نقد الحضارة الغربية

نقد الحضارة الغربية

تأليف : 

مجموعة باحثين 

مقدمة الجزء الأول 

كان علمُ التاريخ في السابق معنيًّا بتدوين الوقائع والحوادث البشريّة كما حصلت في وعاء الزمن الماضي، ثم تطوّر ليتكفّل ـ بالإضافة إلى وصف الأحداث وتدوينها ـ بتفسير الوقائع وتحليلها وتعليلها وكشف العلاقات والروابط بينها. وشهد في العصر الحديث تطوّرًا في مدلوله، فاتّسع ليشمل كلّ شيء في الطبيعة والحضارة؛ «الأرض، والمعادن، والنباتات، والحيوان، والأفكار، والعلوم...، إلى جانب الفعاليّات الإنسانية»[1]، فلم يعد علم التاريخ منحصرًا بدراسة الوقائع البشريّة التي حدثت في الزمن الماضي فقط، بل اتّسع ليشمل ميادين المعارف والعلوم، والأديان، والفلسفات البشريّة، وتاريخ الأرض وما يعيش عليها من مخلوقات وتحويه من كائنات وظواهر...، وبدأ العلماء يميّزون بين أنواع من التاريخ: كالتاريخ النقلي، والتاريخ العلمي، وفلسفة التاريخ[2]... وأصبح علم التاريخ متداخلاً مع العديد من العلوم، كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد وعلم النّفس...

 لذا، بات من الواجب على الباحث التاريخي أن يحيط بالظّواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفنيّة والفلسفيّة...، التي تتّصل بالعصر الذي يريد دراسته، وأن يستند على منهجٍ بحثيٍّ ينسجم مع طبيعة العلم الذي يبحث فيه، وبالتحقيق والتحليل والمقارنة والنقد، يصل إلى نتائج علميّةٍ موضوعيّةٍ منسجمةٍ مع القواعد والضوابط المنهجيّة للبحث.

وبناءً عليه، إنّنا عندما نطلق مشروعًا علميًّا تحت مسمّى «نقد الحضارة الغربيّة» لا نقصد به إعادة كتابة تاريخ الغرب وتوصيفه مرّة أخرى، فقد تكفّل الغرب نفسه بذلك، وإنّما نقصد إعادة تظهير هذا التاريخ من خلال إجراء قراءةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ لتاريخ الغرب بجميع حقوله؛ المعرفيّة، الدينيّة، الثقافية، الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية... وفي جميع أزمانه؛ الإغريق؛ القرون الوسطى، التنوير والحداثة، ما بعد الحداثة، وصولاً الى عصرنا الراهن، فنحن أمام تاريخ غربيّ يمتدُّ لحوالي أربعة آلاف سنة؛ مليءٍ بالخرافات والأساطير، وما لا يقبله منطق، ولا إنسان عاقل...

ولمّا كان الغرب الحديث يعتبر أنّ تاريخه، الفكري على الأقل، قد بدأ مع الإغريق، أو ما أُطلِق عليه هو نفسه بالمعجزة الإغريقيّة، فقد ارتأينا أن ينطلق مشروعنا النّقديّ من تلك الحقبة التأسيسيّة، وتحديدًا من ما قبل القرن التاسع قبل الميلاد؛ ذلك أنّ تلك الفترة تُعدّ اللّبنة الأساسيّة، والعماد الذي اعتمد عليه الغرب في تكوين نفسه، كما أنّ البحث عن جذور الغرب والحفر الأركيولوجي يوصلنا لا محالة إلى هذه الفترة الزّمنيّة. وهو ما يحتّم علينا، ولاعتبارات منهجيّة، أن نقسِّم العمل إلى مراحل، وقد ارتأينا أن تكون البداية من ما قبل القرن التاسع قبل الميلاد، وهي مرحلة تمتدّ إلى حوالي عام 1500 قبل الميلاد؛ حيث بالإمكان رصد معالم تلك المرحلة من نواحٍ عديدة، وحيث يمكن إيجاد بعض المصادر عنها، ومحاولة رسم معالمها وخصوصياتها.

ولهذا فقد أطلقنا على هذا الكتاب بجزئيه، اسم «تاريخ اليونان قبل القرن التاسع ق.م». وهو من ضمن سلسلة نقد الحضارة الغربيّة، والمشروع التأسيسي لعلم الاستغراب.

ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذه المرحلة هي مرحلة أولى، وحيث إن طابعها العام يُركِّز على أنَّ المؤثرّات الشرقيّة كان لها الدور الهام في ولادة هذه الحضارة الغربية، وهذا بحد ذاته يمثّل نقداً، فلا غرابة أن نجد أنّ جزءاً من الأبحاث بمثابة الأبحاث التعريفية التي لا بد منها، وهي تسعى لإعطاء لمحة عامة عن هذه المرحلة التاريخية من تاريخ الإغريق، وسيلاحظ القارئ أنّ مستوى النقد سيتعمّق ويتوسّع بشكل ملحوظ في مراحل المشروع الأخرى.

ونظراً لكثرة الموضوعات والقضايا التي تحتاج إلى البحث والنقد في هذه المرحلة، نعني (المرحلة الأولى من نقد الحضارة الغربية)، فقد اقتصرنا ـ إضافة الى المقدّمة والمدخل العلمي ـ على أربعة وعشرين بحثاً جامعاً في موضوعه، مقسّمة إلى خمسة فصول، يُعالج كلّ فصلٍ موضوعاتٍ محدّدةً ومترابطة. 

وقد ارتأينا إصدارها في جزئين؛  حيث تضمّن الجزء الأوّل على مدخل علمي وفصلين، تضمّن الفصّل الأوّل بعض الأصول والمباحث العامّة المرتبطة بالحضارة الإغريقيّة بشكل عام، كالتعريف بملامحها العامّة، ومحاولة معرفة أصول الشّعب الإغريقي، وتاريخ التدوين عندهم، وتأثيرات الحضارة الشرقيّة عليهم، إضافة إلى التعريف بالحضارتين الموكينيّة والكريتيّة. فيما توزّعت مباحث الفصل الثاني على الدين والأسطورة.

أما الجزء الثاني، فقد احتوى على ثلاثة فصول تضمّنت (توالياً) مباحث تتعلّق ببعض المدن الرئيسة وشخصيّات المرحلة وحروبها،  والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، والاقتصادية. وبهذا تكون هذه المرحلة قد أظهرت أبرز معالم العالم الإغريقي قبل القرن التاسع قبل الميلاد.

ختاماً إنّ «المركز الإسلامي للدّراسات الاستراتيجيّة» إذ يضع هذا الجهد بين يدي الباحثين والمهتمّين، فإنّه يشكر كلّ من ساهم في إنجاز هذا العمل وإبصاره للنّور، ونخصّ بالذّكر الأساتذة الباحثين الذين تحمّلوا أعباء هذا الجهد في ظروف معقّدة وصعبة للغاية، كانت، وما زالت، تمرّ بها المنطقة، من جوائح طبيعيّة ليست بعيدة عن مساهمات البشر، وجوائح سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، صُنعت وارتُكِبت بيدٍ بشريّةٍ خالصةٍ.

كما ينبغي لنا أن نشكر كلّ طاقم العمل في المركز على جهودهم المباركة، والتي نأمل أن تكون في ميزان أعمالهم يوم القيامة. ونخصّ بالذكر منهم الدكتور محمد مرتضى، حيث تحمّل عناء إدارة وتحرير المشروع، والمتابعة مع الباحثين؛ وكذلك الشيخ حسين الجمري، حيث ساعدنا في بدايات انطلاق المشروع.

وأخيراً، لابد من ملاحظة فنّية وهي: إننا في الوقت الذي اعتمدنا فيه تسمية «الإغريق» في العناوين، تركنا الحرية داخل الأبحاث لاختيار الباحث نفسه.

 

----------------------------

[1]-  محمد مهدي شمس الدين،التاريخ وحركة التقدّم البشري ونظرة الإسلام، ص 13.

[2]- انظر: كاظم ياسين، منهجيّة البحث في تاريخ الإسلام، ط1، بيروت، مركز المصطفى العالمي للدراسات والترجمة والنشر، 1434هـ-2013م، ص49.

 

مدخل الجزء الاول 

وقفة مع الحضارة اليونانيّة قبل القرن التاسع قبل الميلاد

تعدّ الحضارة الآخيّة أولى حضارات بلاد اليونان القارية، وقد تمّ التّعرّف عليها بدايةً من خلال ملحمتي الإلياذة والأوديسة، اللّتان كانتا تشكّلان المصدر الأساسيّ للمعلومات عن الحياة الاقتصاديّة في الحضارة الآخيّة، وذلك قبل التّوصّل إلى فكّ رموز الكتابة التخطيطيّة B في عام 1952م، وأيضًا قبل دراسة اللّقى الأثريّة المتنوّعة وتحليلها، والتي عُثِر عليها في شبه جزيرة البلوبونيز ومناطق بحر إيجة وشواطئ البحر المتوسّط، والتي قدّمت بدورها معلوماتٍ جيّدةً يمكن مقاطعتها مع نصوص الكتابة التخطيطيّة B؛ لإعادة بناء تصوّر واضح -إلى حدٍّ ما- عن طبيعة النّشاط الاقتصادي الذي كان سائدًا في الحضارة الآخيّة.

أمّا الحضارة الكريتيّة، فهي إحدى أشهر الحضارات القديمة في بلاد اليونان، وهي حضارة ذات طابع بحريّ تجاريّ، ارتبط نشوؤها وازدهارها وسقوطها بالموقع الجغرافي المميّز لجزيرة كريت، وبعلاقاتها التّجارية مع الشّرق؛ حيث كان نشوؤها ناتجًا عن وصول موجات التأثير الشرقيّة إلى كريت، والتي كان أوّلها انتشار الزّراعة -خلال العصر الحجري الحديث- التي مهّدت للاستقرار، والانتقال من حياة الصيد والالتقاط إلى حياة الزراعة والتدجين، وهذا ما أدّى إلى ظهور القرى وتطوّرها تدريجيًّا حتى أصبحت في العصر المينوي القديم مستوطنات مهمّة، وكان ثانيها معرفة الكريتيين للمعادن وطريق تصنيعها خلال العصر المينوي القديم. ونتيجة افتقار الجزيرة للمواد الخام من المعادن اللّازمة للتصنيع، شيّد الكريتيّون أسطولًا كبيرًا وأقاموا شبكةً متينةً من العلاقات التّجاريّة مع الحضارات الشّرقيّة؛ حيث كانوا يستوردون منها المعادن الخام ويصدّرون لها فائض إنتاجهم من زيت الزيتون والنبيذ والحلي وفقًا لنظام المقايضة، وهذا ما أدّى إلى ازدهار الحضارة الكريتيّة وتعاظم أهمّيتها التّجاريّة، وخاصّة بعد أن أصبحت البوابة الأولى ـ بالنسبة لمناطق بحر إيجة ـ للتّجارة مع الشّرق الذي منحها حريّة الحركة في البحر المتوسّط، واستمرّت هذه الأهميّة خلال العصرين المينويين الأوسط والحديث.

تفاعل الحضارات

تثبت وقائع نهوض الحضارات وقيامها عبر التاريخ أنّها عمليّة تفاعليّة ومستمرّة فيما بينها؛ ولم يسجّل لنا التاريخ قيام حضارة من دون هذا التّفاعل والتّأثّر بالحضارات الأخرى، السابقة أو المعاصرة لها؛ وذلك لأنّ هذا التفاعل والتأثّر يعدّ مكسبًا كبيرًا على مرّ التاريخ؛ إذ لا توجد حضارة نشأت من تلقاء نفسها بمعزل عن الحضارات الأخرى، أو أنّها لم تتفاعل مع غيرها. ففي عمليّات التّفاعل تأخذ كلّ حضارة ما يناسبها وما يتّفق مع طبيعتها، وتعطي الحضارات الأخرى ما تجود به بما يتلاءم مع نشاطها، والجدير بالذكر أنّه لا يمكن أن تكمل أيّ حضارة مسيرتها دون حدوث تبادلٍ وتفاعلٍ حضاريٍّ والذي تحتّمه طبيعة الحياة.

كما أنّ التّبادل والتّفاعل بين الحضارات لا يُلغي خصوصيّة أيٍّ منها، وإنّ التّفاعل الصحيّ هو الذي يحدث في جوٍّ سليمٍ ينعم بالحريّة والرضى والتساوي، وتسفرُ عنه نتائج مثمرة، أمّا فساد التّفاعل الحضاري فيكون عندما يحدث في أجواء الحرب، أو نتيجة الكبت والقهر، أو التفاعل الذي يحدث لمصلحة جهةٍ معيّنةٍ وإهمال مصالح الجهات الأخرى، كما هو الحال في المنحى الفكري الغربي.

فرغم واقعيّة هذا الطّرح، نجد أنّ العالم الغربي، بشكل عام، يرفضه، ويسعى لترسيخ «الاتّجاه التّفاعلي الواحد»، والذي يعني أنّ «الحضارة الغربية»، لا سيّما في إرهاصاتها الأولى، أعطت ولم تأخذ، من هنا جاء الحديث عمّا أطلقوا عليه اسم «المعجزة الإغريقيّة» والتي تقوم على أنّ الحضارة اليونانيّة القديمة هي إبداع محض من قبائل أنتجوا حضارتهم الخاصّة بمعزل عن أيّة حضارةٍ سابقةٍ أو معاصرةٍ لهم.

يدّعي هذا التيّار الكبير أنّ اليونانيّين لم يتأثّروا بتراث الشّرق القديم، ولم يستفيدوا منه في أيّة مرحلةٍ من مراحل تطوّر حضارتهم. ورغم انتشار هذا التيّار، فإنّ ذلك لم يمنع خروج أصوات غربيّة، كـ «مارتن برنال» صاحب كتاب أثينا السوداء، وغيره، من أن تصدح بخلاف ذلك؛ وربّما نؤيّد مقولة جورج سارتون صاحب كتاب تاريخ العلم، من أنّه ينبغي علينا ألّا نسرف في المبالغة في تعظيم دور هذه المؤثّرات، ولا نسرف في التقليل من شأنها.

ومهما يكن من أمر، فقد انطلقت حضارة الشّرق القديم منذ نحو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، أي قبل بزوغ الحضارة اليونانيّة القديمة بكثير؛ وقد ذاع حيثها، وظهرت آثارها، بل وتأثيرها شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا. وقد أثبتت الوثائق، كما سنرى في كثير من الدّراسات في هذا الكتاب، أنّ المجتمع اليوناني كان متّصلًا بحضارات الشّرق القديم، لا سيّما مع ما تشهده هذه الحضارات من تطوّر وازدهار. كما تؤكّد المكتشفات الحديثة أنّ هذا الاتّصال كان قويًّا ومتتابعًا، بحيث لم ينقطع في يوم من الأيام، وعلى مختلف الأصعدة، التجاريّة والعلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

ولقد كانت منطقة «آسيا الصغرى»، (تركيا حاليًّا)، والتي عُرفت تاريخيًّا باسم «أيونيا»، هي المنفذ الأوّل للحضارة الشرقيّة باتّجاه اليونان، ثم ما لبثت أن تحوّلت إلى منطقة استوطنها المهاجرون اليونانيّون منذ بدايات الألف الأوّل قبل الميلاد.

أمّا المنفذ الثاني الذي انتقل تراث الشّرق من خلاله إلى بلاد اليونان، فكان تلك النّخبة من العلماء والفلاسفة اليونان، ممن هاجر إلى الشرق الأدنى، وعايش إنجازاته، ثم عادوا إلى بلادهم محمّلين بعلوم الشّرق ومعارفه: كطاليس (ت547 ق.م.) المولود في ملطية من أبوين سوريين (فينيقيين). وفيثاغورس (580 ق.م) من جزيرة ساموس على الساحل الأيوني، والذي انتقل إلى ملطية ثم سافر إلى بلدان الشرق الأدنى، وحيث قضى سنوات طويلة فيها، قبل أن يعود إلى موطنه. ولا ننسى هيرودوت (ت425ق.م.)، الملقّب بـ «أبي التاريخ»، والذي يظهر من كتاباته أنّه زار مصر وسورية وبلاد الرافدين وفارس وغيرها من البلدان الآسيوية والإفريقية. وهكذا أيضًا مع ديمقراطيس (ت356ق.م.) وأفلاطون (ت347ق.م.) وأرسطو وغيرهم.

إنّ هذه الهجرة لم تكن هجرة من اليونان إلى آسيا الصغرى فحسب، فقد حصلت هجرات عكسيّة، أي هجرة أبناء الشّرق أنفسهم إلى الغرب، وهذا يمثّل منفذًا ثالثًا لانتقال تراث الشّرق إلى الغرب، سواء كانت الهجرة بدوافع تجاريّة أو سياسيّة. فالمصريون القدماء، مثلًا، أقاموا مستوطنات لهم على الحوض الشرقي للبحر المتوسّط؛ حيث يؤكّد هيرودوت أنّهم أقاموا مستوطنات في شبه جزيرة البليوبونيز نفسها. كما قام الفينيقيّون (وهو الاسم الذي أطلقه اليونانيّون على كنعانيّي الساحل السوري) بنشاطٍ تجاريٍّ واستيطانيٍّ واسعٍ في عالم البحر المتوسّط.

شواهد التأثّر اليوناني بالشّرق

إذًا، استفادت الحضارة اليونانيّة القديمة من التّراث المصري القديم، كما حصل في الرياضيّات والهندسة والطبّ والتّشريح. حيث تؤكّد وثائق البردي على تفوّق المصريّين القدماء في هذه العلوم، وقد أشار أرسطو إلى النشأة العمليّة للرياضيّات في مصر، كما أكّد هيرودوت على انتقال علم الهندسة من مصر إلى بلاد اليونان. فيما تحدّثت المراجع كيف أنّ فيثاغورس عاد إلى بلاده من مصر حاملًا مبادئ علم الهندسة[1].

إنّ تأثّر اليونان لم يقتصر على مصر، بل استفادت أيضًا من الحضارة السوريّة القديمة، فقد أفادت من إنجازات هذه الحضارة وإبداعاتها عن طريق ما نقله التجّار الفينيقيّون (الكنعانيّون) إلى بلاد اليونان. وسنرى كيف أنّ أعظم «إنجاز» قدّمه الفينيقيّون، ليس لليونان فحسب، بل للحضارة الإنسانيّة بأكملها، كان اختراع الأحرف الأبجديّة منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد.

 فقد اقتبس اليونانيون الأبجديّة الفينيقيّة منذ أواخر القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا. وقد أكّد هذه الحقيقة المؤرّخون اليونان أنفسهم، فهيرودوت يقول إنّ الفينيقيّين علّموا اليونانيين كثيرًا من العلوم والمعارف وفي مقدّمتها الحروف الأبجديّة التي لم يكن هؤلاء على علم بها. رغم إظهار اليونانيّين براعة في تطوير هذه الأبجديّة لتلائم خصائص لغتهم، فأضافوا إليها الحروف الصوتيّة، وأخذوا يكتبونها من اليسار إلى اليمين بعكس الفينيقيّين[2]. وصحيح أنّ الفينيقيّين أسهموا في ابتكار أبجديّة مبسّطة لتسجيل الصوتيّات التي ينطقون بها الكلمات، لكنّ الفينيقيّين أخذوا فكرة الأبجديّة عن السومريّين وعمّا عُرف باسم الكتابة المسماريّة[3].

أمّا ما نقله التجّار الفينيقيّون إلى العالم اليوناني من سلع ومتاجر، وما تحمله في ثناياها من ثقافات وفنون وصناعات، فهي أكثر من أن تعدّ وتحصى. فقد نقلوا صناعات سوريّة ومصريّة ورافديّة؛ كالقمح وورق البردي والعطورات من مصر، والمجوهرات والمصنوعات النسيجيّة والمعدنيّة والزجاجيّة والعاجيّة والصباغة الأرجوانيّة من سورية وبلاد الرافدين، إضافة إلى الحرير والتوابل والأحجار الكريمة من الصين والهند. حيث أخذ اليونانيّون يتعلّمون تقليدها على أيدي الصنّاع الفينيقيّين أنفسهم، حتى شاعت هذه الفنون بينهم[4].

ولم يقتصر تأثّر اليونان بالشّرق على العلوم الطبيعيّة والحرفيّة، بل إنّ هذا التأثّر بدا واضحًا وعميقًا في الأدب الملحمي، ذلك الأدب الذي ازدهر في بلاد الرافدين، ولعلّ أعمال هوميروس في ملحمتيه «الإلياذة» و«الأوديسة» تمثّل نموذجًا صارخًا في تأثّره بملحمة جلجامش الرافدية الشهيرة[5]. وتؤكّد الدّراسات الحديثة أنّ ملحمة جلجامش تعدّ أقدم الملاحم البطوليّة في تاريخ الحضارات.

كما تأثّر الأدب الأسطوري اليوناني القديم بالأساطير البابليّة القديمة لا سيّما بقصة الطوفان والخلق، فضلًا عن أسطورة عشتار وتموز البابليّة التي أثّرت في أسطورة أفروديت وأدونيس اليونانيّة[6].

غياب المعرفة الوحيانيّة

ورغم كل هذا التأثّر الإغريقي بالشرق، إلّا أنّنا نلحظ غياب التأثّر بحركة النبوّات التي كانت ناشطة ومنتشرة فيه، بل إنّنا نستغرب غياب الحديث عن أيّة حركة للنبوّات في بلاد الإغريق[7]، ولنا الحق في أن نتساءل عن السبب الذي دفع الإغريق للاستفادة من النّشاط العلمي والاقتصادي والاجتماعي والأدبي وغير ذلك، فيما لم يسجِّل لنا التاريخ عن استفادتهم أو حتّى تفاعلهم مع حركة الدعوة إلى التوحيد التي قادها الأنبياء. وبل يمكن تسجيل غياب مجمل المعرفة الوحيانيّة عن المجتمع الإغريقي. والحقّ يُقال، إنّ تجاهل حركة النبوّات، بما تحتويه من إعلاء للقيم، وتصويب للمسيرة الإنسانيّة نحو هدفها الأسمى، والاستفادة من المعرفة الوحيانيّة التي يؤمِّنها الاتّصال بعالم الغيب، تمثّل أعلى مراتب العقلانيّة، فيما حصر التأثّر بالأمور الاجتماعيّة والأدبيّة والاقتصاديّة وغيرها، هي عين الماديّة المسيطرة على العالم الغربي اليوم.

ورغم دخول كثير من العناصر الشرقيّة إلى بلاد الإغريق، إلّا أنّ التباهي بالقوّة والبطش بقي سائدًا فيها، ولم تخرج هذه الشعوب من هذه الحالة إلّا في فترات قصيرة من تاريخها.

فلا غرابة، أن تسيطر الحروب على مجمل تاريخ تلك المنطقة، وأن يستمرّ بعضها لعشرات السنين، وقد شهد الغرب مثل هذه الحروب في مرحلة متأخِّرة من العصر الوسيط، فيما أُطلق عليها اسم «الحروب الدينيّة»، دون أن ننسى الحروب الأخرى.

ومهما يكن من أمر، فقد كان الإغريق عبارة عن قبائل سادتها «أخلاق» الفتوّة، والتباهي بالقوّة، بعيدًا عن القيم الإنسانيّة والمثل العليا؛ فلا عجب أن عاشت البلاد قرونًا من الاقتتال، فكانت تنتقل فيه مراكز القوّة من مدينة إلى أخرى؛ من أسبارطة إلى أثينا إلى مقدونيا، وهكذا. ورغم هذا الانتقال والتغيير في مراكز الثقل، إلّا أنّ الثابت الوحيد الذي لم يتغيّر هو عنصر البطش، والقتل، وسفك الدماء.

ورغم هذا التاريخ المليء بالحروب، وعمليّات السطو التي لم يسلم منها حتى المنتج الثقافي والحضاري للشعوب الأخرى، فإنّ الآلة الإعلاميّة الغربيّة لم تتوقّف عن إطلاق ادّعاءات عريضة، تزعم فيها أنّ الإغريق هم مصدر العقل والمعرفة العقليّة، فيما كل من يقع خارج «أسوار» مدنهم ليسوا سوى «برابرة»؛ يمجِّدون «بريكليس» (490ق.م-429ق.م) والذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، بوصفه السياسي-العبقري في تشريعاته، لكنّهم يتجاهلون تشريعات حمورابي (1792-1750ق.م) والذي سبق بريكليس بأكثر من عشرة قرون. ويمتدحون هيبوداموس، صاحب تنظيم المدن كما يزعمون، لكنّهم يعرضون بوجههم عن الانبهار الذي أصاب الإسكندر الأكبر من العمارة المدنيّة التي شاهدها في بابل. هي، إذًا، عمليّة غسل للأدمغة، وتشويه للتاريخ، تقودها آلة إعلاميّة غربيّة معبّأة بجحافل من العنصريّة والاستعلاء، بل والاستغباء.

عن أيّ معجزة يتحدّثون؟!

ومع كلّ هذه الحقائق، ما زال معظم الباحثين الغربيّين ينكرون أن يكون لتراث الشّرق القديم أيّ تأثيرٍ على حضارة اليونان، ويتمسّكون بنظريّة «المعجزة اليونانيّة».

يعود عدم اعتراف أصحاب نظريّة «المعجزة اليونانيّة» بدور تراث الشّرق القديم في انطلاق حضارة اليونان وتطوّرها، إلى أسباب كثيرة؛ منها تعصّب الأوروبيّين ونظرتهم العنصريّة والاستعلائيّة، ومنها إلى قراءة الأوروبيّين لتاريخهم قراءة «ذاتيّة»، يجعلون أنفسهم بناة الحضارة الإنسانيّة، في حين ينتقصون من تاريخ الشعوب الأخرى ودورها في العمران الحضاري.

ورغم التيّار الغربي الجارف الذي حاول احتكار الابتداع الحضاري وحصره في اليونان كنقطة انطلاق، إلّا أنّ ذلك لم يمنع بعض الباحثين المنصفين من الاعتراف بالأصول الشرقيّة للحضارة اليونانيّة. فقد كتب جورج جيمس كتابه الشهير: «التراث المسروق»؛ حيث ذكر فيه صراحة أنّه «وبعد الحظر الذي فرضه المصريون قرابة خمسة آلاف سنة على دخول الإغريق مصر، سمحوا لهم بدخولها بغرض تلقّي العلم، واستطاع اليونانيّون الدخول لأوّل مرّة عن طريق الغزو الفارسي لمصر، ثم عن طريق غزو الاسكندر الأكبر، ومن ثم فإنّ اليونانيّين القدماء، منذ القرن السادس ق.م وحتى موت أرسطو (322ق.م)، استثمروا إلى أقصى حدّ الفرصة التي أتيحت لهم لتعلّم كلّ ما يستطيعون تعلّمه من الثقافة المصريّة»[8].

كما تحدَّث جيمس عن الاضطهاد الكبير الذي تعرّض له الفلاسفة الكبار في اليونان[9]. فإذا كان العصر الذهبي اليوناني هذا هو حاله، فما بالنا بما سبق من عصر انتشار الأسطورة والخرافات، وهيمنة عصر الآلهة المتوالدة، ورغم ذلك، فإنّه حتى هذه الأساطير سنجد أنّها «سُرِقت» من أدب الأساطير الرافديّة والمصريّة والفينيقيّة كما تقدّم.

وأمام هذه الحقائق لا نستغرب أن يُطلق جيمس تلك الصّرخة، معلنًا «أنّه لأمر مثير للدّهشة حقًّا أن يظلّ العالم الغربي يرجع المديح والثناء إلى اليونانيّين القدماء على مدى القرون، لإنجازات فكريّة تخصّ دون شكّ المصريّين أو شعوب شمال أفريقيا»[10].

ولم تقتصر بعض محاولات إنصاف الشّرق على «جورج جيمس»، فها هو جورج سارتون، مؤرّخ تاريخ العلم، يصرخ صرخته الشهيرة حول الأصول الشرقيّة للحضارة اليونانيّة؛ إذ اعتبر أنّه «من سذاجة الأطفال أن نفترض أنّ العلم بدأ في بلاد الإغريق، فإنّ «المعجزة» اليونانيّة سبقتها آلاف الجهود العلميّة في مصر وبلاد ما بين النّهرين وغيرهما من الأقاليم، والعلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعًا»[11].

ولهذا يدعو سارتون للتوقّف عن ارتكاب الموبقات، إذ «كفانا «سوءًا» أنّنا أخفينا الأصول الشرقيّة التي لم يكن التقدّم الهيليني مستطاعًا بدونها، ولكن بعض المؤرّخين أضافوا إلى هذا السوء بما أخفوا ممّا لا حصر له من خرافات يونانيّة عاقت هذا التّقدّم، وكان من الجائز أن تقضي عليه»[12].

وعلى المنوال نفسه، سار مارتن برنال في كتابه «أثينة السوداء»؛ إذ الحضارة اليونانيّة وثقافتها عنده ليست سوى نتاجًا «لنشاط استيطاني أو استعماري قام به المصريّون والفينيقيّون حوالي 1500ق.م ووضعوا (من خلاله) أبناء المنطقة الإغريقيّة على طريق التحضّر»[13].

ولا ينكر برنال السبب الذي يقف خلف إنكار الغرب لفضل الشّرق، والذي هو برأيه يعود إلى «أنّ الرومانيّين والعنصريّين في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا، بكلّ بساطة، لا يتحمّلون أن تكون بلاد الإغريق نتاجًا لخليط من أبناء البلاد الأصليّين ومستعمرين أو مستوطنين من الأفارقة أو الساميّين، وهي البلاد التي كانوا (الرومانسيّون والعنصريّون) ينظرون إليها على أنّها خلاصة أوروبا وصورتها المصغَّرة، بل مرحلة الطفولة الخالصة لهذه القارة»[14].

ورغم الجهد الذي بذله برنال في عمله، لكن هذا العمل لم يخلُ من رواسبَ عنصريّةٍ مقيتةٍ؛ حيث يمكن ملاحظة ذلك في إصراره على إرجاع الحضارة اليونانيّة في بعض عناصرها إلى الثقافة العبرانيّة أو السامية كما يسمّيها في بعض الأحيان -كما في النص السابق-. ولئن كانت الثقافة الغربيّة، كما يحسبها الغربيّون، عبارة عن نتاج لليونانيّة من جهة، ولليهوديّة المسيحيّة من جهة أخرى، فإنّ برنال أرجع جزءًا من الشّقّ الأوّل (اليوناني) إلى أحد مركّبات الشقّ الثاني (العبراني)، وإن لم تكن اليهوديّة قد ظهرت في تلك المرحلة؛ لذلك اعتبرناها انحرافًا عنصريًّا لا تعصّبًا دينيًّا.

ورغم أنّ الغرب قد نقد نفسه، كما يحلو لبعض «المثقّفين العرب» التعبير، إلّا أنّ التدقيق في «معظم» تلك المحاولات يفضي إلى أنّها لم تكن كلّها منصفة وبعيدة عن «الأدلجة»؛ إذ لا يخلو الكثير منها من محاولة «عبرنة» (من العبريّة والعبرانيّة) الحضارة وتهويدها.

مناهج النّقد بين الإفراط والتفريط

وَعَودًا إلى عملنا في هذا المشروع، فلا نُخفي أنّ المهمّة الأصعب كانت في محاولة إيجاد منهجٍ نقديٍّ متوازنٍ؛ إذ إنّ الدّراسات المتعلّقة بالغرب عمومًا، قد وقعت بين مطرقة النّقد حدّ التّفريط وإلغاء إنجازاته، وسندان الإفراط في مدحه وتقديسه. فالأوّل زعم أنّ كلّ ما حقّقه الغرب قديمًا ليس سوى «تراث مسروق»، فيما زعم الثاني أنّ إنتاج الغرب هو إنتاج «ذاتي» بحت، لم يستفد فيه من الشرق شيئًا، ولم يتأثّر به.

على أنّ حدّي الإفراط والتفريط لم يقتصرا على الباحثين الغربيّين، بل تعدّاهم إلى الباحثين العرب أيضًا، ويبدو أنّ هذا الأمر هو السّمة العامّة لمعظم من حاول خوض غمار النّقد، والإبحار في لججه، دون أن نبخس بعض السبّاقين حقّهم، في محاولة النّقد، لكنّها لم تكن سوى محاولات فرديّة محدودة، كُتب لبعضها النّجاح، فيما لم يكتب لبعضها الآخر.

وأمام هذين التيّارين، كان لا بدّ لنا من تلمّس طريق ثالث، ينطلق من منهج علمي لإجراء قراءة تحليليّة نقديّة للغرب، من خلال المناقشة التحليليّة بعين ناقدة تبيّن العيوب والمعاثر المعرفيّة ومواضع الخلل، والتهافت المضموني، والبحثي، والمنهجي في ما يتعلّق بالفكر الغربي القديم والحديث وعذرنا في ذلك أنّه، وفي إطار المحاولات الغربية لمسح كلّ مأثرةٍ شرقيةٍ، وإلغاء التاريخ وتحريفه، وطمس معالمه وتدنيسه، انصبّ عملُنا على النّقد المرتبط بإظهار الإخفاقات، فيما تركنا موضوع الإنجازات لمشاريع أخرى ترتبط بالتأصيل؛ حيث الاستفادة من كلّ تجربة، والاستعانة بكلّ نجاح.

التراث بين التمجيد والتحقير

والواقع أنّ الكلام عن الباحثين العرب يدخلنا في حديث ذي شجون، يتعلّق بالتّراث والموقف منه. فالغرب يتفاخر بتراثه رغم ما فيه من هنات، وما يحتويه من آفات، وما يعتليه من قصور، وما يمتلئ به من فتور، بسبب الابتعاد عن الروحانيّة، والانغماس في الماديّة، والقطيعة مع الوحي. ورغم اعتبارهم النبوّات عبقريّات بشريّة، والمعاجز والكرامات ليست سوى خرافات، فإنّهم لا ينكرون أو يتنكّرون لتاريخهم المليء بالأساطير، بل يضفون عليها القداسة الأدبيّة، فيمتدحون صورها الشّعريّة، ويتباهون فيما تحتويه من صنوف البلاغة.

وبالمقابل، فإنّ مجموعةً ليست بالقليلة من «المثقّفين» العروبيّين في الظاهر، المتغرّبين في المضمون، يعتبرون أنّ تطوّر الأمّة ونهوضها، والانطلاق في قطار الحداثة لا يتم إلّا بالانقطاع عن التراث، أو إعمال «السيف» فيه لتقطيع أوصاله، فيما بدا أنّه أقرب إلى الاستئصال منه إلى الإصلاح. فنجد أنّ ما كان يجب أن يعظّم من معانٍ أصيلةٍ. عمدوا إلى تحقيره، وما كان يجوز أو يجب تحقيره من وسائل مقتبسة، عمدوا إلى تعظيمه، فلم يفلحوا في ترميم ما خرّبوه، ولا هم عمّروا ما هدّموه.

النّقد للنهوض لا لمجرّد النّقد!

وعلى أيّ حال، فإنّ هذا المشروع (نقد الحضارة الغربيّة)، هو مشروعٌ نقديٌّ بامتياز أطلقه المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، كما سائر مشاريعه الفكريّة، على أنّ نقدنا للفكر الأوروبي-الغربي هو نقدٌ للعقليّة الأوروبيّة-الغربية. تلك العقليّة التي اعتبرت الحضارة الإنسانيّة على أنّها غربيّةٌ محضةٌ، وجعلت «الرجل الأبيض» محور الكون، والناهض بالإنسانيّة. فلا يريد هذا المشروع نقد الإنسان الغربي، فإنّنا نبتعد عن الشخصانيّة، ولا نبخس أحدًا حقّه، ولا سيّما أنّ الإنسان الغربي، كغيره من بقيّة بقاع الأرض، فيه الصالح وفيه الطالح، فيه الخيّر وفيه الشرير، فيه المتسامح وفيه العنصري، وإنّما ننقد تلك المنظومة الغربيّة التي تختزل الإنسان بها، وتحصره في عالم مادّيٍّ مقطوعٍ عن السماء، ومنعزلٍ عن القيم الفطريّة. والواقع، إنّ الغرب الحديث هو نتيجةٌ طبيعيّةٌ للغرب الإغريقي، فالعبث الإغريقي أدّى لظهور التيّار السوفسطائي المنكر للمعرفة الحقيقيّة، ومن الطبيعي أن يُنتج هذا التيّار الغرب «الشَكّاك» في كل ما هو خارج الطبيعة وفوقها. فنقدُنا، إذًا، هو لتلك الأسس والمباني المعرفيّة التي أسّست لتلك المنظومة التي عزلت نفسها عن السماء، وجعلت إنسانها إلهها.

ومن الضروري أن نوضّح أنّ هذه القراءة النّقديّة للغرب لن تتوقّف عند مجرّد النّقد ولا ينبغي لها، إذ مالم يُؤسّس النّقد والنّقض لإعادة إنتاج وبناء، وتحوّلَ إلى مجرّد ترفٍ فكريٍّ، فلن يغني الأمّة من جوع، فضلًا عن أن ينهض بها.

ولمزيد من تسليط الضوء على غايتنا النّقديّة في هذا المشروع نشير إلى مجموعةٍ من الخلاصات النّقديّة الهامّة التي ركّز عليها الباحثون المتخصّصون، وقد وردت في بحوث هذا الكتاب، وهي تشكّل مادّةً علميّةً ومنطلقًا لمزيد من النّقد الموضوعيّ المعمّق في بقيّة المجالات والجوانب من الفكر الغربي التي لم نتناولها في هذا الكتاب، والتي نضعها في خدمة الباحثين والمؤسّسات العلميّة والبحثيّة والجامعيّة.

الخلاصات النّقديّة:

الأصول

1. إنّ النّظريات التي تتحدّث عن نقاء المؤسّسين للحضارة الإغريقيّة واقتصارهم على العنصر الآري الأوروبي ليس صحيحًا، وتتجاهل هذه النّظريات وقائع حصول مستوطناتٍ مصريّةٍ وفينيقيّةٍ في تلك البلاد، والتي تركت أثرها بوضوحٍ على مجمل الحياة العامّة للسّكان الأصليين وامتزاجهم بهم. ويبدو أنّ هذه النّظريات حول «صفاء العرق» لا تخلو من عنصريّة تريد، ليس نفي الاختلاط بالأصل، بقدر ما تريد، نفي عنصر التأثير الحضاري للشرق على الغرب.

2. إنّ من يلاحظ أصول الكتابات القديمة في كريت، بأشكالها الثلاثة، يتبيّن له أنّها وافدةٌ من الشّرق القديم عبر الأناضول والسّاحل السّوري باتّجاه بلاد اليونان وذلك عبر هذه الجزيرة (كريت) التي استوعبت جميع المؤثّرات الحضاريّة القادمة من الشّرق، ثمّ أعادت صياغتها للعالم اليوناني باللّغة التي يفهمها. ورغم أنّ العلماء قد عجزوا عن قراءة الهيروغليفيّة الكريتيّة، إلّا أنّ الدلائل تثبت أنّها مشتقّةٌ من الكتابة السومريّة المسماريّة، استنادًا إلى مبدأ الكلمة الأحاديّة والمقطع المكافئ، وهذا يعارض الفكرة الشائعة في الغرب في أنّ الهيروغليفيّة الكريتيّة إبداعٌ محليٌّ أو ربّما تطوّرت عن الهيروغليفيّة المصريّة.

3. وفي جميع الأحوال، فإنّ الابجديّة الإغريقيّة مأخوذةٌ من الفينيقيين، والذي لا شكّ فيه أنّ دخول هذه الأبجديّة كان له التأثير الكبير على مجمل التّطوّرات العلميّة والثّقافيّة والحضاريّة الإغريقيّة.

4. بمعزلٍ عن مدى صحّة المزاعم الغربيّة حول الحضارة الإغريقيّة وأسباب صعودها، فإنّ الذي لا يعتريه شكّ، حتى عند الغرب، وإنْ حاولوا تشويهه بصورةٍ أو بأخرى، أنّ هذه الحضارة الإغريقيّة لم تكن أولى الحضارات نشوءًا، فقد سبقتها بلاد ما بين النّهرين، أقدم الحضارات، ومصر وسوريا.

5. رغم أنّ الحضارة الموكينيّة هي من أولى الحضارات التي قامت في بلاد الإغريق، إلّا أنّهم كانوا في غالبيتهم زارّعًا وتجّارًا، ولم يعرفوا استخدام الحديد في صنع آلاتهم وأسلحتهم، ما جعلهم فريسةً سهلةً للغزوات الدوريّة القادمة من الشمال. ورغم ذلك، فإنّ الحضارة الموكينيّة لم تكن نتيجة عبقريّة فذّة إغريقيّة بقدر ما كانت نتاج تفاعلٍ عميقٍ مع الحضارة الكريتيّة من جهة، وتفاعل مع باقي حضارات البحر المتوسّط، في سوريا ومصر وبلاد الأناضول، من جهةٍ أخرى.

6. أمّا الحضارة الكريتيّة، فقد أشارت الدلائل التاريخيّة الى أنّ هذه الحضارة، لا سيّما في عصرها الثالث، قد تميّزت بعلاقاتها القويّة مع مصر (تحديدًا الأسرة الثامنة عشرة)؛ حيث اعترفت كريت بالسّيطرة المصريّة، مما ضمن لها الرّخاء والازدهار والاستقرار.

الدين والأسطورة

1. يصعب القول، فضلاً عن تقديم الشواهد، بأنّ الحضارة الإغريقيّة قد أبدعت أساطيرها الخاصّة، وأنّ كتّاب الأساطير الإغريق، كهوميروس وهسيود، قد كتبوا ما كتبوه من خلال مخيّلتهم الشّخصيّة؛ فقد أثبتت الدّراسات المقارنة أنّ الأساطير الإغريقيّة لم تكن سوى نسخةٍ منقّحةٍ عن الأساطير الشّرقيّة، البابليّة والمصريّة والفينيقيّة، وأنّ كلّ ما قام به الإغريق هو أنّهم أضافوا عليها روحهم، وخُلعت عنها الأسماء الأصليّة، وأطلق عليها أسماء إغريقية.

2. رغم أنّ الديانات الشّرقيّة القديمة كانت تجعل لكلّ ظاهرةٍ طبيعيّةٍ إله، فجعلت آلهة للشّمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض، والبحار، والأنهار، بل والحيوانات.. إلخ، إلّا أنّنا نستطيع تلمّس بعض الرؤية التوحيديّة بحديثهم عن إله خالق واحد أوحد هو أصل لكلّ تلك الآلهة، ومع ذلك فإنّ الدّيانة الإغريقيّة لم تأخذ بعين الاعتبار تلك الرؤية التوحيديّة بشكلٍ أو بآخر والتي كانت سائدةً في الديانات الشّرقيّة، واقتصرت في رؤيتها الدّينيّة على مجموعةٍ من الآلهة التي أخذت تتقاتل فيما بينها، بناء على مجموعة من المصالح. ما يدلّ على ديانةٍ يونانيّةٍ تقوم بشكلٍ أساسيٍّ على النّفعيّة والماديّة، حتى في طريقة تعامل البشر مع هذه الآلهة.

3. إذا عدنا الى «أوديسة» «هوميروس» من حيث فكرة القصّة وصياغتها، فسنجد مؤثّراتٍ واضحةً من الفكر المصري القديم، وبصفةٍ خاصّةٍ من قصّة «الملاح الغريق»، بل إنّ الأمر تجاوز حدّ التّشابه بين أحداث القصّتين؛ حيث يُعدّ اقتباسًا واضحًا للعديد من فقرات القصّة المصريّة وإضفاء الصبغة الهوميريّة عليها. بل إنّ هوميروس تأثّر أيضًا، وظهر ذلك من خلال الأوديسة، بمفهوم الثّواب والعقاب الواردين في الملاحم المصريّة والبابليّة، إضافة إلى تأثّره بما يُسمّى بالأدب الجنائزي المصري، والذي يتحدّث عن القوى العقليّة للموتى، وعن قيام محكمةٍ بالعالم السّفلي.

4. عندما نركّز البحث في الدّيانة اليونانيّة نجد أنفسنا أمام دينٍ مشوّشٍ يفتقد إلى تصوّرٍ محدّدٍ وواضحٍ للإله يتناسب مع مقام الإلوهيّة الجليل. كذلك لم يكن لهذه الديانة تنظيم يُماثل ما نجده في الأديان السائدة في العالم الحديث؛ فليس لها نبي ولا مشرّع يفسّر طبيعة ما تريده الآلهة من البشر. كما افتقدت الديانة اليونانيّة إلى أيّ كتبٍ مقدّسة ذات نصّ يحدّد في تعاليمه مبادئ الأخلاق، ولا تنظيم رئيسي لهيكل كهنوتي، ولا تعاليم دينيّة مستقيمة يمكن اتباعها لعيش حياة متفانية ورعة، ولا نظام متّفق عليه ليوم البعث والحساب، ولا نظام محدّد يمكن اللّجوء إليه عند ارتكاب الخطايا للتوبة والتكفير عن الذنوب والخطايا.

5. من المفارقات، أنّ بعض الفلاسفة، والذي يعتبرون من رموز مرحلة ولادة العقل الإغريقي الإعجازي، كما يقولون، كانوا يدافعون عن آلهة الإلياذة والأوديسة، وعن تلك الأساطير المرتبطة بصراع الآلهة وتزاوجهم وأنسابهم، وطغيانهم، وشهواتهم، بل وجرائمهم وأحقادهم.

حروب وشخصيّات ومدن

1. تمثّل الغزوات الدورية مرحلةً مظلمةً جدًا في تاريخ اليونان، لما تركته تلك الغزوات من آثارٍ اقتصاديّةٍ وديموغرافيّةٍ وسياسيّةٍ على الحياة العامّة. لكن هذه الغزوات ليست بعيدةً عن العقليّة الغربيّة، ولا هي غريبة عن الغرب نفسه؛ إذ ومن الواضح أنّ هذه القبائل الدوريّة التي هاجمت بلاد اليونان هي من العنصر الإغريقي نفسه، وهم واحدة من أربع مجموعات قبليّة تكوّن منها الشعب اليوناني: الآخيون، والإيوليون، والأيونيون، والدوريون. والأرجح أنّ موطن الدوريين الأصلي كان في جنوب روسيا أو في حوض الدانوب الأوسط، واستوطنوا في الجزء الشمالي الغربي من الوطن الإغريقي القديم بعد قدومهم من شمال أوروبا في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

2. ثم إنّ الحروب والغزوات الدوريّة، رغم طعن الغربيين بها وبطبيعتها، إلّا أنّها لا تختلف عمّا كان سائدًا في بلاد الإغريق؛ فالاستعباد، وانعدام قيم الحرب، والطبقيّة والعنصريّة، ليست أمورًا جاء بها الدوريون، فقد شاهدناها في حروب طروادة وغيرها من الحروب، علمًا أنّ حرب طروادة كانت قد وقعت قبل الغزو الدوري.

3. أظهرت حرب طروادة، عدم انحياز الإغريقي للمبادئ الأخلاقيّة، وسيطرة المشاعر القبليّة والعائليّة على قيادتهم على حساب القيم والأخلاق.

4. شهد العالم الإغريقي، بمختلف مراحله، حالةً من الطّبقيّة التي سادت الحياة الاجتماعيّة، ورغم اختلاف هذه الطبقات سعةً وضيقًا بين مدينة وأخرى، لكنّ اللّافت أنّ عنصر القوّة والفتوّة كان الأكثر انتشارًا؛ ولذلك حظيت طبقة الجيش والمقاتلين بمرتبةٍ اجتماعيّةٍ معتبرة، نظرًا لاعتماد المدينة عليهم في حروبهم، الهجوميّة منها أو الدّفاعيّة. ويمكن ملاحظة التّغنّي بالقوّة والافتخار في المجتمع الإسبارطي.

أخلاق، اجتماع، سياسة

1. يمكن القول إنّ القيم والأخلاق في الحضارة الآخيّة كانت عبارة عن مجموعةٍ من الأحكام النّابعة عن الانفعال أكثر من قيامها على العقل، وقد بُنيت على الرّغبات والطموحات والتّطلّعات، وإن أزهقت في سبيلها الأرواح، وأريقت الدماء.

2. رغم أنّ الآخيين قد اتّسموا ببعض القيم الأخلاقيّة، كالسخاء، لكنّهم في المقابل كانوا يتّصفون بالكذب والمكر والخداع.

3. الذي تُعزّزه الأدلّة أنّ الأخلاق والقيم عند الآخيين كانت معدومةً في حالة العداء والخصام مع الآخر في المدن الأخرى؛ إذ إنّ امتزاج النّخوة بالرّغبة المحمومة في القتال، مع وجود فئة عدوانيّة تميل إلى الصراع والحرب حيث حلّت، أدّى ذلك إلى ظهور نظامٍ أخلاقيٍّ وقيميٍّ مضطربٍ ومتردٍّ في علاقة الآخيين بالآخر، مع عدم وجود لأيّ حقّ من أيّ نوع للضعيف، في عالم لا يعترف إلا بالقوّة.

4. إنّ الحضارة الآخيّة كانت مختلّةَ المعايير؛ حيث الفضيلة ليست في التّسامح ولا في الحنو مع الآخر، وإنّما تكمن في الشّجاعة، وشرب الخمور، والانتصار على الخصوم، بالكذب والخيانة. لكن المفارقة، أنّ هذا النّظام القيمي المختل، كان يكتسب شرعيّته من الآلهة التي كانت تبارك هذا الاختلال، وتحتقر المتسامح.

5. لم تكن للمرأة عند الإغريق مكانةً تذكر، فهي في معظم مجتمعاتهم لا كلمة لها، ولا حقوق في الميراث أو الأبناء. وإن ظهر نوع من الاحترام للمرأة فقد كان يقتصر على المرأة «الأم» تحديدًا. وبكلمةٍ أخرى، لعبت المرأة دورًا بارزًا في الحياة الاجتماعيّة الإغريقيّة داخل الأسرة، مع وجود قوانين كثيرة مقيّدة لها.

اقتصاد

1. اعتمد الاقتصاد الإغريقي، الكريتي والآخي، على نظام التّبادل السلعي، لكنّه كان مستوردًا أكثر منه مصدّرًا.

2. كانت السّفن الإغريقيّة التّجاريّة في ذلك العصر قديمة مقارنة بالأساطيل التجارية المصرية والفينيقيّة، ما جعلها غير قادرةٍ على قطع مسافاتٍ بعيدةٍ.

3. استفاد الإغريق من اختلاطهم مع الشعوب الأخرى في ساحل المتوسّط، سواء مع المصريين، أو ليبيا، أو بلاد الشام حيث الفينيقيين، فطوّروا صناعاتهم، وأساطيلهم البحريّة التّجاريّة.

4. إنّ معظم تجارات الإغريق كانت تتمّ عن طريق السّاحل الفينيقي، وربّما هذا هو السبب الذي دفعهم في مراحلَ لاحقةٍ لتنشيط حركة الاستيطان على سواحل الأناضول، وشمال إفريقيا، وغيرها من مناطق المستعمرات.

 

-------------------------

[1]- حول فيثاغورس راجع: جورج جيمس: التراث المسروق، تر: شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ص17.

[2]- راجع: بحث التدوين والكتابة للدكتور عبد السليمان في هذا الكتاب.

[3]- راجع: بحث التدوين والكتابة.

[4]- راجع: بحثي التجارة في كريت وعند الآخيين للدكتور حسام غازي ضمن هذا الكتاب.

[5]-  راجع: بحث الأساطير والأدب عند الإغريق للدكتورة نوال طبيب.

[6]- راجع: بحث الأساطير والأدب (سبق ذكره)، وكذلك بحث: التأثيرات الشرقيّة على الحضارة اليونانيّة للدكتور نبيل صالح.

[7] ينطلق هذا الاستغراب من اعتقادنا بأنّه حيث توجد تجمّعات بشريّة سيوجد أنبياء.

[8]- التراث المسروق، جورج جيمس،  ص17.

[9]- راجع: المرجع السابق، ص18.

[10]- التراث المسروق، جورج جيمس، ص19.

[11]- جورج سارتون، تاريخ العلم، مجموعة من المترجمين، المشروع القومي للترجمة، مصر، ط1، 2010م،ج1، ص21.

[12]-  المصدر نفسه.

[13]- مارتن يرنال، أثينة السوداء، تر: لطفي عيد الوهاب يحيى وفاروق القاضي وآخرون، المشروع القومي للترجمة، مصر، 2002، ج1، ص75.

[14]- المصدر السابق، ص77.


 

مقدمة الجزء الثاني 

كان علم التاريخ في السابق معنيًّا بتدوين الوقائع والحوادث البشريّة كما حصلت في وعاء الزمن الماضي، ثم تطوّر ليصبح هو المتكفّل ـ بالإضافة إلى وصف الأحداث وتدوينها ـ بتفسير الوقائع وتحليلها وتعليلها وكشف العلاقات والروابط بينها. وشهد المصطلح في العصر الحديث تطوّرًا في مدلوله، فاتّسع ليشمل كلّ شيء في الطبيعة والحضارة: «الأرض، والمعادن، والنباتات، والحيوان، والأفكار، والعلوم... وغير ذلك إلى جانب الفعاليّات الإنسانية»[1]، فلم يعد علم التاريخ منحصرًا بدراسة الوقائع البشريّة التي حدثت في الزمن الماضي فقط، بل اتّسع ليشمل ميادين المعارف والعلوم والأديان والفلسفات البشريّة، وتاريخ الأرض وما يعيش عليها من مخلوقات وتحويه من كائنات وظواهر...، وبدأ العلماء يميّزون بين أنواع من التاريخ: كالتاريخ النقلي، والتاريخ العلمي، وفلسفة التاريخ[2]... وأصبح علم التاريخ متداخلاً مع العديد من العلوم، كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنّفس...

 لذا، أصبح من الواجب على الباحث التاريخي أن يحيط بالظّواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفنيّة والفلسفيّة...، التي تتّصل بالعصر الذي يريد دراسته، وأن يستند على منهجٍ بحثيٍّ ينسجم مع طبيعة العلم الذي يبحث فيه. وبالتحقيق والتحليل والمقارنة والنقد، يصل إلى نتائج علميّةٍ موضوعيّةٍ منسجمةٍ مع القواعد والضوابط المنهجيّة للبحث.

وبناءً عليه، إنّنا عندما نطلق مشروعًا علميًّا تحت مسمّى «نقد الحضارة الغربيّة»، لا نقصد به إعادة كتابة تاريخ الغرب مرّة أخرى، فقد تكفّل الغرب نفسه بذلك، وإنّما نقصد إعادة تظهير هذا التاريخ من خلال إجراء قراءةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ لتاريخ الغرب بجميع حقوله؛ المعرفيّة، الثقافية، الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية، وفي جميع أزمانه؛ الإغريق، القرون الوسطى، التنوير والحداثة، ما بعد الحداثة، وصولاً الى عصرنا الراهن. ما حتَّم علينا، ولاعتبارات منهجيّة، تقسيم العمل في هذا المشروع وفق مقتضيات التحقيب الزّمانيّ والجغرافيا المعرفيّة والثقافيّة التي شهدت على وقائعه وأحداثه.

ولمّا كان الغرب الحديث يعتبر أنّ تاريخه، الفكري على الأقل، قد بدأ مع الإغريق، أو ما أطلق عليه هو نفسه بالمعجزة الإغريقيّة، فقد ارتأينا أن ينطلق مشروعنا النّقديّ من تلك الحقبة التأسيسيّة، وتحديدًا من ما قبل القرن التاسع قبل الميلاد؛ ذلك أنّ تلك الفترة تُعدّ اللّبنة الأساسية، والعماد الذي اعتمد عليه الغرب في تكوين نفسه، كما أنّ البحث عن جذور الغرب والحفر الأركيولوجي يوصلنا لا محالة إلى هذه الفترة الزّمنيّة.

  إذًا، نحن في هذا المشروع أمام تاريخ غربيّ يمتدّ لحوالي أربعة ألاف سنة، أي إلى حوالي عام ألفين قبل الميلاد. بهذا، كان لا بدّ من تقسيم العمل إلى مراحل. وقد ارتأينا أن تكون البداية من ما قبل القرن التاسع قبل الميلاد، وهي مرحلة تمتدّ إلى حوالي عام 1500 قبل الميلاد؛ حيث بالإمكان رصد معالم تلك المرحلة من نواحٍ عديدة، وحيث يمكن إيجاد بعض المصادر عنها، ومحاولة رسم معالمها وخصوصياتها.

علمًا بأنّنا ننطلق في تحليل الغرب ونقده من منطلقٍ دينيٍّ أوّلاً، وعقلانيّ معرفيّ ثانيًا، وإنسانيّ فطريّ ثالثًا.

هذا الكتاب (الجزء الثاني) هو استكمال لبحوث الجزء الأول من هذه السلسلة، ويتضمّن البحوث المتعلّقة بالمدن، والشخصيات، والحروب، والأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد.

----------------------

[1]-  محمد مهدي شمس الدين، التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام، ص 13.

[2]- انظر: ياسين، كاظم: منهجية البحث في تاريخ الإسلام، ط1، بيروت، مركز المصطفى العالمي للدراسات والترجمة والنشر، 1434هـ-2013م، ص49.


 

مقدمة الجزء الثالث 

يرى الغرب الحديث أنّ تاريخه قد بدأ مع ما أطلق عليه هو نفسه بالمعجزة الإغريقيّة، ولهذا  فقد ارتأينا أن ينطلق مشروعنا النّقديّ من تلك الحقبة التأسيسيّة، وتحديدًا قبل القرن التاسع قبل الميلاد؛ ذلك أنّ تلك الفترة تُعدّ اللّبنة الأساسيّة التي اعتمد عليها الغرب في تكوين نفسه. وقد ذكرنا سابقاً بأنّ هدفنا المركزيّ والرئيس من دراسة الفكر الغربي وتاريخه، ليس هو كتابة تاريخ الغرب مرة ثانية أو توصيفه بلغةٍ جديدةٍ، بل المطلوب هو إعادة تظهير هذا التاريخ من خلال إجراء قراءةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ معمّقةٍ للفكر الغربي من خلال دراسة تاريخه بجميع حقوله؛ وفي جميع أزمانه؛ بدءًا من الإغريق؛ وصولاً إلى عصرنا الراهن.

وانسجاماً مع الواقع التّاريخي لتاريخ الغرب ولاعتباراتٍ منهجيّةٍ، فقد قسّمنا عملنا العلميّ والبحثيّ في هذا المشروع إلى مراحل، وارتأينا أن تكون البداية بما قبل القرن التاسع قبل الميلاد. وهذه هي الفترة التي عالجناها وسلّطنا الضوء عليها في المرحلة الأولى من المشروع، وقد طُبعت بجزئين (الأول والثاني) من هذه السلسلة في العام 2020م.

واستكمالاً لمراحل المشروع، نتابع في هذه الأجزاء الثلاثة (الثالث والرابع والخامس) ما كنّا بدأناه في الجزأين السّابقين من مشروعنا في سلسلة «نقد الحضارة الغربيّة». وبعون الله تعالى فإنّنا تمكّنا من إنجاز البحوث التخصّصيّة للمرحلة الثانية، بحسب مخطّط المشروع، والتي تغطّي تاريخ الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد، وإصدارها في ثلاثة أجزاء هي (الثالث والرابع والخامس) من هذه السلسلة؛ وقد تضمّن الجزء الثالث منها فصلين يتحدّثان عن الحياة الدينيّة والاجتماعيّة، وتضمّن الجزء الرابع منها فصلاً واحداً يتعلّق بالحياة السياسيّة والاقتصاديّة، بينما تضمّن الجزء الخامس منها فصلين أحدهما في الفلسفة والآخر في الحياة العلميّة والفنّيّة.

وصحيح بأّن الملامح العامّة لهذه المرحلة، لا تختلف كثيراً عن المرحلة السابقة من النواحي الدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة، إلّا أنّها شهدت بعض الإصلاحات في السياسة والاقتصاد، مع استمرار الحالة الدينيّة على ما هي عليه في جوهرها، لكنّها شهدت تحوّلاً هامًا في الفكر، بعد ظهور مجموعة من المفكّرين الذين حاولوا مقاربة موضوعاتٍ هامّة ترتبط بالرؤية الكونيّة مقاربة جديدة، أُطلق عليها اسم «فلسفة»، ونعني هنا ما اُصطلح على تسميته بالفلسفة الما قبل سقراطيّة.

ختاماً، إنّنا في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، نقدّم خالص الشّكر لجميع الباحثين الذين شاركوا معنا في هذه المرحلة، وإلى فريق العمل في المركز على جهودهم العلميّة والبحثيّة، ونخصّ بالذكر منهم الدكتور محمد مرتضى، حيث تحمّل عناء إدارة وتحرير المشروع، والمتابعة مع الباحثين؛ وكذلك الشيخ حسين الجمري، حيث ساعدنا في بدايات انطلاق المشروع.

 

مدخل الجزء الثالث 

لم تكن المرحلة الواقعة بين القرن الثامن وبدايات القرن الخامس قبل الميلاد من تاريخ الإغريق إلّا امتدادًا لما قبلها، باستثناء ظهور بعض الفلاسفة ممن اُطلق عليهم اسم فلاسفة ما قبل سقراط؛ رغم أنّ الأفكار التي طرحوها بدت مفارقة للأجواء الثقافيّة العامّة التي كانت سائدة في تلك البلاد آنذاك، خاصّة مع استمرار انتشار الأساطير المرتبطة بالآلهة، وفي ظلّ الهيمنة الهوميريّة على عقول الشباب والشيوخ على حدّ سواء.

* * * * *

لقد شغلت الآلهة موقعًا مهمًّا في حياة الإغريق، وما يؤكّد ذلك تلك الطقوس الدينيّة التي كانوا يقيمونها لأجلها. ولم تنجُ هذه الطقوس من الطبقيّة التي كانت سائدة في المجتمع الإغريقيّ، فامتازت بفخامتها، لاسيّما إذا كانت مخصّصة للآلهة الإغريقيّة الكبرى التي كانت تحتلّ المكانة العليا في المجمع الإلهيّ الإغريقيّ. لقد تنوّعت هذه الطقوس فكانت تظهر بصور مختلفة من قبيل: تقديم القرابين والأضاحي للآلهة، والغناء والرقص، وسكب السوائل المقدّسة تكريمًا لها، والتي لم يكن بالإمكان تأديتها ما لم يكن الإنسان طاهرًا، وقد كان لهذه الطهارة طقوسها الخاصّة.

وعلى كلّ حال فقد شكّلت هذه المرحلة انعطافة كبيرة لناحية المعابد وانتشارها بعد أن كانت تعتمد في مراحل سابقة على عبادة الأسرار التي تقام في البيوت، فكانت تُمارس كلّ الطقوس في المعابد، وفي بعض الأحيان خارجها، كطقس التضحية الذي مارسه الإغريق في أرض المعارك أحيانًا.

 وكما هو الحال في سائر الشعوب، تعدّ الأعياد عند الإغريق من أهمّ المناسبات التي مُورست فيها الطقوس، وكانت هذه الأعياد تُقام على شرف بعض الآلهة الكبرى في اليونان، فضلًا عن الطقوس الدينيّة، إضافة إلى أنّ بعض الأعياد كانت مناسبة لعرض الأعمال الفكريّة، وإلقاء الشعر، وإقامة الحفلات والمباريات الرياضيّة.

* * * * *

وكان من أكثر المواضيع إثارة للمناقشة هو الأسرة الإغريقيّة القديمة ومراحل تفكّكها، وصولًا إلى القرن الخامس ق.م؛ ورغم ذلك فقد بقي التوصيف الذي وضعه الغرب في مرحلة لاحقة، وتبنّاه الشرق إلى حدّ كبير لشكل الأسرة الإغريقية القديمة وطبيعتها، لا بل حتّى مراحل تفكّكها، غير مُقنع لكثير من الباحثين، وخاصّة التوصيف الذي وضعه فوستيل دي كولانج، والذي يعدّ الأكثر شيوعًا. على أنّ البحث والتحليل للمعطيات العلميّة المتاحة يبيّن لنا أنّ فوستيل دي كولانج لم يتوّصل لبناء تصوّر مقنع لشكل الأسرة الإغريقيّة القديمة وطبيعتها ومراحل تفكّكها، ويعود ذلك إلى تصوّره الخاطئ عن طبيعة الديانة المنزليّة.

* * * * *

أمّا في ما يتعلّق بالحياة العلميّة التي سادت في بلاد الإغريق في تلك المرحلة، فقد ازدهرت الحركة العلميّة خلال الفترة الممتدّة من القرن الثامن إلى القرن الخامس، وأسّست هذه الفترة من الناحية العلميّة لفترات لاحقة من تاريخ الإغريق. وقد برع هؤلاء بالفلك والطبّ والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعيّة؛ إذْ كوّنت أساسًا علميًّا لنفس العلوم الإغريقيّة التي تطوّرت في الفترات اللاحقة، دون أن نغفل عن حقيقة مفادها أنّ كثيرًا من العلوم قد استفادها الإغريق من الشرق، لا سيّما مصر، فقد أشارت التحقيقات إلى أنّ فيثاغورث، على سبيل المثال، قد أخذ عن المصريّين علوم الرياضيّات والهندسة.

ومن العلوم التي برزت في تلك الفترة الفلسفة؛ حيث ظهرت لأوّل مرّة في العالم الإغريقيّ، وظهر عدد من الفلاسفة الذين ناقشوا أفكارًا مهمّة، إلّا أنّ التحّري الدقيق يفضي إلى نتيجة مفادها، أنّ هذه الفلسفة لم تكن طفرة عقليّة ابتكرها الإغريق، لكن ذلك لا يعني خلوّ العقل الإغريقيّ من الإبداع؛ لكنّنا سنجد أنّه حتى هؤلاء الفلاسفة لم تخلُ فلسفتهم من تأثّر واضح بكتابات هوميروس وهسيود، لا سيّما فيما يتعلّق بالمادّة الأولى التي تكوّن منها الكون، أضف إلى ذلك تأثّر الفلاسفة بما كان سائدًا من فكر وقّاد في الحضارة الشرقيّة، وقد تكلّف العديد من مؤرّخي الفلسفة بإثبات حجم الاستفادة التي حصل عليها فلاسفة ما قبل سقراط من الحضارة الشرقيّة؛ بل إنّ العديد من الباحثين يرجعون أسباب غزو الإغريق للشرق، بما فيها غزوات الإسكندر المقدونيّ (كما سيظهر لنا في أبحاث المرحلة الثالثة من هذا المشروع) لم تخلُ أسبابها من محاولة السيطرة على كنوز الشرق، ليس المادّيّة فقط، بل والمعرفيّة أيضًا.

* * * * *

من جهة أخرى، يحظى مفهوم الدَّولة في الوقت الرَّاهن باهتمامٍ كبيرٍ، بصفتهِ موضوعًا إشكاليًّا؛ إذ يحاول بعض المفكّرين البحث في المقوِّمات والأسس السِّياسيَّة، في حين يحاول آخرون الوقوف على نمط التَّفكير السِّياسيِّ وتطوُّره، كما يسعى بعض الباحثين إلى الوقوف على سيرورة تكوُّن الدُّول مفهومًا وواقعًا، حيث يثير موضوع الدَّولة في ميدان الفكر والسِّياسة المعاصرة تساؤلاتٍ وإشكاليّاتٍ متعدِّدةً، على الرَّغم من الكمِّ الهائل من المؤلَّفات والكتابات التي بُحثت وما زالت تُبحث.

لقد حاز مفهوم الدَّولة في الفلسفة اليونانيَّة على أهميَّةٍ كبيرةٍ لدى الباحثين في ميادين السِّياسة والقانون؛ لما لهذا الفكر من أثرٍ في سيرورة التَّاريخ البشريِّ، لا سيّما مع بروز ما أُطلق عليهم اسم المصلحين، أمثال بيركليس، خاصّة أنّ العالم الإغريقيّ، لا سيّما أثينا، شهدت نماذج مختلفة من الأنظة السياسيّة التي تراوحت بين الأرستقراطيّة والأوليغارشيّة والديموقراطيّة.

وعلى أيّ حال، فقد جاءت هذه المرحلة الثانية من مشروعنا في نقد الحضارة الغربيّة لتغطّي الفترة الممتدّة من القرن الثامن حتى القرن الخامس قبل الميلاد، واحتوت على أربعة وثلاثين بحثًا وضعناها في خمسة فصول:

الفصل الأوّل خصّصناه لأبحاث الدين والحياة الدينيّة، في جوانب مختلفة منه، ترتبط بالآلهة والمعابد والطقوس.

فيما خصصنا الفصل الثاني للحياة الاجتماعيّة،  إضافة إلى بحث حول حقوق الإنسان، حيث ارتأينا أنّه لا بدّ من الولوج في هذا الجانب؛ لما لهذا الموضوع من أهمّيّة محوريّة في حياتنا المعاصرة.

أمّا الفصل الثالث، فقد خصّصناه للحياة السياسية والاقتصاديّة؛ حيث الحديث عن مدينتي أثينا وسيراكوزا، ومصادر تاريخ الإغريق، إضافة إلى الإرهاب الديني والاستعمار.

 وقد ارتأينا جعل بحث الرقيق ضمن الحياة السياسية لا الاجتماعية، نظرًا للعلاقة العضوية بين قضية الرقيق وأبعادها السياسية.

أما الفصل الرابع فقد خصّصناه للفلسفة، والتي لم نوغل في البحث فيها كثيرًا، بسبب حجم الأعمال والمنشورات حولها، واقتصر عملنا على بعض الموضوعات التي نحسب أنّها على جانب كبير من الأهمّيّة، والتي لا بدّ من الإضاءة عليها نقدًا ونقضًا.

أما الفصل الخامس والأخير فقد جعلناه للحياة العلميّة والفنّية؛ كالعلوم، والعمارة، والنحت، والتصوير، والمسرح، والكوميديا، وغير ذلك مما رأينا أنّ موارد إعمال النقد فيه يقع على جانب كبير من الأهمّيّة.


 

مقدمة الجزء الرابع 

يرى الغرب الحديث أنّ تاريخه قد بدأ مع ما أطلق عليه هو نفسه بالمعجزة الإغريقيّة، ولهذا  فقد ارتأينا أن ينطلق مشروعنا النّقديّ من تلك الحقبة التأسيسيّة، وتحديدًا قبل القرن التاسع قبل الميلاد؛ ذلك أنّ تلك الفترة تُعدّ اللّبنة الأساسيّة التي اعتمد عليها الغرب في تكوين نفسه. وقد ذكرنا سابقاً بأنّ هدفنا المركزيّ والرئيس من دراسة الفكر الغربي وتاريخه، ليس هو كتابة تاريخ الغرب مرة ثانية أو توصيفه بلغةٍ جديدةٍ، بل المطلوب هو إعادة تظهير هذا التاريخ من خلال إجراء قراءةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ معمّقةٍ للفكر الغربي من خلال دراسة تاريخه بجميع حقوله؛ وفي جميع أزمانه؛ بدءًا من الإغريق؛ وصولاً إلى عصرنا الراهن.

وانسجاماً مع الواقع التّاريخي لتاريخ الغرب ولاعتباراتٍ منهجيّةٍ، فقد قسّمنا عملنا العلميّ والبحثيّ في هذا المشروع إلى مراحل، وارتأينا أن تكون البداية بما قبل القرن التاسع قبل الميلاد. وهذه هي الفترة التي عالجناها وسلّطنا الضوء عليها في المرحلة الأولى من المشروع، وقد طُبعت بجزئين (الأول والثاني) من هذه السلسلة في العام 2020م.

واستكمالاً لمراحل المشروع، نتابع في هذه الأجزاء الثلاثة (الثالث والرابع والخامس) ما كنّا بدأناه في الجزأين السّابقين من مشروعنا في سلسلة «نقد الحضارة الغربيّة». وبعون الله تعالى فإنّنا تمكّنا من إنجاز البحوث التخصّصيّة للمرحلة الثانية، بحسب مخطّط المشروع، والتي تغطّي تاريخ الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد، وإصدارها في ثلاثة أجزاء هي (الثالث والرابع والخامس) من هذه السلسلة؛ وقد تضمّن الجزء الثالث منها فصلين يتحدّثان عن الحياة الدينيّة والاجتماعيّة، وتضمّن الجزء الرابع منها فصلاً واحداً يتعلّق بالحياة السياسيّة والاقتصاديّة، بينما تضمّن الجزء الخامس منها فصلين أحدهما في الفلسفة والآخر في الحياة العلميّة والفنّيّة.

وصحيح بأّن الملامح العامّة لهذه المرحلة، لا تختلف كثيراً عن المرحلة السابقة من النواحي الدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة، إلّا أنّها شهدت بعض الإصلاحات في السياسة والاقتصاد، مع استمرار الحالة الدينيّة على ما هي عليه في جوهرها، لكنّها شهدت تحوّلاً هامًا في الفكر، بعد ظهور مجموعة من المفكّرين الذين حاولوا مقاربة موضوعاتٍ هامّة ترتبط بالرؤية الكونيّة مقاربة جديدة، أُطلق عليها اسم «فلسفة»، ونعني هنا ما اُصطلح على تسميته بالفلسفة الما قبل سقراطيّة.

ختاماً، إنّنا في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، نقدّم خالص الشّكر لجميع الباحثين الذين شاركوا معنا في هذه المرحلة، وإلى فريق العمل في المركز على جهودهم العلميّة والبحثيّة، ونخصّ بالذكر منهم الدكتور محمد مرتضى، حيث تحمّل عناء إدارة وتحرير المشروع، والمتابعة مع الباحثين؛ وكذلك الشيخ حسين الجمري، حيث ساعدنا في بدايات انطلاق المشروع.


 

مقدمة الجزء الخامس 

يرى الغرب الحديث أنّ تاريخه قد بدأ مع ما أطلق عليه هو نفسه بالمعجزة الإغريقيّة، ولهذا  فقد ارتأينا أن ينطلق مشروعنا النّقديّ من تلك الحقبة التأسيسيّة، وتحديدًا قبل القرن التاسع قبل الميلاد؛ ذلك أنّ تلك الفترة تُعدّ اللّبنة الأساسيّة التي اعتمد عليها الغرب في تكوين نفسه. وقد ذكرنا سابقًا بأنّ هدفنا المركزيّ والرئيس من دراسة الفكر الغربي وتاريخه، ليس هو كتابة تاريخ الغرب مرة ثانية أو توصيفه بلغةٍ جديدةٍ، بل المطلوب هو إعادة تظهير هذا التاريخ من خلال إجراء قراءةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ معمّقةٍ للفكر الغربي من خلال دراسة تاريخه بجميع حقوله؛ وفي جميع أزمانه؛ بدءًا من الإغريق؛ وصولًا إلى عصرنا الراهن.

وانسجامًا مع الواقع التّاريخي لتاريخ الغرب ولاعتباراتٍ منهجيّةٍ، فقد قسّمنا عملنا العلميّ والبحثيّ في هذا المشروع إلى مراحل، وارتأينا أن تكون البداية بما قبل القرن التاسع قبل الميلاد. وهذه هي الفترة التي عالجناها وسلّطنا الضوء عليها في المرحلة الأولى من المشروع، وقد طُبعت بجزئين (الأوّل والثاني) من هذه السلسلة في العام 2020م.

واستكمالًا لمراحل المشروع، نتابع في هذه الأجزاء الثلاثة (الثالث والرابع والخامس) ما كنّا بدأناه في الجزأين السّابقين من مشروعنا في سلسلة «نقد الحضارة الغربيّة». وبعون الله تعالى فإنّنا تمكّنا من إنجاز البحوث التخصّصيّة للمرحلة الثانية، بحسب مخطّط المشروع، والتي تغطّي تاريخ الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد، وإصدارها في ثلاثة أجزاء هي (الثالث والرابع والخامس) من هذه السلسلة؛ وقد تضمّن الجزء الثالث منها فصلين يتحدّثان عن الحياة الدينيّة والاجتماعيّة، وتضمّن الجزء الرابع منها فصلًا واحدًا يتعلّق بالحياة السياسيّة والاقتصاديّة، بينما تضمّن الجزء الخامس منها فصلين أحدهما في الفلسفة والآخر في الحياة العلميّة والفنّيّة.

وصحيح بأّن الملامح العامّة لهذه المرحلة، لا تختلف كثيرًا عن المرحلة السابقة من النواحي الدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة، إلّا أنّها شهدت بعض الإصلاحات في السياسة والاقتصاد، مع استمرار الحالة الدينيّة على ما هي عليه في جوهرها، لكنّها شهدت تحوّلًا هامًا في الفكر، بعد ظهور مجموعة من المفكّرين الذين حاولوا مقاربة موضوعاتٍ هامّة ترتبط بالرؤية الكونيّة مقاربة جديدة، أُطلق عليها اسم «فلسفة»، ونعني هنا ما اُصطلح على تسميته بالفلسفة الما قبل سقراطيّة.

ختامًا، إنّنا في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، نقدّم خالص الشّكر لجميع الباحثين الذين شاركوا معنا في هذه المرحلة، وإلى فريق العمل في المركز على جهودهم العلميّة والبحثيّة، ونخصّ بالذكر منهم الدكتور محمد مرتضى، حيث تحمّل عناء إدارة وتحرير المشروع، والمتابعة مع الباحثين؛ وكذلك الشيخ حسين الجمري، حيث ساعدنا في بدايات انطلاق المشروع.


 

مقدمة الجزء السادس 

لقد بات واضحاً للقرّاء الأعزّاء، أهداف هذا المشروع والمعيار في تقسيمه إلى مراحل؛ إذ بدأنا من المرحلة الأولى التي غطّت الإغريق قبل القرن التاسع قبل الميلاد (صدرت في جزأين؛ 1 و2)، ثم أتبعناها بالمرحلة الثانية التي عملنا فيها على الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد (الأجزاء 3، 4، 5)، وها نحن اليوم نقدّم المرحلة الثالثة، والتي تغطّي معظم ما عُرف لاحقًا بأوروبا بين القرنين الخامس والأوّل قبل الميلاد (في أجزاء أربعة: 6، 7، 8، 9).

ولقد خصّصنا الجزء السادس لمباحث تكميليّة ترتبط بالإغريق، ثم أتممنا هذا الجزء ببعض المباحث الفلسفيّة المتفرّقة؛ كالفلسفة الماقبل سقراطيّة، وسقراط، والفلسفات الرواقيّة والأبيقوريّة، إضافة إلى ما عُرف بالمدارس السقراطيّة الصغرى؛ وجعلنا الجزء السابع جزءاً خاصًّا بأفلاطون، فيما اختصّ الجزء الثامن بأرسطو، لنختم المرحلة بالجزء التاسع الذي سلّطنا فيه الضوء على صعود روما في عصريها، الملكي والجمهوري؛ وأضفنا إليها بعض الأبحاث المرتبطة بالشعوب التي احتكّت معها روما؛ كالقبائل الجرمانيّة، وشعب «الكلت».

والحقيقة، أنّنا فكّرنا مليًّا في تحديد الفترة الزمنيّة التي ينبغي أن تغطّيها هذه المرحلة الثالثة؛ ولئن كنّا غير متردّدين في جعل بدايتها القرن الخامس قبل الميلاد، انطلاقًا من حيث انتهينا في المرحلة الثانية، إلّا أنّ تحديد نهايتها كان موضع نقاش؛ لكن الرأي استقرّ على جعل النهاية هي القرن الأوّل قبل الميلاد، وتحديداً عام 27ق.م، كون هذا التاريخ مثّل انطلاق مرحلةٍ جديدةٍ في طبيعة الحكم الروماني الذي سيهيمن على الغرب لفتراتٍ طويلةٍ، ونعني به تحوّل روما إلى إمبراطورية.

يبقى أن نشير إلى قضيّة فنيّة، وهي ترتبط بضم أبحاث فلسفيّة إلى الجزء السادس، والذي يتعلّق بإكمال بعض المباحث المرتبطة بتاريخ الإغريق. والواقع أنّ السبب في ذلك يتعلّق برغبتنا في جعل الأبحاث المتعلّقة بكلٍّ من أفلاطون وأرسطو في جزأين مستقلّين، فآثرنا جعل الأبحاث الفلسفيّة المتبقّية في الجزء السادس بدل الجزء التاسع، باعتبار أنّ هذه الأبحاث وموضوعاتها أكثر التصاقًا بالفكر الإغريقي منه بالفكر الروماني.

وأخيراً، لا ننسى أن نقدّم جزيل الشّكر لكلّ الباحثين الذين ساهموا في إنجاز هذه المرحلة، إذ لولاهم لما أبصرت هذه السلسلة النور، والتي تلقى صدًى واسعاً وطيّباً في الأوساط العلميّة. والشكر الأول والأخير لله سبحانه وتعالى الذي يرعى هذا المشروع بعينه التي لا تنام. والحمد لله رب العالمين.

 

مدخل الجزء السادس 

تمثّل المرحلة الثالثة من هذا المشروع، مرحلة التغيّرات الكبرى في المشهد العام للعالم الغربي، حيث التحولات في مركز القرار السياسي والعسكري أولًا، ثم في الانهمامات الفكريّة تالياً.

وما يميّز هذه المرحلة أنّها شهدت صعود الإمبراطوريّة المقدونيّة بعد الغزوات الواسعة التي شنّها الإسكندر الأكبر، والتي ما لبثت أن تفكّكت بعد موته، وتقاسم قادة جيشه للتركة الكبيرة التي خلّفها وراءه؛ ثم بعد ذلك في صعود روما وتوسّعها.

وعلى أيّ حال، فإنّ أبحاث هذه المرحلة ستُظهر كم كان «ليفي ستراوس» مصيباً في فكرته التي عرضها في كتابه «العرق والتاريخ»، في كون ممارسات الإقصاء التي مارسها الغرب، ترتقي إلى زمن بعيد في الثقافة الغربيّة، عندما كانت العصور القديمة تخلط كلّ ما لا يشترك مع الثقافة اليونانيّة (ومن بعد الثقافة اليونانيّة الرومانيّة) تحت اسم البربري، لتستعمل «الحضارة الغربية»، فيما بعد، تعبير متوحّش في المعنى ذاته.

* * *

حُكمت مقدونية من قبل السلالة الأرغية، التي يرقى أقدم تاريخ موثّق لحكمها لنحو عام 540ق.م، واستمرت بشكل فعليّ حتى وفاة الإسكندر الثالث، وقد بلغت ذروة قوّتها في عهدي فيليب الثاني والإسكندر الثالث، حيث استطاع الأوّل فرض السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان، ومهّد من خلال حملةٍ استطلاعيّةٍ لغزو الشرق، ولكنّه توفي قبل تحقيق ذلك، وخلفه الإسكندر الثالث، الذي قام بدوره بتعزيز السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان قبل أن يتوجّه لغزو الشرق ويُهيمن عليه.

لكن ثمة أسئلة مهمّة تعتري الباحث في حياة الإسكندر وغزواته العسكريّة، ترتبط بالعوامل التي ساعدت على فرض تلك السيادة. وهل كانت تلك السيادة تشمل جميع الجوانب؟ أم إنّها كانت سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة؟ ولماذا لم يستطع المقدونيون عبر تاريخهم إنتاج ثقافةٍ تمكّنهم من فرض سيادةٍ ثقافيّةٍ على مناطق سيطرتهم؟ إذ بقيت الثقافة الإغريقيّة هي المهيمنة على مقدونية حتى في أوج قوّتها.

وماذا عن الدين؟ فهل كان له دورٌ بارزٌ في مجريات الأحداث، لا سيما وأنّ المكتشفات الأثريّة تُشير إلى تغلغل الديانات السريّة اليونانيّة في مقدونية؟! أضف إلى ذلك، أنّ سلوك الإسكندر كان مثيرًا للاستغراب، فقد كان يتقرّب لآلهة البلدان التي يحتلّها، كما حصل في مصر، بل وفي بابل أيضاً، ما يفرض السؤال التالي: هل كان تقرّبه من آلهة هؤلاء سعيًا من الإسكندر لكسب مودّة شعوب تلك المناطق؟ أم كان يعتبر أنّ تلك التماثيل هي آلهة بالفعل وتمثّل امتدادًا -بصورة أو بأخرى- لآلهة الإغريق والمقدونيين؟ أم إنّه كان يسعى لترسيخ فكرة أنّه من سلالة الآلهة لإضفاء طابع الألوهيّة على نفسه تشبّهاً بهرقل مثاله الأعلى؟

وماذا عمّا أشارت إليه بعض المصادر من أنّ الإسكندر كان يوبّخ قادة جيشه عندما كانوا ينظرون إلى بابل نظرة استعلاء واحتقار، وأنّه حمل عليهم وعلى أرسطو في وصف هؤلاء بالبرابرة، فيما أنّهم يملكون حضارةً تفوق حضارة الإغريق وتسبقهم في التقدّم بقرون عديدة؟! ما يثير السؤال التالي: هل كانت توبيخات الإسكندر تلك حقيقيّة في التاريخ؟ وعلى فرض صحّتها هل كانت تنطلق من قناعة راسخة عنده، أم هي مجرّد تصريحاتٍ إعلاميّةٍ يُراد منها عدم استفزاز تلك الشعوب من خلال احتقارها واحتقار تاريخها؟ وعلى فرض صحّتها وقناعة الإسكندر بها، فهل وقع الإسكندر تحت تأثير الهيمنة الفكريّة والمعنويّة لتلك الحضارات، فبات المُحتلّ أسيراً؟

ومهما يكن من أمر، فإنّ البحث المعمّق يُظهر أنّ المقدونيين وإن استطاعوا فرض سيادتهم على بلاد اليونان، ولكن تلك السيادة كانت سيادةً عسكريّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً، في مقابل بقاء الهيمنة الثقافيّة الإغريقيّة على مقدونية.

* * *

لقد غلب على العصر الهللينستي الفوضى والاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة، وسيادة الأفكار المنحرفة الهدّامة التي ملأت النفوس بالقلق والتوتّر، حيث أخذ الناس يبحثون عن الطمأنينة والهدوء. لكن المفارقة كانت في التوجّه بهذه المهمّة نحو مذاهب من أمثال الأبيقوريّة من خلال مذهبها الأخلاقي، والتي رأت أنّ السعادة الإيجابيّة فوق قدرة البشر، وقالت بطمأنينة نفسيّة سلبيّة تتمثّل في الخلوّ من الآلام والمتاعب والتحرّر من المخاوف وحالات القلق والهم، والتمتّع بكافة اللذات الممكنة. ومن ثمَّ جعل الأبيقوريون من اللذة الحسيّة الخير الأسمى وغايةً للحياة ومعياراً للقيم. لقد رفض هؤلاء الدين والعلم بادّعاء أنّهما يجلبان الهمّ والغمّ والخوف والقلق والتوتّر، وذلك على خلاف الرؤى، وعلى خلاف الفطرة السليمة، التي تسود قديمًا وحديثًا وترى في الدين مصدر عزاء وخلاص، وفي العلم سببًا للتقدّم والرفاهيّة. لقد وقع الأبيقوريون في مقتل عندما حصروا اهتمامهم بما هو باطنيّ واستخفّوا بالظروف الخارجيّة، ما جعلهم ينسحبون من كافة الأنشطة الحياتيّة انسحابًا يقضي على طموح الإنسان ويسلبه الحيويّة التي لا تستقيم بغيرها حياة. كما عبَّرت الأخلاق الأبيقوريّة عن نزعةٍ نفعيّةٍ واضحةٍ، فلم تنشد الأبيقوريّة الفضيلة لذاتها، وإنَّما للنفع والفائدة التي تعود من ورائها، فأباحت الظّلم وعصيان القوانين متى حقّق هذا الأمر منفعةً، وتم قصر الأخلاقيّة على الفائدة الدنيويّة وعدم ربطها بثواب أخروي، فلا حياة أخرويّة ولا معاد فيها.

* * *

فلسفياً، تعدّ مرحلة الجدل السفسطائيّ السقراطيّ نقطة تحوّل، حيث كان التفكير الفلسفيّ متمركزًا حول نطاق الطبيعة، خصوصًا حول أصل العالم وطبيعته ومآله. ورغم أنّ الإنسان كان دائمًا هو الأصل في كلّ مراحل الحراك والنشاط النبوي، فقد كان الإنسان مهمّشًا مع الفلاسفة الطبيعيين؛ لكن التحوّل الذي حصل بدأ مع الحركة السفسطائيّة، التي حوّلت الإنسان إلى مصدر القول أو الخطاب، ومعياريّة الحقيقة إن وُجدت، فجاء مشروع سقراط الفلسفي مهتمًّا هو الآخر بالإنسان. لكن يختلفان في مسألة الحقيقة، فالسفسطائيّة أعطت مركزيّةً للعبارة أي للدال، ما يعني أنّ الحقيقة مهمّشةٌ وتابعةٌ، في حين سقراط أعطى المركزيّة للحقيقة بوصفها كيانًا كليًّا موجودًا في الخارج، وكذلك داخل فطرة الإنسان.

ورغم اختلافهما، فهما معًا قد حوّلا المركزيّة إلى الإنسان، لكن المشكلة دائمًا في الفلسفات المتمركزة حول الإنسان تتمثّل في مصدر هذه المركزيّة، ما من شأنه أن يقع فكر التمركز حول الإنسان في مفارقة المركز وتفكيكه في الآن نفسه، فعندما نتمركز حول الذات سنتساءل عن منح الإنسان المركز؟ وهنا قد نجد إجابتين، هما: إمّا الإله، أو الطبيعة. وهكذا سنتحوّل إلى مركزيّة الإله أو الطبيعة، ما سيجعل هيومانيّة سقراط والسفسطائيّة محلّ نقد.

إنّ أهمّ ما يمكن مقاربته في فلسفة سقراط، هو ما يُمكن وسمه بـ«منهج السؤال عند سقراط» في ضوء ما وصل إلينا عن الفلسفة السقراطيّة من منقولات تلامذته ومريديه المؤيّدين، لا سيّما أفلاطون وأنتستينس، وعن خصومه ونقّاده سيّما شاعر الكوميديا الساخرة أرستوفانس.

إنّ مقاربة سقراط، تستهدف مقابلة أسلوب تفلسفه ومقارنته مع من يوصفون بأنّهم خصومه المفترقين عنه من الفلاسفة السفسطائيين، لإظهار حدود هذا الافتراق وأسبابه ومحصوله، وذلك في سبيل مقاربة ورسم صورة مختلفة عن تلك الشائعة عن سقراط ومنهجه، مقاربة تكون أقرب إلى الواقعيّة والموضوعية منها إلى المديح والتكرار، فنتساءل حقيقة عمّا استقرّ في الأذهان عن صورة لسقراط خطّها يراع أفلاطون وأسطرها حُسن بيانه وشيوع فلسفته.

من هنا، نجد مشروعيّة السؤال حول الحدّ الذي يسمح لنا بوصف سقراط بأنّه كان فيلسوفاً للاختلاف عن دارج أفكار زمانه وثقافة مدينته؟ ولماذا؟ وهل كان حقًّا رجل الحقيقة والمُنافح عنها في زمن تسفيهها وتحويلها سبيلاً للعيش والترزّق؟ وهل لدى سقراط، ما يستحقّ أن يوصف بـ«منهج في السؤال»، وما درج عليه الباحثون من توصيف منهجه وأنّه يعتمد على التهكّم والتوليد؟ أم كان السّؤال إجراءً ووسيلةً لغاية اقتضتها ضرورات وشقاقات السياسة بين المواطنين والفلاسفة والخطباء في أثينا؟ وأخيراً: هل حقّق سقراط، بأسلوب تفلسفه، مقصود منهجه في بلوغ ثبات المفاهيم وبراء الحقيقة؟ أم إنّه أخفق في بلوغ الهدف الذي جعله مرامَ فلسفته؟ 

* * *

وفي السياق نفسه، ما زالَ أفلاطون يثيرُ الجَدل الفكريّ، ويستدعي التّأمل والمراجعة النقديّة فيما أعطاه من أفكارٍ وطروحات فلسفيّة وسياسيّة، حولَ كثيرٍ من القضايا والمفاهيم التي تمسُّ أصل الوجود البشري على هذه البسيطة.

لقد سعت أبحاث هذه المرحلة الى إعطاء صورةٍ إجماليّةٍ، بنظرةٍ نقديّةٍ، حول ما قدّمه لنا أفلاطون في مجال نظريّة المعرفة، والإلهيات، والسياسة، وفلسفة بناء الدولة. وقد كان للفلسفة السياسية في فكر أفلاطون حصّةٌ لا بأس بها؛ لأنّها كانت الهاجس الرئيس لأفلاطون، رغم كلّ حضوره الفلسفيّ في مجالات أخرى، تأثّراً بما وقع على أستاذه، سقراط، من ظلم، اعتبر أنّ سببه الأساس هو النظام السياسي القائم. بل إنّنا لا نبتعد عمّن قال إنّ السياسة كانت السبب الرئيس، أو أحد أسباب دخول أفلاطون لعالم الفلسفة. على أنّ تناول الفلسفة السياسيّة عند أفلاطون لا يستقيم دون مقاربة مفهوم العدالة والأخلاق، وأنواع الحكومات وأنظمة الحكم، وأُسس قيام الدولة، وكذلك مقاربة قضايا المجتمع والشعب كهيكل قوي وضخم، يتقوّم بالفرد-المواطن، وضرورة تربيته على الأخلاقِ والعدالة ليكون صورةً مصغّرةً عن الدولة المثاليّة المنشودة، وهذا يحتم البحث في الطبقات الاجتماعيّة، وتأثيرها على السّياسة.

من الواضح أنّ فلسفة التفكير السياسي عند أفلاطون تستند على مرجعيّته الأخلاقيّة المثاليّة (نظرية المثل والاستذكار) والتي شكّلت خلفيّة ذهنيّة وعمليّة محرِّكة عنده، بقيت حاضرةً في تفكيره وسلوكه ونتاجاته وأعماله حتى آخر لحظة في حياته الاجتماعيّة والسياسيّة،  فأيّ نقدٍ أو مراجعة فكريّة لأفلاطون، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المعطى المعرفيّ السابق الذي كان جوهرَ فكره ومحور رؤيته الفلسفيّة والوجوديّة، رغم كلّ الهنات والعثرات التي اعترت نظريّته في المثل، أهمّها أنّها كانت غير قابلةٍ للإثبات، أو على الأقل، لم يقدّم لنا أفلاطون الأدلّة عليها.

لا يمكن الإنكار أنّ محاولات أفلاطون كانت جادّةً في بناء منظومةٍ سياسيّةٍ متكاملةٍ، وتقديم صورةٍ معياريّةٍ لدولة سياسيّة مثاليّة، تنتهي بالمجتمع المثالي والمدينة الفاضلة القائمة على العدالة والأخلاق -التي اعتبرها أهم المداخل وتمثُل رؤيته السياسيّة- إلّا أنّه يمكن ملاحظة التناقض والمغالاة في بعض آرائه وطروحاته السياسيّة والأخلاقيّة، لا سيما ما يتعلّق منها ببناء الفرد وتربيته على معايير تربويّة وأخلاقيّة وعمليّة، وهي تتناقض مع فطرة الفرد وجوهر وجوده؛ فمن جهةٍ، رفضَ أفلاطون المادّة وطالبَ بقمع الشهوات والقوى الغرائزيّة والغضبيّة، واعتبرها مصدراً لكلّ شر، ومانعاً لوصول هذا الفرد إلى المعرفة الكاملة، متجاهلاً أنّ الإنسان لا يكون فاعلاً ومنتجاً إلا بتوازن المادة والروح فيه، ومن جهة أخرى نجده يصطفّ مع الداعين إلى إباحة الاتّصال الجنسيّ والمثليّة الجنسيّة أو طقوس الزواج المنصوص عليها أساساً في أخلاقيّة الدولة الأفلاطونيّة والقائمة على زواج الشيوع أو زواج المشاركة، والتي يبدو أنّه عدل عنها في أواخر حياته.!!.

مهما يكن من أمر، فإنّ القارئ لأفلاطون يلحظ جيّداً القواعد الصارمة والممنهجة التي يتّبعها لتحقيق الغاية التي يرجوها منها، والتي تعدّ مخالفة للقواعد التي يرسمها في الوقت نفسه، وهو ما قد يصيب القارئ بخيبة أمل.

إنّ هذا النّمط من التناقض يغلّف أغلب فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما يتعلّق بالتربية والتعليم، بوساطة المراحل التي يقترحها لكلّ فئة من فئات المجتمع على حده، وبوسائل للتعليم التي يمكننا أن نقف عليها في محاوراته، والأهداف المثاليّة التي يرجوها منهما. وهو ما أثَر سلباً على الصعيد الفردي، والاجتماعي، وأدّى إلى شرخ واضح في نظامه التربوي بين النظريّة والتطبيق، وجعل منه شخصاً انتقائياً وديكتاتورياً تقوم أفكاره على مبادئ تحسين النسل، وعلى إعلاء الفعل العقليّ على الفعل العملي، وعلى أهميّة اتّباع القوانين والتمسّك بالمجتمعات أكثر من الاهتمام بإعداد الفرد من أجل الوصول إلى مثال الإنسان، ومن ثم من أجل تنظيم المدينة والإنسانيّة.

في مباحث الإلهيات، اهتم أفلاطون بمبحث الألوهيّة اهتمامًا فائقًا، وأفرد له مساحات كبيرة في محاوراته، وحرص على وصف الإله بصفات نزهته عمّا كان سائدًا في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة من تجسيد وتشبيه، حيث أصبح صورةً خالصةً من المادة أو من عالم الظن، وكان هذا نتيجة تأثّر أفلاطون بما وصلت إليه الأمم المتحضّرة المحيطة ببلاد اليونان حينذاك فيما يخص مبحث الألوهيّة، واستفادته من الصفات الإلهيّة التي وصف بها حكماء الشّرق القديم آلهتهم، فقال بالإله الموجود الكامل الخيّر المعتني بالكون، فهو جميل، وحكيم، وعالم، وجامع لكلّ المحامد. لكنَّ أفلاطون مع ذلك لم يستطع التخلّص مما ورثه من أساطير كانت سائدةً في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة، فقال بالإله الصانع لا الخالق، وذهب إلى القول بتعدّد الآلهة وليس الإله الواحد، وأنَّ الإله لا يصدر عنه الشّر ولا يستطيع أن يمنعه بشكل تام فهو فوق مقدرته، وقال بعجز الإله التام أمام فكرتي القدر والضرورة.

ولم يبتعد أفلاطون عن الاهتمام باللغة، فإنّنا نجد بسهولة إرهاصات مباحث لغويّة، تحوّلت في العصر الحديث، إلى مذاهب شتّى في اللسانيات وفلسفة اللغة. من هنا، فإنّ هذه الأبحاث لم تغفل عن مقاربة مسألة اللغة عند أفلاطون، وتبيان رأيه في نشأتها وقدرتها على تأدية وظائفها بوصفها وسيلةً للتواصل والمعرفة. ورغم أنّ إحدى السمات الأساسيّة للإنسان هي أنَّه كائن لغويّ، إلّا أنّ أفلاطون يستبعد الإجماع والاتّفاق على عمليّة وضع الأسماء، ويُرجعها إلى نظريّة المحاكاة التي ترى أنّ الأحرف والأسماء تحاكي الطبيعة الجوهريّة للأشياء، لذلك يردّ كلّ الكلمات الفَرعيّة (الثانوية) إلى الأصْل-الأسماء الأوّلية التي تُشكّل الثابت أو الجذر (الأصْل اللُّغوي) الذي تعتمد عليه عمليّة الاشتقاق، وهنا يُلاحظ التّماهي بين نظريّة أفلاطون اللغوية ونظريّته في الوجود والمعرفة، من حيث التمييز بين الثابت والمتغيّر وردّ الوجود إلى مبادئ أوّليّة ثابتة. ولا يغفل أفلاطون عن العلاقة التي تربط بين الاسم والشيء على اعتبار أنّ الشيء يمتلك أسبقيّة أنطولوجيّة على الاسم، كما أنّ الاسم يُشكّل انعكاساً لغوياً للشيء، إلّا أنّ معرفة الاسماء لا تعني عن معرفة الأشياء؛ لذا يتوجّب على المرء التوجّه إلى الأشياء ذاتها من أجل معرفتها، وهذا يطرح من جانب آخر علاقة اللغة بالحقيقة، حيث تُعَدُّ اللغة انعكاساً للحقيقة، وهناك مسافة بين الكلمة-الاسم والشيء لا يمكن عبورها.

من المؤكَّد أنَّ اليونانيين كانوا أوَّل مَنْ أثار الاهتمام بالظَّاهرة الجماليَّة، وهم أيضاً أوَّل مَنْ بدأ بوضع أسسٍ حقيقيَّةٍ لمعرفة ماهيَّة الجمال، وسواءٌ أكان الجميل هو النَّافع أو المنسجم أو المثير للعواطف واللَّذات الجماليَّة، فإنَّ كلَّ تلك النَّظريات تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ وهي أنَّ الجمال يرتبط بالإنسان بوصفه ذاتاً جماليَّةً يتذوَّق الفنَّ ويتأثَّر به.

من هنا، كان لا بدّ من مقاربة الجمال عند أفلاطون، مقاربةً نقديّةً، وربطاً به كان لا بدَّ من مقاربة موضوعي الفنِّ والحبِّ أيضاً. أولاً؛ لأنَّ الفنَّ هو المعبِّر الأفضل عن الجمال، وثانياً؛ لأنَّه حامل قيمة الجمال ومبلورها، وثالثاً؛ لأنَّنا بالفنِّ، وفق أفلاطون، نستطيع أن نحاكي الجمال الأسمى أو الجمال بالذَّات في عالم المُثُل الذي ابتكره أفلاطون؛ إذ كلَّما اقترب الجمال الواقعيُّ من الحقيقة كلَّما اقترب من الجمال المثاليِّ الذي يرشدنا نحو الفضيلة والخير والأخلاق الفاضلة.

 أمَّا الحبُّ، فهو معراج الفنَّان في انتقاله من العالم الماديِّ إلى عالم المُثُل، فبالحبِّ وحده يستطيع الفنَّان أن يحقِّق النَّقلة الحقيقيَّة بين الجمال في الواقع والجمال الرُّوحيِّ المثاليِّ، ليس الفنَّان فقط، بل كلُّ من يعاين الجميل، ويستطيع أن يسمو به نحو الجمال الكليِّ المطلق؛ لأنَّ الحبَّ حاجةٌ دائمةٌ للاكتمال، فهو عاطفةٌ تبحث بشوقٍ أبديٍّ عمَّا يحقِّق الكمال المنسجم المتعالي عن الواقع.

* * *

إنّ النّظر في الفلسفة الأرسطيّة التي استندت إلى التفوّق الثقافي والعرقي، يدفعنا إلى مراجعة خلفيّة العلاقة اليونانيّة مع بلاد فارس، والتي تميّزت بخوفها الشّديد من أن يُستعبد اليونانيون في ظلّهم رغم أنّ  فارس كانت إمبراطوريّةً عظيمةً في العالم القديم، فقد انتصر الإغريق القدماء في معارك عديدة ضدّها، وهي أكبر دولة في ذلك الوقت، وقاموا ببناء مجموعة من الأساطير الوطنيّة على أساس تلك الانتصارات، كانت في حدّ ذاتها ضروريّة وممكنة، لمحو إمكانيّة الهزيمة وتوطيد قيم السيطرة والتفوّق اليوناني، وقد ساندتها الفلسفة الأرسطيّة باختلاقها وعيًا آخر، يمجّد الاستعباد والرقّ والعنصريّة، ويوصف بالعقلانيّة، وإن اتّسمت هذه «العقلانيّة» بأنّها تصف كلّ الأجانب على أنّهم برابرة. 

في الواقع، إنّ الحديث عن أرسطو والعبوديّة الطبيعيّة يُظهر الرؤية الأيديولوجيّة لأرسطو ضمن دراسة الرق، من كونه دراسة حالة ليست عاديّة، يقتضي إعادة النظر في وصف أرسطو للعبودية الطبيعيّة بدقّة على أنّه أيديولوجيّ في طبيعته، فعلينا أن نظهر اعتقاده بأنّ غير اليونانيين كانوا طبيعيين. وتبيين ما إذا كان العصر الأرسطي فيه عبوديّة، وأنّ أرسطو في حدّ ذاته عاش في مجتمع عُبوديّ، وهل كانت العبوديّة طوعيّة على حدّ تعبير ايتيان لابويتي (Etienne de la Boétie)  أمرًا مقبولًا؟    

وما يؤخذ على أرسطو في قضيّة العبوديّة والاستعلاء الإغريقيّ، يُؤخذ عليه أيضًا في قضايا تُصنّف اليوم ضمن حقوق الإنسان: كموقفه من المرأة، وأسرى الحروب، وما إلى ذلك.

وليس بعيداً عن ذلك، حاولنا إلقاء الضّوء على فلسفة أخلاق الفرد عند أرسطو، لا سيما فيما يتعلّق بمفهومها والأسس التي بُنيت عليها، وعلاقتها بمفهوم السعادة ونظريّة الفضيلة عنده من جهة، والوقوف على المعادلة الأرسطيّة "الفضيلة وسط بين رذيلتين" في سبيل استعراض الإشكاليات والصعوبات التي واجهتها من جهة أخرى، وصولاً إلى الإشكاليات التي تعرّضت لها فلسفة أرسطو الأخلاقيّة ككل، ليغدو التّساؤل بعد ذلك عن إمكانيّة وجود إنسان فاضل عند أرسطو.

ولم تكن الإلهيات الأرسطيّة أفضل حالًا، فقد ظهر الإله الأرسطي في نظريّة المحرّك الأوّل الذي لا يتحرّك، إلهاً خاليًا من الصفات الكماليّة.

وفي نظريّة المعرفة، فقد كانت نظريّة المثل والنقد الأرسطي لها، من الإشكاليات التي شغلت تاريخ الفلسفة اليونانيّة منذ بدايتها؛ لأنّها موضوع خلافٍ جوهريٍّ ما بين الأستاذ والتلميذ الذي حاول بنقده الثورة على أفكار أفلاطون، وتأسيس فلسفةٍ مغايرةٍ لفلسفته في المنهج والأسلوب، وهذا ما تؤكّده الغالبيّة العظمى من مؤلّفات تاريخ الفلسفة، دون التطرّق إلاّ فيما ندر إلى الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف هذا النّقد الشرس للمثل.

لقد حاولنا هنا إخضاع نقد أرسطو لنظريّة المثل للنقد والتحليل، وإبراز مدى التزامه بالموضوعيّة وقواعد الصحّة والبطلان أثناء نقده، هذا النّقد الذي أوقعه في التناقض والكثير من المشكلات الفلسفيّة أثناء رحلة بناء فلسفته، وأهمّها إشكاليّة العلاقة بين الكلّي والجزئي التي بدأ فيها فيلسوف اسطاغير برهانياً كرجل منطق وانتهى مثالياً في تأكيده أولويّة الموجود الميتافيزيقي المطلق، كما يكشف منهجه في البحث، إذ انتقل بتراتب هرميّ من المحسوس (لا وجود إلاّ للجزئي) إلى المعقول (لا علم إلاّ بالكلي) ليصل في نهاية المطاف إلى المفارق (المحرك الأول اللامتحرك) الذي عدّه موضوع العلم وغايته الحقيقيّة؛ فيعود هنا أفلاطونياً.

وعلى أيّ حال، فإنّنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنّ أرسطو كان أوّل من زرع بذور المنهج الماديّ بطريقة أو بأخرى، في الفكر الفلسفي. وهكذا وقع الفكر الفلسفي، لقرون لاحقة، بين سندان مثاليّة مفرطة عند افلاطون، ومطرقة أرسطو المادية.

وفي الفلسفة الطبيعيّة، تتقوّم فلسفة الطبيعة عند أرسطو وتأمّلاته في فيزيائها، وما تستتبعه هذه التأمّلات، التي يبدأها أرسطو من مقدّمات استقرائيّة، من قولٍ بخصوص كوزمولوجيا الكون الذي يشكّل للطبيعة علّتها أو ما وراءها، من سلسلة من الحوامل المقصود الفصل بخصوصها، والتي أخصّها وأعسرها على القطع الواثق، هي مقولتا الزمان والمكان.

يتقصى البحث في فلسفة الطبيعة، ضمن حدوده المتاحة، عن الآثار الما قبل أرسطيّة في تفكير وإرث أرسطو المختصّ بمشكلة ثنائيّة المكان والزمان، سيّما تلك الآثار والتراث الذي حفظه لنا تاريخ الفلسفة اليونانيّة عن شيوخ المدرسة الأيلية.

وقد استخلصنا معنى المكان والزمان الكوزمولوجيين في طبيعيات أرسطو انطلاقاً مما يُمكن دعوته المكان والزمان الواقعيين أو اللامطلقين، مع محاولة تفسير معنى الثنائيّة الزمكانيّة عند أرسطو.

وقد خلصنا إلى اختزال ما يُمكن دعوته بالتناقضات المنهجيّة وتضادات النتائج التي تظهر في فيزياء السماع الطبيعي عند أرسطو بخصوص إشكاليّة المكان والزمان، وثنائيّتيهما.

* * *

ما تقدّم، يمثل مضمون الأجزاء الثلاثة من هذه المرحلة (6،7،8)، أمّا الجزء الرابع (9)، فقد تمّ تخصيصه للمرحلة الرومانيّة.

ومن الطبيعي، في معالجة المرحلة الرومانيّة في عهديها الملكي والجمهوري، أن نقارب مفهوم القانون الروماني من حيث ماهيّته، لا سيما وأنّه يُعدّ، إلى اليوم، مفخرة الغرب، وما زال يُدرس حتى يومنا هذا، في الجامعات. وقد تركّز النقد لهذا القانون على تبيان مواضع القسوة والضّعف واللاعدل في فروع القانون الروماني العام، كذلك بيان مواضع القسوة والضعف واللاعدل في فروع القانون الروماني الخاص

* * *

ومن جهة ثانية، تعدّ دراسة الحياة الدينيّة لأيّ شعب من الشعوب من الدّراسات المهمّة، والتي يمكن من خلالها التعرّف على مستوى تفكيرهم، ومدى تطوّرهم الحضاري والروحي، فالدين مركز اهتمام الإنسان ومحور تفكيره وتنظيم مجتمعه.

لقد احتلّ الدين مكانةً مهمّةً عند الشعوب القديمة كافّة، وعند الرومان احتلّ المكانة الأسمى لارتباطه بحياتهم اليومية، فكانت الآلهة هي المسؤولة عن كلّ شيء، فهي الراعية والحامية والمانحة والمدمّرة والمسبّبة للأعاصير والمرسلة للرياح القويّة، وكان على الشعب طاعتها طاعةً تامةً، وإقامة الشعائر الدينيّة لها، وبناء المعابد واللجوء إليها عند الشدائد، فالروماني القديم عبد قوى الطبيعة، كما قدّس العظماء، والأبطال والأباطرة، والأجداد، وقدّم لهم النذور والقرابين، وبهذا لم يخرج الرومان عمّا كان سائداً في بلاد الإغريق، من تصوير للالهة، وتزاوجهم، وغضبهم ورضاهم، وزرع الشقاق والحروب بين بني البشر، تبعًا لاختلاف الآلهة بين بعضهم البعض.

* * *

لقد اتّسمت الحياة الرومانيّة بالقسوة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في مجتمع تمرّس على الحروب، وهيمنت على عقليّته النفعيّة. فلا غرابة في أن يتّجه الفكر الروماني إلى العقل العملي، محاولًا قدر الإمكان الابتعاد عن المباحث الأنطولوجيّة وما يرتبط بمباحث الوجود والمعرفة، والعلوم العقليّة المجرّدة؛ إذ لم يكن العقل الروماني يألف التجريد، مضافًا إلى ذلك، محاولات الرومان بناء ثقافةٍ خاصةٍ بهم تبتعد عن هيمنة الفكر والفلسفة الإغريقيين، وهي السمة الرئيس للمرحلة الهللينستيّة، وهم يعلمون أنّهم لن يستطيعوا مضاهاة الإغريق في هذه الفنون.

* * *

على أنّ عقدة النقص هذه من الإغريق، لم تقتصر على العقل الفلسفي، فقد امتدّت الى الأدب أيضًا، وربما حاول الرومان التركيز على الآداب والفنون في محاولة تعويضيّة، إلّا أنّ النّظر إلى الإغريق، ومحاولات مضاهاتهم لم يسلم منها الأدب أيضًا، ولعلّ أوضح تعبير عن هذا الأمر، هو كتاب الانياده التي دوّنها فرجيل، إذ إنّ سرديات أسباب كتابتها لم تخرج عن منطق: فليكن لنا ملحمة كما لهم ملحمة، في إشارة إلى الالياذة التي كتبها هوميروس.

* * *

أما الحياة السياسيّة الرومانية، فهي على حدّ سواء بين الحكّام، والساسة، والقادة العسكريين، بل وزوجاتهم أيضًا، فهي حياة مليئة بالخداع، والتآمر، والاغتيالات، والخيانة. ولعلّ النموذج الصارخ في هذا الأمر هو عقلهم المفكّر، والمنظّر الأعظم في الفكر السياسي الروماني، وأعني به شيشرون، تلك الشخصيّة المليئة بالتناقضات، لناحية الشرخ الهائل بين النظريّة والتطبيق، بين الحرص على التنظير الأخلاقي، والممارسة السياسيّة المليئة بالخداع والمؤامرات.

* * *

تتطلّب وحدة المجتمع معرفة العلاقات التي تربط بين أفراده وأثر تلك العلاقات في تكوينه. فالمجتمع الإنسانيّ يشتمل على شعوب وقبائل وأمم وشرائع منوَّعة، وثقافات وحضارات، لها عاداتُها وتقاليدُها وأعرافها المتمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة. إضافة إلى أنّ حياة البشر تتضمّن الكثير من الحقائق المؤثّرة في شريط الأحداث التاريخيّة، وإذا استطاعت حضارة ما أن تجذب المجموعات البشريّة الأخرى، فإنّ هذه الحضارة تكون غنيّة، ولها القدرة على التفاعل مع الآخر، وهذا ما حدث للإمبراطوريّة الرومانيّة نهاية العصور التاريخيّة القديمة، إذ جذبت حضارتها قوى خارجيّة تفاعلت على أرضها، فما حدث هو تأثير وتأثّر متبادل بين القبائل الجرمانيّة وباقي مكونات الإمبراطوريّة الرومانيّة ليصبحوا متشاركين في بناء حضارةٍ جديدةٍ.

فالخطر الجرمانيّ، الذي صوّره الرومان، كمظهر مستمر لقرون عدّة، تحدّث عنه المؤرّخ الرومانيّ تاكيتوس عام 98م، وبقي موضوع الجرمان مسألة المسائل حتى زوال الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب على يد الجرمان، ما يؤكّد حجم التأثير المتبادل بين الطرفين، ما حتّم البحث حول تحرّكات القبائل الجرمانيّة خلال الأعوام (750-1ق.م)، وكيف أصبحوا العنصر البشريّ الأساسيّ في صنع الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى. على أنّه لا يمكن الركون إلى الروايات الغربيّة حول بعض القبائل التي صوّرها الرومان بصورة المتوحشين الذين يشكّلون خطرًا على «الحضارة»؛ إذ إنّ «وحشنة» الآخر هو صفة ظلّت ملازمةً للأدبيات الغربيّة في توصيف الشعوب التي تسعى لاستعمارها، ومصطلح الانتداب الذي أستعمل في النصف الأوّل من القرن الماضي ليس ببعيد، إذ سعى هذا المصطلح (الانتداب) للإيحاء بأنّ هذه الشعوب لا تصلح حتى لحكم نفسها!

وعلى أيّ حال، فإنّ القبائل الجرمانيّة عبارة عن مجموعة عرق- لغويّة وصلت إلى المنطقة الشماليّة والوسطى من أوروبا خلال عدة قرون (750-1ق.م)، إذ وجدت في الهجرة الحلّ الوحيد لمشاكلها.

وقد سعت هذه القبائل للتعبير عن تميّزها الحضاريّ باستمرار عبر تمسّكها بتراثها المحليّ الاجتماعيّ القائم على القبيلة، والاقتصاديّ القائم على الزراعة وتربية الماشية، وكان مجتمع القبائل الجرمانيّة بسيطًا متجانسًا حمل صفة واحدة أنّه محارب، وشكّلت الأرض بالنسبة إليه مركز تماسك إقليميّ، بينما شكّلت الأسرة مركز تماسك إنسانيّ.

* * *

هذه صورةٌ إجماليّةٌ للموضوعات التي عالجناها بشكلٍ نقديٍّ في هذه المرحلة، وهي مرحلةٌ استمرّ العمل عليها لمدّة تزيد عن العام بقليل.

ونحن إذ لا ندّعي الكمال في هذا العمل، إلّا أنّنا نزعم، وبقوّة، أنّ الباحثين المشاركين في هذا النتاج الفكري، قد بذلوا جهودًا كبيرةً في محاولة التقصّي والبحث، والتحليل والنقد، في بيئةٍ حاشدةٍ ومليئةٍ بالكتب والأبحاث المصفّقة والمهلّلة للغرب، وإنتاجاته الفكريّة، وفي أجواء يحتاج النقد فيها لجرأة وشجاعة لا تقل عن الشجاعة التي يحتاجها الجندي في المعارك العسكريّة.


 

مقدمة الجزء السابع 

لقد بات واضحاً للقرّاء الأعزّاء، أهداف هذا المشروع والمعيار في تقسيمه إلى مراحل؛ إذ بدأنا من المرحلة الأولى التي غطّت الإغريق قبل القرن التاسع قبل الميلاد (صدرت في جزأين؛ 1 و2)، ثم أتبعناها بالمرحلة الثانية التي عملنا فيها على الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد (الأجزاء 3، 4، 5)، وها نحن اليوم نقدّم المرحلة الثالثة، والتي تغطّي معظم ما عُرف لاحقًا بأوروبا بين القرنين الخامس والأوّل قبل الميلاد (في أجزاء أربعة: 6، 7، 8، 9). 
ولقد خصّصنا الجزء السادس لمباحث تكميليّة ترتبط بالإغريق، ثم أتممنا هذا الجزء ببعض المباحث الفلسفيّة المتفرّقة؛ كالفلسفة الماقبل سقراطيّة، وسقراط، والفلسفات الرواقيّة والأبيقوريّة، إضافة إلى ما عُرف بالمدارس السقراطيّة الصغرى؛ وجعلنا الجزء السابع جزءاً خاصًّا بأفلاطون، فيما اختصّ الجزء الثامن بأرسطو، لنختم المرحلة بالجزء التاسع الذي سلّطنا فيه الضوء على صعود روما في عصريها، الملكي والجمهوري؛ وأضفنا إليها بعض الأبحاث المرتبطة بالشعوب التي احتكّت معها روما؛ كالقبائل الجرمانيّة، وشعب «الكلت».
والحقيقة، أنّنا فكّرنا مليًّا في تحديد الفترة الزمنيّة التي ينبغي أن تغطّيها هذه المرحلة الثالثة؛ ولئن كنّا غير متردّدين في جعل بدايتها القرن الخامس قبل الميلاد، انطلاقًا من حيث انتهينا في المرحلة الثانية، إلّا أنّ تحديد نهايتها كان موضع نقاش؛ لكن الرأي استقرّ على جعل النهاية هي القرن الأوّل قبل الميلاد، وتحديداً عام 27ق.م، كون هذا التاريخ مثّل انطلاق مرحلةٍ جديدةٍ في طبيعة الحكم الروماني الذي سيهيمن على الغرب لفتراتٍ طويلةٍ، ونعني به تحوّل روما إلى إمبراطورية.
يبقى أن نشير إلى قضيّة فنيّة، وهي ترتبط بضم أبحاث فلسفيّة إلى الجزء السادس، والذي يتعلّق بإكمال بعض المباحث المرتبطة بتاريخ الإغريق. والواقع أنّ السبب في ذلك يتعلّق برغبتنا في جعل الأبحاث المتعلّقة بكلٍّ من أفلاطون وأرسطو في جزأين مستقلّين، فآثرنا جعل الأبحاث الفلسفيّة المتبقّية في الجزء السادس بدل الجزء التاسع، باعتبار أنّ هذه الأبحاث وموضوعاتها أكثر التصاقًا بالفكر الإغريقي منه بالفكر الروماني.
وأخيراً، لا ننسى أن نقدّم جزيل الشّكر لكلّ الباحثين الذين ساهموا في إنجاز هذه المرحلة، إذ لولاهم لما أبصرت هذه السلسلة النور، والتي تلقى صدًى واسعاً وطيّباً في الأوساط العلميّة. والشكر الأول والأخير لله سبحانه وتعالى الذي يرعى هذا المشروع بعينه التي لا تنام. والحمد لله رب العالمين.

 

مدخل الجزء السابع 

تمثّل المرحلة الثالثة من هذا المشروع، مرحلة التغيّرات الكبرى في المشهد العام للعالم الغربي، حيث التحولات في مركز القرار السياسي والعسكري أولًا، ثم في الانهمامات الفكريّة تالياً.

وما يميّز هذه المرحلة أنّها شهدت صعود الإمبراطوريّة المقدونيّة بعد الغزوات الواسعة التي شنّها الإسكندر الأكبر، والتي ما لبثت أن تفكّكت بعد موته، وتقاسم قادة جيشه للتركة الكبيرة التي خلّفها وراءه؛ ثم بعد ذلك في صعود روما وتوسّعها.

وعلى أيّ حال، فإنّ أبحاث هذه المرحلة ستُظهر كم كان «ليفي ستراوس» مصيباً في فكرته التي عرضها في كتابه «العرق والتاريخ»، في كون ممارسات الإقصاء التي مارسها الغرب، ترتقي إلى زمن بعيد في الثقافة الغربيّة، عندما كانت العصور القديمة تخلط كلّ ما لا يشترك مع الثقافة اليونانيّة (ومن بعد الثقافة اليونانيّة الرومانيّة) تحت اسم البربري، لتستعمل «الحضارة الغربية»، فيما بعد، تعبير متوحّش في المعنى ذاته.

* * *

حُكمت مقدونية من قبل السلالة الأرغية، التي يرقى أقدم تاريخ موثّق لحكمها لنحو عام 540ق.م، واستمرت بشكل فعليّ حتى وفاة الإسكندر الثالث، وقد بلغت ذروة قوّتها في عهدي فيليب الثاني والإسكندر الثالث، حيث استطاع الأوّل فرض السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان، ومهّد من خلال حملةٍ استطلاعيّةٍ لغزو الشرق، ولكنّه توفي قبل تحقيق ذلك، وخلفه الإسكندر الثالث، الذي قام بدوره بتعزيز السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان قبل أن يتوجّه لغزو الشرق ويُهيمن عليه.

لكن ثمة أسئلة مهمّة تعتري الباحث في حياة الإسكندر وغزواته العسكريّة، ترتبط بالعوامل التي ساعدت على فرض تلك السيادة. وهل كانت تلك السيادة تشمل جميع الجوانب؟ أم إنّها كانت سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة؟ ولماذا لم يستطع المقدونيون عبر تاريخهم إنتاج ثقافةٍ تمكّنهم من فرض سيادةٍ ثقافيّةٍ على مناطق سيطرتهم؟ إذ بقيت الثقافة الإغريقيّة هي المهيمنة على مقدونية حتى في أوج قوّتها.

وماذا عن الدين؟ فهل كان له دورٌ بارزٌ في مجريات الأحداث، لا سيما وأنّ المكتشفات الأثريّة تُشير إلى تغلغل الديانات السريّة اليونانيّة في مقدونية؟! أضف إلى ذلك، أنّ سلوك الإسكندر كان مثيرًا للاستغراب، فقد كان يتقرّب لآلهة البلدان التي يحتلّها، كما حصل في مصر، بل وفي بابل أيضاً، ما يفرض السؤال التالي: هل كان تقرّبه من آلهة هؤلاء سعيًا من الإسكندر لكسب مودّة شعوب تلك المناطق؟ أم كان يعتبر أنّ تلك التماثيل هي آلهة بالفعل وتمثّل امتدادًا -بصورة أو بأخرى- لآلهة الإغريق والمقدونيين؟ أم إنّه كان يسعى لترسيخ فكرة أنّه من سلالة الآلهة لإضفاء طابع الألوهيّة على نفسه تشبّهاً بهرقل مثاله الأعلى؟

وماذا عمّا أشارت إليه بعض المصادر من أنّ الإسكندر كان يوبّخ قادة جيشه عندما كانوا ينظرون إلى بابل نظرة استعلاء واحتقار، وأنّه حمل عليهم وعلى أرسطو في وصف هؤلاء بالبرابرة، فيما أنّهم يملكون حضارةً تفوق حضارة الإغريق وتسبقهم في التقدّم بقرون عديدة؟! ما يثير السؤال التالي: هل كانت توبيخات الإسكندر تلك حقيقيّة في التاريخ؟ وعلى فرض صحّتها هل كانت تنطلق من قناعة راسخة عنده، أم هي مجرّد تصريحاتٍ إعلاميّةٍ يُراد منها عدم استفزاز تلك الشعوب من خلال احتقارها واحتقار تاريخها؟ وعلى فرض صحّتها وقناعة الإسكندر بها، فهل وقع الإسكندر تحت تأثير الهيمنة الفكريّة والمعنويّة لتلك الحضارات، فبات المُحتلّ أسيراً؟

ومهما يكن من أمر، فإنّ البحث المعمّق يُظهر أنّ المقدونيين وإن استطاعوا فرض سيادتهم على بلاد اليونان، ولكن تلك السيادة كانت سيادةً عسكريّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً، في مقابل بقاء الهيمنة الثقافيّة الإغريقيّة على مقدونية.

* * *

لقد غلب على العصر الهللينستي الفوضى والاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة، وسيادة الأفكار المنحرفة الهدّامة التي ملأت النفوس بالقلق والتوتّر، حيث أخذ الناس يبحثون عن الطمأنينة والهدوء. لكن المفارقة كانت في التوجّه بهذه المهمّة نحو مذاهب من أمثال الأبيقوريّة من خلال مذهبها الأخلاقي، والتي رأت أنّ السعادة الإيجابيّة فوق قدرة البشر، وقالت بطمأنينة نفسيّة سلبيّة تتمثّل في الخلوّ من الآلام والمتاعب والتحرّر من المخاوف وحالات القلق والهم، والتمتّع بكافة اللذات الممكنة. ومن ثمَّ جعل الأبيقوريون من اللذة الحسيّة الخير الأسمى وغايةً للحياة ومعياراً للقيم. لقد رفض هؤلاء الدين والعلم بادّعاء أنّهما يجلبان الهمّ والغمّ والخوف والقلق والتوتّر، وذلك على خلاف الرؤى، وعلى خلاف الفطرة السليمة، التي تسود قديمًا وحديثًا وترى في الدين مصدر عزاء وخلاص، وفي العلم سببًا للتقدّم والرفاهيّة. لقد وقع الأبيقوريون في مقتل عندما حصروا اهتمامهم بما هو باطنيّ واستخفّوا بالظروف الخارجيّة، ما جعلهم ينسحبون من كافة الأنشطة الحياتيّة انسحابًا يقضي على طموح الإنسان ويسلبه الحيويّة التي لا تستقيم بغيرها حياة. كما عبَّرت الأخلاق الأبيقوريّة عن نزعةٍ نفعيّةٍ واضحةٍ، فلم تنشد الأبيقوريّة الفضيلة لذاتها، وإنَّما للنفع والفائدة التي تعود من ورائها، فأباحت الظّلم وعصيان القوانين متى حقّق هذا الأمر منفعةً، وتم قصر الأخلاقيّة على الفائدة الدنيويّة وعدم ربطها بثواب أخروي، فلا حياة أخرويّة ولا معاد فيها.

* * *

فلسفياً، تعدّ مرحلة الجدل السفسطائيّ السقراطيّ نقطة تحوّل، حيث كان التفكير الفلسفيّ متمركزًا حول نطاق الطبيعة، خصوصًا حول أصل العالم وطبيعته ومآله. ورغم أنّ الإنسان كان دائمًا هو الأصل في كلّ مراحل الحراك والنشاط النبوي، فقد كان الإنسان مهمّشًا مع الفلاسفة الطبيعيين؛ لكن التحوّل الذي حصل بدأ مع الحركة السفسطائيّة، التي حوّلت الإنسان إلى مصدر القول أو الخطاب، ومعياريّة الحقيقة إن وُجدت، فجاء مشروع سقراط الفلسفي مهتمًّا هو الآخر بالإنسان. لكن يختلفان في مسألة الحقيقة، فالسفسطائيّة أعطت مركزيّةً للعبارة أي للدال، ما يعني أنّ الحقيقة مهمّشةٌ وتابعةٌ، في حين سقراط أعطى المركزيّة للحقيقة بوصفها كيانًا كليًّا موجودًا في الخارج، وكذلك داخل فطرة الإنسان.

ورغم اختلافهما، فهما معًا قد حوّلا المركزيّة إلى الإنسان، لكن المشكلة دائمًا في الفلسفات المتمركزة حول الإنسان تتمثّل في مصدر هذه المركزيّة، ما من شأنه أن يقع فكر التمركز حول الإنسان في مفارقة المركز وتفكيكه في الآن نفسه، فعندما نتمركز حول الذات سنتساءل عن منح الإنسان المركز؟ وهنا قد نجد إجابتين، هما: إمّا الإله، أو الطبيعة. وهكذا سنتحوّل إلى مركزيّة الإله أو الطبيعة، ما سيجعل هيومانيّة سقراط والسفسطائيّة محلّ نقد.

إنّ أهمّ ما يمكن مقاربته في فلسفة سقراط، هو ما يُمكن وسمه بـ«منهج السؤال عند سقراط» في ضوء ما وصل إلينا عن الفلسفة السقراطيّة من منقولات تلامذته ومريديه المؤيّدين، لا سيّما أفلاطون وأنتستينس، وعن خصومه ونقّاده سيّما شاعر الكوميديا الساخرة أرستوفانس.

إنّ مقاربة سقراط، تستهدف مقابلة أسلوب تفلسفه ومقارنته مع من يوصفون بأنّهم خصومه المفترقين عنه من الفلاسفة السفسطائيين، لإظهار حدود هذا الافتراق وأسبابه ومحصوله، وذلك في سبيل مقاربة ورسم صورة مختلفة عن تلك الشائعة عن سقراط ومنهجه، مقاربة تكون أقرب إلى الواقعيّة والموضوعية منها إلى المديح والتكرار، فنتساءل حقيقة عمّا استقرّ في الأذهان عن صورة لسقراط خطّها ذراع أفلاطون وأسطرها حُسن بيانه وشيوع فلسفته.

من هنا، نجد مشروعيّة السؤال حول الحدّ الذي يسمح لنا بوصف سقراط بأنّه كان فيلسوفاً للاختلاف عن دارج أفكار زمانه وثقافة مدينته؟ ولماذا؟ وهل كان حقًّا رجل الحقيقة والمُنافح عنها في زمن تسفيهها وتحويلها سبيلاً للعيش والترزّق؟ وهل لدى سقراط، ما يستحقّ أن يوصف بـ«منهج في السؤال»، وما درج عليه الباحثون من توصيف منهجه وأنّه يعتمد على التهكّم والتوليد؟ أم كان السّؤال إجراءً ووسيلةً لغاية اقتضتها ضرورات وشقاقات السياسة بين المواطنين والفلاسفة والخطباء في أثينا؟ وأخيراً: هل حقّق سقراط، بأسلوب تفلسفه، مقصود منهجه في بلوغ ثبات المفاهيم وبراء الحقيقة؟ أم إنّه أخفق في بلوغ الهدف الذي جعله مرامَ فلسفته؟ 

* * *

وفي السياق نفسه، ما زالَ أفلاطون يثيرُ الجَدل الفكريّ، ويستدعي التّأمل والمراجعة النقديّة فيما أعطاه من أفكارٍ وطروحات فلسفيّة وسياسيّة، حولَ كثيرٍ من القضايا والمفاهيم التي تمسُّ أصل الوجود البشري على هذه البسيطة.

لقد سعت أبحاث هذه المرحلة الى إعطاء صورةٍ إجماليّةٍ، بنظرةٍ نقديّةٍ، حول ما قدّمه لنا أفلاطون في مجال نظريّة المعرفة، والإلهيات، والسياسة، وفلسفة بناء الدولة. وقد كان للفلسفة السياسية في فكر أفلاطون حصّةٌ لا بأس بها؛ لأنّها كانت الهاجس الرئيس لأفلاطون، رغم كلّ حضوره الفلسفيّ في مجالات أخرى، تأثّراً بما وقع على أستاذه، سقراط، من ظلم، اعتبر أنّ سببه الأساس هو النظام السياسي القائم. بل إنّنا لا نبتعد عمّن قال إنّ السياسة كانت السبب الرئيس، أو أحد أسباب دخول أفلاطون لعالم الفلسفة. على أنّ تناول الفلسفة السياسيّة عند أفلاطون لا يستقيم دون مقاربة مفهوم العدالة والأخلاق، وأنواع الحكومات وأنظمة الحكم، وأُسس قيام الدولة، وكذلك مقاربة قضايا المجتمع والشعب كهيكل قوي وضخم، يتقوّم بالفرد-المواطن، وضرورة تربيته على الأخلاقِ والعدالة ليكون صورةً مصغّرةً عن الدولة المثاليّة المنشودة، وهذا يحتم البحث في الطبقات الاجتماعيّة، وتأثيرها على السّياسة.

من الواضح أنّ فلسفة التفكير السياسي عند أفلاطون تستند على مرجعيّته الأخلاقيّة المثاليّة (نظرية المثل والاستذكار) والتي شكّلت خلفيّة ذهنيّة وعمليّة محرِّكة عنده، بقيت حاضرةً في تفكيره وسلوكه ونتاجاته وأعماله حتى آخر لحظة في حياته الاجتماعيّة والسياسيّة،  فأيّ نقدٍ أو مراجعة فكريّة لأفلاطون، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المعطى المعرفيّ السابق الذي كان جوهرَ فكره ومحور رؤيته الفلسفيّة والوجوديّة، رغم كلّ الهنات والعثرات التي اعترت نظريّته في المثل، أهمّها أنّها كانت غير قابلةٍ للإثبات، أو على الأقل، لم يقدّم لنا أفلاطون الأدلّة عليها.

لا يمكن الإنكار أنّ محاولات أفلاطون كانت جادّةً في بناء منظومةٍ سياسيّةٍ متكاملةٍ، وتقديم صورةٍ معياريّةٍ لدولة سياسيّة مثاليّة، تنتهي بالمجتمع المثالي والمدينة الفاضلة القائمة على العدالة والأخلاق -التي اعتبرها أهم المداخل وتمثُل رؤيته السياسيّة- إلّا أنّه يمكن ملاحظة التناقض والمغالاة في بعض آرائه وطروحاته السياسيّة والأخلاقيّة، لا سيما ما يتعلّق منها ببناء الفرد وتربيته على معايير تربويّة وأخلاقيّة وعمليّة، وهي تتناقض مع فطرة الفرد وجوهر وجوده؛ فمن جهةٍ، رفضَ أفلاطون المادّة وطالبَ بقمع الشهوات والقوى الغرائزيّة والغضبيّة، واعتبرها مصدراً لكلّ شر، ومانعاً لوصول هذا الفرد إلى المعرفة الكاملة، متجاهلاً أنّ الإنسان لا يكون فاعلاً ومنتجاً إلا بتوازن المادة والروح فيه، ومن جهة أخرى نجده يصطفّ مع الداعين إلى إباحة الاتّصال الجنسيّ والمثليّة الجنسيّة أو طقوس الزواج المنصوص عليها أساساً في أخلاقيّة الدولة الأفلاطونيّة والقائمة على زواج الشيوع أو زواج المشاركة، والتي يبدو أنّه عدل عنها في أواخر حياته.!!.

مهما يكن من أمر، فإنّ القارئ لأفلاطون يلحظ جيّداً القواعد الصارمة والممنهجة التي يتّبعها لتحقيق الغاية التي يرجوها منها، والتي تعدّ مخالفة للقواعد التي يرسمها في الوقت نفسه، وهو ما قد يصيب القارئ بخيبة أمل.

إنّ هذا النّمط من التناقض يغلّف أغلب فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما يتعلّق بالتربية والتعليم، بوساطة المراحل التي يقترحها لكلّ فئة من فئات المجتمع على حده، وبوسائل للتعليم التي يمكننا أن نقف عليها في محاوراته، والأهداف المثاليّة التي يرجوها منهما. وهو ما أثَر سلباً على الصعيد الفردي، والاجتماعي، وأدّى إلى شرخ واضح في نظامه التربوي بين النظريّة والتطبيق، وجعل منه شخصاً انتقائياً وديكتاتورياً تقوم أفكاره على مبادئ تحسين النسل، وعلى إعلاء الفعل العقليّ على الفعل العملي، وعلى أهميّة اتّباع القوانين والتمسّك بالمجتمعات أكثر من الاهتمام بإعداد الفرد من أجل الوصول إلى مثال الإنسان، ومن ثم من أجل تنظيم المدينة والإنسانيّة.

في مباحث الإلهيات، اهتم أفلاطون بمبحث الألوهيّة اهتمامًا فائقًا، وأفرد له مساحات كبيرة في محاوراته، وحرص على وصف الإله بصفات نزهته عمّا كان سائدًا في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة من تجسيد وتشبيه، حيث أصبح صورةً خالصةً من المادة أو من عالم الظن، وكان هذا نتيجة تأثّر أفلاطون بما وصلت إليه الأمم المتحضّرة المحيطة ببلاد اليونان حينذاك فيما يخص مبحث الألوهيّة، واستفادته من الصفات الإلهيّة التي وصف بها حكماء الشّرق القديم آلهتهم، فقال بالإله الموجود الكامل الخيّر المعتني بالكون، فهو جميل، وحكيم، وعالم، وجامع لكلّ المحامد. لكنَّ أفلاطون مع ذلك لم يستطع التخلّص مما ورثه من أساطير كانت سائدةً في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة، فقال بالإله الصانع لا الخالق، وذهب إلى القول بتعدّد الآلهة وليس الإله الواحد، وأنَّ الإله لا يصدر عنه الشّر ولا يستطيع أن يمنعه بشكل تام فهو فوق مقدرته، وقال بعجز الإله التام أمام فكرتي القدر والضرورة.

ولم يبتعد أفلاطون عن الاهتمام باللغة، فإنّنا نجد بسهولة إرهاصات مباحث لغويّة، تحوّلت في العصر الحديث، إلى مذاهب شتّى في اللسانيات وفلسفة اللغة. من هنا، فإنّ هذه الأبحاث لم تغفل عن مقاربة مسألة اللغة عند أفلاطون، وتبيان رأيه في نشأتها وقدرتها على تأدية وظائفها بوصفها وسيلةً للتواصل والمعرفة. ورغم أنّ إحدى السمات الأساسيّة للإنسان هي أنَّه كائن لغويّ، إلّا أنّ أفلاطون يستبعد الإجماع والاتّفاق على عمليّة وضع الأسماء، ويُرجعها إلى نظريّة المحاكاة التي ترى أنّ الأحرف والأسماء تحاكي الطبيعة الجوهريّة للأشياء، لذلك يردّ كلّ الكلمات الفَرعيّة (الثانوية) إلى الأصْل-الأسماء الأوّلية التي تُشكّل الثابت أو الجذر (الأصْل اللُّغوي) الذي تعتمد عليه عمليّة الاشتقاق، وهنا يُلاحظ التّماهي بين نظريّة أفلاطون اللغوية ونظريّته في الوجود والمعرفة، من حيث التمييز بين الثابت والمتغيّر وردّ الوجود إلى مبادئ أوّليّة ثابتة. ولا يغفل أفلاطون عن العلاقة التي تربط بين الاسم والشيء على اعتبار أنّ الشيء يمتلك أسبقيّة أنطولوجيّة على الاسم، كما أنّ الاسم يُشكّل انعكاساً لغوياً للشيء، إلّا أنّ معرفة الاسماء لا تعني عن معرفة الأشياء؛ لذا يتوجّب على المرء التوجّه إلى الأشياء ذاتها من أجل معرفتها، وهذا يطرح من جانب آخر علاقة اللغة بالحقيقة، حيث تُعَدُّ اللغة انعكاساً للحقيقة، وهناك مسافة بين الكلمة-الاسم والشيء لا يمكن عبورها.

من المؤكَّد أنَّ اليونانيين كانوا أوَّل مَنْ أثار الاهتمام بالظَّاهرة الجماليَّة، وهم أيضاً أوَّل مَنْ بدأ بوضع أسسٍ حقيقيَّةٍ لمعرفة ماهيَّة الجمال، وسواءٌ أكان الجميل هو النَّافع أو المنسجم أو المثير للعواطف واللَّذات الجماليَّة، فإنَّ كلَّ تلك النَّظريات تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ وهي أنَّ الجمال يرتبط بالإنسان بوصفه ذاتاً جماليَّةً يتذوَّق الفنَّ ويتأثَّر به.

من هنا، كان لا بدّ من مقاربة الجمال عند أفلاطون، مقاربةً نقديّةً، وربطاً به كان لا بدَّ من مقاربة موضوعي الفنِّ والحبِّ أيضاً. أولاً؛ لأنَّ الفنَّ هو المعبِّر الأفضل عن الجمال، وثانياً؛ لأنَّه حامل قيمة الجمال ومبلورها، وثالثاً؛ لأنَّنا بالفنِّ، وفق أفلاطون، نستطيع أن نحاكي الجمال الأسمى أو الجمال بالذَّات في عالم المُثُل الذي ابتكره أفلاطون؛ إذ كلَّما اقترب الجمال الواقعيُّ من الحقيقة كلَّما اقترب من الجمال المثاليِّ الذي يرشدنا نحو الفضيلة والخير والأخلاق الفاضلة.

 أمَّا الحبُّ، فهو معراج الفنَّان في انتقاله من العالم الماديِّ إلى عالم المُثُل، فبالحبِّ وحده يستطيع الفنَّان أن يحقِّق النَّقلة الحقيقيَّة بين الجمال في الواقع والجمال الرُّوحيِّ المثاليِّ، ليس الفنَّان فقط، بل كلُّ من يعاين الجميل، ويستطيع أن يسمو به نحو الجمال الكليِّ المطلق؛ لأنَّ الحبَّ حاجةٌ دائمةٌ للاكتمال، فهو عاطفةٌ تبحث بشوقٍ أبديٍّ عمَّا يحقِّق الكمال المنسجم المتعالي عن الواقع.

* * *

إنّ النّظر في الفلسفة الأرسطيّة التي استندت إلى التفوّق الثقافي والعرقي، يدفعنا إلى مراجعة خلفيّة العلاقة اليونانيّة مع بلاد فارس، والتي تميّزت بخوفها الشّديد من أن يُستعبد اليونانيون في ظلّهم رغم أنّ  فارس كانت إمبراطوريّةً عظيمةً في العالم القديم، فقد انتصر الإغريق القدماء في معارك عديدة ضدّها، وهي أكبر دولة في ذلك الوقت، وقاموا ببناء مجموعة من الأساطير الوطنيّة على أساس تلك الانتصارات، كانت في حدّ ذاتها ضروريّة وممكنة، لمحو إمكانيّة الهزيمة وتوطيد قيم السيطرة والتفوّق اليوناني، وقد ساندتها الفلسفة الأرسطيّة باختلاقها وعيًا آخر، يمجّد الاستعباد والرقّ والعنصريّة، ويوصف بالعقلانيّة، وإن اتّسمت هذه «العقلانيّة» بأنّها تصف كلّ الأجانب على أنّهم برابرة. 

في الواقع، إنّ الحديث عن أرسطو والعبوديّة الطبيعيّة يُظهر الرؤية الأيديولوجيّة لأرسطو ضمن دراسة الرق، من كونه دراسة حالة ليست عاديّة، يقتضي إعادة النظر في وصف أرسطو للعبودية الطبيعيّة بدقّة على أنّه أيديولوجيّ في طبيعته، فعلينا أن نظهر اعتقاده بأنّ غير اليونانيين كانوا طبيعيين. وتبيين ما إذا كان العصر الأرسطي فيه عبوديّة، وأنّ أرسطو في حدّ ذاته عاش في مجتمع عُبوديّ، وهل كانت العبوديّة طوعيّة على حدّ تعبير ايتيان لابويتي (Etienne de la Boétie)  أمرًا مقبولًا؟    

وما يؤخذ على أرسطو في قضيّة العبوديّة والاستعلاء الإغريقيّ، يُؤخذ عليه أيضًا في قضايا تُصنّف اليوم ضمن حقوق الإنسان: كموقفه من المرأة، وأسرى الحروب، وما إلى ذلك.

وليس بعيداً عن ذلك، حاولنا إلقاء الضّوء على فلسفة أخلاق الفرد عند أرسطو، لا سيما فيما يتعلّق بمفهومها والأسس التي بُنيت عليها، وعلاقتها بمفهوم السعادة ونظريّة الفضيلة عنده من جهة، والوقوف على المعادلة الأرسطيّة "الفضيلة وسط بين رذيلتين" في سبيل استعراض الإشكاليات والصعوبات التي واجهتها من جهة أخرى، وصولاً إلى الإشكاليات التي تعرّضت لها فلسفة أرسطو الأخلاقيّة ككل، ليغدو التّساؤل بعد ذلك عن إمكانيّة وجود إنسان فاضل عند أرسطو.

ولم تكن الإلهيات الأرسطيّة أفضل حالًا، فقد ظهر الإله الأرسطي في نظريّة المحرّك الأوّل الذي لا يتحرّك، إلهاً خاليًا من الصفات الكماليّة.

وفي نظريّة المعرفة، فقد كانت نظريّة المثل والنقد الأرسطي لها، من الإشكاليات التي شغلت تاريخ الفلسفة اليونانيّة منذ بدايتها؛ لأنّها موضوع خلافٍ جوهريٍّ ما بين الأستاذ والتلميذ الذي حاول بنقده الثورة على أفكار أفلاطون، وتأسيس فلسفةٍ مغايرةٍ لفلسفته في المنهج والأسلوب، وهذا ما تؤكّده الغالبيّة العظمى من مؤلّفات تاريخ الفلسفة، دون التطرّق إلاّ فيما ندر إلى الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف هذا النّقد الشرس للمثل.

لقد حاولنا هنا إخضاع نقد أرسطو لنظريّة المثل للنقد والتحليل، وإبراز مدى التزامه بالموضوعيّة وقواعد الصحّة والبطلان أثناء نقده، هذا النّقد الذي أوقعه في التناقض والكثير من المشكلات الفلسفيّة أثناء رحلة بناء فلسفته، وأهمّها إشكاليّة العلاقة بين الكلّي والجزئي التي بدأ فيها فيلسوف اسطاغير برهانياً كرجل منطق وانتهى مثالياً في تأكيده أولويّة الموجود الميتافيزيقي المطلق، كما يكشف منهجه في البحث، إذ انتقل بتراتب هرميّ من المحسوس (لا وجود إلاّ للجزئي) إلى المعقول (لا علم إلاّ بالكلي) ليصل في نهاية المطاف إلى المفارق (المحرك الأول اللامتحرك) الذي عدّه موضوع العلم وغايته الحقيقيّة؛ فيعود هنا أفلاطونياً.

وعلى أيّ حال، فإنّنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنّ أرسطو كان أوّل من زرع بذور المنهج الماديّ بطريقة أو بأخرى، في الفكر الفلسفي. وهكذا وقع الفكر الفلسفي، لقرون لاحقة، بين سندان مثاليّة مفرطة عند افلاطون، ومطرقة أرسطو المادية.

وفي الفلسفة الطبيعيّة، تتقوّم فلسفة الطبيعة عند أرسطو وتأمّلاته في فيزيائها، وما تستتبعه هذه التأمّلات، التي يبدأها أرسطو من مقدّمات استقرائيّة، من قولٍ بخصوص كوزمولوجيا الكون الذي يشكّل للطبيعة علّتها أو ما وراءها، من سلسلة من الحوامل المقصود الفصل بخصوصها، والتي أخصّها وأعسرها على القطع الواثق، هي مقولتا الزمان والمكان.

يتقصى البحث في فلسفة الطبيعة، ضمن حدوده المتاحة، عن الآثار الما قبل أرسطيّة في تفكير وإرث أرسطو المختصّ بمشكلة ثنائيّة المكان والزمان، سيّما تلك الآثار والتراث الذي حفظه لنا تاريخ الفلسفة اليونانيّة عن شيوخ المدرسة الأيلية.

وقد استخلصنا معنى المكان والزمان الكوزمولوجيين في طبيعيات أرسطو انطلاقاً مما يُمكن دعوته المكان والزمان الواقعيين أو اللامطلقين، مع محاولة تفسير معنى الثنائيّة الزمكانيّة عند أرسطو.

وقد خلصنا إلى اختزال ما يُمكن دعوته بالتناقضات المنهجيّة وتضادات النتائج التي تظهر في فيزياء السماع الطبيعي عند أرسطو بخصوص إشكاليّة المكان والزمان، وثنائيّتيهما.

* * *

ما تقدّم، يمثل مضمون الأجزاء الثلاثة من هذه المرحلة (8،7،6)، أمّا الجزء الرابع (9)، فقد تمّ تخصيصه للمرحلة الرومانيّة.

ومن الطبيعي، في معالجة المرحلة الرومانيّة في عهديها الملكي والجمهوري، أن نقارب مفهوم القانون الروماني من حيث ماهيّته، لا سيما وأنّه يُعدّ، إلى اليوم، مفخرة الغرب، وما زال يُدرس حتى يومنا هذا، في الجامعات. وقد تركّز النقد لهذا القانون على تبيان مواضع القسوة والضّعف واللاعدل في فروع القانون الروماني العام، كذلك بيان مواضع القسوة والضعف واللاعدل في فروع القانون الروماني الخاص.

* * *

ومن جهة ثانية، تعدّ دراسة الحياة الدينيّة لأيّ شعب من الشعوب من الدّراسات المهمّة، والتي يمكن من خلالها التعرّف على مستوى تفكيرهم، ومدى تطوّرهم الحضاري والروحي، فالدين مركز اهتمام الإنسان ومحور تفكيره وتنظيم مجتمعه.

لقد احتلّ الدين مكانةً مهمّةً عند الشعوب القديمة كافّة، وعند الرومان احتلّ المكانة الأسمى لارتباطه بحياتهم اليومية، فكانت الآلهة هي المسؤولة عن كلّ شيء، فهي الراعية والحامية والمانحة والمدمّرة والمسبّبة للأعاصير والمرسلة للرياح القويّة، وكان على الشعب طاعتها طاعةً تامةً، وإقامة الشعائر الدينيّة لها، وبناء المعابد واللجوء إليها عند الشدائد، فالروماني القديم عبد قوى الطبيعة، كما قدّس العظماء، والأبطال والأباطرة، والأجداد، وقدّم لهم النذور والقرابين، وبهذا لم يخرج الرومان عمّا كان سائداً في بلاد الإغريق، من تصوير للالهة، وتزاوجهم، وغضبهم ورضاهم، وزرع الشقاق والحروب بين بني البشر، تبعًا لاختلاف الآلهة بين بعضهم البعض.

* * *

لقد اتّسمت الحياة الرومانيّة بالقسوة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في مجتمع تمرّس على الحروب، وهيمنت على عقليّته النفعيّة. فلا غرابة في أن يتّجه الفكر الروماني إلى العقل العملي، محاولًا قدر الإمكان الابتعاد عن المباحث الأنطولوجيّة وما يرتبط بمباحث الوجود والمعرفة، والعلوم العقليّة المجرّدة؛ إذ لم يكن العقل الروماني يألف التجريد، مضافًا إلى ذلك، محاولات الرومان بناء ثقافةٍ خاصةٍ بهم تبتعد عن هيمنة الفكر والفلسفة الإغريقيين، وهي السمة الرئيس للمرحلة الهللينستيّة، وهم يعلمون أنّهم لن يستطيعوا مضاهاة الإغريق في هذه الفنون.

* * *

على أنّ عقدة النقص هذه من الإغريق، لم تقتصر على العقل الفلسفي، فقد امتدّت الى الأدب أيضًا، وربما حاول الرومان التركيز على الآداب والفنون في محاولة تعويضيّة، إلّا أنّ النّظر إلى الإغريق، ومحاولات مضاهاتهم لم يسلم منها الأدب أيضًا، ولعلّ أوضح تعبير عن هذا الأمر، هو كتاب الانياده التي دوّنها فرجيل، إذ إنّ سرديات أسباب كتابتها لم تخرج عن منطق: فليكن لنا ملحمة كما لهم ملحمة، في إشارة إلى الالياذة التي كتبها هوميروس.

* * *

أما الحياة السياسيّة الرومانية، فهي على حدّ سواء بين الحكّام، والساسة، والقادة العسكريين، بل وزوجاتهم أيضًا، فهي حياة مليئة بالخداع، والتآمر، والاغتيالات، والخيانة. ولعلّ النموذج الصارخ في هذا الأمر هو عقلهم المفكّر، والمنظّر الأعظم في الفكر السياسي الروماني، وأعني به شيشرون، تلك الشخصيّة المليئة بالتناقضات، لناحية الشرخ الهائل بين النظريّة والتطبيق، بين الحرص على التنظير الأخلاقي، والممارسة السياسيّة المليئة بالخداع والمؤامرات.

* * *

تتطلّب وحدة المجتمع معرفة العلاقات التي تربط بين أفراده وأثر تلك العلاقات في تكوينه. فالمجتمع الإنسانيّ يشتمل على شعوب وقبائل وأمم وشرائع منوَّعة، وثقافات وحضارات، لها عاداتُها وتقاليدُها وأعرافها المتمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة. إضافة إلى أنّ حياة البشر تتضمّن الكثير من الحقائق المؤثّرة في شريط الأحداث التاريخيّة، وإذا استطاعت حضارة ما أن تجذب المجموعات البشريّة الأخرى، فإنّ هذه الحضارة تكون غنيّة، ولها القدرة على التفاعل مع الآخر، وهذا ما حدث للإمبراطوريّة الرومانيّة نهاية العصور التاريخيّة القديمة، إذ جذبت حضارتها قوى خارجيّة تفاعلت على أرضها، فما حدث هو تأثير وتأثّر متبادل بين القبائل الجرمانيّة وباقي مكونات الإمبراطوريّة الرومانيّة ليصبحوا متشاركين في بناء حضارةٍ جديدةٍ.

فالخطر الجرمانيّ، الذي صوّره الرومان، كمظهر مستمر لقرون عدّة، تحدّث عنه المؤرّخ الرومانيّ تاكيتوس عام 98م، وبقي موضوع الجرمان مسألة المسائل حتى زوال الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب على يد الجرمان، ما يؤكّد حجم التأثير المتبادل بين الطرفين، ما حتّم البحث حول تحرّكات القبائل الجرمانيّة خلال الأعوام (750-1ق.م)، وكيف أصبحوا العنصر البشريّ الأساسيّ في صنع الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى. على أنّه لا يمكن الركون إلى الروايات الغربيّة حول بعض القبائل التي صوّرها الرومان بصورة المتوحشين الذين يشكّلون خطرًا على «الحضارة»؛ إذ إنّ «وحشنة» الآخر هو صفة ظلّت ملازمةً للأدبيات الغربيّة في توصيف الشعوب التي تسعى لاستعمارها، ومصطلح الانتداب الذي أستعمل في النصف الأوّل من القرن الماضي ليس ببعيد، إذ سعى هذا المصطلح (الانتداب) للإيحاء بأنّ هذه الشعوب لا تصلح حتى لحكم نفسها!

وعلى أيّ حال، فإنّ القبائل الجرمانيّة عبارة عن مجموعة عرق- لغويّة وصلت إلى المنطقة الشماليّة والوسطى من أوروبا خلال عدة قرون (750-1ق.م)، إذ وجدت في الهجرة الحلّ الوحيد لمشاكلها.

وقد سعت هذه القبائل للتعبير عن تميّزها الحضاريّ باستمرار عبر تمسّكها بتراثها المحليّ الاجتماعيّ القائم على القبيلة، والاقتصاديّ القائم على الزراعة وتربية الماشية، وكان مجتمع القبائل الجرمانيّة بسيطًا متجانسًا حمل صفة واحدة أنّه محارب، وشكّلت الأرض بالنسبة إليه مركز تماسك إقليميّ، بينما شكّلت الأسرة مركز تماسك إنسانيّ.

* * *

هذه صورةٌ إجماليّةٌ للموضوعات التي عالجناها بشكلٍ نقديٍّ في هذه المرحلة، وهي مرحلةٌ استمرّ العمل عليها لمدّة تزيد عن العام بقليل.

ونحن إذ لا ندّعي الكمال في هذا العمل، إلّا أنّنا نزعم، وبقوّة، أنّ الباحثين المشاركين في هذا النتاج الفكري، قد بذلوا جهودًا كبيرةً في محاولة التقصّي والبحث، والتحليل والنقد، في بيئةٍ حاشدةٍ ومليئةٍ بالكتب والأبحاث المصفّقة والمهلّلة للغرب، وإنتاجاته الفكريّة، وفي أجواء يحتاج النقد فيها لجرأة وشجاعة لا تقل عن الشجاعة التي يحتاجها الجندي في المعارك العسكريّة.


 

مقدمة الجزء الثامن 

لقد بات واضحاً للقرّاء الأعزّاء، أهداف هذا المشروع والمعيار في تقسيمه إلى مراحل؛ إذ بدأنا من المرحلة الأولى التي غطّت الإغريق قبل القرن التاسع قبل الميلاد (صدرت في جزأين؛ 1 و2)، ثم أتبعناها بالمرحلة الثانية التي عملنا فيها على الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد (الأجزاء 3، 4، 5)، وها نحن اليوم نقدّم المرحلة الثالثة، والتي تغطّي معظم ما عُرف لاحقًا بأوروبا بين القرنين الخامس والأوّل قبل الميلاد (في أجزاء أربعة: 6، 7، 8، 9).

ولقد خصّصنا الجزء السادس لمباحث تكميليّة ترتبط بالإغريق، ثم أتممنا هذا الجزء ببعض المباحث الفلسفيّة المتفرّقة؛ كالفلسفة الماقبل سقراطيّة، وسقراط، والفلسفات الرواقيّة والأبيقوريّة، إضافة إلى ما عُرف بالمدارس السقراطيّة الصغرى؛ وجعلنا الجزء السابع جزءاً خاصًّا بأفلاطون، فيما اختصّ الجزء الثامن بأرسطو، لنختم المرحلة بالجزء التاسع الذي سلّطنا فيه الضوء على صعود روما في عصريها، الملكي والجمهوري؛ وأضفنا إليها بعض الأبحاث المرتبطة بالشعوب التي احتكّت معها روما؛ كالقبائل الجرمانيّة، وشعب «الكلت».

والحقيقة، أنّنا فكّرنا مليًّا في تحديد الفترة الزمنيّة التي ينبغي أن تغطّيها هذه المرحلة الثالثة؛ ولئن كنّا غير متردّدين في جعل بدايتها القرن الخامس قبل الميلاد، انطلاقًا من حيث انتهينا في المرحلة الثانية، إلّا أنّ تحديد نهايتها كان موضع نقاش؛ لكن الرأي استقرّ على جعل النهاية هي القرن الأوّل قبل الميلاد، وتحديداً عام 27ق.م، كون هذا التاريخ مثّل انطلاق مرحلةٍ جديدةٍ في طبيعة الحكم الروماني الذي سيهيمن على الغرب لفتراتٍ طويلةٍ، ونعني به تحوّل روما إلى إمبراطورية.

يبقى أن نشير إلى قضيّة فنيّة، وهي ترتبط بضم أبحاث فلسفيّة إلى الجزء السادس، والذي يتعلّق بإكمال بعض المباحث المرتبطة بتاريخ الإغريق. والواقع أنّ السبب في ذلك يتعلّق برغبتنا في جعل الأبحاث المتعلّقة بكلٍّ من أفلاطون وأرسطو في جزأين مستقلّين، فآثرنا جعل الأبحاث الفلسفيّة المتبقّية في الجزء السادس بدل الجزء التاسع، باعتبار أنّ هذه الأبحاث وموضوعاتها أكثر التصاقًا بالفكر الإغريقي منه بالفكر الروماني.

وأخيراً، لا ننسى أن نقدّم جزيل الشّكر لكلّ الباحثين الذين ساهموا في إنجاز هذه المرحلة، إذ لولاهم لما أبصرت هذه السلسلة النور، والتي تلقى صدًى واسعاً وطيّباً في الأوساط العلميّة. والشكر الأول والأخير لله سبحانه وتعالى الذي يرعى هذا المشروع بعينه التي لا تنام. والحمد لله رب العالمين.

 

مدخل الجزء الثامن :

تمثّل المرحلة الثالثة من هذا المشروع، مرحلة التغيّرات الكبرى في المشهد العام للعالم الغربي، حيث التحولات في مركز القرار السياسي والعسكري أولًا، ثم في الانهمامات الفكريّة تالياً.

وما يميّز هذه المرحلة أنّها شهدت صعود الإمبراطوريّة المقدونيّة بعد الغزوات الواسعة التي شنّها الإسكندر الأكبر، والتي ما لبثت أن تفكّكت بعد موته، وتقاسم قادة جيشه للتركة الكبيرة التي خلّفها وراءه؛ ثم بعد ذلك في صعود روما وتوسّعها.

وعلى أيّ حال، فإنّ أبحاث هذه المرحلة ستُظهر كم كان «ليفي ستراوس» مصيباً في فكرته التي عرضها في كتابه «العرق والتاريخ»، في كون ممارسات الإقصاء التي مارسها الغرب، ترتقي إلى زمن بعيد في الثقافة الغربيّة، عندما كانت العصور القديمة تخلط كلّ ما لا يشترك مع الثقافة اليونانيّة (ومن بعد الثقافة اليونانيّة الرومانيّة) تحت اسم البربري، لتستعمل «الحضارة الغربية»، فيما بعد، تعبير متوحّش في المعنى ذاته.

* * *

حُكمت مقدونية من قبل السلالة الأرغية، التي يرقى أقدم تاريخ موثّق لحكمها لنحو عام 540ق.م، واستمرت بشكل فعليّ حتى وفاة الإسكندر الثالث، وقد بلغت ذروة قوّتها في عهدي فيليب الثاني والإسكندر الثالث، حيث استطاع الأوّل فرض السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان، ومهّد من خلال حملةٍ استطلاعيّةٍ لغزو الشرق، ولكنّه توفي قبل تحقيق ذلك، وخلفه الإسكندر الثالث، الذي قام بدوره بتعزيز السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان قبل أن يتوجّه لغزو الشرق ويُهيمن عليه.

لكن ثمة أسئلة مهمّة تعتري الباحث في حياة الإسكندر وغزواته العسكريّة، ترتبط بالعوامل التي ساعدت على فرض تلك السيادة. وهل كانت تلك السيادة تشمل جميع الجوانب؟ أم إنّها كانت سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة؟ ولماذا لم يستطع المقدونيون عبر تاريخهم إنتاج ثقافةٍ تمكّنهم من فرض سيادةٍ ثقافيّةٍ على مناطق سيطرتهم؟ إذ بقيت الثقافة الإغريقيّة هي المهيمنة على مقدونية حتى في أوج قوّتها.

وماذا عن الدين؟ فهل كان له دورٌ بارزٌ في مجريات الأحداث، لا سيما وأنّ المكتشفات الأثريّة تُشير إلى تغلغل الديانات السريّة اليونانيّة في مقدونية؟! أضف إلى ذلك، أنّ سلوك الإسكندر كان مثيرًا للاستغراب، فقد كان يتقرّب لآلهة البلدان التي يحتلّها، كما حصل في مصر، بل وفي بابل أيضاً، ما يفرض السؤال التالي: هل كان تقرّبه من آلهة هؤلاء سعيًا من الإسكندر لكسب مودّة شعوب تلك المناطق؟ أم كان يعتبر أنّ تلك التماثيل هي آلهة بالفعل وتمثّل امتدادًا -بصورة أو بأخرى- لآلهة الإغريق والمقدونيين؟ أم إنّه كان يسعى لترسيخ فكرة أنّه من سلالة الآلهة لإضفاء طابع الألوهيّة على نفسه تشبّهاً بهرقل مثاله الأعلى؟

وماذا عمّا أشارت إليه بعض المصادر من أنّ الإسكندر كان يوبّخ قادة جيشه عندما كانوا ينظرون إلى بابل نظرة استعلاء واحتقار، وأنّه حمل عليهم وعلى أرسطو في وصف هؤلاء بالبرابرة، فيما أنّهم يملكون حضارةً تفوق حضارة الإغريق وتسبقهم في التقدّم بقرون عديدة؟! ما يثير السؤال التالي: هل كانت توبيخات الإسكندر تلك حقيقيّة في التاريخ؟ وعلى فرض صحّتها هل كانت تنطلق من قناعة راسخة عنده، أم هي مجرّد تصريحاتٍ إعلاميّةٍ يُراد منها عدم استفزاز تلك الشعوب من خلال احتقارها واحتقار تاريخها؟ وعلى فرض صحّتها وقناعة الإسكندر بها، فهل وقع الإسكندر تحت تأثير الهيمنة الفكريّة والمعنويّة لتلك الحضارات، فبات المُحتلّ أسيراً؟

ومهما يكن من أمر، فإنّ البحث المعمّق يُظهر أنّ المقدونيين وإن استطاعوا فرض سيادتهم على بلاد اليونان، ولكن تلك السيادة كانت سيادةً عسكريّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً، في مقابل بقاء الهيمنة الثقافيّة الإغريقيّة على مقدونية.

* * *

لقد غلب على العصر الهللينستي الفوضى والاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة، وسيادة الأفكار المنحرفة الهدّامة التي ملأت النفوس بالقلق والتوتّر، حيث أخذ الناس يبحثون عن الطمأنينة والهدوء. لكن المفارقة كانت في التوجّه بهذه المهمّة نحو مذاهب من أمثال الأبيقوريّة من خلال مذهبها الأخلاقي، والتي رأت أنّ السعادة الإيجابيّة فوق قدرة البشر، وقالت بطمأنينة نفسيّة سلبيّة تتمثّل في الخلوّ من الآلام والمتاعب والتحرّر من المخاوف وحالات القلق والهم، والتمتّع بكافة اللذات الممكنة. ومن ثمَّ جعل الأبيقوريون من اللذة الحسيّة الخير الأسمى وغايةً للحياة ومعياراً للقيم. لقد رفض هؤلاء الدين والعلم بادّعاء أنّهما يجلبان الهمّ والغمّ والخوف والقلق والتوتّر، وذلك على خلاف الرؤى، وعلى خلاف الفطرة السليمة، التي تسود قديمًا وحديثًا وترى في الدين مصدر عزاء وخلاص، وفي العلم سببًا للتقدّم والرفاهيّة. لقد وقع الأبيقوريون في مقتل عندما حصروا اهتمامهم بما هو باطنيّ واستخفّوا بالظروف الخارجيّة، ما جعلهم ينسحبون من كافة الأنشطة الحياتيّة انسحابًا يقضي على طموح الإنسان ويسلبه الحيويّة التي لا تستقيم بغيرها حياة. كما عبَّرت الأخلاق الأبيقوريّة عن نزعةٍ نفعيّةٍ واضحةٍ، فلم تنشد الأبيقوريّة الفضيلة لذاتها، وإنَّما للنفع والفائدة التي تعود من ورائها، فأباحت الظّلم وعصيان القوانين متى حقّق هذا الأمر منفعةً، وتم قصر الأخلاقيّة على الفائدة الدنيويّة وعدم ربطها بثواب أخروي، فلا حياة أخرويّة ولا معاد فيها.

* * *

فلسفياً، تعدّ مرحلة الجدل السفسطائيّ السقراطيّ نقطة تحوّل، حيث كان التفكير الفلسفيّ متمركزًا حول نطاق الطبيعة، خصوصًا حول أصل العالم وطبيعته ومآله. ورغم أنّ الإنسان كان دائمًا هو الأصل في كلّ مراحل الحراك والنشاط النبوي، فقد كان الإنسان مهمّشًا مع الفلاسفة الطبيعيين؛ لكن التحوّل الذي حصل بدأ مع الحركة السفسطائيّة، التي حوّلت الإنسان إلى مصدر القول أو الخطاب، ومعياريّة الحقيقة إن وُجدت، فجاء مشروع سقراط الفلسفي مهتمًّا هو الآخر بالإنسان. لكن يختلفان في مسألة الحقيقة، فالسفسطائيّة أعطت مركزيّةً للعبارة أي للدال، ما يعني أنّ الحقيقة مهمّشةٌ وتابعةٌ، في حين سقراط أعطى المركزيّة للحقيقة بوصفها كيانًا كليًّا موجودًا في الخارج، وكذلك داخل فطرة الإنسان.

ورغم اختلافهما، فهما معًا قد حوّلا المركزيّة إلى الإنسان، لكن المشكلة دائمًا في الفلسفات المتمركزة حول الإنسان تتمثّل في مصدر هذه المركزيّة، ما من شأنه أن يقع فكر التمركز حول الإنسان في مفارقة المركز وتفكيكه في الآن نفسه، فعندما نتمركز حول الذات سنتساءل عن منح الإنسان المركز؟ وهنا قد نجد إجابتين، هما: إمّا الإله، أو الطبيعة. وهكذا سنتحوّل إلى مركزيّة الإله أو الطبيعة، ما سيجعل هيومانيّة سقراط والسفسطائيّة محلّ نقد.

إنّ أهمّ ما يمكن مقاربته في فلسفة سقراط، هو ما يُمكن وسمه بـ«منهج السؤال عند سقراط» في ضوء ما وصل إلينا عن الفلسفة السقراطيّة من منقولات تلامذته ومريديه المؤيّدين، لا سيّما أفلاطون وأنتستينس، وعن خصومه ونقّاده سيّما شاعر الكوميديا الساخرة أرستوفانس.

إنّ مقاربة سقراط، تستهدف مقابلة أسلوب تفلسفه ومقارنته مع من يوصفون بأنّهم خصومه المفترقين عنه من الفلاسفة السفسطائيين، لإظهار حدود هذا الافتراق وأسبابه ومحصوله، وذلك في سبيل مقاربة ورسم صورة مختلفة عن تلك الشائعة عن سقراط ومنهجه، مقاربة تكون أقرب إلى الواقعيّة والموضوعية منها إلى المديح والتكرار، فنتساءل حقيقة عمّا استقرّ في الأذهان عن صورة لسقراط خطّها ذراع أفلاطون وأسطرها حُسن بيانه وشيوع فلسفته.

من هنا، نجد مشروعيّة السؤال حول الحدّ الذي يسمح لنا بوصف سقراط بأنّه كان فيلسوفاً للاختلاف عن دارج أفكار زمانه وثقافة مدينته؟ ولماذا؟ وهل كان حقًّا رجل الحقيقة والمُنافح عنها في زمن تسفيهها وتحويلها سبيلاً للعيش والترزّق؟ وهل لدى سقراط، ما يستحقّ أن يوصف بـ«منهج في السؤال»، وما درج عليه الباحثون من توصيف منهجه وأنّه يعتمد على التهكّم والتوليد؟ أم كان السّؤال إجراءً ووسيلةً لغاية اقتضتها ضرورات وشقاقات السياسة بين المواطنين والفلاسفة والخطباء في أثينا؟ وأخيراً: هل حقّق سقراط، بأسلوب تفلسفه، مقصود منهجه في بلوغ ثبات المفاهيم وبراء الحقيقة؟ أم إنّه أخفق في بلوغ الهدف الذي جعله مرامَ فلسفته؟ 

* * *

وفي السياق نفسه، ما زالَ أفلاطون يثيرُ الجَدل الفكريّ، ويستدعي التّأمل والمراجعة النقديّة فيما أعطاه من أفكارٍ وطروحات فلسفيّة وسياسيّة، حولَ كثيرٍ من القضايا والمفاهيم التي تمسُّ أصل الوجود البشري على هذه البسيطة.

لقد سعت أبحاث هذه المرحلة الى إعطاء صورةٍ إجماليّةٍ، بنظرةٍ نقديّةٍ، حول ما قدّمه لنا أفلاطون في مجال نظريّة المعرفة، والإلهيات، والسياسة، وفلسفة بناء الدولة. وقد كان للفلسفة السياسية في فكر أفلاطون حصّةٌ لا بأس بها؛ لأنّها كانت الهاجس الرئيس لأفلاطون، رغم كلّ حضوره الفلسفيّ في مجالات أخرى، تأثّراً بما وقع على أستاذه، سقراط، من ظلم، اعتبر أنّ سببه الأساس هو النظام السياسي القائم. بل إنّنا لا نبتعد عمّن قال إنّ السياسة كانت السبب الرئيس، أو أحد أسباب دخول أفلاطون لعالم الفلسفة. على أنّ تناول الفلسفة السياسيّة عند أفلاطون لا يستقيم دون مقاربة مفهوم العدالة والأخلاق، وأنواع الحكومات وأنظمة الحكم، وأُسس قيام الدولة، وكذلك مقاربة قضايا المجتمع والشعب كهيكل قوي وضخم، يتقوّم بالفرد-المواطن، وضرورة تربيته على الأخلاقِ والعدالة ليكون صورةً مصغّرةً عن الدولة المثاليّة المنشودة، وهذا يحتم البحث في الطبقات الاجتماعيّة، وتأثيرها على السّياسة.

من الواضح أنّ فلسفة التفكير السياسي عند أفلاطون تستند على مرجعيّته الأخلاقيّة المثاليّة (نظرية المثل والاستذكار) والتي شكّلت خلفيّة ذهنيّة وعمليّة محرِّكة عنده، بقيت حاضرةً في تفكيره وسلوكه ونتاجاته وأعماله حتى آخر لحظة في حياته الاجتماعيّة والسياسيّة،  فأيّ نقدٍ أو مراجعة فكريّة لأفلاطون، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المعطى المعرفيّ السابق الذي كان جوهرَ فكره ومحور رؤيته الفلسفيّة والوجوديّة، رغم كلّ الهنات والعثرات التي اعترت نظريّته في المثل، أهمّها أنّها كانت غير قابلةٍ للإثبات، أو على الأقل، لم يقدّم لنا أفلاطون الأدلّة عليها.

لا يمكن الإنكار أنّ محاولات أفلاطون كانت جادّةً في بناء منظومةٍ سياسيّةٍ متكاملةٍ، وتقديم صورةٍ معياريّةٍ لدولة سياسيّة مثاليّة، تنتهي بالمجتمع المثالي والمدينة الفاضلة القائمة على العدالة والأخلاق -التي اعتبرها أهم المداخل وتمثُل رؤيته السياسيّة- إلّا أنّه يمكن ملاحظة التناقض والمغالاة في بعض آرائه وطروحاته السياسيّة والأخلاقيّة، لا سيما ما يتعلّق منها ببناء الفرد وتربيته على معايير تربويّة وأخلاقيّة وعمليّة، وهي تتناقض مع فطرة الفرد وجوهر وجوده؛ فمن جهةٍ، رفضَ أفلاطون المادّة وطالبَ بقمع الشهوات والقوى الغرائزيّة والغضبيّة، واعتبرها مصدراً لكلّ شر، ومانعاً لوصول هذا الفرد إلى المعرفة الكاملة، متجاهلاً أنّ الإنسان لا يكون فاعلاً ومنتجاً إلا بتوازن المادة والروح فيه، ومن جهة أخرى نجده يصطفّ مع الداعين إلى إباحة الاتّصال الجنسيّ والمثليّة الجنسيّة أو طقوس الزواج المنصوص عليها أساساً في أخلاقيّة الدولة الأفلاطونيّة والقائمة على زواج الشيوع أو زواج المشاركة، والتي يبدو أنّه عدل عنها في أواخر حياته.!!.

مهما يكن من أمر، فإنّ القارئ لأفلاطون يلحظ جيّداً القواعد الصارمة والممنهجة التي يتّبعها لتحقيق الغاية التي يرجوها منها، والتي تعدّ مخالفة للقواعد التي يرسمها في الوقت نفسه، وهو ما قد يصيب القارئ بخيبة أمل.

إنّ هذا النّمط من التناقض يغلّف أغلب فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما يتعلّق بالتربية والتعليم، بوساطة المراحل التي يقترحها لكلّ فئة من فئات المجتمع على حده، وبوسائل للتعليم التي يمكننا أن نقف عليها في محاوراته، والأهداف المثاليّة التي يرجوها منهما. وهو ما أثَر سلباً على الصعيد الفردي، والاجتماعي، وأدّى إلى شرخ واضح في نظامه التربوي بين النظريّة والتطبيق، وجعل منه شخصاً انتقائياً وديكتاتورياً تقوم أفكاره على مبادئ تحسين النسل، وعلى إعلاء الفعل العقليّ على الفعل العملي، وعلى أهميّة اتّباع القوانين والتمسّك بالمجتمعات أكثر من الاهتمام بإعداد الفرد من أجل الوصول إلى مثال الإنسان، ومن ثم من أجل تنظيم المدينة والإنسانيّة.

في مباحث الإلهيات، اهتم أفلاطون بمبحث الألوهيّة اهتمامًا فائقًا، وأفرد له مساحات كبيرة في محاوراته، وحرص على وصف الإله بصفات نزهته عمّا كان سائدًا في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة من تجسيد وتشبيه، حيث أصبح صورةً خالصةً من المادة أو من عالم الظن، وكان هذا نتيجة تأثّر أفلاطون بما وصلت إليه الأمم المتحضّرة المحيطة ببلاد اليونان حينذاك فيما يخص مبحث الألوهيّة، واستفادته من الصفات الإلهيّة التي وصف بها حكماء الشّرق القديم آلهتهم، فقال بالإله الموجود الكامل الخيّر المعتني بالكون، فهو جميل، وحكيم، وعالم، وجامع لكلّ المحامد. لكنَّ أفلاطون مع ذلك لم يستطع التخلّص مما ورثه من أساطير كانت سائدةً في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة، فقال بالإله الصانع لا الخالق، وذهب إلى القول بتعدّد الآلهة وليس الإله الواحد، وأنَّ الإله لا يصدر عنه الشّر ولا يستطيع أن يمنعه بشكل تام فهو فوق مقدرته، وقال بعجز الإله التام أمام فكرتي القدر والضرورة.

ولم يبتعد أفلاطون عن الاهتمام باللغة، فإنّنا نجد بسهولة إرهاصات مباحث لغويّة، تحوّلت في العصر الحديث، إلى مذاهب شتّى في اللسانيات وفلسفة اللغة. من هنا، فإنّ هذه الأبحاث لم تغفل عن مقاربة مسألة اللغة عند أفلاطون، وتبيان رأيه في نشأتها وقدرتها على تأدية وظائفها بوصفها وسيلةً للتواصل والمعرفة. ورغم أنّ إحدى السمات الأساسيّة للإنسان هي أنَّه كائن لغويّ، إلّا أنّ أفلاطون يستبعد الإجماع والاتّفاق على عمليّة وضع الأسماء، ويُرجعها إلى نظريّة المحاكاة التي ترى أنّ الأحرف والأسماء تحاكي الطبيعة الجوهريّة للأشياء، لذلك يردّ كلّ الكلمات الفَرعيّة (الثانوية) إلى الأصْل-الأسماء الأوّلية التي تُشكّل الثابت أو الجذر (الأصْل اللُّغوي) الذي تعتمد عليه عمليّة الاشتقاق، وهنا يُلاحظ التّماهي بين نظريّة أفلاطون اللغوية ونظريّته في الوجود والمعرفة، من حيث التمييز بين الثابت والمتغيّر وردّ الوجود إلى مبادئ أوّليّة ثابتة. ولا يغفل أفلاطون عن العلاقة التي تربط بين الاسم والشيء على اعتبار أنّ الشيء يمتلك أسبقيّة أنطولوجيّة على الاسم، كما أنّ الاسم يُشكّل انعكاساً لغوياً للشيء، إلّا أنّ معرفة الاسماء لا تعني عن معرفة الأشياء؛ لذا يتوجّب على المرء التوجّه إلى الأشياء ذاتها من أجل معرفتها، وهذا يطرح من جانب آخر علاقة اللغة بالحقيقة، حيث تُعَدُّ اللغة انعكاساً للحقيقة، وهناك مسافة بين الكلمة-الاسم والشيء لا يمكن عبورها.

من المؤكَّد أنَّ اليونانيين كانوا أوَّل مَنْ أثار الاهتمام بالظَّاهرة الجماليَّة، وهم أيضاً أوَّل مَنْ بدأ بوضع أسسٍ حقيقيَّةٍ لمعرفة ماهيَّة الجمال، وسواءٌ أكان الجميل هو النَّافع أو المنسجم أو المثير للعواطف واللَّذات الجماليَّة، فإنَّ كلَّ تلك النَّظريات تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ وهي أنَّ الجمال يرتبط بالإنسان بوصفه ذاتاً جماليَّةً يتذوَّق الفنَّ ويتأثَّر به.

من هنا، كان لا بدّ من مقاربة الجمال عند أفلاطون، مقاربةً نقديّةً، وربطاً به كان لا بدَّ من مقاربة موضوعي الفنِّ والحبِّ أيضاً. أولاً؛ لأنَّ الفنَّ هو المعبِّر الأفضل عن الجمال، وثانياً؛ لأنَّه حامل قيمة الجمال ومبلورها، وثالثاً؛ لأنَّنا بالفنِّ، وفق أفلاطون، نستطيع أن نحاكي الجمال الأسمى أو الجمال بالذَّات في عالم المُثُل الذي ابتكره أفلاطون؛ إذ كلَّما اقترب الجمال الواقعيُّ من الحقيقة كلَّما اقترب من الجمال المثاليِّ الذي يرشدنا نحو الفضيلة والخير والأخلاق الفاضلة.

 أمَّا الحبُّ، فهو معراج الفنَّان في انتقاله من العالم الماديِّ إلى عالم المُثُل، فبالحبِّ وحده يستطيع الفنَّان أن يحقِّق النَّقلة الحقيقيَّة بين الجمال في الواقع والجمال الرُّوحيِّ المثاليِّ، ليس الفنَّان فقط، بل كلُّ من يعاين الجميل، ويستطيع أن يسمو به نحو الجمال الكليِّ المطلق؛ لأنَّ الحبَّ حاجةٌ دائمةٌ للاكتمال، فهو عاطفةٌ تبحث بشوقٍ أبديٍّ عمَّا يحقِّق الكمال المنسجم المتعالي عن الواقع.

* * *

إنّ النّظر في الفلسفة الأرسطيّة التي استندت إلى التفوّق الثقافي والعرقي، يدفعنا إلى مراجعة خلفيّة العلاقة اليونانيّة مع بلاد فارس، والتي تميّزت بخوفها الشّديد من أن يُستعبد اليونانيون في ظلّهم رغم أنّ  فارس كانت إمبراطوريّةً عظيمةً في العالم القديم، فقد انتصر الإغريق القدماء في معارك عديدة ضدّها، وهي أكبر دولة في ذلك الوقت، وقاموا ببناء مجموعة من الأساطير الوطنيّة على أساس تلك الانتصارات، كانت في حدّ ذاتها ضروريّة وممكنة، لمحو إمكانيّة الهزيمة وتوطيد قيم السيطرة والتفوّق اليوناني، وقد ساندتها الفلسفة الأرسطيّة باختلاقها وعيًا آخر، يمجّد الاستعباد والرقّ والعنصريّة، ويوصف بالعقلانيّة، وإن اتّسمت هذه «العقلانيّة» بأنّها تصف كلّ الأجانب على أنّهم برابرة. 

في الواقع، إنّ الحديث عن أرسطو والعبوديّة الطبيعيّة يُظهر الرؤية الأيديولوجيّة لأرسطو ضمن دراسة الرق، من كونه دراسة حالة ليست عاديّة، يقتضي إعادة النظر في وصف أرسطو للعبودية الطبيعيّة بدقّة على أنّه أيديولوجيّ في طبيعته، فعلينا أن نظهر اعتقاده بأنّ غير اليونانيين كانوا طبيعيين. وتبيين ما إذا كان العصر الأرسطي فيه عبوديّة، وأنّ أرسطو في حدّ ذاته عاش في مجتمع عُبوديّ، وهل كانت العبوديّة طوعيّة على حدّ تعبير ايتيان لابويتي Etienne de la Boétie) ( أمرًا مقبولًا؟  

وما يؤخذ على أرسطو في قضيّة العبوديّة والاستعلاء الإغريقيّ، يُؤخذ عليه أيضًا في قضايا تُصنّف اليوم ضمن حقوق الإنسان: كموقفه من المرأة، وأسرى الحروب، وما إلى ذلك.

وليس بعيداً عن ذلك، حاولنا إلقاء الضّوء على فلسفة أخلاق الفرد عند أرسطو، لا سيما فيما يتعلّق بمفهومها والأسس التي بُنيت عليها، وعلاقتها بمفهوم السعادة ونظريّة الفضيلة عنده من جهة، والوقوف على المعادلة الأرسطيّة "الفضيلة وسط بين رذيلتين" في سبيل استعراض الإشكاليات والصعوبات التي واجهتها من جهة أخرى، وصولاً إلى الإشكاليات التي تعرّضت لها فلسفة أرسطو الأخلاقيّة ككل، ليغدو التّساؤل بعد ذلك عن إمكانيّة وجود إنسان فاضل عند أرسطو.

ولم تكن الإلهيات الأرسطيّة أفضل حالًا، فقد ظهر الإله الأرسطي في نظريّة المحرّك الأوّل الذي لا يتحرّك، إلهاً خاليًا من الصفات الكماليّة.

وفي نظريّة المعرفة، فقد كانت نظريّة المثل والنقد الأرسطي لها، من الإشكاليات التي شغلت تاريخ الفلسفة اليونانيّة منذ بدايتها؛ لأنّها موضوع خلافٍ جوهريٍّ ما بين الأستاذ والتلميذ الذي حاول بنقده الثورة على أفكار أفلاطون، وتأسيس فلسفةٍ مغايرةٍ لفلسفته في المنهج والأسلوب، وهذا ما تؤكّده الغالبيّة العظمى من مؤلّفات تاريخ الفلسفة، دون التطرّق إلاّ فيما ندر إلى الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف هذا النّقد الشرس للمثل.

لقد حاولنا هنا إخضاع نقد أرسطو لنظريّة المثل للنقد والتحليل، وإبراز مدى التزامه بالموضوعيّة وقواعد الصحّة والبطلان أثناء نقده، هذا النّقد الذي أوقعه في التناقض والكثير من المشكلات الفلسفيّة أثناء رحلة بناء فلسفته، وأهمّها إشكاليّة العلاقة بين الكلّي والجزئي التي بدأ فيها فيلسوف اسطاغير برهانياً كرجل منطق وانتهى مثالياً في تأكيده أولويّة الموجود الميتافيزيقي المطلق، كما يكشف منهجه في البحث، إذ انتقل بتراتب هرميّ من المحسوس (لا وجود إلاّ للجزئي) إلى المعقول (لا علم إلاّ بالكلي) ليصل في نهاية المطاف إلى المفارق (المحرك الأول اللامتحرك) الذي عدّه موضوع العلم وغايته الحقيقيّة؛ فيعود هنا أفلاطونياً.

وعلى أيّ حال، فإنّنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنّ أرسطو كان أوّل من زرع بذور المنهج الماديّ بطريقة أو بأخرى، في الفكر الفلسفي. وهكذا وقع الفكر الفلسفي، لقرون لاحقة، بين سندان مثاليّة مفرطة عند افلاطون، ومطرقة أرسطو المادية.

وفي الفلسفة الطبيعيّة، تتقوّم فلسفة الطبيعة عند أرسطو وتأمّلاته في فيزيائها، وما تستتبعه هذه التأمّلات، التي يبدأها أرسطو من مقدّمات استقرائيّة، من قولٍ بخصوص كوزمولوجيا الكون الذي يشكّل للطبيعة علّتها أو ما وراءها، من سلسلة من الحوامل المقصود الفصل بخصوصها، والتي أخصّها وأعسرها على القطع الواثق، هي مقولتا الزمان والمكان.

يتقصى البحث في فلسفة الطبيعة، ضمن حدوده المتاحة، عن الآثار الما قبل أرسطيّة في تفكير وإرث أرسطو المختصّ بمشكلة ثنائيّة المكان والزمان، سيّما تلك الآثار والتراث الذي حفظه لنا تاريخ الفلسفة اليونانيّة عن شيوخ المدرسة الأيلية.

وقد استخلصنا معنى المكان والزمان الكوزمولوجيين في طبيعيات أرسطو انطلاقاً مما يُمكن دعوته المكان والزمان الواقعيين أو اللامطلقين، مع محاولة تفسير معنى الثنائيّة الزمكانيّة عند أرسطو.

وقد خلصنا إلى اختزال ما يُمكن دعوته بالتناقضات المنهجيّة وتضادات النتائج التي تظهر في فيزياء السماع الطبيعي عند أرسطو بخصوص إشكاليّة المكان والزمان، وثنائيّتيهما.

* * *

ما تقدّم، يمثل مضمون الأجزاء الثلاثة من هذه المرحلة (6،7،8)، أمّا الجزء الرابع (9)، فقد تمّ تخصيصه للمرحلة الرومانيّة.

ومن الطبيعي، في معالجة المرحلة الرومانيّة في عهديها الملكي والجمهوري، أن نقارب مفهوم القانون الروماني من حيث ماهيّته، لا سيما وأنّه يُعدّ، إلى اليوم، مفخرة الغرب، وما زال يُدرس حتى يومنا هذا، في الجامعات. وقد تركّز النقد لهذا القانون على تبيان مواضع القسوة والضّعف واللاعدل في فروع القانون الروماني العام، كذلك بيان مواضع القسوة والضعف واللاعدل في فروع القانون الروماني الخاص.

* * *

ومن جهة ثانية، تعدّ دراسة الحياة الدينيّة لأيّ شعب من الشعوب من الدّراسات المهمّة، والتي يمكن من خلالها التعرّف على مستوى تفكيرهم، ومدى تطوّرهم الحضاري والروحي، فالدين مركز اهتمام الإنسان ومحور تفكيره وتنظيم مجتمعه.

لقد احتلّ الدين مكانةً مهمّةً عند الشعوب القديمة كافّة، وعند الرومان احتلّ المكانة الأسمى لارتباطه بحياتهم اليومية، فكانت الآلهة هي المسؤولة عن كلّ شيء، فهي الراعية والحامية والمانحة والمدمّرة والمسبّبة للأعاصير والمرسلة للرياح القويّة، وكان على الشعب طاعتها طاعةً تامةً، وإقامة الشعائر الدينيّة لها، وبناء المعابد واللجوء إليها عند الشدائد، فالروماني القديم عبد قوى الطبيعة، كما قدّس العظماء، والأبطال والأباطرة، والأجداد، وقدّم لهم النذور والقرابين، وبهذا لم يخرج الرومان عمّا كان سائداً في بلاد الإغريق، من تصوير للالهة، وتزاوجهم، وغضبهم ورضاهم، وزرع الشقاق والحروب بين بني البشر، تبعًا لاختلاف الآلهة بين بعضهم البعض.

* * *

لقد اتّسمت الحياة الرومانيّة بالقسوة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في مجتمع تمرّس على الحروب، وهيمنت على عقليّته النفعيّة. فلا غرابة في أن يتّجه الفكر الروماني إلى العقل العملي، محاولًا قدر الإمكان الابتعاد عن المباحث الأنطولوجيّة وما يرتبط بمباحث الوجود والمعرفة، والعلوم العقليّة المجرّدة؛ إذ لم يكن العقل الروماني يألف التجريد، مضافًا إلى ذلك، محاولات الرومان بناء ثقافةٍ خاصةٍ بهم تبتعد عن هيمنة الفكر والفلسفة الإغريقيين، وهي السمة الرئيس للمرحلة الهللينستيّة، وهم يعلمون أنّهم لن يستطيعوا مضاهاة الإغريق في هذه الفنون.

* * *

على أنّ عقدة النقص هذه من الإغريق، لم تقتصر على العقل الفلسفي، فقد امتدّت الى الأدب أيضًا، وربما حاول الرومان التركيز على الآداب والفنون في محاولة تعويضيّة، إلّا أنّ النّظر إلى الإغريق، ومحاولات مضاهاتهم لم يسلم منها الأدب أيضًا، ولعلّ أوضح تعبير عن هذا الأمر، هو كتاب الانياده التي دوّنها فرجيل، إذ إنّ سرديات أسباب كتابتها لم تخرج عن منطق: فليكن لنا ملحمة كما لهم ملحمة، في إشارة إلى الالياذة التي كتبها هوميروس.

* * *

أما الحياة السياسيّة الرومانية، فهي على حدّ سواء بين الحكّام، والساسة، والقادة العسكريين، بل وزوجاتهم أيضًا، فهي حياة مليئة بالخداع، والتآمر، والاغتيالات، والخيانة. ولعلّ النموذج الصارخ في هذا الأمر هو عقلهم المفكّر، والمنظّر الأعظم في الفكر السياسي الروماني، وأعني به شيشرون، تلك الشخصيّة المليئة بالتناقضات، لناحية الشرخ الهائل بين النظريّة والتطبيق، بين الحرص على التنظير الأخلاقي، والممارسة السياسيّة المليئة بالخداع والمؤامرات.

* * *

تتطلّب وحدة المجتمع معرفة العلاقات التي تربط بين أفراده وأثر تلك العلاقات في تكوينه. فالمجتمع الإنسانيّ يشتمل على شعوب وقبائل وأمم وشرائع منوَّعة، وثقافات وحضارات، لها عاداتُها وتقاليدُها وأعرافها المتمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة. إضافة إلى أنّ حياة البشر تتضمّن الكثير من الحقائق المؤثّرة في شريط الأحداث التاريخيّة، وإذا استطاعت حضارة ما أن تجذب المجموعات البشريّة الأخرى، فإنّ هذه الحضارة تكون غنيّة، ولها القدرة على التفاعل مع الآخر، وهذا ما حدث للإمبراطوريّة الرومانيّة نهاية العصور التاريخيّة القديمة، إذ جذبت حضارتها قوى خارجيّة تفاعلت على أرضها، فما حدث هو تأثير وتأثّر متبادل بين القبائل الجرمانيّة وباقي مكونات الإمبراطوريّة الرومانيّة ليصبحوا متشاركين في بناء حضارةٍ جديدةٍ.

فالخطر الجرمانيّ، الذي صوّره الرومان، كمظهر مستمر لقرون عدّة، تحدّث عنه المؤرّخ الرومانيّ تاكيتوس عام 98م، وبقي موضوع الجرمان مسألة المسائل حتى زوال الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب على يد الجرمان، ما يؤكّد حجم التأثير المتبادل بين الطرفين، ما حتّم البحث حول تحرّكات القبائل الجرمانيّة خلال الأعوام (750-1ق.م)، وكيف أصبحوا العنصر البشريّ الأساسيّ في صنع الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى. على أنّه لا يمكن الركون إلى الروايات الغربيّة حول بعض القبائل التي صوّرها الرومان بصورة المتوحشين الذين يشكّلون خطرًا على «الحضارة»؛ إذ إنّ «وحشنة» الآخر هو صفة ظلّت ملازمةً للأدبيات الغربيّة في توصيف الشعوب التي تسعى لاستعمارها، ومصطلح الانتداب الذي أستعمل في النصف الأوّل من القرن الماضي ليس ببعيد، إذ سعى هذا المصطلح (الانتداب) للإيحاء بأنّ هذه الشعوب لا تصلح حتى لحكم نفسها!

وعلى أيّ حال، فإنّ القبائل الجرمانيّة عبارة عن مجموعة عرق- لغويّة وصلت إلى المنطقة الشماليّة والوسطى من أوروبا خلال عدة قرون (750-1ق.م)، إذ وجدت في الهجرة الحلّ الوحيد لمشاكلها.

وقد سعت هذه القبائل للتعبير عن تميّزها الحضاريّ باستمرار عبر تمسّكها بتراثها المحليّ الاجتماعيّ القائم على القبيلة، والاقتصاديّ القائم على الزراعة وتربية الماشية، وكان مجتمع القبائل الجرمانيّة بسيطًا متجانسًا حمل صفة واحدة أنّه محارب، وشكّلت الأرض بالنسبة إليه مركز تماسك إقليميّ، بينما شكّلت الأسرة مركز تماسك إنسانيّ.

* * *

هذه صورةٌ إجماليّةٌ للموضوعات التي عالجناها بشكلٍ نقديٍّ في هذه المرحلة، وهي مرحلةٌ استمرّ العمل عليها لمدّة تزيد عن العام بقليل.

ونحن إذ لا ندّعي الكمال في هذا العمل، إلّا أنّنا نزعم، وبقوّة، أنّ الباحثين المشاركين في هذا النتاج الفكري، قد بذلوا جهودًا كبيرةً في محاولة التقصّي والبحث، والتحليل والنقد، في بيئةٍ حاشدةٍ ومليئةٍ بالكتب والأبحاث المصفّقة والمهلّلة للغرب، وإنتاجاته الفكريّة، وفي أجواء يحتاج النقد فيها لجرأة وشجاعة لا تقل عن الشجاعة التي يحتاجها الجندي في المعارك العسكريّة.


 

مقدمة الجزء التاسع 

لقد بات واضحاً للقرّاء الأعزّاء، أهداف هذا المشروع والمعيار في تقسيمه إلى مراحل؛ إذ بدأنا من المرحلة الأولى التي غطّت الإغريق قبل القرن التاسع قبل الميلاد (صدرت في جزأين؛ 1 و2)، ثم أتبعناها بالمرحلة الثانية التي عملنا فيها على الإغريق بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد (الأجزاء 3، 4، 5)، وها نحن اليوم نقدّم المرحلة الثالثة، والتي تغطّي معظم ما عُرف لاحقًا بأوروبا بين القرنين الخامس والأوّل قبل الميلاد (في أجزاء أربعة: 6، 7، 8، 9).

ولقد خصّصنا الجزء السادس لمباحث تكميليّة ترتبط بالإغريق، ثم أتممنا هذا الجزء ببعض المباحث الفلسفيّة المتفرّقة؛ كالفلسفة الماقبل سقراطيّة، وسقراط، والفلسفات الرواقيّة والأبيقوريّة، إضافة إلى ما عُرف بالمدارس السقراطيّة الصغرى؛ وجعلنا الجزء السابع جزءاً خاصًّا بأفلاطون، فيما اختصّ الجزء الثامن بأرسطو، لنختم المرحلة بالجزء التاسع الذي سلّطنا فيه الضوء على صعود روما في عصريها، الملكي والجمهوري؛ وأضفنا إليها بعض الأبحاث المرتبطة بالشعوب التي احتكّت معها روما؛ كالقبائل الجرمانيّة، وشعب «الكلت».

والحقيقة، أنّنا فكّرنا مليًّا في تحديد الفترة الزمنيّة التي ينبغي أن تغطّيها هذه المرحلة الثالثة؛ ولئن كنّا غير متردّدين في جعل بدايتها القرن الخامس قبل الميلاد، انطلاقًا من حيث انتهينا في المرحلة الثانية، إلّا أنّ تحديد نهايتها كان موضع نقاش؛ لكن الرأي استقرّ على جعل النهاية هي القرن الأوّل قبل الميلاد، وتحديداً عام 27ق.م، كون هذا التاريخ مثّل انطلاق مرحلةٍ جديدةٍ في طبيعة الحكم الروماني الذي سيهيمن على الغرب لفتراتٍ طويلةٍ، ونعني به تحوّل روما إلى إمبراطورية.

يبقى أن نشير إلى قضيّة فنيّة، وهي ترتبط بضم أبحاث فلسفيّة إلى الجزء السادس، والذي يتعلّق بإكمال بعض المباحث المرتبطة بتاريخ الإغريق. والواقع أنّ السبب في ذلك يتعلّق برغبتنا في جعل الأبحاث المتعلّقة بكلٍّ من أفلاطون وأرسطو في جزأين مستقلّين، فآثرنا جعل الأبحاث الفلسفيّة المتبقّية في الجزء السادس بدل الجزء التاسع، باعتبار أنّ هذه الأبحاث وموضوعاتها أكثر التصاقًا بالفكر الإغريقي منه بالفكر الروماني.

وأخيراً، لا ننسى أن نقدّم جزيل الشّكر لكلّ الباحثين الذين ساهموا في إنجاز هذه المرحلة، إذ لولاهم لما أبصرت هذه السلسلة النور، والتي تلقى صدًى واسعاً وطيّباً في الأوساط العلميّة. والشكر الأول والأخير لله سبحانه وتعالى الذي يرعى هذا المشروع بعينه التي لا تنام. والحمد لله رب العالمين.

 

مدخل الجزء التاسع : 

تمثّل المرحلة الثالثة من هذا المشروع، مرحلة التغيّرات الكبرى في المشهد العام للعالم الغربي، حيث التحولات في مركز القرار السياسي والعسكري أولًا، ثم في الانهمامات الفكريّة تالياً.

وما يميّز هذه المرحلة أنّها شهدت صعود الإمبراطوريّة المقدونيّة بعد الغزوات الواسعة التي شنّها الإسكندر الأكبر، والتي ما لبثت أن تفكّكت بعد موته، وتقاسم قادة جيشه للتركة الكبيرة التي خلّفها وراءه؛ ثم بعد ذلك في صعود روما وتوسّعها.

وعلى أيّ حال، فإنّ أبحاث هذه المرحلة ستُظهر كم كان «ليفي ستراوس» مصيباً في فكرته التي عرضها في كتابه «العرق والتاريخ»، في كون ممارسات الإقصاء التي مارسها الغرب، ترتقي إلى زمن بعيد في الثقافة الغربيّة، عندما كانت العصور القديمة تخلط كلّ ما لا يشترك مع الثقافة اليونانيّة (ومن بعد الثقافة اليونانيّة الرومانيّة) تحت اسم البربري، لتستعمل «الحضارة الغربية»، فيما بعد، تعبير متوحّش في المعنى ذاته.

* * *

حُكمت مقدونية من قبل السلالة الأرغية، التي يرقى أقدم تاريخ موثّق لحكمها لنحو عام 540ق.م، واستمرت بشكل فعليّ حتى وفاة الإسكندر الثالث، وقد بلغت ذروة قوّتها في عهدي فيليب الثاني والإسكندر الثالث، حيث استطاع الأوّل فرض السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان، ومهّد من خلال حملةٍ استطلاعيّةٍ لغزو الشرق، ولكنّه توفي قبل تحقيق ذلك، وخلفه الإسكندر الثالث، الذي قام بدوره بتعزيز السيادة المقدونيّة على بلاد اليونان قبل أن يتوجّه لغزو الشرق ويُهيمن عليه.

لكن ثمة أسئلة مهمّة تعتري الباحث في حياة الإسكندر وغزواته العسكريّة، ترتبط بالعوامل التي ساعدت على فرض تلك السيادة. وهل كانت تلك السيادة تشمل جميع الجوانب؟ أم إنّها كانت سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة؟ ولماذا لم يستطع المقدونيون عبر تاريخهم إنتاج ثقافةٍ تمكّنهم من فرض سيادةٍ ثقافيّةٍ على مناطق سيطرتهم؟ إذ بقيت الثقافة الإغريقيّة هي المهيمنة على مقدونية حتى في أوج قوّتها.

وماذا عن الدين؟ فهل كان له دورٌ بارزٌ في مجريات الأحداث، لا سيما وأنّ المكتشفات الأثريّة تُشير إلى تغلغل الديانات السريّة اليونانيّة في مقدونية؟! أضف إلى ذلك، أنّ سلوك الإسكندر كان مثيرًا للاستغراب، فقد كان يتقرّب لآلهة البلدان التي يحتلّها، كما حصل في مصر، بل وفي بابل أيضاً، ما يفرض السؤال التالي: هل كان تقرّبه من آلهة هؤلاء سعيًا من الإسكندر لكسب مودّة شعوب تلك المناطق؟ أم كان يعتبر أنّ تلك التماثيل هي آلهة بالفعل وتمثّل امتدادًا -بصورة أو بأخرى- لآلهة الإغريق والمقدونيين؟ أم إنّه كان يسعى لترسيخ فكرة أنّه من سلالة الآلهة لإضفاء طابع الألوهيّة على نفسه تشبّهاً بهرقل مثاله الأعلى؟

وماذا عمّا أشارت إليه بعض المصادر من أنّ الإسكندر كان يوبّخ قادة جيشه عندما كانوا ينظرون إلى بابل نظرة استعلاء واحتقار، وأنّه حمل عليهم وعلى أرسطو في وصف هؤلاء بالبرابرة، فيما أنّهم يملكون حضارةً تفوق حضارة الإغريق وتسبقهم في التقدّم بقرون عديدة؟! ما يثير السؤال التالي: هل كانت توبيخات الإسكندر تلك حقيقيّة في التاريخ؟ وعلى فرض صحّتها هل كانت تنطلق من قناعة راسخة عنده، أم هي مجرّد تصريحاتٍ إعلاميّةٍ يُراد منها عدم استفزاز تلك الشعوب من خلال احتقارها واحتقار تاريخها؟ وعلى فرض صحّتها وقناعة الإسكندر بها، فهل وقع الإسكندر تحت تأثير الهيمنة الفكريّة والمعنويّة لتلك الحضارات، فبات المُحتلّ أسيراً؟

ومهما يكن من أمر، فإنّ البحث المعمّق يُظهر أنّ المقدونيين وإن استطاعوا فرض سيادتهم على بلاد اليونان، ولكن تلك السيادة كانت سيادةً عسكريّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً، في مقابل بقاء الهيمنة الثقافيّة الإغريقيّة على مقدونية.

* * *

لقد غلب على العصر الهللينستي الفوضى والاضطرابات السياسيّة والاجتماعيّة، وسيادة الأفكار المنحرفة الهدّامة التي ملأت النفوس بالقلق والتوتّر، حيث أخذ الناس يبحثون عن الطمأنينة والهدوء. لكن المفارقة كانت في التوجّه بهذه المهمّة نحو مذاهب من أمثال الأبيقوريّة من خلال مذهبها الأخلاقي، والتي رأت أنّ السعادة الإيجابيّة فوق قدرة البشر، وقالت بطمأنينة نفسيّة سلبيّة تتمثّل في الخلوّ من الآلام والمتاعب والتحرّر من المخاوف وحالات القلق والهم، والتمتّع بكافة اللذات الممكنة. ومن ثمَّ جعل الأبيقوريون من اللذة الحسيّة الخير الأسمى وغايةً للحياة ومعياراً للقيم. لقد رفض هؤلاء الدين والعلم بادّعاء أنّهما يجلبان الهمّ والغمّ والخوف والقلق والتوتّر، وذلك على خلاف الرؤى، وعلى خلاف الفطرة السليمة، التي تسود قديمًا وحديثًا وترى في الدين مصدر عزاء وخلاص، وفي العلم سببًا للتقدّم والرفاهيّة. لقد وقع الأبيقوريون في مقتل عندما حصروا اهتمامهم بما هو باطنيّ واستخفّوا بالظروف الخارجيّة، ما جعلهم ينسحبون من كافة الأنشطة الحياتيّة انسحابًا يقضي على طموح الإنسان ويسلبه الحيويّة التي لا تستقيم بغيرها حياة. كما عبَّرت الأخلاق الأبيقوريّة عن نزعةٍ نفعيّةٍ واضحةٍ، فلم تنشد الأبيقوريّة الفضيلة لذاتها، وإنَّما للنفع والفائدة التي تعود من ورائها، فأباحت الظّلم وعصيان القوانين متى حقّق هذا الأمر منفعةً، وتم قصر الأخلاقيّة على الفائدة الدنيويّة وعدم ربطها بثواب أخروي، فلا حياة أخرويّة ولا معاد فيها.

* * *

فلسفياً، تعدّ مرحلة الجدل السفسطائيّ السقراطيّ نقطة تحوّل، حيث كان التفكير الفلسفيّ متمركزًا حول نطاق الطبيعة، خصوصًا حول أصل العالم وطبيعته ومآله. ورغم أنّ الإنسان كان دائمًا هو الأصل في كلّ مراحل الحراك والنشاط النبوي، فقد كان الإنسان مهمّشًا مع الفلاسفة الطبيعيين؛ لكن التحوّل الذي حصل بدأ مع الحركة السفسطائيّة، التي حوّلت الإنسان إلى مصدر القول أو الخطاب، ومعياريّة الحقيقة إن وُجدت، فجاء مشروع سقراط الفلسفي مهتمًّا هو الآخر بالإنسان. لكن يختلفان في مسألة الحقيقة، فالسفسطائيّة أعطت مركزيّةً للعبارة أي للدال، ما يعني أنّ الحقيقة مهمّشةٌ وتابعةٌ، في حين سقراط أعطى المركزيّة للحقيقة بوصفها كيانًا كليًّا موجودًا في الخارج، وكذلك داخل فطرة الإنسان.

ورغم اختلافهما، فهما معًا قد حوّلا المركزيّة إلى الإنسان، لكن المشكلة دائمًا في الفلسفات المتمركزة حول الإنسان تتمثّل في مصدر هذه المركزيّة، ما من شأنه أن يقع فكر التمركز حول الإنسان في مفارقة المركز وتفكيكه في الآن نفسه، فعندما نتمركز حول الذات سنتساءل عن منح الإنسان المركز؟ وهنا قد نجد إجابتين، هما: إمّا الإله، أو الطبيعة. وهكذا سنتحوّل إلى مركزيّة الإله أو الطبيعة، ما سيجعل هيومانيّة سقراط والسفسطائيّة محلّ نقد.

إنّ أهمّ ما يمكن مقاربته في فلسفة سقراط، هو ما يُمكن وسمه بـ«منهج السؤال عند سقراط» في ضوء ما وصل إلينا عن الفلسفة السقراطيّة من منقولات تلامذته ومريديه المؤيّدين، لا سيّما أفلاطون وأنتستينس، وعن خصومه ونقّاده سيّما شاعر الكوميديا الساخرة أرستوفانس.

إنّ مقاربة سقراط، تستهدف مقابلة أسلوب تفلسفه ومقارنته مع من يوصفون بأنّهم خصومه المفترقين عنه من الفلاسفة السفسطائيين، لإظهار حدود هذا الافتراق وأسبابه ومحصوله، وذلك في سبيل مقاربة ورسم صورة مختلفة عن تلك الشائعة عن سقراط ومنهجه، مقاربة تكون أقرب إلى الواقعيّة والموضوعية منها إلى المديح والتكرار، فنتساءل حقيقة عمّا استقرّ في الأذهان عن صورة لسقراط خطّها ذراع أفلاطون وأسطرها حُسن بيانه وشيوع فلسفته.

من هنا، نجد مشروعيّة السؤال حول الحدّ الذي يسمح لنا بوصف سقراط بأنّه كان فيلسوفاً للاختلاف عن دارج أفكار زمانه وثقافة مدينته؟ ولماذا؟ وهل كان حقًّا رجل الحقيقة والمُنافح عنها في زمن تسفيهها وتحويلها سبيلاً للعيش والترزّق؟ وهل لدى سقراط، ما يستحقّ أن يوصف بـ«منهج في السؤال»، وما درج عليه الباحثون من توصيف منهجه وأنّه يعتمد على التهكّم والتوليد؟ أم كان السّؤال إجراءً ووسيلةً لغاية اقتضتها ضرورات وشقاقات السياسة بين المواطنين والفلاسفة والخطباء في أثينا؟ وأخيراً: هل حقّق سقراط، بأسلوب تفلسفه، مقصود منهجه في بلوغ ثبات المفاهيم وبراء الحقيقة؟ أم إنّه أخفق في بلوغ الهدف الذي جعله مرامَ فلسفته؟

* * *

وفي السياق نفسه، ما زالَ أفلاطون يثيرُ الجَدل الفكريّ، ويستدعي التّأمل والمراجعة النقديّة فيما أعطاه من أفكارٍ وطروحات فلسفيّة وسياسيّة، حولَ كثيرٍ من القضايا والمفاهيم التي تمسُّ أصل الوجود البشري على هذه البسيطة.

لقد سعت أبحاث هذه المرحلة الى إعطاء صورةٍ إجماليّةٍ، بنظرةٍ نقديّةٍ، حول ما قدّمه لنا أفلاطون في مجال نظريّة المعرفة، والإلهيات، والسياسة، وفلسفة بناء الدولة. وقد كان للفلسفة السياسية في فكر أفلاطون حصّةٌ لا بأس بها؛ لأنّها كانت الهاجس الرئيس لأفلاطون، رغم كلّ حضوره الفلسفيّ في مجالات أخرى، تأثّراً بما وقع على أستاذه، سقراط، من ظلم، اعتبر أنّ سببه الأساس هو النظام السياسي القائم. بل إنّنا لا نبتعد عمّن قال إنّ السياسة كانت السبب الرئيس، أو أحد أسباب دخول أفلاطون لعالم الفلسفة. على أنّ تناول الفلسفة السياسيّة عند أفلاطون لا يستقيم دون مقاربة مفهوم العدالة والأخلاق، وأنواع الحكومات وأنظمة الحكم، وأُسس قيام الدولة، وكذلك مقاربة قضايا المجتمع والشعب كهيكل قوي وضخم، يتقوّم بالفرد-المواطن، وضرورة تربيته على الأخلاقِ والعدالة ليكون صورةً مصغّرةً عن الدولة المثاليّة المنشودة، وهذا يحتم البحث في الطبقات الاجتماعيّة، وتأثيرها على السّياسة.

من الواضح أنّ فلسفة التفكير السياسي عند أفلاطون تستند على مرجعيّته الأخلاقيّة المثاليّة (نظرية المثل والاستذكار) والتي شكّلت خلفيّة ذهنيّة وعمليّة محرِّكة عنده، بقيت حاضرةً في تفكيره وسلوكه ونتاجاته وأعماله حتى آخر لحظة في حياته الاجتماعيّة والسياسيّة، فأيّ نقدٍ أو مراجعة فكريّة لأفلاطون، ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المعطى المعرفيّ السابق الذي كان جوهرَ فكره ومحور رؤيته الفلسفيّة والوجوديّة، رغم كلّ الهنات والعثرات التي اعترت نظريّته في المثل، أهمّها أنّها كانت غير قابلةٍ للإثبات، أو على الأقل، لم يقدّم لنا أفلاطون الأدلّة عليها.

لا يمكن الإنكار أنّ محاولات أفلاطون كانت جادّةً في بناء منظومةٍ سياسيّةٍ متكاملةٍ، وتقديم صورةٍ معياريّةٍ لدولة سياسيّة مثاليّة، تنتهي بالمجتمع المثالي والمدينة الفاضلة القائمة على العدالة والأخلاق -التي اعتبرها أهم المداخل وتمثُل رؤيته السياسيّة- إلّا أنّه يمكن ملاحظة التناقض والمغالاة في بعض آرائه وطروحاته السياسيّة والأخلاقيّة، لا سيما ما يتعلّق منها ببناء الفرد وتربيته على معايير تربويّة وأخلاقيّة وعمليّة، وهي تتناقض مع فطرة الفرد وجوهر وجوده؛ فمن جهةٍ، رفضَ أفلاطون المادّة وطالبَ بقمع الشهوات والقوى الغرائزيّة والغضبيّة، واعتبرها مصدراً لكلّ شر، ومانعاً لوصول هذا الفرد إلى المعرفة الكاملة، متجاهلاً أنّ الإنسان لا يكون فاعلاً ومنتجاً إلا بتوازن المادة والروح فيه، ومن جهة أخرى نجده يصطفّ مع الداعين إلى إباحة الاتّصال الجنسيّ والمثليّة الجنسيّة أو طقوس الزواج المنصوص عليها أساساً في أخلاقيّة الدولة الأفلاطونيّة والقائمة على زواج الشيوع أو زواج المشاركة، والتي يبدو أنّه عدل عنها في أواخر حياته.!!.

مهما يكن من أمر، فإنّ القارئ لأفلاطون يلحظ جيّداً القواعد الصارمة والممنهجة التي يتّبعها لتحقيق الغاية التي يرجوها منها، والتي تعدّ مخالفة للقواعد التي يرسمها في الوقت نفسه، وهو ما قد يصيب القارئ بخيبة أمل.

إنّ هذا النّمط من التناقض يغلّف أغلب فلسفة أفلاطون، ولا سيما ما يتعلّق بالتربية والتعليم، بوساطة المراحل التي يقترحها لكلّ فئة من فئات المجتمع على حده، وبوسائل للتعليم التي يمكننا أن نقف عليها في محاوراته، والأهداف المثاليّة التي يرجوها منهما. وهو ما أثَر سلباً على الصعيد الفردي، والاجتماعي، وأدّى إلى شرخ واضح في نظامه التربوي بين النظريّة والتطبيق، وجعل منه شخصاً انتقائياً وديكتاتورياً تقوم أفكاره على مبادئ تحسين النسل، وعلى إعلاء الفعل العقليّ على الفعل العملي، وعلى أهميّة اتّباع القوانين والتمسّك بالمجتمعات أكثر من الاهتمام بإعداد الفرد من أجل الوصول إلى مثال الإنسان، ومن ثم من أجل تنظيم المدينة والإنسانيّة.

في مباحث الإلهيات، اهتم أفلاطون بمبحث الألوهيّة اهتمامًا فائقًا، وأفرد له مساحات كبيرة في محاوراته، وحرص على وصف الإله بصفات نزهته عمّا كان سائدًا في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة من تجسيد وتشبيه، حيث أصبح صورةً خالصةً من المادة أو من عالم الظن، وكان هذا نتيجة تأثّر أفلاطون بما وصلت إليه الأمم المتحضّرة المحيطة ببلاد اليونان حينذاك فيما يخص مبحث الألوهيّة، واستفادته من الصفات الإلهيّة التي وصف بها حكماء الشّرق القديم آلهتهم، فقال بالإله الموجود الكامل الخيّر المعتني بالكون، فهو جميل، وحكيم، وعالم، وجامع لكلّ المحامد. لكنَّ أفلاطون مع ذلك لم يستطع التخلّص مما ورثه من أساطير كانت سائدةً في الدّيانة الشعبيّة اليونانيّة، فقال بالإله الصانع لا الخالق، وذهب إلى القول بتعدّد الآلهة وليس الإله الواحد، وأنَّ الإله لا يصدر عنه الشّر ولا يستطيع أن يمنعه بشكل تام فهو فوق مقدرته، وقال بعجز الإله التام أمام فكرتي القدر والضرورة.

ولم يبتعد أفلاطون عن الاهتمام باللغة، فإنّنا نجد بسهولة إرهاصات مباحث لغويّة، تحوّلت في العصر الحديث، إلى مذاهب شتّى في اللسانيات وفلسفة اللغة. من هنا، فإنّ هذه الأبحاث لم تغفل عن مقاربة مسألة اللغة عند أفلاطون، وتبيان رأيه في نشأتها وقدرتها على تأدية وظائفها بوصفها وسيلةً للتواصل والمعرفة. ورغم أنّ إحدى السمات الأساسيّة للإنسان هي أنَّه كائن لغويّ، إلّا أنّ أفلاطون يستبعد الإجماع والاتّفاق على عمليّة وضع الأسماء، ويُرجعها إلى نظريّة المحاكاة التي ترى أنّ الأحرف والأسماء تحاكي الطبيعة الجوهريّة للأشياء، لذلك يردّ كلّ الكلمات الفَرعيّة (الثانوية) إلى الأصْل-الأسماء الأوّلية التي تُشكّل الثابت أو الجذر (الأصْل اللُّغوي) الذي تعتمد عليه عمليّة الاشتقاق، وهنا يُلاحظ التّماهي بين نظريّة أفلاطون اللغوية ونظريّته في الوجود والمعرفة، من حيث التمييز بين الثابت والمتغيّر وردّ الوجود إلى مبادئ أوّليّة ثابتة. ولا يغفل أفلاطون عن العلاقة التي تربط بين الاسم والشيء على اعتبار أنّ الشيء يمتلك أسبقيّة أنطولوجيّة على الاسم، كما أنّ الاسم يُشكّل انعكاساً لغوياً للشيء، إلّا أنّ معرفة الاسماء لا تعني عن معرفة الأشياء؛ لذا يتوجّب على المرء التوجّه إلى الأشياء ذاتها من أجل معرفتها، وهذا يطرح من جانب آخر علاقة اللغة بالحقيقة، حيث تُعَدُّ اللغة انعكاساً للحقيقة، وهناك مسافة بين الكلمة-الاسم والشيء لا يمكن عبورها.

من المؤكَّد أنَّ اليونانيين كانوا أوَّل مَنْ أثار الاهتمام بالظَّاهرة الجماليَّة، وهم أيضاً أوَّل مَنْ بدأ بوضع أسسٍ حقيقيَّةٍ لمعرفة ماهيَّة الجمال، وسواءٌ أكان الجميل هو النَّافع أو المنسجم أو المثير للعواطف واللَّذات الجماليَّة، فإنَّ كلَّ تلك النَّظريات تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ وهي أنَّ الجمال يرتبط بالإنسان بوصفه ذاتاً جماليَّةً يتذوَّق الفنَّ ويتأثَّر به.

من هنا، كان لا بدّ من مقاربة الجمال عند أفلاطون، مقاربةً نقديّةً، وربطاً به كان لا بدَّ من مقاربة موضوعي الفنِّ والحبِّ أيضاً. أولاً؛ لأنَّ الفنَّ هو المعبِّر الأفضل عن الجمال، وثانياً؛ لأنَّه حامل قيمة الجمال ومبلورها، وثالثاً؛ لأنَّنا بالفنِّ، وفق أفلاطون، نستطيع أن نحاكي الجمال الأسمى أو الجمال بالذَّات في عالم المُثُل الذي ابتكره أفلاطون؛ إذ كلَّما اقترب الجمال الواقعيُّ من الحقيقة كلَّما اقترب من الجمال المثاليِّ الذي يرشدنا نحو الفضيلة والخير والأخلاق الفاضلة.

 أمَّا الحبُّ، فهو معراج الفنَّان في انتقاله من العالم الماديِّ إلى عالم المُثُل، فبالحبِّ وحده يستطيع الفنَّان أن يحقِّق النَّقلة الحقيقيَّة بين الجمال في الواقع والجمال الرُّوحيِّ المثاليِّ، ليس الفنَّان فقط، بل كلُّ من يعاين الجميل، ويستطيع أن يسمو به نحو الجمال الكليِّ المطلق؛ لأنَّ الحبَّ حاجةٌ دائمةٌ للاكتمال، فهو عاطفةٌ تبحث بشوقٍ أبديٍّ عمَّا يحقِّق الكمال المنسجم المتعالي عن الواقع.

* * *

إنّ النّظر في الفلسفة الأرسطيّة التي استندت إلى التفوّق الثقافي والعرقي، يدفعنا إلى مراجعة خلفيّة العلاقة اليونانيّة مع بلاد فارس، والتي تميّزت بخوفها الشّديد من أن يُستعبد اليونانيون في ظلّهم رغم أنّ فارس كانت إمبراطوريّةً عظيمةً في العالم القديم، فقد انتصر الإغريق القدماء في معارك عديدة ضدّها، وهي أكبر دولة في ذلك الوقت، وقاموا ببناء مجموعة من الأساطير الوطنيّة على أساس تلك الانتصارات، كانت في حدّ ذاتها ضروريّة وممكنة، لمحو إمكانيّة الهزيمة وتوطيد قيم السيطرة والتفوّق اليوناني، وقد ساندتها الفلسفة الأرسطيّة باختلاقها وعيًا آخر، يمجّد الاستعباد والرقّ والعنصريّة، ويوصف بالعقلانيّة، وإن اتّسمت هذه «العقلانيّة» بأنّها تصف كلّ الأجانب على أنّهم برابرة.

في الواقع، إنّ الحديث عن أرسطو والعبوديّة الطبيعيّة يُظهر الرؤية الأيديولوجيّة لأرسطو ضمن دراسة الرق، من كونه دراسة حالة ليست عاديّة، يقتضي إعادة النظر في وصف أرسطو للعبودية الطبيعيّة بدقّة على أنّه أيديولوجيّ في طبيعته، فعلينا أن نظهر اعتقاده بأنّ غير اليونانيين كانوا طبيعيين. وتبيين ما إذا كان العصر الأرسطي فيه عبوديّة، وأنّ أرسطو في حدّ ذاته عاش في مجتمع عُبوديّ، وهل كانت العبوديّة طوعيّة على حدّ تعبير ايتيان لابويتي (Etienne de la Boétie)أمرًا مقبولًا؟  

وما يؤخذ على أرسطو في قضيّة العبوديّة والاستعلاء الإغريقيّ، يُؤخذ عليه أيضًا في قضايا تُصنّف اليوم ضمن حقوق الإنسان: كموقفه من المرأة، وأسرى الحروب، وما إلى ذلك.

وليس بعيداً عن ذلك، حاولنا إلقاء الضّوء على فلسفة أخلاق الفرد عند أرسطو، لا سيما فيما يتعلّق بمفهومها والأسس التي بُنيت عليها، وعلاقتها بمفهوم السعادة ونظريّة الفضيلة عنده من جهة، والوقوف على المعادلة الأرسطيّة "الفضيلة وسط بين رذيلتين" في سبيل استعراض الإشكاليات والصعوبات التي واجهتها من جهة أخرى، وصولاً إلى الإشكاليات التي تعرّضت لها فلسفة أرسطو الأخلاقيّة ككل، ليغدو التّساؤل بعد ذلك عن إمكانيّة وجود إنسان فاضل عند أرسطو.

ولم تكن الإلهيات الأرسطيّة أفضل حالًا، فقد ظهر الإله الأرسطي في نظريّة المحرّك الأوّل الذي لا يتحرّك، إلهاً خاليًا من الصفات الكماليّة.

وفي نظريّة المعرفة، فقد كانت نظريّة المثل والنقد الأرسطي لها، من الإشكاليات التي شغلت تاريخ الفلسفة اليونانيّة منذ بدايتها؛ لأنّها موضوع خلافٍ جوهريٍّ ما بين الأستاذ والتلميذ الذي حاول بنقده الثورة على أفكار أفلاطون، وتأسيس فلسفةٍ مغايرةٍ لفلسفته في المنهج والأسلوب، وهذا ما تؤكّده الغالبيّة العظمى من مؤلّفات تاريخ الفلسفة، دون التطرّق إلاّ فيما ندر إلى الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف هذا النّقد الشرس للمثل.

لقد حاولنا هنا إخضاع نقد أرسطو لنظريّة المثل للنقد والتحليل، وإبراز مدى التزامه بالموضوعيّة وقواعد الصحّة والبطلان أثناء نقده، هذا النّقد الذي أوقعه في التناقض والكثير من المشكلات الفلسفيّة أثناء رحلة بناء فلسفته، وأهمّها إشكاليّة العلاقة بين الكلّي والجزئي التي بدأ فيها فيلسوف اسطاغير برهانياً كرجل منطق وانتهى مثالياً في تأكيده أولويّة الموجود الميتافيزيقي المطلق، كما يكشف منهجه في البحث، إذ انتقل بتراتب هرميّ من المحسوس (لا وجود إلاّ للجزئي) إلى المعقول (لا علم إلاّ بالكلي) ليصل في نهاية المطاف إلى المفارق (المحرك الأول اللامتحرك) الذي عدّه موضوع العلم وغايته الحقيقيّة؛ فيعود هنا أفلاطونياً.

وعلى أيّ حال، فإنّنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنّ أرسطو كان أوّل من زرع بذور المنهج الماديّ بطريقة أو بأخرى، في الفكر الفلسفي. وهكذا وقع الفكر الفلسفي، لقرون لاحقة، بين سندان مثاليّة مفرطة عند افلاطون، ومطرقة أرسطو المادية.

وفي الفلسفة الطبيعيّة، تتقوّم فلسفة الطبيعة عند أرسطو وتأمّلاته في فيزيائها، وما تستتبعه هذه التأمّلات، التي يبدأها أرسطو من مقدّمات استقرائيّة، من قولٍ بخصوص كوزمولوجيا الكون الذي يشكّل للطبيعة علّتها أو ما وراءها، من سلسلة من الحوامل المقصود الفصل بخصوصها، والتي أخصّها وأعسرها على القطع الواثق، هي مقولتا الزمان والمكان.

يتقصى البحث في فلسفة الطبيعة، ضمن حدوده المتاحة، عن الآثار الما قبل أرسطيّة في تفكير وإرث أرسطو المختصّ بمشكلة ثنائيّة المكان والزمان، سيّما تلك الآثار والتراث الذي حفظه لنا تاريخ الفلسفة اليونانيّة عن شيوخ المدرسة الأيلية.

وقد استخلصنا معنى المكان والزمان الكوزمولوجيين في طبيعيات أرسطو انطلاقاً مما يُمكن دعوته المكان والزمان الواقعيين أو اللامطلقين، مع محاولة تفسير معنى الثنائيّة الزمكانيّة عند أرسطو.

وقد خلصنا إلى اختزال ما يُمكن دعوته بالتناقضات المنهجيّة وتضادات النتائج التي تظهر في فيزياء السماع الطبيعي عند أرسطو بخصوص إشكاليّة المكان والزمان، وثنائيّتيهما.

* * *

ما تقدّم، يمثل مضمون الأجزاء الثلاثة من هذه المرحلة (6،7،8)، أمّا الجزء الرابع (9)، فقد تمّ تخصيصه للمرحلة الرومانيّة.

ومن الطبيعي، في معالجة المرحلة الرومانيّة في عهديها الملكي والجمهوري، أن نقارب مفهوم القانون الروماني من حيث ماهيّته، لا سيما وأنّه يُعدّ، إلى اليوم، مفخرة الغرب، وما زال يُدرس حتى يومنا هذا، في الجامعات. وقد تركّز النقد لهذا القانون على تبيان مواضع القسوة والضّعف واللاعدل في فروع القانون الروماني العام، كذلك بيان مواضع القسوة والضعف واللاعدل في فروع القانون الروماني الخاص.

* * *

ومن جهة ثانية، تعدّ دراسة الحياة الدينيّة لأيّ شعب من الشعوب من الدّراسات المهمّة، والتي يمكن من خلالها التعرّف على مستوى تفكيرهم، ومدى تطوّرهم الحضاري والروحي، فالدين مركز اهتمام الإنسان ومحور تفكيره وتنظيم مجتمعه.

لقد احتلّ الدين مكانةً مهمّةً عند الشعوب القديمة كافّة، وعند الرومان احتلّ المكانة الأسمى لارتباطه بحياتهم اليومية، فكانت الآلهة هي المسؤولة عن كلّ شيء، فهي الراعية والحامية والمانحة والمدمّرة والمسبّبة للأعاصير والمرسلة للرياح القويّة، وكان على الشعب طاعتها طاعةً تامةً، وإقامة الشعائر الدينيّة لها، وبناء المعابد واللجوء إليها عند الشدائد، فالروماني القديم عبد قوى الطبيعة، كما قدّس العظماء، والأبطال والأباطرة، والأجداد، وقدّم لهم النذور والقرابين، وبهذا لم يخرج الرومان عمّا كان سائداً في بلاد الإغريق، من تصوير للالهة، وتزاوجهم، وغضبهم ورضاهم، وزرع الشقاق والحروب بين بني البشر، تبعًا لاختلاف الآلهة بين بعضهم البعض.

* * *

لقد اتّسمت الحياة الرومانيّة بالقسوة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في مجتمع تمرّس على الحروب، وهيمنت على عقليّته النفعيّة. فلا غرابة في أن يتّجه الفكر الروماني إلى العقل العملي، محاولًا قدر الإمكان الابتعاد عن المباحث الأنطولوجيّة وما يرتبط بمباحث الوجود والمعرفة، والعلوم العقليّة المجرّدة؛ إذ لم يكن العقل الروماني يألف التجريد، مضافًا إلى ذلك، محاولات الرومان بناء ثقافةٍ خاصةٍ بهم تبتعد عن هيمنة الفكر والفلسفة الإغريقيين، وهي السمة الرئيس للمرحلة الهللينستيّة، وهم يعلمون أنّهم لن يستطيعوا مضاهاة الإغريق في هذه الفنون.

* * *

على أنّ عقدة النقص هذه من الإغريق، لم تقتصر على العقل الفلسفي، فقد امتدّت الى الأدب أيضًا، وربما حاول الرومان التركيز على الآداب والفنون في محاولة تعويضيّة، إلّا أنّ النّظر إلى الإغريق، ومحاولات مضاهاتهم لم يسلم منها الأدب أيضًا، ولعلّ أوضح تعبير عن هذا الأمر، هو كتاب الانياده التي دوّنها فرجيل، إذ إنّ سرديات أسباب كتابتها لم تخرج عن منطق: فليكن لنا ملحمة كما لهم ملحمة، في إشارة إلى الالياذة التي كتبها هوميروس.

* * *

أما الحياة السياسيّة الرومانية، فهي على حدّ سواء بين الحكّام، والساسة، والقادة العسكريين، بل وزوجاتهم أيضًا، فهي حياة مليئة بالخداع، والتآمر، والاغتيالات، والخيانة. ولعلّ النموذج الصارخ في هذا الأمر هو عقلهم المفكّر، والمنظّر الأعظم في الفكر السياسي الروماني، وأعني به شيشرون، تلك الشخصيّة المليئة بالتناقضات، لناحية الشرخ الهائل بين النظريّة والتطبيق، بين الحرص على التنظير الأخلاقي، والممارسة السياسيّة المليئة بالخداع والمؤامرات.

* * *

تتطلّب وحدة المجتمع معرفة العلاقات التي تربط بين أفراده وأثر تلك العلاقات في تكوينه. فالمجتمع الإنسانيّ يشتمل على شعوب وقبائل وأمم وشرائع منوَّعة، وثقافات وحضارات، لها عاداتُها وتقاليدُها وأعرافها المتمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة. إضافة إلى أنّ حياة البشر تتضمّن الكثير من الحقائق المؤثّرة في شريط الأحداث التاريخيّة، وإذا استطاعت حضارة ما أن تجذب المجموعات البشريّة الأخرى، فإنّ هذه الحضارة تكون غنيّة، ولها القدرة على التفاعل مع الآخر، وهذا ما حدث للإمبراطوريّة الرومانيّة نهاية العصور التاريخيّة القديمة، إذ جذبت حضارتها قوى خارجيّة تفاعلت على أرضها، فما حدث هو تأثير وتأثّر متبادل بين القبائل الجرمانيّة وباقي مكونات الإمبراطوريّة الرومانيّة ليصبحوا متشاركين في بناء حضارةٍ جديدةٍ.

فالخطر الجرمانيّ، الذي صوّره الرومان، كمظهر مستمر لقرون عدّة، تحدّث عنه المؤرّخ الرومانيّ تاكيتوس عام 98م، وبقي موضوع الجرمان مسألة المسائل حتى زوال الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب على يد الجرمان، ما يؤكّد حجم التأثير المتبادل بين الطرفين، ما حتّم البحث حول تحرّكات القبائل الجرمانيّة خلال الأعوام (750-1ق.م)، وكيف أصبحوا العنصر البشريّ الأساسيّ في صنع الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى. على أنّه لا يمكن الركون إلى الروايات الغربيّة حول بعض القبائل التي صوّرها الرومان بصورة المتوحشين الذين يشكّلون خطرًا على «الحضارة»؛ إذ إنّ «وحشنة» الآخر هو صفة ظلّت ملازمةً للأدبيات الغربيّة في توصيف الشعوب التي تسعى لاستعمارها، ومصطلح الانتداب الذي أستعمل في النصف الأوّل من القرن الماضي ليس ببعيد، إذ سعى هذا المصطلح (الانتداب) للإيحاء بأنّ هذه الشعوب لا تصلح حتى لحكم نفسها!

وعلى أيّ حال، فإنّ القبائل الجرمانيّة عبارة عن مجموعة عرق- لغويّة وصلت إلى المنطقة الشماليّة والوسطى من أوروبا خلال عدة قرون (750-1ق.م)، إذ وجدت في الهجرة الحلّ الوحيد لمشاكلها.

وقد سعت هذه القبائل للتعبير عن تميّزها الحضاريّ باستمرار عبر تمسّكها بتراثها المحليّ الاجتماعيّ القائم على القبيلة، والاقتصاديّ القائم على الزراعة وتربية الماشية، وكان مجتمع القبائل الجرمانيّة بسيطًا متجانسًا حمل صفة واحدة أنّه محارب، وشكّلت الأرض بالنسبة إليه مركز تماسك إقليميّ، بينما شكّلت الأسرة مركز تماسك إنسانيّ.

* * *

هذه صورةٌ إجماليّةٌ للموضوعات التي عالجناها بشكلٍ نقديٍّ في هذه المرحلة، وهي مرحلةٌ استمرّ العمل عليها لمدّة تزيد عن العام بقليل.

ونحن إذ لا ندّعي الكمال في هذا العمل، إلّا أنّنا نزعم، وبقوّة، أنّ الباحثين المشاركين في هذا النتاج الفكري، قد بذلوا جهودًا كبيرةً في محاولة التقصّي والبحث، والتحليل والنقد، في بيئةٍ حاشدةٍ ومليئةٍ بالكتب والأبحاث المصفّقة والمهلّلة للغرب، وإنتاجاته الفكريّة، وفي أجواء يحتاج النقد فيها لجرأة وشجاعة لا تقل عن الشجاعة التي يحتاجها الجندي في المعارك العسكريّة.


 

مقدمة الجزء (10 - 11 - 12)

تمثّل هذه الدفعة (ثلاثة أجزاء: 10-11-12) المرحلة الرابعة من مشروع نقد الحضارة الغربية، وهي مرحلة تغطّي الفترة الواقعة بين القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدأ عام 27ق.م تاريخ ولادة الإمبراطورية الرومانية، حتى القرن الخامس ميلادي، وتحديداً عام 476م، تاريخ سقوط روما.

وقد جاءت هذه الأجزاء الثلاثة مقسمة حسب الموضوعات التي تمت معالجتها؛

فأختص الجزء العاشر منها بالمحور التاريخي بأبعاده المرتبطة بالحياة الثقافية والاجتماعية، وكذلك بحياة الاباطرة وحروبهم وصراعاتهم.

أما الجزء الحادي عشر، فقد خصصناه لمباحث اللاهوت، حيث بدأ في تلك الفترة تشكُّل اللاهوت المسيحي، مع رحلة المخاض التي سار بها، وقد كان من أبرز شخصيات القديس أوغسطين.

أما الجزء الثاني عشر، فقد عالجنا فيه بعض المباحث الفلسفية المرتبطة بالأسئلة الرئيسة التي طرحت في تلك الفترة.

إننا إذ نشكر جميع الباحثين الذين ساهموا في انجاز هذه المرحلة، فإننا نسأل العلي القدير أن يوفقنا الى إتمام المرحلة الخامسة من هذا المشروع، والتي ستغطي كامل ما يسمى بالعصور الوسطى، أي من أواخر القرن الخامس، حتى أواخر القرن الخامس عشر ميلادي.


 

مقدمة الجزء الثالث عشر

ها نحن اليوم نقدّم للقارئ العزيز المرحلة الخامسة والأخيرة من مشروع نقد الحضارة الغربيّة، والتي ستغطّي الفترة الواقعة بين أواخر القرن الخامس ميلاديّ، أي من سقوط روما، إلى أواخر القرن الخامس عشر ميلاديّ.

وكنّا قد قدّمنا سابقًا، في اثني عشر مجلَّدًا، المراحل الأربع التي سبقتها من ما قبل القرن التاسع قبل الميلاد، حتّى القرن الخامس ميلاديّ.

وستتضمّن هذه المرحلة مجموعة من الأبحاث التي تغطّي ما سُمّي بالعصر الوسيط، في مجالات مختلفة من السياسة والاجتماع والتاريخ، والفلسفة واللاهوت..الخ.

لقد قلنا إنّ هذه المرحلة ستكون الأخيرة، فصحيح أنّ السلسلة قد لاقت رواجًا واستحسانًا من القرّاء بوصفها عملًا نوعيًّا وجريئًا، إلّا أنّ توقّف السلسلة عند هذا الحدّ لا يعني انتهاءها، بل استمرارها لكن بشكل مختلف.

لقد كان بالإمكان، في المراحل السابقة، متابعة الحضارة الغربيّة عن طريق منهج المراحل التاريخيّة، إلّا أنّنا وجدنا أنّ هذا المنهج لم يعد صالحًا بعد القرن الخامس عشر، نظرًا للتشعّبات والتداخلات الفكريّة والفلسفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بحيث يصعب جمع أشتاتها، وبناء مشتعّباتها، فكان لا بدّ من سبيل آخر.

وقد وقع خيار اللجنة العلميّة في المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة على المعالجة التفكيكيّة لهذه الملفّات والعلوم والأفكار التي ستتشعّب، فتقرّر العمل وفق منهجيّة التفكيك، بحيث ستتمّ متابعة هذا المشروع وفق مشاريع متعدّدة ستلاحق بعضها النظم والأفكار السياسيّة، فيما يتابع مشروع آخر البنى الفلسفيّة ورجالاتها في مشروع أعلام الغرب، بينما يلاحق مشروع ثالث المناهج الغربيّة، وهكذا.

وبالمحصلة، بعد أن كان مشروع نقد الحضارة الغربيّة مشروعًا واحدًا في مراحله الخمس الأولى، سيتحوّل إلى عدّة مشاريع مترابطة تحت مسمّيات مختلفة تبعًا للموضوع، لكنّها في مجملها العام ستكون تحت العنوان الأساس، وهو: نقد الحضارة الغربيّة.

وعلى أيّ حال، ومع انتهاء هذه المرحلة، لا بدّ من شكر كلّ من ساهم معنا في هذا المشروع، في كتابة أو مشورة، أو نقد بنّاء، أو أفكار نيّرة، ساهمت في إنجاز هذه المراحل وتطويرها. ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد، والصحّة والرشاد، إنّه خير معين، وخير هاد.

 

مدخل الجزء الثالث عشر

بعيدًا عن التسمية التي أُطلقت على القرون الممتدّة من القرن الخامس حتّى الخامس عشر ميلادي، بالقرون الوسطى أو العصور الظلاميّة، التي سنتحدّث عنها لاحقًا، إلّا أنّ المتتبّع لحيثيّات قيام الإمبراطوريّة الرومانيّة، وما رافقها من تطوّرات عسكريّة وسياسيّة وثقافيّة، على المستويين الداخليّ والخارجيّ، يستطيع أن يرسم مسارًا انحداريًّا واضحًا، يستشرف فيه أنّ هذه الإمبراطوريّة آيلة للسقوط لا محالة.

فعلى المستوى العسكريّ، ظهر جليًّا أنّ هذه الإمبراطوريّة لا يمكن لها أن تستمرّ بالتوسّع مع ازدياد الشخصيّات الرومانيّة الطامعة بالسلطة، كما أنّ تهوّر بعض الأباطرة في التوسّع شمالًا وغربًا، قد راكم عدد الأعداء، فضلًا عن الطامعين في إسقاط هذه الإمبراطوريّة ووراثتها. دون أن ننسى حجم الصراعات الداخليّة على السلطة، ولئن طال حكم بعض الأباطرة، فإنّ ذلك يعود لقدرة بعضهم على نسج علاقات، وتوزيع مغانم، والدخول في حروب إلهاء وتشتيت انتباه، لا إلى تراجع عدد العداوات، وحلّ مشكلات جذريّة لما كان يعانيه النظام القائم أساسًا من الاستقواء والمغامرات العسكريّة، خاصّة أنّه كان من المعلوم، أنّ الوصول إلى السلطة السياسيّة للشخص، يقوم على حجم الإنجازات العسكريّة التي يحقّقها، فكان سقوط روما أمرًا حتميًّا، ومع دخول العوامل الدينيّة لاحقًا، كان تقسيم الإمبرطوريّة قدرًا لا مفرّ منه.

أمّا سياسيًّا، فبعد سقوط روما، كانت المسيحيّة قد بدأت تتغلغل في أنحاء الإمبراطوريّة، وسلطان رجال الدين آخذًا بالتوسّع، ورغم أنّ التعاليم الكنسيّة بحسب رجالاتها، لا سيّما بولس، قد فَصَلت بين الدينيّ والسياسيّ، إلّا أنّ رجال السياسة الطامحين لإضفاء نوع من الشرعيّة على أنفسهم، ورجال الكنيسة المتوثّبين نحو السلطة الزمنيّة، خلطت الدينيّ بالسياسيّ، فتشكّلت في فترات مختلفة نوعًا من الثنائيّة المستترة في الحكم، فوقعت اختلافات كثيرة، أُضمرت تارة، وظهرت أخرى، على شكل حروب، أضفت عليها الكنيسة القداسة، وأسبغ عليها الأباطرة العلمنة. فبدا واضحًا أنّ النظام السياسيّ يعاني من مأزق حرج، إلى أن استقرّ نسبيًّا لصالح الكنيسة.

ولم يكن الوضع الثقافيّ-الدينيّ في الإمبراطوريّة المنقسمة بأفضل أحواله، فعلى الرغم من أنّ تعاليم بولس التي قامت على محاولة استدراج الوثنيّين إلى المسيحيّة، عبر إدخال الكثير من تلك الاعتقادات الوثنيّة إلى الدين الجديد الوافد، أدّت إلى حركة تنصير واسعة، ساعده على ذلك قرارات إمبرطوريّة متتالية؛ بدءًا من منع محاربة المسيحيّين، وصولًا إلى جعل المسيحيّة الدين الرسميّ للبلاد، إلّا أنّ هذا المزج ترك أثرًا كبيرًا على مجمل الحياة الثقافّية.

لم تكن الحياة الثقافيّة الرومانيّة بأفضل أحوالها حتّى في أوج قوّتها وسلطانها، فقد عانى الرومان من هيمنة الثقافة اليونانيّة. ورغم العدد الكبير من المحاولات في تظهير فلسفة رومانيّة، إلّا أنّ الرومان لم يستطيعوا أن يضاهوا اليونان في فلسفتها، فبقيت الفلسفة الرومانيّة تدور في فلك الفلسفة السياسيّة، لا سيّما أنّ فلسفتهم انحصرت بشكل كبير في الفلسفة العمليّة، ونُسب فلاسفتهم إلى مذاهب أخلاقيّة كالرواقيّة وغيرها، فعانت الفلسفة الرومانيّة من انتاج فلسفة أنطولوجيّة، أو إبستمولوجيّة.

ومع دخول المسيحيّة إلى الإمبرطوريّة، وجد المسيحيّون أنفسهم في المأزق نفسه الذي عانى منه الرومان سابقًا، فتقاذفتهم المذاهب اليونانيّة، سواء في العصر الذهبيّ أو في العصر الهلّينستيّ، فتاهوا بين أفلاطون والأفلاطونيّة المحدثة، ثمّ دخلوا مدرسة أرسطو، وتأثّروا بابن رشد، حتّى طُبع عصر بأكمله بطابعه فسُمّي بالرُشْديّة اللاتينيّة، في محاولات اقتفاء أثر ابن رشد. وربما لا نجازف بالافتراض أنّ من أحد أسباب الحروب الصليبيّة هو ترسيخ نوع من القطيعة مع الفكر الإسلاميّ الذي اعتلى المشهد الثقافيّ في أوروبا، وتربّع على عرشها.

أمام هذه الوقائع أنبرى مجموعة من رجال الفكر المسيحيّين، للكتابة، ومحاولة تفكيك الإشكاليّات التي فرضتها هيمنة الفلسفة اليونانيّة من جهة، وتغلغل الفلسفة الإسلاميّة متسلّحَة بالفلسفة اليونانيّة نفسها، ومضيفة إليها من جهة أخرى، فتركزت معظم المحاولات في الفلسفة المسيحيّة على حلّ مشكلة العلاقة بين العقل والدين، بين العقل والنصّ، بين العقل والإيمان... إلخ

وإذا كان هذا هو حال النخب الثقافيّة، فلنا أن نتصوّر حال العامّة، التي انتشرت فيها الخرافات والشعوذات، وأعمال السحر، وقد زاد من حدّة ذلك، أداء بعض رجال الكنيسة الفاسدين الذين وجدوا في الناس اللاهثة وراء النجاة بأيّ ثمن، فرصة لتجميع الذهب والفضّة وتكديس الثروات، فبدأوا يبيعون الناس صكوك الغفران، وأراضِ في الجنّة، وبدلًا من قطع دابر هؤلاء لحفظ إيمان الناس بشكل سليم، ومع ظهور ما سمّي بالهرطقات، عمدت الكنيسة إلى اصدار قرارها بتشكيل محاكم تفتيش؛ وبدل أن تفتّش عن الإقطاعيّين والمفسدين من رجال الكنيسة، أخذوا يفتّشون في خبايا نفوس الناس، ومدى صدق إيمانهم، وسلامة عقيدتهم، وطُهر قلوبهم، ونقاء سريرتهم.

ولم يكن الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ إلّا انعكاسًا للوضع السياسيّ والثقافيّ، فتردّت الأوضاع الاجتماعيّة، وتدهور الاقتصاد، فازداد الفقير فقرًا، وزاد الأغنياء من ثرواتهم، وظهرت طبقة جديدة من الأغنياء معظمهم من رجال الإكليروس. ومن جديدة، بدل أن يقوم رجال الكنيسة بإجراءات عميقة وجذريّة في هذا النظام القائم، عمدوا للهرب إلى الأمام، عبر إشعال الحروب الداخليّة تارة، والخارجيّة الصليبيّة تارة أخرى، فرسّخوا بذلك سلطانهم، وزادوا في ثرواتهم.

لقد كانت الثورة على هذه الفترة أمرًا لا بدّ منه، خاصّة مع قيام الغرب بالسطو على معظم تراب الشرق العلميّ، خصوصًا في فترة تراجع المسلمين وانشغالهم بخصوماتهم السياسيّة الداخيّة. وهكذا حصل.

لقد أطلق الغرب لاحقًا على الفترة الممتدّة من القرن الخامس حتّى الخامس عشر ميلاديّ تسميات مختلفة بألفاظها، لكنّها تشير إلى معنى واحد في مضمونها، وهو أنّ هذه العصر هو عصر التخلّف والظلمات، فيما أخذوا يمجّدون قليلًا العصر الرومانيّ، لكنّهم توافقوا على أنّ حضارتهم المحدَثة تنتمي إلى اليونان.

من الواضح أنّ هذه التسميات التي أُطلقت على العصر الوسيط لا تعدو كونها موقفًا أيديولوجيًّا مغالطًا؛ فعصر الظلمات هو عصر هيمنة الدين (المسيحيّ)، مقابل عصر الأنوار حيث التحرّر من الميتافيزيقيّ والغيبيّات، هكذا أرادت أوروبا أن تصوّر الأمر.

لكن ما الذي كان مختلفًا بين العصر الوسيط والعصور التي سبقته؟ هل كان الغرب غربًا لا دينيًّا قبل دخول المسيحيّة، أم كان غارقًا في الدينيّ-الوثنيّ؟ ألم تشكّل آلهة روما عمدة الحياة الثقافيّة في المملكة، ثمّ الجمهوريّة، ثمّ الإمبراطوريّة الرومانيّة؟ ومن كان يجرؤ على التعرّض لجوبيتر أو فينوس، أو مينرفا، أو مارس؟ وحتّى الأباطرة، فإنّ أعلى مرتبة كانوا يسعون إليها هي ترسيخ فكرة أنّهم من أنساب الآلهة.

أمّا اليونان، فلم تكن حالهم بأفضل من الرومان، فجعلوا جبل الأولمب مركزًا للآلهة يديرون منه العالم، واعتبروا التعرّض لزيوس هرطقة ما بعدها هرطقة!

ويكفي أنّ هذا النظام القائم على عبادة الآلهة المتثّكرة، قد أفضت إلى إعدام سقراط.

لم تكن مشكلة الغرب الحديث مع العصر الوسيط، حقيقة، مشكلة الدين بشكل عامّ، لكن الغرب رأى أنّ الإمبراطوريّة الرومانيّة ما كانت لتتفكّك لولا المسيحيّة، وأنّ القوّة والسيطرة الرومانيّة إنّما تلاشت بسببها، رغم كلّ الحروب الصليبيّة وما رافقها من جرائم.

وإنّه من الضروريّ التوضيح أنّ الغرب الحديث نسب نفسه بتمجيد إلى عنصرين: اليونانيّ ثقافيًّا، والرومانيّ سياسيًّا وعسكريًّا.

أمّا اليونانيّ فبصفته مؤسّسًا للعنصريّة والفوقيّة والاستعلاء، وأمّا الرومانيّ فبوصفه معتمدًا على القوّة العسكريّة الغاشمة. وهنا تحديدًا مربط الفرس. فأوروبا صاحبة القوّة الغاشمة امتداد لروما الغاشمة، وأيّ عامل يسبّب في تراجع هذه القوّة هو انحطاط، وتخلّف، وظلمات.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف