تـاليف
تعريب
حيدر نجف
مقدمة المركز
إنّ مباحث الميتافزيقا (ما بعد الطبيعة)، وإن كانت تضرب بجذورها في عمق الفكر البشري منذ العصور الاولى للخلقة، غير أنَّ الذي قوْلب هذه المباحث وحدّدها بأُطرٍ خاصّة وأرسى دعائمها إنّما هو المعلِّم الأول أرسطو.
ومنذ الظهور الأول وإلى يومنا الحاضر، شهد هذا المصطلح جدلاً كبيراً في الوسط الفكريّ والمعرفيّ، وكلٌّ فسّره على ضوء منطلقاته المعرفية وخلفياته الثقافية، مّما أدّى إلى تكثّر الأقوال والمدارس وإلى إنكاره في بعض الأحيان.
وعند الرجوع إلى جذوره الأولى نرى أنّ أرسطو كان يعتقد أن البحث عن الميتافزيقا إنّما هو بحثٌ عن الوجود، وعن العلل العليا للوجود، وعن سريان هذا الوجود في جميع الكائنات من حيث إنها موجودة لا من حيث تعيّنُها الخارجيُّ وتشيّؤُها الجزئيُّ، فالأشياء الخارجية يُبحث عنها في العلوم الخاصة بها، ولكنّ الأشياء بما هي أشياء وبما لها قسط من الوجود ـ سواء أكانت محسوسة أم غير محسوسة، خالدة أم فانية ـ فهي من مهامِّ مباحث الميتافزيقا.
هذه الرؤية استمرّت بعد أرسطو في الفلسفة الإسلامية والمسيحية القروسطية على حدٍّ سواء، إلى أن تمّ إفراغها من محتواها في عصر الظلمات المُسمّى بعصر التنوير، حيث أصبح الاسم من غير مسمّى، والسبب في ذلك ربما يعود إلى مباحث المعرفة البشرية وطريقة تكوّنها وما ظهر من مدارس ماديّة حسيّة وعقليّة مثاليّة.
وهذا الأمر يتبلور في فلسفة كانط ـ موضوع البحث في هذا الكتاب ـ حيث أراد أن يشقُّ طريقاً معرفياً وسطاً بين النظرة الحسية والنظرة العقلية، مّما أدى إلى إنكار الميتافزيقا بمعناها الأرسطي، إذ كان كانط يرى أنّها تعني العلم بغير المحسوسات، فهي من العلوم الموهومة التي تضرب بجذورها في الخيال الذي لا يمتُّ إلى الواقع بصلة.
طبعاً لم يستمر الأمر على ما ذهب إليه كانط وأتباعه طويلاً، حيث نرى في نهايات القرن العشرين رجوعاً إلى ما أسّسه المعلّم الأول في إطار نهضة جديدة لم تتبلور معالمها لحد الآن بشكل جيّد؛ وربما يطلق عليها بالأرسطية الجديدة.
في هذا الكتاب يحاول المؤلف الدكتور مهدي قوام صفري الرد على مقولة كانط في عدم إمكانية الميتافزيقا، من خلال استكناه النصوص الفلسفية الإسلامية والغربية واستنطاقها، ليصل بالمآل إلى إمكانية الميتافزيقا بل ضرورتها.
ونحن، إذ نقدّم ترجمة هذا الكتاب إلى القارئ العربي، نتمنّى للمؤلِّف الفاضل المزيد من العطاء العلميّ، كما ندعو سائر المفكرين بأن يدلوا بدلوهم في هذا المضمار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين وآله الميامين.
النجف الاشرف
1 محرم الحرام 1439هـ
مقدمة المؤلف
يعدّ التلقّي الحسّيّ والتلقّي العقليّ، مصدرين مستقلّين للمعرفة، من أصول علم المعرفة الحديث في العالم الغربي. فلقد خيّمت هذه الفكرة دائماً، وخصوصاً منذ زمن ديكارت، على علم المعرفة الحديث، وأفضت إلى ظهور مجموعة من القضايا ذات الصلة. وقد أدّت هذه الثنائية في مصادر المعرفة إلى ثنائية في مناحي تفسيرها، ووزّعتْ علماءَ المعرفة إلى فريقين كبيرين هما التجربيون والعقليون. وطُرحتْ لدى كل واحد من الطرفين آراء متطرفة على امتداد تاريخ الفلسفة الحديثة: ديكارت وليبنتس مثلاً في مقابل ديفيد هيوم. وفي حين مال العقليّون بأشكال مختلفة إلى النزعة الفطريّة، حاول التجربيّون دحض كل أشكال النزعة الفطرية والقول بأن الحس هو مصدر المعرفة وينبوعها الوحيد. ولقد استتبع ظهورُ النزعة الفطرية في قلب النزعة العقلية في الحقبة الحديثة ونموّها وتطورها، ظهورَ نزعة شك لدى الطرف الآخر، وقد كان مثالها البارز الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم ونظرته للعلوم التجربية.
لقد ترعرع إيمانوئيل كانط في البيئة العقلية واكتسب تعليمه منها وحافظ على تأثيراتها إلى نهاية المطاف، لذلك لم يكن بالشخص الذي يستسيغ نتائج هيوم، بيد أنه لم يشأ أن تكون له حيال نزعة الشك هذه نفس ردود الفعل التي كانت لأسلافه العقليين، بل أراد إلى جانب الحفاظ على مبادئ النزعة العقلية، التخلّي عن استقلال العقل كمصدر للمعرفة، وأن تعتبر مفاهيمه وأصوله الفطرية (مفاهيم العقل وأصوله) مكمّلة للمعطيات الحسية، وبذلك يتجاوز كلا المنحيين. لقد أراد القول: يجب أن لا نعتبر الحس أو العقل مصدراً مستقلاً للمعرفة، فلكل واحد من هذين المصدرين دوره في حصول المعرفة، ولكن إذا عمل كل واحد منهما بمفرده ولوحده عجز كلاهما عن تحصيل المعرفة. والواقع أنه كان يعتقد أن النزعة الفطرية لا تزال فاعلة، ولكن ليس لوحدها، إنما إلى جانب الحس، وأن الحس لا يزال فاعلاً غير أن فاعليته لا تعمل إلّا إلى جانب العقل.
مثل هذا التجاوز للنزعة التجريبية والنزعة العقلية التقليدية في علم المعرفة الحديث أفضى فيما أفضى إلى هذه النتيجة التي استساغها كانط وهي أن الميتافيزيقا غير ممكنة. لماذا؟ لأن تصور كانط عن الميتافيزيقا وبسبب ما تعلمه من أسلافه هو أن الميتافيزيقا تتعلق بالموجودات غير المحسوسة وهي في الحقيقة علم موهوم، لأن العقليين التقليديين بسبب عدم معرفتهم الصحيحة لوظيفة العقل (أو الفاهمة كما في المصطلح) غفلوا عن إدراك أن العقل لا يمكنه أن يمثّل مصدراً مستقلاً للمعرفة، وبذلك ذهبوا خطأً إلى أن المضامين الفطرية للعقل تنتج العلمَ باللامحسوسات، والحال أن هذه المضامين الفطرية يجب أن تستخدم فقط في المواطن التي سبق أن وفر فيها الحسُّ بعض الأشياء والمعطيات. من جهة أخرى فإن ضرورة وكلية إطلاق هذه الفطريات على المعطيات الحسية تستأصل ـ حسب زعم كانط ـ شأفة تشكيكية هيوم من جذورها.
ما الميتافيزيقا؟ الميتافيزيقا من وجهة نظر كانط هي العلم باللامحسوسات (مع أننا سنطالع في هذا الكتاب لاحقاً أنه كان مضطرباً متردداً في هذا الخصوص، وأجاب عن هذا السؤال جواباً مزدوجاً هو 1 ـ الميتافيزيقا هي العلم بالله والنفس والعالم، 2 ـ الميتافيزيقا هي العلم بالله والنفس وحرية الإرادة. ولقد أوردنا في الفصل الأخير من هذا الكتاب (القسم الثالث) على نحو الاختصار مسيرة تحقق ذلك القدر التاريخي الذي أدى إلى وصول كانط لمثل هذا التصور غير المسبوق حول موضوع الميتافيزيقا. لقد كان هذا التصور غير مسبوق لأنه انبثق وأوجِد في حقبة علم المعرفة الغربي الحديث، ولم تعتبر الميتافيزيقا أبداً مجرد علم باللامحسوسات لا في الفلسفة الإسلامية ولا في فلسفة القرون الوسطى، ولا حتى في الفلسفة اليونانية القديمة نفسها، أي: عند أرسطو على وجه التحديد. ما يهاجمه كانط في الظلمات الناجمة عن تعاليم أسلافه ليس الميتافيزيقا، بل هو شبح جسّدته لكانط تعاليمُهُ الخاصة، والواقع أنها تسمّى فقط ميتافيزيقا وليست بميتافيزيقا (حاولنا في القسمين الأول والثاني من الفصل الخامس من الكتاب الإجابة عن السؤال: ما الميتافيزيقا؟).
القضية الأساسية في علم المعرفة هي قضية مصدر المفاهيم والأصول المعرفية. والقول إن بعض هذه المفاهيم والمبادئ فطرية ـ ولا يختلف الأمر هنا ما إذا كانت «الفطرية بالفعل» هي المقصودة أم «الفطرية بالقوة» ـ إنما هو إقصاء للقضية وتجاهل لها وليس إجابة عنها. في كتاب ينتمي إلى علم المعرفة لا يستطيع الكاتب مثلاً ومن دون إيضاح كيفية ظهور مبدأ عدم التناقض، أن يكتفي بالتوكّؤ عليه والاستشهاد به ـ حتى لو اعتبره بدهيّاً ـ واتخاذه وسيلةً يستعين بها في تحليلاته الفلسفية، إنما ينبغي عليه في البداية أن يقول من أين جاء هذا المبدأ؟ في الفصل الأول من هذا الكتاب ـ ولأسباب سيجدها القارئ نفسه في النص ـ تطرقنا لكيفية انبثاق مبدأ الهوية وظهورها لندلل على أنه لا يمكن اعتبار حتى هذا المبدأ المعرفي الأساسي مبدأ فطرياً. إيضاح هذا الظهور والانبثاق يفضي إلى طرح رؤية فحواها أنه لا يمكن قبول الرؤية التقليدية في علم المعرفة الغربي الحديث حول ثنائية المصادر المستقلة للمعرفة، ويجب في الوقت ذاته أن لا نجاري كانط في اعتقاده بأنه على الرغم من عدم استقلال هذه المصادر في إنتاج المعرفة فإن لكل واحد منها دوره لوحده في إنتاج المعرفة (كأنْ يمنحنا أحدُ المصادر مادةَ المعرفة ويمنحنا مصدرٌ آخر صورةَ المعرفة) وتنشأ المعرفة من تركيب وجمع حصّة كل واحد من هذه المصادر، إنما الرؤية الصحيحة هي أنه لا يوجد حس خالص محض ولا يوجد عقل محض. والعقل والحس يسهمان في صناعة أيّ إدراك مهما كان ذلك الإدراك. كما أن المفاهيم الفلسفية الثانوية الصانعة للمعرفة والمبادئ العقلانية أيضاً تعتبر حصيلة هذا التشارك والتركيب لحصص العقل والحس المتزامنة (وقد تركنا جانباً من تفصيل هذه الفكرة للفصل الثاني).
ظهور مفهوم الوجود بدوره، وكما هو الحال بالنسبة لبقية المفاهيم الصانعة للمعرفة، حصيلة هذا التشارك والتركيب. وينبغي أن لا يوهم عنوانُ الفصل الثالث من هذا الكتاب بأن هذا المفهوم حصيلة الإدراك الحسي بالمعنى التقليدي أو الكانطي، إنما تم اختيار هذا العنوان بنيّة التأكيد على مشاركة الحس إلى جانب العقل عند انبثاق هذا المفهوم وتكوينه، ولكي ندلل على أن نظرية تركيب الحس والعقل، حتى بالنسبة لمفهوم الوجود، وهو المفهوم الأول الحاصل، تصدُقُ نفسَ صدقِها في المبدأ الأول الحاصل، أي: مبدأ الهوية. ولهذا السبب تقدم البحثُ المتعلق بمبدأ الهوية ومفهوم الوجود، وأرجئت البحوثُ حول المفاهيم الكلية وتقسيماتها وعرْضُ معيارٍ جديد لهذه التقسيمات والتصنيفات والمفاهيم الفلسفية الثانوية، أرجئت إلى الفصل الرابع.
لقد جاء تأجيل البحث حول المفاهيم الكلية وتقديم البحث بشأن مفهوم الوجود ومبدأ الهوية بمقتضى الضرورة الناجمة عن واقع سياق ظهور المعرفة، ولم يكن وليد استحسان أو ذوق شخصي. لأننا توصلنا إلى أن ذلك المبدأ وذلك المفهوم ـ ونعتقد أن الثاني هو صورة تصورية للأول ـ سابقان لظهور أيّ شيء معرفي آخر، لذلك اضطررنا عند تحرير مواد الكتاب إلى التماشي مع هذا السبق الطبيعي. ولهذه المماشاة فائدتها الكبيرة، فهي تدل على أن النزعة الفطرية كيفما عُرضت وبأية تعابير ذُكرت فهي مخلّة بعلم المعرفة وآفته الأصلية. إننا نعتقد أن النزعة الفطرية بمفهومها وظهورها الأصلي هي ثمرة علم المعرفة الغربي الحديث، ونرى إنها في الحقيقة بدّلت علم المعرفة إلى شيء من عندي، فقد سار كلٌّ في الطريق الذي تقتضيه نزعته الفطرية. ويجب على القارئ أن يتفطن إلى أن مراد علم المعرفة الغربي الحديث من النزعة العقلية كان النزعة الفطرية دوماً، وعليه إذا حاول محاول رفضها في هذا التراث (علم المعرفة الحديث) فسيضطر إلى الوقوع في أحضان النزعة التجربية قليلاً أو كثيراً. وليس من باب الاعتباط أنْ قيل إن هيوم أوصل النزعة التجربية إلى نتائجها المنطقية. هذا الكلام يعني أن رفض النزعة الفطرية (أي النزعة العقلية) رفضاً تاماً لن يبقي من بقية سوى الحس ولن نصل بذلك إلى نتيجة سوى نزعة الشك.
العودة ثانيةً إلى مفهوم الوجود في الفصل الرابع (القسم الرابع) تمثل مستهل بحث من نوع آخر حول هذا المفهوم. في حين يستعرض البحث المطروح في الفصل الثالث ـ بعد نقد آراء متنوعة حول ظهور مفهوم الوجود ـ الرؤيةَ المتبنّاة من قبل كاتب السطور، فإن الفصل الرابع (في قسمه الرابع) يتحدث عن الخصوصيات الفردية لهذا المفهوم، وهي خصوصيات تجعله ممتازاً منفصلاً عن كل أنواع المفاهيم، وتدلل كيف أصاب أرسطو وابن سينا في جعله دون أيّ قيد أو شرط، أي الوجود بما هو وجود، موضوعاً لما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا (القسمان الأول والثاني من الفصل الخامس).
باستثناء القسم الأخير من الفصل الخامس، وهو في الواقع القسم الأخير للكتاب برمّته، وبمثابة تذكير موجز بالنتيجة التي تنتهي لها كل محتويات الكتاب، لم نخصّص فصلاً كاملاً للبحث في إمكانية الميتافيزيقا، وهو الموضوع الذي كُتِبَ هذا الكتاب للدلالة عليه أساساً. وما منعني عن ذلك هو أن محتوى الكتاب كله إذا كان فعلاً جرياً على السياق الطبيعي لظهور المبادئ والمفاهيم المعرفية، فينبغي أن ينطوي بنحو تلقائي على النتيجة القائلة إن الميتافيزيقا ممكنة، مضافاً إلى أنه يجب أن يوضح لماذا هي ممكنة. والواقع أن القسم الأخير من الفصل الخامس وضع للتأكيد على هذه النتيجة، وإلّا فحسب اعتقاد كاتب السطور إذا نُظر للكتاب بتمامه وكليته فيمكن أن تستنتج منه إمكانية الميتافيزيقا بوصفها علماً بالوجود بما هو وجود.
والحمد لله رب العالمين
مهدي قوام صفري
أستاذ مساعد في جامعة طهران