمراجعة نتائجها؛
وبناء على ذلك, لا يمكن للإيمان الدينيّ الرصين أن يكون مبنيّاً على دراسة يُذعنُ فيها المرء بإمكانيّة مراجعة نتائجها في المستقبل. وانطلاقاً من أنَّ أيَّ دراسةٍ عقليّةٍ يُمكن أن يُصار إلى مراجعة نتائجها, لا يمكن لأيِّ إيمان دينيٍّ رصين أن يُبنى على تلك الدِّراسة العقليَّة.
3ـ برهان الشوق (passion argument):
________________________________________
(25)- Pojmam , Louis , Philosophy of Religion:397, 1987.

[الصفحة - 274]


- أهمّ ميزة للإيمان الدينيّ وأكثرها قيمة, هي الشوق بأكبر قدر ممكن.
- الشوق اللامتناهي, بحاجة إلى أمرٍ عينيّ غير محتمل؛ وبناء على ذلك, فالشيء الأهمّ والأكثر قيمة في الإيمان الدينيّ, بحاجة إلى أمر عيني غير محتمل(26) .
نقد وتحليل
يستفاد من براهين كيركغارد بخصوص المذهب الإيماني أنه استعان بالبرهان العقلي لإثبات الحالة الإيمانيّة. وأنّه تناول ثلاث مسائل أساسيّة هي:
1- لا يمكن أخذ تعاليم الدين من الكتاب المقدّس؛ لأنّ الكتاب المقدّس, عبارة عن نص ودراسة تاريخيّة, وكلُّ دراسة تاريخيّة تنطوي على نتائج تقريبيّة؛ وبناء على ذلك, فإنّ مصدر الكتاب المقدّس ليس أمراً يقينيّاً.
إحدى المشاكل التي توصّلنا لها من الدراسة التاريخيّة, هي الشكوك التي سوّغوها حول أصل الكتاب المقدّس. فقد كشف منتقدو الكتاب المقدّس, عن أنّ الذي جاء بالكتب الخمسة الأولى للكتاب المقدّس, لم يكن النبي موسى(ع)؛ بل إنّ من كتبها كانوا على الأقل أربعة أشخاص مختلفين, أو فيما يتعلّق بإنجيل يوحنّا الذي يُعد أهم إنجيل لدى المسيحييّن, ثارت الشكوك حوله، حتّى أنّهم شكوا في أنّ عيسى التاريخيّ والحقيقيّ يختلف عن عيسى الظاهر في الإنجيل. وباختصار, إنّ التحليل النقديّ لنصوص الكتاب المقدّس, أثار جملةً من التساؤلات حول العديد من العقائد المهمّة؛ وشكّك في صحّة بعض الأحداث المؤكَّدة في النصوص المقدّسة, وقلّل من أهميّة البُعد الإعجازيّ لتاريخ الكتاب المقدّس. حتّى استدلّ بعضهم على أنّ عدم وجود سلسلة من الأحداث والتحوّلات المتصلة في السنّة المسيحيّة يمكن ان يعود لشخصيّة عيسى نفسه على مرّ التاريخ. ويعتقدون أنّ أقدم مجموعةٍ من أتباع عيسى اختلفوا فيما بينهم بشدّة بعد وفاته, والحواريّون الأقدم، بقيادة
________________________________________
(26)- المصدر نفسه، ص398؛ Adams, Robert, kierkegaards Argument Against objective Reasoning in religion, in philosophy of Religion ,ed ,Louis pojman ,America, wad worth Publishing Company :408, 1987.

[الصفحة - 275]


بطرس, كانوا مخالفين بشدّة لتعاليم بولس. ولكن تمّ فيما بعد تلفيق الأمور المهمة للعقائد المختلفة فقط في تركيبة منسجمة شكَّلت أساس المذهب الكاثوليكيّ. ونتيجة هكذا نظريّة هي أنّ القسم الأعظم لتركيبة الدين المتأخّر تنسب لبولس, وليس للسيّد المسيح(27) . وعلى هذا الأساس, لم يعد من المتيسّر الدِّفاع عن الأخبار وتعاليم الكتاب المقدّس أو أن تنسب للإيمان.
ولعل من الأهداف التي كان يرمي الوصول إليها كيركغارد من خلال طرحه لهذا البرهان, هو عدم صحة الاستناد والوثوق بالكتاب المقدّس؛ ولكن هذا لا يثبت على الإطلاق إصدار الحكم على أيّ سند وتحقيق تاريخي بأنّه لا يمكنه أن يكون موجباً لليقين. فالحكم التاريخي بأنّ كيركغارد عاش في القرن التاسع عشر وكان مؤيِّداً للمذهب الإيماني يقينيُّ على أقل تقدير. والأخبار والروايات التاريخيّة على عدّة أقسام فبعضها يفيد اليقين وبعضها الآخر لا يفيد ذلك. وقد ذكر الفقهاء والأصوليّون المسلمون أنّ الخبر الذي يطلق عليه رواية تاريخيّة على نوعين:
1- الخبر المتواتر.
2- الخبر الواحد.
أمّا الخبر المتواتر, فهو الخبر الحسيّ المتعدّد إلى الحد الذي يبعث على اليقين. والمراد من الخبر الحسيّ الخبر الذي سمع المخبر عنه مضمونه وألفاظه بأذنه أو رآه بأمّ عينه, وهو خبر نقل بطرق متعدّدة بلغ حداً لا يحتمل الخطأ فيه؛ وبناء على ذلك, فبعض الأخبار لا يحتمل فيها الخطأ. والتواتر على ثلاثة أشكال:
1- لفظي.
2- معنوي.
3-إجمالي. وأمّا خبر الواحد, فهو خبر لم يصل إلى حدّ التواتر سواء أكان المخبر فرداً واحداً أم أكثر. وهذا الخبر بمفرده لا يوجب اليقين(28) .
2- البرهان العقلانيّ غير قادر على توضيح الأصول الأساسيَّة للمسيحيَّة من قبيل التثليث والعشاء الربَّاني
________________________________________
(27)- نينيان اسمارت, تجربة دينى بشر، ص 255, ترجمة وابو الفضل محمودي, طهران, دار نشر سمت, 1383ش.
(28)- محمد باقر الصدر، ص 342, قواعد كلى استنباط, ترجمة وشرح رضا إسلامي, قم, دار نشر بوستان كتاب, 1378ش.

[الصفحة - 276]


وغيرها. والمفكّرون المسيحيّيون يرون أنّ الأصول الأساسيّة للمسيحيّة باطنيّة؛ ومن هنا لا يمكن توضيحها في إطار البراهين العقليّة. ويقول كيركغارد في برهان التأخير إنّ نتيجة البرهان العقليّ معرَّضة على الدوام لإعادة النظر فيها؛ ولهذا لا يمكن توضيحها في إطار البراهين العقليَّة؛ وبناء على ذلك, لا يمكن أن يكون الإيمان الدينيّ القويم مبنيَّاً على نتيجة غير يقينيَّة من هذا النوع. كما أنَّ برهان التأخير يسري على التحقيق التاريخيّ أيضاً، ذلك أنّ التحقيق التاريخي لا يصل إلى نهايته أبداً, وتظهر مشاكل جديدة على الدوام في مسيرة التحقيق التاريخيّ, وعندما تُبذَل الجهود لتسوية تلك المشاكل وحلّها ستظهر مشاكل جديدة أُخرى ثانية, وتستمرّ هذه العمليّة على طول الخط؛ وبالتالي, سيتأخّر الالتزام والإيمان الدينيّ المبنيّ على التحقيق التاريخيّ تبعاً لهذه العمليّة. كما يستخدم كيركغارد هذا البرهان بخصوص البراهين على وجود الله ومنها برهان النظم. ففي برهان النظم يُصار للاستدلال على منظّم حكيم عليم وقادر من خلال التنظيم والحكمة الموجودة في العالم. فيقول: لو كنت البادئ بالبرهان, سوف لن أكون المتمّم له؛ لأنّه يجب أن أكون على الدوام في حال التردّد والترقّب لئلا يقع أمر خطير للغاية ويبطل برهاني. ويرى كيركغارد أنّ الإيمان والالتزام الدينيّ إنَّما يكون رصيناً عندما يُخلص إليه تمام الإخلاص؛ بمعنى أن يقرِّر الفرد عدم التخلِّي عن إيمانه والتزامه الدينيّ في كافّة الأحوال وأن يلتزم به على الدوام. ولذا لو كان الإيمان الدينيّ مبنيّاً على التحقيق التاريخيّ أو البرهان العقليّ, فبما أنَّهما معرَّضان على الدوام لإعادة النظر فيهما ولن يبلغا درجة اليقين الكامل أبداً, فسيكون الإيمان الدينيّ أيضاً في حالةٍ من التزلزل وعدم الثبات لأنَّه مبنيٌّ عليهما, وبناء على ذلك, سيتأخّر الالتزام والإيمان الأصيل بالضرورة.
وفي مقام نقد برهان التأخير يمكن القول:
1- النفي الكامل لقطعيَّة البرهان العقليّ مخالفٌ للبداهة. فبعض العلوم كالرياضيَّات من ضمن العلوم اليقينيّة وقضاياها يقينيّة تماماً، ولا سبيل لأيِّ شبهة إليها. وكذا
________________________________________

[الصفحة - 277]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف