فهرس المحتويات

مقدّمة المركز | 9

مباحث تمهيديّة | 11

السؤال الرئيسي | 14

أهمّيّة الموضوع | 14

الدراسات السابقة | 18

المنهجيّة | 19

من هو هشام جعيط؟ | 21

مميّزات هذا البحث | 23

الفصل الأول: المنهجيّة التأسيسيّة | 27

المبحث الأوّل: الخلفيّات غير المعرفيّة | 31

1 ـ الأُسرة | 31

2 ـ المجتمع | 32

المبحث الثاني: الخلفيّات المعرفيّة | 50

1 ـ التحصيل الدراسي | 50

2 ـ التيّارات والأعلام | 53

3 ـ المباني المعرفيّة | 66

4 ـ المنهجيّة المتّبعة | 86

الفصل الثاني: هشام جعيط والقرآن | 105

المبحث الأول: الموقف من القرآن | 107

المبحث الثاني: التأثيرات المسيحيّة واليهوديّة على القرآن | 113

1 ـ التأثير الاسكاتولوجي | 117

2 ـ الكنيسة السوريّة | 117

3 ـ تأثير الأب إفرائيم | 118

4 ـ المعجم السرياني | 118

5 ـ تأثيرات غير سوريّة | 119

6 ـ التأثيرات اليهوديّة | 120

المبحث الثالث: مباحث قرآنيّة | 128

1 ـ إعجاز القرآن | 128

2 ـ جمع القرآن | 129

3 ـ المدني والمكي | 134

4 ـ تحريف القرآن | 139

الفصل الثالث: هشام جعيط والسيرة النبويّة | 143

المبحث الأوّل: الموقف من السيرة | 147

1 ـ المنهج | 147

2 ـ الهدف | 152

3 ـ الموقف | 155

4ـ المصادر المعتمدة | 160

المبحث الثاني: العصر الجاهلي | 162

1 ـ الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة | 165

2 ـ الأنثروبولوجيا الدينيّة | 168

المبحث الثالث: الفترة المكّيّة | 174

1 ـ الأسرة والعشيرة | 175

2 ـ المولد والتسمية | 183

3 ـ الزواج | 187

4 ـ البعثة النبويّة | 190

5 ـ الوحي | 200

6 ـ الدعوة النبويّة والخلفيّات الدينيّة | 204

7 ـ المعجزة | 213

المبحث الرابع: الفترة المدينية | 220

1 ـ الهجرة إلى المدينة | 220

2 ـ الغزوات | 226

3 ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود | 235

4 ـ الدولة ونظام الخلافة | 242

الفصل الرابع: هشام جعيط والتجديد | 257

المبحث الأول: الإطار النظري | 264

1 ـ الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة (أو عقلنة الفرد) | 265

2 ـ المصير السياسي (أو عقلنة المجتمع والسياسة) | 272

المبحث الثاني: الإطار العملي والتطبيقي | 279

1 ـ الإصلاح الخارجي (العلمانيّة المفتوحة) | 280

2 ـ الإصلاح الداخلي (تاريخيّة الدين) | 300

الفصل الخامس: هشام جعيط والغرب | 311

المبحث الأوّل: الإسلام والغرب | 316

المبحث الثاني: الاستشراق | 326

1 ـ باتريشيا كرون (1945 ـ 2015م) | 333

2 ـ مايكل كوك (1940 ـ...) | 335

3 ـ مونتغمري واط(1909ـ 2006م | 336

4 ـ آرثر جفري (1892ـ1959م) | 339

5 ـ جاكلين شابي (1943 ـ...) | 342

6 ـ هنري لامنس (1862 ـ 1937م) | 343

7 ـ يوليوس فلهاوزن (1844 ـ 1918م) | 346

8 ـ ارنست رينان (1823 ـ 1892م) | 348

9 ـ لويس ماسينيون (1883 ـ 1962م) | 350

10ـ ثيودور نولدكه (1836 ـ 1930م) | 351

11ـ تور أندريه (1885 ـ1947م) | 352

الخاتمة: خلاصة الأقوال ونقد المباني | 355

فهرس المصادر | 362

فهرس البحوث والدراسات | 371

رؤى نقدية معاصرة 6 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية العلمانية المفتوحة قراءة نقدية لمشروع هشام جعيط هاشم ميلاني

رؤى نقدية معاصرة 6 

العلمانية المفتوحة 

قراءة نقدية لمشروع هشام جعيط 

هاشم ميلاني 

الميلاني ، هاشم ، مؤلف .

العلمانية المفتوحة : قراءة نقدية لمشروع هشام جعيط / تأليف هاشم ميلاني . - الطبعة الاولى - النجف ، العراق : العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1442هـ . = 2020

372 صفحة ؛ 21×15 سم . (رؤى نقدية معاصرة ؛ 6)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة 364 - 374 

ردمك : 9789922625553

1. جعيط ، هشام ، 1935 - 2. العلمانية . أ. العنوان . 

LCC : BL2747.8  .M55  2020

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة 

فهرسة اثناء النشر 

 

الفهرس

مقدّمة المركز ٩

مباحث تمهيديّة ١١

السؤال الرئيسي ١٤

أهمّيّة الموضوع ١٤

الدراسات السابقة ١٨

المنهجيّة ١٩

من هو هشام جعيط؟ ٢١

مميّزات هذا البحث ٢٣

الفصل الأول: المنهجيّة التأسيسيّة

المبحث الأوّل: الخلفيّات غير المعرفيّة ٣١

١ ـ الأُسرة ٣١

٢ ـ المجتمع ٣٢

المبحث الثاني: الخلفيّات المعرفيّة ٥٠

١ ـ التحصيل الدراسي ٥٠

٢ ـ التيّارات والأعلام ٥٣

٣ ـ المباني المعرفيّة ٦٦

٤ ـ المنهجيّة المتّبعة ٨٦

(3)

الفهرس

الفصل الثاني: هشام جعيط والقرآن

المبحث الأول: الموقف من القرآن١٠٧

المبحث الثاني: التأثيرات المسيحيّة واليهوديّة على القرآن ١١٣

١ ـ التأثير الاسكاتولوجي١١٧

٢ ـ الكنيسة السوريّة١١٧

٣ ـ تأثير الأب إفرائيم١١٨

٤ ـ المعجم السرياني١١٨

٥ ـ تأثيرات غير سوريّة١١٩

٦ ـ التأثيرات اليهوديّة١٢٠

المبحث الثالث: مباحث قرآنيّة١٢٨

١ ـ إعجاز القرآن١٢٨

٢ ـ جمع القرآن ١٢٩

3 ـ المدني والمكي١٣٤

٤ ـ تحريف القرآن ١٣٩

الفصل الثالث: هشام جعيط والسيرة النبويّة

المبحث الأوّل: الموقف من السيرة147

١ ـ المنهج١٤٧

(4)

الفهرس

٢ ـ الهدف١٥٢

٣ ـ الموقف١٥٥

4ـ المصادر المعتمدة160

المبحث الثاني: العصر الجاهلي١٦٢

١ ـ الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة١٦٥

٢ ـ الأنثروبولوجيا الدينيّة١٦٨

المبحث الثالث: الفترة المكّيّة١٧٤

١ ـ الأسرة والعشيرة١٧٥

٢ ـ المولد والتسمية١٨٣

٣ ـ الزواج١٨٧

٤ ـ البعثة النبويّة١٩٠

٥ ـ الوحي٢٠٠

٦ ـ الدعوة النبويّة والخلفيّات الدينيّة٢٠٤

٧ ـ المعجزة٢١٣

المبحث الرابع: الفترة المدينية220

١ ـ الهجرة إلى المدينة220

٢ ـ الغزوات226

(5)

الفهرس

٣ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود 235

٤ ـ الدولة ونظام الخلافة242

الفصل الرابع: هشام جعيط والتجديد   

المبحث الأول: الإطار النظري265

١ ـ الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة (أو عقلنة الفرد)٢٦٥

٢ ـ المصير السياسي (أو عقلنة المجتمع والسياسة)٢٧٢

المبحث الثاني: الإطار العملي والتطبيقي٢٧٩

١ ـ الإصلاح الخارجي (العلمانيّة المفتوحة)٢٨٠

٢ ـ الإصلاح الداخلي (تاريخيّة الدين)٣٠٠

الفصل الخامس: هشام جعيط والغرب

المبحث الأوّل: الإسلام والغرب٣١٦

المبحث الثاني: الاستشراق٣٢٦

١ ـ باتريشيا كرون (١٩٤٥ ـ ٢٠١٥م)٣٣٣

٢ ـ مايكل كوك (١٩٤٠ ـ...)٣٣٥

٣ ـ مونتغمري واط(١٩٠٩ ـ ٢٠٠٦م)٣٣٦

٤ ـ آرثر جفري (١٨٩٢ ـ ١٩٥٩م)339

٥ ـ جاكلين شابي (١٩٤٣ ـ...)٣٤٢

(6)

الفهرس 

٦ ـ هنري لامنس (١٨٦٢ ـ ١٩٣٧م)343

٧ ـ يوليوس فلهاوزن (١٨٤٤ ـ ١٩١٨م)346

٨ ـ ارنست رينان (١٨٢٣ ـ ١٨٩٢م)348

٩ ـ لويس ماسينيون (١٨٨٣ ـ ١٩٦٢م)350

١٠ ـ ثيودور نولدكه (١٨٣٦ ـ ١٩٣٠م)351

١١ ـ تور أندريه (١٨٨٥ ـ ١٩٤٧م)352

الخاتمة: خلاصة الأقوال ونقد المباني355

فهرس المصادر362

فهرس البحوث والدراسات ٣٧١

(7)
(8)

مقدمة المركز 

لقد تعرّف العالم الإسلامي العربي على الثقافة الغربيّة -بشكل مباشر- بعد هجوم نابليون عام (١٧٩٨م) بأهداف سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، ومنذ ذلك الحين ـ سيما أيّام محمد علي باشا (١٧٦٩ – ١٨٤٩م) والبعثات العلميّة التي أرسلها إلى أوروبا ـ بدأ العالم الإسلامي يتعرّف على الآخر ويذعن بتفوّقه في الميادين كافة ممّا أدّى إلى إحداث روح انهزاميّة عند فريق من النخب دعت إلى التمسّك بالنموذج الغربي للتخلّص من التخلّف.

قد نشأ من هذا الاحتكاك جدل مستمرّ دام أكثر من قرنين حول الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة، كما شهد هذا الجدل صعوداً وهبوطاً للأصالة تارة وللحداثة تارة اخرى، ناهيك عن المحاولات التوفيقيّة بينهما؛ حيث أصبحت المكتبة العربيّة مليئة بالمشاريع الفكريّة والمعرفيّة المختلفة حول هذا الموضوع، وما زال العمل مستمراً إلى يومنا الحاضر.

من هذا المنطلق، ووفاء للمنهج المتّبع في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة لرسم استراتيجيّات دينيّة ومعرفيّة للحال والمستقبل، باتت الضرورة قائمة لتناول هذا الجدل من جديد وفتح ملف العرض لأهمّ المشاريع ونقدها؛ بغية تقييمها وكشف الخطأ والصواب فيها، وذلك من خلال سلسلة (رؤى نقديّة معاصرة).

في هذا الكتاب، يتناول الباحث مشروع المؤرّخ التونسي المعاصر

(9)

هشام جعيط؛ حيث عدّ نفسه ضمن التيّار الإصلاحيّ، وقدّم مشروعاً إصلاحيّاً بزعمه يبتني على (العلمانيّة المفتوحة) التي تشمل علمنة الدين والفرد والمجتمع والدولة، بالاعتماد على قيم الحداثة. وهذا هو المنهج المتّبع في جميع كتبه وبحوثه المنشورة حتى أنّه قرأ القرآن والسيرة النبويّة من خلاله.

في هذه الدراسة، يقوم الباحث باستخلاص مشروع هشام جعيط من طيّات كتبه وبحوثه مع إعطاء نظرة تحليليّة نقديّة.

ونحن، إذ نقدّم هذا العمل إلى قرّائنا الكرام، نأمل أن ينال رضاهم وأن يتحفونا بآرائهم ويشاركونا لإثراء هذه السلسلة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.

 

(10)

مباحث تمهيدية 

مساق البحث:

إنّ لحظة تعرّف العالم الإسلامي على الغرب في بعده الثقافي والسياسي و التقني، أحدث صدمة لدى النخب والمثقّفين، مما أدّى إلى ظهور تيارات عدّة في كيفية التعامل مع هذا الوافد الجديد. وقد تمّ تحديد نقطة اللقاء هذه في العالم الإسلامي العربي، أبّان الغزو الفرنسي لمصر عام ١٧٩٨م على يد نابليون بونابرت، و إن كان التعرّف على الغرب في العالم الإسلامي غير العربي يسبق هذه الفترة سيّما في الهند وإيران والدولة العثمانيّة.

وقد تعدّدت أقوال الباحثين في تحديد التيّارات المتولّدة جرّاء التعرّف على الغرب، فقد قسّم تشارلز كورزمان هذه التيارات، إلى: التيّار التقليدي، تيّار إحياء الدين، والتيّار الليبرالي الإسلامي[1].

أمّا محمد عابد الجابري، فإنه يقسّم تيارات النهضة الحديثة إلى: التيّار السلفي، التيّار الليبرالي، والتيّار التوصيفي أو التلفيقي[2].

كما أنّها تتحوّل عند حسن حنفي، إلى: تيّار الإصلاح الديني، الفكر العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي[3].

(11)

ومهما يكن من أمر فإنّ التيّار الحداثوي المتأثّر بالغرب، يُعدّ من أهم تلك التيّارات المستحدثة في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، علماً أنّ لهذا التيّار تجلّيات مختلفة ومتنوعة  بتنوّع معتنقيه.

فالحداثة الأدبيّة، ظهرت على يد أمثال طه حسين والعقّاد، والحداثة الفلسفية، على يد أمثال: زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ويوسف كرم، والحداثة في بعدها اليساري والماركسي، ظهرت عند أمثال: حسين مروة وطيب تيزيني وعلي شريعتي وحنفي، والتاريخيّة والاجتماعيّة، عند أمثال: عبد الله العروي وهشام جعيط، أمّا السياسيّة فغنية عن البيان، والقائمة تطول بذكر الساسة بدءاً من محمد علي باشا ومروراً برضا شاه وأتاتورك، وانتهاءً إلى بعض الحكّام الفعليّين في الدول الإسلاميّة.

ولا يخفى أنّ للتيار الحداثوي في العالم الإسلامي وجوداً مشكّكاً يتراوح بين الشدّة والضعف، وليس جميعهم على وتيرة واحدة، ففيهم المؤمن الملتزم بطقوسه الدينيّة والعباديّة، وفيهم الملحد المنفلت من الدين نهائيّاً، غير أنّ هؤلاء جميعاً يشتركون في لزوم التحديث الشامل للوصول إلى التقدّم والرقي، ويختلفون في كيفيّة التعامل مع التراث، سيّما الديني منه.

طبعاً، لا يخفى ما لخطاب الحداثوي من أفول في الآونة الأخيرة؛ إذ لم يتمكّن من تقديم حلول ناجحة لمشاكل المجتمع: السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة وحتى الاقتصاديّة. هذا، رغم امتلاكه أدوات الإعلام ومنصّات كثيرة. وهذا الأفول بات مشهوداً لدى الحداثيّين أنفسهم أيضاً، فمن

(12)

متسائل عن سبب فشل الحرّيّة والديمقراطيّة في العالم العربي

[1]، إلى مَنْ يرى انحسار نفوذ أفكار الحداثة في الحياة الثقافيّة وتجدّد دعوات الأصالة واتساع نفوذ الناطقين بها[2]، وثالث يتألّم من تأسلم الخطاب القومي السياسي[3].

ويشير بعض الباحثين إلى حدوث نكستين ثقافيّتين في خطاب الحداثة في القرن العشرين، وضعتاه في حال التراجع والضمور والدفاع السلبي، الأولى مرتبطة بانهيار الامبراطورية العثمانيّة وسقوط الخلافة، وما رافقها من ردّة رجعيّة وميلاد لحراكات الإحيائيّة الإسلاميّة، والثانية انهيار المشروع السياسي القومي والمشروع الثقافي التحرّري الملازم له؛ حيث أدّى إلى حركة الصحوة الإسلاميّة المعاصرة، وتجدّد الخطاب الأصولي[4]. ونسي أن يذكر الانتكاسة الثالثة، وهي الصحوة الدينيّة العالميّة ورجوع الخطاب العلماني وظهور المابعديات، سيّما ما بعد العلمانية، وما بعد الحداثة.

ورغم محاولة البعض لبثّ الروح في خطاب الحداثة من جديد[5]. غير أنّ هذا صعب المنال في ظرف المتغيّرات العالميّة الكثيرة، سيّما الأزمات التي شهدها الغرب وعجز عن إعطاء حلول ناجعة، وقد ظهر عجزه عياناً في الجائحة الأخيرة وعدم قدرته على الحدّ منها.

(13)

ونحن في هذه الدراسة، نحاول أن نستقرأ خطاب الحداثة، من خلال أحد رموزها والدعاة إليها، وهو الباحث والمؤرّخ التونسي المعاصر هشام جعيط، حيث قمنا بقراءة مشروعه الإصلاحي قراءة تحليليّة نقديّة، بغية الوقوف عليها وتظهير نقاط ضعفها.

السؤال الرئيس:

ولا يخفى أنّ  كلّ دراسة حول شخصيّة معيّنة، تعتمد على استكشاف نقاط غامضة فيه، أو التعّرف على مشروعه وأسسه الفكريّة والمعرفيّة والاجتماعيّة، وهذا ما يستبطن عدّة أسئلة أصليّة وفرعيّة تكون الإجابة عنها محور تلك الدراسة.

فالسؤال الرئيس الذي يطرح هنا، هو السؤال عن: ماهيّة المشروع الإصلاحي الذي يطرحه هشام جعيط للنهوض بواقع الأمة. يتفرّع من هذا السؤال أسئلة فرعيّة عن مدى نجاحه في هذا المشروع؟ وما هي المباني الفكرية والمناهج التي اعتمدها والأهداف التي رسمها؟ وكيف تعامل مع التيّارات الأخرى؟ ومن أين استقى معلوماته؟ وما هي مصادره؟

ستكوّن هذه الأسئلة المحور الرئيس لهذه الدراسة، وتُشكّل الإجابة عنها المحتوى الذي تتكوّن منه الدراسة.

أهمّيّة الموضوع:

إنّ هذه الدراسة تكتسب أهمّيّتها من دائرة أوسع، أي من أهمّيّة لزوم التعرّف على مختلف التيّارات الفكريّة في الوطن الإسلامي والعربي،

(14)

للوقوف على كافّة المشاريع وتقييمها سلباً أو إيجاباً؛ للاستفادة منها في رسم خارطة طريق المستقبل، سيّما ونحن على مشارف نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.

لا يخفى، أنّ جدل التراث ـ الحداثة، الإسلام ـ الغرب، ما زال مستمرّاً على أشدّه، وقد أسال حبراً كثيراً، والتيّارات المختلفة قد تكوّنت في ظلّ هذه الجدليّة، ونحن -اليوم- إذ نشهد شبه فوضى في الوطن العربي، وإرهاصات كثيرة لانهيار المنظومة الغربيّة، كان لزاماً علينا الخوض في جهات عدّة:

الخوض في الأزمات الداخليّة ومحاولة إعطاء علاجات لها، الخوض في الأسس والمباني التي ينبغي الاعتماد عليها لتثبيت الهويّة، الخوض في التعرّف على الآخر؛ للوقوف على نقاط القوّة والضعف، وما ينبغي أخذه ممّا هو إرث بشري عامّ يتّبع المنظومة الإنسانيّة والكونيّة العالميّة، وما لابدّ من تركه ممّا هو إرث خاص يتّبع خصوصيّات كلّ منطقة. وأخيراً، الخوض في المشاريع المطروحة خلال قرنين من كتّاب ومفكّرين في العالم الإسلامي والعربي لمعالجة هذه الجدليّة؛ بهدف الاستفادة من التجارب السابقة، والحذر من الهفوات التي وقعوا فيها، ومحاولة تدارك الأخطاء استعداداً للنهوض الحضاري الجديد للعالم الإسلامي.

علماً، بأنّ النهوض الحضاري لا يحصل من فراغ، بل لابدّ من وجود خارطة طريق وخطة عمل، كما أنّ الخرائط لا ترسم من فراغ أيضاً، بل تأتي من خلال تراكم التجارب والفحص والبحث عن النجاحات والإخفاقات؛

(15)

ليتمكّن الإنسان من تقديم خطة عمل متكاملة للحال، وخارطة طريق للمستقبل.

وما يزيد الموضوع أهمّيّة، أنّ الآخر بدأ منذ فترة مبكرة في دراسة المجتمعات الإسلاميّة؛ لتطويعها ثقافيّاً وسلب هويّتها. هذا، وإن كان يخطط له سابقاً في الخفاء وتحت الكواليس وفي أروقة الاستخبارات العالميّة، فقد بات اليوم واضحاً وعياناً، وظهرت دراسات وبحوث كثيرة من قبل مراكز الفكر العالميّة حول هذا الموضوع.

وقد تكون دراسة «بناء شبكات الاعتدال الإسلامي» الصادرة من مؤسّسة «رند» من أهمّ تلك الدراسات وأخطرها[1].

حيث يحاول الباحثون في الدراسة إعادة تجربة أوروبا مع روسيا في الحرب الباردة، من خلال زرع مؤسسات المجتمع المدني واستحداثها، ودعم التيّارات المتغربنة للإطاحة بروسيا، وتطبيق هذه الخطة من جديد في العالم الإسلامي.

ومن هذا المنطلق، وتطبيقاً لهذه الخطة وبناء الشبكات، تكرّس الدراسة جهدها على المسلمين المعتدلين «الذين يؤمنون بالأبعاد الأساسيّة للثقافة الديمقراطيّة، وتشمل دعم الممارسة الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان المعترف بها دوليّاً، بما في ذلك المساواة بين الجنسين وحرّيّة العبادة، واحترام التنوّع، وقبول المصادر غير الطائفيّة للتشريع، ورفض الإرهاب أو أيِّ شكل آخر للعنف غير المشروع»[2].

(16)

لذا، نراهم يركّزون على ثلاث طوائف في العالم الإسلامي لتمرير المخطط، وهم: العلمانيّون، المسلمون المعتدلون، المعتدلون التقليديّون بما فيهم المتصوّفة[1].

كما ينصّ التقرير على أهمّيّة تحديد القطاعات الاجتماعيّة التي تشكّل لبنات الشبكات الاعتداليّة في العالم الإسلامي، وهذه القطاعات هي:

ـ الأكاديميّون والمفكّرون المسلمون العلمانيّون والليبراليّون.

ـ علماء الدين الشبّان المتديّنون المعتدلون.

ـ نشطاء المجتمع المحلي.

ـ المجموعات النسائيّة المنخرطة في حملات المساواة بين الجنسين.

ـ الصحافيّون والكتّاب المعتدلون.

ثمّ يقول التقرير بنصٍّ صريح لا لبس فيه: «وينبغي أن تكفل الولايات المتّحدة المنابر، وتسلّط الضوء على هؤلاء الأفراد، وعلى سبيل المثال: ينبغي أن يضمن مسؤولو الولايات المتّحدة إشراك أعضاء من تلك المجموعات في زيارات دراسيّة، وتعريفهم -بشكل أفضل- على السياسات، والمساعدة على استمرار دعم الولايات المتّحدة ومواردها لجهود الدبلوماسيّة العلنيّة»[2].

وبعد هذا السرد الموجز لمخططات الآخر، بانت الضرورة محتّمة

(17)

للاهتمام بالتيّار الحداثوي في العالم الإسلامي؛ إذ أصبح منفذاً سهلاً للتغريب واستلاب الهويّة.

ولهذا المنطلق، تطرّق الباحث إلى مشروع هشام جعيط الذي يمتاز بالبعد التاريخي والاجتماعي والانتروبولوجي، ويحاول أن يقارب الفلسفة أيضاً، وهذا ما يعطي طابعاً مميّزاً لمشروعه، ناهيك عن أنّه يحاول أن يبني مشروعه -وخلافاً لباقي الحداثويين- على نقطة محوريّة تتبلور في استمراريّة الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، أي إنّ مشروعه يقوم على دعامتين: العروبة والإسلام، وهو مشروع فريد في نوعه يستحقّ الاهتمام والدراسة مع قطع النظر عن النتيجة التي يتوصّل إليها هشام جعيط، وسنقف على ذلك لاحقاً.

الدراسات السابقة:

رغم كثرة الدراسات والبحوث والكتب والمجلّات المنشورة في العالم الإسلامي، حول مسألة الأصالة والحداثة، ورغم كثرة الكتّاب والباحثين في هذا المجال، لم يقف الباحث على مشروع متكامل يتعاطى الخطاب الحداثوي بالتحليل والنقد الموضوعي، فضلاً عن تناول كلّ مفكّر من مفكّري هذا التيّار على حدة.

وبخصوص مؤرّخنا التونسي هشام جعيط، لم يعثر الباحث على كتاب أو بحث يتناول مشروعه الفكري بالنقد والتحليل. نعم، توجد بعض الدراسات القليلة التي تناولت جانباً واحداً من مشروعه دون التوغّل في

(18)

جميعه. ولذا، انبرى الباحث لتخصيص دراسته هذه لتناول مشروع جعيط من جميع أطرافه.

المنهجيّة:

يُعدّ المنهج من أهمّ الوسائل التي يعتمدها الباحث للوصول إلى النتائج، فهو خارطة طريق البحث؛ حيث يحدّد المسارات العامّة المتّبعة في كلّ بحث، وعلى ضوئه يمكن مناقشة البحوث والدراسات.

وقد تعدّدت المناهج المستخدمة في الدراسات الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، كالمنهج التحليلي، والتاريخي، والتأويلي والفينومينولوجي، والفيولوجي، والبنيوي وغيرها من المناهج الكثيرة الأخرى، ومعظمها مستوردة من الغرب قد استخدمت في العالم الإسلامي لنقد التراث ونقد الدين.

وقد أشكل بعض الباحثين على هذه التبعيّة العمياء من قبل حداثويي العالم الإسلامي، بأنّهم  في تقليدهم هذا ظنّوا أنّها مطلقة وصائبة لا يطرأ إليها الشك؛ لأنّها حديثة، كما أنّهم أخطؤوا -أيضاً- في ضبط أصول هذه المناهج، فلم يتقنوها، بل نقلوها هكذا إلى غير أصولها[1].

وبسبب هذه الأمور؛ نرى فوضى منهجيّة في كتابات أكثر العلمانيّين والحداثويّين، توقعهم في تناقضات وهفوات كثيرة، وتفادياً لهذه الحالة؛ آثرنا أن نعتمد «المنهجيّة التأسيسيّة» في بحثنا هذا، لدراسة مشروع المؤرّخ التونسي هشام جعيط.

(19)

و«المنهجيّة التأسيسيّة» هذه هي التي تعتمد في دراسة الآراء والمعتقدات على الغور في الخلفيّات والمباني المعرفيّة، من قبيل: المباني الانطولوجيّة، والابستمولوجيّة، والأنثروبولوجية وغيرها من العلوم التي تكوّن قوام النظريّة، وكذلك دور الخلفيّات غير المعرفيّة، من قبيل: الأسرة والبيئة والثقافة والسياسة وغيرها.

فالمنهجيّة التأسيسيّة تعتمد على قانون: «أنّ كلّ نظريّة في طريق تكوّنها التاريخي وتشكّلها تستمدّ من المباني والخلفيّات المعرفية، وكذلك الخلفيّات غير المعرفيّة»[1].

كما أنّ «تحقق الخلفيّات المعرفيّة التي تشتمل على: المبادئ، المنهجيّة التأسيسيّة، التيّارات والمكاتب، شرط لازم لتكوّن المفاهيم، والبنية المعرفيّة للنظريّات والآراء»[2].

وعليه، سنقوم في الفصل القادم بدراسة هذه الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة؛ لدراسة مشروع هشام جعيط الإصلاحي، ولنرى مقوّمات عمله ومدى تأثيرها على مسار فكره وعمله.

وننوّه أنّنا لم نستعن «بالمنهجيّة التأسيسيّة» بجميع أسسها ومبانيها الفلسفيّة المعتمدة على فلسفة صدر المتألهين؛ إذ ذلك بحاجة إلى معرفة القارئ والباحث بتلك الفلسفة تفصيلاً، وهذا -ربّما- يتعذّر على أكثر القرّاء العرب في العالم الإسلامي. لذا، آثرنا أن نستعين ببعض مقوّمات

(20)

هذه المنهجيّة التي تعيننا في التعرّف على آراء هشام جعيط والبحث عن أسبابها وعوامل تكوّنها، فهو التمسّك الأقلوي بهذه المنهجيّة، أمام التمسّك الأكثري.

من هو هشام جعيط؟:

ولد هشام جعيط في ٦ ديسمبر عام ١٩٣٥م في تونس العاصمة من أسرة دينيّة عريقة، حيث كان أبوه شيخاً في الزيتونة، كما كان أعمامه مشايخ أيضاً.

دخل هشام في سنّ الخامسة من عمره مدرسة الصادقيّة، التي كانت تمزج بين تدريس اللغة العربيّة والفرنسيّة، وفي سنّ ١٨ أصبح مضطلعاً باللغة العربيّة، وعندما بلغ العشرين من عمره أصبح مولعاً بكلّ ما هو فكري وعلمي، فبدأ بقراءة كتب طه حسين والعقّاد وأحمد أمين، كما اهتمّ بكتب الفلاسفة الفرنسيّين وتشبّع بالأدب الفرنسي وثقافته.

ثمّ هاجر إلى فرنسا؛ لتدهور الوضع السياسي في تونس، وأكمل دراسته في جامعة سوربون في التاريخ الإسلامي، وتوسّعت هناك آفاقه المعرفيّة، وبعد رجوعه من فرنسا بدأ بالتدريس في تونس، وقد كوّن لنفسه -جرّاء المطالعات الكثيرة- ثقافة عامّة بالعلوم الإنسانيّة، كالتحليل النفسي، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، وتاريخ الأديان، والدراسات الإسلاميّة، وقد أثّرت جميع هذه العلوم والمعارف في مساره العلمي والبحثي.

وقد عاش هشام جعيط -جرّاء ذلك- تناقضاً داخليّاً، حيث ينتمي إلى

(21)

الإسلام كهويّة ودين من جهة، وينتمي إلى الثقافة الغربيّة من جهة ثانية، فتراه يتردّد بين هاتين الهويّتين، فتارة ينحاز إلى الأولى، وأخرى إلى الثانية، وكلّما تقدّم في العمر ابتعد عن الأولى، وهذا ما يصرح به هو، وسيأتي لاحقاً في الفصل القادم.

لذا، يمكننا تصنيف هشام جعيط ضمن مرحلتين: مرحلة الشباب، حيث كان أقرب إلى الهويّة الدينيّة؛ حيث كان يدعو إلى الالتزام التامّ بالطقوس الدينيّة، ويرى لزوم الحفاظ عليها، كما كان يدعو إلى نوع من الخلافة الإسلاميّة الروحانيّة[1]. وإلى مرحلة النضج حيث يتبلور ذلك، سيّما في كتابه الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، مع محاولة دمج الإسلام والعروبة، وإن لم يكن موفّقاً في دمجه هذا؛ إذ الانحياز إلى الهويّة العلمانيّة والحداثويّة صارخة فيه، كما سيأتي.

وقد خلّف لنا هشام جعيط مجموعة كتب و مئات البحوث والدراسات، من أهم كتبه:

ـ ثلاثيّته في السيرة النبويّة.

ـ أزمة  الثقافة الإسلاميّة.

ـ أوروبا والإسلام صدام الثقافة والحداثة.

ـ الفتنة جدليّة الدين والسياسة في الإسلام المبكر.

(22)

ـ نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة الكوفة.

ـ الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي.

ـ تأسيس الغرب الإسلامي.

مميّزات هذا البحث:

يمتاز هذا البحث بإلقاء نظرة شموليّة لمشروع هشام جعيط، ومسح كامل لجميع كتبه ومؤلّفاته وأهمّ بحوثه المطبوعة في المجلّات، مع القيام بتلخيص أهمّ آرائه و نظريّاته، ثمّ تحليلها ونقدها من حيث المباني والمحتوى.

فالنظرة الشموليّة زائداً التحليل والنقد، تعدّان من أبرز سمات هذا البحث، مع التنويه إلى أنّ النقد جاء على نحوين، النحو الأول: هو نقد المحتوى والمنهج في طيّات الدراسة وبشكل مزجي، حيث قام الباحث أوّلاً بشرح كلّ موضوع من المواضيع المهمّة التي تطرّق إليها هشام جعيط، ثمّ القيام بالنقد مباشرة وعدم الاكتفاء بالنقد في نهاية كل فصل.

السبب في ذلك: أنّ آراء هشام جعيط ونظريّاته ربّما تطول في بعض المباحث. وعليه، فترك النقد المباشر والاكتفاء بنهاية كلّ فصل ربّما يفوّت الفرصة على القارئ للاطلاع على ما في هذا الموضوع أو المبحث من هفوات، كما ربّما يترك القارئ نهاية الفصل ويكتفي بقراءة الآراء فيقع في شبهات معرفيّة عقديّة.

لذا، وتفادياً لهذه المشكلة، قام الباحث بالنقد المباشر بعد كلّ

(23)

موضوع، نقداً محتوائيّاً ومنهجيّاً، تاركاً النقد المبنائي إلى نهاية الكتاب وفي الخاتمة، إذ المباني التي يعتمد عليها هشام جعيط في مشروعه لم تكن كثيرة، وإعادة نقدها في كلّ فصل يوجب التكرار المخلّ، لذا خصّصنا الخاتمة للنقود المبنائيّة على مشروع هشام جعيط. 

هيكليّة البحث:

تمّ تدوين هذا البحث في مقدّمة وخمسة فصول وخاتمة. تطرق الباحث في المقدّمة  إلى المباحث التمهيديّة والكلّيّات المشتملة على مسوّغات العمل وضرورته وأهمّيّته والمنهج المتّبع.

والفصل الأول، تمّ تخصيصه لشرح المنهجيّة التأسيسيّة المتّبعة في دراسة مشروع هشام جعيط من حيث دراسة الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة التي صاغت المشروع.

أمّا الفصل الثاني، فيتطرّق إلى موقف جعيط من القرآن ضمن ثلاثة مباحث، المبحث الأول: يتعلّق بموقفه العامّ حول أصل القرآن وإثبات وحيانيّته، المبحث الثاني: يتعلّق بتحليل ما ذهب إليه من التأثيرات المسيحيّة على القرآن ونقدها، والمبحث الثالث: خُصّص لبعض المفاهيم المتعلّقة بعلوم القرآن، من قبيل: قدم القرآن، وإعجاز القرآن ومسألة التحريف وغيرها.

الفصل الثالث، يبحث عن السيرة النبويّة كما قدّمها جعيط، وذلك ضمن أربعة مباحث، المبحث الأول: يتعلّق بالموقف العامّ من السيرة والمصادر

(24)

المعتمدة، المبحث الثاني: خُصّص للعصر الجاهلي، والمبحث الثالث والرابع: لدراسة السيرة في الفترتين المكّيّة والمدينيّة.

أما الفصل الرابع، فيتعلّق بدراسة مشروع جعيط التجديدي ضمن مبحثين، المبحث الأول: دراسة الإطار النظري لمشروعه، والمبحث الثاني: يتناول الجانب العملي والتطبيقي.

 أما الفصل الخامس والأخير، فيتعلّق بموقف جعيط من الغرب، وذلك ضمن مبحثين، المبحث الأول: حول علاقة الإسلام والغرب، والمبحث الثاني: الموقف من الاستشراق.

أما الخاتمة، فهي حصيلة البحث مع تقديم توصيات من قبل الباحث، والتطرّق إلى النقود المبنائيّة العامّة.

 وفي الختام، لا يسعني إلّا أن أتقدّم بالشكر والتقدير لكلّ من ساعدني في إنجاز هذا العمل.

(25)
(26)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

المنهجيّة التأسيسيّة

 

(27)
(28)

الفصل الأوّل: المنهجيّة التأسيسيّة

إنّ الإنسان يعتمد في سلوكه المعرفي والفكري على المنظومة المعرفيّة المتكوّنة بالتدريج وعبر الزمن ومن روافد متعدّدة. هذه الروافد، منها: ما هو معرفي، ومنها ما هو غير معرفي، غير أنّه يؤثّر في صياغة المنظومة المعرفيّة بشكل غير مباشر.

الخلفيّات المعرفيّة، هي التي تكوّن الفكر والمعرفة لدى الإنسان مباشرة، وتعتمد على الدراسة والتعليم، والمباني العلمية وأسسها. أمّا الخلفيّات غير المعرفيّة، فهي التي تتعلّق بالمناخ الأسري الخاصّ أوّلاً، وبالمناخ الاجتماعي العامّ من الوضع السياسي والثقافي والاقتصادي وغيرها من العوامل.

هذه الطريقة يطلق عليها «المنهجيّة التأسيسيّة» التي تتابع طريقة تكوّن الآراء والمعتقدات، وترى أنّ «كلّ نظريّة في طريق تكوّنها التاريخي وتشكلّها تستمد من المباني والخلفيّات المعرفية، وكذلك الخلفيّات غير المعرفيّة»[1].

غير أنّ المباني المعرفيّة ترتبط ارتباطاً منطقيّاً بالنظريّة، أمّا الخلفيّات غير المعرفيّة، فهي غير مرتبطة منطقيّاً بالنظريّة العلميّة، لكنّها تؤثّر فيها بشكلٍ غير مباشرٍ.

(29)

وفقاً لهذه المنهجية، سنتطرق في هذا الفصل إلى مبحثين: المبحث الأول: يتعلّق بدراسة الخلفيّات غير المعرفيّة، بينما المبحث الثاني: سيخصّص لدراسة المباني المعرفيّة وخلفيّاتها التي اعتمد عليها هشام جعيط في كتبه وآرائه.

وهشام جعيط نفسه قد اعتمد هذه المنهجيّة -أيضاً- عندما أراد أن يدرس السيرة النبويّة، فرجع إلى العصر الجاهلي ودرس نفسيّة المجتمع وما كان عليه، كما تطرّق إلى العوامل السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة عندما أراد أن يدرس الحالة التونسيّة أو المجتمع العربي بشكل عام.

(30)

المبحث الأوّل: الخلفيّات غير المعرفيّة

إنّ تكوّن شاكلة الإنسان وصياغة شخصيّته أوّل ما يكون في الأُسرة ثمّ البيئة الحاضنة للشخص بما فيها من منظومات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة، ثمّ النظام التعليمي الذي يتلقّاه الإنسان. في هذا المبحث نتطرّق إلى الرافد الأوّل والثاني، تاركين الرافد الثالث إلى المبحث الثاني المخصّص للروافد المعرفيّة.

١ ـ الأُسرة:

ولد هشام جعيط في ٦ ديسمبر عام ١٩٣٥م في تونس العاصمة من أُسرة دينيّة عريقة.

كان أبوه شيخاً في الزيتونة، وله «اهتمامات بوقائع العصر الحديث عن طريق المجلّات والكتب المصريّة، ولم يكن اهتمامه منصبّاً على التراث الديني من قرآن وحديث وفقه فقط، ولعلّه لم يكن مضطلعاً كفاية في هذا الميدان، فبقي شيخاً صغيراً من الدرجة الثانية، ولم يترقَّ كثيراً في السلم الزيتوني على الرغم من فطنته وذكائه»[1].

وكان جدّه من كبار الكتّاب على النمط القديم، و«كان متصوّفاً ينتمي إلى الطريقة التيجانيّة، ومكتسباً لمعرفة جدّيّة في ميادين الشعر والأدب، ومولعاً بقراءة الحديث بصوتٍ عالٍ»[2]. وكان أحد أجداده تاجراً مرموقاً بحيث أثّرتْ تجارته العائلة: «فبفضل تلك التجارة أمكن أحد أجدادي أن

(31)

يثرى فامتلك بثروته تلك الأراضي والدور، منها تلك الدار بالذات التي هدهدت طفولتي، وهي اليوم إطار ملموس لذاكرتي»[1].

كما أنّ أعمامه كانوا -أيضاً- مشايخ «سواء منهم الشاب أم المتقدّم في السنّ، مثل: العزيز جعيط الرجل الورع»[2]، فعائلة أبيه وعائلة أمه كانتا تعتبران «من كبرى العائلات في تونس من ذوات المجد التليد»[3].

في هكذا أسرة، ولد جعيط وتلقّى تربيته الأولى، وقد تركت بصماتها طول حياته؛ بحيث بقي محافظاً على بعده الإسلامي، وإن كان غير مألوف من قبل الإسلام الرسمي، كما سترى.

٢ ـ المجتمع:

إنّ للمجتمع، بما يحتوي على منظومات ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة مختلفة، الدور البارز في تكوين شخصيّة الإنسان وانطباعاته عن نفسه وعن المجتمع، وطريقة مدّ الجسور بين الذات والآخر، إنّ ديالكتيك الأنا والمجتمع تصوغ شخصيّة الإنسان العامّة، وتؤثّر على سلوكه العلمي والمعرفي، وفيما يلي نشير إلى أهمّ الركائز الاجتماعيّة المؤثّرة في مسار هشام جعيط؛ حيث تركت بصماتها الواضحة على مسار تفكيره وتكوين نظريّاته.

(32)

١ ـ ٢ ـ السياسة:

إنّ هشام جعيط أدرك زمن الاستعمار؛ إذ ولد فيه وعايشه عن كثب[1]، كما شهد فترة ما بعد الاستعمار، وما أعقبه من أنظمة دكتاتوريّة سلطويّة.

يرى جعيط أنّ الاستعمار خلّف ثقافة استعماريّة: الحداثة، القوميّة، الماركسيّة، الخصوصيّة اللغويّة أو الثقافيّة للمتروبول، ممّا يعجز الإنسان عن محو هذه الثقافة[2]. كما أنّه استولى على السلطة وفكّك البنى الاقتصاديّة والصناعيّة التقليديّة[3].

ولم يكتفِ بذلك، بل عمد إلى التدخّل حتى في التسميات الجغرافيّة، فقام «بخفض مفهوم المغرب الإسلامي ذي الأصل العربي؛ وذلك عبر تحويله إلى تعبير جغرافي مبتذل: شمال أفريقيا. ونشر مؤرّخوه مفهوم «بلاد البربر»؛ لاستبعاد العرب والإسلام من كلّ حضور، وحرمانهم من كلّ شرعيّة»[4].

ورغم هذا، ينقل جعيط عن شريحة من المجتمع رضاهم بالاستمرار والتعاون مع الاستعمار، ويقول: «الحقيقة هي أنّ الاستعمار اعتبر عموماً لا كمساس بالدين بل بعزّة الإسلام... رضيت نخب المدن... بصيغة الحماية وتعاونت مع المستعمر»[5].

(33)

أمّا بخصوص الوضع السياسي الداخلي، فقد قضى جعيط معظم عمره في زمن حكم الحبيب بورقيبة (١٩٠٣ ـ ٢٠٠٠) وقد خلَّفت هذه الفترة أزمة كبيرة في نفسيّته، وما فتئ يذكر ما أصاب الأساتذة والمفكّرين من سجن وتعذيب واضطهاد بين الحين والآخر[1] بحيث أدّى هذا الجوّ إلى مضايقات مباشرة لهشام جعيط من قبل بورقيبة نفسه[2]. ممّا سبّب الانعزال وعدم الارتياح للوضع الموجود، يقول: «إنّني لم أكن في تونس مرتاحاً إلى أيّ محيط معّين»[3] ممّا أدّى في النهاية إلى الهجرة إلى فرنسا[4].

وبورقيبة هذا، كان من التيّار العلماني المعادي للدين[5]، وفعل الكثير من أجل التقليل من قيمة الإسلام[6]، كما أنّه كان متغرّباً بامتياز؛ حيث كان مبهوراً بأوروبا وسيّما فرنسا[7]، وتغذّى ببعض الأفكار الاستشراقية[8]؛ بحيث أصبحت خياراته مؤيّدة للغرب[9]؛ ممّا دعا هشام جعيط لنقده ووصفه بأنّه مجحف في التغريب، ليقول: « لقد كنت غير مرتاح لما اتّسم به عهد بورقيبة من إجحاف في التغريب»[10].

(34)

الوضع السياسي العامّ هذا، وعلاقة المعرفة بالسلطة ـ على حدّ تعبير فوكو ـ أدّت إلى تدهور الوضع الفكري والمعرفي، حيث إنّ «الاتجاه السلطوي للدولة قد ضيّق الخناق على كلّ روح للنظر الحرّ»[1]. وأصبح المثقّف وبعض طبقة المفكّرين «بصور متفاوتة في أجهزة الدولة... أمّا عامّة الذين لم يتحمّلوا المسؤوليّات، فهم يعيشون على الأمل الخادع في الوصول إليها يوماً. وإذا هم لم يندمجوا بحماس في النشاط الفكري؛ فذلك لأنّهم لم ييأسوا كلّ اليأس من بلوغ السلطة».

والنتيجة: «إنّ إعمال الفكر هنا وهناك بخصوص الماضي والمستقبل هو من نصيب رجل السياسة، أي الشخص المتحزّب العاجز فضلاً عن ذلك عن تنظير خطابه»[2]، فالاستعمار والتحرّر من الاستعمار، والوضع السياسي المتردّي، وتبعيّة المثقّف للسلطة، كوّنت آراء جعيط السياسية ونظرياته في الحكم وصاغتها، والقول بفشل التيّار القومي البعثي والناصري، كما أدّت إلى انعزاله من الحراك السياسي وصياغة نظريّة الوحدة العربيّة وإدخال عنصر الإسلام فيه ودمجه مع العروبة.

٢ ـ ٢ ـ المناخ الفكري والمعرفي:

يشكو هشام جعيط من الوضع الفكري والمعرفي الحاكم في المغرب والمشرق الإسلامي العربي على حدّ سواء، ويصفه «بالعسف الفكري السائد في ربوعنا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب العربيّين»[3].

(35)

ففي تونس مثلاً، يوجد تبحّر علمي غير أنّه جافّ ومتلجلج، وفي المشرق يوجد فكر مجدب غير أنّه متمذهب ومتدنّي وغير متمكّن من وجهة المعرفة[1].

وبخصوص تونس أيضاً، يقول: «وفهمت فيما بعد أنّ الدراسة تعني بالنسبة إلى التونسيّين مكسباً تجاريّاً، ولا توجد البتّة محبّة للمعرفة في حدّ ذاتها، هذا ما جعلني أكثر فأكثر أحكم حكماً قاسياً وسلبيّاً على بلدي وعلى الوسط الذي خرجت منه، كلّهم برجوازيّون بالمعنى الفاسد للكلمة، أو برجوازيون صغار طامعون في الصعود الاجتماعي، وكلّهم مادّيّون وخاضعون، هذه صارت قناعتي الآن، وهذا ينطبق على الكلّ وعلى القسم الأكبر من الإنسانيّة»[2].

لذا، أصبحت «الحيرة وعدم الرضا إحدى الميّزات القائمة للضمير الفكري المغاربي»، ولهذه الحيرة والتقهقر أسباب تاريخيّة واجتماعيّة، من أهمّها: تفّوق السياسة على الفكر والمعرفة والثقافة، والعامل الثاني الذي يشير إليه جعيط هو انحسار النشاط الفكري بالجامعات، ولا يوجد طموح إلى التفكير في العالم الجامعي[3].

لذا، أصبح المثقف العربي إمّا علماني مناهض للإسلام، وإمّا ماركسي أو قومي متصلّب[4].

(36)

كما أنّه يرى «أنّ عهد الدولة الوطنيّة والقوميّة أطفأ كلّ جذوة من الفكر الحرّ، فلقد اعتبروا أنّهم نجحوا بالسياسة، وبالتالي، فإنّ السياسة هي كلّ شيء، ودخل في هذه اللعبة الفارغة المثقّفون والجمهور»[1].

ولكن، رغم هذا، فهو يستشرف أنّ تجديد الفكر العربي مستقبلاً سيكون من حصّة المغرب العربي دون المشرق؛ وسبب ذلك: أنّ للمغرب علاقة مباشرة مع تقاليد الثقافة الإسلاميّة العربيّة من جهة، والارتباط المباشر -أيضاً- بتقاليد الغرب، أمّا المشرق فلم يلقح فكره بالثقافة الغربيّة مباشرة، «فآل ذلك إلى استيعاب مضطرب أو مغلوط لمكاسب الحداثة العلميّة»[2].

هذا الوضع المعرفي المضطرب الذي رسمه مؤرخّنا التونسي عن البلاد الإسلاميّة العربيّة، خلق في لا وعيه مسؤوليّة القيام بهذه المهمّة ليشمّر عن ساعديه ويأتينا بمشروعه الفكري هذا، كما سنرى في صفحات هذا الكتاب. ومع هذا، فإنّه يتوجّس ولا يدري ماذا سيكون من أصداء لعمله في العالم العربي، هل سيوصف بأنّه: سلفي، متغرّب، أيديولوجي أو روحاني. ورغم هذا، فلا يفوته أن يسبق الزمن ليوصف مناوؤه بالدغمائيّة، ليقول: «فهناك دغمائيّة ضمنيّة تحرّك الآفاق المتعارضة للعقل العربي، بما في ذلك الضمير العلمي، وهو أُفق ضئيل».

لذا، «فإنّ هذه العبوديّة الفكريّة الممزوجة بعدم التسامح، تشكّل عبئاً مضنياً على من كان عزمه صادقاً»[3].

(37)

٣ ـ ٢ ـ الثقافة:

يولي هشام جعيط أهمّيّة بالغة للثقافة، حتى أنّه خصّص أحد كتبه لدراسة الثقافة. ورغم اعتنائه بالثقافة، لم يعطها حقّها من حيث التعريف وحتى التنظير الممنهج المستقيم، بل إنّ نظرته تشاؤميّة حيالها، كما هو الحال في مقولات أُخرى.

ففي مقام التعريف، يقول تارة: بأن المعنى العميق للثقافة، هو: «إيقاظ العقل والرفع من مستوى الوعي»[1]. وأُخرى يقول: «الثقافة تعني قبل كلّ حساب مجموعة قيم معاشة»[2].

كما يرى أنّ مفهوم الثقافة أوسع من الحركة الثقافيّة[3].

وفي مكان آخر، يطرح مشكلة مفهوم الثقافة، ليعطيها عدّة معان من وجهات نظر مختلفة، الوجهة الانتروبولوجيّة التي تتسع إلى ما لا نهاية، الوجهة الضيّقة المؤسّسيّة التي تتوقَّف عند النشاطات الفنّيّة والمتحفيّة، الوجهة الشعبيّة، وأخيراً الثقافة العليا المنطوية على عناصر الخلق والإبداع والفكر مع اعتمادها على العقلانيّة والإنسانويّة الحديثة[4].

والثقافة العليا هذه، إنّما هي فكريّة روحيّة علميّة وفنّيّة[5]. وهذه الثقافة هي أساس كلّ شيء، ورغم «تكاثر الكلام عن التصنيع والنموّ الاقتصادي،

(38)

وكذلك عن الديمقراطيّة، وقبل ذلك عن نيل السيادة، وكلّ هذا محبّذ، لكن لا اقتصاد ولا ديمقراطيّة بدون ثقافة»[1].

ثمّ إنّ جعيط تارة يبحث عن الثقافة في العالم الإسلامي القديم، وتارة أُخرى في العالم الإسلامي المعاصر، وثالثة يبحث عن الثقافة في الغرب المعاصر.

أمّا الثقافة في العالم الإسلامي القديم، فيرى جعيط أنّها كانت عظيمة، وكدّست أعمالاً ضخمة، فوحّدت بين «العظيم والضخم بحركة باطنيّة كانت تحرّكها، كما سعة المنجزات الملموسة التي أفرزتها»[2]. كما لا يفوته أن يغمرها بكونها تركيبيّة وخليطاً مضطرباً من الهيلينيّة والإيرانيّة والعروبيّة[3].

هذه الثقافة العتيدة قد انهارت إثر الضربات المغوليّة والتيموريّة والاحتلال العثماني، و«انعدمت الثقافة العربيّة الإسلاميّة لمدّة أربعة قرون»[4]. و«يمكن بالتالي أن نعتبر أنّ الثقافة الإسلاميّة العليا قد ماتت حوالي العام ١٥٠٠م في رافديها الديني والدنيوي: لغة، نحو، فلسفة، تاريخ، علم مادي...»[5].

غير أنّه يتراجع -كعادته- عن موقفه المتشدّد هذا ليقول: «انحطاط

(39)

الثقافة الإسلاميّة بدءاً من القرن السادس عشر أو السابع عشر.. لا تطال كلّ الإنتاج الثقافي، ولا تطال كلّ الرقاع الحضاريّة الإسلاميّة»[1].

أمّا الثقافة الإسلاميّة العربيّة المعاصرة، فإنّها: «تتصف بضحالة مؤلمة كمّاً وكيفاً، فهي فاقدة للنفس والتقنيّة... وليس الضمير الثقافي العربي مجدباً وحسب، بل إنّه مفكّك وخاضع خضوعاً عميقاً للحضور المباشر أو غير المباشر للغرب»[2].

ممّا ينبئ هذا الموقف من حدوث «أزمة في الثقافة العربيّة منذ خمسين عاماً»[3]. أو بالمعنى الأدق «منذ تفكّكت الرقاع الحضاريّة الكبرى بمفعول صدام الحداثة أو الاختراق الغربي، أي منذ قرن تقريباً»[4].

ومن الأسباب التي يذكرها جعيط لضعف الثقافة الإسلاميّة العربيّة المعاصرة، هي: ضعف الماضي الحديث من عدّة قرون، الأنظمة الدكتاتوريّة، عدم مأسسة الثقافة والمعرفة بصفة جدّيّة، قلّة الإطلال على العالم الخارجي، انعدام طبقة الميسورين الشغوفين بالأثر الثقافي، جهل الحكّام أنفسهم، العوامل الإيديولوجيّة، مستوى الإعلام، تركيبة الاقتصاد، نظام التعليم، وألف سبب آخر[5].

أمّا بخصوص الغرب، فيرى هشام جعيط، أنّ: «الثقافة العليا في

(40)

تقهقر في الغرب ذاته، وهذا معروف، لكن الإنتاج ما زال قائماً على قدم وساق»[1].

ويقول أيضاً: «لقد فقدت الثقافة -حقاً- في كلّ مكان من العالم طابعها السحري ولم تعد ترمي إلى العظمة... فقد قرّ العزم على تنزيلها منزلة وظيفة اجتماعيّة وإنتاجيّة عادية»[2].

ومن الطريف، أنّ هشام جعيط يرى من جهة أنّ تفكّك الحضارة الإسلاميّة إنّما كان بسبب اختراق الغرب -كما مرّـ، ثمّ يرى من جهة مناقضة أُخرى أنّ الحلّ هو الاستعانة بالغرب، ويصف سبب الأزمة الثقافيّة العربيّة والإسلاميّة «من حيث إنّ هذه الثقافة امتنعت عن التحوّل القيمي الكبير الذي حفّ بالحداثة، وهذا من منتصف القرن الثامن عشر»[3].

وعليه، «إذا صحّ أنّ الثقافة الحديثة غربيّة الأصل والشكل، فإنّها قابلة لكي تحتضنها البشريّة كافّة»[4].

كما يدعو إلى التمسّك بقيم الحداثة؛ إذ «قيم الحداثة رفيعة، وإنّ علينا أن نأخذ بها، أي أن نقوم بتحوّل ثقافي كبير، ولا نقيم أيّ اعتبار لأصلها الجغرافي، بل فقط لوجه الخير فيها، وفي واقعنا المعاش أوجه كثيرة للخير، فيضاف الخير إلى الخير»[5].

(41)

وبعبارة أُخرى: «لا يمكن أبداً للعرب والمسلمين أن يلجوا باب الحداثة والمشاركة في العالم المعاصر، إلّا إذا كوّنوا لأنفسهم طموحاً عالياً في مجالات الفكر والمعرفة والعلم والفنّ والأدب، وقرّروا بصفة جدّيّة الأخذ من الغير، وما أبدعته الحداثة في كلّ هذه الميادين»[1].

ولكن جعيط -كعادته- في إصدار الأحكام المتناقضة، يتراجع عن هذه الشموليّة في التسمية بعد صفحات، ليقول: «لا أن نستنسخ الثقافة الغربيّة في جميع أبعادها؛ لأنّ منها ما هو منغرس في المناخ الأوروبي المحلّي»[2].

ومن الغريب، أنّه بعد أسطر ومن دون أن يبيّن الثقافة الأوروبيّة المحلّيّة التي لابدّ من تركها وعدم أخذها، يصدر حكماً شموليّاً آخر، ويقول: «لا بدّ من تصعيد الهمّة، ورفع درجة المطامح في مجال المشاركة في الإنتاج الثقافي الحديث، وبالتالي بثّها في مجتمعاتنا لنحت الإنسان العاقل أو الأعقل إلى حدّ ما»[3].

ومن وجهة نظر ثانية، يرى جعيط أنّ الثقافة في الغرب تنقسم إلى قسمين:

١ ـ ثقافة حديثة ـ كلاسيكيّة.

٢ ـ ثقافة حديثة ـ حديثة، وأنّ العالم العربي الإسلامي مطّلع غالباً على الأولى؛ لسببين، الأوّل: إنّ الثقافة الكلاسيكيّة هي المهيمنة، والثاني: إنّ

(42)

الاتصال بيننا وبين الغرب يقع على أرضيّة الترسّبات الأولى؛ لأنّ الاتصال يقع دائماً بتأخّر زمني[1].

وعوداً إلى مواقف جعيط المتضاربة، فإنّه رغم نظرته المتشائمة للثقافة في العالم الإسلامي العربي، يرى في مقال نشره عام ١٩٨٦م أنّ منذ عشر سنوات وبعد انهيار فكرة القوميّة، يوجد صعود قوي للثقافة في المجتمع العربي، ويوعز هذا الصعود إلى عاملين:

١ ـ تعمّق الاتجاه التأمّلي: حيث انكبّ المثقّف المنتج على التفكير في جملة من المواضيع التي فرضت ذاتها عليه، مثل: الأصالة ـ الحداثة، العروبة ـ الإسلام، السلطة ـ الديمقراطيّة، وغيرها.

٢ ـ صعود النزعة الإسلامويّة [2].

وأخيراً: إنّ هشام جعيط، رغم مواقفه المتضاربة ونظرته التشاؤمية، يدعو إلى ثقافة عربيّة جديدة، ومقوّمات هذه الثقافة «لابدّ أن تكون وطنيّة، أي قوميّة معتمدة على نفسها، شاعرة بنفسها... ولها مطمح عالمي لا بالمعنى الكلاسيكي... إنّما مطمحها العالمي هنا بمعنى أنّها عندما تتجه إلى الإنسان العربي، إنّما تتجه إليه بصفته عربيّاً وبصفته إنساناً أيضاً».[3]

ومن هنا، يطرح مشروع «الثقافة العليا» المنطوية على عناصر الخلق والإبداع، لتكون ثقافة روحيّة علميّة وفنّيّة، فالوضع الثقافي المزدهر سابقاً،

(43)

والفوضى الثقافيّة المعاصرة، أدّتا إلى تولّد هذه الفكرة وهذا المشروع عند جعيط، حيث كرّس جهده للتنظير حوله وإعطاء طرق وبرامج لتحقيقه وتفعيله على أرض الواقع.

٤ ـ ٢ الوضع الاجتماعي العامّ:

كتب هشام جعيط الكثير عن الوضع الاجتماعي في تونس بالخصوص، والمغرب العربي الكبير عموماً، وقد ركّز على الحالة الاجتماعيّة في تونس، ودرسها بمنهجيّة سوسيولوجيّة تاريخيّة منذ الفتح الإسلامي وإلى وقتنا الحاضر.

فدرس مؤسّساتها الاقتصاديّة، والفئات والطبقات الاجتماعيّة، والاختلافات بين حياة المدينة وحياة الريف، كما أشار إلى نظام التربية والتعليم[1].

ثمّ درس الحقبة الزمنية بين نهاية الحرب العالميّة الثانية إلى نهاية الحماية (١٩٤٥ ـ ١٩٥٤)، وركّز على:

١ ـ الحياة الجنسيّة بين الرجل والمرأة والمثليّة الجنسيّة.

٢ ـ سريان الروح العدائيّة.

٣ ـ وجود عناصر سحريّة دينيّة وعناصر عقلانيّة.

٤ ـ دراسة بنية الأنا الأعلى وتركيبة الهويّة[2].

(44)

وحلّل المجتمع التونسي حوالي عام ١٩٦٥م بعد رحيل المستعمر، وقيام سلطة وطنيّة جدّيّة، واستيلاء البرجوازيّة الصغرى على البلاد.

وقد أصبحت الدولة تراقب الاقتصاد والتربية والإعلام، فكانت أفعى متعدّدة الرؤوس حيث فرضت نماذجها وتصوّراتها على الأفكار، وتمتّعت بهيبة كبيرة ازدوجت بالخوف والطمع، ووضعت نصب عينها المحاولة لتشييد أمّة عصريّة، والتنمية الاقتصاديّة، والعدالة الاجتماعيّة، وتحديث العادات والذهنيّات. غير أنّه ورغم هذا، لم يكن تغيير البنى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة جذريّاً مطلقاً [1].

هذا الوضع العام، أنتج مجتمعاً متضارباً في الفترة الراهنة، وأدّى إلى ظهور شخصيّات اجتماعيّة متناقضة.

فهناك «الأنا» المحافظ القديم المتخرّج من الجامعة الزيتونة، وهو أنا إسلامي في أعلى مستوى، كانت تونس وطنه الحسّي، في حين أنّ وطنه الروحي هو دار الإسلام قاطبة، وأعزّ أمنياته أن يموت في المدينة وأن يدفن بالبقيع.

أمّا الشاب الزيتوني الذي تكوّن تكويناً متأثّراً بالمشرق، فهو وإن ضعف إيمانه بالإسلام ضعفاً واضحاً، فإنّ إيمانه العربي لا ينفكّ يقوى، فالمشرق هو كعبة آماله. وهناك تيّار تغريبيّ آخر اتّجه نحو الغرب، فحصل ثلاثة تيّارات: التيّار الإسلامي، التيّار العروبي، التيّار التغريبي[2].

(45)

ومن المتناقضات التي يذكرها جعيط أنّ الدولة الوطنيّة المنبثقة من الكفاح ضدّ المستعمر، هي أوّل من يبثّ قيم التحديث[1] كما أنّ السلطة السياسيّة أصبحت معلمنة وفقدت شعورها الإسلامي، كما هو الحال في جانب كبير عند الطبقة المفكرة[2].

أمّا الجمهور العريض من الشعب، فهو متأثّر بالتصوّرات الجديدة التي تنشرها السلطة مع حفاظه على معتقداته والانسجام مع هويّته. ومن هنا، يرى جعيط لزوم قيام دراسات جدّيّة في علم الاجتماع الديني لتقييم درجة الإيمان والممارسة الدينيّة بين الجماهير[3].

والخلاصة الاجتماعية التي يصل إليها جعيط، تتبلور في قوله: «نحن نعيش في عالم المحسوبيّة والاعتباطيّة والمكر والخضوع الانتفاعي، لا في عالم طموح الإنسان إلى التمتّع بثمرات عمله وجهده، نحن نعيش في جوّ من الركود والضحالة، لا في جوّ من الخلق والاندفاع إلى الجمال والحقّ، ولعلّنا لم نعش أبداً خلال تاريخنا في الخداع كما هي الحال الآن»[4].

«وهكذا، صار المجتمع العربي إلى اليوم مجتمع مخابرات وتعذيب وتدمير للإنسان، وغياب الحرّيّة يعني أيضاً تدمير الثقافة»[5].

(46)

والحلّ هو عند جعيط: «بناء محرّك المجتمع العربي على العلم والثقافة، فيما هو يتخبّط في السياسة كقيمة عليا، فإذا لم تظهر نهضة ثقافيّة وعلميّة في أعلى مستوى، فلا أمل في التنمية التكنولوجيّة، وإذا ثبّتت السياسة والمال واللذّة المرتبطة بهما كافّة الطموحات، وبلورت كامل القدرة المقوّمة للمجتمع، فلن يكون شيء آخر أبداً غير الاضطراب المجدب، مثله مثل ذاك الزبد الذي يعلو الأمواج»[1].

هذه الخلفيات غير المعرفيّة الخارجيّة، أثّرت تأثيراً بالغاً في تكوين شخصيّة هشام جعيط، التأثير الذي يعترف هو به، ويقول: «ولعبت الظروف الخارجيّة دورها في مسار حياتي الفكريّة»[2].

«تنقّلت بين عوالم متباينة حيث تيسّر لي أن ألحظ وجهات نظر متعدّدة في القضايا المطروحة، لقد عايشت هذه القضايا فكانت قضاياي»[3].

فأنت ترى أنّ تربيته الأسريّة ونشأته الأولى في بيئة دينيّة كوّنت في ضميره الالتزام بالإسلام كهويّة ثابتة للإنسان العربي. ولذا، بنى معظم مشروعه الإصلاحي على استمراريّة هذه الهويّة. ومن هذا المنطلق، قام بنقد بعض التيّارات العلمانيّة والحداثويّة التي أنكرت الدين وحاولت أن تنفيه من الساحة. هذه المواقف مرفوضة من قبل هشام جعيط، بل يبني مشروعه على استمراريّة الشخصيّة العربيّة والإسلاميّة، وقد أصبح هذا الموضوع عنوان أهمّ كتبه.

(47)

أمّا المناخ السياسي وما شهده العالم الإسلامي من استعمار استيطاني مباشر تبعه الاستعمار الثقافي، حتى بعد فترة الاستقلال؛ مما أدّى إلى هيمنة غربيّة شاملة، فقد أدّى هذا الموقف لدى النخبة الفكريّة في العالم الإسلامي ومنهم مؤرخنا التونسي هذا، إلى تكوين شخصيّة مزدوجة، تنفي الاستعمار الاستيطاني المباشر من جهة، وتلتزم بالاستعمار الثقافي وتتأثّر به من جهة ثانية.

 أمّا المناخ السياسي الداخلي، فقد أدّى إلى استبداد الحكّام وتبعيّة النخب للساسة واقتفاء أثرهم للحصول على مناصب، فقد أدّى كلّ هذا إلى صياغة منظومة فكريّة لدى هشام جعيط ترى أنّ الإصلاح لابدّ أن يمرّ عبر مشروع سياسي عربي إسلامي وحدوي،  أي الوحدة العربيّة التي تفسح المجال للإسلام ليمارس دوره، وتفسح المجال للشخصيّة العربيّة أن تأخذ دورها في بناء المجتمع كوحدة متكاملة متجانسة؛ وإن كان تحقيق هذا الأمر صعب المنال.

أمّا المناخ الفكري والمعرفي العامّ، فإنّه يصفه بالضعف والفتور، سواء في الشرق أو المغرب الإسلامي، ويرى أنّ المثقّف العربي إمّا أن يصبح علمانيّاً مناهضاً للإسلام أو ماركسيّاً وقوميّاً متعصّباً. من هذا المنطق، تكوّن مشروع هشام جعيط الوسطي المعتمد على علمانيّة غير مناهضة للإسلام، وهذه المهمّة ملقاة على عاتق الغرب الإسلامي دون المشرق؛ لاحتكاكه المباشر بالغرب من جهة، واعتماده على الإسلام والعروبة من جهة ثانية.

أمّا المناخ الثقافي، فيتبلور منه مشروع جعيط الفكري والمعرفي؛ إذ إنّه

(48)

بعد ما يشرح الثقافة والحالة الثقافيّة في الشرق والغرب، يشير إلى أهمّيّتها، ويعتقد أن لا اقتصاد ولا ديمقراطية دون ثقافة. ورغم تناقض مواقف جعيط في كتبه المختلفة حول التنظير الثقافي والمبنى الذي يريد أن يطرحه للعالم الإسلامي العربي، غير أنّه يتوصّل في النهاية إلى لزوم التمسّك بالثقافة العليا، التي هي فكريّة روحيّة علميّة وفنّيّة.

والنظريّة الثقافيّة التي يتوصّل إليها جعيط من خلال سبر أغوار الحالة الثقافيّة العالميّة، هو الدعوة إلى ثقافة عليا، وهذه الثقافة العليا لابدّ أن تكون وطنيّة، أي قوميّة، معتمدة على نفسها ولها مطمح عالمي تفسّر الإنسان العربي ضمن المنظومة الإنسانيّة العالميّة، والإنسانيّة العالميّة عند جعيط هي المتمسكة بقيم وأخلاق الحداثة الغربيّة، فهشام جعيط لبس(الفرو مقلوباً)؛ إذ دعا إلى ثقافة عربيّة وطنيّة، غير أنّها متأثّرة بالغرب وملتزمة بقيم الحداثة، كما سنرى في الفصول اللاحقة.

أخيراً، فإنّ هشام جعيط يصل إلى نظرة سوداويّة في تحليل المجتمع والثقافة والسياسة، وهذا الاضطراب ولّد مجتمعاً مضطرباً، وهذا المجتمع المتضارب والمضطرب أدّى إلى ظهور شخصيّات اجتماعيّة متناقضة، وهذا الحكم الجعيطي، كما يجري على النخب الفكريّة في العالم الإسلامي، يجري على هشام جعيط نفسه أيضاً، وهذا هو الذي يفسّر كثرة التناقضات والاضطرابات الموجودة في آرائه ومبانيه الفكريّة.

(49)

المبحث الثاني: الخلفيّات المعرفيّة

إنّ الخلفيّات المعرفيّة، هي التي تصوغ الآراء والنظريّات مباشرة، ولها ارتباط منطقي بتكوين النظريّات، وهذه الخلفيّات متعدّدة ومختلفة تشمل التحصيل الدراسي، والتأثّر بالتيّارات الفكريّة والأشخاص، ويدخل فيها المنهج أيضاً.

إذ «إنّ تحقّق الخلفيّات المعرفيّة، التي تشتمل على: المبادئ، المنهجيّة التأسيسيّة، التيّارات والمكاتب، شرط لازم لتكوّن المفاهيم والبنية المعرفيّة للنظريّات والآراء»[1].

وفيما يلي، نشير إلى أهمّ الخلفيّات المعرفيّة التي أثّرت في جعيط وصاغت منظومته المعرفيّة:

١ ـ التحصيل الدراسي:

تكوّنت ثقافة جعيط الفكريّة في مرحلتين: المرحلة التونسيّة، والمرحلة الفرنسيّة بعد الهجرة إليها.

ففي المرحلة الأولى، يحدّثنا جعيط بأنّه دخل المدرسة الصادقيّة في سنّ الخامسة من عمره، والصادقيّة مدرسة تونسيّة عريقة تمزج في التدريس اللغة العربيّة والفرنسيّة. لذا، آثر والده أن يسجّله ليتقن اللغة العربيّة أيضاً.

وفي سن ١٨ أصبح مضطلعاً باللغة العربيّة والأدب العربي، وعندما بلغ العشرين وما بعدها، أصبح له ولع بكل ما هو فكري وعلمي، فقرأ كتب

(50)

طه حسين والعقّاد وأحمد أمين، كما طالع في هذه الفترة كتب الفلاسفة الفرنسيّين من القرن الثامن عشر، وكتّاباً آخرين معاصرين؛ ممّا أدى استيعابه باللّغة الفرنسيّة والتشبّع بالأدب والثقافة الفرنسيّة.

وقد تأثّر بأُستاذه الفرنسي تأثّراً عميقاً، ورغم أنّه كان يساريّاً ناقداً للدين، غير أنّ جعيط لم يتماشَ معه في هذه النقطة، كما حصلت له معرفة بمدرسة التحليل النفسي الفرويدي، وعلم البيولوجيا ونظريّة التطوّر، ممّا أدّى ذلك إلى ذوبان بعض البديهيّات الأساسيّة عنده، وابتعد عن الأفكار التي كان يحملها سابقاً في وسطه العائلي؛ بحيث دخل في اضطرابات داخليّة، منها ما صّرح بها من أنّ المثاليّة الفلسفيّة التي تضع على محكّ السؤال مشكلة وجود العالم، أدخلته في اضطراب وأزمة طوال حياته.

كما أنّ زعمه لمخالفة بعض الحقائق العلميّة مع القرآن من جهة، وكون اعتقاده الديني بأنّ القرآن لا يخطئ من جهة ثانية، سبّب له أزمة قويّة أنهكته لبضعة أشهر؛ ممّا أدّى به -لاحقاً- أن يترك الميتافيزيقا ويهتمّ بالتاريخ: «ولقد لعب التاريخ على مدى حياتي دوراً كبيراً في تركيب قناعاتي ولم تكن بعد واضحة»[1].

وفي عام ٢٠٠٨م، عندما قدّم كتابه الشخصيّة العربيّة في طبعته الثالثة، أشار إلى توجّهه نحو التاريخ لأسباب لم يذكرها، ويظهر من النصّ السابق أنّ السبب الرئيس هو الفرار من الحيرة التي أصابته جرّاء دخوله في حقول معرفيّة ومباحث ميتافيزيقيّة لم تكن من تخصّصه، يقول: «لقد

(51)

حرمت نفسي من تعميق ثقافتي الفلسفيّة التي كنت أميل إليها زمن التعلّم بالجامعة، واخترت ميدان التاريخ لأسباب»[1].

إنّ فضول السؤال، والتنقّل من علم إلى آخر دون إتقان وتخصّص، والابتعاد عن الموروث، أدّى إلى قلق واضطراب وعزلة لهشام جعيط، يصفها بقوله: «إنّني لم أكن في تونس مرتاحاً إلى أيّ محيط معيّن. وضمن هذا التكدّر، كنت ألمس في نفسي تعطّشاً إلى آفاق فكريّة أرحب، وفي آنٍ ثورة على تحدّيات مستديمة للعقل والإنسان»[2].

لذا، آثر الهجرة إلى فرنسا، وأخذ الدكتوراه من جامعة سوربون في التاريخ الإسلامي، وهناك توسّعت آفاقه المعرفيّة والاهتمامات، وتعرّف على عدد من المفكّرين العرب وما ينشر من صحف ومجلّات تخصّ الشأن العربي[3].

وبعد رجوعه من فرنسا، بدأ بالتدريس في تونس، وهو مشبع بالثقافة الفرنسيّة وله معرفة عميقة بالفكر الغربي[4].

وقد كوّن لنفسه -جرّاء المطالعات الكثيرة- ثقافة عامّة بالعلوم الإنسانيّة، كالتحليل النفسي، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع والسياسة، والاقتصاد، وتأريخ الأديان، والدراسات الإسلاميّة[5].

(52)

٢ ـ التيّارات والأعلام:

لقد تنوّعت ثقافة هشام جعيط من خلال انكبابه على القراءة وتواصله مع الحدث الثقافي، لذا تنوّعت -أيضاً- التيّارات والأشخاص الذين تأثّر بهم؛ إذ إنّ الإنسان ذا الطابع الشمولي لا يقتصر على تخصّصه، بل يحاول أن ينهل من روافد معرفيّة متعدّدة، وفيما يلي نشير إلى أهمّ التيّارات والأشخاص الذين تأثّر بهم هشام جعيط في رحلته المعرفية.

١ ـ ٢ ـ الثورة الفرنسيّة:

تعدّ الثورة الفرنسيّة (١٧٨٩ ـ ١٧٩٩) من أهمّ العوامل في تغيير النظام السياسي والاجتماعي والثقافي العامّ في فرنسا، ومنها إلى سائر البلاد الأوروبيّة، وبفضل ما خلفته من أسس وقواعد جديدة، وما أوجدته من مفكّرين بارزين، أصبحت مطمح نظر كلّ من يعيش تحت وطأة الأنظمة الاستبداديّة[1].

وقد تركت هذه الثورة أثراً بارزاً في الوعي النخبوي في العالم الإسلامي والعربي، سيّما تركيزها على أمرين هامّين:

١ ـ حقوق الإنسان.

٢ ـ سيادة الشعب.

وهما «الفكرتان الرئيسيّتان في الثورة الفرنسيّة»[2].

(53)

واهتمّ بها -أيضاً- الشباب الجامعي الطامح إلى تغيير الوضع الموجود، ومن هؤلاء الشباب مؤرّخنا التونسي؛ حيث تعرّف على الثورة الفرنسيّة في وقت مبكر، وتأثّر بها وبمبادئها بحيث ابتعد عن ثقافته المحليّة التي نشأ فيها.

يقول جعيط بهذا الصدد: «وفي سن السابعة عشر، وبسبب ولعي بالثورة الفرنسيّة، ابتعدت عن النظرة المحافظة اجتماعيّاً»[1].

٢ ـ ٢ ـ مدرسة المثاليّة الفلسفيّة:

«المثاليّة مذهب فلسفي ينكر الوجود ويسلب الحقيقة عن كلّ ما لم يكن تصوّراً ذهنيّاً أو فكريّاً»[2].

بدأت هذه الفلسفة من أفلاطون واستمرّت، وقد تبنّاها كلٌّ من بركلي وفيشته وكانط وهيغل، وامتزجت بمشروع كلّ واحد منهم مع حفاظها على الجوهر الرئيس، وهو أصالة ما في الذهن.

وقد تعرّف هشام جعيط على الفلسفة المثاليّة أيّام شبابه، ممّا أثارت له دهشة معرفيّة واضطراباً عميقاً؛ سبّبت ذوبان البديهيّات عنده، إنّه يقول: «الذي أدخل الاضطراب عليّ... المثاليّة الفلسفيّة التي تضع على محكّ التساؤل مشكلة وجود العالم، وصار هذا التساؤل يلازمني طوال حياتي تقريباً»[3].

(54)

٣ ـ ٢ ـ مدرسة التحليل النفسي الفرويدي:

المؤسّس للتحليل النفسي هو سيغموند فرويد (١٨٥٦ ـ ١٩٣٩م) الطبيب النمساوي اليهودي، والتحليل النفسي هو «طريقة المعالجة الطبّيّة للأشخاص المصابين بأمراض عصبيّة»[1]. ويعتمد التحليل النفسي على ركيزتين:

١ ـ عالم اللاشعور.

٢ ـ دور الميول الجنسيّة في الأمراض النفسيّة[2].

كما أنّ آراءه حول تكوّن الشخصيّة أخذت مأخذ الجدّ؛ حيث اعتبر فرويد أنّ الشخصية «تتألّف من ثلاثة أجهزة رئيسة: الهو، والأنا، والأنا الأعلى، وحين تعمل معاً عملاً تعاونيّاً تمكّن الفرد من أن يمارس نشاطه الفعّال المجدي في بيئته، وغاية هذا النشاط هي إرضاء الحاجات، وإشباع الرغبات الأساسيّة للإنسان، وعلى العكس من هذا، إذا اضطربت موازين هذه الأجهزة الثلاثة للشخصيّة، قيل عن الشخص: إنّه شاذ»[3].

وقد أثّرت مدرسة فرويد في العالم العربي والإسلامي تأثيراً كبيراً، وتمسّك بها الساسة والنخب، وممّن تأثر بها هشام جعيط، حيث يقول: «وأيضاً انفتاحي الشخصي على معرفة التحليل النفسي الفرويدي، عنذئذ ابتدأت تذوب عندي بديهيّات أساسيّة»[4].

(55)

ونراه يدافع عن نظريّة فرويد في الأسس الثلاثة أمام منتقديها، من أمثال: كاردينار، حيث يقول: «لا يبدو في نظرنا قادراً على المسّ بصلاحيّة التثليث الموجودة في نظرية فرويد، والمتركّبة من هذا والأنا والأنا الأعلى»[1].

وكذلك يستشهد بكلام فرويد: «لابدّ للإنسان أن يحبّ وإلّا مرض». ليذهب إلى أبعد منه، وليقول: «ويمكن أن نعمّم هذا على علاقة الفرد بمجتمعه، وهذا الفرد لم يكن يعرف إلّا مجتمعه ولا ينظر إلى غيره»[2].

٤ ـ ٢ ـ مدرسة الاستشراق:

إنّ لهشام جعيط معرفة واسعة بآثار المستشرقين، وقد اعتمد على كثير من أعمالهم ونقل عنهم، ورغم هذا لم يكن مكتوف اليد أمامهم، بل دخل معهم في حوار وسجال فكري، فتارة يقبل منهم وتارة يردّ عليهم، وسنبحث عن هذا الأمر في المبحث المخصّص للاستشراق من هذا الكتاب.

٥ ـ ٢ ـ تيّار الإصلاح:

لقد تأثّر هشام جعيط بتيّار الإصلاح الديني والعلماني، الغربي والعربي والإسلامي، حتى أنّه -بتأثير من محمد إقبال- كان عازماً على أن يكتب في تجديد الفكر الديني، كما اهتمّ بالحركة الإصلاحيّة في القرن التاسع عشر، إذ يقول: «اهتممت بالفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر، حيث حصلت محاولات في سبيل التجديد الديني»[3].

(56)

كما أنّه اطّلع على مختلف المشاريع الفكريّة والسياسيّة في العالم العربي والإسلامي: حركة النهضة، القوميّة، الماركسيّة، العلمانيّة، وله من مساجلات معهم، فقد قرأ الطهطاوي وجمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا وخير الدين، في الخط الإسلامي، كما قرأ طه حسين وأركون والجابري وطيب تيزيني والعروي وغيرهم في الخط العلماني. وشقّ لنفسه طريقاً وسطاً في مضمار جدليّة الأصالة والمعاصرة، وسنأتي على ذكرها في الفصل المخصّص لها.

٦ ـ ٢ ـ جورج فليهلم هيغل:

يُعتبر جورج هيغل (١٧٧٠ ـ ١٨٣١م) من أهمّ فلاسفة الألمان، وقد اشتهر بفلسفته المثاليّة، كما يُعدّ من أواخر فلاسفة الغرب الكبار.

تأثّر به هشام جعيط كثيراً، واستشهد به في معظم آثاره، وعلى سبيل المثال، فقد استشهد به في أنّ المطلق لا وجود له إلّا بجماعة تتقمّص وتؤمن به[1] أو لزوم ربط الجزء الشمالي من أفريقيا بأوروبا[2] أو استعارة «الأمر الموضوعي» الذي ليس واجباً يبرّره العقل، بل مجرد عدم الثقة تجاه الحياة[3].

واستعارة «الاتصاف بالوضعيّة» لتسمية العنصر التاريخي في الدين، التي بزعمه تحدّد حرّيّة الإنسان واستقلاليّته[4]. وكذلك الاستشهاد بأنّ

(57)

الدين لكلّ البشر، دون الفلسفة التي لا تكون لكلّ البشر[1].

كما أنّ جعيط استفاد من كتاب هيغل الشاب «روح المسيحيّة ومصيرها» للتنظير في روح الإسلام ومصير مؤسّسه صلى‌الله‌عليه‌وآله، كما لا يفوته أن يناقشه في بعض الآراء[2]. والموضوع الآخر الذي اهتمّ به جعيط ما كتبه هيغل عن الإسلام، فإنّه رغم قلّته؛ حيث لا يتجاوز أربع صفحات، والآراء التي أوردها هيغل يراها جعيط ذات «رؤية عميقة أخَّاذة، صحيحة وشاعرية في الوقت نفسه، تتجاوز كلّ ما كتب في أوروبا نهاية ذلك الوقت عمقاً وحقيقة»[3].

٧ ـ ٢ ـ ماكس فيبر:

ماكس فيبر (١٨٦٤ ـ ١٩٢٠م) العالم الاجتماعي الألماني، ومن أهمّ مؤسّسي علم الاجتماع الحديث، وكان من أسرة بروتستانتيّة.

تأثّر به هشام جعيط واقتبس منه في آثاره، فقد استعار منه مصطلح «النبوّة الكاريزميّة» واستعملها كثيراً في دراسته عن السيرة النبويّة، ووصف

(58)

أنّ علاقة المسلمين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت كاريزميّة[1].

وكذلك استعارة لفظة «تسوية» للصلح الديني عندما اعترف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصلاحية العمرة إلى الكعبة حسب الشعائر التي يقيمها التراث الوثني[2].

استعارة مصطلح «علوم الثقافة» من فيبر، وإطلاقها على الإنسانيّات من تاريخ وعلم اجتماع وعلم النفس وانتروبولوجيا والابيستمولوجيا[3].

وأيضاً، صعوبة المسّ بالنصّ المقدس[4]، وكذلك ربط الاقتصاد والتطوّر الاقتصادي بالمذهب والدين، حيث يرى جعيط أنّ نظرية فيبر هذه تستدعي تصحيحات جدّيّة[5].

كما أنّه استشهد بأقواله الأُخرى حول النبوّة الانخطافيّة[6] والظواهر التي تظهر على مؤسّسي الأديان، هل إنّها هلسيّة عصبيّة أو لا[7]، وكذلك مسألة وصف الإسلام المديني بالإسلام المحارب[8] ولم يرتضها جعيط ودخل معه في سجال فكري ممتع.

(59)

٨ ـ ٢ ـ جان بول سارتر:

كان جان بول سارتر (١٩٠٥ ـ ١٩٨٠م) الفرنسي فيلسوفاً وروائيّاً وناقداً أدبيّاً، وقد تأثّر به هشام جعيط في فترة شبابه حتى كاد أن يصبح سارتريّاً في وسطه، إذ يقول: «وكان لسارتر وقتئذ تأثير كبير عليّ، وكان يمكن أن أحسب سارتريّاً »[1].

وقد استشهد بكتابه (الكائن والعدم) لتحليل العدم الفاعل وارتباطه بالذات[2].

٩ ـ ٢ ـ ميرلو بونتي:

ميرلو بونتي (١٩٠٨ ـ ١٩٦١) الفيلسوف الفرنسي، فقد تأثّر به هشام جعيط أيضاً، وقال عن علاقته به: «هو الذي أشعر نحوه بقرب كبير»[3]، وقد اقتبس منه المقابلة بين مفهومي (العصر) و(الفترة)[4].

وكذلك مسألة ثنائيّة النجاح والاستمرار والارتباط بينهما[5]. وكذلك مسألة الرجوع إلى الذات ومسألة الله -تعالى-[6]، وأيضاً رؤية بونتي حول الماركسيّة الغربيّة، وتحليل آراء لوكاش، والفاصلة الموجودة بين

(60)

مجتمعات ما قبل الرأسماليّة والمجتمع الرأسمالي[1].

١٠ ـ ٢ ـ أوسفالد شبنغلر:

ومن الذين تأثّر بهم هشام جعيط أوسفالد شبنغلر (١٨٨٠ ـ ١٩٣٦) المؤّرخ الألماني، حيث تطرّق إلى آرائه حول الثقافة الإسلاميّة وشرحها، ووصفه بأنّه يبتعد عن مركزيّة الذات الأوروبيّة، لذا تمكّن من دراسة الإسلام برؤيةٍ أفضل[2].

واستشهد به -أيضاً- في لزوم المقارنة بين الثقافات والحضارات المختلفة القديمة منها والحديثة[3]، وكذلك استعار منه مصطلح تاريخ «زاوية المدخن»؛ لاستعراض ملاحم الأجداد عوداً إلى جيلين أو ثلاثة[4]، وكذلك مسألة قوّة الطابع الديني في الشرق وطن الإنسان «السحري»[5].

١١ ـ ٢ ـ كاردنر ابرام كاردنر:

كاردنر ابرام كاردنر (١٨٩١ ـ ١٩٨١) محلّل نفسي واتنولوجي أمريكي، اقتبس منه هشام جعيط مفهوم «الشخصيّة الأساسيّة» وعلى ضوئها قام بتحليل الشخصيّة التونسيّة تحليلاً مفصلاً ليعمّمها -لاحقاً- على الشخصيّة العربيّة عموماً[6].

(61)

١٢ ـ ٢ ـ ليفي شتراوس:

كلود ليفي شتراوس (١٩٠٨ ـ ٢٠٠٩م) العالم الأنثروبولوجي الفرنسي والمؤسّس للبنيويّة، وقد استعان به هشام جعيط في منهجه الانثروبولوجي لرؤية المجتمع العربي قبل الإسلام، سيّما مسألة الطوطميّة[1]، وكذلك علقة الإسلام بالفنّ[2]، كما لا يفوته أن ينتقده في حكمه على الارتباط البنيوي بين الإسلام والعنف، وما يطرحه من آراء تتعلّق بفلسفة التاريخ[3]، وأخيراً الاستشهاد بالعلقة الموجودة بين المسلمين والألمان[4].

١٣ ـ ٢ ـ محمد إقبال:

إنّ محمد إقبال (١٨٧٧ ـ ١٩٣٨) الفيلسوف الهندي الباكستاني، هو الوحيد من بين الإسلاميّين الذين تأثّر بهم هشام جعيط، حيث كان لكتابه الشهير «تجديد الفكر الديني في الإسلام» تأثير بالغ عليه، يحدّثنا جعيط بهذا الخصوص، قائلاً: «والكتاب الثالث الذي أثّر عليّ هو كتاب محمد إقبال حول تجديد الفكر الديني في الإسلام»، ثمّ يصف انطباعه عنه: «كنت أرى حقيقة أنّه كان متقدّماً على أقرانه من الفلاسفة الفرنسيّين»[5].

(62)

كما وصفه -أيضاً- بصاحب الفكر العميق[1] وأنّ كتبه أكثر عمقاً من الإنتاج العربي والفرنسي[2]، ووصل هذا التأثّر العميق بجعيط حيث حاول أن يكتب كتاباً حول تجديد الفكر الديني: «كنت أهيّئ نفسي لكتابة شيء حول تجديد الفكر الديني متأثّراً بكتاب محمد إقبال حول نفس الموضوع»[3].

إنّ جعيط يؤيّد مشروع إقبال في المراجعة التقييميّة للتراث الديني، أمام تأويله المنتهي إلى تزويد الحقيقة التاريخيّة، كما يفعله أنصار التحديث الديني، على حدّ تعبير جعيط[4].

وكذلك يستشهد بكلامه في التجربة النبويّة، وطريقة إخضاع المادة للروح والمثالي للواقعي[5]، وكذلك التمسّك بنظريّته حول طرق توجيه البشر إلى الرقيّ والكمال، من خلال طريقين: ١ـ العمل من خلال التنظيم. ٢ـ العمل في الضمائر الفرديّة[6].

كما أنّه يوافق محمد إقبال في نقده لمشروع أتاتورك حول عدم علمانيّة الدولة، وانحسار الدين عن الفضاء العامّ، ويرى عدم وجود تعارض في مزج الدين والدولة، غير أنّه ـ خلافاً لإقبال ـ لا يقتصر في البعد الروحاني على الإسلام أو الدين، بل يرى أنّه شاملٌ لكلّ الروحانيّات المتعدّدة، كما يذهب

(63)

إلى نفي العسف الأيديولوجي الديني ونفي «اتجاه الشموليّة القروسطيّة للدين والدولة، الذي يبدو أنّ إقبال الفيلسوف الهندي ينزع إليه»[1].

١٤ ـ ٢ ـ ميشيل عفلق:

ميشيل عفلق (١٩١٠ ـ ١٩٨٩م) القومي السوري المؤسّس لحزب البعث، قد تأثّر به هشام جعيط أيضاً؛ إذ يقول: «لقد قرأت في باريس في صيف ١٩٦٨م كتاب في «سبيل البعث» لميشال عفلق، بهرت بالكتاب؛ إذ لم أكن متعوّداً على مثل هذا التفكير بالعربيّة، هو تفكير جريء قومي وحداثي في آن واحد»[2].

ويشرح سبب هذا الانبهار والتأثّر، بقوله: «وإن تأثّرت أيضاً بتأليف ميشيل عفلق الذي كان له العزم على تغيير الأمور مباشرة كما تأثّرت بحماسه الحادّ الذي تضمّنه كتابه في سبيل البعث»[3].

ويتجاوز إعجابه هذا حدّه المعمول ليصفه بأنّه «نبي سياسي يشعر مسبقاً بسبل التاريخ»[4].

ثمّ يقوم جعيط بتلخيص آراء عفلق حول القوميّة العربيّة ومبادئها، ويتوافق معه تارة ويخالفه أُخرى وإن كان الخلاف أكثر، إذ يقول: «الحقيقة أنّنا نختلف مع تفكير عفلق اختلافاً عميقاً، حيث إنّنا نعطي الأولويّة للتغيير

(64)

على التوحيد، وهو يقوم بالحركة المعاكسة، ويبقى لا محالة الانبعاث الذي يقترحه مبهماً وغير دقيق تماماً في حين أنّه كان يجب البدء بالتنظير قبل كلّ شيء...

وهناك انتقادات أُخرى، من ذلك: أنّ الأمّة العربيّة تقدّم كمعطى ينبغي التعجيل بتجسيمها في التاريخ والتعبير عنها في المستوى السياسي، لكن الأمّة العربيّة ليست أمراً واقعاً تماماً، كما أنّها لم توجد في الماضي وجوداً مكتملاً، فلا مجال لطرحها كواقع لا يقبل النقاش»[1].

١٥ ـ ٢ ـ عبد الله العروي:

لقد تأثّر هشام جعيط بعبد الله العروي المفكّر والمؤرّخ المغربي المعاصر، وكان حافزاً له للدخول في ميدان الكتابة: «اطّلعت على ما كتبه عبد الله العروي، وكان هذا حافزاً على التفكير والكتابة»[2]، كما أنّه قرأ كتاب (الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة) لعبد الله العروي الصادر عام ١٩٦٧م، و قد تأثّر به أسلوباً ومحتوى؛ إذ يقول: «وقد تأثّرت به ليس لناحية أطروحاته أو محتوياته الفكريّة حسب، وإنّما من خلال هذه الأسلوبيّة في طرح الموضوع، والتي تجمع بين القديم والحديث، وبين الفلسفة والتاريخ، هذا كلّه في الحقيقة ما كنت أصبو إليه، وما كنت أراه يشكّل اتجاهي الفكري»[3].

(65)

وهذا التأثير البالغ، أدّى إلى أن يصف عبد الله العروي بأوصاف قلّ أن يصف بها أحداً، إذ قال: إنّ تفكيره يتصف بالاتزان والرقّة والمتانة[1]وإنّه «مفكّر كبير حقّاً، صارم وذو أُفق متّسع جدّاً، لا يمكن مقارنته بغيره»[2] وإنّه يتّسم بعمق التفكير[3].

كما أنّه قام بتلخيص كتاب العروي (أزمة المثقّفين العرب) وجعله ملحقاً لكتابه (أوروبا والإسلام)، ووصفه بقوله: «يتجاوز هذا الكتاب بغنى مفاهيمه ودقّته، وبقوّة التجريد فيه، وباتّساع نظراته، وبذكائه الاستثنائي، كلّ كتب العروي السابقة، ويرتفع فوق الإنتاج الفلسفي العربي بمجمله»[4].

٣ ـ المباني المعرفيّة:

«إنّ كلّ ثقافة تحتوي على طبقات متعدّدة، وأعمق هذه الطبقات وأهمّها ما يخصّ تفسير الإنسان والكون، حيث إنّها تتكّون من مجموعة مفاهيم ترسم جغرافيا الكون وتفسّر الإنسان على ضوئها، وتبيّن السعادة، والطموح العليا في الحياة، وتشرح الحياة والممات، هذه الطبقة الثقافيّة هي أوسع دائرة وطبقة تشتمل على أهمّ المبادئ المنطقيّة للعلم، أي المبادئ الأنطولوجيّة والأنثروبولوجيّة والإبستمولوجيّة»[5].

فهذه الطبقة تعدّ من المباني والخلفيّات المعرفيّة المهمّة التي تحدّد

(66)

الإطار المعرفي لكلّ إنسان، وتصوغ شاكلته الفكريّة. وفيما يلي نشير إلى هذه المباني عند هشام جعيط لنرى كيف تناولها:

١ ـ ٣ ـ المباني الانطولوجيّة:

الانطولوجيا أو علم الوجود يبحث عن الكون والوجود من وجهة نظر ميتافيزيقيّة؛ إذ البحث عن الوجود -كمادّة- يتعلّق بالعلوم الطبيعيّة، أمّا المنظومة الكونيّة والروابط القائمة فيها والأسباب والمسبّبات وغيرها من الأمور المتعلّقة بالوجود نظريّاً فإنّها من مباحث الميتافيزيقيا.

ولهذه المباني الأنطولوجيّة مدخليّة كبيرة في تحديد مسار الباحث ورسم معالمه، وبخصوص مؤرّخنا التونسي فإنّ نظرته إلى الكون لا هي إيمانيّة صرفة ولا هي علمانيّة صرفة؛ إذ إنَّه رغم إيمانه واعتقاده بالله والآخرة واعتبار نفسه مسلماً عربيّاً، يرى نفسه من وجهة نظر أُخرى مؤرّخاً موضوعيّاً يعالج القضايا من وجهة نظر علميّة صرفة، إنّه يقول: «هنا أرغب في التفكير واضعاً نفسي في زاويتين: زاوية المؤرّخ المتكوّن في أوروبا، والمنفتح على مناخٍ أُخرى، وزاوية المثقّف العربي المسلم المشارك في سجالات عالمه الكبرى»[1].

إنّ كثرة قراءة هشام جعيط لمختلف التيّارات والمذاهب الفكريّة، أدخلته في دهشةٍ وحيرةٍ، وقد اعترف أنّ الفلسفة المثاليّة أدخلت عليه اضطراباً رافقه طول حياته، لذا ابتعد عن الميتافيزيقا التي حيّرت شجونه[2].

(67)

إنّه يعترف بالابتعاد عن الصيغة العاديّة للإيمان، ومن جهة أُخرى ونظراً لتكوينه الأسري يجد في قرارة نفسه علقة بالدين، ويبقى حائراً بين هذا وذا، فتراه تارة يميل إلى الإيمان وأُخرى إلى ما اتّجه إليه العلم المادّي.

يقول جعيط بهذا الصدد: «ميتافيزيقيّاً ما زلت مهووساً بمعجزة وجود العالم، ووجود الحياة، فأنا دائماً مندهش، متعجّب أن يوجد شيء ما عوض لا شيء، وأن يوجد الكائن الإنساني، مع تركي فكرة وجود الإله الخالق كما صاغتها الأديان التوحيديّة كما انّي لا أتقبّل فكرة «البنغ بانغ»»[1].

إنّه لا يتمكّن أن ينفي المطلق، ولا يمكنه أن يعترف به كما هو السائد المتعارف في الأديان التوحيديّة، إنَّه يقول: «المطلقيّة في معنى الوجود، في ماهيّة الحياة والحب والموت، عندي في قرارة نفسي، اتجاه ميتافيزيقي لا يمكن محوه»[2] ومن جرّاء هذه الجدليّة يلجأ جعيط إلى روحانيّة صوفيّة[3].

إنّ جعيط ينحت لنفسه مصطلح «جدليّة الله» لإقامة جدل بين الإله المتعالي الخارجي، وبين إله داخلي يعثر عليه الإنسان من خلال الغوص في ذاته «إنّ الله موجود في نفسي لا كفكرة أو كرغبة، بل كأعمق طبقة في كياني حين أقوم بهذا الغوص في نفسي»[4].

وكما يقول أيضاً: «لا يتجسّد الله في الدين بصفته مؤسّسة إنسانيّة أو

(68)

نتاجاً موسَّطاً للفكر، بل إنّه يلاصق الوعي الفردي، وله القدرة على أن يتكشّف فيه... لذا، فإنّ التجربة الصوفيّة تصل إلى الإلهي»[1].

فالتصوّف الأصيل يتّجه إلى الإله الداخلي، والشريعة والسنّة تتجهان نحو الإله الخارجي، وتكون «حقيقة الله في الذهاب والإياب المُجَدْلَنْ بين داخل الوعي وما وراء العالم»[2].

وخلاصة ما يصل إليه جعيط، قوله: «الرأي عندي أنّ الله ليس أثبت الكائنات يقينيّة، سواء أكان الله الدين أو الله الذي يمكن أن تقودني إليه الحركة المزدوجة للدهشة الساذجة والنزول في الأنا. ويبقى لغزاً مرتبطاً بلغز الكل»[3].

ويتّجه إلى العلم المادّي لتفسير الكون، ويقول: «إنّا صرنا الآن بفضل هذا العلم، وما دمنا كبشريّة موجودة، نفهم تركيبة العالم الحقيقيّة وليست الوهمية، كما أتت بذلك الميتولوجيات القديمة والأديان وحتى علوم الأقدمين: أرسطو»[4].

إنّ جعيط لا يصل إلى نتيجة مقنعة، وتبقى هذه الاضطرابات ترافقه طيلة حياته ـ كما مرّ آنفاً ـ؛ وسبب ذلك ابتعاده عن المنهجيّة الإيمانيّة، وتمسّكه لتفسير الظواهر الكونيّة بمنهجيّة مادّيّة، فلذا يدخل في هذه التناقضات؛ إذ لا يمكن للمحدود أن يفسّر أو يحيط باللامحدود.

(69)

فهشام جعيط لاينكر أنطولوجياً الميتافيزيقيا والخالق غير أنه يختلف تفسيره للكون عن تفسير الأديان، ويلاحظ على ما ذكره أمور:

إنّ النظرة الأنطولوجيّة التي يقدّمها جعيط متناقضة، ولم يتمكّن من حسم الأمر، إذ إنّه من جهة لا يمكنه إنكار الخالق رأساً والدخول في الإلحاد والمادّيّة الصرفة، ومن جهة ثانية لم يقتنع بما يقدّمه الدين حول الخالق. لذا، نراه يدخل في ازدواجيّة وتناقض مستمر، فتارة يميل لصالح هذا وتارة لصالح ذاك.

إنّ جعيط يعترف بأنّ «الله ليس أثبت الكائنات يقينيّة» وهذه الجملة نتيجة طبيعيّة للتناقض الذي وقع فيه جعيط، فالمباني الانطولوجيّة التي يعترف بها هي المباني الانطولوجيّة الحديثة والمادّيّة التي تفسر الكون تفسيراً مادّيّاً ولا يمكنها أن تقبل الأدلّة والبراهين العقليّة أو الوحيانيّة.

إنّ جعيط لتفسير العالم والمنظومة الكونيّة يلجأ إلى العلمويّة الصارخة، ويدع جميع التفاسير الأخرى الدينيّة والعقليّة والبرهانيّة ولم يكتفِ بذلك، بل يترقّى إلى أن يجعلها تفاسير وهميّة غير علميّة، وبهذا يخرج من ميتافيزيقيا الغيب ويدخل في ميتافيزيقيا الطبيعة، نصرة للمنهج المادّي العلموي الحاكم آنذاك، وخلافاً لباقي المدارس العقليّة والدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة.

وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الفصل المخصّص له.

٢ ـ ٣ ـ المباني الانثروبولوجيّة:

الأنثروبولوجيا هي علم الإنسان، وتنقسم إلى تقسيمات عدّة: ثقافيّة، سياسيّة، اجتماعيّة وغيرها، وما يهمّنا هنا موقف هشام جعيط من النزعة

(70)

الإنسانويّة؛ إذ بتبعها تصاغ النظريّات فيما يخصّ الإنسان، وعلى ضوئها تتغيّر المواقف.

يشرح هشام جعيط بشكل متقضب تطوّر النزعة الإنسانيّة في الغرب، حيث ظهر توجّه عامّ للتحرّر من وطأة الدين والسلطة والأعراف، وبزغ الفرد ككيان ذاتي ومستقل منذ القرن السادس عشر الميلادي، تبلورت هذه الفكرة بشكل أكثر من خلال النزعة الإنسانيّة (humanisme). وكان معناها آنئذ الانفتاح على التراث الروماني واليوناني، واعتبر المفكّرون أنّه يمثّل قيمة إنسانيّة عليا لما زخر به من فكر وعلم وحكمة وأدب، ولذا سمّوا بالإنسانيّين؛ لأخذهم هذا الموروث الإنساني غير الإلهي وانكبابهم عليه.

ولكن هذا التيّار لم يكن عند جعيط تيّاراً إنسانيّاً بمعنى وضع الإنسان كقيمة عليا في الوجود والثقافة والأخلاق، بل كان مقتصراً على الدرجة المعرفيّة[1]، وهذا ما حصل في القرن الثامن عشر[2] فأصبح الإنسان مصدر الوعي ومؤسّس العالم بوعيه[3]، فالإنسانويّة هذه أصبحت أيديولوجيا كلّ الحضارة الغربيّة[4].

كما يرى جعيط، أنّ الغرب حتى لو كان «مليء بالمساوئ، فهذا لا يمنع من أنّ القيم الإنسانيّة التي ابتدعها الفلاسفة والمفكّرون فيه اعتباراً

(71)

من القرن الثامن عشر لها وجاهة في حدّ ذاتها»[1]، فهو يجعلها مطلقة ومن المستقلّات العقليّة البديهيّة.

ومن الطريف عند جعيط أنّه رغم تمجيده للإنسانويّة هذه ولزوم اقتنائها واقتفاء أثرها، يذهب أيضاً إلى أنّها قد ماتت اليوم عند الغرب، ويقول: «هذه الإنسانويّة كفلسفة بالمعنى المنهجي الدقيق، صارت الآن منبوذة من الفكر الطلائعي في الغرب، لدى سارتر كما لدى ليفي شتروس، فإنّ الإنسانويّة الجديدة هي بمثابة التوسيع في دائرة الاهتمام بكلّ ما هو حيّ أو موجود، رجعيّاً من الإنسانويّة الأولى المركّزة على الإنسان، وليس بفعل اعتراف بالتعالي الإلهي»[2] وهكذا أصبحت «كلمة نزعة إنسانيّة في الفكر تعني بالكاد السخافة لا أكثر»[3].

بعد هذا الشرح الموجز الجعيطي للإنسانويّة في الغرب، يعرّج مؤرّخنا على العالم العربي الإسلامي ليصفه بأنّه متردّي جدّاً في مجال الارتقاء بالإنسان[4]، وما نجده في العالم الثالث من إنسانيّة إنّما هي «إنسانيّة عفوية موروثة عن الثقافة الأصليّة من دين وأعراف وتعايش إنساني»[5].

وبعد هذا، يعقد المؤلّف مبحثاً يشرح فيه النزعة الإنسانيّة في الثقافة الإسلاميّة، فهي وإن كانت تعطي السيادة لله تعالى، غير أنّ «القرآن يركّز

(72)

كثيراً على الإنسان من أوّل الخليقة، كما أنّ إنسانيّة النبي على عظيم شأنه لدى الله أمر أساسي في الإسلام»[1].

وعندما يبدأ بتحليل النزعة الإنسانيّة في الإسلام الذي هو بنية دينيّة وحضارة وثقافة، يتوقّف عند القرن الرابع عشر والخامس عشر، أي قبل فتور العالم الإسلامي.

فيبدأ بالإنسانيّة في القرآن، ويسأل عن كيفيّة التوافق بين نصّ نزل على مركزيّة الله، وبين تأسيس نزعة إنسانيّة ترتكز على الإنسان، ويقول: «ولئن كان صحيحاً أنّ كل شيء يرجع إلى الله في الخطاب القرآني، فإنّ الإنسان يحتلّ فيه أيضاً مكانة مركزيّة»[2]، ويستند إلى أنّ الله خاطب أوّل شيء الإنسان: (عَلَّمَ الإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [3] وأنّ غاية الخلق هي خير الإنسان: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [4].

«توجد في القرآن مركزيّة إنسانيّة، لكنّها خاضعة للمقاصد والمخطّطات الإلهية، وهذا بحدّ ذاته يمثّل شكلاً من أشكال النزعة الإنسانيّة، ففي القرآن درجة إنسانيّة أرفع، إنّها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود، في غائيّة الخالق، في التاريخ»[5].

(73)

كما أنّ نظرية العدل الإلهي القرآنيّة، تكون حول علاقة الله بالإنسان، وأنّ الحديث عن الجنّة والنار والحساب كلّه مجعول للإنسان.

ثمّ يعرّج على الفقه والحديث، ليرى أنّ فيهما حذراً شديداً في إقامة حدود الله، حقوق الله، وإحساساً حقيقيّاً بكرامة الإنسان وقيمته[1].

ثمّ يعرج على علم الكلام ويذكر مذهب القدريّة، الذين قالوا بالحرّيّة الشخصية مقابل مذهب الجبريّة الرسمي، كما ذهبت المعتزلة إلى الخيار الإنساني من خلال نظريّة العدل الإلهي.

ثمّ يشير إلى التصوّف، ويبحث عن نزعته الإنسانية في دنوّه من الشعب وإيصال حوائجهم إلى الحكّام، وكذلك في تقديم صورة عن الإسلام مهدّئة للإنسان[2].

أمّا الفلسفة، فمن حيث رهانها على قدرة العقل البشري في اكتناه الحقيقة بذاته دون استعانة بالوحي، وأنّها التقطت من الإرث اليوناني العقلاني والإنساني الكثير. أمّا العلم في العالم الإسلامي، فقد كان إسهاماً عملاقاً في تقدّم الفكر البشري، إسهامات كبيرة في الرياضيّات والجبر والاستقراء وغيرها من الأُمور. وأخيراً، يشير جعيط إلى الأدب ودوره في النزعة الإنسانيّة في الإسلام، حيث كان يصبّ في نمط إنساني مطبوع بالأرستقراطيّة، بالانتقائيّة وأناقة الفكر، فقد جسّد الأدب بلا شكّ طموحاً إنسانيّاً[3].

(74)

وبعد هذا الجهد الذي بذله جعيط في سبيل التوافق بين الإسلام والنزعة الإنسانية، حاول أن يشكّك فيما لا يروقه من أحكام يعتقد بزعمه أنّها غير إنسانيّة، لذا قام بنفي عقوبة الرجم؛ لأنّه لا يوجد في القرآن بل ويخالف مقاصد القرآن، وكذلك شكّك في مسألة الربا وسعته واعتقد أنّ ذلك يعطّل العمل التجاري[1].

لذا، حاول أن يفرّق بين الإسلام التاريخي والإسلام القيمي والروحي، لينسب إلى الأول كلّ ما كان يخالف النزعات الإنسانيّة، وأنّ المتّهم الأوّل في ذلك هم الفقهاء والحكّام، إنّه يقول: «لكن تراثنا من وجهة الإسلام التاريخي ـ وليس القيمي أو الروحي ـ يتعارض مع قيم الحداثة، فإن الاستبداد والمجد الحربي والجهادي، والشريعة كما بناها الفقهاء في أحكام كانت متماشية مع العهود القديمة، كلّ هذا يتعارض مع قيم الحداثة من حرّيّة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة»[2].

والنتيجة التي يخلص إليها جعيط في نظرته الإنسانويّة، قوله: «إذا كانت القيمة الأساسيّة هي الحياة الإنسانيّة واحترامها، فكلّ ما يتعارض معها يفقد كلّ مصداقيّة مهما كانت وجاهته، ويجب علينا حسم الموضوع: فهو شرّ لا أكثر ولا أقلّ وبكلّ بساطة»[3].

والخلاصة: إنّ نظرة جعيط الانتروبولوجيّة للإنسان لا تختلف عن النظرة الغربيّة في الأسس والمباني والمقوّمات، غير أنّه يقوم بعمليّة

(75)

تأويليّة يحاول أن يستنبط ـ بزعمه ـ المباني الغربيّة من القرآن، ولكن عندما تتعارض نظرته مع القيم الإسلاميّة والأحكام الثابتة، يقوم بإنكار تلك الأحكام أو تأويلها تاريخيّاً، بمعنى أنّها كانت صالحة في زمانها، ويعني هذا أنّ الإنسان مقدّس بحدّ ذاته وحرّ لا يمكن تقييده بما يخالف القيم الحديثة من دين وأحكام وأخلاق.

ويلاحظ على ما ذكره جعيط، أمور:

١ ـ إنّه يصرّح أنّ النزعة الإنسانيّة ظهرت كحركة وتيّار مضادّ للدين والسلطة، وتجعل الإنسان كقيمة عليا في الوجود والثقافة والأخلاق، ومعنى هذا تأليه الإنسان، وهو لا يتوافق مع النظرة الدينيّة إطلاقاً، بل يتقاطع معها تماماً، فكيف يريد جعيط أن يوفّق بينها وبين الإسلام الذي يجعل المركزيّة لله تعالى أوّلاً وآخراً؟!

والتوفيق الذي حاول أن يستبطنه جعيط من نصوص القرآن والسنّة والتراث الإسلامي جهد عقيم؛ إذ الاختلاف بين النظرتين مبنائي.

يلزم علينا «عند مواجهة الآراء والأفكار والمعتقدات المستقاة من الثقافات الأُخرى محاولة استكناه جذورها، ثمّ نرى هل أنّها تنسجم مع الأفكار الإسلاميّة أم لا؟ فإن كانت منسجمة يؤخذ بها وإلّا يجب نبذها والتوجّه نحو أسس ديننا واتخاذها منطلقاً لأفكارنا وعقائدنا وثقافتنا»[1].

٢ ـ صحيح أنّ القرآن يخاطب الإنسان، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إنساناً وبشراً

(76)

وقبل كلّ شيء، غير أنّ الإنسانويّة القرآنيّة ليست مطلقة بل مقيدة بقيود، الكرامة الإنسانيّة في القرآن مقيدة بالتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [1].

وصحيح أنّ الله تعالى سخّر الطبيعة للإنسان بشكل مطلق، غير أنّ هذه الإنسانيّة ليست هي ملاك التقييم، بل ملاك التقييم هو البعد الروحي والمعنوي؛ إذ من الطبيعي أنّ الله تعالى عندما يقول لملائكته: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [2]، لا يقصد به الأشرار من الناس قطعاً، بل إنّ الأشرار في الجحيم ولا كرامة لهم: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ) [3]، فالنظرة الدينيّة إلى الإنسان تختلف تماماً عن النظرة المادّيّة ولا يمكن عقد صلاة فيما بينهما.

٣ ـ لقد اعترف هشام جعيط أنّ النظرة القرآنيّة للإنسان أعلى وأرفع؛ إذ تجعل الإنسان في مركزيّة الوجود، فإذا كانت كما يقول، فلماذا تخلّى عنها وتمسّك بالمنهج المادّي مع إنسانيّته التي هي دون الإنسانيّة القرآنيّة؟! وتقتصر في الإنسان على وجوده المادّي؟! ولماذا يجعل كلّ ما يخالفها شرّاً؟!

٤ ـ هل القيمة الأساسيّة هي «الحياة الإنسانية واحترامها» مهما كانت

(77)

وكيفما اتفق؟! جواب جعيط هو: نعم، غير أنّ هذا الجواب لا يصحّ من وجهة نظر دينيّة وعقليّة وحتى عرفيّة في الغرب.

أمّا الدين فقد رأينا أنّ نظرته إلى الإنسان شاملة إلى بعده المادي والروحي، وباكتمالهما يكتمل الإنسان وتزدهر إنسانيّته، ولا يمكن الاقتصار على بعد واحد، والبعد الواحد يخرج الإنسان عن إنسانيّته، الاقتصار على البعد المادّي يجعل الإنسان كالأنعام بل هم أضل، والاقتصار على البعد الروحي يخرج الإنسان عن اعتداله وهو مذموم شرعاً.

أمّا العقل، فالقوانين والعقوبات الوضعيّة جاءت لترشيد الجانب المادّي الإنساني، والحدّ أمام مطلقيّته؛ كي لا يتعّدى الحدود البديهيّة العقليّة.

أمّا العرف، فالعرف الغربي لا يرى قيمة للحياة الإنسانيّة إذا تضاربت مع مصالحه الكبرى، وما شهدناه من حروب عالميّة، وكذلك من اعتداء على الشعوب الأُخرى واستعمارها خير دليل على ازدواجيّة الغرب وعدم اكتمال مبادئه وقيمه المدّعاة.

٥ ـ إنّ ما يدّعيه هشام جعيط من عدم تعارض الإسلام القيمي أو الروحي مع قيم الحداثة، غير صحيح؛ إذ الإنسان في بعده التكويني والتشريعي، الروحي والظاهري، متعلّق بالله تعالى، كما يقول الشيخ جوادي آملي: «ليعلم الإنسان كما أنّه متعلّق بالله في حياته التكوينيّة ـ أي أصل الإيجاد والاستمرار ـ كذلك فإنّه متّصل بالفيض التشريعي الإلهي أحكامه المُحيية في حياته الروحيّة والمعنويّة؛ إذ بصفته من الموجودات الممكنة، فإنّه بحاجة إلى موجد واجب في جميع شؤونه، ولا معنى لحياته

(78)

ـ التكوينيّة والتشريعيّة، الدنيا والآخرة ـ بمعزل عن حقيقة واجب الوجود. وبكلام واحد: إنّه عبدٌ لله تعالى»[1].

٦ ـ بعد هذا، لا ضير إذا خالفت النظرة الإسلاميّة قيم الحداثة وحقوق الإنسان، طالما أنّ النظرة القرآنيّة للإنسان ـ على حدّ تعبير جعيط ـ أعلى من النظرة الوضعيّة الغربيّة، وحينئذٍ لا بدّ من جعل كلّ ما يخالف النظرة القرآنيّة شراً لا أقلّ ولا أكثر وبكلّ بساطة!!

٣ ـ ٣ ـ المباني الإبستمولوجيّة:

الابستمولوجيا أو نظريّة المعرفة، تبحث عن كيفيّة تكوّن المعرفة وما يلابسها من تبرير وحقّانيّة أو شكوكيّة. إنّ الروافد التي يستقي منها الإنسان معارفه تختلف باختلاف المدارس والتيّارات الفكريّة المختلفة. فهناك من يقع في وادي الشكوكيّة لينفي إمكانيّة العلم والمعرفة، وهناك من يحصر المعرفة بالحسّ والتجربة، وهناك من يعمّم الروافد لتشمل جميع العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة.

هذه الروافد هي التي تحدّد مسير الإنسان وتصوغ نظريّاته، فمن يعترف بالوحي يخرج بنتائج علميّة ومعرفيّة تختلف عن الذي لا يؤمن به ويرى انحصارها في التجربة مثلاً.

إنّ هشام جعيط لم يقدّم في كتبه نظريّة للمعرفة؛ إذ لم تكن اهتماماته منصبّة في هذا المناخ، غير أنّ من خلال مراجعة كتبه نعثر على اتجاهه المعرفي العام.

(79)

إنّ مدار المعرفة عند هشام جعيط تدور حول العقلانيّة الحديثة بشقّيها: العلم والفلسفة. إنّه يمتدح الغرب لتمسّكه بأعلى مراتب العقل، وهما: الفلسفة والعلم، اللذان يعتبرهما أسّ الحداثة[1].

هذان الأساسان كانا متّحدين، غير أنّهما انفصلا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فاقتصرت الفلسفة مع المثاليين الألمان على الإنسان والفكرة، بينما تمركز العلم حول الطبيعة المادّيّة[2].

فالفلسفة المقامة على المفاهيم البحتة، والعلم المقام على مناهج التجربة والاستدلال التقريبي «عقلانيّاً المأتي والتركيبة بالمعنى الصارم. لكن العقلانيّة شاعت من هذين المنبعين ومن منبع الفلسفة على الأخص، وانتشرت في ميادين الفكر السياسي والاجتماعي والديني. هذا الحدث بدأ من القرن السابع عشر في أوروبا الغربيّة إلى عصرنا هذا»[3].

ولهذه العقلانية العلمويّة صفات وسمات ولوازم يشير إليها جعيط في مختلف آثاره، منها: إنّ «العقلانيّة بتجسّداتها المختلفة عبر الزمن، لا زالت ولن تزال الاختيار المنهجي الأساسي في المعرفة الحديثة والأكثر قابليّة للعالميّة»[4].

«إنّ للعقلانيّة الوضعية حسنة واحدة، في أنّها تجعل جميع الأديان على مستوى واحد دون أن تلتزم بأحدها»[5].

(80)

كما يرى أنّ في الدين عناصر كثيرة «لا يقبلها العقل إطلاقاً، ولا الفكر ولا حتّى ذهنيّة الإنسان الحديث، فقد أبرز العلم والفلسفة والنقد التاريخي بديهيّات تهاجم النواة الدينيّة ذاتها»[1].

«إنّ العلم إذ فكّك رموز العالم الطبيعي فسما بالعقل الإنساني، دمّر أيضاً مطلقيّة الأديان، كما السرّ الخفي للعالم»[2].

«العنصر المشترك الذي يجمع بين العلم الأوروبي والفكر الصيني، هو التحرّر من الشخصيّة الإلهية ووضع عقل العالم في ذاته»[3].

إنّ هشام جعيط يتمسّك بهذه العقلانيّة، والعلم الناتج منها، ويرى «أنّا صرنا الآن بفضل هذا العلم، وما دمنا كبشريّة موجودة، نفهم تركيبة العالم الحقيقيّة، وليست الوهميّة، كما أتت بذلك الميتولوجيات القديمة، والأديان وحتى علوم الأقدمين: أرسطو»[4].

كما أنّه يعتمد على هذا العلم في آثاره، ويقول: «قد واكبت هنا التقدّم الذي أحرزه العلم في التاريخ وعلم الاجتماع والتحليل النفسي» عندما يقدّم لكتابه الشخصيّة العربيّة[5].

إنّ من صفات العلم النسبيّة وعدم اليقين، وهذا ما يعترف به جعيط، إذ يقول في حوار مفتوح أجري معه: «التاريخ علم، لكنّه نسبي مثل بقيّة العلوم»[6].

(81)

وكما يضيف -أيضاً- بأنّ العلم «لا يدّعي التوصّل إلى حقيقة ماهيّة الشيء، وهو فعلاً لا يقيني من هذا الوجه، وحتّى من وجهة المنطق البحت؛ حيث لا يعتمد على التسلسل المنطقي القاطع من المقدّمات إلى الاستنتاجات، بل على التعميم اعتماداً على الملاحظة والتجربة الذي هو في حدّ ذاته غير جازم أبداً، يجوز أن تتغيّر قوانين الطبيعة وعلى العلم عندئذٍ أن يدرس القوانين الجديدة»[1].

هذه النظرة وهذا المنهج المادّي أدخل هشام جعيط في حيرة وأزمة نفسيّة كبيرة، فهو من جانب يرى أنّ حقائق العلم لا تتماشى في بعض الأحيان مع النصّ القرآني، ومن جهة أُخرى أنّ تربيته الدينيّة تقتضي أنّ القرآن كلام الله لا يغلط[2].

لذا وقع في تناقض، فبينما يرى أنّ القرآن يحتوي على تصوّر معيّن للجنين البشري لا يقبله العلم[3] أو اعتقاده بوجود اختلافات في القرآن مع بعض الاكتشافات العلميّة لا يمكن إنكارها. غير أنّه يذهب بعد أسطر إلى القول: «إنّي أحبّذ المقولة التي ترى بأنّ القرآن يعلو على العلم في حالة التصادم؛ لأنّ الله يعلم ما لا يعلمه الإنسان؛ ولأنّ قوله هو الثابت والقارّ والصحيح»[4].

ومع هذا، فإنّه يرى أنّ الإيمان الصالح لا بدّ أن ينفتح على حجج

(82)

العقل[1] وأنّ العائق الكبير بالنسبة للعقل هو بنية الوحي الإسلامي[2]. تناقضات لا بدّ أن يجيب عليها هشام جعيط!!

وممّا يذكره أيضاً في المناخ المعرفي أنّه يؤمن بالنظريّة الهرمنوطيقيّة التي تفسّر المتن على ضوء فهم المتلقّي، إذ يقول: «أيّ كتاب مقدّس كما أيّ أثر فكري عظيم يفهم على حسب المستوى الذهني للمتفهّم»[3]. وهذا ما حاول تطبيقه في دراسته للسيرة النبويّة، حيث قام بتأويل النصوص والأخبار لا على مداليل اللفظ والمعنى، بل على أثر خلفيّاته المعرفيّة الشخصيّة، وما عليه مخياله العلماني.

والخلاصة: إنّ موقف جعيط الإبستمولوجي هو إمكانية المعرفة ولكن وفق الضوابط الهرمنوطيقيّة مع الالتزام بالعلمويّة المادّيّة، ونحن وإن لم نعثر على تصريح واضح منه لنظريّة المعرفة، غير أنّ منهجه العامّ في كتبه وبحوثه وحواراته يقودنا إلى هذا.

فهو يعترف بإمكانيّة المعرفة عموماً إذا يصوغ آراءه من هذا المنطلق ويصدر أحكاماً قيميّة ومطلقة وثابتة لا تتوافق مع المنهج الشكّي، كما أنّه -كمؤرّخ- يلتزم بالتفسير المادّي والعلمي للظواهر، ويقترب من التأويل الهرمنوطيقي ليفسّر الظواهر -أيضاً- وفق فهم المتلقّي.

يلاحظ على ما أورده جعيط أمور:

(83)

١ ـ إن جعيط يتمسّك بعلم التاريخ وبالمنهجيّة التاريخيّة ويعترف بأنّ نتائجهما نسبيّة قابلة للتغيير، وعليه لا يحقّ له إصدار أحكام ثابتة، وتخطئة ما توصّل إليه التراث الديني من معلومات ومواقف وآراء، سواء فيما يخصّ الحداثة أو ما يخص التراث؛ إذ إنّنا سنرى في الفصل المخصّص للسيرة النبويّة كثرة الأحكام الثابتة الصادرة من جعيط، وكثرة تخطئته للمصادر وإنكاره للروايات الثابتة، اعتماداً على مباني ومناهج نسبيّة.

٢ ـ إنّ التناقض الذي وقع فيه جعيط لا مفرّ له إلّا باعتراف تعدّد موارد المعرفة وروافدها للإنسان لتشمل الوحي أيضاً، وحينئذٍ لا مجال لجعيط إنكار ما ثبت عن طريق الوحي، طالما أنّ نتائج العلم نسبيّة غير يقينيّة، والصحيح منه أن يتراجع عن جميع الأحكام التي أصدرها في مخالفة بعض القوانين الشرعيّة للعلم. لا أن يكتفي بقوله السابق: «إنّي أحبّذ» وكأنّها مجرّد أمنية ممّن يحسّ بالعمق الديني في وجوده، ولكن لا يجد إلى تحقيق هذه الأمنية سبيلاً؛ لأنّه آلى على نفسه أن يتمسّك بالمنهج العلمي البحت.

٣ ـ إنّ هشام جعيط يعترف بأنّ مبدأ العقلانيّة الذي يحرّك كلّ مجالات المعرفة في الغرب من علم وفلسفة وعلوم إنسانيّة وحتى سلوك الإنسان «هو بذاته عاد محلّ شكّ ونقض من طرف فلسفات حديثة ذات تأثير هامّ على الضمير الغربي عند نيتشه كما عند برغسون. وفي أفق الضمير الغربي الحديث والمؤثّر، أي الفكر الطلائعي، لا نشهد -فقط- سخرية واضحة إزاء العقلانيّة المبسّطة الجافّة، بل لقد اتخذت مسافة لا تقل وضوحاً إزاء فلاسفة التنوير»[1].

(84)

فهو إذ يعترف بهذا فكيف يدعو إلى عقلنة المجتمع الإسلامي والتمسّك بقيم الحداثة، وكيف يبني دراساته عليها؟!

٤ ـ إنّ التخبّط الذي وقع فيه جعيط ناتج من عدم وضوح الأسس والمباني عنده، وبسبب خلط المناهج المختلفة أيضاً. ولو كان متضلّعاً في التراث الديني والفلسفة الإسلاميّة، لأمكنه إعطاء كلّ منهج حقّه، وتوزيع الأدوار بين الوحي والعلم والعقل بحيث لا يؤدّي إلى إنكار أيّ منها «إنّ العقل ـ غير التجريدي ـ المتكفّل لمعرفة الطبيعة بالتجربة، إذا وصل إلى معرفة توجب الاطمئنان أو القطع، وإن لم تصل إلى مرحلة اليقين والقطع المنطقي والبرهاني، يدخل هذا ضمن الهندسة المعرفيّة الدينيّة؛ إذ يكشف النقاب عن الخلقة وعن الفعل الإلهي، كما أنّ النقل المعتبر ـ الكتاب والسنة ـ في أغلب موارده يكشف عن القول والكلام الإلهي»، فالعقل والنقل يدخلان ضمن المعرفة الدينيّة ولا يتقاطعان[1].

٥ ـ إنّ ما ذهب إليه جعيط من التأويل الهرمينوطيقي في فهم النصّ المقدّس أو أيّ أثر فكري عظيم آخر على ضوء فهم المتلقّي، يُفقد النصّ معناه الأصلي وينزله عن قداسته؛ إذ النص أيّاً ما كان مقدساً أو غير مقدس ـ يحتوي في جوهره على فكرة أو أفكار مركزيّة يريد إيصالها إلى المتلقّي، ولا بدّ للمتلقي من الوصول إليها من خلال اعتماد الأدوات المعرفيّة السليمة، أمّا فتح باب المعنى هكذا على مصراعيه، وإرجاع فهم النصّ إلى مستوى فهم المتلقّي، لا يؤول إلّا إلى نسبيّة صارخة تنسف أساس العلم وتسدّ باب التواصل المعرفي. نعم، للخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة دور في صوغ

(85)

الأفكار وكيفيّة تلقّي المعارف، غير أنّ دورها ليس مطلقاً وحاكماً بحيث يغلق الباب أمام الوصول إلى جوهر النصّ الذي أراده المؤلّف أو المتكلّم[1].

4ـ أمّا المنهجيّة المتّبعة، فليعلم أنّ المنهج هو الطريق الموصل إلى الآراء والنظريّات، ولا بدّ لكلّ بحث من اعتماد منهجيّة خاصّة، كما يعدّ المنهج أحد المقوّمات الرئيسيّة لتقويم البحث وتقييمه.

قد اعتمد هشام جعيط مناهج مختلفة في بحوثه ودراساته، اعتمد فيها على المناهج المستوردة، بل حثّ على التمسّك بها وتعلّمها، ويدعو العرب إلى «استكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميّاً»[2].

والجدير بالذكر، أنّ جعيط رغم دعوته إلى التعرّف على المنهجيّات الجديدة، لا يرتضي التقليد والمحاكات الصرف لها دون استيعاب حقيقي وعميق للمنهجيّة، إذ «لو كان هناك استيعاب حقيقي للمنهجيّة لاستقلّ الإنسان بفكره، وهذا ما نجده عند الغربيّين، فالغربي يستوعب المنهجيّات الموجودة في زمنه، لكنّه في الوقت نفسه يجدّد ويبدع»[3].

وهذا ما يحاول جعيط تطبيقه في أعماله الفكريّة، فهو رغم تأثّره بالمناهج الغربيّة واعتماده على ما توصّل إليه علماء الغرب سيّما المستشرقون منهم، نراه لا يكون أسيراً لهم ويقوم بمناقشتهم في بعض

(86)

الأحيان. وإن لم يخرج عن الإطار العامّ لتلك المناهج، بل يبقى وفيّاً لها.

وفيما يلي نشير إلى أهمّ المناهج التي اعتمدها هشام جعيط في بحوثه وكتبه بالاعتماد على ما يذكره هو.

١ ـ ٤ ـ المنهجيّة التاريخيّة:

«منهج البحث التاريخي هو المراحل التي يسير خلالها الباحث حتى يبلغ الحقيقة التاريخيّة ـ بقدر المستطاع ـ ويقدّمها إلى المختصّين بخاصّة والقرّاء عامّة. وتلخص هذه المراحل في... تحرّي نصوص الأصول وتحديد العلاقة بينها، ونقدها باطنيّاً إيجابيّاً وسلبيّاً، وإثبات الحقائق التاريخيّة وتنظيمها وتركيبها، والاجتهاد فيها وتحليلها، وإنشاء الصيغة التاريخيّة، ثمّ عرضها عرضاً تاريخيّاً معقولاً»[1].

ويرى جعيط أنّ «لعلم التاريخ ذاته تاريخاً، فقد تأسّست في ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر مناهجه المعروفة في التعامل مع المصادر، وازداد ثراءً في القرن العشرين، حتى وصل إلى نوع من النضج بتكافل المعارف التي تصبّ فيه، من اقتصاد وانثروبولوجيا وسوسيولوجيا»[2].

كما أنّ «التاريخ إنّما هو علم وضعي وأرضي يتناول فعاليّات الأفراد والمجتمعات البشريّة في الماضي، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد»[3].

(87)

إنّ ما يصبو إليه جعيط من هذا المنهج هو «تعميق المعرفة وإثراؤها... التفهّم وإخراج واقع الماضي من سديم النصوص، أي إكسابه نظاماً وهيكلة من دون إخضاعه لأيّة نظرة مسبقة»[1].

إنّ منهجيّة جعيط هذه تتصف بسمات عدّة، منها أنّها تقف عند الظواهر والفينومينولوجيا، وتعتمد على مقاربة تاريخيّة معتمدة على النصوص وعلى المقارنة وإلى مقاربة ظواهريّة[2] من دون أن يستسلم ويتخلّى عن هذه الطريقة الفينومينولوجيّة[3].

ومنها: «الإيضاح وترتيب المعلومات ووضع الأمور في إطارها»[4]. «في سبيل فهم معمّق للأمور»[5]، ومنها: أنّه يعتمد على النظر والتخمين[6] وكذلك التنبّؤ[7].

ومنها: اعتماده -أيضاً- على عقلانيّة تفهّميّة[8] ويدّعي أنّ هذه العقلانيّة التفهّميّة لم يجدها «لا عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث، ولا عند المسلمين المعاصرين، وأكثر من ذلك أنّ المستشرقين على سعة اطلاعهم، لم يأتوا ببحث يذكر في هذا الميدان»[9].

(88)

والتفهمّ عنده «إخراج واقع الماضي من سديم النصوص، أي إكسابه نظاماً وهيكلة من دون إخضاعه لأيّة نظرة مسبقة»[1] وبعبارة أُخرى: «منح الأحداث شفافيّة كي تفهم، وتكون قابلة للتفهّم، وبالتالي تفتيت المادّة التاريخيّة وإخضاعها للتأويل التفهّمي دون إجحاف، ودائماً التصاقاً بالواقع»[2].

وليعلم أنّ المنهجيّة التاريخيّة تعتمد على النصّ في الأغلب، لذا قام هشام جعيط في مختلف كتبه التاريخية بتحليل مصادره، وبيّن طريقته في معالجة المصادر، و بما أنّه قد درس السيرة النبويّة في ثلاثة أجزاء، فقد اعتمد على القرآن أوّلاً ويتخذه كوثيقة ثابتة وصحيحة، إذ يقول: «نحن كعلماء نتبع ما يقوله كلّ دين عن نفسه: القرآن وهو الكتاب المقدس لدى المسلمين، يقول إنّه وحي من الله وكلام الله، وإنّ محمداً رسول الله أنزل عليه هذا القرآن. القرآن يقول كذا وكذا عن تجربة الرؤية والوحي، وهي وثيقة رائعة لصحّتها التاريخيّة ومعاصرتها للبعثة»[3].

وبعد القرآن يأتي دور الخبر والرواية، وهنا مكمن المشكلة، إذ يقول جعيط: «نحن لا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد من سيرة وتاريخ وطبقات وحديث»[4]. وهنا تأتي مرحلة شاقة للمؤرّخ، وهي استنباط المعلومة الدقيقة والصحيحة من بين ركام هائل من النصوص والأخبار المختلفة وتارة المتضاربة.

(89)

إنّ أهمّ ركيزة يعتمد عليها المؤلّف في عمله التاريخي ومنهجه، اتخاذ الحياد والموضوعيّة الصارمة، إذ يقول: «إنّما هناك مبادئ مسبقة في عمل المؤرّخ مردّها إلى أنّ المؤرّخ لا يؤمن بالظواهر الميتافيزيقيّة التي تخرج عن قوانين الطبيعة، فهي إنّما ظواهر دينيّة يجب تحليلها كذلك وليست ظواهر موضوعيّة، لكنّها تدخل في شكل من أشكال الإيمان وفي منطقة»[1].

وبعد هذه النقطة المحوريّة، تأتي باقي السمات المنهجيّة التي اختطها جعيط لنفسه، منها: اتّخاذ القراءة النقديّة للوصول إلى الحقيقة التاريخيّة، مع المقارنة بين القديم والجديد من دون الاكتفاء بالسرد والتوصيف[2].

ومنها: إجلاء للنصّ وتفكيكه وتوضيحه[3]، ومنها: دراسة النصّ عن كثب وكأنّه دُرس لأوّل مرّة[4]، ومنها: إتمام الروايات بعضها ببعض والسعي وراء التطابقات، مع رعاية الحذف والاختيار والغربلة أيضاً[5]. ومنها: الغوص إلى عمق المناخ الذهني والعقلي لعصر الحدث[6]، ومنها: الاعتماد على المصادر الأقدم[7].

ومن سمات عمله في تعاطي النصوص: عدم الاعتماد على الأسانيد؛ إذ هي غير موثوقة[8] كما أنّه يرفض التواتر أيضاً[9].

(90)

وأخيراً، كثيراً ما يرفض مؤرّخنا التونسي نصوصاً مشهورة ويرميها إلى صنع الخيال، إنّه يقول عن كتب السيرة: «في ما ترويه السير خيالاً كبيراً، ومحاولات قصصيّة وخاطئة لملء الفراغ، وتجميلاً وتنظيماً لهذا الحدث الكبير»[1] وأيضاً: «ففي السير هناك خيال دفّاق»[2].

لذا، يرمي كثيراً من الأحداث والوقائع إلى أنّها من صناعة الخيال الديني[3]. أو المخيال الإسلامي[4] أو نسيج الخيال والأيديولوجيا[5]. أو الخيال التاريخي بما يحويه من لا معقوليّة[6].

٢ ـ ٤ ـ منهج التاريخ المقارن:

استخدم المؤلّف هذا المنهج في مكانين:

١ـ في دراسة السيرة النبويّة، حيث اعتمد على التاريخ المقارن للأديان[7]، ويهدف منه «خروج العرب والمسلمين من تقوقعهم وضيق أفقهم الفكري»[8] كما أنّ هذه التاريخيّة «تلعب دوراً مهماً في بروز الدين وتشكّله وتغلغله في الأعماق الاجتماعيّة، ومنحه جزءاً من شرعيّته»[9].

(91)

وهناك هدف آخر يفصح عنه المؤلف، بقوله: «أردت فهم معاني الوحي والقرآن والنبوّة بالاعتماد على النصّ وعلى التاريخ المقارن»[1].

٢ـ دراسة العلاقة بين أوروبا والإسلام، حيت اعتمد على «الطريقة المقارنة على النواة الأصليّة لكلٍّ من العالم الغربي والعالم الإسلامي، وهذه النواة هي أوروبا الغربيّة والبلاد العربيّة»[2].

٣ ـ ٤ ـ مناهج المستشرقين:

يذكر المؤلّف أنّ أغلب المستشرقين كان هدفهم: «دراسة فيلولوجيّة وتاريخيّة للدين والحضارة حسب قواعد معيّنة طُبّقت على المسيحيّة والبوذيّة والحضارات الأُخرى والماضي الإنساني بصفة أعمّ»[3].

فالمؤلّف وإن لم يعتمد تماماً على نتاجهم ومناهجهم في دراسة السيرة، غير أنّه يعترف بالاستفادة منها في مواقع أُخرى، ويقول: «وقد اعتمدنا على منهجيّة هؤلاء في مواضيع أُخرى»[4] ويلمّح بذلك تارة أُخرى، ويقول: «جاهدين في تجاوز بعض تناقضات المستشرقين طوراً، وفي الاستفادة من بعض نتائج أبحاثهم تارة»[5].

(92)

٤ ـ ٤ ـ المنهج الديموغرافي والطبوغرافي:

المنهج الديموغرافي يعتمد على علم السكّان وطريقة توزيع السكّان وكثافتهم في المناطق الجغرافيّة المعيّنة، ورحلاتهم من مكان إلى مكان لأجل السكن، أمّا الطبوغرافي فهو يتكفّل رسم الخرائط وتبيين سطوح الأرض. وقد اعتمد هشام جعيط على هذين المنهجين في دراسته العميقة عن تمصير الكوفة.

٥ ـ ٤ ـ المنهج الأنثروبولوجي:

الأنثروبولوجيا هو «العلم الذي يدرس الإنسان من حيث تركيبه الجسمي، وبنائه البدني والعقلي، وصفاته الجسميّة المختلفة، وعلاقاته الاجتماعيّة مع الآخرين، وتفاعله مع المجتمع والبيئة والثقافة السائدة فيها»[1].

يستخدم جعيط هذا المنهج في دراسة العصر الجاهلي بهدف التعرّف على «السياق العامّ والخاصّ الذي انحدرت منه الدعوة أو تطوّرت ضمنه، لتقصّي الظروف التي ظهر فيها الحدث»[2].

٦ ـ ٤ ـ المنهج الاتنولوجي:

إنّ جعيط لاستعمال هذا المنهج يطرح في البداية إشكاليّة منهجيّة، وهي أنّ المنهج الاتنولوجي بما أنّه «يدرك البنى البسيطة والمجتمعات البدائيّة»[3] فهل يمكن استعماله لمعرفة الإسلام أم لا؟ لأنّ الحضارة

(93)

الإسلامية معقّدة و مرتبطة كثيراً بالتاريخ وكلاسيكيّة بحيث يصعب تطبيق هذا المنهج عليها.

طبعاً، رأي المؤلّف هو «نعم»؛ لأنّ المجتمع الإسلامي «يضمّ مناطق حيث الإنسان ما زال يقيس نفسه مع الطبيعة، ويتعايش مع أقرانه حسب القوانين البدائيّة والتقنيّات السحريّة»[1]. ثمّ يستشهد بوجود قبائل بدويّة في الجزيرة العربيّة، ومجموعات البربر في المغرب، والمور والتوارق في الهدب الصحراويّة.

كما أنّه يرى إمكانيّة تطبيق هذا المنهج على جميع المجتمعات بما فيها المجتمع الغربي[2]. ومن هذا المنطلق، يستشهد جعيط ب ـ (ليفي شتراوس) الاتنولوجي الفرنسي لدراسة روح الإسلام ومصيره، مع الإشارة إلى بعض الملاحظات حول ما توصّل إليه[3].

وختاماً، فإنّ المباني الأنطولوجيّة والإبستمولوجيّة والأنثروبولوجيّة التي اعتمد عليها هشام جعيط، زد عليها المناهج التي انتهجها في مسيره العلمي، أنتجت مشروعه الإصلاحي المبتني على العلمانيّة الشاملة والمفتوحة المعتمدة على علمنة الفرد والمجتمع والدولة، ولنا أن نسجّل الملاحظات التالية على المنهج المعتمد عند جعيط، تاركين الملاحظات الأخرى إلى مظانّها من هذه الدراسة:

١ـ إنّ تعدّد المناهج هذه أوقعت المؤلّف في تناقض، وعدم تمكّنه

(94)

من الوصول إلى نتائج مقنعة؛ إذ خلطُ المناهج بعضها ببعض يؤدّي إلى التشويش وعدم وضوح الرؤية، بل الوقوع في الهفوات.

وقد تنبّه الدكتور حسن حنفي لهذا المأخذ، وذكر في معرض تحليله لكتاب «الشخصيّة العربيّة» لهشام جعيط وأنّه غير متماسك داخليّاً يفقد البنية الواحدة التي تكشف عن المكوّنات الداخليّة للشخصيّة العربيّة الإسلاميّة. يقول: «ويبدو أنّ صعوبة البحث، ومظاهر الاضطراب فيه إنّما تنشأ من عدم استقرار الباحث على علم معين يضع موضوعه فيه، علم اجتماع، أو علم التاريخ، أو علم السياسة، أو علوم الثقافة والحضارة... فالمنهج كثيراً ما يتوارى أمام كثير من الأحكام المسبقة ممّا جعلت الكتاب يبعد عن العلم ويقرب من الأيديولوجيا... ظهر الكتاب كلّه وكأنّه خلطٌ بين الموضوعيّة العلميّة، والرغبة في التأكيد على الذات»[1].

٢ـ يدّعي جعيط الحياديّة والموضوعيّة الصارمة، بمعنى قراءة النصّ «من دون إخضاعه لأيّة نظرة مسبقة». والحال أنّ هذا لا يمكن؛ إذ كلّ باحث ينطلق من خلفيّات فكريّة ويخضع لمناهج، وجعيط هو قد أخضع النصّ لمناهج علميّة بحيث خرج في كثير من الأحيان عن محتوى النصّ.

٣ـ أوقع جعيط نفسه في ازدواجيّة وتناقض لا يمكنه التخلّص منه، وهو مشهود في جميع كتبه التاريخيّة، فهو إذ يعرّف كتب السيرة والتاريخ بأنّها غير موثوقة، وأنّ فيها خيالاً كثيراً، وكذلك ينفي كثيراً من الأحداث التاريخيّة المشهورة ويرميها إلى الخيال، من قبيل تضخيم دور أجداد

(95)

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: قصي وعبد المطلب، محاولة قريش لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة وقضيّة الخروج إلى الطائف، قضيّة شعب أبي طالب، حديث مبيت علي عليه‌السلام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، نزول الوحي في غار حراء، قضيّة غار ثور والتجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه مع أبي بكر وغيرها من الموارد الكثيرة، فبينما هو كذلك نراه لا محيص له من مراجعة كتب السيرة ويذهب إلى عدم القدرة على التشكيك الكلّي في مادّة السيرة[1] ويردّ على المستشرقين الذين يغمزون في السيرة بأنّ هذا العمل تعطيل للبحث العلمي[2].

وأخيراً، يعترف هو بهذه الازدواجية، قائلاً: «إنّ المؤرّخ الموضوعي لا يمكن له أن يسمح لنفسه بالأحكام القيميّة انطلاقاً من المادّة الوثائقيّة، ولكنّه لا يمكنه أيضاً أن يتغاضى عمّا توفّر هذه المادّة بحجة الإفراط الممكن في الاستغلال»[3].

كما أنّه بعدما ما يشكّك في خبر لجوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف جرّاء ظلم واضطهاد قريش له وينسبه إلى الخيال الرائع، يقول: «من الصعب أن ننكر خبراً أتت به السير هكذا بحذافيره وأن نقرّر أنّه اختلق تماماً، ولو أنّ أطروحة الاختلاق منطقية»[4].

٤ ـ من الطرائف التي يقع فيها جعيط أنّه يفرّق بين معقوليّة الخبر وبين صحّته، فقد يكون الخبر مقبولاً ومعقولاً غير أنّ الرواية غير صحيحة

(96)

وموضوعة، إنّه يقول: «الواقع أنّ بعض العناصر التي تقدّمها رواية كتب السيرة، يمكن فقط اعتبارها مقبولة أو معقولة، وإن لم تكن صحيحة تماماً»[1]. ولا ندري كيف يكون غير الصحيح معتمداً ومقبولاً أو حتى معقولاً.

٥ ـ إنّ المؤلّف في إنكاره للإسناد ارتكب خطأ كبيراً، واتّبع بعض المستشرقين الذين لا يعتمدون على السند ويرونه من وضع فترة متأخّرة، أمثال المستشرق شاخت في معالجته للروايات الفقهيّة.

إذ إنّ الإسناد من أهمّ الركائز في معالجة الخبر، والاعتماد عليه عرف عقلائي بشريّ عامّ، وتقسيمات السند إلى حسن وصحيح وموضوع وغيرها، وإن جاءت متأخّرة، غير أنّ الناس في الفترة الشفويّة قبل تدوين الحديث، كانوا يعتمدون على الأشخاص ويأتون إلى العلماء وتلامذتهم لاقتناء المعلومة، ومن الطبيعي أنّ التلميذ يأخذ من الأستاذ وهكذا، إنّ تقدير الناس للصحابة والتابعين وتابعي التابعين، يرجع في بعض وجوهه إلى هذا الأمر؛ إذ إنّه يستبطن ما في ضمير الناس من أهمّيّة اتخاذ الطريق الصحيح للوصول إلى المعلومة مهما كانت.

مضافاً إلى أنّ المؤلّف نفسه يعتمد كثيراً على السند في كتابه عن الكوفة وطريقة تخطيطها السكّاني، فتراه كثيراً ما يعتمد على روايات سيف المتّهم بالوضع والدسّ، ويترك رواية غيره، ليس ذلك إلّا لكون رواية سيف تنفعه في هذا المورد أو ذلك مثلاً، وتتوافق مع ميوله العلميّة!

ثمّ إنّ هذا المدّعى لو كان صحيحاً لرأينا أصحاب المذاهب المختلفة

(97)

ترمي المذهب المخالف بأنّه موضوع تماماً، نعم ربّما يختلفون في الجزئيّات غير أنّنا لم نسمع منهم رمي مدرسة كاملة بالوضع والدسّ، مضافاً إلى أنّ المدارس العقليّة الإسلاميّة ـ العدليّة والفلاسفة ـ رغم خلافها الحادّ مع المدارس النقليّة لم ترمهم بالوضع والدسّ وتكتفي بالمناقشة الدلاليّة، بل إنّها في المقام الفقهي والعبادي تتبع إحدى المدارس الفقهيّة الموجودة.

وهناك أمر آخر، وهو أنّ المدّعى لو كان صحيحاً ما دعت الحاجة إلى إبداع أصول الفقه ومقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه، بل كان من السهل وضع الحديث لملئ الفراغ.

وأخيراً «إنّ البحوث الأخيرة المتزايدة المهتمّة بالأصول التاريخيّة لأحاديث نبويّة معيّنة، تشير إلى أنّ غولدزيهر وشاخت وجوينبرل كانوا مشكّكين جداً، وأنّ عدداً من الأحاديث يعود تاريخه إلى أقدم ممّا كان يعتقد في السابق ليصل إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله»[1].

٦ ـ إنّ إنكار الاعتماد على التواتر خطأ فظيع آخر وقع فيه المؤلّف؛ إذ حجّيّة التواتر أمر عقلائي علمي مركوز في الفطرة، ومن الطريف أنّ المؤلّف ينكر التواتر من جهة، ويصحّح روايات ويؤيّد أحداث لأنّ كتب السير أو المصادر أجمعت عليها[2].

وأطرف من ذلك، ما ذكره من اختلاف مادّة التاريخ في تفاصيل فتح

(98)

العراق، إذ يقول: «لكن الوقائع الجوهرية الثلاث: الاستيلاء على المدائن، واحتلال جلولاء، وطرد الفرس إلى النجد الإيراني، وإنشاء الكوفة، وردت في الروايات المتواترة كلّها»[1].

فهو تارة ينفي التواتر وتارة يأخذ به، والمسكين الطالب والقارئ المبتدئ الذي يريد أن يقتفي أستاذه ليصل إلى درجات العلم ويرتقي، إذ هو يقع ضحيّة هذه التناقضات البديهيّة.

٧ ـ من الأمور التي يلتزم بها المؤلّف متأثّراً بالمستشرقين أنّ الخبر كلّما كان قصيراً، أو كلّما كان فيه غموض وتشويش فهو أقرب إلى الصحّة، فإنّه يؤيّد خبراً ورد عند ابن إسحاق عن أوائل الدعوة وأوائل المؤمنين ويقول بعده: «ولعلّ هذا أقرب إلى الصحّة؛ بسبب غموضه ذاته وثغراته، وقد وشّحته السير فيما بعد بتفاصيل مختلقة»[2].

وفي معرض كلامه عن تاريخ قصيّ رضي‌الله‌عنها جدّ النب صلى‌الله‌عليه‌وآله، يقول: «بما أنّ لدينا روايتين عن قصي، إحداهما مطوّلة ومليئة بالخرافات، وأُخرى مقتضبة وأكثر واقعيّة، فسنعتمد على الثانية»[3].

ويقول في قصّة الوفود إلى المدينة: «إنّ رواية ابن سعد كما رواها عن الوفود ليست معقولة، ورواية ابن إسحاق وبالأخصّ رواية الطبري أقصر ومقبولة أكثر»[4].

(99)

هذه الطريقة في التعاطي مع الخبر غير صحيحة؛ إذ لم يعطنا المؤلّف دليلاً على ذلك، وهو مجرد تخمين واحتمال ليس أكثر، والعقل كما يحتمل الاختلاق في الرواية المطوّلة، كذلك يحتمل أيضاً الاختلاق في القصيرة، وعليه تبقى الأمور مجرّد تخمينات من دون الاعتماد على دليل عقلي أو علمي رصين. بل على العكس ربّما يكون الخبر المنتظم هو الصحيح؛ لأنّه يكشف عن حدث جسيم اهتمّت ذاكرة المسلمين بحفظه ومتابعته كما هو الحال في النصّ القرآني مثلاً.

٨ ـ إنّ المؤلّف ينسب كثيراً من الأخبار والأحداث إلى أنّها من وضع الخيال الديني أو الإسلامي؛ إذ لا تتماشى مع منهجه ومع خلفيّاته الذهنيّة، وحريّ بنا أن ننسب بعض ما توصّل إليه من نتائج وتحليلات مخالفة لصريح النصوص بأنّها ناتجة من مخياله العلماني المعتمد على أسس ومناهج علمانيّة، وبالتالي فهي غير مقبولة.

٩ ـ إنّ المؤلّف يعترف بأنّ معطيات التاريخ والحقيقة التاريخيّة نسبيّة، وأنّ الدرس التاريخي لا يعطي سببيّة صارمة[1].

وإنّ حقائق العلم نسبيّة ودقيقة[2]. رغم هذا، فإنّه عندما يطرح آراءه، يطرحها كأنّها حقائق ثابتة، وعندما ينكر بعض الأحداث، ينكرها تماماً، فهو يعتمد على المطلقيّة في مقام العمل، وإن أنكرها في مقام النظر.

١٠ـ إنّ اعتماد المؤلّف على منهجيّة التاريخ المقارن، لا ضير

(100)

فيه طالما يهدف إلى دراسة الأديان أو الأحداث للوقوف على موارد التشابه والاختلاف، غير أنّ الخطأ في مدّ الجسور أكثر من هذا، وجعل ظهور الإسلام -مثلاً- وأحكام القرآن وقوانينه متأثّرة بما قبله، مع إلغاء فكرة ألوهيّة المنشأ، فأدنى شبه في مكان يحسب على أنّه من تأثيرات قديمة. وهذا ما وقع فيه المؤلّف، وسنتطرّق إليه في مباحث السيرة.

١١ ـ وأخيراً، إنّ هذه المناهج إنّما هي مناهج بشريّة تخطئ وتصيب، جاءت لتلبية حوائج الناس العلميّة المادّيّة، وهي نافعة بحدّ ذاتها إذا استخدمت استخداماً صحيحاً، ولم يتوقّع منها أكثر من حجمها، كما أنّ المناهج مهما كانت مهمّة وصحيحة غير أنّها غير مطلقة، لذا أصبحت متعدّدة ومختلفة، وبين الحين والآخر نواجه ولادة منهج جديد.

الأمر المهمّ في استخدام المناهج هو رعاية المحتوى المدروس ومناخه العام، فهي غاية ما بوسعها دراسة المناخ الذي ولدت فيه، أي المناخ المادّي، أمّا إذا تعلّق الأمر بما وراء المادّة، فهنا تقف هذه المناهج مكتوفة الأيدي؛ إذ لم توضع لذلك المناخ ولم يمكنها أن تفكك رموز الملكوت وتحلّلها، فهنا نحتاج إلى مناهج أُخرى لها القدرة على ملامسة الغيب.

وعليه، فالهفوات الكثيرة التي يقع فيها الباحثون العلمانيّون، هو عدم لحاظ هذا الجانب، وهو محاولة فكّ رموز الكون بأدوات غير صالحة، لذا يقعون في التناقض والنسبيّة وإصدار أحكام مجازفة للواقع، بينما ولوج الأمور بأدواتها الصحيحة لم يحدث أيّ إرباك وتناقض.

(101)

وهشام جعيط نفسه يعترف بأنّ «الطريقة التاريخيّة الصرف المستخدمة كوسيلة للبحث الحيادي في دراسة الإسلام، قد تصل حتى إلى هدم الإيمان»[1]. فبعد هذا لماذا التمسّك بهذا المنهج وهذه الطريقة؟!

حصيلة الفصل الأوّل:

تطرّقنا في هذا الفصل إلى المؤثّرات المعرفيّة وغير المعرفيّة التي صاغت منظومة هشام جعيط الفكريّة، وأنتجت مشروعه الإصلاحي ـ على حدّ زعمه ـ وحاكت ما قاله في محاوراته وما كتبه في كتبه وبحوثه، وما تأمّله في مخيلته.

إنّ مشروع هشام جعيط الإصلاحي يتلخّص في العلمانيّة الشاملة أو المفتوحة بحسب تعبيره، فمن يقرأ مختلف كتبه وما تركه من تنظير متنوع حول القرآن الكريم، والسيرة النبويّة، والإصلاح والتجديد، والنظرة إلى الدين، يرى خيوط العلمانيّة في جميعها بوضوح، فمشروعه مشروع علماني بامتياز مع محاولات فاشلة لاصطباغه بصبغة إسلاميّة.

إنّه يذهب إلى علمنة القرآن من خلال القول بوجود تناقضات فيه، وأنّه يخالف العلم في موارد، وأنّه ينفي اللاعقلانيّة ويقصد الأمور الغيبيّة التي يسمّيها بالخرافات والأساطير، ويفسّره تفسيراً تاريخياً، وإن حاول أن يحافظ على قدسيّته وأنّه وحي إلهي وأنه كلام الله تعالى، غير أنّ ما يصوغه من آراء ونظريات حوله يخرجه عن القدسيّة ليدخل في البحر العلماني.

وكذلك يعلمن السيرة النبويّة والبعثة والرسالة من خلال نظرته التاريخيّة

(102)

إليها، وربط ما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالديانات السابقة، ومن نفي المعجزة وما هو غير عقلاني بحسب زعمه.

كما يذهب إلى علمنة التشريع وأنسنته والقول بأنّ بعض الأحكام تخالف قيم الحداثة، وأنّها كانت في زمانها معقولة، أمّا الآن فلا بدّ من تشريعٍ متوافقٍ مع قيم الحداثة.

وكذلك، يذهب إلى علمنة الأخلاق ليفسح المجال إلى الإباحيّة والمجون تحت الأخلاقيّات الجديدة المتوافقة مع روح الحداثة.

وأخيراً، علمنة الدولة وفسح المجال للتعدّديّة الايديولوجيّة، والدينيّة، وأكثر من ذلك فتح المجال لتفشّي الإلحاد وعدم القيام بأيّ عمل توجيهي إرشادي.

وسنشرح مشروع جعيط في فصول هذه الدراسة، ونحاول تلخيص أهمّ آرائه من خلال ما قاله وما كتبه، كما نقوم بتسجيل بعض الملاحظات النقديّة حولها.

 

(103)
(104)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

هشام جعيط والقرآن

(105)

الفصل الثاني: هشام جعيط والقرآن

لقد تطرّق هشام جعيط إلى القرآن الكريم بشكل عرضي وعلى هامش السيرة النبويّة، حيث حاول تقديم دراسة عن السيرة بالاعتماد على القرآن الكريم، محاولة منه لدمج المنهج النقلي بالمنهج التاريخي المادّي، كما سيأتي في الفصل القادم المخصّص لدراسة السيرة النبويّة.

إنّ المقاربة التي يقدّمها جعيط بخصوص القرآن الكريم، مقاربة علمانيّة ترنو إلى علمنة القرآن وعلمنة فهمه وتفسيره وتأويله، من خلال إخضاعه للمناهج المادّيّة البشريّة، وتفسيره على ضوئها، فلذا نرى أنّ النتائج التي يتوصّل إليها لا تختلف عن نتائج باقي العلمانيّين، وعليه سنتطرق وبشكل مقتضب إلى ما ذكره جعيط حول القرآن ضمن المباحث الآتية:

(106)

المبحث الأوّل: الموقف من القرآن

لم يتبيّن موقف جعيط من القرآن بشكل واضح، بل إنّه أقرب ما يكون إلى التناقض؛ إذ أوّل مَعْلَم لتناقضه وأوضحه؛ الاعتراف بقدسيّة القرآن وإدراجه ضمن النصوص المقدّسة من جهة، وإخضاعه للمنهج التاريخي المادّي الذي لا يرى قدسيّة لشيء من جهة ثانية.

ومن هنا، يتراودنا الشكّ في موقف هشام من القرآن، هل أنّه يعتقد بألوهيّة القرآن، أو أنّه يتعامل معه كظاهرة تاريخيّة تحقّقت في زمان ومكان معيّنين حالها حال سائر الظواهر التاريخيّة والاجتماعيّة؟!

وبعبارة أُخرى: في الصراع الذي أوجدته الحداثة «بين العقلانيّة والتاريخيّة التي تضع الدين في مجرى التاريخ، وبين مطلقيّة الدين والمعتقد كحقيقة فوق التاريخ أي كحقيقة لا زمنية»[1] مع من يكون الحقّ؟ وما هو موقف جعيط هنا؟!

لو فحصنا وتتبّعنا كلمات جعيط حول القرآن، لوقفنا على كلمات وجمل تبجيليّة كثيرة، ترفع القرآن إلى الأعلى وتضعه ضمن الكتب المقدّسة، فنراه يقول: «وحده القرآن جمع بين دقّة التعبير، والكلمة المثيرة، والعمق الكوسمي، والوضوح الكامل البيّن، وهذا هو من أهمّ خصائصه»[2].

أو قوله: «القرآن أساسي في الإسلام، إذ به أقيمت من جديد العلاقة بين الله و الإنسان... وإذا لم يكن القرآن تجسيداً لله وإنّما كلامه أو

(107)

كلمته فهو الأثر الإلهي الذي انطبع في الصيرورة الإنسانيّة»[1].

ولكن، بما أنّ الكلام يفسّر بعضه بعضاً، وأنّ المنظومة المعرفيّة التي يسبح فيها كلّ مؤلّف تفسّر إطاره الفكري العامّ، وتفرض نفسها على مساره المعرفي ومنهجه العلمي، وبما أنّ منهج جعيط ومشروعه هو «العلمانيّة المفتوحة» لا يمكننا الركون إلى تلك الكلمات؛ إذ نرى في مجالات وكلمات أُخرى يفصح عن مكنونه وعن منهجه، ويقول: «نحن كعلماء نتبع ما يقوله كلّ دين عن نفسه: القرآن هو كتاب الله المقدّس لدى المسلمين، يقول إنّه وحي من الله وكلام الله، وإنّ محمداً رسول الله أنزل عليه هذا القرآن»[2].

فهو هنا، يفرّق بين المنهج العلمي والمنهج الإيماني، ليتمسّك بالأوّل دون الثاني، إنّ جعيط في هذا المنهج يتّبع علماء الغرب، حيث يذكر أنّ العقلانيّين منهم اعتبروا الأنبياء مبدعي الأديان، وتمسّكوا بما قالوا كظاهرة حدثت في الواقع مع قطع النظر عن بعدها الميتافيزيقي، إذ يقول: «أتت فترة في القرن العشرين تبلورت فيها العلوم الإنسانيّة، فاعتبر الوحي التكشّف ظاهرة فعليّة وتجربة دينيّة لا ريب فيها، هناك رجال دين تلقّوا وحياً، وهناك كتب موحاة في مكان وبكلّ شكل من الأشكال، وليس علينا أن نشكّك فيما قالوه، أو أن ندخل في مشاكل ميتافيزيقيّة ولاهوتيّة، هذا هو الوضع الحالي في التفكير، يبقى أنّ الوحي ظاهرة دينيّة فحسب معطاة من التاريخ، والعقلانيّون لا يؤمنون بواقعيّته الفعليّة: هذا شأن المؤمن وليس

(108)

شأن العالم أو الفيلسوف... حقيقة الدين روحانيّة وتاريخيّة وسوسيولوجيّة ونقف هنا»[1].

فالمؤلّف هنا يسلك سبيل العلم بزعمه، ويجعل تقابلاً وهميّاً بين العلم والدين، وعليه لا يمكنه أن يجزم بألوهيّة القرآن كحقيقة علميّة، لذا عندما يتحدّث عن التأثيرات المسيحيّة على القرآن ـ كما سيأتي ـ يجعل هذا التأثير والتأثّر من لوازم البحث العلمي، إذ يقول: «وإلّا عاد محمد غير ممكن في بلده وفي زمانه، أو وجب على المؤرّخ الإذعان والإقرار بألوهيّة القرآن مبدئيّاً ونهائيّاً والتوقّف عن كلّ بحث»[2].

نحن نعتقد بإمكانيّة البحث التاريخي من جهة، والاعتقاد بكون القرآن من عند الله تعالى مباشرة، من دون حدوث أيّ تأثير وتأثّر مزعوم إلّا في سياق وحدة الأديان التوحيديّة في المنشأ.

«فبدلاً من أن يتوجّه هشام جعيط نحو قراءة تقيم وقفاً أو جسراً حقيقيّاً بين الإيمان والتاريخ، بين النبوّة في التاريخ والنبوّة في الإيمان، فصل بينهما مُلحّاً على التاريخيّة محاولاً استبعاد الإيمانيّة، والحال أنّنا نرى اليوم في الغرب ذاته عودة القراءة الإيمانيّة للمسيحيّة»[3].

ولكن، هشام جعيط إذ لا يريد أن يلتزم بهذا، يقع في حيرة وشكّ من أمره، لذا نراه يكرّر دائماً ثنائيّة: (سواء كان من الله أو من النبي) فنراه يقول:

(109)

«وسواء أكان [القرآن] من الله أو من لدنه»[1] «سواء كان القرآن كلام الله المنزل على محمد ـ كما هو المعتقد الإسلامي ـ أو كلام النبي معتقداً أنّه موحى به إليه»[2].

وهناك كلام أخطر من هذا، إذ يُفهم منه انتساب القرآن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، إذ يقول: «ولعلّ الرفض القرشي هو الذي حدا بالنبي أن يعمّق فكره، ويدخل في ذاته ليستخرج أقوى صور الخيال الديني عبر الأعراف والرعد والأنعام ويوسف وإبراهيم»[3].

وإذا كان الأمر هكذا، فمن الطبيعي أن ينسب هشام جعيط ما ورد في القرآن من ذكر للملائكة وإبليس وجنوده من الشياطين والجنّ إلى أنّها مقتبسة «من الخرافات المحلّيّة». أو أنّ ما ورد في القرآن يخالف العلم، كما يقول: «نجد في القرآن تصوّراً معيّناً للجنين البشري قد لا يقبله العلم، ونظرة للكون المادّي قابلة للتأويل بحيث لا تتضارب مبدئيّاً مع العلم، لكن تتداخل فيها عناصر توراتيّة هي بدورها متأثّرة بالكوسمولوجيا البابليّة القديمة»[4].

وهكذا، يصبح عند جعيط: «التصوّر الإسلامي المجمع عليه لتنزيل القرآن تحدٍّ حقيقي للعقل التاريخي النقدي والفلسفي»[5].

(110)

ومن هذا المنطلق، وبهذه الأسس سيوصف القرآن، بل كلّ الأديان باحتوائها على تناقضات: «إنّ احتواء القرآن على قانون وأخلاقيّة وحتى على تناقضات، أكسبه تأثيراً عظيماً ومعنى مطلقاً، فالتناقضات موجودة في كلّ الأديان الكبرى، وهي التي تجعلها تجيب على كلّ تساؤل، وتتجه إلى كلّ الأفراد والجماعات بتعدّد حاجاتهم ورؤاهم، ومع تناقض عقولهم وأهوائهم»[1].

ويلاحظ على ما ذكره جعيط في موقفه العلماني من القرآن، أمور:

١ـ إنّه يدّعي التزامه بما يحكي كلّ دين عن نفسه، فهل ذكر القرآن أو الرسول أنّ في القرآن تناقض؟! أو أنّه تاريخي ينتمي إلى عمليّة تطوّر وتكامل اجتماعية تاريخيّة وضعيّة كما يدّعيه جعيط؟!

٢ـ إنّ القرآن الكريم يتحدّث بخلاف ما يزعمه جعيط، إذ ورد فيه: (فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [2] حيث ينفي القرآن بصراحة عن نفسه الاختلاف والتناقض، وينسبه إلى أنّه إلهي المنشأ ولا تناقض واختلاف فيما منشأه الله تعالى.

٣ـ إنّ التناقض دليل على الفشل وعدم الاستحكام، والعقل يستدلّ على بطلان النظريّات عندما يجد فيها تناقضاً، فكيف يدّعي جعيط بأنّ التناقض ألبس القرآن أثراً عظيماً ومعنى مطلقاً؟!

(111)

٤ ـ نحن نتفق مع جعيط بأنّ الأديان جاءت لمخاطبة كافّة الناس على اختلافهم وتناقضاتهم، ولكن هذا لا يعني احتوائها على تناقض أيضاً، بل هي ميزان يزن الإنسان نفسه بها ليقوم بتقويم ما يجده في نفسه من اعوجاج وباطل؛ إذ الدين ميزان الحق والباطل. نعم، إنّ النظرة التاريخيّة التي تجعل الدين من إفرازات المجتمع، وتنفي عنه المنشأ الألوهي، فحريّ بها أن تجعل الدين متناقضاً طالما منشؤه متناقض -أيضاً- وهذا شأن الأديان الوضعيّة لا الإلهيّة[1].

(112)

المبحث الثاني: التأثيرات المسيحيّة واليهوديّة على القرآن

لقد كثر الجدل الديني منذ زمن بعيد بين المسلمين وأصحاب الديانات الأُخرى حول مسألة التأثيرات المسيحيّة واليهوديّة على القرآن، هذا الجدل الذي يضرب بجذوره إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد انعكس في القرآن الكريم أيضاً: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [1].

وقد استمر هذا الجدل الديني إلى يومنا الحاضر، وتبنّاه المستشرقون بالتفصيل في كتبهم ودراساتهم، غير أنّ الرهبان والأحبار عندما اتهموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن بذلك، كان منطلقهم صحّة الدين المسيحي واليهودي وأُلوهيّته، وأنّ الدعوة النبويّة ليست إلّا هرطقة خرجت من رحم المسيحيّة، وانتحلت القرآن بتأثير منها، لكن المنهج الاستشراقي الجديد وإن توصّل إلى نفس النتائج، غير أنّه اعتمد على المناهج العلميّة الجديدة سيّما المنهج التاريخي الذي يفسّر كلّ الظواهر ضمن ظروفها الاجتماعيّة والزمانيّة والمكانيّة. ولا يعتقد بألوهيّة الأديان بل يراها صنيعة المجتمع والظرف الزمكاني الخاصّ.

وهشام جعيط في مسيرته العلمانيّة وجد هذه المناهج خير مُعين ومَعين للوصول إلى أهدافه، فتمسّك بها بل وقد تجاوزها ـ كما سنرى ـ إنّه يقول: «فبالنسبة للمسلم، الإله هو مصدر الجميع الكتاب كلّه، المؤلّف واحد ومصدر الإيحاء واحد، وبالنسبة للمؤرّخ الذي يبقى على

(113)

مستوى النصوص والزمن التاريخي، التأثيرات أمر مقبول»[1].

ويضيف قائلاً: «بالنسبة للمؤرّخ الموضوعي، لا يمكن الانفلات من إقرار هذا التأثير، وهو ليس بالتأثير السطحي، وإنّما العميق والمستبطن بقوّة، وإلّا عاد محمد غير ممكن في بلده وفي زمانه، أو وجب على المؤرّخ الإذعان والإقرار بألوهيّة القرآن مبدئيّاً ونهائيّاً والتوقّف عن كلّ بحث»[2].

إنّ المشكلة تكمن عند هشام هنا، حيث يزعم أنّ الاعتراف بعدم التأثير يعني سدّ باب البحث، أو عدم إمكانيّة ظهور الدعوة النبويّة، هذا هو بيت القصيد، وقد قلنا سابقاً: إنّ هذه المناهج صالحة للبحث في الظواهر المادّيّة البحتة، أمّا إذا اعترفنا بوجود ظواهر غير مادّيّة ـ وواقعيّة بالوقت نفسه ـ لا يمكننا إخضاع هذه الظواهر لهذه المناهج؛ إذ سنقع في تناقض عميق، إذ إنّها تستدعي إمّا أن نكون مادّيّين تماماً لا نعترف بأيّ غيب وما ورائي وندخل في العدميّة والإلحاد، وإمّا أن نتركها ونذعن بعدم كفايتها في الخوض خارج نطاق حدودها، وإمّا أن نريد الجمع بينهما. كما هو الحال عند جعيط فهو أمر محال ومتناقض، لا ينتج سوى الحيرة والإرباك وإثبات شيء ثمّ نفيه، كما نراه بكثرة عند مؤرّخنا التونسي.

ثمّ إنّه قد اختلفت أقوال المستشرقين حول هذه التأثيرات سعة وضيقاً، هل إنّها تأثيرات عامّة أم تشمل بعض الموارد فقط؟ هل إنّها تأثيرات مسيحيّة أو لغير المسيحيّة -أيضاً- قسط من التأثير؟! هل اقتصرت التأثيرات على الفترة المكّيّة أم استمرّت حتى في الفترة المدينيّة؟!

(114)

ومؤرّخنا التونسي قد أخذ اليد العليا، وجمع بين كلّ هذه الشبهات ليصل إلى نظرة شموليّة عامّة في التأثير، ويرى أنّها ليست سطحية بل عميقة ومستبطنة بقوّة، وعند مراجعة ما كتبه جعيط تحت مبحث (مشكلة التأثيرات المسيحيّة) نراه يسوق عدّة أدلّة لتمرير مدّعاه، نوردها فيما يلي -وإن لم يذكرها جعيط- بشكل نقاط وعلى وتيرة منتظمة:

الدليل الأوّل: الدليل الأوّل الذي يفتتح به هشام جعيط مبحثه هذا وجود المسيحيّة واليهوديّة وانتشارهما في شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ قريشاً احتكّت بهذه الديانات من خلال التجارة، يقول جعيط بهذا الصدد: «المهم هنا وجود مسيحيّة عربيّة في الشمال والجنوب ويهوديّة متعرّبة أيضاً، وللمسيحيّة جاذبيّة أكبر بكثير؛ لأنّها دين عالمي منفتح... المسيحيّة تزن إذن بوزن كبير على المنطقة، في الشمال والمشرق والجنوب بشكليها اليعقوبي والنسطوري، هي محاصرة للجزيرة العربيّة والحجاز خاصّة، ثمّ إنّها جذّابة للنفس البشريّة بقيمها الأخلاقيّة وبفضل سلوكات الرهبان وأصحاب الصوامع... وفي هذا المحيط ظهر محمد، وقد كان من الصعب عليه أن لا يتأثّر بالمسيحيّة مبدئيّاً لكن الخيار كان عربيّاً»[1].

ويعيد تأكيده بعد عدّة صفحات، قائلاً: «إنّ المسيحيّة كانت طاغية في الشرق الأوسط في تلك الفترة وقبل ذلك من زمن قسطنطين وحتى من قبل. ومن المستحيل على أيّ مبدع ديني جدّي وذي قيمة أن يتجاهلها»[2] وهذا ما يسمّيه بالواقع التاريخي[3].

(115)

الدليل الثاني: هو ما ذكرناه قبل قليل، وهو اعتماده في كتابة السيرة وفهم القرآن على المنهج التاريخي الوضعي المادّي، الذي يبحث عن جذور الحدث في بعدها المادّي وألّا ينكرها، فبما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ظهر فلا بدّ من أن يكون سبباً مادّيّاً لظهوره و لما أتى به، وهذا السبب المادّي هو الديانات السابقة عليه، حيث استقى منها وتأثّر بها: «ومن دون المسيحيّة الشرقيّة ـ السوريّة لم يكن ليظهر محمد، وإلّا فلا نرى كمؤرّخين حلًّا للإشكال»[1].

الدليل الثالث: استشهاده بالمستشرقين الذين منهم أتت هذه الفكرة، إذ يقول: «إنّ أهمّ المؤرّخين من مثل فلهاوزن وتور أندري يقرّرون قوّة التأثير المسيحي، وهم محقّون في ذلك»[2].

ومن بين المستشرقين الذين يعتمد عليهم جعيط كثيراً، تور أندري وكتابه «أصول الإسلام والمسيحيّة» حيث «درس فيه عن كثب الموافقات الكبيرة بين المسيحيّة السوريّة وبين القرآن الأوّلي... وكتابه دقيق جدّاً لمعرفة الرجل بهذه المسيحيّة السوريّة، ولمعرفته الجيّدة بالقرآن أيضاً»[3]، ويضيف قائلاً: «وكتابه المهم الذي اقتبسنا منه الكثير لتقديمه للجمهور العربي»[4].

ويمكن تقسيم ما نقله من أندري ضمن النقاط الآتية:

(116)
١ ـ التأثير الاسكاتولوجي:

يرى هشام جعيط أنّ كتاب أندري يقتصر على التأثيرات الاسكاتولوجية الخاصّة باليوم الآخر والحياة الأُخرى: «إلّا أنّ الكتاب لا يتجاوز الغرض الاسكاتولوجي، وبما أنّ هذا الغرض أتى في أوائل الدعوة حيث أطنب القرآن فيه، فالمدروس هنا هو الجذور الأولى للقرآن والأفكار الأوّليّة، وليس كلّ القرآن ولا كلّ الإسلام»[1].

وهذا ما لا يرضي نهم جعيط بل يرى: «أنّ التأثيرات المسيحيّة موجودة في مواقع أُخرى»[2] وكأنّه يعترض على أندري؛ لاقتصاره على هذه الفترة.

٢ ـ الكنيسة السوريّة:

يرى جعيط تبعاً لتور أندري أنّ الكنيسة السوريّة احتفظت بعناصر مهمّة من المسيحيّة الأوّليّة خلافاً للكنيسة القبطيّة[3]، والمسيحيّة السوريّة هذه كان لها الحظ الأكبر في التأثير على القرآن[4].

ويقول أيضاً: «كمؤرّخين يجب أن نقرّ بتأثير المسيحيّة السوريّة على اسكاتولوجيا القرآن، وعلى قسط وافر من الأفكار والتعابير، وأنّ القرآن كنصّ من القرن السابع الميلادي، ووثيقة من هذه الفترة، قد أخذ من موروثها ببراعة فائقة»[5].

(117)

غير أنّه يقول في مكان آخر: «إنّ تأثير الكنيسة السوريّة يقف عند حدّ الإعلان عن اليوم الآخر، ولا يتجاوز توصيف الجنّة في بعض النواحي»[1].

٣ ـ تأثير الأب إفرائيم:

إنّ الأب إفرائيم من آباء الكنسية السوريّة، وقد خلّف آثاراً باليونانيّة والسريانيّة[2]. وأورد أندري ما ذكره إفرائيم وما ورد في القرآن الأوّلي وقام بتحليل هذه المقاربات[3]، ويرى جعيط أنّ في آرائه أكثر من قاسم مشترك مع القرآن، بل التشابهات كبيرة إلى درجة أنّه يصعب على المؤرّخ أن يعتبر أنّها من محض الصدفة، أو حتى أنّ هذه الأفكار أخذت بصفة شفويّة عن رهبان متجوّلين سواء في عكاظ أو في اليمن كما يرى ذلك تور أندري؛ ذلك أنّ التشابهات ليست فقط في الفكر بل في التعابير والصور والاستعارات[4].

ثمّ يذكر جعيط شواهد من تلك التشابهات، من قبيل: علامات الساعة، والنفختان في الصور، غفلة البشر عن الساعة وغيرها من الموارد.

٤ ـ المعجم السرياني:

يرى هشام جعيط خلافاً لأندري بوجود تأثيرات كتابيّة على القرآن من خلال المسيحيّة السوريّة، وكشاهد على ذلك يقول: «ومن الأدلّة أنّ

(118)

المعجم الديني السرياني دخل في لغة القرآن أكثر بكثير من المعجم العبري أو حتى الإثيوبي، وهذا المعجم موجود أيضاً»[1].

ثمّ يستشهد بكلمات، من قبيل: صلوات، سبحانك، تباركت وغيرها، حيث يعتقد «أنّ القرآن هو الذي عرّبها وأدخلها في لغته، كما عرّب أسماء شعوب قديمة وأنبياء قدامى»[2] وهذا هو الأقرب عنده، وإن كان يحتمل -أيضاً- أنّ القرآن هو أوّل من استعملها، ويرى أنّه أمر ممكن.

٥ ـ تأثيرات غير سوريّة:

يرى جعيط أنّ التأثيرات على القرآن، لا تقتصر على المسيحيّة السوريّة وهو يتجاوز أندري، ليقول: «لكن التأثيرات المسيحيّة لا تتوقّف هنا، فالإحالات على التراث المسيحي من كلّ حدب وصوب كثيرة جدّاً: الأناجيل، كتابات الرسل، الأناجيل المزيّفة وهي متعدّدة، وكانت تتجوّل بكثرة في تلك الفترة، بل حتى آثار آباء الكنيسة»[3].

ثمّ يذكر عدّة نماذج لذلك، من قبيل: صعوبة دخول الغني للملكوت، حجج الخلق والبعث، بعض قصص الأنبياء، عالم الذرّ وتكليم الله لهم، نِعَم الله تعالى وغيرها؛ ودليله في ذلك أنّه لا يمكن نفيها تاريخيّاً: «أن يكون محمد اطّلع على هذه الأدبيّات وعلى غيرها، فهذا أمر يصعب نفيه تاريخيّاً»[4].

(119)
٦ ـ التأثيرات اليهوديّة:

لم يكتفِ جعيط في مدار التأثيرات؛ على التأثيرات المسيحيّة كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين، بل يتوسّع ليدخل اليهوديّة أيضاً، وإن يرى أنّ التأثيرات المسيحيّة أكثر[1].

أمّا عن كيفيّة التلقّي لها فيتبع رؤية أندري، حيث يذهب إلى أنّ التصوّر القرآني للجنة مأخوذ من المسيحيّة الشعبيّة، المتأثّرة بدورها من التصوّرات اليهوديّة لعهد المسيح اليهودي على هذه الأرض[2].

كما ينقل عن أندري أنّ العناصر اليهوديّة «الهجّادية» الموجودة في القرآن وغيرها، إنّما احتازته من قبل الكنيسة السوريّة، فمّرت عن طريقها إلى القرآن. ويذكر أمثلة كثيرة على ذلك، من قبيل: قصّة آدم ونوح، ونسب آل عمران: موسى وهارون، قصّة الإسكندر وأهل الكهف وغيرها [3].

ومن الطريف ما ينهي به جعيط كلامه حول مبحث (التأثيرات)، حيث يقول: «لكن القرآن يستعمل هذا التراث من دون أن يخضع له، فهو يتخيّر ويعدّل ويبتعد عنه أحياناً عن عمد ليأتي برؤيته الخاصّة... هو تركيبي ومجدّد»[4] أو قوله: «علماً بأنّ القرآن إذ أخذ من هذا المعين تجاوزها ليأتي بتركيب جادّ وجديد»[5].

(120)

ويلاحظ على ما ذكره جعيط في هذا المبحث أمور:

١ـ إنّ التناقضات التي يقع فيها مؤرّخنا التونسي لا مناص منها ولا خلاص؛ إذ هو يريد أن يجمع بين منهجين متنافرين، المنهج الإسلامي، والمنهج التاريخي المادّي، ومن تناقضاته ما وقع فيه هنا في مبحث التأثيرات؛ وذلك أنّ المؤلّف في الجزء الأوّل من كتابه حول السيرة تطرّق إلى الوحي ونزوله وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تلقّاه من جبرائيل، واستشهد بسورة النجم، وسورة النجم هذه تؤكّد على أنّ الوحي مصدره الله تعالى جملة وتفصيلاً، في قوله تعالى:  (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى)[1].

فالمؤلّف يعترف صريحاً هناك بأنّ مصدر القرآن هو الوحي الإلهي، وهذا الوحي استمرّ طيلة حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فكيف يأتي هنا في الجزء الثاني ويلتزم بتأثيرات غير موحى بها من الله تعالى، بل مقتبسة من كتب منحولة أو محرّفة أو حتى ثقافة شعبيّة أو خرافات محلّيّة[2]؟! أليس هذا تناقضاً في الموقف؟!

٢ـ إنّ المؤلّف يدّعي بصراحة بأنّه يلتزم بما يقوله كلّ دين عن نفسه، فالقرآن هو كتاب الله المقدّس، وأنّه وحي من الله وكلام الله[3]. فهل قال القرآن بأنّه متأثر في خطابه بالمسيحيّة أو اليهوديّة أو غيرهما؟!

٣ـ ربّما يناقشنا جعيط ويقول بأنّي أقصد أنّ القرآن متأثّر بالوحي الإلهي

(121)

السابق أي ما أوحاه الله إلى موسى وعيسى، والقرآن هو تعريب لذلك، كما رأينا تصريحه بالتعريف قبل قليل، فحينئذٍ لا تناقض في قوله.

ولكن، يرد عليه: بأنّه ـ وبحسب منطقه ومقدّماته ـ بأنّ القرآن ليس متأثراً بالتوراة والإنجيل الرسمي فحسب، بل هو متأثّر حتى بالأناجيل المنحولة المتّفق على عدم كونها وحياً، وكذلك التأثير بالمسيحيّة الشعبيّة، وكذلك التأثير بالخرافات المحلّيّة[1]، فأيّ وحي هذا يا ترى؟!

٤ـ نحن كمسلمين نعتقد أنّ الشرائع الإلهيّة «منحدرة عن أصل واحد ومنبعثة من منهل عذب فارد، تهدف جميعاً إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، والإخلاص في العمل الصالح، والتحلّي بمكارم الأخلاق، من غير اختلاف في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [2]»[3].

فنحن نعتقد أنّ التشابهات الموجودة جاءت بسبب وحدة المنشأ الذي هو العليّ القدير، ومن الغريب أنّ هشام جعيط يذعن بنفسه أنّ رؤية المسلم هو مصدريّة الله تعالى للقرآن ولسائر الكتب السماويّة[4]، كما يعترف أيضاً بأنّ: «القرآن نفسه يؤكّد على أنّه جاء مصدّقاً لما أُنزل من قبل من الكتاب الإلهي»[5].

(122)

ثمّ رغم هذا يخالف كلّ ذلك ليبقى وفيّاً للمنهج التاريخي المادّي الصارم، والباحث عن الجذور المادّيّة تاركاً الغيب والماورائيّات خلفه.

٥ـ ورد في القرآن مخاطباً النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِه) [1]. وقوله تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)[2].

حيث تدلّ الآتيان على مواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحدث جديد لم يسبقه ولم يطلّع عليه فيما مضى، ولا خطر بباله ولا فكّر به في نفسه، فلو كان مدعى جعيط وغيره من المستشرقين صحيحاً، لما كان لهذين الآيتين من حاجة؛ إذ إنّ التأثيرات المدّعاة إمّا كانت كتابيّة ومتوفّرة، فالنبي كان يمكنه مراجعتها، وإمّا أن كانت شفويّة، فهي حاضرة في خلده ولا حاجة إلى خشية نسيانها، فالآيتان تدلّان على بطلان مدّعى القوم.

٦ـ من تناقضات جعيط أنّه يجعل المبدعين يتّصلون ولو قليلاً بتأثيرات في ميدانهم، ويقول: «فكبار المصلحين والمبدعين في الدين والفكر يظهرون في غفلة من التاريخ ولكن باتصال ولو قليل بتأثيرات في ميدانهم»[3]، ثمّ يأتي و يجعل التأثيرات كثيرة وعميقة وشاملة وتجاوزت التشابه ووصلت إلى التطابق.

٧ ـ إنّ هشام جعيط يتمسّك بدليل الواقع التاريخي ليثبت مدّعاه، حيث

(123)

إنّ المسيحيّة واليهوديّة كانت منتشرة في الجزيرة العربيّة، وهذا الواقع التاريخي يحتّم التأثير.

فلنا أن نسأله: من أين توصّل إلى «الواقع التاريخي» هذا؟! أهو كشف ظهر له ولم يظهر لغيره، أم أنّه توصّل إليه من خلال كتب السيرة والتاريخ التي لا يُعتمد عليها عند جعيط، وقد نسبها إلى الخيال والدسّ والوضع، كما أنّه يعترف بعدم وجود مصادر غير عربيّة إسلاميّة لتلك الفترة، فسؤالنا عن مصدر هذا «الواقع التاريخي» يبقى دون جواب.

نعم، يمكننا استكشاف الواقع التاريخي من القرآن الكريم، حيث يجعل سلسلة النبوّة في خيط واحد من لدن آدم إلى الخاتم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وهذه السلسلة تبتني على الاصطفاء الإلهي، وليس للبشر دخل فيها: (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ[1]. وهذا الاصطفاء بني على شريعة مستقلّة، كما قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً )[2]، فالشرعة والشريعة شيء واحد [3].

فاختلاف الشريعة بين الأنبياء لا يعني التضارب والتخالف فيما بينها، بل الشريعة هي الطريق إلى المقصد، وهي الطقوس الجزئية، أمّا الكلّيّات المتعلّقة بالمبدأ والمعاد والأنبياء فلا اختلاف ولا تضارب فيها، ولا ضير

(124)

في وجود المتشابهات وحتى التطابق، طالما أنّ المنشأ واحد.

٨ـ أمّا الدليل الثاني الذي يتمسّك به جعيط هو المنهج التاريخي المادّي، حيث يراه يخالف المنهج الإيماني، وكأنّ التمسّك به يتنافى مع المنهج العلمي، وقلنا: إنّ هذه الفكرة باطلة؛ إذ يمكن التمسّك بالمنهج الإيماني وفتح باب التاريخ أيضاً.

٩ ـ الدليل الثالث الذي يتمسّك به جعيط هو ما ذهب إليه المستشرقون، ويعتمد هنا على المستشرق أندري كثيراً، والملفت للنظر والغريب للأمر، أنّ تور أندري أوّلاً لم يتكلّم عن تأثير وإنّما يتكلّم عن تشابه ومقاربة، ولم يجزم بالتأثير، وهذا ما يعترف به جعيط، ولذا يعترض على أندري، قائلاً: «ونحن نلحظ أنّ عالماً مثل تور أندري يحلّل عن كثب القرابة القريبة بين إفرائيم مثلاً والقرآن الأوّلي، لكن لا يجسر أن يقرّ بتأثير واضح مباشر من المسيحيّة الشرقيّة على القرآن، بالنسبة للمؤرّخ الموضوعي، لا يمكن الانفلات من إقرار هذا التأثير»[1].

فهو يسبح على خلاف التيّار ليكون موضوعيّاً بزعمه؟! إنّ أندري الذي مدحه كثيراً لا تسمح له موضوعيّته العلميّة أن يقول بالتأثير المباشر، بل اكتفى بمجرّد التشابه، غير أنّ جعيط يتجاوزه بل يعترض عليه، بل يدلّس ويحرّف منهج كتاب أندري ومحتواه ليجعله لصالحه، وهو عنه بعيد.

١٠ـ وأمر غريب آخر صدر عن مؤرّخنا الموضوعي أيضاً، إنّ أندري يكتفي بالمشابهات على القرآن المكّي الأوّلي، وعلى حدود الغرض

(125)

الاسكاتولوجي الباحث عن الآخرة فحسب، غير أنّ جعيطنا الموضوعي لا يروقه ذلك، فيعترض على أندري قائلاً: «إلّا أنّ الكتاب (أي كتاب أندري) لا يتجاوز الغرض الاسكاتولوجي، وبما أنّ هذا الغرض أتى في أوائل الدعوة حيث أطنب القرآن فيه، فالمدروس هنا هو الجذور الأولى للقرآن، والأفكار الأوّليّة، وليس كلّ القرآن ولا كلّ الإسلام؛ إذ تأثيرات المسيحيّة موجودة في مواقع أُخرى»[1].

فانظر إلى تدليس هذا الرجل، فأندري يحكي عن مقاربة وتشابه تنحصر في الفترة الأولى وفيما يتعلّق بالجنّة والنار، أمّا جعيط الموضوعي لم يرتض ذلك ليجعل الأمر تأثيراً دون تشابه أولاً، وشاملاً عامّاً ثانياً.

١١ ـ والأغرب من الجميع أنّ جعيط ينقل عن أندري بأنّه يشكّك في نقل القرآن المباشر عن إفرائيم، ويحيل التشابهات إلى نماذج دينيّة مقولبة تناقلت في الذهنيّة السامية الدينيّة آنذاك، إذ يقول: «قد يكون أندري محقّاً عندما يعتبر أنّ هذه الرؤى وبُنى التقوى الممزوجة بالخشية لدى إفرائيم وفي القرآن، إنّما هي نماذج دينيّة مقولبة، كليشيهات معبّرة عن مناهج الذهنيّة السامية آنذاك، فينكر أيّ نقل مباشر من القرآن عند إفرائيم»[2] [3].

فجعيط رغم اعترافه بهذا ونقله عن أندري، يصرّ على موقفه في التأثير الشامل.

(126)

١٢ ـ وأخيراً، نحن نأسف أشدّ الأسف على مؤرّخنا التونسي الذي يدّعي الإسلام ديناً، ويبني مشروعه الإصلاحي على استمراريّة الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، أن ينسلخ عن هويّته هكذا، ليصبح مناقشاً للمستشرقين لا دفاعاً عن القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل للاعتراض عليهم بأنّهم لماذا لا يمضون في الطعن على القرآن قدماً؟!!

والأنكى من ذلك، أنّه يصف بعض المستشرقين بقوله إنّهم «إذ اكتشفوا تشابهات كبيرة بين القرآن وبين الأناجيل المنحولة، لا يلحّون على مسألة التأثير بل يمرّون سريعاً عليها لكي لا يجرحوا مشاعر المسلمين»[1].

فأسفي على مؤرخّنا المسلم حيث تجاوز المستشرقين في الطعن على القرآن، وليته اقتدى بهم فمرّ سريعاً ولم يدنّس صفحته بما سطّرته أنامله، ولم يجرح مشاعر المسلمين.

(127)

المبحث الثالث: مباحث قرآنيّة

١ ـ إعجاز القرآن:

إنّ المنهج الذي اتّبعه جعيط في دراسته للسيرة النبويّة، يضطّره إلى عدم الاعتقاد بالإعجاز البلاغي للقرآن؛ إذ إنّه بعد اعتقاده بوجود تأثيرات كثيرة مسيحيّة ويهوديّة على القرآن، لا يسعه القول بأنّ القرآن لفظاً ومعنى من قِبَل الله تعالى، غير أنّه لم يصرّح بذلك.

يقول جعيط بهذا الصدد: «إنّما مرور التجربة التوحيديّة على المسيحيّة في الشرق الأوسط، وكذلك الرفع من قيمة الفصاحة الشكليّة في البيئة العربيّة، واحتياج المسلمين إلى معجزة ضخمة لدعم الحقيقة، كلّ هذا في رأيي ـ وقد أكون على غير صواب ـ رسّخ فكرة ألوهيّة القرآن حتى في اللفظ».

وإلّا فمن «الممكن أن يتساءل أصحاب الاتجاه العقلاني اليوم، هل إنّ الوحي نزل باللفظ، وإذن ما يكون دور النبي هنا؟ فالحجة بالإعجاز غير واردة؛ لأنّها تعبّر عن تصّور مبسّط للشخصيّة الإلهيّة، بمعنى أنّ الله فصيح بدرجة تفوق الإنسان».

ثمّ يطرح سؤالاً استنكاريّاً ليجعل اللفظ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويقول: «ولماذا لا يكون النبي عبقريّاً فذّاً في التعبير، وهو على كلّ حال ذو عبقرية لا تدانى؟»[1].

(128)

فأنت كما ترى أنّه لا يقدّم أيّ دليل لمدّعاه، ويطرح تساؤلات وتشكيكات، فهو إذ يعترف بأنّه ربّما يكون على غير صواب، ممّا يكشف عن عدم وجود أيّ دليل عنده، يصرّ بوجه خفي على إنكار الإعجاز اللفظي للقرآن، علماً بأنّ آيات التحدّي الواردة في القرآن، جاءت على التحدّي اللفظي أوّلاً وقبل كلّ شيء.

أمّا الإيعاز إلى عبقرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله  ، وأنّه لِمَ لا يكون اللفظ منه، فلا ينفع المؤلّف أيضاً؛ إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متعمّداً أن لا يكتب شيئاً أوّلاً، وكذلك ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من حكم وأقوال لا يرقى جميعها إلى مستوى القرآن في البلاغة والفصاحة ثانياً، ممّا يعني أنّ اللفظ من مصدر غيبي آخر، قام بالتحدّي للإتيان بمثله.

ولكن، بما أنّ جعيط اتخذ في بحثه المنهج التاريخي المادّي، لا يسعه أن يقول بالإعجاز القرآني، ومهما كان موقفه من الإعجاز فلا يهمّنا كثيراً طالما يعترف -ولو إجمالاً- بأنّ القرآن وحي من الله تعالى؛ إذ الجدل حول أوجه الإعجاز في القرآن، قديم في التراث الإسلامي، من قائل بالإعجاز البياني والبلاغي، إلى الذاهب نحو نظريّة الصرفة[1].

٢ ـ جمع القرآن:

إنّ التزام المؤلّف بالقرآن لدراسة السيرة بمنهج تاريخي، كان يحتّم عليه الاعتقاد بوجود القرآن مجموعاً بشكله المادّي دون الشفوي زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، لذا يقول: «إنّ إثباته المادّي حصل في مصحف قريب العهد منه، وممثّل

(129)

لما دعا إليه تماماً، ومن المرجّح عندي أنّ الرسول سهر في آخر حياته، أو حتى في كلّ معرض حياته على تنظيمه وهيكلته ومراقبة محتواه، بل إنّ النصّ سجّله هو كتابيّاً من الأصل في مكّة ذاتها، ولم يبق طويلاً في شكله الشفوي، فهو متزامن تماماً مع الرسول حيث لا يمكن ترجيح أنّه أهمل هذا العمل خصوصاً وأنّ القرآن أساس كلّ الدعوة، وصار أساس الصلاة وأساس التشريع»[1].

ثمّ يشكّك في الرواية الرسميّة القائلة بأنّ زيد بن ثابت هو الذي جمعه من جذوع النحل وعظام الإبل، ويستقرب أنّ الرواية إذا كانت صحيحة، فتقتصر على مقارنة ما في صدور الرجال وما في المصحف الموجود بخصوص بعض الآيات ومواقعها.

كما لم يتّخذ موقفاً واضحاً بخصوص توقيفيّة الترتيب القرآني من عدمه، ويكتفي بطرح السؤال ويدعه من دون جواب، ويقول: «ولا ندري فعلاً هل إنّ ترتيب القرآن وعناوين السور كان من عمل النبي ذاته، أو من عمل لجنة عثمان؟»[2].

ومع هذا، فهو يعترف من دون شكّ بأنّ «مصحف عثمان المتبقّي لدينا هو الأفضل والأصحّ والأقدم إن ثبت أن وجدت مصاحف أُخرى: أُبيّ، عبد الله بن مسعود، علي»[3].

ثمّ يذكر أنّ الطبري احتفظ ببعض فقرات هذه المصاحف، ولكن يعتقد

(130)

جعيط على أنّها لا قيمة لها أمام المصحف العثماني، وأنّ ما يذكره الطبري مزيّف في أغلبه وتافه وأنّه من صنع الخيال، لذا يعترض على جيفري ولم يقبل قوله، ويقول: «وهكذا فكلّ ما سجّله جيفري من بدائل مأخوذة عن المصاحف الضائعة عبر الطبري وغيره في الكلمات والآيات، لا يصمد أبداً أمام الفحص ولا يمكن الاعتماد عليه»[1] [2].

ثمّ إنّ هناك شبهة طرحت من بعض المستشرقين، تدّعي أنّ عمليّة تدوين القرآن تمّت في القرن الثاني الهجري، نفياً لبعده الإلهي والنبوي وأنّه جهد بشري قام به المسلمون، وهشام جعيط لم يرتض هذا القول ويناقشه قائلاً:

«لقد شكّك بعض المستشرقين الجدد في أنّ النصّ القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي واعتبروا أنه حُرّر في القرن الثاني هـ/ الثامن م، أو أنّه أعيدت صياغته في الفترة العبّاسيّة. وهذا الزعم المطبوع بالغلوّ في نقد النصوص لا يصمد أمام الفحص لأسباب كثيرة لا تحصى، منها: أنّه تمّ اكتشاف في صنعاء لمصاحف من الفترة الأمويّة لا تبعد عن مصحفنا. وكيف يمكن لدولة إسلاميّة قائمة خصّيصاً على الشرعيّة الدينيّة وشرعيّة القرابة من الرسول أن تبادر أو تقبل بتحرير المرجع الديني الأساسي أو إعادة تحريره، والحال أنّ العرب المسلمين في المدينة ومكّة والكوفة والبصرة يعرفونه على الأقلّ للصلاة. والمساجد مبنيّة ومهيكلة في الكوفة

(131)

منذ زياد، وفي المدينة على الأقلّ منذ الوليد بن عبد الملك، وفي القدس، وقبل ذلك في أماكن استقطاب العرب المسلمين. وكيف نفسّر حركات القُرّاء المُسَيَّسين منذ عثمان وحركة ابن الأشعث وكلّ المنطق التاريخي وتسلسل التاريخ؟

وإذا صحّ فعلاً أنّه ليس لدينا إلّا مصاحف من أواسط القرن الثاني الهجري، وقد أضحى هذا غير صحيح الآن، فلا يعني ذلك شيئاً، فالكتب تُستنسخ جيلاً بعد جيل ويضيع المصحف القديم لفائدة الجديد، ولنا بعدُ آيات قرآنيّة أو قطع منها على نقوش القرن الأول الهجري. وهذا النقدُ يُوجَّه أيضاً إلى عدد من المسلمين المحدّثين الذين يتوقون إلى إيجاد مصحف يرجع إلى زمن عثمان أو محمد بالذات. وكثيراً ما يُنسى أنّ أقدم مخطوط لدينا من العهد القديم هو من القرن التاسع بعد الميلاد. أيعني ذلك أنّ العهد القديم وليد هذا الزمن؟ بل إنّ أقدم الأناجيل حُرّر فقط حوالي سنة ٧٠م. وأحدثُها حوالي سنة ١٠٠م، أي غير بعيد جدّاً عن دعوة المسيح. والحال أنّها تنطوي على عناصر متطوّرة إلى حدّ ما بخصوص ميلاده الإعجازي وانبعاثه بعد الموت. وكلّ ما بُني عليه من أمر المسيح في المعتقد هي حياته التي رفعته إلى منزلة الألوهيّة وليس رسالته الأخلاقيّة على أهمّيّتها.

أمّا بخصوص محمد، فالشأن شأن آخر: هو نبيّ مرسل بكتاب مقدّس، وهو من جهة ثانية رجل نجح في تكوين أمّة وإدخال كلّ الحجاز في دينه وضمن سلطته. ومن الصعب جدّاً بل من المستحيل المسّ بفحوى الكتاب الذي يموضع نفسه ككلام الله بعد قرن أو قرنين دون زلزال قويّ

(132)

لم يُبْقِ لنا التاريخ منه شيئاً. وبعد فللقرآن منطقه ومعجمه الموحّد حتى فيما بين الفترة المكّيّة الأولى والقديمة وبين آخر الفترات المدنيّة. فأسلوبه خاصّ به لا يُقارن بأيّ نصّ من نصوص القرن الثاني سواء في الشعر أو في النثر: الفرزدق وجرير ثمّ أبو نوّاس وأبو مخنف وهشام بن الكلبي وسيرة ابن إسحاق (م. ١٥٠هـ) والحديث مثلاً.

بل إنّ الخطاب القرآني أسّس -إلى حدّ بعيد- اللغة العربيّة وثبّتها وأثراها بتعابيره المجدِّدة للأفكار والبرهنة. صحيح أنّ اللغة وُضعت قواعدها في القرن الثاني نحويّاً وصرفيّاً، وأنّ القرآن في أغلبه يتماشى مع هذه القاعدة، لكنّه ينفلت منها في بعض الأحيان، إذ أُبقي عليه كما هو.

إنّ القرآن إلهي في المعتقد ـ وكلّ حياة النبي إنّما هي كفاح من أجل ترسيخ هذا المعتقد ـ. ومن وجهة المؤرِّخ الموضوعيّة، لا يمكن أن يكون عمل جماعة أو فئة شكلاً ومضموناً؛ لأنّه مطبوع بطابع عبقريّة شخصيّة ملهمة في الفكر والتعبير، في المعاني الميتافيزيقيّة، في قوّة الإيحاء. وهو يحتوي على تعابير من زمانه تطوّر معناها فيما بعد، أَوْ أنّ القرآن أكسبها معنى خاصّاً مبتدعاً، وأكثر من ذلك: إنّ أسلوبه خاصّ به، ليس من الشعر وليس من النثر أو هو الاثنان معاً، فيغلب الطابع الشعري في الأوّل ثمّ الطابع النثري فيما بعد، وإن يبدو في السور القديمة أنّ الجمال الشكلي يغلب عليه، فالمعنى يبقى دقيقاً على الدوام.

وأخيراً، فكيف يكون الخطاب القرآني من القرن الثاني وهو يحمل في طيّاته عناصر قديمة مهمّة من العهد الجاهلي نُسيت فيما بعد وصعب

(133)

تفسيرها. إنّ الرسول محمداً لم تغيّبه الذاكرة كغيره؛ لأنّه كان حاضراً بقوّة في زمنيّته وفي الزمنيّة الصاخبة التي تلت، وقد انغرس الإيمان في المجموعات العربيّة الأولى وتكوّنت أمّة غازية موحَّدة تحت لواء الدين. فكيف يمكن ضرب العنصر الموحِّد في جذوره؟ وكيف لا تُضفى القداسة على النصّ؟ هذا أمر مستحيل في عهد الأمويّين وفي عهد العباسيّين، لا من جهة النخبة الحاكمة، ولا من جهة بُؤرٍ ما في صلب المجتمع. لقد سبق أن اتخذ جاك بيرك نفس هذا الموقف من دون إبراز براهينه وبشيء من الخجل. أمّا موقفنا فهو البتّ في هذه القضيّة دونما تحامل ودونما خجل وبقناعة داخليّة مستندة إلى المنطق وإلى التاريخ»[1]

٣ ـ  المدني والمكّي:

ممّا لا شكّ فيه أنّ الدعوة النبويّة طالت لمدّة ٢٣ سنة تقريباً، ولم ينقطع الوحي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة هذه المدّة، وبما أنّ الدعوة انقسمت إلى قسمين: مكّة والمدينة، فانقسم الوحي بتبعها إلى قسمين أيضاً، فبعض الآيات والسور نزلت في مكّة، وبعضها الآخر نزل في المدينة، وقد اهتمّ علماء الإسلام قديماً ومنذ فترة الصحابة بالمكّي والمدني من القرآن، وأوّل من اهتمّ بذلك بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمير المؤمنين عليه‌السلام، حيث عكف في البيت على جمع القرآن وترتيبه بحسب النزول.

روى الكليني عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام، أنّه قال: «ما ادّعى أحد من

(134)

الناس أنّه جمع القرآن كما أنزل إلّا كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله إلّا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده»[1].

وقال الشيخ المفيد: «وقد جمع أمير المؤمنين المنزل من أوّله إلى آخره، وألّفه بحسب ما وجب من تأليفه، فقدّم المكّي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كلّ شيء منه في محلّه»[2][3].

كما أنّنا نعتقد أنّ ترتيب السور القرآنيّة ليس أمراً توقيفيّاً، ولذا فُتح الباب أمام الصحابة لإعمال الاجتهاد في تقديم السور وترتيبها في المصحف الموجود.

ثمّ إنّ هشام جعيط تبعاً لمنهجه التاريخي في دراسة السيرة والاعتماد على القرآن، يهتمّ بمسألة ترتيب النزول، غير أنّه يتناسى جهد الصحابة وعلماء الإسلام في ذلك، ويعتمد نهائيّاً على أعمال المستشرقين، ويقول: «إنّ أهم شيء أتى به العلم الحديث بخصوص القرآن هو تورخته، وبأيدينا محاولة أساسيّة في هذا الشأن هي محاولة نولدكه في تاريخ القرآن»[4].

وإذا كان سبب اهتمام المسلمين بذلك هو معرفة الناسخ من المنسوخ، ومعرفة الأحداث التاريخيّة والوقوف عليها، فإنّ هدف المستشرقين شيء آخر، ألا وهو إثبات تاريخيّة القرآن وتبعيّته للظروف الزمكانيّة، وإفقاده البعد المعنوي والغيبي.

(135)

ومهما كانت الدواعي والأسباب، فإنّ مؤرّخنا التونسي يتّجه إلى عمل نولدكه وبلاشير لمعرفة السيرة، لذا يرى أنّ القرآن المكّي يحوي بالأساس مضمون الدعوة ذاتها، والأفكار التي امتلأت بها في مراحلها المتعدّدة، كما أنّه أقل انغماساً من القرآن المدني في الأحداث التاريخيّة[1].

يقول جعيط بهذا الصدد: «همّنا هنا هو مسار النبي في تاريخيّته الخاصّة، في وسطه، في زمانه. من أيّ جهة يفيدنا القرآن في هذا المنحى؟ في تاريخ تشكّل العقيدة الإسلاميّة، في هويّة الأغراض الدينيّة والأخلاقيّة، في المعجم المستعمل، في الفئات الاجتماعيّة التي اتّجه إليها القرآن وألبسها لباساً دينيّاً من مؤمنين وكافرين ومشركين وأهل كتاب، كما الماضي التاريخي ـ الديني«[2].

ومن هذا المنطلق، يقوم جعيط بتحليل السيرة، وينكر أحداثاً مشهورة؛ لعدم ورودها في القرآن المكي، كإنكاره الدعوة السرّيّة، الرحلة إلى الطائف، شعب أبي طالب وغيرها من الأمور التي سنبحثها في الفصل القادم.

وبعد ما يذكر جعيط ترتيب نولدكه وبلاشير للسور القرآنية، يقول: «إنّ هذه التورخة للقرآن تعين كثيراً على فهم تطوّر المعاني التي أتت بها الدعوة، وكذلك على فهم تطوّر فعاليّات الدعوة ذاتها في مكّة، وكيف حصل تلقّيها وقبولها... الدعوة في مكّة متمحورة بالأساس حول النزاع مع

(136)

الكافرين، حول الجدل، حول الاحتجاج ومحاولة الإقناع والتخويف»[1].

وممّا يلاحظ على مؤرّخنا التونسي، اعتماده على أعمال المستشرقين متناسياً ما قام به علماء الإسلام من جهد كبير في تفكيك المكّي والمدني والآيات المتداخلة بينهما، وإذا كانت ذريعته في عدم الاعتماد على التراث الإسلامي، والاعتماد على ما ذكره المستشرقون، هو كثرة الخلاف الموجود في هذا التراث، وتنوّع أو حتى تضارب الآراء ممّا يصعب الحصول على رأي مطمئن[2]، فهذه العائبة موجودة في أعمال المستشرقين أنفسهم أيضاً.

فهذا نولدكه بعدما يستبعد الروايات في ترتيب النزول، ويقدّم لنفسه طريقة تعتمد على «المراقبة الدقيقة لمعنى القرآن ولغته»[3]، يقول: «لكن هذه المعلومات ما زالت تتضمّن بالطبع ثغرات تدعو إلى مزيد من التفكير، فالبعض يبقى غير مؤكّد تماماً، و البعض على الأقل مشكوك فيه»[4]، وعليه فلم نحصد من هذه المتابعة سوى الشكّ وعدم الاطمئنان.

ومن الطريف أنّ المؤلّف نفسه يعترض على بلاشير، حيث يرى بلاشير أنّ الفترة القرآنية الأولى لا تنطوي على فكرة التوحيد، ولا على أيّ شيء يعبّر عن نزاع مع قريش، ليناقشه جعيط بذكر شواهد من سور القرآن المكّي

(137)

للفترة الأولى تدلّ على التوحيد وعلى نزاع قريش، ليقول: «فرأي بلاشير ليس صحيحاً تماماً»[1].

ونحن نشاطر الرأي مع جعيط عندما ينتقد بعض المستشرقين، بقوله: «توجد نزعة في الاستشراق عامّة ترى أنّ أفكاراً أساسيّة في القرآن لم تنبلج إلّا شيئاً فشيئاً، و كأنّ الظروف أملتها، أو أنّ النبي لم يتفطّن إليها من قبل كالتوحيد مثلاً. ورأيي أنّ القرآن لم يكشف إلّا على مراحل عن المحتويات الأساسيّة للدعوة، فثمّة استراتيجيّة للكشف عن المعنى كما استراتيجيّة للتنزيل عابه عليها الكافرون»[2].

فنقول: نعم، هناك استراتيجيّة للتنزيل تتبع المصلحة الإلهيّة أوّلاً، والحدث التاريخي ثانياً، ومن الطبيعي أن يتمّ التركيز على أمور في فترة زمنيّة، ليخفّ بعدها لرسوخ الفكرة مثلاً، أو الإتيان بالسور والآيات بعد تحقّق قاعدتها في الزمن المعيّن كما يخصّ الغزوات والقتال مثلاً، وهذا لا يعني إحداث قطائع بين السور والآيات المكّيّة والمدنيّة، وكأنّها جزر متباعدة أو متقاطعة، بل القرآن نهر جار ومستمر تمتزج معانيه وألفاظه، وتتداخل نصائحه وأحكامه، لكن بحسب مراعاة الظرف الزمني والمكاني.

وهذا ما يعترف به جعيط نفسه، إذ يقول: «على أنّا نجد فيها عناصر مكّيّة أو آيات تستبعد أموراً وقعت من قبل في مكّة، كما نجد آيات مدنيّة في صلب السور المكّيّة، وهذا شيء تفطّن إليه علماء المسلمين

(138)

القدامى»[1]. ورغم هذا لم يلتزم به ويذهب مذاهب المستشرقين.

إنّ المستشرق يريد ترتيب سور القرآن بحسب فهمه الشخصي للأحداث التاريخيّة، وبحسب منهجه التاريخي المادّي الصارم، لا بحسب النزول الحقيقي، وقد رأيت منطق بلاشير قبل قليل.

وأخيراً، كان حريّ بمؤرّخنا التونسي أن يقوم بعمليّة اجتهاديّة صارمة وبالاعتماد على ما هو موجود في التراث الإسلامي لمعرفة المكّي من المدني، كما ألفنا منه هذا الاجتهاد في كتابه عن الكوفة وتمصيرها وتخطيطها[2].

٤ ـ تحريف القرآن:

تطرّق هشام جعيط لمسألة تحريف القرآن بشكل عرضي وهامشي، حيث إنّه أوّلاً يرى بعض التحريف، ليقول: «رأيي أنّ هذا محتمل في حالات قليلة»[3] ويستشهد بقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [4]، حيث يراها لا تنسجم مع نسق الآية التي وُضعت فيها، وكذلك إعادة بعض الآيات وحصول تكرار فيها.

أمّا بخصوص حذف شيء من القرآن بدواعي سياسيّة، فينفيه وينسبه

(139)

إلى الشيعة، ويقول: «لكنّا نستبعد تماماً أن حُذف من النصّ شيء ما يخصّ مستقبل الأمّة لمقاصد سياسيّة كما ادّعاه البعض من الشيعة»[1].

وهذا المبحث وإن لم يدخل في صلب موضوع الدراسة، غير أنّ الأمانة العلميّة كانت تقتضي أن يشير جعيط إلى طائفة كبيرة من علماء الشيعة التي تنفي التحريف جملة وتفصيلاً، لا أن ينسب التحريف إلى بعض الشيعة هكذا ويسكت.

فهذا الشيخ الصدوق (ت٣٨١هـ) إمام المحدّثين عند الشيعة، يقول: «اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك. ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة... ومن نسب إلينا أنّا نقول بأكثر من ذلك فهو كاذب»[2].

وقال السيد المرتضى (ت٤٣٦): «قد بيّنا صحّة نقل القرآن في المسائل الطرابلسيّات، وأنّه غير منقوص ولا مبدّل ولا مغيرّ، وأنّ العلم بأنّ هذا القرآن الذي في أيدينا هو الذي ظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المصنّفة المشهورة، والأشعار المدوّنة. وذكرنا أنّ العناية اشتدّت بالقرآن، والدواعي توفّرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حدّ لم يبلغه في نقل الحوادث والوقائع والكتب المصنّفة؛ لأنّ القرآن معجزة النبوّة، وأصل العلم بالشريعة والأحكام الدينيّة»[3].

(140)

وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي (ت٤٦٠هـ) وناقش ما ورد من روايات ربّما توهم التحريف، قائلاً: «غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها؛ لأنّه يمكن تأويلها»[1].

ولنعم ما أشار إليه الشيخ الطوسي رحمه الله، من وجود هكذا روايات عند الشيعة والسنّة، غير أنّ الآخر لظروف سياسيّة وعقديّة ومذهبيّة وجّه الحربة نحو الشيعة حصراً واتّهمهم بالتحريف، ولا يسع المقام أكثر من هذا.

(141)
(142)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

هشام جعيط والسيرة النبويّة

(143)
(144)

الفصل الثالث: هشام جعيط والسيرة النبويّة

تطرّق هشام جعيط إلى السيرة النبويّة بشكل تفصيلي في ثلاثيّته الشهيرة: (في السيرة النبويّة). تناول في الجزء الأوّل مسألة الوحي والقرآن والنبوّة، وفي الجزء الثاني الدعوة النبويّة في مكّة، وخصّص الثالث منها بالدعوة في المدينة. وهذه الثلاثية تمّت في فترة زمنيّة متباعدة، حيث طبع الجزء الأوّل عام ١٩٩٩م، أمّا الثاني فقد طبع عام ٢٠٠٧م، والثالث في ٢٠١٥.

الرؤية العامّة الحاكمة على الثلاثيّة هذه، هي الرؤية والمنهجيّة التاريخيّة، وهنا تظهر إشكاليّة تتحدّى من يريد سبر ذلك لتتساءل: هل يمكن كتابة سيرة تاريخيّة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟

الرافضون ربّما يعتمدون على أنّ العنصر الحسّي والمادّي: (معطيات الآثار والتنقيب، النصّ المكتوب المعاصر للحدث وغيرهما من المواد) مفقود. وعليه، كيف يمكن كتابة سيرة تاريخيّة، وما وجد من آيات قرآنيّة ربّما لا تنهض لذلك، ناهيك عن الجدل الاستشراقي والعلماني القائم حول إثبات وحيانيّة القرآن وألوهيّته ومعاصرته للحدث ـ كما مرّ ـ.

ولكن يتجاوز جعيط كلّ هذه العقبات ليركب مركباً صعباً بكتابة سيرة تاريخيّة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاعتماد على القرآن أوّلاً، وما ثبت وصحّ عنده من المصادر القديمة للسيرة ثانياً.

ولخوض غمار هذا التحدّي كان لزاماً عليه إثبات صحّة القرآن، ثمّ إثبات صحّة المصادر المعتمدة واتصالها الحسّي بالحدث، ثمّ تقييم

(145)

الصحيح من الزائف الخيالي، وأخيراً جني الثمار واقتطاف النتائج.

غير أنّه يخرج عن المألوف، فيثبت أموراً وينفي أموراً زعماً منه بأنّه أتى بجديد، لكنّه لا يتجاوز من سبقه من المستشرقين في تناولهم لسيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن ناقشهم في بعض الموارد، غير أنّ الإطار العامّ يبقى هو هو؛ إذ هذه النظرة تتماشى مع منهج جعيط في العلمنة الشاملة، وقد تطرّقنا في الفصل السابق إلى علمنة القرآن، وهاهنا سنتناول مشروعه في علمنة السيرة النبويّة.

وللوقوف على عمل هشام جعيط، وما قدّمه من سيرة تاريخيّة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، لا بدّ من الخوض في ثلاثيّته واستخراج موقفه ومعطياته برؤية تحليليّة نقديّة.

وهذا الفصل يقوم بهذه المهمّة ضمن أربعة مباحث:

المبحث الأوّل: الموقف من السيرة والمصادر المعتمدة.

المبحث الثاني: العصر الجاهلي.

المبحث الثالث: الفترة المكّية.

المبحث الرابع: الفترة المدينيّة.

(146)

المبحث الأوّل: الموقف من السيرة

ونتطرّق فيه إلى عدّة نقاط:

١ ـ المنهج:

أشرنا في الفصل الأوّل إلى المناهج التي اعتمدها هشام جعيط في أعماله الفكريّة، وهنا بخصوص السيرة النبويّة قد اعتمد المنهج النقلي: القرآن في الدرجة الأولى، والأخبار الثابتة عنده في الدرجة الثانية والمتوافقة مع القرآن، مع إكساء رؤية تاريخيّة لعمله وهذا هو الأساس، ولكن لا يفوته أن يستعين بالمنهج المقارن للأديان، ومعطيات الأنثروبولوجيا.

إنّه يقول بهذا الصدد: «اعتمادي المقتصر على القرآن كمصدر، كما على التاريخ المقارن للأديان، والانفتاح على أفق الثقافة التاريخيّة والأنثروبولوجيّة والفلسفيّة»[1].

ويؤكّد على منهجه في مقدّمة الجزء الثاني أيضاً، ويقول: «إنّ ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة انثروبولوجيّة للثقافة العربيّة قبل الإسلام أوّلاً، واستقراء تاريخي للنصّ القرآني، وتتّبع التأثيرات الخارجيّة والنظر النقدي في المصادر التاريخيّة والببليوغرافية»[2].

وأخيراً: «القرآن الذي هو مصدره الوحيد»[3].

(147)

والسبب الرئيسي في اعتماده على القرآن أولاّ كونه وثيقة رائعة وصحيحة تاريخيّاً ومواكبة للبعثة[1]. «فالّلجوء إلى القرآن كمصدر تاريخي مهمّ جدّاً ليس لأنّه يعطي تفاصيل عن الأحداث بل لأنّه يُثبتها، فيجعلنا نتحقّق من وجودها، فيغدو تصوّر مسار محمد أمراً ممكناً بالنسبة إلى المؤرّخ وليس ضرباً من الخيال»[2].

ولعلّ القارئ بادئ ذي بدء يزعم أنّ المؤلّف ملتزم بمنهجه النقلي هذا، غير أنّه بعد مراجعة بسيطة لثلاثيّته نرى أنّنا كلّما اقتربنا من نهاية الثلاثيّة قلّ الاستشهاد بالقرآن وكثر استخدام المصادر. وبقدر ما نرى الاستشهاد بالقرآن في الجزء الأوّل والثاني وتهويناً وازدراءً للمصادر، نرى تغيير الكفّة في الجزء الثالث لصالح المصادر على حساب القرآن.

بل أكثر من ذلك، نرى أنّ مؤرّخنا التونسي يلوي عنق النصّ: (القرآن والأخبار) ليتوافق مع معتقداته وخلفيّاته ومبانيه الفكريّة المسبقة.

ومن الشواهد التي نحصل عليها في طيّات ثلاثيّته للخروج عن منهجه التاريخي المعتمد على القرآن والأخبار، ما يصرّح هو بنفسه في مقدّمة الجزء الثاني، حيث يقول: «فهذه الدراسة (أيّ الجزء الثاني المخصّص للفترة المكّيّة) ليست كالأولى التي أرادت لنفسها البحث في ماهيّة الوحي والنبوّة من وجهة نصف كلاميّة ميتافيزيقيّة ونصف تاريخيّة»[3]. فيصرّح بخروجه عن المنهج في الجزء الأوّل.

(148)

وشاهد آخر، عندما يتكلّم عن الحرم المكّي سعةً وضيقاً، ويروي ما تذكره المصادر، يقول: «كلّ هذا في الواقع يستدعي تساؤلات؛ لأنّ المصادر هنا غير مقنعة تماماً حتى عندما تستشهد بالقرآن»[1]. فلا يعتمد لا على القرآن ولا على المصادر.

ومورد آخر في سبب هزيمة المسلمين في غزوة أُحد حيث يرى المؤلّف بالاستناد على المصادر أنّها كانت هزيمة نكراء، غير أنّ القرآن يجعلها نصراً ويلوم النبّالة ويوعز الهزيمة إلى عدم الانضباط، ولكن رغم هذا لم يرتض المؤلّف بمعطيات القرآن والسيرة، ليقول: «أوّلاً نظراً لاختلال ميزان القوى الحاضرة، كانت هزيمة المسلمين متوقّعة، وربّما لم يكن في الإمكان تلافيها. إلى ذلك كانت القيادة القرشيّة مرموقة بينما كان المدينيّون بمجملهم وليس النبالة فقط نزقين وغير منضبطين إطلاقاً... وعندي وخلافاً لما ترويه المصادر، إنّهم كانوا قد وقعوا في فخّ المناورات العسكريّة القرشيّة مناورات خالد وعكرمة... وسواء ترك النبّالة موقعهم أو لم يتركوه فربّما ما كان سيتغيّر شيء في نتيجة المعركة»[2].

ويعود مرة أُخرى ليقول: إنّ القرآن يعلن حصول تمرّد على أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ ذلك هو سبّب الهزيمة، وإنّ ما ترويه المصادر بهذا الخصوص معقول: «باستثناء الفكرة الكامنة في القرآن، ومؤدّاها: أنّ ذلك العصيان (عصيان النبّالة في رواية السيرة) أدّى إلى التخلّي الإلهي عنهم عقاباً لهم... ولن ينقطع القرآن أبداً عن تكرار هذه الفكرة»[3].

(149)

فرغم اعترافه بأنّ القرآن يصرّ على هذه الفكرة، وأنّ المصادر تسنده، غير أنّه يتساءل مرة أُخرى، ليقول: «لكن ما الأمر بنظرنا نحن المؤرّخين؟» ليستنتج كلامه السابق من أنّ الهزيمة كانت نكراء ومُشينة، وأنّ سببها (خلافاً لما يقول القرآن وترويها المصادر) هو خديعة قريش الحربيّة، واستعداد قريش للحرب من ذي قبل خلافاً للمسلمين[1].

فالمؤلّف -كما ترى- غير ملتزم بمنهجه النقلي التاريخي، بل إنّه يضع لنفسه قانوناً يبرّر له تجاوز القرآن وكتب السيرة، وهو (قانون الحقيقة الواقعة) وهذا القانون يحصل عليه بالتحليل العقلي للنصوص، ويجعل هذا القانون من إبداعاته الفذّة.

إنّه يقول: «وقد حاولنا في هذا الكتاب الاعتماد على المعرفة، واستنباط منهج عقلاني تفهّمي، لم نجده لا عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث، ولا عند المسلمين المعاصرين، وأكثر من ذلك: إنّ المستشرقين على سعة اطلاعهم لم يأتوا ببحث يُذكر في هذا الميدان»[2].

ويعيد كلامه بنحو آخر في مقدّمة الجزء الثاني، ويقول: «سأحاول في مجرى الكتاب تحليل وتشريح تاريخ النبي، ساعياً إلى جعله مفهوماً بالعقل، معوّلاً على المصادر مع نقدها في الوقت نفسه نقداً تاريخيّاً، وإخضاعها لقانون الحقيقة الواقعة»[3].

(150)

ويؤكّد كلامه ثالثاً: «نحن المؤرّخون نحلّل الأمور عقليّاً»[1].

والعقل الذي يعتمده هو العقل المادّي المعتمد على الحسّ والتجربة، دون العقل الميتافيزيقي حيث يتنافى مع منهجه العلماني.

إنّ ما يلاحظ على منهج جعيط وعمله في دراسة السيرة النبويّة وكذلك القرآن الكريم، كثرة تناقضاته وعدم استقامته وثباته على موقف واحد، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق، علماً بأنّ كثيراً من الباحثين تفطّن لهذا الأمر وانتقد جعيط في ذلك.

فمنهم من رأى أنّ رفضه أو قبوله لبعض المعطيات يقوم بناءً على قناعاته الخاصّة[2]. وأنّ كتابه هذا تكسوه مسحة من الغموض والالتباس:«فهو -مثلاً- يمجّد نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله تارة، ويجعله رجلاً متطفّلاً على التوحيديّة تارة أُخرى، تارة يجعله من أعظم مؤسّسي الأديان وأعظم الأنبياء قيمة، وتارة يربط وجوده كنبي بالمسيحيّة السوريّة، تارة ينفي المعجزات وتارة يتحّدث عن الخوارق كأمر ليس ببهتان ولا كذب، تارة يدافع عن قدسية القرآن، وتارة يعتبره سابحاً في تاريخيّة الشرق الأدنى...»[3].

وهناك من يقول أيضاً: «إنّ الكتاب جاء في الحقيقة مجموعة من الخاطرات والأفكار والرؤى المصوغة على عجل، والتي يسودها التكرار والتقطّع والتعجّل... والمقدّمة تتناقض مع منهج أو مناهج المؤلّف في

(151)

فصول كتابه، بل إنّه قال عدّة أشياء متناقضة»[1]. ثمّ ذكر شواهد على ذلك، ويقول في النهاية: «ما قام به الأستاذ جعيط هو تسجيل مجموعة من الخاطرات الطريفة أحياناً لكن غير منتظمة في غالب الأحيان، ولذا فلا يمكن اعتبار الكتيّب دراسة علميّة كما يريد جعيط أن يسمّيها»[2].

كما اعترض عليه آخر بأنّ تحليله حول تلقّي النبي للوحي سلبيّاً «لا ينسجم ومنطق تحاليله للنبوّة والوحي في سائر كتابه هذا»[3].

٢ ـ الهدف:

إنّ هدف جعيط من دراسة السيرة النبويّة، هو:

١ـ التعمّق في تاريخيّة النبوة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووضعه في «الإطار الواقعي من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصّة، بل هو أدنى من الحقيقة الدينيّة المحضة التي لا يمكن مقاربتها إلّا بحسّ رهيف وعقلانيّة تفهّميّة ومعرفة دقيقة»[4].

٢ـ عدم وجود كتابات جادّة باللغة العربيّة تتناول تاريخيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا نادراً وقليلاً، ولذا «لقد آن الأوان لكي نُسهم بدورنا في هذا الميدان من

(152)

وجهة علميّة صارمة وفي موضوع يهمّنا قبل غيرنا»[1].

٣ ـ إنّ هدف جعيط ومقاربته هذه للسيرة النبويّة هدف علمي بحت كما أشار إليه، وعليه فإنّها «لا علاقة لها بأيّ ايديولوجيا، فلا المقصود نسف الإسلام في ينابيعه، ولا المقصود إحياء مقاصده في وجاهتها، أو الدفاع عن الرسول ضدّ من لم يعطه حقّه من بعض المستشرقين، أو من الرأي العامّ الغربي المتأثر بتراث سلبي قديم إزاء شخص الرسول. المقصود هو تعميق المعرفة وإثراؤها»[2].

ويعيد كلامه مرة أُخرى، ويقول: «ويجب على القارئ أن يقتنع بأنّ هدفنا ليس المسّ بالمقدّسات الإسلاميّة، ولا بالذات النبويّة، وليس إقامة أحكام تقريظيّة ولا سلبيّة بالمثل، فالعلم يحاول أن يفسّر الأمور لا أن يحكم عليها»[3].

٤ ـ وبما أنّ هدفه علمي بحت لا بدّ للمؤرّخ «المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الدينيّة عندما يدرس بزوغ الإسلام. فالحقائق الدينيّة يتناولها بالوصف والتحليل، بالبحث في التأثيرات والتطوّرات، ويضعها في لحظتها التاريخيّة من دون الالتزام بالمعطى الإيماني، وإلّا بَطُل البحث وهو دائماً خارجي لا يهتم إلّا بالظواهر وليس بالحقائق العليا»[4].

(153)

وختاماً، فإنّ عمل جعيط هو «علمي وليس بالدراسة الفلسفيّة، وُيعتبر بالتالي كمعطى... وسواء كان المؤرّخ ـ المسلم وغير المسلم ـ مؤمناً أو خارجاً عن الإيمان، فمنهجه الصحيح هو هذا، أي اعتبار المعطى كمعطى ومحاولة تحليله لا أكثر»[1].

ويلاحظ عليه: إنّه وإن لم يقصد ـ بحسب مدّعاه ـ أي إساءة للإسلام أو الإيمان أو الدين، غير أنّ النتائج التي يتوصّل إليها، تؤول إلى ذلك لا محالة. فعندما يفسّر الدين والسيرة والقرآن تفسيراً مادّيّاً ويجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله متأثّراً بما قبله من ديانات، فهو إساءة لا محالة، أو عندما يجعل في القرآن تناقضات، وأنّه متأثّر بالكتب الدينيّة المنحولة أو الثقافة المسيحيّة الشعبيّة أو الخرافات المحلّيّة، فهو إساءة للقرآن لا محالة، وكذلك غيرها من الأمور التي يتوصّل إليها؛ إذ المنهج العلماني المادّي البحت لا يوصلنا إلى شيء مقدّس إطلاقاً، بل يحاول طمس أيّ تقديس لأيّ شخص وأيّ شيء.

ثمّ إنّ المؤلّف يرسم تقابلاً صارماً بين العلم والإيمان، وكأنّهما لا يلتقيان، فإما أن تكون مؤمناً فتكون غير علمي، وإمّا أن تكون عالماً فأنت غير ملتزم بنتائج الإيمان، وهذا التقابل غير صحيح، نعم إذا فسّرنا العلم بالتفسير المادّي التجريبي الوضعي، فهو كما يقول، وحينئذٍ لا بدّ أن ينسف جعيط كتابه الذي ألّفه؛ إذ إنّه يعتقد -بحدّ زعمه- بألوهيّة القرآن وبالأديان التوحيديّة ومنشأها الألوهي، وكذلك يعتقد بأنّ الوحي حقّ وصحيح وغيرها من الأمور التي لا تدخل في سياق التجربة الوضعيّة.

(154)

«أليس هناك إمكان منهجي يجعل من الإيمان واقعاً حقيقيّاً، مثله في ذلك مثل الوقائع التي يعيشها الإنسان من حيث هو إنسان لا من حيث هو كائن حيّ، أي أن يكون الإيمان جزءاً من كيانه، ثمّ يدرس هذا الكيان بناءً على منهج علمي، لا يكون بالضرورة وضعيّاً»[1]،[2].

٣ ـ الموقف:

إنّ المنهج الذي تمسّك به جعيط، والأهداف التي رسمها لنفسه، توصله لا محالة إلى مواقف، وهذه المواقف في إطارها العامّ أدّت به إلى القول بأنّ ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تركيبته الخاصّة يستند على «تاريخيّة طويلة المدى تسرّبت من إبراهيم وحتى من آدم إليه»[3] فيضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن سلسلة الأنبياء عليهم‌السلام خلافاً للخطاب الاستشراقي والعلماني الملحد.

كما يرى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «من أصحاب الرؤى كشأن كبار الأنبياء ومؤسّسي الأديان... تذكر لنا كتب التفسير أنّ محمداً كان يرى في اليقظة المشاهد أمام عينيه وكأنّها واقع حاضر، مثل مشهد القدس وغير ذلك، ومثل الوقائع الحربيّة كبدر، حيث يشاهد الملائكة يقاتلون ولا يراها غيره: (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) [4] يقول القرآن، وكلّ هذا صحيح وليس ببهتان وكذب»[5].

(155)

«فرؤيا النبي لروح الله تجربة ذاتيّة وفي الوقت نفسه حقيقة واقعيّة، إلّا أنّها تعلو على عقل الإنسان العادي. وكذلك الأمر فيما يخصّ الوحي الذي هو علاقة ذاتيّة بين الله والنبي، سواء أكان بالأصوات أو بالإلقاء في القلب، سواء أكان باللفظ أو بالمعنى، ويشهد القرآن أنّه كان بهما معاً»[1].

ويمكن تلخيص موقف جعيط تجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته في النقاط التي ذكرها في نهاية الجزء الأوّل من ثلاثيّته:

١ ـ هو يتلقّى الوحي بلهفةٍ ومحبّةٍ، ويعرف حقّ المعرفة من هو مصدره ويؤمن به أي يمنحه ثقته كاملةً، ويأتمر به؛ إذ الوحي تعليم وأمرُ آمرٍ.

٢ ـ والوحي فتح إيجابي لندائه الباطن القديم، وليس هذا معطى لكلّ قدّيس وباحث عن الله. ولم يكن النّبي من أصحاب الصوامع الذين أعرضوا عن الدّنيا وكرّسوا حياتهم أو موتهم في الحياة لله ينادونه فلا يجيب.

٣ ـ تواضع النّبي أمام الوحي وعدم ادّعائه أيّ إعجاز ولا مقدرة خارقة ولا وضعيّة خاصّة بين مواطنيه من قريش. إنّما هو بشير ونذير وداعٍ إلى الله بأمره.

٤ ـ صَبْرُ النّبي في فترات الوحي وشدّة وطأتها على النفس، وصبره على الأذى في مجتمع «جاهل»، وفي آخر المطاف تعارضُ رسالته والوضع الاجتماعي العامّ في بلده الذي لم يكن مستعداً لقبولها بل رافضاً لها باستمرار وتعنّت. فهو يدعو في الصحراء سوى هذه الثُلّة الصغيرة ممّن

(156)

اتّبعه والتي يذكرها القرآن بعبارة ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا [1] فقط.

٥ ـ النّبي كان قويّاً بقوّة قناعاته، ويؤمن بالرعاية الإلهيّة لشخصه وللوحي المنزّل وهي الحقيقة. فكان يدعو بنشاط كبير في الواقع الاجتماعي بدون أمل كبير. وكان في الوقت نفسه يهتمّ بنجاح الدّعوة حيث يرد إنقاذ قومه وتلقينهم الحقيقة.

٦ ـ النّبي صبورٌ ولا يعرف الاهتياج ويتحصّن بالمنطق ويستسلم لإرادة الله وثقته فيه. فقد كانت له قوّة مزاجيّة عظيمة شهد عليها القرآن: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [2].

وما دام الوحي ينزل بانتظام، والأثر القرآني يتشكّل، فهذا مدعاة للرضا. ولئن تصوَّر النّبي الموت ككلّ إنسان وأنّه سيدركه بالضرورة، فسيبقى كتاب الله، وإنْ انقلب الناس «على أعقابهم»، ويبقى الله وهو غَنِيٌّ عن العالمين.

٧ ـ لكنّهم يتوسّلون أيضاً إلى النّبي ويتوسّلون بصفة ما ل ـ «جاهة» لدى الله، ولعلّه هو أيضاً حيّ يُرزق في البرزخ يسمع دعاءهم. وفي كلّ هذا منطق خفي وعميق. فالمؤمنُ لا يؤمن بالله إلّا بوساطة محمّد، والله لا يُرى فهو الروح الأسمى التي تتجاوز الإنسان. ومحمّد كان موجوداً فعلاً ليس في ذلك من شكّ. وهو مرسَّخ في الشهادتين.

(157)

فالإسلام لم يغبْ في الأساطير والضبابيّة كأديان كثيرة، بل هناك شخص قريبٌ منّا زمنيّاً متموضع في المكان والزمان لا ريب في وجوده خِلاَفاً لغيره. وقد أتى بالدّين بإذنٍ من الله في الواقع الحسّي والتاريخي. ولذا، فالإيمان الشعبي يرفع كثيراً من شأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٨ ـ النّبي ليس فقط قويّاً بمفعول قوّته الداخليّة ولكنّه تقدّس لقرابته من الله. الله وحده مقدّس حسب التقليد العبري الذي استرجعه القرآن ووقفه على الله وما ينبثق عنه خلافاً للمسيحيّة المتأخّرة.

النبي مقدّسٌ ـ وليس قدّيساً ـ؛ لأنّ الله قرنه بنفسه وعظَّم شأنه بالصلاة عليه، وقرنه الإسلام في الشهادتين بالله. فهو يدخل في عالم القداسة بالمعنى الحديث sacre Le، ولا يعني أنّه قُدسي البتّة.

وإذا كان محمّدٌ ممّن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثمّ الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممّن أسهم بقوّة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانيّة من الحيوانيّة إلى الإنسانيّة، وهؤلاء الهُداة قلّة، وإذا كان ممّن أعطى لمسار التوحيديّة أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجيّة على الأقل، فهذا النبي يبقى شاهداً على الله وعلى أمّته شهيداً. ولهذا لَهُو حقيقة النبوّة المحمّدية وجوهرها في الأعماق»[1].

وأخيراً، يرى نفسه أقرب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويقول: «إنّي أحسّ نفسي أقرب إليه من شخص عاش في القرن الثاني الهجري، وأشعر أنّي قريب جداً

(158)

من إدراك حقيقته، وقريب جدّاً من اكتناه التركيب بين الحقيقة التاريخيّة والحقيقة الروحيّة»[1].

ولكن رغم هذا كلّه فإنّ موقف جعيط تجاه السيرة النبويّة والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُرضِ العلمانيّين ولا الإسلاميّين؛ وذلك أنّه بمقدار ما دافع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقه وصدق القرآن ابتعد عن الخطاب العلماني واقترب من الخطاب الإسلامي، وبمقدار ما انتقد بعض المواقف والثوابت الواردة عند المسلمين، اقترب من الخطاب العلماني وابتعد عن الخطاب الإسلامي، وهو عارف بهذا، لذا قال: «وأنا أتفهّم أن تجد بعض التحليلات الاحتراز أو المعارضة»[2].

وهناك نقطة أُخرى، وهي أنّ جعيط يعترف بنبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتّخذها كأصل موضوعي يبني عليها استنتاجاته، ولكن هل هذا الاعتراف نابع من إيمان واعتقاد باطني، أم أنّه قبول كحقيقة تاريخيّة اجتماعيّة مع قطع النظر عن الإيمان والاعتقاد، يظهر أنّ الأمر هو الثاني؛ إذ إنّه عندما ينقل موقف الغرب الحديث والعلوم الإنسانيّة الحديثة تجاه الأنبياء والوحي بأنّها ظاهرة فعليّة وتجربة دينيّة لا ريب فيها، يقول: «هناك رجال دين تلقّوا وحياً، وهناك كتب موحاة في كلّ مكان وبكلّ شكل من الأشكال، وليس علينا أن نشكّك فيما قالوه أو أن ندخل في مشاكل ميتافيزيقيّة ولاهوتيّة... يبقى أنّ الوحي ظاهرة دينيّة فحسب معطاة من التاريخ، والعقلانيّون لا يؤمنون

(159)

بواقعيّته الفعليّة: هذا شأن المؤمن وليس شأن العالم والفيلسوف»[1].

وهو يرى نفسه كمؤرّخ موضوعي، يريد أن يتناول السيرة والشخصيّة النبويّة من وجهة نظر علميّة بمنأى عن الإيمان، وهذا ما يصرّح به في طيّات كلامه.

وخلاصة القول ـ كما ذكرنا مراراً ـ: إنّه متناقض في مواقفه وآرائه، وترى الإرباك والتشويش سارياً في طيّات ثلاثيّته؛ وذلك بسبب اعتماده على ما لا ينبغي الاعتماد عليه من مناهج وضعيّة لا تعترف بالغيب وبالماورائيّات.

ورغم هذا أو ذاك، فإنّ جعيط يُصنّف ضمن التيّار العلماني، وهذا ما سنشير إليه في الفصل المخصّص عن الحداثة، وعليه لم يشذّ عنهم في خطابه العامّ والإطار العامّ الذي يدور في فلكه، ولذا وقع في هفوات علميّة تاريخيّة سنشير إليها تباعاً في المباحث الآتية.

٤ ـ المصادر المعتمدة:

كما قلنا فإنّ هشام جعيط يعتمد في دراسة السيرة على القرآن الكريم في الدرجة الأولى، ثمّ على ما صحّ عنده من مصادر السيرة والتاريخ، وأهمّها سيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، الأناجيل الأربعة للسيرة على حدّ تعبيره، ولكن في إطار تحليل عقلي ومنهج تفهّمي.

وكما أشرنا سابقاً، فإنّ المؤلّف لا يلتزم بهذا المنهج، بل يخضع

(160)

النصوص إلى قناعاته وخلفيّاته الفكريّة المسبقة، فكم من مورد خرج عن النصّ، وكم من مورد خالف المصادر أو وافقها لمجرّد احتمال أو من خلال ليت ولعلّ، فتراه عندما يقتنع بفكرة يصوغ لها الأدلّة وإن خالفتها المصادر، وعندما لا يقتنع بفكرة ينكر الأدلّة وإن وصلت إلى حدّ الاستفاضة أو التواتر، وهذا ما يتكرّر كثيراً في ثلاثيّته هذه.

إنّه كثيراً ما عاب المصادر بأنّها تتبع الخيال الواسع، وإنّها تزيّن صورة أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً، غير أنّنا نراه لم ينفكّ عن هذا الخيال في تحليلاته التاريخيّة فيستند على مخياله العلماني ليحيك الصورة وفقها، وهذا ناتج من منهجه الهرمنوطيقي في تفسير الأحداث، حيث يضفي على النصّ توجّهات وخلفيّات المتلقّي الذهنيّة والمعرفيّة، فيصبح النصّ في وادٍ، والمتلقّي في وادٍ آخر.

 

(161)

المبحث الثاني: العصر الجاهلي

إنّ هشام جعيط كمؤرّخ يحاول أن يدرس السيرة النبويّة بمنهج تاريخي مادّي بحت بمنأى عن الإيمان. وعليه، لا مناص له من التمسّك بالمناهج المادّيّة المطروحة، وهذه المناهج تفرض عليه دراسة الحقبة السابقة على البعثة النبويّة أي جذور التكوّن وظروفها.

إنّ مؤرخّنا التونسي يطرح مجموعة أسئلة «لماذا محمد؟ ولماذا في هذا الزمن وذاك الوسط، ماذا كانت هذه قريش في سني القرن السابع الميلادي لكي تنجب محمداً وهذه الثلّة من أصحابه»[1]. وإنّ الدّعوة: «لماذا حصلت؟ وكيف تطوّرت؟ وكيف نجحت؟ وكيف ظهر شخص محمد؟»[2].

وهذا هو «ديالكتيك الأنا والمجتمع والفرد والوسط»[3] الذي يطرحه جعيط، وللخروج بالنتيجة يستعين بعلم الأنثروبولوجيا المتكفّل لبيان هذه الأمور من وجهة نظر مادّيّة.

لأنّ الأنثروبولوجيا كما ورد في تعريفها: «العلم الذي يدرس الإنسان من حيث تركيبه الجسمي، وبناؤه البدني والعقلي، وصفاته الجسميّة المختلفة، وعلاقاته الاجتماعيّة مع الآخرين، وتفاعله مع المجتمع والبيئة والثقافة السائدة فيها»[4].

(162)

لذا، يحاول جعيط من خلال تمسّكه بالمنهج الانثروبولوجي، دراسة «السياق العامّ والخاصّ الذي انحدرت منه الدعوة أو تطوّرت ضمنه، لتقصّي الظروف التي ظهر فيها الحدث»[1].

وهذا المنهج هو الحاكم على عمله كلّه وله الأسبقيّة على القرآن أيضاً، كما يصرّح هو بذلك، ويقول: «إنّ ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة انثروبولوجيّة للثقافة العربيّة قبل الإسلام أوّلاً، واستقراء تاريخي للنصّ القرآني، وتتبّع التأثيرات الخارجيّة، والنظر النقدي في المصادر التاريخيّة والببليوغرافيّة»[2].

إنّ جعيط يريد أن يدرس طبيعة المجتمع الجاهلي، ليرى كيف تحوّل لاحقاً إلى التديّن، وأسّس إمبراطوريّة عظيمة، أي إنّه يريد أن يدرس «كيفيّة خروج الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة»[3]؛ لأنّ الدين عنده يدخل في مجال الثقافة بالمعنى الأعم؛ لأنّه يأتي بأفكار ومعتقدات، وهو منغرس بالضرورة في الوسط الذي نبع منه، فالثقافة إذاً «بنية عامّة مركّزة على مؤسّسات حياتيّة تندسّ في أعماق المجتمع، والدين ذاته من أهمّ هذه المؤسّسات»[4].

ولكن، رغم هذا كلّه، فمؤرّخنا التونسي لم يستند على دعامة رصينة، ولم يتمكّن من الخروج بنتائج حقيقيّة يقينيّة رغم محاولاته الجادة، ليس قصوراً فيه بل قصوراً في المنهج الذي اعتمده، وهو بنفسه يعترف بذلك،

(163)

ويقول: «من دون أن يعني ذلك سببيّة صارمة»[1]. بل «بمعنى الإيضاح وترتيب المعلومات ووضع الأمور في إطارها». فهي إذاً الإطار العامّ من دون سببيّة صارمة ومن دون أن «تفسّر ظهور شخصيّة محمد وتكوّن مهجته في قلب ضميره»[2] ممّا يعني أنّ عمله هذا في دراسة الحقبة الجاهليّة كلّه هواء في شبك، إذ لماذا هذا العناء البحثي الشائك لتلك الحقبة، مع أنّها لا تعيننا في تفسير الحدث؟!

وكان الأجدر بجعيط ترك هذا المنهج؛ إذ إنّه منهج على غرار باقي المناهج يصيب ويُخطئ، وإنّه إن أصاب في دراسة الكائن البشري العادي، فليس بالضرورة نجاحه في دراسة الإنسان البشري الغيبي المتّصل بالسماء.

هذه الإشكالية تنبّه إليها جعيط وأدرك صعوبتها لكنّه رغم ذلك بقي متمسّكاً بمنهجه، إنّه يقول: «إنّ ظهور فرد مثل محمد يطرح مشكلة كبرى للمؤرّخ؛ لأنّه كان فعلاً شخصاً فرداً لم يسبقه أحد في مناخه... ولم يسبقه أحد بالنبوّة في تاريخ الجزيرة العربيّة... وبالطبع إذا كان الأمر أمر وحي إلهي تلقّاه فقط محمد وبلّغه، فالإشكال يمحى ويذوب، ويكون الإله اختاره من أوائل الزمن، لكن هذه مسألة إيمان وليست مسألة تاريخ»[3].

هذه هي مشكلة جعيط ومشكلة سائر العلمانيّين والحداثويّين الذين يريدون مقاربة الغيبي والماورائي بأدوات ومناهج لا تعترف إلّا بالمادي والحسّي.

(164)

ومهما كانت النتائج التي توصّل إليها جعيط، فإنّه قسّم الحقبة الجاهليّة من وجهة نظر انثروبولوجيّة تاريخيّة إلى قسمين: درس في القسم الأوّل الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة، وفي القسم الثاني الأنثروبولوجيا الدينيّة، وسنوجز القول في كليهما.

١ ـ الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة:

يرى هشام جعيط أنّ النظام الاجتماعي العربي يعتمد على القبيلة والعشيرة، وأنّ قرابة الدم هي الحافز على التعايش، والقبيلة قائمة على المصالح الاقتصاديّة، وعلى الدفاع والحرب[1].

والعالم العربي عالم مليء بالأخطار، عالم يسيطر عليه الحيوان وعناصر الطبيعة، وعالم عنف عامّ، ولا يمكن لعلم الآثار أن يمدّ المؤرّخ بمعلومات كافية عنه، إمّا لتقصيره في هذا المضمار، وإمّا لانعدام وجود بقايا مادّيّة ناطقة بكفاية[2].

ومن وجهة نظر الأنثروبولوجيا الاقتصاديّة، كان الجوع مواكباً للإنسان العربي في حياته، المجاعة مسلَّطة باستمرار، كانوا يأكلون الميتة ويشربون الدم، وتصوّر المصادر أنّ العرب في العمرة أو الحج كانوا يلتقطون شعر الحجيج بعد الحلق ليأكلوا قمله[3].

كما أنّ الغارة والغزو من سمات تلك الفترة، فهي لم تكن لسدّ الحاجة

(165)

والمجاعة، بل دخلت في أعماق الضمير العربي، وأضحت نوعاً من الرياضة المحبوبة، ولا تمسّ فقط الأموال والأنعام بل تتعدّى إلى النساء أيضاً [1].

كما أنّ مسألة الثأر ذات أهمّيّة كبرى في تلك الفترة، وتكاثرات الشهادات في الشعر والموروث التاريخي والأدبي على الوتر وواجب الثأر، والثأر لا يمسّ القاتل بالضرورة شخصيّاً، بل قد يمسّ أيّ شخص من قرابته؛ لأنّ العشيرة جسم واحد[2].

ثمّ يبرّر جعيط ساحة العرب الدمويّة المليئة بالعنف، ليقول: إنّ هذا «العالم القاسي على الإنسان والذي يبدو دمويّاً، ليس بدموي إلى الحدّ الذي تصفه لنا مصادرنا وكلّها إسلاميّة. فهناك شعور قويّ بقيمة الحياة الفرديّة ما دام هذا الفرد محاطاً بحماية العشيرة أو القبيلة»[3] ثمّ يستشهد بتوقّف القتال بمجرد ما كان يُرفع شعار «البقيّة».

وبخصوص الأنثروبولوجيا السياسيّة، فمن بطن هذه العشيرة أو القبيلة تظهر سلطة الرب أو السيّد، فالسلطة منبثقة عن حاجة ملحّة لترتيب الشأن الاجتماعي، وضرورة اتّخاذ القرار في الأمور الحيويّة. ولكلّ قبيلة أو عشيرة ربّ وحاكم تتوارث فيه الربوبيّة بعدما أسّسها الجدّ الأعلى[4].

وبخصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قبيلته هي قريش، وعشيرته بني عبد مناف،

(166)

وسلالته أي العشيرة القريبة بني هاشم. والمؤسّس لقريش قصي بن كلاب الذي قام بعمليّة الاستقرار في البطاح حول الكعبة[1].

ثمّ ينقل عن روبرتسون سميث أنّ العرب ما كانوا يتصوّرون العلاقة الاجتماعيّة إلّا عبر رباط القرابة، فالقرابة أسّ الاجتماعي، والاجتماعي يتماهى مع السياسي من وجهة التنفّذ والطاعة والدفاع والحرب[2].

وذلك أنّ «كلّ ما هو أبوّة وزواج وبنوّة وأخوّة وقرابة بالعصبة أو بالرحم، وكلّ تمييز بين الذكورة والأنوثة، ليس فقط أساسيّاً في حدّ ذاته، بل يجرّ وراءه علاقات أُخرى تتخذ مثاله أي مثال القرابة الدمويّة، من مثل: الولاء والتبنّي والحلف والجوار، وهي ليست بيولوجيّة إنَّما لا يمكن لها أن توجد إلّا داخل هذا الإطار، وبالتالي فإنّ دراسة القرابة هي في أساس علم الأنثروبولوجيا؛ لأنّها تعبير عن بنية الفكر الإنساني وتصوّره لصميم العلاقة الإنسانيّة»[3].

وهذا ما يسميه جعيط بالتحوّل الطبيعي إلى الثقافي الذي يُبنى المجتمع عليه، ومن هنا يبدأ المؤلّف بشرح علاقات الزواج والتبنّي والولاء والجوار والحلف، كما أنّه يشرح الحياة اليوميّة العربيّة، وطريقة المسكن والمأكل والمشرب[4].

(167)
٢ ـ الأنثروبولوجيا الدينيّة:

إنّ المنهج التاريخي والأنثروبولوجي الذي اتّخذه هشام جعيط لدراسة السيرة النبويّة، يضطرّه لرسم خارطة دينيّة للعصر الجاهلي في منطقة الحجاز سيّما مكّة المكرّمة، كي يربط الجديد بالقديم ويوصل الجذع بالجذور بزعمه، فهذه الخارطة دينيّة عند جعيط، وإن كانت وثنيّة؛ لأنّ الدين عنده يساوي الثقافة:

«الدين من أهمّ تعابير الثقافة الإنسانيّة، ولذا فإنّ العرب أقحموا في هذه الكلمة ليس فقط المعتقدات الماورائيّة والطقوس والشعائر، بل وأيضاً عاداتهم وتقاليدهم وسننهم... ويسمّي العرب الدين/ الثقافة بعبارة دين العرب أي منهجهم في الحياة»[1].

من هذا المنطلق، تكون الجزيرة العربيّة ثريّة من وجهة المخيّلة الثقافيّة والدينيّة[2] مضافاً إلى أنّها محاطة ومخترقة من قبل الأديان الكبرى التوحيديّة والثنائيّة: في جنوبها وشرقها وشمالها، من الرومان والفرس خارج الجزيرة، ومن اليمن والحيرة مع عرب الضاحية والغساسنة، ومن يهود المدينة ووادي القرى داخلها، إذاً «لا يمكن أن يعتبر المؤرّخ أنّ الإسلام إنّما برز صدفة في هذه المنطقة وليس في غيرها» [3].

والأنكى من ذلك، أنّ جعيط يدافع عن تديّن العرب الوثنيّين عبدة الأحجار والأوثان، ليقول: «إنّ الإسلاميّين هم الذين نفوا عن الجاهليّين

(168)

كلّ برّ إزاء الآلهة وكلّ جدّيّة في أشكال تديّنهم، وتلاهم فيما بعد بعض المستشرقين من أمثال لامانس، إذ قرّروا أنّ البدوي ينتفي عنه عمق الإيمان بسبب تركيبة نفسيّته. وإذا كان البدوي فعلاً بعيداً عن الحسّ التأمّلي الميتافيزيقي لقوّة انشداده إلى الحياة وإلى البقاء على قيد الحياة، فإنّ تديّنه كان أصيلاً»[1].

«فمن التحيّز أن يوصف العرب القدامى بانعدام الروح الدينيّة أو ضعفها، بل هم أتقياء وبررة مثل الرومان وقبلهم اليونان وقبلهم المصريّون وكلّ شعب مضى»[2].

ويتطوّر تحليل جعيط أكثر فأكثر، ليرى أنّ شخصيّة الإله السماوي «الله» تسمية قديمة جداً في التراث السامي للتعبير عن الإله الأعلى، فهو مشترك بين الثموديّين ومسيحيّي سوريا من السريان وعرب الجاهليّة، غير أنّ المحتوى يتطوّر. فحصل هناك مزج بين الآلهة التي تمثّل نمطاً جديداً من التديّن لدى العرب والمستوردة من الشمال أو الجنوب، وبين عنصر ذاتي قديم متمثلاً في التبرك بالحجارة والأشجار المحرّمة ومؤسّسة الحرم.

«ولعلّ هذه الثنائيّة هي التي تسبّبت في تردّد المستشرقين عند توصيف دين العرب، فقالوا: إنّه دين مقام على عبادة الأحجار»[3]. وجعيط لا يقبل بهذا، بل يرى أنّه من «الغلط أن يقال: إنّ العرب كانوا من عبدة الأحجار، فالحجر إنّما هو رمز لمقرّ الإله»[4].

(169)

ولذا، يزعم المؤلّف أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم محاربته لتعدّد الآلهة، لكنّه لم يمسّ الطبقة الترسّبيّة الأبعد أي الكعبة والحجر الأسود، بل وجّهها نحو الإله الأوحد، ومنحها معنى جديداً من دون المساس بها؛ لأنّها طقوس موروثة عن زمن ما قبل الآلهة[1].

بل يرى أكثر من ذلك، إذ يذهب إلى أنّ قداسة الكعبة التي يسمّيها القرآن بالبيت العتيق، جاءت لاحتوائها على الحجر الأسود، فاتسعت قداسة الحجر إلى فضاء الكعبة؛ لأنّ الحجر بزعمه مقرّ الإله من دون أن يُعرف أيّ إله[2].

والخلاصة: إنّ أهمّيّة «الديانة العربيّة الجاهليّة لا تكمن في تعدّد الآلهة وتمثيلها بأصنام وأوثان، بل في الطقوس العتيقة المتّصلة ببنية اللاوعي الإنساني والتي نجدها في عديد المجتمعات الأوّليّة»[3].

وبعدما أثبت هشام جعيط رمزيّة الحجر، يتطرّق إلى طقوس الحج والعمرة ويسدل عليها رمزيّة أُخرى لا تمتّ إلى الدين الوحياني والتوحيدي بصلة.

إنّ هشام جعيط يرى -تبعاً لجاكلين شابي- أنّ الحجّ والعمرة أمران متباينان تماماً، فالحج ليس إلى مكة وإلى البيت، والعمرة أو الحج الأصغر تقع في مكّة[4]. أمّا الحجّ فهو يدور في أماكن متعدّدة ثلاثة بالضبط: عرفة والمزدلفة ومنى، ولا علاقة له بالبيت، ولا ينتهي على الأرجح بالطواف

(170)

حوله، إنّما بالذبح وحلق الشعر بمنى[1]. كما يرى أنَّ الحجّ الجاهلي يحتوي على طقوس غريبة لا يتبيّن معناها ظاهراً.

مثلاً: إنّها لا تقام في مكان مغلق، بل في الهواء الطلق وتحت الشمس.لذا، يطلق المؤلّف عنان مخياله، ليقول: «إنّ وقفة عرفات وكلّ الحج في الجاهليّة هي من شكيلة العبادات الشمسيّة، عبادة الشمس كجرم مخيف عظيم وعبادتها كإله»[2].

ويستشهد مّرة أُخرى بجاكلين شابي، ليقول: إنّ الوقوف في حرارة الشمس هو نداء لهذا الكوكب الإله أن تخفّ وطأته كي تنزل أمطار الخريف[3]، فهذه الشعائر من دون شكّ لها علاقة وطيدة بالشمس والمطر[4] وهي «تعبّر عن أزمة ليس داخل الجماعة، وإنّما بين الجماعة والطبيعة، وأنّها تنفرج بالنحر وإسالة الدم، ثمّ بعد ذلك بثلاث ليال من الاحتفاء والاحتفال تسمّى أيام التشريق»[5].

كما أنّ الرمي «هو وضع أحجار في مكان مقدّس احتراماً وإجلالاً للآلهة الأوّليّة، وهو يدخل في الثقافة الأنثروبولوجيّة للعرب، أي أنّه عمل برّ، ولا علاقة له بالعنف في الرمي الجاري اليوم لاعتقاد المسلمين أنّهم يضربون الشيطان بالحصى»[6].

(171)

ثمّ بعد هذا السرد، يصف جعيط الحجّ الجاهلي والوثني بالروعة والجمال والرمزيّة، وكأنّه يتأسّف عليها حينما جاء الإسلام و«أجبر الحجيج على أن يفيضوا قبل بزوغ الشمس من المزدلفة لفكّ الرباط بين الشمس وشعائر الحج، وهكذا دمّر الإسلام كلّ هذه الرمزيّة، وأفرغها من لبّها مع الإبقاء على الشكل الطقسي الحركي»[1].

ويلاحظ عليه: إنّ الأصل في طقوس الحجّ ليس هو معاداة الجاهليّين آنذاك، كما رسمه جعيط حيث جعل الأصل وأساس الحجّ هو ما سنّه عرب الجاهليّة، حتى يكون الإسلام هو الذي جاء متطفّلاً عليها، وسبّب في تحريفها وإفقادها الرمزيّة التي يأسف عليها جعيط.

بل العكس هو الصحيح، بمعنى أنّ الحج شعيرة دينيّة، وبناء البيت ورفع قواعده تمّ على يد إبراهيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد قال تعالى: ﴿وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[2].

وكما ورد أيضاً في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[3].

فالقرآن يصرّح بأنّ نبي الله إبراهيم عليه‌السلام طلب من الله تعالى أن يعلّمه

(172)

طقوس الحج ﴿وَأَرِنا مَناسِكَنا [1]، فهشام جعيط الذي يدّعي بأنّه يريد أن يرسم السيرة وفقاً للقرآن وأن لا يتعدّاه ويلتزم بما يقوله، كان حريّ به أن يجعل الطقوس الجاهليّة طقوساً محرّفة وأنّ الإسلام جاء وأرجعها إلى نصابها الحقيقي.

وهناك روايات كثيرة وردت في المصادر الإسلاميّة تدلَّ على ما قلناه، غير أنّ هشام جعيط يسفّه دائماً أخبار المصادر عندما لا تروقه، وعليه لم نستشهد بها لإثبات المدّعى.

(173)

المبحث الثالث: الفترة المكّيّة

يرى هشام جعيط أنّ «أهمّيّة مكّة قبل الإسلام بالنسبة للمؤرّخ تكمن في أنّ الإسلام نشأ فيها، وأنّ النبي محمداً من أبنائها من دون شكّ، وأنّ الدعوة الأولى قامت فيها... والدين المحمّدي بعد جعل من الكعبة بيت الله ووصلها بعمل إبراهيم»[1].

إنّ ما كانت تمتاز به مكّة من نظم أساسيّة: دينيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، أدّت إلى نعتها في القرآن بأمّ القرى.

ثمّ إنّ الطريق الوحيد للتعرّف على تاريخ مكّة، هو المصادر العربيّة القديمة مع ما فيها ـ بحسب جعيط ـ من أساطير ومعلومات مشتّتة، مضافاً إلى أنّها تختزل ذلك التاريخ بأشخاص وأحداث معيّنة: قصي، أبناء عبد المطلب، غزوة أبرهة، عام الفيل وما شاكل. مع إذعانه بأنّ هذه الأحداث وكذلك هؤلاء الأشخاص تمّ المبالغة فيها وفيهم[2].

طبعاً، لا ضير في هذا، وإشكال جعيط غير وارد؛ إذ إنّ هذه المصادر لم تكن كتب تاريخ، بل دوّنت لضبط سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه وما يمتّ إليه بصلة، مع شرح مختصر من الفضاء العامّ الذي ولد فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلا يصحّ إنزالها منزلة كتب التاريخ العامّة التي يفترض أن تقيّد كلّ شاردةٍ وواردةٍ.

ونحن بدورنا هنا، نشير إلى أهمّ الإشكاليّات التي وردت في ثلاثيّة جعيط حول السيرة النبويّة، وما لها وما عليها، وذلك ضمن النقاط الآتية:

(174)
١ ـ الأسرة والعشيرة:

١ ـ ١ ـ قريش:

يهتمّ جعيط بقريش ويعطيها الدور المركزي في انبثاق الدعوة النبويّة وتطوّرها في مكّة[1].

ويرى -أيضاً- أنّ قصي بن كلاب هو الذي أسّس قريشاً، وقام بعمليّة الاستقرار في البطاح حول الكعبة وهم قريش البطاح وألحق بهم قريش الظواهر، أي الذين قطنوا الظهر خارج البطاح، وكانوا يختلفون في طريقة حياتهم ومعاشهم عن قريش البطاح[2].

كما أنّ قريشاً في بداية أمرها كانت وفي أصلها بدويّة قائمة على تربية المواشي[3] ثمّ تموّلت وسكنت المدينة وتحضّرت قبيل ظهور الدعوة النبويّة[4]، ولجهود قريش أصبحت مكّة مزدهرة ونامية[5]، واستمّرت قريش في فخذين رئيسين: عبد مناف وعبد شمس[6]، وقريش هذه هي قبيلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ ١ ـ قصي:

قصي بن كلاب جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأعلى، وهو الذي أسكن قريش مكّة،

(175)

ويرى هشام جعيط أنّ قصيّاً لعب دوراً مهمّاً[1]، ويذكر عن المصادر أنّه الذي أسّس مؤسّسات قريش: دار الندوة، اللواء، سدانة البيت، السقاية والرفادة وغيرها[2].

غير أنّ جعيط يرى ـ على رغم المصادر ـ أنّها ضخّمت من هذا الدور؛ لأنّه جدّ النبي الأعلى وجدّ خلفاء الدولتين[3]، وبعبارة أُخرى: إنّ المصادر اختزلت مساراً كاملاً في شخص واحد وهو قصي[4].

وما يذهب إليه جعيط بهذا الخصوص، أنّه لم توجد أيّام قصي على الأرجح من المؤسّسات إلّا السدانة، أمّا الباقي قد أبدعها أبناؤه أو حتى في البعض منها أحفاده[5].

كما يشكّك جعيط في وجود أيّ دور لقصي في سيرورة الحجّ «الأكبر»؛ إذ إنّه من شأن العرب، ولم يتدخّل قصي في ذلك ولم يقدر عليه، ويستشهد بنصّ من تاريخ الطبري لذلك[6].

ومن الطريف أنّ جعيط يعترف بوجود روايتين حول قصي، إحداهما مطوّلة ويصفها بكونها مليئة بالخرافات، والثانية مقتضبة ويصفها بأنّها أكثر واقعيّة[7].

(176)

ولم يذكر سبب اعتماده على الثانية دون الأُولى؛ إذ لو كان لا بدّ من الاعتماد على المصادر ـ وهو كذلك إذ لا يوجد طريق آخر ـ فلماذا وصف الأولى بالخرافة دون الثانية. نعم، إنّ ذلك ينبع من اعتماده على بعض مناهج المستشرقين في تلقّيهم للخبر، فيزعمون أنّ الرواية المختصرة والمشوّشة أقرب إلى الصحّة من الرواية والخبر المنتظم المتسلسل؛ إذ احتمال الوضع فيه أكثر، وهذا مجرّد تخمين واحتمال وليس أكثر.

ثمّ إنّ مجرّد طرح احتمالات واستبعادات من دون تقديم دليل مقنع، لا يمتّ إلى البحث العلمي بصلة، والمؤرّخ الحصيف عندما ينكر أو يثبت لا بدّ أن يقوم بجمع الأدلّة وتحليلها، والبحث عن التناقضات ثمّ تقديم ما يتوصّل إليه، أمّا مجرد كون قصي رضي‌الله‌عنه  جدّ للخلفاء، والحكم على الروايات بأنّها لتلميع الصورة، فهذا بعيد عن الصواب.

وقد توفّي قصي حوالي ٥٠٠م عند جعيط، أو ٤٨٠م حسب رأي ريني سيمون[1].

٣ ـ ١ـ أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله:

يعرّج جعيط مختصراً على هاشم بن عبد مناف بن قصي، جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأعلى الثاني، ويرى أنّه مات شاباً ولم يلعب دوراً كبيراً، والمصادر تضلّل؛ لكونها تريد إرجاع كل شيء إلى عبد شمس وهاشم جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجدّ العبّاسيّين[2].

(177)

كما أنّه يطعن في بني هاشم عموماً، ويرى أنّ كلّ ما ورد في المصادر من حمايتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودورهم الاجتماعي، ودخول الشعب، كلّه مختلق ومن نسيج الخيال والأيديولوجيا ومن الأساطير، هدفها إظهار بني هاشم في ثوب المضطهدين دفاعاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم تعذّبوا في سبيله، والحال أنهم خاملين فكريّاً ومادّيّاً واجتماعيّاً [1].

وكذلك بالنسبة إلى عبد المطلب، يرى أنّ مجموعة من الأساطير نُسجت حوله، وكذلك ما قيل من كونه كان عند أمّه في يثرب إلى أن حمله عمه إلى مكّة، فهو خرافة اختلقتها الأنصار، كما اختلقت خرافات حول مآثر عبد المطلب بينما في الواقع لم يكن له موقع يُذكر مقارنة مع أبناء طبقته في السنّ، وما قيل من منافرته مع أميّة فغير مقبول؛ والسبب في كل هذا الاختلاق عند جعيط أمران:

١ ـ أراد العبّاسيّون أن يرفعوا من شأن جدّهم المشترك القريب بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عبد المطلب؛ وذلك لمضاهاة بني أميّة والتغلّب على منافسة بني أبي طالب، وأصحاب السير اتّبعوا ذلك.

٢ ـ وجود سبب ديني بحت وهو وجوب أن ينحدر الرسول من أذكى الأجداد وأشرفهم [2].

وبخصوص أبي طالب عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى جعيط أنّ المصادر تريد أن تمثّله كسيّد قريش[3] وما ذكر من دفاعه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام قريش عندما أرادوا

(178)

تسليمه إليهم وأخذ عمارة بن الوليد مكانه، وتهديدهم لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، كلّه من باب القصص والخيال والأسطورة[1]، كما أنّ قصّة الأرضة التي أكلت الصحيفة من باب الخيال الديني[2].

ويرى أخيراً وتقليلاً لهذا الجفاء أنّ حماية أبي طالب عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحنوّه عليه لا يمكن الطعن فيه، حيث كان أبو طالب مخاطباً مرموقاً لسادة قريش، وكان يلعب دوراً في تخفيف حنق قريش على ابن أخيه، ولكن مع هذا يرى جعيط أنّ دوره قد بولغ فيه كثيراً، وأنّ السيرة لا تبرزه كشخصيّة قويّة[3].

ومن الطريف أنّه بعد هذا الردّ والإنكار ورمي السيرة بالوضع والاختلاق، يؤيّد الروايات الدالّة على مجيء قريش إلى أبي طالب، وطلبهم منه أن ينصح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليخفّف ويكف عنهم، ويقول: «تبدو الروايات قريبة من الحقيقة ومقنعة؛ لأنّها تتماشى مع النصّ القرآني ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ[4]».

أمّا بالنسبة إلى عبد الله أب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فيرى جعيط أنّ الروايات هنا متضاربة أيضاً، فلذا يشكّك أوّلاً في اسمه «عبد الله» ويرى أنّه «غير متداول في هذا البطن» مع اعترافه بأنّه اسم متداول عند العرب، ويرجّح أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي سمّى أباه بذلك أو بعض الصحابة أو التابعين.

وكذلك يشكّك في أنّ عبد الله مات قبل ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل يرى أنّه

(179)

توفّي ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صغير السن من دون شكّ، وأنّ الذي مات قبل ولادته جدّه[1].

وبعد هذا اللفّ والدوران والتشكيك في المصادر وكتب السير والتاريخ، يبدي جعيط عدم يقينيّة آرائه ومواقفه هذه، ليقول: «كلّ هذه التساؤلات مشروعة ـ وإن هي إلّا تساؤلات ـ بالنسبة للفكر التاريخي النقدي»[2]. لتكون كلّها هواء في شبك، ومجرّد تشكيك من دون الوصول إلى ساحل اليقين.

ويلاحظ على ما ذكره جعيط حول أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله:

١ ـ نحن لا ندّعي أنّ بني هاشم كان لهم من المال ما كان لغيرهم من قبائل قريش، ولكن ما ثبت في المصادر هو نفوذهم المعنوي الكبير وسيادتهم وجاههم العريض، ولذا تمكن عبد المطلب سيّما أبو طالب عليه‌السلام من حماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولذا لم يهاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة حياة أبي طالب عليه‌السلام، ومجرّد كون هاشم أو عبد المطلب من أجداد الخلفاء لا يسبّب التشكيك في الأخبار أو نفيها لسلب جميع المكرمات أو التقليل من شأنها.

٢ ـ من أين اكتشف جعيط أنّ عبد المطلب أقلّ شأناً من أقرانه ومن أبناء طبقته في السن، ليرفع من شأن أولئك ويضع من شأنه؟! أليس توصّل إلى ذلك من خلال أخبار السيرة وكتب التاريخ؟! فلماذا يعتمد تلك الأخبار ويدع هذه؟!

(180)

٣ ـ من الطريف أنّ هشام يعلّل خلق الأخبار في فضائل عبد المطلب بأنّها جاءت من قبل خلفاء بني العباس ليرفعوا من شأن جدّهم أمام بني أميّة ولمنافسة بني أبي طالب أيضاً، والحال أنّه يعترف بأنّ السيرة الكتابيّة دوّنت من خلال السيرة الشفهيّة، ومعلوم أنّ السيرة الشفهيّة كانت في زمن بني أميّة، فمدّعى جعيط خطأ وغير وارد طالما أنّ السيرة دوِّنت في فترة بني أميّة ولم يكن أثر لبني العباس، فكيف يقومون بوضع هذه الروايات والقوّة والمال والسلطة بيد غيرهم؟!

٤ ـ أمّا السبب الثاني الذي يذكره جعيط لإثبات وضع روايات فضائل أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، هو إثبات انحدار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من أذكى الأجداد وأشرفهم، وقد غاب عنه ـ وليس هذا على العلمانيّين ببعيد ـ أنّ النبوّة اصطفاء من الله تعالى، وهو الذي يختار أطهر الأوعية لحمل نور النبوّة، فلا داعي لوضع أخبار لإثبات ذلك، ولو دقّق جعيط في مخاطبة الله وإبراهيم عليه‌السلام لعرف الأمر جيّداً وما تفوّه بما قاله.

قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [1]. فالعهد الإلهي أي النبوة والإمامة له شأن خاصّ، ولا يكون إلّا في سلسلة طاهرة.

وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ

(181)

عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ  ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[1] [2].

فهذه الآيات مضافاً إلى دليل العقل في لزوم حسن منبت النبوّة؛ لئلّا يكون منفّراً، تدعم الأخبار الدالّة على فضائل أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٥ـ نحن لا ندّعي صحّة جميع ما ورد في كتب السيرة والتاريخ، بل نجاري هشام جعيط ونعترف بلزوم غربلة الأخبار، ولكن وفق معايير علميّة سليمة لا طبقاً لأهواء وقناعات وخلفيات فكريّة مستقاة من مناهج علمانيّة مادّيّة مضادّة للدين ولما هو قدسي.

وبخصوص أبي طالب عليه‌السلام، فإنّ موقف هشام جعيط متناقض تماماً، فنراه ينسب الأخبار إلى الدسّ والوضع وأنّ أخبار فضائله مبالغ فيها، ونراه بعد أسطر أو صفحات يجعله المحامي المدافع القوي الذي تستنجد به قريش لينصح ابن أخيه حتى يكفّ عن آلهتهم، فلو لم يكن قويّاً ذا جاه عريض ومهاباً لما رُوعي جانبه، ولما تمكّن من الدفاع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكذلك، كلّ ما يذكره من إنكار دخول الشعب وخبر الصحيفة والأرضة، لا قيمة له بعدما ورد وثبت في المصادر لدى الفريقين، وبعد مساعدة الشواهد التاريخيّة والمنطق التاريخي لها، وتبقى تشكيكاته مجرد رشحات بائسة من مخياله العلماني، كما اعترف هو بذلك وقال إنّها تساؤلات ليس أكثر.

(182)

ومن الطريف أنّ المؤلّف إذ ينكر حادثة الشعب ودفاع بني هاشم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يثبتها في مكان آخر من كتبه، ويقول: «خرج طريداً إلى الشعاب المحيطة بمكّة، وقد أيّدته حركة رائعة؛ إذ تضامنت معه عشيرته من بني هاشم الذين كانوا في أكثرهم من غير المؤمنين»[1].

٦ ـ أمّا تشكيله بخصوص عبد الله أب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسميته، فمن الطبيعي أن تتضارب الأخبار، كما هو حالها في سائر المواضع، غير أنّ هذا التضارب لا ينفي وجود أدلّة وأمارات تنير الدرب أمام الباحث، فطالما أنّ اسم عبد الله كان مرسوماً لدى العرب ـ كما يعترف به جعيط ـ فما المانع من تسميته بذلك رغم عدم استعماله عند هذا البطن من قريش مثلاً، فلماذا نذهب إلى ترجيح غير مرجّح لننسب ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى الصحابة من دون وجود أيّ مبرّر سوى تخمينات وتخيّلات وهلوسة علمانيّة. وفي رواية اليعقوبي (ت٢٨٤هـ) أنّ عبد المطلب هو الذي سمّاه عبد الله [2].

٢ ـ المولد والتسمية:

١ ـ ٢ ـ المولد:

 يرى هشام جعيط أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يولد قبل سنة ٥٨٠م تقريباً، وما ذكر أنّ الولادة كانت عام ٥٧٠م غير صحيح ولا يصمد أمام الفحص؛ لسببين:

ألف: إنّ هجوم أبرهة على العرب كان سنة ٥٤٧م حسب النقوش، ولا

(183)

يوجد أيّ سبب ليولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عام الفيل، وهذا إنّما هو مجرد علامة زمنيّة ليس أكثر.

ب: لقد ثبت أنّ البعثة كانت حوالي ٦١٠م، وأنّ الهجرة إلى المدينة وقعت قطعاً سنة ٦٢٢م حسب شهادة أوراق البردي المتبقّية. وعليه، لا داعي للقول بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث في الأربعين من عمره، وإجماع المصادر في هذه النقطة لا قيمة له[1].

ويناقش أيضاً في استشهاد المصادر بقوله تعالى: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ[2] لإثبات البعثة في سنّ الأربعين. ويرى أنّ المقصود من العمر هو الجيل والجيل يعني عدد السنين الكافية جسديّاً لكي ينجب الإنسان ولكي ينجب ابنه أيضاً، وهو يعني سن الثلاثين أو ما يقارب ذلك.

وعليه، يرى جعيط أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في الثلاثين أو قبل ذلك، ولم يولد إلّا حوالي ٥٨٠م، ولم يعش إلّا خمسين سنة ونيّف[3].

٢ـ ٢ـ التسمية:

يرى هشام جعيط أنّ المصادر اتفقت على أنّ اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو محمد منذ ولادته، واعترفت المصادر أيضاً بأنّ هذا الاسم لم يكن جارياً لا عند قريش ولا عند العرب، وإن كانت بعض العرب سمّوا أبناءهم بهذا

(184)

الاسم ترقّباً للنبوة. لكن رغم هذا، يرى جعيط أنّ هذا من باب الأسطورة ليس إلّا، أي أسطورة الرسول[1].

ولكن، عندما نرى وجود هذا الاسم في القرآن، يحاول أن يبرّر المؤلّف ذلك، ليفرّق بين الفترة المكّيّة والفترة المدينيّة، ففي الفترة المكّيّة لم يرد الاسم، والآيات التي ذكرت اسم «محمد» أو «أحمد» إنّما هي آيات مدينيّة، ليخرج بنتيجة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي لقّب نفسه بمحمد؛ لأنّ محمداً عند المؤلّف صفة وليس اسماً.

وأكثر من ذلك، يرى المؤلّف أنّ «محمد» مأخوذ من السريانيّة من دون شكّ؛ لأنّهم كانوا يسمّون الطبقة العليا بكلمة «محمدان» وأطلقوه على الأمراء وتعني الأمجد، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اتخذ هذه الكلمة «محمد» لقباً لنفسه بعد أن ارتفع مقامه، وأعطاها بُعداً دينيّاً وربطها بتراث المسيحيّة زيادة على معناها الدنيوي.

والخلاصة: إنّ هدف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من تلقيب نفسه بمحمد يكمن في أمرين:

١ ـ الفخامة الدنيويّة.

٢ ـ المقام الرفيع في سيرورة الدين التوحيدي وشرعيّة التمادي[2].

أمّا الاسم الأصلي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيعتمد المؤلّف على بعض المصادر ـ رغم

(185)

طعنه الدائم وتمسّكه بالقرآن ورغم ورود اسم محمد في القرآن ـ ليقول: إنّ اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو قثم، لما ورد في أنساب الأشراف بخصوص عبد الله أب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: «يكنى أبا قثم ويقال أبا محمد»[1].

كما يذكر البلاذري أيضاً أنّ من أبناء عبد المطّلب من اسمه قثم توفي في الصغر، وأنّ أباه كان يحبّه كثيراً، فمن المعقول أن نستنتج أنّ النبي سمّي على اسم عمّه المفقود، وهذا من عادات قريش.

كما أنّ العبّاس عمّ النبي سمّى ابنه بقثم بعد أن تلقّب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحمد ونزع الاسم الأصلي، وتذكر المصادر أنّه كان يشبّه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهذا استنتاج معقول عند المؤلّف أيضاً[2].

وبعد كلّ هذا اللف والدوران، يرى جعيط أنّه ليس من المهمّ أن نعرف اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأصلي، وما يذكره إنّما هو استنتاجات من قرائن موجودة لو ثبتت صحّتها[3].

ويلاحظ عليه:

١ ـ كما قلنا غير مرّة بأنّ ما أجمعت عليه المصادر، ولم يخالف بديهة أو عقل أو القرآن، فلا داعي لتركه والتمسّك بتحليل أو تأويل فارغ، فطالما أنّ المصادر أجمعت في تحديد المولد النبوي الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله في عام الفيل[4]،

(186)

أي بما يقارب عام ٥٧٠م، فلا داعي لإنكاره، سيّما وأنّ المؤلّف نفسه يعترف ويؤيّد بأنّ المولد النبوي كان في ٥٧٠ ميلادي[1].

٢ ـ أمّا بخصوص التسمية، فالمؤلّف يعترف بأنّ هذا الاسم كان متداولاً عند العرب، كما يعترف بأنّ المصادر اتفقت على ذلك أيضاً، فلا داعي لإنكار ذلك وحياكة قصّة خياليّة تخالف هذا من دون أيّ مبرّر أو سبب معقول.

سيّما وأنّ الاسم ورد في القرآن أيضاً، وإن حاول جعيط أن ينسبه إلى الفترة المدينيّة وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي لقّب نفسه بهذه الصفة وليس الاسم ـ على حد زعمه ـ. وهذا الكلام ينسف ألوهيّة القرآن من الأساس وينفي كونه وحياً، والحال أنّ جعيط لم يقل بهذا بل يعتقد بألوهيّة القرآن وإيحائه من الله تعالى. وعليه، لا بدّ أن يتراجع عن زعمه ومخياله هذا في تسمية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحمد، وإن لم يرد ذلك في القرآن المكّي؛ لأنّ القرآن ليس كتاب تاريخ، ولا يريد أن يدوّن كلّ شاردة وواردة، أو أن يتراجع عن ألوهيّة القرآن فينسف كلّ ما كتبه عن السيرة، وما حاكه بمخياله العلماني.

٣ ـ لا يحقّ للمؤلّف أن يترك ما استضاف من روايات وأخبار في اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتمسّك بأخبار شاذّة تخالف ذلك من دون أيّ مبرّر معقول، مع أنّه في آخر المطاف يشكّك في صحّتها ويجعل ما حاكه مجرّد استنتاجات.

٣ ـ الزواج:

يتطرّق هشام جعيط إلى مسألة الزواج في الجاهليّة بشكل عامّ؛ لأنّه

(187)

يدخل في صميم عمل الأنثروبولوجيا، وهو يُعدّ من أجلى صور التحوّل من الطبيعي إلى الثقافي، يقول: «إنّ التحوّل من الطبيعي إلى الثقافة، وعليه يبنى المجتمع، يظهر بأجلى صورة في أعراف الزواج»[1].

ومن هذا المنطلق، يتطرّق إلى زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خديجة سلام الله عليها، ويشير -إجمالاً- إلى ما ورد في كتب السيرة من طريقة الزواج، وأنّها التي طلبت ذلك، ليقول في النهاية: «أمّا قصّة خديجة، فقد تكون مجرد قصّة»[2]. كما أنّه يغمز في كتب السيرة حيث تؤكّد على عدم الكفاءة الماليّة بينهما، وأنّ الأعراف ما كانت تسمح بذلك إلّا بإرادة الزوجة الشخصيّة، ليقول: إنّ كتب السيرة «نسيت أنّ الكفاءة لا تتمثّل فقط في المال ـ مهما طغت المادّة إذّاك ـ بل أيضاً في الشرف التليد»[3] ليؤكّد على مبدأ الكفاءة الاجتماعيّة.

ويشكّك جعيط -كعادته- في سائر تشكيكاته في دور خديجة، ويقول: «أمّا بخصوص دور خديجة في الإسلام الأوّلي، فلا نجد أيّة إشارة إلى ذلك في القرآن، وكلّه من أخبار السيرة، وقد يصحّ قسم منها أو قد تكون كلّها من عمل الأسطورة، وهذا أمر مشروع جدّاً في تكوين الخيال الديني»[4].

بعد هذا، يعرّج على زينب ابنة عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسبب زواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله منها، وهنا يعرّض على المصادر والمستشرقين حيث لم يحسنوا فهم القصّة

(188)

وجعلوها مسألة عشق طارئ جديد، ليصفها بحقّ أنّها خرافة سوقيّة[1].

وما يذهب إليه جعيط بهذا الخصوص، أنّ الزواج ببنت العمّ كان محرّماً في الجاهلية والإسلام هو الذي حلّل ذلك، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف زينب من ذي قبل، وإذا كانت المسألة مسألة حبّ لماذا لم يتزوّجها من ذي قبل، بل زوّجها من متبنّاه زيد بن حارثة. فالسبب كما يراه جعيط أوّلاً: تحليل الإسلام للزواج ببنت العمّ، وثانياً للإشارة إلى رفع أيّة أُبوّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأيّ رجل من رجال المؤمنين، فهذا الزواج يُعدّ فسخ عقد التبنّي الذي كان رائجاً في الجاهليّة[2].

أمّا عائشة، فيرى من خلال تتبّع المصادر أنّ قريشاً والحضر لا تزوّج بناتها قبل الحلم، لذا يخطّئ ما ورد من زواج عائشة في السن التاسعة لألف سبب على حدّ تعبيره، منها: إنّ المرأة لا تبلغ إلّا بعد العاشرة أو أكثر، ومنها: إنّه ما كان بإمكان أبي بكر ولا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مخالفة أعراف القوم، ومنها: إنّ نفس القصّة تشير إلى عكس المراد من سنّ عائشة؛ إذ تجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ترقّب لأمرها إلى أن تكبر[3].

وأخيراً يشير جعيط إلى أمرين:

١ـ إنّ تعدّد زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة، كان استراتيجيّة سياسيّة جديدة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يكن فيهنّ بكراً سوى عائشة.

(189)

٢ـ إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينجب ولداً على رغم ما ورد في المصادر من وجود ابن له من مارية مات صغيراً، ليقول: «المعقول هو أنّه لا يمكن أن يكون للنبي ابن؛ لأنّ النبوّة لا تورّث، ولأنّه لم ينجب من نسائه الأخريات وهنّ كثرة بالمدينة»[1].

٤ ـ البعثة النبويّة:

يصف هشام جعيط البعثة النبويّة بلحظة التجلّي[2] ويتحدّى جميع المصادر ليأخذ موقفاً شائكاً بخصوص هذه اللحظة، فإنّه رغم اعترافه بتواتر الأخبار الواردة في أنّ البعثة بدأت من غار حراء بواسطة تجلّي جبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنزال سورة ﴿اقْرَأْ، غير أنّه يرفضها جميعاً، ويعتقد أنّ لحظة التجلّي أو البعثة حصلت كما تمّ تصويرها في سورتي النجم والتكوير، ولم يرد أيّ أثر لغار حراء فيهما[3].

وللتدليل على معتقده، يقول: «قصّة الغار هذه تنسى أنّ القرآن ربط بصفة أساسيّة التجلّي في الأفق والوحي ذاته، وأنّ الوحي حصل في هذه اللحظة لا في غيرها»[4].

ويعيد كلامه ويؤكّده بقوله: «إنّ المصدر الوحيد الوثيق للتجلّي والوحي هو إذن القرآن في سورتي التكوير والنجم، وبالتالي فإنّ قصّة غار حراء وما تبعها اختلاق بحت، لكنّها ترمز بشكل مسرحي إلى أمور جدّيّة وهامّة،

(190)

وتعكس آراء وتصوّرات ظهرت فيما بعد في الضمير الإسلامي»[1].

كما أنّه يشير إلى عدّة أسباب في اختلاق قصّة الغار ويناقشها:

١ ـ تصوير أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحنّث قبل البعثة ويبحث عن العزلة كغيره من الحنفاء. وهذا يرفضه المؤلّف ويقول إنّه مشكوك فيه؛ إذ لا نعرف شيئاً عن فترة ما قبل النبوّة، أي زمن المراهقة إلى البعثة، مع اعترافه بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له هوس بالشؤون الدينيّة من زمن بعيد ولم يأت فجأة.

٢ ـ تشير السيرة إلى صراع مع الملك المرسل، ورفض من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للقراءة، «فعبارة: (ما أنا بقارئ) التي تبدو مبهمة لا تعني برأيي: لا أحسن القراءة، بل أرفض أن أقرأ؛ لأنّي حرّ في أن أقرأ أو لا أقرأ. ولم يطع النبي هذا الأمر حسب الرواية إلّا مكرهاً بالقوّة».

والحال أنّ استعمال القوّة مرفوض في القرآن في سورتي التكوير والنجم «حيث جرت الأمور في جوّ بعيد عن العنف، في جوّ تقبّل وعطف وتقارب شديد»[2].

٣ ـ إنّ ما ورد في قصّة الغار من تشكيك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في رسالته وخوفه من الجنون، وعن غمّه وحزنه ممّا أصابه حتى أنّه فكّر في الانتحار، وقصّة اختبار خديجة لهويّة الملك أهو ملك أو شيطان، كلّ هذا مرفوض وغير مقبول، «وهي قصّة قد تعبّر عن الأنثروبولوجيا العربيّة بخصوص الخير والشر، وعلاقة ذلك بالمرأة وجنس المرأة، إلّا أنّها مشوبة بقسط من المسيحيّة نجده بقوّة عند ورقة بن نوفل الذي لا يمكن قبول حكمه حول البعثة».

(191)

كلّ هذه الأُمور: «تريد عن قصد أو عن غير قصد، أن تبرز أنّ النبي إنّما كان رجلاً عاديّاً تماماً لم يختر لنفسه هذا المسار، وإنّما اصطفاه الله بمشيئته»[1].

٤ ـ تهدف قصّة حراء إلى تركيز مفهوم أمّيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، «والمقصد الإسلامي واضح، وهو تنزيه القرآن عن كلّ يد بشريّة، فلم يكن محمد شاعراً، ولم يكن حكيماً فيلسوفاً، ولم يكن عالماً بكتب الأوّلين... إنّما هو تنزيل من الله» [2].

لكن جعيط يشكّك في هذا:

أوّلاً: إنّ مفهوم القراءة في قول الملك ﴿اقْرَأْ غامض ومتناقض، فهل هو حلّ رموز النصّ وقراءته، فلماذا تعنيف الملك للرسول وهو أميّ لا يقرأ؟ أو هل المقصود هو تلاوة النصّ بصوت عال تبعاً للرسول، فهو أي: (ما أنا بقارئ) رفض من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للخضوع لما ورائي مجهول يريد أن يفرض عليه دوراً سلبيّاً بأمر آمر[3] .

ثانياً: معنى الأمّيّة عند جعيط ليس بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، بل المقصود من ﴿النَّبِيَّ الأُمِّيَّ[4] هو «النبي المبعوث من غير بني إسرائيل».

«فعبارة النبي الأميّ موجّهة بالأساس إلى يهود تلك الفترة، أكثر ممّا

(192)

هي موجهة إلى المسيحيّين، وتعني النبي المبعوث إلى العرب والأمم الأُخرى»[1].

والمؤلّف يعتقد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «كان يحسن القراءة والكتابة، وأنّه كان يتمتّع بأوصاف النبوغ والعبقريّة والحافظة والذكاء والوقاد». والمسلمون في العهد الخليفي أي القرن الثاني والثالث، هم الذين أرادوا أن ينزعوا عنه هذه الأوصاف في سبيل دعم إلهيّة القرآن[2].

والنتيجة: إنّ «قصّة غار حراء ليست مختلقة فقط، بل هي سخيفة لم تع شيئاً من الأمور»[3]. «بل كلّ هذا لا يتماسك منطقيّاً وتاريخيّاً ويشهد القرآن على عكس ذلك تماماً في سورتي التكوير والنجم»[4].

إنّ هشام جعيط بعد رفضه القاطع لغار حراء، وعدم وجود أيّ إشارة إليه في القرآن، يعتقد بوجود تلميحة في القرآن تشير إلى الشخصيّة الماورائيّة التي رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وفي سورة النجم قوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى[5]. «وقد يشير مفهوم التعليم هذا إلى لحظة سابقة أوّلت كقصّة غار حراء»[6].

كما أنّ «ابن إسحاق يذكر رؤيا حراء، ثمّ يدعمها برؤية ثانية للملك في الأفق كي لا يتضارب مع القرآن، في حين أنّ القرآن يذكر رؤيتين فقط لا علاقة لهما بأيّ غار»[7].

(193)

بما أنّ هشام جعيط يعترف بأنّ خبر نزول القرآن في غار حراء متواتر ومع هذا ينكره، فلا نتمكّن من محاجَّته بحشد النصوص والأخبار المؤيّدة؛ إذ إنّها لا تخفى عليه وهو مطلع عليها، ولا يبقى لنا طريق لمناقشته سوى من خلال مناقشة الأدلّة التي ساغها، فإذا تمّت كان الحقّ معه وإلّا فلا، والأدلّة التي أقامها وذكرناها هي:

١ـ إنّ القرآن ذكر لحظة التجلّي الأولى ونزول الوحي وبدء البعثة في سورتي النجم والتكوير، ولا توجد فيهما إشارة إلى قصّة الغار، فهي مفتعلة.

ونقول: لو كان هشام جعيط ملتزماً بمنهجيّته التاريخيّة في دراسة السيرة، ما كنّا نناقشه، غير أنّه لا يلتزم بهذه المنهجيّة، فإنّه يعترف أوّلاّ بأنّ القرآن لم يورد جميع السيرة النبويّة ولا يذكر كلّ المحطّات[1] فلا داعي لاستغرابه بعدم ذكر قصّة الغار؛ إذ هو ليس كتاب سيرة، وثانياً نرى كثيراً ما يخالف جعيط منهجه، ويلتزم بحوادث لم ترد في القرآن من قبيل الاعتراف بصحيفة المدينة، كما سيأتي، والحال أنّها لم ترد في القرآن وكانت حدثاً هامّاً محوريّاً للتآلف بين اليهود والمسلمين[2]، وكذلك يسكت عن أمور وردت في القرآن من قبيل حادثة المباهلة، فلم يتكلّم عنها رغم أهمّيّتها ورغم أنّه خصّص مبحثاً مستقلّاً للتأثيرات المسيحيّة على الإسلام والقرآن، كما أنّه يقبل حديث المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين في المدينة ولم يرد في القرآن [3].

(194)

يقول الدكتور عماد الدين خليل في معرض نقده للمستشرقين الذين يدّعون التمسّك بالقرآن في دراسة السيرة: «إنّ اعتماد القرآن الكريم في هذا المجال، يمكن أن يعدّ سلاحاً ذا حدّين، ويتمثّل الحدّ السلبي بنفي الكثير من أحداث السيرة ما دامت لم ترد في القرآن الكريم، وكأنّ القرآن كتاب تاريخي خاصّ بتفاصيل حياة محمد، وهذا مكّنهم من عمليّة انتقاء مغرضة ذات طابع هدمي معاكس، وهي التشكيك أو نفي كلّ رواية لا تردّ مؤيّداتها في القرآن، ولا سيّما إذا كان في هذه الرواية تمجيد للنبي، أو كان في نفيها تأكيد لإحدى وجهات النظر الاستشراقيّة»[1].

٢ ـ القرآن الكريم قد ربط التجلّي في الأفق والوحي، وأنّ الوحي حصل في هذه اللحظة لا في غيرها.

ويرد عليه: أوّلاً: إنّه يعترف بتورخة القرآن ويشيد بعمل نولدكه وبلاشير في ترتيب السور بحسب النزول، ويتّبع منهجهما، وعند مراجعة ترتيب النزول -كما أثبته جعيط في كتابه-[2] نرى أنّ نولدكه جعل ترتيب سورة التكوير والنجم ٢٧، ٢٨، وعند بلاشير ١٨، ٣٠، فإذا كان بدء الوحي في سورتي التكوير والنجم لا بدّ من جعلهما في بداية الترتيب.

والملفت للنظر أنّ نولدكه وبلاشير كلاهما جعلا المقطع الأوّل من سورة العلق أوّل ما نزل من القرآن، ممّا يعني أنّ لحظة التجلّي الأوّل وبدء البعثة النبويّة لا علاقة لها بسورتي النجم والتكوير، فكيف غاب هذا عن مؤرّخنا التونسي الحصيف؟!

(195)

وثانياً: إنّ الآيات الواردة في السورتين لا علاقة لها ببدء الوحي؛ إذ آيات سورة النجم تشير إلى حادثة المعراج النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم تتحدّث عن مسألة أوّل ما أنزل وأوّل الوحي، فتبقى مسألة غار حراء على حالها ولا تعارض بين الأمرين، ولكن بما أنّ جعيط ينكر المعراج ويجعله اختلاقاً ذا قيمة دينيّة رفيعة[1] كان لا بدّ له من ترتيب سيناريو جديد، فحاك من مخياله ما قرأناه.

أمّا آيات سورة التكوير، فلا علاقة لها ببدء الوحي أيضاً، فهي تصف الحالة العامّة للوحي العارض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فالله سبحانه وتعالى بيّن في هذه الآيات: «أوّلاً إنّه كلام الله واتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدّي، وثانياً: إنّ نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة، وهو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه وبين الله، ولا بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه ولا حفظه ولا تبليغه، وثالثاً: إنّ الذي أنزل عليه وهو يتلوه لكم، وهو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به، وقد رأى الملك الحامل للوحي، وأخذ عنه وليس بكاتم لما يوحى إليه ولا بمغيّر، ورابعاً: إنّه ليس بتسويل من إبليس وجنوده، ولا بإلقاء من بعض أشرار الجن، ونتيجة هذا البيان أنّ القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحقّ»[2].

فالآيات تصف للمتلقّي مسلماً كان أو كافراً، الوحي وطريقة تنزيله، وهي ليست من أوّل ما أنزل ولا هي لحظة التجلّي الأوّل كما زعمه جعيط، بل جاءت هذه الآيات بعد كثير من الآيات والسور، وهي تدافع عن

(196)

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتصف أنّ طريق الوحي طريق سليم، ولا تريد أن تتطرّق إلى أوّل ما أنزل من القرآن.

٣ ـ الدليل الآخر الذي يقدّمه جعيط، هو أنّ هذه القصّة تصوّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يتحنّث قبل البعثة، هو غير مقبول عند جعيط؛ لعدم وجود ما يدلّ عليه، إذ لا نعرف شيئاً عن فترة ما قبل النبوة، وزمن المراهقة.

ويرد عليه: إنّ دليله على المدّعى ينسف جميع ما كتبه وسطّره عن الفترة الجاهليّة؛ إذ كيف سلّم بارتباط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسيحيين وتأثّره بهم، وكذلك كيف شرح وقائع أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأيّد بعضها ورفض البعض الآخر، أليس هذا عن طريق الاعتماد على المصادر؟! فكيف يدّعي بعدم وجود شيء عن تلك الفترة؟!

ثمّ إنّ جعيط يؤيّد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له هوس بالشؤون الدينيّة من زمن بعيد، فكيف اكتشف هذا الهوس والميل؟ ثمّ إنّ لهذا الميل للتحنّث والعزلة والاتجاه الروحاني ظهورات وتجلّيات، منها: العزلة واتخاذ الأماكن النائية، والبعد عن زحام الدنيا والقيل والقال، فمنطق الأحداث ومنطق الميل الديني يؤيّد التحنّث في الغار.

٤ ـ والدليل الآخر الذي يتمسّك به جعيط: إنّ أخبار السيرة تشير إلى صراع مع الملك وعنف وإجبار على القراءة، غير أنّ الآيات الواردة في سورتي النجم والتكوير تجعل تلقّي الوحي في حالة ارتياح واطمئنان، وعليه فقصّة الغار غير صحيحة.

(197)

ويرد عليه: إنّ الروايات الواردة في هذا الأمر كثيرة، وربّما يستفاد من بعضها ما يقوله جعيط، غير أنّنا لا نقبل كلّ رواية هكذا من دون نقد وتمحيص للسند والدلالة، مع إذعاننا بأنّ بعضها قد اختلط بالإسرائيليّات لإلقاء فكرة معيّنة، فما هو أولى من روايات بدء الوحي ليكون موضعاً للدسّ والتزوير، وتصوير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معتمداً على مسيحي اسمه ورقة بن نوفل ليثبت له رسالته السماويّة، فنحن إذ نسلّم بأصل خبر الغار، لا نصدّق ما تمّ إلصاقه بالخبر من أمور موهنة لا تليق بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد وصف أمير المؤمنين عليه‌السلام لحظة التجلّي في غار حراء وكان مصاحباً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آنذاك بقوله:

«ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير»[1].

وفي رواية أُخرى وردت في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام، ولم نجد فيها أيّ مشهد للعنف أو مدافعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للملك: «فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق

(198)

العرش إلى رأس محمد وغرّته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه، وأخذ بضبعه وهزّه، وقال: يا محمد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[1][2]».

٥ ـ يدّعي جعيط أنّ الهدف من قصّة حراء التركيز على أمّيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ليكون القرآن منزّهاً عن أيّ يد بشريّة.

ونقول: إنّ مسألة أمّيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت وما زالت مثار جدل كبير بين علماء الإسلام وكذلك المستشرقين ومن تبعهم من العلمانيّين، غير أنّ التيّار الإسلامي يصرّ على أنّ معنى الأمّيّة هي الجهل بالقراءة والكتابة، ويستشهدون بعدّة شواهد تاريخيّة، منها: قصة غار حراء، ومنها: قوله تعالى: ﴿وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [3].

وقال العلامة الطباطبائي قدس‌سره في تفسيرها: «وما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتاباً، ولا كان من عادتك أن تخط كتاباً وتكتبه، أي ما كنت تحسن القراءة والكتابة لكونك أمّيّاً، ولو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحقّ بدعوى أنّه باطل، لكن لمّا لم تحسن القراءة والكتابة، واستمرّت على ذلك، عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم ومعاشرتك معهم، لم يبق محلّ ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنّه كلام الله تعالى، وليس تلفيقاً لفّقته من كتب السابقين، ونقلته من أقاصيصهم وغيرهم حتى يرتاب المبطلون ويعتذروا به»[4].

(199)

فهذه الدلائل وغيرها مدعومة بالواقع التاريخي الذي لم يسجّل أيّ تعليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على يد أحدٍ من الناس، تدعم نظريّة الأمّيّة، يقول الشيخ السبحاني: «إنّ صحائف تاريخ حامل الرسالة أوضح دليل على أنّه لم يدخل مدرسة، ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتاب»[1].

ومن طريف تناقضات هشام جعيط، قوله: «وفعلاً لا نستبعد أن يكون محمد جاهلاً للقراءة»، ثمّ يقول بعد نصف صفحة: «ومن الواضح عندي أنّ شخصاً مثل محمد في الزمن والوسط الذي عاش فيه، كان يحسن القراءة والكتابة»[2].

وبهذا العرض السريع، يتبيّن أنّ ما ذهب إليه جعيط، إنّما هي رشحات خيال علماني تائه بين حتميّة النصوص ونسبيّة المناهج، فيتحفنا بين الحين والآخر بترّهات لا تمتّ إلى الواقع بصلة.

٥ ـ الوحي:

١ ـ ٥ ـ تعريف الوحي:

إنّ هشام جعيط وإن لم يكن بصدد إعطاء تعريف منسجم للوحي، غير أنّه أشار إليه في مطاوي كتابه عدّة مرات، فالمعنى اللغوي للوحي هو الإشارة إلى «الإلهام الداخلي»[3].

أمّا معناه الاصطلاحي العامّ المستعمل في القرآن، فيرى جعيط أنّنا «لو

(200)

أردنا تفحّص مفهوم الوحي كاملاً في القرآن لأخذ ذلك مكاناً كبيراً، إنّما يبدو أنّ الوحي يقع على كلّ شيء في العالم، وأنّه الوسيلة التي يتحكّم بها الله فيه، فهو في صلب العلاقة بين الله والوجود كيفما كان»[1].

أمّا الوحي الذي يختصّ بالأنبياء الدالّ على الانبعاث للتبليغ، فهو يجري بصفة داخليّة وبدون وعي كامل، وهو هجوم مباغت داخل الضمير[2]. «وهو علاقة ذاتيّة بين الله والنبي سواء أكان بالأصوات أو بالإلقاء في القلب»[3].

وأخيراً: «الوحي هو تعريف الله بذاته، وإنذار الإنسانيّة باليوم الآخر عن طريق بشر يُدخله في عالم روحاني هو عالم آخر تماماً، لكي يرجع إلى الناس فيما بعد ويبلّغهم هذا التكشّف؛ إذ لا يكلّم البشر إلّا البشر»[4].

ورغم هذا، فنرى المؤلّف متذبذب بخصوص ظاهرة الوحي؛ إذ كيف يمكنه الجمع بين المنهج العلماني الذي لا يؤمن بالمغيّبات، وبين المنهج الإسلامي الذي يؤمن بالغيب والمطلق، ويظهر تذبذبه هذا جليّاً في قوله الآتي: «إنّ الوحي متنوّع في أشكاله حسب الحضارات والأزمنة، وهو موجود في كلّ مكان: فهو ظاهرة تاريخيّة واقعيّة من جهة التاريخ والأنثروبولوجيا. إلّا أنّه يصبو إلى ربط العلاقة مع المطلق ومع الحقيقة العليا، وهذا ما يُخرجه عن التاريخيّة العاديّة محدودة النظر»[5].

(201)

لكنّه لم يستطع ترك منهجه العلماني بأيّ شكل، ليقول أخيراً: «يبقى أنّ الوحي ظاهرة دينيّة فحسب معطاة من التاريخ، والعقلانيّون لا يؤمنون بواقعيّته الفعليّة: هذا شأن المؤمن، وليس شأن العالم أو الفيلسوف»[1].

كما أنّ الوحي لا يقتصر على الخطاب الداخلي ـ كما ذكره جعيط ـ بل هذا قسم من الوحي، وهناك ما هو أهمّ منه وهو الوحي بواسطة الملك، كما حدث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً وتكراراً. وليس الوحي إنذاراً للإنسانيّة فحسب، بل هو دستور الحياة الدنيويّة والأخرويّة.

٢ ـ ٥ ـ الوحي والعقل:

يذهب هشام جعيط إلى أنّ الوحي لا يمكن استكناهه بالعقل، فهذا أمر مستحيل، كما لا يمكن سوق نظريّة فلسفيّة حول الوحي في الإسلام[2]، لذا يصعب على العقل الحديث وأدواته معرفة ظاهرة الوحي وأصل النبوّة[3].

ومن هذا المنطلق، فإنّ العقلانيّين لا يؤمنون بواقعيّة الوحي الفعليّة، ويرون أنّ هذا شأن المؤمن، وليس شأن العالم أو الفيلسوف[4]. فالوحي حقيقة واقعيّة إلّا أنّه يعلو على عقل الإنسان العادي[5]. والأنبياء أناس يُخاطرون بعقلهم ليرتفعوا بالتجربة إلى اللانهائي، أي إلى ما فوق العقل، والذي يقال ويُعبرّ عنه بلغة العقل[6].

(202)

ومن الطريف، أنّ هشام جعيط إذ ينفي جملة وتفصيلاً صوغ نظريّة فلسفيّة حول الوحي، نسي ما قاله في مقدّمة كتابه هذا من الجزء الأوّل، حيث قال: «وقد حاولت في الماضي أن أفكّر فلسفيّاً في الوحي، واعتبرته جدلاً بين أعماق الضمير المحمدي وهو الإله الداخلي، وبين الإله الخارجي فيما وراء العالم»[1] وكذلك ما قاله في مقدمة الجزء الثاني منه: «فهذه الدراسة ليست كالأولى التي أرادت لنفسها البحث في ماهيّة الوحي والنبوّة من وجهة نصف كلاميّة ميتافيزيقيّة، ونصف تاريخيّة»[2].

فكيف يمكن تفسير هذا التناقض يا ترى؟!

ثمّ نسأل جعيط ما مراده من العقل، إذ يعترف هو بتعدّد معاني العقل، فهناك عقل علمي، وعقل ميتافيزيقي، وعقل تاريخي، وعقل ميكانيكي، وعقل جدلي[3].

فمن الطبيعي أن لا يسع الماديّ التجريبي للغيبي فلا يعترف به، أمّا العقل بمعنى التعقّل والتدبر وفهم الأمور على ضوء نور العقل، فهذا لا يتنافى مع الوحي، بل هو من دعائمه؛ إذ الوحي والنبوة وأصل الألوهية إنّما تثبت بالعقل أولاً.

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى إنّ هشام جعيط نفسه يعترف بظهور تيّارات جديدة في الغرب باتت تشكّك في العقلانيّة الغربيّة التي ملأت أسماعنا وطبّل لها العلمانيون وزمّروا: «فمبدأ العقلانيّة الذي يحرّك كلّ

(203)

المجال المعرفي من علم وفلسفة وعلوم إنسانيّة، بل والذي اتّسع نفوذه إلى حدّ انتشاره على الثقافة السياسيّة وحتى السلوك الإنساني، هو بذاته عاد محلّ شكّ ونقض من طرف فلسفات حديثة ذات تأثير هامّ على الضمير الغربي»[1]

فإذا كان الأمر هكذا، فلماذا يعتمد المسلم على هذه المناهج المتغيّرة المتضاربة، والتي ينفي بعضها بعضاً ولا تنتج سوى الشكّ والشبهة؟!

٦ ـ الدعوة النبويّة والخلفيّات الدينيّة:

١ ـ ٦ ـ الدعوة النبويّة:

يرى هشام جعيط أنّ مكّة وما كان يحيط بها، كانت مفعمة مشحونة بالدين، ومن هنا لا يستبعد ظهور مصلح ديني ومؤسّس دين جديد فيها [2]. كما يرى أنّ القرآن المكّي يحوي بالأساس مضمون الدعوة، والأفكار التي امتلأت بها في مراحلها المتعدّدة[3] والدعوة كانت على نحو التدرّج: من دعوة حذرة، إلى انتشار هذه الدعوة، إلى الإعلان عنها، وهذا ما يسمّيه باستراتيجيّة المراحل[4].

ولفهم الدعوة في بداياتها من خلال القرآن المكّي، يتّبع المؤلّف تقسيم نولدكه وبلاشير للسور المكّيّة والمدينيّة، ليستنبط مضمون الدعوة المكّيّة

(204)

من القرآن المكي، ليقول: «إنّ هذه التورخة للقرآن تعين كثيراً على فهم تطوّر المعاني التي أتت بها الدعوة، وكذلك على فهم تطوّر فعاليّات الدعوة ذاتها في مكّة، وكيف حصل تلقّيها وقبولها».

كما أنّ «الدعوة في مكّة متمحورة بالأساس حول النزاع مع الكافرين، حول الجدل، حول الاحتجاج ومحاولة الإقناع والتخويف»[1]. وفي مكان آخر يقول: «وقد كانت الدعوة منصبّة على إعانة الفقراء في الأوّل، ثمّ على الإنذار باليوم الآخر فقط»[2].

ويزعم جعيط خلافاً لما ورد قبل سطر من توجّه النبي للفقراء، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في البداية متّجهاً لدعوة الأشراف والأقوياء؛ لأنّه متى أسلم الأشراف أسلمت كلّ قريش، ولم ييأس تماماً إلّا في آخر الفترة[3]. ويصفه في مكان آخر بأنّه فشل في ذلك[4] وهذه من تناقضاته المتكرّرة.

وأمر آخر، وهو أنّ جعيط يجعل الدعوة المكّيّة ثمان سنوات، ويقول: «الدعوة دامت ثماني سنوات، وليس ثلاث عشرة ولا عشر... هذا ما يمليه منطق الأحداث، وهذا ما تذكره أقدم المصادر التي لدينا: أعني رواية عن قتادة»[5].

كما أنّه ينكر الدعوة السرّيّة بسنواتها الثلاث بتاتاً[6]، ويقول: «كيف

(205)

يمكن ذلك في بلد صغير يُعرف فيه كلّ شيء كلمة «سرّيّة» تشير فقط إلى ما هو غير علني غير رسمي، والجهر بالدعوة إنّما يقع أمام الملأ»[1].

ثمّ إنّ جعيط يشكّك في قصّة ذهاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالماً بعناد ثقيف فكيف يطلب مناصرتهم على قريش، مضافاً إلى أنّ الطائف معقل اللّات، وهي سفرة مقدّر لها بالفشل مسبقاً، ومن جهة أُخرى يصعب على المؤلّف إنكار هذا الخبر بحذافيره ورميه بالاختلاق، وإن كانت أطروحة الاختلاق عنده منطقيّة «فالقصّة ذاتها، واضطهاد النبي ودعاؤه، كلّ هذا جميل ومؤثّر ومن باب الخيال الرائع الذي هو أسّ السيرة؛ لأنّ هدف السيرة خلق صورة للنبي»[2].

ومن الطريف أنّ جعيط قبل صفحة يرى وجود إشارات في القرآن على دعوة ثقيف في الطائف، يقول: «وإذ يقال إنّ الرسول اتّجه إلى غير قريش من قبائل البدو في عكاظ وأشهر الحجّ، أو إلى قبيلة ثقيف في الطائف فلنا حجج في القرآن على هذا، إذ غدا الخطاب يتّجه أكثر فأكثر إلى الناس...»[3].

فلماذا لم يقبل هذه الإشارات القرآنيّة المؤيّدة بالسيرة؟ لا نعلم، سوى أنّ مزاجه الخاصّ لم يرق له قبول ذلك لئلّا يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أدنى جهد ومظلوميّة.

(206)

والأمر الأخير والخطير بخصوص الدعوة، هو شموليّتها لجميع الأمم، أو اقتصارها على محيطها العربي؟!

بمراجعة فاحصة لما كتبه جعيط في ثلاثيّته، يتبيّن عدم وضوح موقفه بل تناقضه، وإن كان يميل إلى عدم الشموليّة، فإنّه تارة يقول في معنى «النبي الأمّي»: «وتعني النبي المبعوث إلى العرب وإلى الأمم الأُخرى، والمختار هو ذاته من بين أمّة من غير اليهود»[1].

وذلك عندما أراد أن ينفي الأمّيّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ الآية تعني الأمميّة المأخوذة من الأمّة لا الأمّيّة.

ثمّ بعد هذا يرى أنّ الأمميّة صفة ألصقت بالدعوة فيما بعد مع اعترافه بوجودها في القرآن: «وبانتشار الإسلام في شعوب متعدّدة، تبيّن أنّ النبي بُعث للناس كافّة كما أراد بذلك القرآن»[2]. فهو -لحد الآن- يعترف بشموليّة الدعوة طبقاً لما ورد في القرآن.

ثمّ يتطوّر موقف جعيط في أخريات ثلاثيّته، ليقول: إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتقد في البداية بشموليّة الدعوة، غير أنّه هو الذي تخلّى عنها رغم وجودها في القرآن، ويصوّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه غير مؤمن بالقرآن، أو ما كان يفهم مراد القرآن بشكل جيد، إذ يقول: «بعد فترة من السعي وراء الشموليّة التوحيديّة في المدينة، يصرّح محمد وأكثر من أيّ وقت مضى، بأنّه نبيّ

(207)

الأميّين العرب، حتى وإن كان القرآن بصفته كلام الله يخاطب -مبدئيّاً وجوهريّاً- الناس كافّة: العالمين»[1].

وفي مكان آخر يقول ما هو قريب منه: «حين آيس من إسلام اليهود ومن اهتداء النصارى، أفرد دينه وخصّصه وتخلّى عن كلّ فكرة حول شموليّة الرسالة التوحيديّة بكسوتها القرآنيّة والمحمديّة الجديدة، صارت رسالته عربيّة خالصة وصار هو نفسه نبي العرب... بما أنّ محمداً جوبه بالرفض اليهودي، فإنّه راهن كلّيّاً على البعد العربي»[2].

ويضيف قائلاً: «فالقرآن يتّجه إلى (أمّ القرى) وقد نزل بلسان عربي، فتأخذ الرسالة ملامحها الوطنيّة. من هذا الوجه يصحّ اعتبار الدعوة المحمديّة صيغة عربيّة للتوحيديّة وللتراث التوحيدي العتيق، نابعة من ضرورة أن يكتسب العرب وقريش من أوّل المقام نبيّهم وكتابهم المقدّس، وهذا رهان كبير وكبير جدّاً أثبته التاريخ الواقعي»[3].

ولا ندري من أين استنبط هذه الضرورة، وكيف وصل إلى التاريخ الواقعي، وما هو هذا التاريخ الواقعي الذي يتمسّك به جعيط ليخالف نصوص القرآن وأخبار السيرة وبديهة العقل؟!

ثمّ إنّ هذا الكلام الخطير إمّا أن ينفي صفة الألوهيّة عن القرآن ليكون من صنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتطوّر تاريخيّاً بحسب ظروف الزمان والمكان، وإمّا أن ينفي

(208)

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقه القرآن وفهمه بالشكل الصحيح الذي يريده الله؛ إذ بعد فترة من العناء والتعب في سبيل نشر الدعوة يتبيّن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ دعوته لم تكن لكافّة الأمم بل مقتصرة على العرب خاصّة. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

ومن الطريف أنّ المؤلّف يعترف بأنّ نصّ القرآن يدلّ على شموليّة الدعوة، غير أنّه وفقاً لمنهجه المادّي يقول بتأويل القرآن ويبدي اجتهاده أمام النصّ القرآني ومحكماته، فالقرآن يصف الرسول بأنّه رسولٌ إلى الناس كافّة، والمؤلّف يقول أي إلى العرب خاصّة: «والقرآن يُعلنه رسولاً إلى (الناس كافّة) هنا يجب تأويل كلمة الناس بمعنى كلّ العرب»[1].

وهذا التأويل الهرمنوطيقي الذي يعزل الفهم عن النصّ، ينسف منهجيّة المؤلّف القرآنيّة تماماً؛ إذ هو ادّعى أنّه يعتمد على القرآن لكتابة السيرة النبويّة، وهنا يخالف نصّ القرآن رعاية لمصالح خطابه العلماني، الذي صاغ عقليّته ولا شعوره الباطني، ليطغى بين الحين والآخر وينفي -مهما تمكّن- أيّ قدسيّة أو ما ورائيّة أو أمور غيبيّة يصعب على العقل العلماني هضمها.

٦ ـ ٢ ـ الخلفيّات الدينيّة:

إنّ هشام جعيط كغيره من العلمانيّين وعلماء الاجتماع المادّيّين، أوقع نفسه في مأزق معرفي؛ إذ التزم بأنّ «الحس التاريخي للسيرة اعتبر بحقّ أنّه لا يمكن أن يوجد شيء من دون سوابق، وأنّ أيّ حدث

(209)

تاريخي لا بدّ أن يكون متجذّراً في تيّار فكري يحيط به»[1].

ويضيف أيضاً أنّه «بالنسبة للمؤرّخ الذي يبقى على مستوى النصوص والزمن التاريخي، التأثيرات أمر مقبول»[2].

ومن جهة ثانية، يعتقد «أنّ النبي كان قبل البعثة يبحث في اتجاهات عدّة عن الحقيقة»[3]. فهو كمؤرّخ علماني يبحث عن الجذور وعن نقطة انبثاق الروحانيّة والمعرفة الدينيّة في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فهو ينكر النظرة الكلاسيكيّة التي ترجع البعد الديني في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الحنفاء، ويجعلها ترتيباً حلواً ذكيّاً لكنّه خرافي[4]. فلم يبق له إلّا أن ينسب ذلك إلى الأديان التوحيديّة الموجودة آنذاك في الجزيرة العربيّة، ويقول: «المهم هنا وجود مسيحيّة عربيّة في الشمال والجنوب، ويهوديّة متعرّبة أيضاً... في هذا المحيط ظهر محمد، وقد كان من الصعب عليه أن لا يتأثّر بالمسيحيّة مبدئيّاً، لكن الخيار كان عربيّاً»[5].

ويقول أيضاً: «ومن دون المسيحيّة الشرقيّة السوريّة لم يكن ليظهر محمد، وإلّا فلا نرى كمؤرّخين حلّاً للإشكال... بالنسبة للمؤرّخ الموضوعي، لا يمكن الانفلات من إقرار هذا التأثير، وهو ليس بالتأثير

(210)

السطحي وإنّما العميق والمستبطن بقوّة، وإلّا عاد محمد غير ممكن في بلده وفي زمانه، أو وجب على المؤرّخ الإذعان والإقرار بألوهيّة القرآن مبدئيّاً ونهائيّاً والتوقّف عن كلّ بحث»[1].

وكذلك: «إنّ المسيحيّة كانت طاغية في الشرق الأوسط في تلك الفترة... ومن المستحيل على أيّ مبدع ديني وذي قيمة أن يتجاهلها»[2].

ثمّ إنّ هشام جعيط ينسب قسطاً من المعرفة الدينيّة النبويّة إلى الشام عندما كان يسافر إليها للتجارة، ويقول: «المقام بالشام أمر ضروري، وهضم القسم الأكبر من الثقافة الدينيّة لذلك العصر أمر ضروري»[3].

لكن مع هذا لا يقبل التأثير الشامي، بل يريد أن يبحث عن جذور أعمق، ويقول: «من الواضح أنّ شابّاً قرشيّاً مهما كانت عبقريّته وحساسيّته وميله إلى التأمّل الديني والميتافيزيقي، لا يمكن أن يتّجه إلى البحث اللاهوتي في الشام وعبر لغات أجنبيّة، مثل: السريانية واليونانية من دون تهيئة مسبقة في بلده، أو تأثير تأثّر به كي يتولّد لديه مثل هذا الاهتمام»[4].

فمن جهة، يلتزم جعيط بالمنهج التاريخي القائل بلزوم وجود جذور للأحداث، ومن جهة أُخرى، يسلّم بوجود تأثيرات دينيّة وروحانيّة على

(211)

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومن جهة ثالثة، ينكر أنّ بداية التأثير كان في الشام بل يرجعه إلى أبعد من ذلك، ومن جهة رابعة، ينكر مسألة الحنفاء، ومن جهة خامسة، يجعل الجزيرة العربيّة بل الشرق الأوسط تحت سلطة مسيحيّة، فلا مناص من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متأثر بالمسيحيّة، ولكن كيف ومتى؟!

من هنا، وللإجابة على هذا السؤال، يتّجه نحو ما ترويه المصادر حول قصّة ورقة بن نوفل، «إنّ قصّة ورقة بن نوفل ابتدعت لإضفاء صبغة الحقيقة لما أتى به النبي في الأوّل، أو لما أصابه من شكوك وحيرة، وأيضاً للتنبّوء بمساره وعذابه ثمّ نجاحه»[1] لكنّه كما ترى يشكّك في صحّة هذه القصّة، وأنّه لا يمكن قبولها لأسباب بديهيّة «منها أنّ ما قاله لمحمد لا معنى له في ذلك الطور من المبعث، ولأنّا لا نجد أثراً له فيما بعد»[2].

ثم إنّ جعيط لا يهمّه كثيراً صحّة قصّة ورقة أو عدم صحّتها، لكن ما يهمّه هو وجود تأثيرات مسيحيّة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل سفره إلى الشام: «إنّ دور رجل كورقة تخمين بحت، ولا يهمّ أن يكون ورقة أو غيره لعب هذا الدور في إيقاظ محمد... المهم أنّ هناك قبل البعثة أناساً بمكّة مسيحيّين ويعرفون المسيحيّة، وما هو أهمّ عندنا هو ماذا كان عليه الأمر قبل البعثة وقبل الرحلة إلى الشام، واستيعاب المسيحيّة من جذورها الأصليّة والعميقة»[3].

وقد تطرّقنا في الفصل السابق عند مناقشة آراء جعيط حول التأثيرات

(212)

المسيحيّة واليهوديّة على القرآن بما لا مزيد عليه، كما قلنا إنّ النبوّة اصطفاء إلهي تستتبع رعاية ربّانيّة للنبي من صغره، بل قبل ولادته وتقلّبه في الأصلاب والأرحام الطاهرة.

وسلسلة الأنبياء والأوصياء واقع تاريخي لا ينكره إلّا مكابر، فإنكار الحنفاء وكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة على الحنيفيّة ـ كما أثبتته الروايات والأخبار ـ من قبل جعيط لم يكن سوى محاولته لإثبات التأثيرات المسيحيّة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ لأنّه يزعم أنّ المؤرّخ لا طريق له سوى هذا، وكأنّ الاعتراف بالحنفاء أمر ما ورائي أو غير تاريخي.

فكما أنّ التاريخ يثبت وجود مسيحيّة ويهوديّة وغيرها من الأُمور، كذلك يثبت وجود الأوصياء والحنفاء. ثمّ إنّنا لا ننكر ـ كما قلنا ـ وجود تشابهات بين الأديان التوحيديّة الثلاثة؛ لاعتقادنا بوحدة المنشأ، واختلاف الشريعة إنّما بحسب ظروف الزمان والمكان، عدا جانب التحريف الذي طال اليهوديّة والمسيحيّة كما أثبته القرآن وأغفله جعيط.

٧ ـ المعجزة:

يتحدّى هشام جعيط البديهيّات الدينيّة والتاريخيّة، وينكر وجود المعجزة تماماً سواء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لسائر الأنبياء عليهم‌السلام. والأدلّة التي يتمسّك بها لإنكار المعجزة متعدّدة ذكرها في مطاوي كتبه استطراداً، نذكرها فيما يلي:

(213)

١ ـ إنّ القرآن ينفي أيّ معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويؤكّد على بشريّته[1].

٢ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدع أيّ معجزة لنفسه ولا خوارق العادة، بل هو بشير ونذير وداع إلى الله بأمره[2].

٣ ـ الدين مبني على الإيمان بصحّة العلاقة بين الله ونبيّه، والمعجزات الفيزيقيّة ليست من صلب الدين[3].

٤ ـ المعجزة مفهوم إيماني بحت، ولا يمكن أن توجد في الواقع[4].

٥ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنسان كالآخرين، غير مكتسب لأيّة صفة إلهيّة، ولا للقدرة على تعطيل مسار سنّة الله أي الطبيعة بأيّة معجزة في العالم[5].

٦ ـ القرآن اتّسم بالإقناع العقلاني، وابتعد عن الخوارق؛ لأنّها مستحيلة في ذاتها ومستحيل الإيمان بها في الوسط العربي[6].

ثم إنّ المؤلّف بعدما ينكر المعجزة، لا بدّ له من تأويل ما ورد في القرآن من نسبة بعض المعاجز إلى الأنبياءعليهم‌السلام، فيقول: «فمعجزات الأنبياء من قبل لم توجد فعلاً، وإنّما روي بعدهم أنّها وجدت، وسرت

(214)

القصة عبر التاريخ على أنّها واقعة جرت»[1].

لكنّه يناقض نفسه لاحقاً، ليقول: «لم توجد معجزات من النبيّين إلّا قليلاً» ثم يذكر أنّ موسى وعيسى عليه‌السلام قاما بمعجزات عظيمة، من قبيل: شقّ البحر وإحياء الموتى وغيرهما، لكن يعود ويقول: «لكن أكرّر ما قلته آنفاً من أنّ الإعجاز لا وجود له في الواقع، وإنّما يُروى أنّه وجد فيغدو تقليداً فمعتقداً، يشبه الميثولوجيا إلى حدٍّ بعيد»[2].

ثم يعرّج جعيط للطعن في كتب السيرة، ويصفها أنّها مليئة بذكر المعجزات رغم أنّ القرآن ينفيها، ويوعز سبب ذلك إلى عدّة أمور:

١ ـ منافسة للأديان الأُخرى.

٢ ـ ترسيخ الإسلام لدى العامّة[3].

٣ ـ عامل الزمن الذي يلعب دوراً كبيراً في ترويج وترسيخ الدين، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ارتفع مقامه في الحضارة الإسلاميّة؛ بسبب عامل الزمان إلى درجة اختلق له المسلمون معجزات، ممّا أدّى إلى ابتعاده عن الإنسان العادي رغم أنّ القرآن لا ينفكّ ينفي ذلك ويؤكّد على بشريّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله[4].

ويلاحظ على ما ذكره جعيط أمور:

(215)

١ ـ إنّ دليل الحاجة إلى المعجزة، إنّما هو دليل عقلي، إذ كيف يمكننا التصديق بدعوى النبوّة من غير دليل، فلربّما كان المدّعي كاذباً، فينحصر طريق التصديق بالنبي في المعجزة. وهذا ما تبنّاه المتكلّمون من قديم الزمن، قال أبو الصلاح الحلبي (ت٤٤٧هـ): «ولا يعلم صدقه إلّا بالمعجز»[1].

٢ ـ ورد في تعريف المعجزة عند المتكلّمين: «المعجز هو الأمر الخارق للعادة، المطابق للدعوى، المقرون بالتحدّي، المتعذّر على الخلق الإتيان بمثله»[2].

وعليه، فهي ليست من صنع البشر، قال السيد المرتضى قدس‌سره (ت٤٣٦هـ): «اعلم أنّ لفظة (معجز) تُنبئ في أصل اللغة عمّن جعل غيره عاجزاً، والقديم تعالى هو المختص بالقدرة على الإعجاز والإقدار»[3].

٣ ـ بناءً على هذا، فما دامت المعجزة دليل عقلي لصدق النبي، وما دام الأقدار عليها وفعلها يكون من قبل الله تعالى، فلا داعي لإنكارها متمسّكاً بحجة العقل وأنّها أمرٌ لا عقلاني، نعم، إنّ العقل المادّي لا يدركها، ولكن كم من أمر غير مادّي صدّقه هذا العقل؟! فلماذا لا يصدّق المعجزة؟!

(216)

٤ ـ مدّعى جعيط بأنّ النبي إنسان كالآخرين فيه مغالطة؛ إذ نحن أيضاً نذعن بأنّ الأنبياء بشر، ولم يأتوا من غير كوكب أو ليسوا من جنس الملائكة؛ إذ الحكمة الإلهية تقتضي أن يكون البشير والنذير للبشريّة من نفسها، لئلّا يسبّب نفورها أولاً، ولئلّا يقال إنّ هذا ليس من البشر ولا يدرك ما يحتاجه البشر ولا يتحسّس بأحاسيسهم ثانياً، ولكن الأنبياء ليسوا كبشر عاديّين، إنّهم يخضعون لقانون الاصطفاء، وأنّ القدرة والمشيئة الإلهية هي التي أنزلتهم ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[1]، فهم بشر مصطفون لهم علقة روحيّة عليا تربطهم بالسماء، وعُلقة بشريّة تجعلهم كالبشر الآخرين.

٥ـ إنّ المعجزة -كما قلنا- هي الأمر الخارق للعادة، وهي تأتي بقدرة الله تعالى وإذنه، وخالق الكون قادر على خرق قوانين الكون، ثمّ إنّ الذي يجعلونه سبباً لردّ المعاجز، إنّما هو قوانين طبيعيّة مادّيّة، وقد رأينا تغيّرها بتقدّم العلم، فكم من نظريّة فيزيائيّة وطبيعيّة أبطلها العلم وأحلّ مكانها نظريّات أُخرى، فما يدريك أنّ العلم لا يأتي لاحقاً لإثبات المعجزات، وأنّها تعتمد قوانين عليا لم يكتشفها الإنسان بعد.

٦ ـ إنّ المؤلّف لا يحقّ له إنكار المعجزات؛ لأنّه يعترف بصدق القرآن، والقرآن مليء بذكر معاجز الأنبياء عليهم‌السلام، فهو إمّا أن يثبت جميع المعاجز،

(217)

وإمّا أن يترك منهجه ومشروعه حول السيرة النبويّة، ومدعاه حول صحّة القرآن، ولا يجديه نفعاً اللفّ والدوران الهرمنوطيقي الذي يقحم نفسه فيه لتبرير ما ورد في القرآن من معاجز لأنبياء سابقين.

٧ـ إنّ إثبات المعجزة ينسف المنهج العلماني والتاريخاني الذي اعتمده جعيط وغيره من العلمانيّين؛ إذ القول بالتاريخانية يعني أنّ الدين صنيعة الظروف الزمكانيّة، وأنّ الأديان التوحيديّة والوضعيّة سواسية، وأنّ الأنبياء ليسوا إلّا عباقرة ومصلحين ليس أكثر، وهذا كلّه ينتفي مع القول بالإعجاز.

٨ ـ إنّ هشام جعيط يجعلنا أمام كلام محيّر، إذ يقول: إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدع أيّ معجزة لنفسه ولا خوارق العادة!! ولنا أن نسأله: من أين علم بذلك؟

هل شهد هو تلك المشاهد بنفسه؟ أم هل يدّعي لنفسه علم الغيب؟ أليس المؤرّخ يعتمد على أخبار التاريخ ونصوصه؟ فلماذا يسدّ هذا الباب على نفسه وعلى غيره وينفي بجرّة قلم جميع المعجزات الواردة في كتب الأخبار والسيرة المتوافقة مع العقل والمنطق التاريخي؟! لماذا هذه الانتقائيّة يا مؤرّخنا التونسي، حيث تثبت أموراً بالاعتماد على السيرة؛ لأنّها تتوافق مع منهج العلماني، وتنفي أموراً أُخرى رغم ورودها في التاريخ بل في القرآن؟!

ثمّ أليس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله اتّهم من قبل قومه بالسحر؟ فلماذا الاتهام بالسحر وماذا كان يفعل السحرة، أليس لكونهم يفعلون أموراً تراه الناس خارقاً،

(218)

فعندما اتّهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل سائر الأنبياء كموسى عليه‌السلام بالسحر، ألا يدلّ ذلك على أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟!!

أليس إنزال الجنود الغيبيين لنصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في معاركه وغزواته يُعد خرقاً للعادة، وهل ينكره جعيط؟ قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها[1]. فإنزال الجنود لنصرة المسلمين معجزة بحدّ ذاته.

(219)

المبحث الرابع: الفترة المدينيّة

١ ـ الهجرة إلى المدينة:

يرى هشام جعيط أنّ التركيبة القبليّة في مكّة والمنظومة الاجتماعيّة السائدة آنذاك من «ضرورة الحفاظ على التوازنات بين العشائر، والوجود الفعلي لحالة سلم داخليّة أفسح المجال لحرّيّة القول وللجدل»[1] أدّت إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استفاد من هذا المناخ وأظهر دعوته: «هذه الثلمة في النظام القبلي هي التي مكّنت الرسول من القيام بدعوته دونما كبير حرج»[2].

ولكن بعد تطوّر الدعوة تطوّر العداء أيضاً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتهى الأمر إلى أن يتّجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خارج مكّة لنشر الدعوة ممّا أدّى إلى الهجرة نحو المدينة المنوّرة[3].

إنّ جعيط يعترف بالإيذاء ورمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنون بمعنى أنّه مسكون من طرف الجنّ[4] وكذلك يعقد مبحثاً خاصّاً بذكر المستهزئين[5] ممّا أدّى إلى اتّخاذ قرار الهجرة، لكنّه ينفي بضرس قاطع محاولة قريش لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والحال أنّ المصادر تؤكّد على ذلك[6]، وهو على عكس ذلك، يحاول أن يستند إلى القرآن ليثبت قرار النفي والإخراج من قبل قريش دون القتل[7].

(220)

«فالقرآن لا يذكر أبداً كلمة هجرة بالنسبة لمحمد، بل كلمة إخراج بكامل الوضوح ﴿قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ[1] [2]».

وهنا، يقع تعارض و«هذا التعارض بين السير والتواريخ وبين النصّ القرآني يضعنا في حرج كبير»[3]. ورغم أنّ آية أُخرى تشير إلى إرادة القتل في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ[4] وللخروج من هذا المأزق، يقول: «فما تشير إليه الآية حول القتل أو الإخراج أو الإثبات هي مداولات قريش في وضع محمد فوراً بعد موت أبي طالب، فاستقرّ الأمر على الإخراج... فقريش هي التي قرّرت الإخراج، وبالتالي فستكون مرتاحة لخروج محمد وأصحابه نهائيّاً»[5].

وفوق هذا، يصل الأمر به إلى تبرئة ساحة قريش عن كلّ عنف، ويقول: «فقريش تنفي العنف، فألغت كلّ حرب داخليّة بين البطون، وبالتالي لا يقتل قرشيّ قرشيّاً، ليس فقط بسبب القَوَد (الثأر أو الديّة) وإنّما وعياً بوحدة الجماعة وعن حلم ورويّة ومحبّة، في الواقع أخلاقيّاً؛ هذا المجتمع الصغير كان متقدّماً جدّاً... أمّا كونهم أرادوا قتله فهذا مجانب للحقيقة تماماً»[6].

إذن، لم يكن الأمر هجرة تطوّعيّة من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل هو تهجير

(221)

وإخراج، «وكلّ ما تقوله السيرة هنا غلط واختلاق وتناقض محض لا يصمد أمام الفحص»[1].

وهذا التهجير والإخراج كان قاسياً على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ إذ له مداليل عدّة: فهو بمعنى الخلع عن القبيلة التي تعطي الهويّة والحماية، وهو إحساس بالفشل النهائي في إقناع قومه للدخول في الدين الجديد، وهو بمعنى أنّ قريشاً لم تسلم أبداً عن طيب خاطر وبمبادرة من لدنها[2].

بعد أن ينفي جعيط إقدام قريش على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ينفي بتبعه قصّة مبيت علي عليه‌السلام مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويقول: «أمّا ما بني من قصّة حول اتّخاذ علي مرقد النبي، وخروج النبي مستتراً خائفاً ومروره بطرق ملتوية، وملاحقة القرشيّين له، فهو خيال محض أيضاً. لا نرى أيّة ضرورة لأن تتبعه قريش وتريد الفتك به»[3].

وبتبع هذا ينفي أيضاً قصّة دخول الغار مع أبي بكر، ويؤوّل الآية بما يحلو له، فيقول: «أمّا قصّة الغار فهي محبوكة أيضاً، ويلمّح القرآن فعلاً في آية مدنيّة متأخّرة إلى غار التجأ إليه الرسول وصاحبه، وكيف أنّ الله أنزل عليه سكينته ونصره ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها... الغار هنا هو الموقع الذي دارت فيه بينه وبين صاحبه محاورة، وهي لحظة دراميّة، وليست المسألة

(222)

مسألة خوف من ملاحقي قريش»[1]. بل لأنّ «الهجرة خيبة أمل كبيرة لا يمكن أن تجابه إلّا بالثقة في الله»[2].

ويلاحظ عليه: إنّ المهمّ ليس هو الهجرة الطوعيّة أو الإخراج المكره عليه، بل المهمّ الإذعان إلى ما اتفقت عليه المصادر، وأيّده المنطق الواقعي، ودعمته الشواهد والقرائن. ولا داعي لتبرئة ساحة قريش من العنف، لننفي عنها نيّتها للإقدام على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونحن لا نتمكّن من إلزام جعيط، طالما يتعامل مع النصوص بشكل انتقائي دون ضابطة، فرغم أنّ المصادر تشير إلى الإقدام على القتل، والقرآن يصرّح بذلك، والواقع التاريخي في عنف قريش ضدّ مخالفيها من تعذيب وقتل وإيذاء ممّا أدّى إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة؛ يؤيّد ذلك، فلا معنى لإنكاره.

ولو كان العنف منفيّاً من قريش، وأنّهم لم يريدوا قتل نبي بلدتهم، فلماذا الحروب التي شنّوها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الهجرة؛ إذ كان بإمكانهم اتّخاذ طرق أُخرى سلميّة ودبلوماسيّة للوصول إلى أهدافهم.

كل ذلك، يؤكّد لنا انتقائيّة جعيط في تعامله مع الحدث التاريخي، وإخضاع النصوص لمنهج هرمنوطيقي صارخ، يُلبس النصوص لباساً آخر على ضوء خلفيّات المتلقّي الذهنيّة والمعرفيّة، وكأنّ النصوص صامتة لا منطوق لها ولا مفهوم، وهذا من أسوء أنواع التعامل مع النصوص.

(223)

ونفس الكلام يقال على إنكاره لحديث المبيت، وكذلك الالتجاء إلى الغار مع أبي بكر، فلم يقدّم لنا جعيط دليلاً لنناقشه فيه سنداً ودلالة، بل اعتمد على مخياله العلماني، وأنّ الحدث الفلاني إذا وافق هذا الخيال فهو صحيح، وإلّا فلا حتى ولو كان الحدث متواتراً أو مستفيضاً.

فحديث ليلة المبيت مثلاً يعدّ من المتواترات لما ورد عند السنّة والشيعة، وقال المظفر بعد روايته عن مصادر أهل السنة: «ولو ضممت إليه أخبارنا كان متواتراً»[1].

وهذا الحديث ممّا استدلّت الأماميّة به لإثبات إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من باب فضائله واختصاصه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله [2].

ثم بعد هذا السرد بخصوص إرهاصات الهجرة النبويّة يعرّج جعيط على سبب دعوة أهل المدينة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإسلامهم، ليصوّر أنّها صدفة تاريخيّة وحاجة مزدوجة عند أهل المدينة وعند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. «من جهة محمد فهو في هذه الآونة يفتّش عن ملجأ، ومن أُخرى أناس في هذه الآونة أيضاً يفتّشون عن الرجل الاستثنائي الذي يمكن أن يأتيهم بالسلم، وهم في حالة عداء مستمرّ بين بعضهم»[3].

ثمّ يتساءل عن سبب هذا الإقبال الساحق على رجل أجنبي، مع أنّ دعوته لم تدلّل على مقدرتها على تنظيم المجتمع، ويجعل هذه الإشكالية

(224)

لغزاً كبيراً، ولحلّ هذا اللغز يتّجه إلى المصادر من جهة ليصوّر العداء والحروب الداخليّة بين أبناء أهل المدينة، ومن جهة ثانية يلتجئ إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة الدالّة بزعمه على أنّ العرب بشكل عامّ لا يقبلون الالتجاء إلى رجل أجنبي إلّا إذا كان حكماً أو كاهناً أو نبيّاً[1]، هكذا يفسّر قبول الدعوة ليرضي ضميره التاريخي.

وهشام جعيط لا ينسى أيضاً أن يتلاعب بالمصادر مرّة أُخرى ويصفها بالمغلوطة كثيراً، ليجعل بيعة العقبة واحدة، ولا ينسى على أن يستشهد ببعض المصادر التي تدعم فكرته، من قبيل: رواية ابن كثير عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وما يُستفاد من نصّ عروة بن الزبير ويصفها بالثمينة والشفّافة، ناسياً أو متناسياً باقي المصادر التي تخالفه[2].

ومن جهة أُخرى يسعى ليثبت معتقده ويصوّره بأنّه المنطقي ويقول: «ومن ناحية أُخرى ومنطقيّاً ليست هناك أيّة ضرورة لأن توجد بيعتان من نفس المضمون كما يروي ذلك ابن إسحاق ومن أخذ عنه»[3] وكأنّ التاريخ لا بدّ أن يجري ويصاغ بحسب العقليّة الجعيطيّة وما يفهمه هو ويستسيغه، كما أنّه وبحسب زعمه أن «كلّ ما قيل عن الطابع السّري للعقبة والتخوّف من أن يأتي الخبر قريشاً، لا معنى له ومفتقد لكلّ منطق»[4].

(225)
٢ ـ الغزوات:

للغزوات دور محوري في دراسة جعيط للسيرة النبويّة في الفترة المدنيّة، حتى أنّه قسّم تاريخ المدينة زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما قبل معركة الأحزاب وما بعدها.

كما أنّ موقفه تجاه أهداف الغزوات متذبذب، فتارة يقول: «إنّما الغزوات التي أشعلها الإسلام، وهي على شكيلة الحروب وقوانينها، استعادت ظاهرة السبي»[1]. وأُخرى يصفها أنَّها كانت لأجل العقيدة[2]. أو إعلاء الدين القيّم[3] وثالثة يجعلها لأجل سلب قوافل قريش[4] أو لأجل الحصول على الغنائم، ليقول: «لقد بلغ حبّ الغنيمة ذروته ولعب دوره كاملاً»[5] كما أنّ هدف النبي منها كان أوّلاً دينيّاً ثمّ سياسيّاً ثمّ اقتصاديّاً[6].

لكنّه يخالف هذا الترتيب في مكان آخر، ليقول: «إنّ المحرّك الأكبر للغزوات كان إطعام أتباعه من أهل المدينة»[7].

ولا ينسى أن يصف بعض هذه الغزوات بالفظّة «التي مورس فيها نهب العشائر البدويّة الفقيرة»[8].

(226)

أو قوله: «لم تكن إغاراته (أيّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) على القبائل الصغيرة سوى غزوات للحصول على الغنائم بدون قتال حقيقي»[1]. أو يصف غزوة بدر بأنّها كانت مجزرة حقّاً[2]. من دون تأنيب ضمير ولا عواطف[3].

إنّ هشام جعيط يصنّف الغزوات إلى غزوات ضدّ قريش وغزوات ضدّ الأعراب والبدو، وهذه الثانية بدأ بها بعد معركة الخندق «بعدما رأى أنّ النزاع مع قريش قد سُوّي»[4]. أمّا المعارك مع قريش فيصوّر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي كان يبحث عنها ويريدها دون قريش سيّما في معركة بدر[5].

ويتطاول أكثر ليقول إنّها كانت بدوافع شخصيّة بحتة: «كان يواجه تحدّيات كبرى يعود بعضها إلى اندفاعه الشخصي، مثل: النزاع الذي استثاره ضد قريش»[6]. لذا، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بحسب المزاعم الجعيطيّة ـ يجيّش أصحابه في البداية «لمراقبة القرشيّين واستفزازهم»[7].

يعني أنّه لتحقيق مآربه الشخصيّة كان يعمل بالخدعة والمكر؛ ليستفزّ قريش للحرب ويقضي عليهم. هذا هو الخيال العلماني الواسع الذي يستخدمه المؤلّف دائماً لفرض آرائه الخاصّة المخالفة للقرآن وللمصادر.

وليست ببعيدة عمّن تمسّك بالمنهج المادّي الصرف لدراسة السيرة؛

(227)

إذ لا يمكنه أن يفسّر الحوادث إلّا وفق المنظار المادّي، فتصبح الغزوات للنفع المادّي البحت، أو لإشباع غرائز شخصيّة، وعداء داخلي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعشيرته. وينسى البعد الديني والدفاعي والأوامر الإلهيّة لنشره الدعوة والدفاع عن العقيدة.

١ ـ ٢ ـ النبي المحارب:

إنّ موقف جعيط تجاه مصطلح: «النبي المحارب» في وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للفترة المدنيّة، غير واضح بل ضبابي، يتراوح بين التأييد والنفي.

فهو من جهة يعترض على المصادر التاريخيّة التي تشرح الفترة المدينيّة ضمن كتب المغازي، لتقول إنّ جوهر عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة هو العمل الحربي[1]. ليصف أنّ: «مفهوم النبي المحارب هو مفهوم منقوص»[2].

ومن جهة أُخرى، يؤيّد ماكس فيبر وغيره الذين وصفوا المرحلة المدينيّة بالإسلام المحارب، ويقول: «لا ريب في صحّة ذلك طالما أنّها شهدت حرباً طويلة مع قريش، وحصارات ومعارك مع اليهود، وحملات وغزو وردع للبدو»[3].

إنّ مؤرّخنا الباحث عن الجذور تائه هنا؛ إذ لم يجد سنداً يعتمد عليه لتفسير تحوّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من السلم في مكّة إلى الحرب في المدينة، فنراه يتخبط بين التمسّك بمنهجه التاريخي، وبين الواقع التاريخي الذي لا

(228)

يمكن إنكاره، ليكشف عن تردّده، بقوله: «نحن كمؤرّخين تُرى كيف نحلّل بالتفصيل هذا العمل متعدّد الوجوه؟»[1].

لذا، نراه يتردّد في قبول مفهوم «النبي المحارب» ويجعله منقوصاً، ويرجّح وصفه بالنبوّة السياسيّة كما فعل واط في كتابه «رجل دولة»[2]. ثم يشكّك في الحربيّة والسياسيّة معاً، ويقول: «هناك تواصل واستمراريّة في الخطاب القرآني: تعميق التاريخ القدسي، إقامة الشعائر، الدعوة إلى الأخلاق ومخافة الله، الوعد والوعيد في الآخرة، إذن هناك تواصل للنواة الدينيّة المركزيّة للنبوّة، فهذه أبعد ما تكون عن نبوّة حربيّة لا غير، وحتى عن نبوّة سياسيّة، كما تريدها المصادر العربيّة والدراسات الاستشراقيّة اللاحقة»[3].

وجعيط يصل في نهاية المطاف إلى أنّ مبادرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في المدينة متعدّدة: سياسيّة، عسكريّة، دبلوماسيّة ودينيّة[4]. ولم نقف من جعيط على سبب حقيقي لهذا التدرّج أهو خدعة ـ والعياذ بالله ـ لجرّ أهل المدينة شيئاً فشيئاً إلى المخطّط المرسوم من ذي قبل، كما يقول هو: «فلا ننس أنّه دُعي إلى المدينة لتهدئة التوتّرات الداخليّة فيها، وبالتالي للقيام بعمل سلمي، وهذا ما قام به أوّلاً. لكنّه حوّل خفية وتدريجيّاً طاقات المدينيّين نحو مشروعه الخاصّ: أسلمة الحجاز مهما كلّف الأمر»[5].

(229)

«يمكن القول بصراحة: إنّ محمداً قد ناور حتى جلبهم إلى مشاريعه»[1].

أم أنّ واقع الحال فرض نفسه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فبعد سنوات من الدعوة السلميّة في مكّة والمدينة، وعدم قبول الإسلام من قبل القرشيّين في مكّة، واليهود والنصارى في المدينة: «كلّ ذلك استطاع إقناع النبي بأنّ الكلمة وحدها ليس لها تأثير في نشر العقيدة ونجاحها آخر الأمر. فعالمه العربي لا يعرف ولا يفقه سوى ميزان القوى، وعليه كان يجب استعمال وسائل هذا العالم، الواقع هو أنّ في نهاية الأمر لن يتمّ نشر دين الله إلّا بهذه الوسائل»[2].

وبعبارة أُخرى: «تبيّن أنّه بدون قوّةٍ حربيّةٍ قد لا يتمكّن الإسلام من الانتصار في حياة مؤسّسه، وأنّ تغيير المنظور الذي كان قد أجراه منذ العام الثاني للهجرة لصالح العمل العسكري، والموظّف دائماً في خدمة الدين، قد ظهر أنّه الخيار الوحيد الصالح لهداية العرب ومن ثمّ لإصلاحهم»[3].

وهذا في كلا الأمرين طعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث يجعله في الأوّل مخادع والعياذ بالله، يجرّ الناس إلى مبتغاه بالتدريج، وفي الثاني يجعله كالرجل العادي يسمح لنفسه أن تُملي الظروف عليه واقعها، من دون أن يكون له أيّ تخطيط استراتيجي أو مستقبلي، وكأنّه شخص براغماتي يعمل وفق المصالح المادّيّة والواقع المعاش، ويفرض فكره بالتدريج «كلّما مال ميزان القوى لصالحه»[4].

(230)

٢ ـ ٢ ـ معركة بدر:

يرى هشام جعيط أنّ معركة بدر كانت محوريّة في السيرة النبويّة، حيث إنّها أوّلاً: ترسم أيديولوجيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحربيّة[1]، وثانياً: إنّها «أطلقت شعلة التفاعل المتسلسل الذي منه سيخرج: انتزاع مكّة، وانتصار الإسلام في الحجاز ثمّ في الجزيرة العربيّة»[2].

غير أنّه يجعلها من غير تخطيط مسبق بمعنى أنّها كانت مفاجئة لكلا الطرفين: قريش، وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله[3] وأنّ النبي هو الذي أرادها[4]، بل أكثر من هذا، يقول: «تقول المصادر والقرآن نفسه إنّ مواجهة بدر عائدة إلى المصادفة» ثمّ يشكّك في هذا، ويقول: «ليس تماماً كذلك»[5].

ثمّ إنّ جعيط يصرّح بأنّ «قبل بدر كان القرآن يأمر المهاجرين أن يقاتلوا أولئك الذين أخرجوهم من ديارهم، كان ذلك أمراً إلهيّاً»[6]. وهذا الكلام ينسف كلّ ما نسجه من خيال لتبسيط المعركة وأنّها لم تكن بتخطيط مسبق.

ومن تناقضاته أيضاً، قوله: إنّ النبي لوّح لجيشه بسلب قافلة قريش الراجعة من الشام. ومع هذا، لم تكن له شخصيّاً رغبة في ذلك، ثمّ بعد سطر يقول: إنّ من أهداف هذه المعركة إطعام أتباعه المهاجرين الذين

(231)

يعيشون في الحرمان[1]. فهو ينفي الغنيمة والهدف الاقتصادي ويثبته بالوقت نفسه وفي الصفحة نفسها، وكم رأينا من هذه المعاجز الجعيطيّة؟!

٣ ـ ٢ ـ معركة أُحد:

يرسم لنا هشام جعيط وبالاعتماد على القرآن والمصادر، صورة كاملة عن معركة أحد، تتلخّص في أنّ قريشاً بعد واقعة بدر استعدّت للثأر، فبذلت أموالاً كثيرة وجيّشت القبائل الصديقة والمجاورة وتوحّدت للثأر، بخلاف أهل المدينة حيث من جانب كانوا مرغمين في الدفاع عن النفس، ومن جانب ثاني لم يستجيبوا بشكل كامل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يخرج منهم سوى سبعمائة رجل[2].

ثمّ يصف طريقة تعبئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لجيشه، والنبّالة الذين وضعهم على الجبل وأمرهم بعدم التخلّي، إلى أن حصل ما حصل وكاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتل.

فالقرآن يصف المعركة ويقف عند عنصرين: «لقد نصرهم الله أوّلاً لكن النبّالة خالفوا أمر النبي، وثانياً عدم الانضباط هو ما سبّب الهزيمة»[3].

لكن مؤرّخنا التونسي لم يرق له هذا التفسير، ولا يريد أن تتمّ الأمور هكذا؛ إذ لا يريد أن يعطي الزمام للغيب كي يرسم الخارطة كما يشاء، لذا يخالف النص القرآني ـ رغم ادّعائه في التمسّك بالقرآن كمصدر للسيرة ـ

(232)

ويقول: «القرآن لا يفصّل الأمور، لكن السيرة تفصّلها وما ترويه معقول، باستثناء الفكرة الكامنة في القرآن، ومؤدّاها: إنّ ذلك العصيان (عصيان النبّالة في رواية السيرة) أدّى إلى التخلّي الإلهي عنهم عقاباً لهم»[1].

وكذلك يخالف المصادر رغم أنّه وصف روايتها بالمعقوليّة، ليقول: «إنّ الروايات المسلّمة لا تبدو دقيقة جدّاً في جوهرها، لا بل أرى أنّها غير متماسكة»[2]. وما يستخلصه هشام جعيط: إنّ معركة أحد كانت هزيمة كبرى للنبي وللمسلمين، هزيمة نكراء مادّيّاً ومعنويّاً [3] بل يصفها بأنّها كانت كارثيّة عليهم[4].

ومن هنا، يحاول أن يصوّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكأنّه واقع في مأزق وحيرة من أمره، كيف يفسّر للمسلمين هذه الهزيمة: «لأنّ محمداً وقومه كانوا شديدي الإيمان بالدعم الإلهي لهم، فكيف يفسّر للمؤمنين الهزيمة، وغياب عون الله وملائكته، وكيف يبقي على معنويّات الأنصار؟»[5].

ليقول: إنّ القرآن تدخّل هنا، وكسب هذه الجولة لصالح النبي بنجاح من خلال إلقاء اللوم عليهم لعصيانهم الأوامر، إن هي إلّا مسرحية هزيلة وسيناريو صاغه مخيال جعيط العلماني.

ولكن، كلّ هذا رغم وروده في القرآن والمصادر، لم يرض هشام

(233)

جعيط ويحاول أن يشكّك في الأمر، ويقول: «لكن ما الأمر بنظرنا نحن كمؤرّخين؟»[1].

هذا هو بيت القصيد، إنّه يريد أن يفسّر الحدث من وجهة نظر تاريخيّة بحتة بمنأى عن التفسير المقدّس، لذا يرى أنّ المعركة كانت فاشلة من ذي قبل، وأنّ انكسار المسلمين متوقّع بكلّ بساطة: «إنّي أرى أنّ ذلك كان متوقّعاً»[2]. «سواء ترك النبّالة موقعهم أم لم يتركوه، فربّما ما كان سيتغيّر شيء في نتيجة المعركة»[3]. وأيضاً: «نظراً لاختلال ميزان القوى الحاضرة، كانت هزيمة المسلمين متوقّعة، وربّما لم يكن بالإمكان تلافيها»[4].

هذه المكاشفة الجعيطيّة التي توصّل إليها مؤرّخنا التونسي، ولم يهتدِ إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!! جاءت من خلال الاعتماد على «الوقائع الخام» رغم مخالفة القرآن والمصادر لها، وسبّبت نصر قريش على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ بسبب:

١ ـ إنّ ميزان القوى كان لصالحهم[5].

٢ ـ كانت قيادة قريش مرموقة بخلاف أهل المدينة النزقين وغير المنضبطين.

٣ ـ وقوع أهل المدينة في فخّ المناورات العسكريّة القرشيّة[6].

(234)

وهذا من أطرف ما نقرأه عند مؤرّخنا التونسي، حيث يدّعي أنّ منهجه في كتابة السيرة هو القرآن والمصادر، ثمّ يخالفهما ليعطي تفسيراً من مخياله العلماني وفاء لمنهجه التاريخي، حتى ولو سبّب الطعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتوصيفه بالحائر الذي لا يدري كيف يُقنع أتباعه، وكذلك بالقائد الذي لم يستشرف قدرات خصمه وكان يزعم الانتصار، وأنّ خصمه كان أكثر معرفة بالحرب والخطط العسكريّة منه. وحتى لو سبّب الخروج عن النصّ؛ إذ المهم في المخيال العلماني هو الحفاظ على المنهج التاريخي، ولَيُّ جميع المعطيات لصالحه وإن بلغ ما بلغ، وقد طبّق جعيط هذا المنهج الهرمنوطيقي بأجلى وجهٍ.

٣ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود:

تمرّ علاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باليهود ـ عند هشام جعيط ـ عبر مرحلتين: المرحلة الأولى: دعوتهم للإسلام في بداية دخول المدينة، المرحلة الثانية: التخطيط للقضاء عليهم بعد رفض الدعوة.

ففي المرحلة الأُولى، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بحسب هشام جعيط ـ يتمنّى بكلّ قواه أن يهتدي اليهود إلى الإسلام لتكتمل صورة شموليّة الإسلام للجميع، ولكن رفض اليهود لذلك سبّب خيبة كبرى عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكان بمثابة جرح[1] «حينذاك انتهى أمر شموليّة الدعوة التوحيديّة: الإسلام وجهته العرب»[2]، مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بمحاولات ترغيبيّة إزاء اليهود، مثل: صوم عاشوراء، الصلاة باتجاه القدس وغيرها «لكن ذلك كلّه باء بالفشل، وكان

(235)

فشلاً ذريعاً؛ إذ واجه الكهّان والأحبار النبي برفض ساخر، وفوق ذلك أرهقوه بمسائل مفخّخة»[1].

ومن الصلافة بمكان حيث حاول إحداث تناقض بين القرآن وبين ميول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العربيّة، حيث إنّ القرآن يحاول أن يزجّ الإسلام ليكون في خطى اليهوديّة والمسيحيّة بخلاف ميول الشخصيّة العربيّة وحتى الميول النبويّة حيث كان مقتنعاً بعروبته، يقول جعيط بهذا الصدد:

«وجملة القول كاد القرآن أن يستلب الشخصيّة العربيّة، ويقضي عليها بغية إلحاقها بالعالم اليهودي... كان لمحمد تعلّق بعشيرته لا ينبتّ، وكان له مع ذلك معرفة عميقة بعالمه العربي. لكنّه كان هو نفسه مستلباً باليهوديّة طالما استبطن حقيقتها، لا نزاع في شعوره بالنقص إزاء التكبّر اليهودي: إنّه الأمّي المقصي عن النعمة. لكن تحديداً باستدراكه لذاته، طارحاً الإقصاء كفضل جديد وبقلب معطيات القضيّة أسّس نجاحه... لقد أفرد الرفض اليهودي وعرّب فأنقذ بالتالي الإسلام ومصيره المقبل. أمّا الاكتساح الرهيب الذي شنّه على اليهود في المدينة... فهو يفسّر بحقد شخصي يعكس حبّاً خاب، أكثر ممّا يفسّر بتعصّب أيديولوجي مجرّد. إنّ غضب الرسول المدمّر تجاه اليهود هو خاصّة الوعي بأنّه كاد أن يفقد روحه من أجلهم، وكاد أن يضيّع الروح العربيّة لصالحهم، وأن يخون شعبه بصورة من الصور. وهكذا بدأ الرسول نشاطه بتمزيق روابط الحب وانتهى بعودة إلى العروبة أي بمصالحه»[2].

(236)

كما أنّه يفسّر رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة رجوعه إلى العروبة: «إنّنا رأينا أنّه ينبغي تأويل عودة الرسول بصورة أوسع، واعتبارها تجديداً للارتباط بالحياة وتراجعاً نحو العروبيّة في جملتها، أي أنّها بمثابة إعادة لتعريب الرسالة، كما سيتأكّد بعد ذلك في الضمير الإسلامي بصورة عفوية بالابتعاد عن الجذور اليهوديّة المسيحيّة الموجودة في القرآن»[1].

فبعد هذا الرفض تمّ اتّخاذ قرار أساسي وتمثّل تاريخي وديني كبير، أوّلاً: في تحويل القبلة إلى مكّة، وثانياً: تأسيس فكرة إبراهيميّة القرآن والإسلام بعد سحب صفة اليهوديّة عنه، وإدخاله في الإسلام، أي أنّه هو الذي أنشأ دين التسليم لله، «فالرفض اليهودي دفع إسلام النبي إلى الجذور، إلى مصادر التوحيد»[2].

فهذا الكلام ينسف إلهيّة الشريعة؛ إذ ينسبها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهو الذي يشرّع أحكاماً لجلب قلوب اليهود، ثم شرّع أحكاماً أُخرى خلافها عند عدم قبولهم الرسالة، وهو كلام واضح البطلان لمن يعتقد بألوهيّة الدين وألوهيّة التشريع. والقرآن أيضاً يخالف فكرة التشريع النبوي بل يجعله مبلغاً ورسولاً.

المرحلة الثانية: تتمثل في المواجهة والتخطيط للقضاء على الوجود اليهودي في المدينة والجزيرة العربيّة، فكانت الخطّة هكذا: «الحرب على اليهود هي امتداد للحرب على قريش»[3]. ولكن بما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتمكّن

(237)

من القضاء على جميعهم دفعة واحدة، لذا تعامل معهم بالتدريج، وكان التدرّج هكذا:

١ ـ «بعد كلّ مجابهة مع قريش، كان يوجّه قوّاته ضدّ العشائر اليهوديّة التي كانت ترفض على غرار قريش الاعتراف به كنبي»[1].

٢ ـ بدأ بالأضعف وهم يهود بني قينقاع، ثمّ تدرّج شيئاً فشيئاً إلى الأقوى[2].

فهنا، بعد واقعة بدر وبعد النصر «ساد جوّ من الثأر تجاه أعداء محمد، ترجم بأحداث ملحوظة في ما بينهم: طرد بني قينقاع، مقتل كعب بن الأشرف»[3].

٣ ـ ثمّ بعد معركة أحد التي يصفها جعيط بالفاشلة، ولتلافي ذلك الفشل والتعويض عن الهزيمة، توجّه إلى بني النضير وأجلاهم من المدينة أيضاً؛ إذ كانوا «يثيرون مشكلة سياسيّة دينيّة خطيرة... كان اقترانهم بالمنافقين يخلق ضغطاً على الدعوة وعلى عمل النبي لدرجة أنّه كان يُهدّد بتفتيت وحدة الأمّة وبذر الشكوك في العقول»[4].

ولا يفوّت جعيط أن يغمز في هذا العمل ليقول: إنّ الشيم العربيّة آنذاك «لم تكن تفقه شيئاً من عنف الطفرة الدينيّة الجارية، ولا من تعنّت

(238)

الأيديولوجيا والسلطة السياسيّة الآخذة في التشكّل. كانت قواعد التساكن والضيافة والذكريات المشتركة وحسّ التحالف، لا تزال سارية عندهم»[1]؛ لذا يؤيّد حزن بعض المسلمين لإجلاء اليهود كما تذكره المصادر.

٤ ـ ثمّ تأتي المحطّة الأخيرة والأهمّ، أي يهود بني قريظة في خيبر، وما يملكون من موارد ماليّة كبيرة، والموقف المضادّ لهم «لا يتعلّق بحقد أيديولوجي ديني... بل يتعلّق بنقض معاهدة ونكث ميثاق بخيانة ارتكبت في زمن الحرب... ومن هنا، فإنّ قرار النبي بوضع المقاتلين المحتلمين على نطع السيف، كان قراراً من النمط السياسي الصرف»[2].

رغم أنّ جعيط يصرّح هنا بأنّ سبب القضاء على بني قريظة لم يكن إلّا بسبب خيانتهم ونبذ العهد والميثاق، غير أنّه يصرّ على مواقفه الخاطئة ومخياله العلماني، ليقول: إنّ الهدف هو تحطيم اليهود، أي مجرّد أمنية فارغة وتسوية حسابات قديمة: «كانت تكمن وراء ذلك رؤية استراتيجيّة عميقة: تحطيم القوّة اليهوديّة في الحجاز»[3].

كما أنّه على غرار التركيز على البعد الشخصي والانتقام من اليهود؛ لعدم قبول الدعوة وتحويلها من دعوة شموليّة إلى دعوة خاصّة بالعرب، لا ينسى هشام أن يعطي للعامل الاقتصادي والمادّي الأهمّيّة الكبرى في اتّخاذ الموقف المعادي تجاههم، والعامل الديني يبقى دائماً عند مخيال جعيط هو الأضعف والمغمور.

(239)

فيقول: «من الجلي أيضاً أنّه كانت وراء ذلك (أي طرد بني النضير) أيضاً أسباب اقتصاديّة لا يجوز التقليل من أهمّيّتها، كان بنو النضير يملكون أفضل الأراضي الغنيّة والمرويّة، وكان محمد في حاجة إلى تأمين الاستقلاليّة الغذائيّة لمهاجريه»[1].

ويقول أيضاً: «صحيح أنّ الهدف الرئيسي للنبي لم يكن من النسق الاقتصادي، بل كان هدفه سياسيّاً وفوق ذلك دينيّاً، إلّا أنّ العامل الاقتصادي كان يلعب دوره في إعادة تجميع الأعراب وتعزيز بيعة المدينين له... كان ينبغي للنبي أن يغدو قوّة اقتصاديّة تغذّي وتطعم وتوزّع المغانم، فبدون ذلك ما كان لجمهور العرب في الحجاز لاحقاً في ما وراء الحجاز في بلاد العرب، أن يجتمعوا حول شخصه»[2].

إنّه طعن مزدوج للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يصفه بالشخص البارغماتي الذي يبحث عن المصالح وأنّ الغاية تبرّر الوسيلة، وطعن في الصحابة حيث جعلهم مادّيّين لا يلتفّون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يضحّون إلّا بوجود تطميع ومكاسب مادّيّة.

هذه هي الصورة النهائيّة المرسومة في مخيال مؤرّخنا العلماني، حيث يرى أنّه «سيكون لسلب اليهود في كلّ مرّة مردود اقتصادي كبير»[3].

و«سيدفع اليهود الثمن الباهظ ليس فقط بأنّهم الشاهد المنكر للدين الجديد الحيّ، بل أيضاً لكي يُزوّد بالغنائم أو الأنفال أولئك الذين يتّبعون

(240)

النبي والسلطة الجديدة ذاتها الآخذة في التكوّن، من هنا كان طرد بني قينقاع، ومن بعدهم طرد بني النضير، ثمّ من بعدهم أيضاً مجزرة بني قريظة، وأخيراً الاستيلاء على خيبر»[1].

ويلاحظ عليه: إنّ هشام جعيط لم يراع منهجه الذي افتتح به ثلاثيّته حول السيرة، حيث آلى على نفسه أن يكتب سيرة معتمدة على القرآن، فلو بقي مستمراً على خطاه الأولى لما تفوّه بهذا الكلام عند رسمه لعلاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود.

فمؤرّخنا التونسي نسي أنّ الله تعالى وصف رسوله الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخُلُق العظيم، وصاحب الخلق العظيم لا يستخدم الغدر للقضاء على طائفة كبيرة بمجرّد حبّ المال والنفع الاقتصادي كما يصوّره مخيال جعيط.

المؤلّف يعترف بصحّة صحيفة المدينة والمعاقدة التي كانت بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود، وإذا كان النبي ناوياً نقضها من الأساس، فهي إمّا تهمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغدر والخيانة والعياذ بالله، أو عدم معرفته بثروة اليهود ثم اطّلع عليها وطمع فيها، أو أنّه كان في البداية غنيّاً ثمّ عندما افتقر بدأ بالتفكير في السطو على أموال اليهود.

إنّها فرضيّات باطلة، ويبقى الحقّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعامل مع اليهود بكلّ صدق ومحبّة، ولكن بعد ما بدت منهم بوادر الخيانة، ومحاولة قتل المسلمين وقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وبعد نقضهم المعاهدة لعدّة مرّات، فكان من الطبيعي أن يلاقوا جزاء خيانتهم.

(241)

وعندما نراجع سورة البقرة، وهي من أوائل ما نزلت في الفترة المدينيّة، نرى آيات كثيرة تتعلّق باليهود، ونجد «في هذه السورة أنّ مزاحمات اليهود في الأمور المختلفة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، كانت من السعة بحيث شغلت أكثر وقت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، ونزلت آيات كثيرة من منبع الوحي لإصلاح ما أفسدوه وإبطال مفعول وساوسهم وإلقاءاتهم وأفكارهم»[1].

قال تعالى: ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [2]. فإنّهم لو وفوا بالعهد لعاشوا رغداً ولما تعرّض لهم أحد. ولو راجع هشام جعيط سورة البقرة وجمع ما ورد فيها حول اليهود، وكذلك ما ورد في سورة الأنفال والحشر، لما تفوّه بما أفاض عليه خياله وسطّرته أنامله[3].

٤ ـ الدولة ونظام الخلافة:

لم يكن هدف هشام جعيط في دراسته للسيرة النبويّة والخلافة الإسلاميّة، إثبات أنّ الإسلام هل هو دين ودولة، أو أنّه دولة فحسب، أو دين فحسب؛ إذ هذه الإشكالية متروكة لمجال آخر، وإنّما هدف مؤرّخنا التونسي هو دراسة الظاهرة التاريخيّة كما هي، لذا يرى «حقيقة الأمر أنّ الديني والسياسي ممتزجان»[4]. و«الدولة والدين لا يشكّلان إلّا شيئاً واحداً»[5].

(242)

كما لا إشكال عند جعيط أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مارس سلطة سياسيّة في المدينة المنوّرة، وكانت هذه الفترة «سياسيّة بامتياز»[1]. وقد «اعتمد النبي على وجود قاعدة إنسانيّة هي الأمّة، وعلى وسائل الحرب والسياسة»[2]. وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «تحوّل إلى رجل سياسي عقلاني بشكل خارق»[3]. وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله «أجاد إظهار قدرات سياسيّة واستراتيجيّة لا نظير لها»[4]. وأنّه «الرجل السياسي الكبير»[5]. وأنّ «السياسة بكلّ ما تعنيه من ديبلوماسيّة وسلطة وحرب فمصالحه هي التي أكسبته النجاح والاعتراف به في الحجاز»[6].

كما لا إشكال عنده أيضاً بأنّ الفترة المكّيّة لم تشهد حراكاً سياسيّاً من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: «كان حتميّاً على الإسلام المحمدي أن يستعمل سلاح السياسة فيما بعد، ويعني هذا أنّ محمداً لم يكن إبان الفترة المكّيّة مصلحاً اجتماعيّاً ولا رجل سياسة البتّة»[7].

«فقد كان تصوّر النبي للدعوة النبويّة، هو أنّ الله يرسل لكلّ شعب نذيراً وبشيراً، يرسل شخصاً يشهد له ويتحدّث عنه، وبعد ذلك تكون الحجّة قائمة. إذن، لم يكن العنصر السياسي موجوداً في المرحلة المكّيّة»[8]. وكانت الدعوة

(243)

«وعظاً سلميّاً»[1]. لذا، يعترض المؤلّف على بعض المستشرقين الذين جعلوا الدعوة في الفترة المكّيّة ذات أهداف سياسيّة للسيطرة على مكّة[2].

وإنّما الإشكالية تقع عند هشام جعيط في أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هل أسّس دولة مكتملة، أم أنّه خلق جنين دولة. ففي البداية كان يذهب جعيط إلى الأوّل، وخصّص مبحثاً في كتاب الفتنة المطبوع عام ١٩٩١م تحت عنوان «الدولة النبويّة»، غير أنّه غيّر موقفه في دراسته عن السيرة النبويّة فيما بعد، ونفى ذلك واعتقد أنّ محاولات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وممارساته السياسيّة والسلطويّة لم تكن دولة، بل خلقت جنين دولة تمّ تأسيسها زمن الخلفاء. وإليك بيانه:

في المرحلة الأُولى يفصّل هشام جعيط ـ كما قلنا ـ بين الفترة المكّيّة والفترة المدينيّة، لتكون الفترة المكّيّة خالية من أيّ نشاط سياسي بخلاف الفترة المدينيّة ويقول: «لا مناص من الفصل المطلق بين التبشير الديني لمحمد طيلة ١٣ سنة في مكّة بالذات، التبشير الذي كان البارقة الدينيّة المحض التي أدّت إلى ولادة الإسلام، وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين. فالعنصر الأوّل نتاج اتجاه روحي عميق يندرج في سياق المدى الطويل لتطوّر الروحانيّة التوحيديّة... والثاني هو ثمرة المصادفة، وكان يلبّي الحاجة إلى تجاوز هامشيّة محلّيّة، هامشيّة الجزيرة العربيّة بإدخال مبدأ الدولة فيها وإليها»[3].

كما أنّه يرى أنّ الدولة الإسلاميّة تكوّنت «على ثلاث مراحل: الأولى في

(244)

فترة الهجرة عندما انبثقت سلطة نبويّة، والثانية سنة ٥ هجرية بعد حصار المدينة أو الخندق عندما اكتسبت هذه السلطة الصفات الأساسيّة للدولة تدريجيّاً، وعندما اتّسعت ركيزتها الفضائيّة لتشمل الجزيرة العربيّة بأسرها، والثالثة بعد وفاة النبي...».

ويذكر من أسس تلك الدولة وركائزها: السلطة العليا لله تعالى، الكاريزما النبويّة، تكوين جماعة متضامنة هي الأمّة، بروز تشريع، ظهور طقوس عباديّة موحّدة، وأخيراً الاعتماد على الحرب وتشكيل قوّة ضاربة[1].

وهكذا أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يُنظر إليه من قبل العرب والقرشيّين واليهود «بمثابة قوّة، بمثابة سلطة، بمثابة سلطة الحجاز»[2]. بحيث «ترك النبي عند وفاته ديناً مكتملاً، ودولة مهيمنة على الجزيرة العربيّة كلّها، مترابطين لا يقبل الانفكاك»[3].

ولكن، بعد لأي من الزمن ينقلب هشام جعيط، ويتراجع عن موقفه هذا عندما يكتب عن السيرة النبويّة، فهو تارة ينفي الصفة السياسيّة عن الإسلام نهائياً، ويقول: «إنّ لبّ الإسلام هو الدين، ولم يكن النبي يصبو إلى السياسة والتسلّط»[4].

(245)

وإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله «لم يكن رجل سياسة»[1]. بل «لم يكن سوى نبي لا يملك سوى سلطة دينيّة وأخلاقيّة، وليس سلطة سياسيّة قاهرة. إنّ ما يعزى إليه من تأسيس مفهوم دولة (العلي واط وآخرون) لم يكن وارداً لديه على الإطلاق طيلة القسم الأكبر من إقامته في المدينة، وخصوصاً في البداية؛ لأنّ هذا المفهوم يتضمّن الطاعة الكاملة لأوامره تحت طائلة العنف الإكراهي، العنف القانوني. خصوصاً في حالة الحرب، ولم تكن تلك هي الحال، بل لعلّها أبعد ما تكون عن ذلك حتى في السنوات الأخيرة»[2].

وتارة أُخرى، عندما يرى ممارسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأعمال سياسيّة صرفة يجعلها ثانوية، ويقول: «لم تكن الحرب والسياسة سوى وسائل ملائمة لعالمه، ولهذه الدنيا عموماً، وما كان يتمّ التعاطي بهما لذاتهما»[3]. أي «إنّها لخدمة الدين وليست لذاتها»[4].

وسبب رفض هشام جعيط لمفهوم الدولة، وإضفاء صفة تأسيس الدولة على أعمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ هو اعتقاده بأنّ كلمة الدولة لم تكن موجودة آنذاك في اللسان العربي[5]. حتى أنّه يناقش فلهاوزن عند ما يصف الفترة النبويّة بالثيوقراطيّة؛ لاعتقاده أنّ في الثيوقراطيّات لا بدّ من الرجوع إلى الله مباشرة، أمّا هنا فكان عن طريق واسطة هو القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وعليه، فليست هي

(246)

ثيوقراطيّة، بل كانت «سلطة في خدمة الدين وليس العكس»[1].

والخلاصة التي يصل إليها جعيط: إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ممارسته لأعمال سياسيّة، واستخدامه وسائل السلطة، لم يكوّن دولة، بل «خلق جنين دولة سوف يكبر ويتطوّر مع الزمن»[2].

أمّا بخصوص نظام الخلافة، فهو يرى أنّ عيون الجميع في الجزيرة العربيّة قبيل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت شاخصة إلى هذا الأمر[3] و«ستطرح وفاة النبي مسألة حقيقيّة وحيدة، مسألة الحفاظ على إنجازه من دين ودولة، وبالتالي مسألة الخلافة»[4].

وهكذا حدثت قصّة السقيفة، والاجتماع للبت في هذا الأمر: «فبعد نقاش خطير بليغ وسريع جرى تأسيس الخلافة»[5]. كما أنّها تدلّ على «أنّ الوظيفة النبويّة كانت تفهم كوظيفة قياديّة تستلزم خلفاً»[6].

وهشام جعيط كمؤرّخ لا يريد الخوض في السجالات الكلاميّة بين السنة والشيعة، ويقول: «أن يكون أبو بكر هو الخليفة الشرعي، فهذا أمر لا ريب فيه بالنسبة إلى المؤرّخ، مهما قيل في ذلك لاحقاً، في هذا الاتجاه أو ذاك، وأكان القائل من السنّة أم من الشيعة»[7].

(247)

ولكن رغم هذا، لا يفوته أن يشير إلى أنّ أسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أبعدت عن الخلافة، وأنّ أفراد بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحضروا ولم يدعوا إلى اجتماع السقيفة[1]. وينقل عن المصادر المؤيّدة للشيعة أنّ عليّاً والهاشميّين وغيرهم لم يبايعوا وأظهروا كثيراً من التحفّظ، غير أنّ الإجماع على أبي بكر امتص تلك المعارضة[2].

كما لا يفوته أن يشير أيضاً إلى عامل التخويف، واستعمال القوّة لتمرير موقف السقيفة، ويقول: «يروي الإخباريّون أنّ شوارع المدينة كانت تغصّ بأفراد قبيلة أسلم، وبالتالي كان هناك ضغط عسكري من جانب عناصر خزاعة»[3].

ثمّ إنّ هشام جعيط رغم محاولته لاتخاذ الحياد، وعدم الخوض في السجالات الكلاميّة المطروحة بين السنّة والشيعة في الخلافة، غير أنّه يشير إلى ثلاث وقائع أساسيّة، كانت مدار الجدل بين الفريقين في الأحقّ بمنصب الخلافة، إنّها حديث المنزلة في غزوة تبوك، وقضيّة تبليغ سورة براءة، وحديث الغدير.

فإنّه بعدما ينقل معتقد الشيعة في دلالة هذه الوقائع الثلاث، يورد معتقد أهل السنة فيها أيضاً من دون غمز فيه، فحديث المنزلة عندهم «شهادة ثقة وعطف من جانب محمد تجاه صهره وابن عمه وأخيه في الإسلام». وقضيّة سورة براءة تفسّر بعادة العرب في «إرسال شخص من

(248)

آله عندما يتعلّق الأمر بإبلاغ رسالة مهمّة أو تسديد دين»[1].

أمّا واقعة الغدير التي يصفها بالمهمّة، فيقول: «لنلاحظ منذ البداية أنّ عدداً من المراجع السنّية يرفض إمّا الواقعة، وإمّا الحديث وإمّا الاثنين معاً. لا يأتي ابن سعد على ذكر فصل الغدير، وابن حزم يرفض الحديث، والبخاري يعتبره ضعيفاً، ويستند ابن كثير على ابن حنبل، حين يقول: إنّ نواة الحديث أي قسمه الأوّل مقبولة بالإجماع، أي «من كنت مولاه فعلي مولاه». غير أنّ التراث السنّي يضفي طابعاً تاريخيّاً على الحديث ويقلّل من أهمّيّته: كان المقصود بذلك الدفاع عن عليّ في مواجهة الهجمات التي كان عرضة لها بسبب سلوكه في اليمن. إنّ هذا التراث حتى حين يسلّم بعبارة كهذه إنّما يفرغها من كلّ مضمون سياسي وديني»[2].

ثمّ بعد ما ينقل رأي الشيعة بخصوص نزول آية إكمال الدين، يعلّق ويقول: «نزلت هذه الآية التي تختم الوحي في أثناء الحج وليس بعده، وهي لا علاقة لها بعلي، كما أنّ كلام النبي عنه المتجادل فيه نسبيّاً، لا يؤسّس أيّة وصيّة لعلي، كما أنّه لا يؤسّس وصيّة بأمر ربّاني تنتسب إلى مخطّطات الربوبيّة»[3].

وأخيراً، يرى جعيط أنّ الاهتمام بمسألة الإمامة لم يكن وليد تلك الفترة الأولى، إنّما جاء بشكل متأخّر جدّاً، أي بعد سجالات القرون الثلاثة الأولى، ويقول: «وفي وقت متأخّر... طرح الوعي الإسلامي أنّ المسألة

(249)

الأولى والأخيرة للإسلام ـ خارج البعد الميتافيزيقي المتعلّق بطبيعة الله ـ هي مسألة الإمامة وشرعيّة الإمام»[1].

ويلاحظ على ما ذكره جعيط، أمور:

١ـ إنّ موقفه تجاه الدين والدولة في العهد النبوي متناقض ومتذبذب تماماً، فهو كما رأيت لا يستقرّ على رأي، فتارة يذهب إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أسّس دولة، وتارة أُخرى ينفي ذلك، وهذا التناقض وعدم وضوح الرؤية لا يقتصر على هذه المسألة، بل كما رأيت ونوّهنا عليه أكثر من مرّة، فإنّ التناقض من السمات البارزة في آثار جعيط وأعماله.

٢ ـ التفرقة بين الفترة المكّيّة والمدينيّة من حيث العمل السياسي غير صحيح؛ إذ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعمل بحسب الظروف والمناخات المتوفّرة له، فهو حينما لم يجد مناخاً لتأسيس دولة ووضع أنظمة دينيّة فلم يقدم عليه ولم يؤمر بذلك، وعدم ممارسة الحدث السياسي في مكّة، لا يدلّ على خلوّ الدعوة من مشروع سياسي، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم تماماً أنّ الدعوة من دون تشكيل دولة سوف لا تنجح، غير أنّه كان يتربص الفرصة لتتبلور معالم الدعوة بشكل جيد وشامل، وهذا ما حصل في المدينة. نعم، المخيال العلماني له الحقّ أن يشكّك في كلّ شيء؛ إذ إنّ المنهج الذي يعتمده لا يسمح له بأكثر من ذلك.

٣ـ صحيح أنّ الدعوة النبويّة إنّما هي دعوة دينيّة، غير أنّها تستبطن العنصر السياسي -أيضاً- حتى في الفترة المكّيّة؛ إذ إنّ تحدّي المنظومات

(250)

الدينيّة والاجتماعيّة الكبرى في مكّة، بما يعني ويستنتج من تغيير في موازين القوى، ورسم منظومة عباديّة اجتماعيّة جديدة، وتغيير الوجهة من الأرض إلى السماء، ورسم الحياة وفق رؤية جديدة، كلّ هذه أعمال سياسيّة بامتياز، ولذا أثارت حفيظة القوم، فلا معنى لجعل الفترة المكّيّة خالية من العنصر السياسي تماماً.

٤ ـ أمّا ادّعاء جعيط بأنّ مفهوم الدولة لم يكن متداولاً آنذاك، وعليه يرفض تأسيس الدولة النبويّة، فغير صحيح أيضاً؛ إذ نحن لا نتكلّم عن المصطلح، نحن نتحدّث عن المحتوى والممارسة، ونقول: إنّ ممارسات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ممارسات رجل دين ودولة، فتأسيس نظام مالي، اجتماعي، حربي وعسكري، تربوي وغيرها من الأمور، إنّما هي أمور لقيادة المجتمع وهدايته إلى رشده، فهي أمور سياسيّة تحتاج إليها كلّ دولة، وهذا ما نشاهده بوضوح في تلك الفترة، وإن لم يولد المصطلح، كما أنّ المسلمين كانوا يمارسون علم الكلام آنذاك من حيث الأسئلة العقديّة التي كانوا يطرحونها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، واستفسارهم عن الآيات العقديّة الواردة في القرآن، مع تأخَّر ولادة مصطلح علم الكلام إلى القرن الثاني أو الثالث تقريباً.

ثمّ إنّ جعيط نفسه إذ ينفي وجود مصطلح الدولة في العهد النبوي، يقرّ بولادتها فيما بعده مباشرة، أي بعد تأسيس نظام الخلافة، فلنا أن نتساءل منه: كيف ولد هذا المصطلح هكذا فجأة؟!

٥ ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن غافلاً عن مستقبل دعوته، كيف ودينه خاتم الأديان وللناس كافّة، ونحن نعتقد أنّ النبوّة والوصاية ليست من

(251)

شؤون البشر حتى يتدخّلوا فيها، بل هي اصطفاء من الله تعالى خالق العباد والبلاد، وهو العالم بمصالحهم المادّيّة والمعنويّة، الظاهرة والباطنة، وهو الذي يرسم قانون الحياة في خطوطها العريضة وكبريات الأمور.

فنحن نعتقد أنّ مسألة الخلافة أو الوصاية لمرحلة ما بعد النبوّة، كانت من أولى اهتمامات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهو في هذا الأمر يتبع إرشاد السماء وتعليمه، وقد تبيّن معالم هذا الأمر منذ بواكير الدعوة، حيث جمع عشيرته بعد ما أمره الله تعالى بقوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ[1] وكان حديث الدار حيث قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعدما عرض دعوته على قومه: «فإيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟» فلما لبّاه علي عليه‌السلام قال له: «إنّ هذا أخي ووصيّي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»[2].

ثمّ تكرّر الموقف مع بني عامر بن صعصعة عندما عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه عليهم، فقال قائل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء[3].

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقصد أمر النبوّة؛ إذ انّه يعلم بكونه خاتم الأنبياء، فيستقرّ الأمر على طلب القوم منه السيادة والقيادة، كما هو وارد في صدر الخبر من قول القائل: «لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب».

(252)

واستمرّ الأمر هكذا طول حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله يشير إلى أمير المؤمنين وأحقيته بالأمر، فتارة يصرّح وتارة يلمّح، وما ذكره المؤلّف من حديث المنزلة وسورة براءة يدخل في هذا المضمار.

وقد اشتدّ هذا التصريح والتلميح قبيل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله، فقد قال الشيخ المفيد قدس‌سره(ت٤١٣هـ): «إنّه عليه وآله السلام تحقّق من دُنُوّ أجله ما كان قدّم الذكر به لأمّته، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم مقاماً بعد مقام في المسلمين يُحذّرهم من الفتنة بعده والخلاف عليه، ويؤكّد وصاتهم بالتمسّك بسنّته والاجتماع عليها والوفاق، ويحثّهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة، والاعتصام بهم في الدين، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد...»[1].

فمسألة الإمامة ـ كما رأيت ـ تضرب بجذورها في عمق الدعوة النبويّة، وتتوافق مع منطق الأحداث، والعرف القبلي السائد، فالأمور والشواهد كلّها تشير إليها وتؤكّد حتميّة اهتمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله، فهي ليست وليدة السجالات الكلاميّة المتأخّرة كما زعمه جعيط.

٦ ـ يبقى أخيراً، أن نشير إلى حديث الغدير حيث له محوريّة من بين سائر النصوص الدالّة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام، فنرى أنّ جعيط متأثّراً بالخط السلفي ينفي الحديث؛ بدليل:

١ ـ التشكيك في أصل الحديث.

٢ ـ التشكيك في سند الحديث.

(253)

٣ ـ التشكيك في دلالة الحديث وأنّه جاء على إثر حادثة اليمن.

٤ ـ التشكيك في نزول آية الإكمال بخصوص واقعة الغدير.

ولنا أن نرد أدلّته بشكل مقتضب[1]، ونقول:

أمّا التشكيك في أصل الواقعة فهي مكابرة ليست أكثر، كيف وقد وردت في معظم كتب السيرة والتاريخ، فهذا ابن المغازلي (ت٤٨٣هـ) يقول نقلاً عن أبي القاسم الفضل بن محمد بن عبد الله الأصفهاني أنّه قال: «قد روي حديث غدير خم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو من مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة، تفرّد علي عليه‌السلام بهذه الفضيلة ليس يشركه فيها أحد»[2].

ويقول الذهبي (ت٧٤٨): «وجمع طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء، رأيت شطره فبهرني سعة رواته وجزمت بوقوع ذلك»[3].

ويقول ابن كثير (ت٧٧٤هـ): «واعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وساق الغثّ والسمين والصحيح والسقيم»[4].

أمّا سنده، فقد صرّح الكثير من الحفّاظ بوجود أسانيد صحيحة له، وقد رأيت اعتراف ابن كثير المتعصّب بذلك قبل قليل، وممّن صحّحه أيضاً:

(254)

الطحاوي (ت٣٢١هـ) في مشكل الآثار ٢/٣٠٨، والحاكم النيسابوري (ت٤٠٥هـ) في المستدرك ٣/١٠٩، وابن حجر العسقلاني (ت٨٥٢هـ) في فتح الباري ٧/٦٠، والألباني (ت١٤٢٠ه ـ) في سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤/٣٣٠، ح١٧٥٠.

وهناك من صرّح بتواتره منهم: الحافظ الذهبي (ت٧٤٨هـ) في سير أعلام النبلاء ٨/٣٣٤، الحافظ ابن الجزري (ت٨٣٣ هـ) في أسنى المطالب٣، والسيوطي (ت٩١١هـ) في الأزهار المتناثرة، وغيرهم الكثير.

فبعد هذا لا يبقى لنا مجال للتشكيك في أصل الواقعة أو سندها، أمّا كون البخاري وغيره لم يذكره في الصحيح، فالبخاري لم يتعهّد بذكر كل حديث صحيح، فهذا الحاكم النيسابوري (ت٤٠٥ هـ) يقول: «لم يحكما ـ البخاري ومسلم ـ ولا واحد منهما بأنّه لم يصحّ من الحديث غير ما أخرجاه»[1]. وقال النووي (ت٦٧٦ هـ): «أنّهما لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صحّ عنهما تصريحهما بأنّهما لم يستوعباه، وإنّما قصدا جمع جمل من الصحيح، كما يقصد المصنّف في الفقه جمع جملة من مسائله»[2].

أمّا دلالة الحديث، فلا غبار عليها بعد معرفة الكلمات بشكل صحيح، وبعد دراسة الحديث في سياقه والظرف الزماني والمكاني الصادر فيه، ولا ضير لأهل السنّة أن يحرّفوا الكلمات عن معناها الحقيقي، ويطلقوها على

(255)

معان بعيدة لا تمتّ إلى الواقع بصلة، أو محاولة التلاعب بسبب صدور الحديث، وأنّه -مثلاً- كان دفاعاً عن عليّ أمام شكوى الجيش عندما قدموا من اليمن.

وعندما نجمع روايات اليمن نرى أنّها لا علاقة لها بواقعة الغدير، بل كان هناك خلاف بين الصحابة انتهى بتدخّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لصالح علي عليه‌السلام قبل واقعة الغدير؛ إذ إنّ أمير المؤمنين ذهب إلى اليمن عدّة مرات، وقد أشار ابن هشام (ت ٢١٨) إلى اثنين[1]. ويستفاد من بعض الروايات أكثر من ذلك، ولكن أجهزة الدسّ والتدليس خلطت الأوراق وزوّرت الأحداث كي لا تُثبت لعليّ عليه‌السلام حقّاً.

(256)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

هشام جعيط والتجديد

(257)
(258)

الفصل الرابع: هشام جعيط والتجديد

لم يمض طويلاً على دخول مباحث تجديد الفكر الديني؛ في العالم الإسلامي العربي، ويمكن إرجاعه إلى ما يقارب القرنين، منذ دخول بونابرت أرض مصر وما أعقبه من تحوّلات فكريّة واجتماعيّة عامّة.

يحدّثنا التاريخ بأنّ بونابرت اصطحب معه من رجال العلم ومطبعة عربيّة وقد «انضمّ إلى طائفة العلماء كثير من مشاهير علماء فرنسا وصنّاعهم متطوّعين، ومثل ذلك القوّاد، فكأنّ فرنسا بجملتها تاقت إلى مرافقة هذا القائد»[1].

لقد شهد العالم الإسلامي في هذه الفترة الساخنة حوادث محوريّة وفترات انتقاليّة هامّة، أمثال: انهيار الحكم العثماني وتقسيم العالم الإسلامي، الحروب العالميّة وما أحدثته من آثار سلبيّة، نهضة الدستور في إيران، الحركة القوميّة، نكسة ١٩٦٧م أمام إسرائيل، استعمار الدول الإسلاميّة وفكّ الاستعمار،... هذه الحوادث وغيرها أحدثت تيّارات فكريّة متعدّدة، يمكن تصنيفها ضمن تيّارين كبيرين:

١ ـ التيّار الإسلامي.

٢ ـ التيّار العلماني.

وهناك تيّار ثالث لم يحسم أمره وبقي متردّداً بين التيّارين، فلا هو يندرج تماماً ضمن التيّار الإسلامي، ولا هو يدخل في التيّار العلماني.

(259)

ونقصد بالتيار الإسلامي، التيار الذي يجعل مرجعيّته الإسلام، ويعطي تفسيراً شموليّاً للدين، فيدخل فيه الإصلاحي المعتدل ويدخل فيه أيضاً السلفي المتشدّد.

أمّا التيار العلماني، فهو الذي يرجع إلى متطلّبات العصر وما أنتجه العلم الحديث، ويدعو إلى ليّ عنق الشريعة نحو المعاصرة، وهذا التيّار أيضاً يشمل الملحد المنفلت عن الدين، كما يشمل الملتزم بالطقوس الدينيّة على المستوى الشخصي، والملتزم بلوازم الحضارة الجديدة على المستوى الفكري والاجتماعي والسياسي، وإن خالفت الأصول الدينيّة.

وهذا التقسيم لا يعني اشتراك كلّ الأشخاص المصنّفين ضمن التيّار الإسلامي مثلاً؛ في جميع المعطيات والرؤى والمواقف، بل توجد خلافات فكريّة ومعرفيّة ربّما كبيرة فيما بين أبناء التيّار الواحد؛ وذلك لأنّ الوطن الإسلامي العربي: «عالم متنوع تختلف فيه المعطيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والتاريخيّة والثقافيّة من بلد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ويضاف إلى ذلك أنّ عدداً كبيراً من هذه المجتمعات يتّسم بكونه متعدّد الإثنيات والأديان»[1].

يُصنّف هشام جعيط ضمن التيّار العلماني، وإن كان إلى الصنف الثالث المتذبذب أقرب، فهو من جانب يرى نفسه في بُعد «عن الصيغة العاديّة للإيمان» وعن «فكرة وجود الإله الخالق كما صاغتها الأديان التوحيديّة»[2].

(260)

ومن جانب ثاني، يرى أنّ شخصيته منقسمة على نفسها إلى: «جانب غربي عميق، وجانب عربي إسلامي أعمق منه»[1]. كما أنّه لم يرتض بالحركات القوميّة التي تدعو إلى محو الإسلام، ويقول: «كما استأت فيما بعد من ابتعاد النخبة القوميّة الشرقيّة عن الإسلام؛ لذا رأيتني لا أتصوّر شخصيّة عربيّة من دون بُعد إسلامي كيفما كانت صفته»[2].

فهو على المستوى الفردي، يحاول أن يلامس إيمان الطفولة في أعماقه ويحافظ عليه، ولو من خلال الخروج عن الإطار الديني المشهور والعامّ؛ لأنّه يحاول أن يزاوج بين العروبة والإسلام، ومن جانب ثانٍ، يصنّف نفسه ضمن التيّار الليبرالي الحرّ[3].

بل أكثر من هذا، يرى نفسه ضمن الفكر الإصلاحي الإسلامي في مقاصده دون محتواه، إذ يقول: «وإذا كان تفكيري يندرج ضمن مسيرة الفكر الإصلاحي الإسلامي، وإذا كان امتداداً لمقصده، فإنّه ينفصل عنه تماماً في محتواه»[4].

إنّ هشام جعيط كان متأثّراً بمحمد إقبال، وكتابه في تجديد الفكر الديني في الإسلام[5]. أدّى هذا التأثير إلى محاولته للكتابة في تجديد الفكر الديني[6]، وهو وإن لم يتمكّن من إنجاز هذا الكتاب، غير أنّه كتب معالم

(261)

مشروعه التجديدي في كتابه الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة.

وله إشارات أُخرى إليه أيضاً في باقي كتبه وحواراته وبحوثه المطبوعة في المجلّات.

ثمّ إنّ هشام جعيط يعتقد «أنّ تجديد الفكر العربي لن يأتي من المشرق بل من هذا المغرب المتمزّق قطعاً»[1]. فالنهضة الفكريّة في المغرب وإن لم تكن في مستوى النهضة، فإنّ الاتجاه العامّ لا يمكن أن يتّجه إلّا إلى الأعلى. والمشرق قد توقّف عن العطاء والتقدّم، كما أنّه يعاني من سلطة الدولة وضيق الخناق، والمهم أنّ الفكر لم يلقح في المشرق مباشرة بالثقافة الغربيّة، ممّا يؤدّي إلى استيعاب مضطرب أو مغلوط لمكاسب الحداثة، أمّا المغرب سيسبق المشرق في النوع والقيمة؛ لعلاقته المباشرة بالتقاليد الثقافيّة الإسلاميّة العربيّة، ولارتباطه بتقاليد الغرب[2].

إنّ مهمة التجديد هذه ملقاة بحسب هشام جعيط على عاتق المفكّرين لهذا الجيل، ولا بدّ من عدم الاكتفاء بالتنظير بل الجمع بين التنظير والعمل[3]، وكذلك يلزم تقديم إصلاح جذري في المنظور الفوري، أمّا في المنظور البعيد فيجب البحث عن نموذج للتنمية الشاملة. كما أنّ «مهمّة قوى التجديد أن تعقلن وتعصرن تؤنسن»[4].

إنّ المشروع الشامل الذي يدعو إليه جعيط، وهو مشروع حضاري

(262)

إنساني عنده، لا بدّ أن يمرّ عبر إصلاح عميق للشخصيّة، والنظرة إلى الدين، والمجتمع [1]. هذا هو لبّ مشروع جعيط للتجديد في العالم الإسلامي، وبما أنّه يدعو إلى المزاوجة بين النظر والعمل، ندرس مشروعه ضمن مبحثين:

المبحث الأوّل: الإطار النظري للمشروع.

المبحث الثاني: الإطار العملي للمشروع.

(263)

المبحث الأوّل: الإطار النظري

إنّ مشروع جعيط يبتني على «الوحدة العربيّة»؛ إذ إنّه يدمج بين الإسلام والعروبة بحيث يبعد غير العرب عن تذوّق الإسلام الصحيح بحسب زعمه. وفي حين اعتقاده بإمكانيّة استمرار الإسلام في غير فضائه العربي، مثل: إيران والحكم العثماني، غير أنّه يتساءل، ويقول: «لكن إلى أيّ مستوى من الضمير؟! ما قيمه هذا الإسلام غير المفهوم الذي يقع التروّي فيه، ولم يتمّ الشعور به ضمن تلوّنات اللغة القرآنيّة أو في الحديث، وقد انفصمت صلته بالماضي النابض المجيد المفعم بالبطولات، وقد غطّته الآن في هذه الأصقاع غير العربيّة غشاوة من الإيمان الساذج الخرافي والصوفي بصورة بدائيّة... لذا، فلا مقارنة بين الشعور الإسلامي لعالم مثل ابن خلدون، وشعور عالم تركي أو فارسي من القرن الرابع عشر. هناك عالم ذهني بأكمله يجهله هؤلاء العلماء حتى لو برعوا في اللغة العربيّة، حيث إنّ الأمر متعلّق ببنية الضمير، بضمير ثنائي البعد، حيث يتضافر الانتماء الإسلامي والانتماء العربي... سيجسّد العالم العربي بمفرده هذه الشخصيّة المزدوجة، ويبقى وفيّاً للمبادئ الإسلاميّة كما للماضي العربي»[1].

ومن هذا المنطلق، يطرح المؤلّف شعار الاستمراريّة للشخصيّة العربيّة ليربطها بماضيها، وهذه هي الأيديولوجيّة العربيّة التي يدعو إلى تأسيسها: «ويجب أن يجد المجتمع العربي طريقاً لتحقيقه الذاتي، وينطلق بحثاً عن أيديولوجيا خاصّة به»[2].

(264)

وبناء على هذا الأساس، يطرح هشام جعيط في الإطار النظري ـ بحسب تقسيمنا لعمله ـ أمرين للمناقشة والتنظير:

الأوّل: الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، ويصفها بالتاريخيّة أو أيديولوجيّة ثقافيّة، والتي تُعدّ المصدر لبناء مصير سياسي جديد، وبروز كافّة قوى التجديد والخلق في المجتمع والدولة والثقافة، وبعبارة واحدة للوصول إلى «عقلنة النفسيّة الفرديّة».

الثاني: المصير السياسي، وهو يشكّل الإطار الذي تتطوّر فيه الإنسانيّة العربيّة والدعامة لنشاطها بصفتها جماعة، وهو مصير وإسقاط على المستقبل، وخلق للكيان أو الواقع الموضوعي. وبعبارة أُخرى: الوصول إلى «عقلنة النظام السياسي الاجتماعي»[1]. فهو يرنو إلى علمنة الفرد وعلمنة المجتمع من خلال عمله وأطروحته.

لذا، فإنّه يسير في رحلة اركيولوجيّة ليبحث عن الجذور، جذور الأنا العربي الإسلامي ليكتشف المصير، هذه الأنا كيف كانت؟ وكيف هي الآن؟ وماذا ستكون غداً؟ مستلهماً ذلك من فرويد رائد التحليل النفسي.

١ ـ الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة (أو عقلنة الفرد).

تنقسم الشخصية عند هشام جعيط إلى قسمين:

١ ـ الشخصيّة القوميّة.

٢ ـ الشخصيّة التاريخيّة.

(265)

الشخصيّة القوميّة هي التي تُشكّل الإطار الوطني والتوحّد أو التعدّد، بينما الشخصيّة التاريخيّة هي التي تحدّد الإطار الايديولوجي الثقافي المتكوّن من التحام الايديولوجيا ـ أي الدين ـ بالتقليد الثقافي[1].

إنّ الغرب جرّاء التعامل بين هذين الشخصيّتين شكّل لنفسه «الأمّة المسيحيّة»، حيث إنّ «كثيراً جدّاً ما كان يحرّك تاريخ أوروبا الحديث التعاون أو الصراع بين الشخصيّة السياسيّة القوميّة، والشخصيّة التاريخيّة الأيديولوجيّة الثقافيّة»[2].

ومن هذا المنطلق، أي الجدليّة بين الشخصيّتين في الغرب، يريد جعيط أن يدرس العالم الإسلامي ليصل إلى تكوين «أمّة عربيّة» على مستوى الفكر والعمل.

يرى جعيط ضعف الشعور القومي في البلاد العربيّة، ويوعزه إلى عدّة أسباب:

١ ـ بعض السلبيّة فيما يقدّمه الأهالي في التفاعل مع العطاء العربي لبناء الشخصيّات القوميّة.

٢ ـ وجود فكرة الوحدة الإسلاميّة، وتوجّه الروح الإسلاميّة دائماً إلى الخارج، وهذا أدّى إلى إيقاف ظهور الشعور السياسي الوطني إيقافاً تاماً.

٣ ـ بنية الدول الإقليميّة في البلاد العربيّة خلال العصرين الوسيط

(266)

والحديث. إنّ ظاهرة الولاء في صلب الدولة الموجود بصورة واسعة في الإسلام العربي منذ العصر العباسي، ترمي وجوباً إلى كبت فكرة الوطن في الغياهب، وتشلّ ظهور كلّ وعي وطني[1].

كما أنّ التاريخ عند جعيط هو القاعدة الأساسيّة للشعور الوطني والفكرة الوطنيّة، ويستعير من شبنغلر مصطلح «زاوية المدخن» أي استعراض ملاحم الأجداد عوداً إلى جيلين أو ثلاثة، ليدرس أوّلاً تاريخ الوطن العربي منذ قدوم بونابرت إلى مصر وما أعقبه من أحداث، ويوصله إلى التاريخ القديم حيث يعدّه بمثابة الدائرة المركزيّة التي تضيء مكاسبنا الأساسية والتي بقيت في نظام الحضارة[2].

وهذا التاريخ القديم يشكّل أساس الشخصيّة، ونحن لا محالة ورثة الأجداد الحقيقيّين أو المصطنعين، والتاريخ حبيس الثنائيّة بين الشخصيّة التاريخيّة والشخصيّة القوميّة[3].

كما قلنا سابقاً فإنّ مشروع جعيط هو بناء «وحدة عربيّة»، ويرى أنّ تحقّق الأمّة بحاجة إلى عدّة عوامل:

١ ـ وعي قومي، وهو مرتبط بالأساس التاريخي القديم الموضوعي.

٢ ـ وجود قومي، وهو سيادة الدولة، والوحدة الثقافيّة والدينيّة للأمّة التي تحمل الدولة.

(267)

٣ ـ الواقع القومي، وهو الذي تحدّده البنيات الدنيا كالأرضيّة الترابيّة، والعرقيّة القديمة، والشكل الجغرافي، والقوى المنتجة[1].

غير أنّه يرى أنّ مقوّمات الأمّة غير موجودة حالياً في العالم العربي، وما هو موجود:

١ ـ الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة.

٢ ـ الشخصيّة القوميّة المحدودة.

ولأجل الوصول إلى الأمّة ـ المشروع الشامل والمصير المشترك ـ لا بدّ من إدماج الشخصيّتين، أي تركيب الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة مع العنصر القومي، وهذا «من شأنه أن يجعلها تسهم بقوّة في بناء مصير مشترك، وبعث صلة عضوية بين الشعوب العربيّة»[2].

ثمّ إنّ جعيط لا يرى وجود «أمّة عربيّة» بصفتها كيان موجود بالفعل، والنموذجان الموجودان في العالم العربي: حركة حزب البعث، والحركة الناصريّة، لا يرتقيان إلى مشروع أمّة؛ لذا يقوم بنقدهما وتبيين مواقع الخلل فيهما[3].

كما يرى أنّ الخطأ الكبير الذي ارتكبته الحركة العروبيّة، يتمثّل في أنّها تصوّرت الوحدة العربيّة على نموذج الأمّة، وطرحت الأمّة العربيّة كأحد المعطيات، ولكن الوحدة المرغوب فيها لن تتمّ فعلاً إلّا انطلاقاً من

(268)

تجاوز الظاهرة القوميّة، وهي التي ستؤسّس على استمراريّة التراث الذي يكتسي أبعاداً عالميّة ـ أي التراث العربي الإسلامي ـ وعلى مشروع حداثة وتطوّر[1].

من هنا يقوم جعيط برسم تصوّره للمستقبل العربي الذي يجب إصلاحه من الداخل وفي العمق، والنظر في الاعتبارات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي تؤيّد التوحيد، بمعنى تقييم فكرة الوحدة العربيّة.

وإيماناً منه بفلسفة التاريخ الدالّة على دوام المراكز الحيويّة التاريخيّة مهما كانت وجوهها المتوالية، يستشرف المستقبل بقوله: «لا شكّ في أنّ العالم العربي سيثبت من جديد وفي هيكل الوحدة، حضوراً في العالم وقابلية للخلق في الداخل بعد مرور بعض القرون قضاها في السبات، مبرهناً بذلك على استمرار طاقته، لكن من المتوقع ألّا يكون في طليعة الإنسانيّة ومحرّكها وملهمها»[2].

وهذه الوحدة إن تحقّقت ستقوم بالتوحيد الثقافي ومصالحة العربي مع نفسه، كما تقوم بإقحام الثقافة العربيّة في سياق الحداثة العالميّة، وهي أيضاً تدعو إلى التنمية الاقتصاديّة، من خلال إيجاد توازن للموارد والخيرات في كلّ بلد، ومع السعي للحدّ من السلبيّات التي ستحصل.

كما أنّ هذه الوحدة لا بدّ أن تعرّض القيم الوطنيّة الخاصّة للضرر جرّاء الاندماج في البناءات الاجتماعيّة الواسعة والنشاطات العليا، بل

(269)

عليها أن تحافظ النوعيّات الوطنيّة الخاصّة وتحميها.

وأخيراً، تستمد هذه الوحدة صلاحيّتها الأخلاقيّة من رضا كلّ الأشخاص ورغبتهم الجماعيّة، بعدما يرون أنّ الوحدة هي أقرب طريق لحمل المجتمع العربي على تحرير قدرات العمل داخل الشعب، وتحرير قدرات العبقريّة والعقل، وأخيراً تجاوز الجوّ الذهني المتدنّي الخانق[1].

غير أنّ هذه الوحدة العربيّة المنشودة لم تكن -لحدّ الآن- سوى أمنية منشودة، وأنّ شعار الوحدة المطروح من قبل الحركة القوميّة منقوص كثيراً، كما أنّ الدول الاستبداديّة الموجودة حاليّاً لا تنهض لذلك أيضاً ولا يمكن التعويل عليها لضمان الوحدة، كما أنّ الوحدة مرتبطة بتغيير الذهنيّة، والتخلّف الذهني الموجود يعيق التوحيد. وعليه، ينبغي ترقّب نضج الوعي الوحدوي وحصول ظروف استثنائية تعمل على بروز شعلة جديدة ضمن الدولة[2]. وقيام مشروع الوحدة على «أساس مشروع يدخل تحويراً عميقاً على الحضارة والمجتمع والإنسان»[3].

واستشرافاً للمستقبل الوحدوي، يستعين هشام جعيط (بالخيال المتحسّس للمستقبل) ويرسم سيناريو للوحدة العربية المنشودة على تصوّرين:

١ـ السيناريو الأوّل: هيكلة العالم العربي على أربعة أقطاب: مجموعة ضفاف النيل (مصر والسودان مع ليبيا أو بدونها) مجموعة سوريا عراقيّة

(270)

تجمع بين العراق وسوريا الكبرى (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) مجموعة الجزيرة العربيّة التي تجمع بين دول شبه الجزيرة، الكيان المغربي (المغرب والجزائر وتونس مع احتمال انضمام ليبيا وموريتانيا).

٢ ـ السيناريو الثاني: أن يقع الاقتصار على الثنائيّة القطبيّة بين المشرق والمغرب[1].

وهناك سيناريو ثالث، يطرحه ويعترف بأنّه أبعد عن التحقيق، وهو التوحيد التامّ ـ الفوري أو التدريجي ـ للمجموعة العربيّة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي[2].

وأخيراً: «إنّ العالم العربي في حاجة إلى ايديولوجيا موحّدة لا بمعنى النسق المغلق المذهبي الذي يريد لنفسه أن يكون رؤية فاصلة للتاريخ والإنسان، بل بمعنى المجموع المتلاحم من الأفكار الجديدة التي تشعّ على المجال الاجتماعي، والتي بالفعل يمكن أن يُبنى حولها إجماع متّجه إلى العمل. إنّ تحديد شكل الدولة وغائيّتها، وتهيئة نموذج للتطوّر الاقتصادي والاجتماعي المتماثل، واتخاذ موقف واضح إزاء التراث والدين والماضي، وتصوّر جماعي للمستقبل الثقافي، هذا هو الوضع الذي يسبق كلّ محاولة توحيديّة، وهو فضلاً عن ذلك يخلّص العرب من التردّد الذي يحيط بهم»[3].

(271)
٢ ـ المصير السياسي (أو عقلنة المجتمع والسياسة):

يبحث هشام جعيط هنا «عن مشروع سياسي واجتماعي وحضاري جديد يجسّم ويغذّي إرادة التغيير». مع الحفاظ على استمراريّة الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، وهذه الاستمراريّة تطرح «قضيّة التوفيق بينها وبين الحداثة، وبينها وبين متطلبات المصير التاريخي»[1].

لذا، يرى جعيط «أنّا لا نعتبر العروبة غاية قصوى لمصيرنا وقيمة عليا في حدّ ذاتها. ومن وجه آخر، فنحن لا نقبل أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع، والمحرّك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعيّة، فارضاً قواعده الدينيّة وما يرتبط بها من فروض في العادات والقضاء، كما كان الأمر في الدولة الخاضعة للحكم الإلهي في العصر الوسيط، وكما هي الحال في بعض الدول المعاصرة سواء كان حكمها تيوقراطيّاً أم لا. وعلينا تحمّل تراثنا الثقافي والروحي وإحياؤه... إنّ الابتعاد عن الماضي، والعمل بالقوانين الوضعيّة في المجتمع والتخلّص من ضغوط الأخلاق الدينيّة وأنساق القيم التقليديّة، لا يجب أن يعني فعلاً النهوض بعالم لا وجه له، بل أن نكيّف ماضينا بحاضرنا، ونُحيّد هذا الماضي بحركية عملنا الحالي. إنّ الماضي يرهق الحاضر عند الفرد كما في المجتمع، لكن الكائن الفردي أو الجماعي السليم يتميّز بقدرته على تجاوز الماضي والسموّ عنه مع الإبقاء عليه... ولذا، يجب أن يندمج الماضي في الحاضر بصورة منسجمة»[2].

ثمّ يتساءل جعيط عن طريقة القيام بالتغيير من جهة، وعدم الوقوع

(272)

في الاغتراب من جهة ثانية، ويرى أنّ الاتجاهات الإصلاحيّة والتحديثيّة أجابت على هذا السؤال ولكن كلٌّ بطريقته، والإجابة عند جعيط ليست إجابة كاملة شاملة بل هي جزئيّة تحيّزيّة[1].

فعند الاتجاه الأصولي، أمثال: محمد عبده، هناك المجتمع الإسلامي والعالم الحديث يقعان وجهاً لوجه، فيجب على هذا المجتمع أن يحافظ على أسسه، ويدمج العالم الحديث كجسد غريب، غير أنّ جعيط لم يرتض هذا المشروع، بمعنى استمراريّة المجتمع الإسلامي لإقامة مكاسب العالم الحديث فيه، بل إنّه ينطلق: «من ضرورة غرس الحداثة في مجتمعنا من دون أن نفقده تقاليده العربيّة الإسلاميّة... لا يمكن أن يكون الإسلام في نظرنا الأسّ الإيجابي الحالي الوحيد للمجتمع كما أراده الاتجاه الإصلاحي لجماعة المنار، وخلافاً لذلك، لا يمكن أن يكون من الجانب الآخر زخرفاً تاريخيّاً يلعب دوره في المسرح العروبي الكبير، كما يريد ذلك الاتجاه التحديثي العربي الجديد ونزعاته المختلفة»[2].

وعليه، يرى جعيط بأنّنا نحتاج إلى كفاحٍ فكريٍّ أخلاقيٍّ يقوده الذين يسيرون في آن بنور الإيمان الديني، والإيمان بمستقبل الإنسان العصري، فالقضيّة العربيّة قضيّة كلّيّة تبحث عن محرّك حيوي عميق، وهذا المحرّك هو إرادة تنبع من عمق الكائن العربي، وتحرير القدرات الكامنة، وإعادة توجيه الفكر الذي يحرّك المجتمع[3].

(273)

إنّ المطلوب من الإنسانيّة العربيّة أن تجمّع تجربتها وتجربة البشريّة، وأن تبقى كما هي وتتخذ لها جسداً جديداً، فتجعل من هويّتها مصدراً للطاقة تنعكس على الجهد وتحرّكه من طرف إلى طرفه الآخر[1].

وختاماً، «فلن يتمّ أيّ شيء صالح في المجال العربي إذا لم تراجع ثلاثة عناصر رئيسيّة في وجوده: الدين وموقعه في المجتمع، والإنسان ذاته وشخصيّته، والعلائق بين الدولة والمجتمع». لذا، سيركّز جعيط جهده لتقديم رؤية متجدّدة للإسلام، والدعوة إلى ظهور إنسان عربي جديد أعيدت هيكلته جذريّاً، وعرض تصوّر لمصير المجتمع.

ويقول: «إنّ الإصلاح في الميدان الديني، وعقلنة الفرد، وتحوّل الدولة والمجتمع، هذا هو الثلاثي الذي يشكّل الشرط الذي لا مناص منه لهذا التجديد الذي نريده قفزة إلى الأمام، ورهاناً على المستقبل» وهذا المنهج للعمل في العالم العربي لتحرّره[2].

ويلاحظ على ما ذكر في الإطار النظري أمور:

١ ـ من الخطأ حصر الإسلام بالعروبة، وإن كان الإسلام عربي المنشأ، ولكن عندما نريد أن نقدّم مشروعاً إصلاحيّاً، يعتمد على الاستمراريّة، فلا بدّ أن نلحظ عدم اقتصار الإسلام على العرب، بل إنّه استقطب في بداياته أعراق مختلفة وانتشر في الفضاء غير العربي أكثر ممّا انتشر في الفضاء العربي، حتى أنّ الحضارة الإسلاميّة انبنت في كلّيّاتها على غير العرب.

(274)

فالعنصريّة العربيّة التي يقدّمها جعيط غير صحيحة وتتنافى مع بعد الإسلاميّة، فهو إن يريد تقديم مشروع إصلاحي لتغيير الأمور، لا بدّ أن يلحظ جميع الأمّة الإسلاميّة، من دون تركيز على قوميّة عربيّة.

٢ ـ إنّ الزعم بأنّ غير العربي لا يفهم الإسلام حقّ المعرفة، زعم باطل ناشئ من قوميّة وعنصريّة بغيضة؛ إذ ما علاقة ذلك بفهم الإسلام الذي يعتمد على الأحكام والشرائع، ويعتمد على أدوات وآليّات من أتقنها أمكنة الاجتهاد وفهم الإسلام بشكل صحيح، كما رأينا ما صنعه أئمّة الفقه والأصول والفلسفة والكلام حيث حفظوا الإسلام ونقلوه إلى الأجيال اللاحقة وهم من غير العرب.

إنّ معرفة الإسلام في حقيقته لا علاقة لها بالضمير العربي ومعرفة تركيبة الشخصيّة العربيّة؛ إذ هذا لا يدخل في مجال التجديد والإصلاح، إلّا بمقدار دراسة النفسيّات والأعراف ومدى تدخّلها في مستوى المعرفة وما شاكل، أمّا تقديم مشروع شامل للإصلاح الإسلامي فلا علاقة له بما يرومه جعيط.

٣ ـ إنّ المؤلّف إذ يرفض مشروع «القوميّة العربيّة» ويوجّه نقداً لكلٍّ من الحركة الناصريّة والبعثيّة، يطرح بديلاً آخر تحت عنوان «الوحدة العربيّة»، زاعماً أنّ تغيير الكلمات ونحت مصطلحات جديدة، سيفعل معجزة، فمهما حاول المؤلّف تزويق صورة هذا المشروع فهو ذاته المشروع القومي القديم، ربّما بتغيير في بعض المسارات، وإلّا فهو مشروع قومي بامتياز، يحاول أن يفتح مجالاً ولو اسميّاً وشكليّاً للإسلام؛ لأنّه رأى أنّ حرارة الإيمان لا تقتلع من القلوب، وأيّ مشروع حاول إقصاء الدين من الفضاء العامّ آل بالفشل.

(275)

٤ـ إنّ ما يطرحه جعيط من عقلنة النفسيّة الفرديّة، وعقلنة النظام السياسي الاجتماعي، للوصول إلى الإصلاح المنشود والمدينة الفاضلة الجعيطيّة، هو ذاته المشروع العلماني الذي اعتمد عليه الحداثويّون في العالم الإسلامي والعربي، فهو محاولة بائسة لعلمنة الفرد والمجتمع مع محاولة الحفاظ على الدين كقشرة وإفراغه من محتواه، كما سيأتي لاحقاً عندما يطرحه المؤلّف تحت عنوان «العلمانيّة المفتوحة».

٥ـ إنّ المؤلّف يحاول أن يزاوج بين الشخصيّة القوميّة (الوطنيّة والسياسيّة) وبين الشخصيّة التاريخيّة (الدينيّة والثقافيّة) ليصل إلى أمّة عربيّة على غرار الأمّة المسيحيّة، غير أنّ المعالم التي يضعها في الطريق والخارطة التي يرسمها غير صالحة:

أوّلاً: إنّ الغرب لم يشكّل أمّة مسيحيّة متكاملة وواحدة منسجمة، بل قد انقسمت المسيحيّة على نفسها بأقسام متعدّدة ومتضاربة، فلا يمكن جعلها ملاكاً للعمل.

ثانياً: إنّ البوصلة التي يضعها جعيط للوصول إلى المقصد عاطلة، إنّه بدل أن يبحث عن آليّات وسبل العيش المشترك رغم اختلاف المعتقد، بات يلهث وراء وحدة عربيّة فضفاضة لا تتحقّق إلّا في المخيال، ناسياً أنّ الفوارق هذه والخلافات هذه، إنّما هي من طبيعة البشر المجبول على الخلاف والتعدّد، فكان لزاماً عليه وعلى غيره ممّن يريد تقديم خطط إصلاحيّة، مراعاة هذا التعدّد والإذعان به، ومحاولة وضع خططٍ للتعاون رغم الخلاف.

(276)

٦ ـ إنّ المؤلّف ينسى أو يتناسى دور الغرب السلبي في انحطاط العالم الإسلامي، من خلال الاستعمار وحرق فرص التقدّم، ومحاربة المنتج الوطني، وإخضاع الاقتصاد للمنتج الغربي، والسياسة للتبعيّة الغربيّة، والثقافة لاستلاب الهويّة، بل بدأ بكيل التهم على الحركات الإسلاميّة التي يزعم أنّها قلّلت من الشعور القومي.

٧ ـ يغفل جعيط أو يتغافل عن عمد، أنّ العامل الوحدوي الوحيد للعالم الإسلامي هو الإيمان، وليس بناء أمّة عربيّة أو وحدة أو قوميّة عربيّة، إنّها طروحات لا تؤول إلّا إلى الفشل؛ لأنّها لم تستند على سند متين. فلو راجع التاريخ وتمعّن في الفترة النبويّة، لرأى أنّ الذي جمع بين النفوس والأعراق المختلفة بل المتضادة إنّما هو الإيمان، قال تعالى ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [1].

فكلّ مشروع لا يبتني في الإطار النظري والعملي على هذه الركيزة سيكون عاقبته الفشل والإحباط، والتاريخ خير شاهد على هذا، والإيمان هو الأيديولوجيا الموحّدة الوحيدة التي يمكنه الحفاظ على وحدة الأمّة الإسلاميّة، وتلاحمها وتعاونها رغم الخلافات المتعدّدة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.

٨ ـ لو رجعنا البصر كرّة أُخرى ونظرنا إلى الماضي، لرأينا أنّ الحضارة الإسلاميّة، وتفوّق العالم الإسلامي على جميع الكرة الأرضيّة، إنّما كان

(277)

بفضل الدين والإسلام، وحتى الدولة الأمويّة التي كانت أبعد ما يكون من الإسلام، كانت تعمل الفتوحات باسم الإسلام، فلماذا يريد جعيط وأمثاله من الحداثوييّن، ترك هذه العامل الإيجابي وإدخال العالم الإسلامي في ثقافة مستوردة لا تمتّ إلى قيمنا بصلة، لماذا ينحّي جعيط الإسلام عن الساحة، ويدعو إلى تغييرات جذريّة في الدين والمجتمع والدولة بمنأى عن الإسلام أسّ النجاح والتقدّم، وإذا كانت ثمّة سلبيّات في المشروع الإسلامي المعاصر، فهذا لا يحسب على الدين، سيّما وأنّه من أنصار النظرة الهرمنوطيقيّة، فلماذا ينفي الدين وبإمكانه أن يناقش تلك المشاريع؟!

بعد هذا الإطار التنظيري الذي ذكره جعيط، وما سجّلنا من ملاحظات حوله، لا بدّ أن نعرّج إلى الإطار التطبيقي في المبحث القادم.

 

(278)

المبحث الثاني: الإطار العملي والتطبيقي

يرى جعيط أنّه لن يتمّ أيّ شيء صالح في المجال العربي إذا لم تُراجع ثلاثة عناصر رئيسيّة في وجوده: الدين وموقعه في المجتمع. الإنسان ذاته وشخصيّته. العلائق بين الدولة والمجتمع [1]. ومن هذا المنطلق، يبحث المؤلّف في هذه المحاور الثلاثة:

١ـ تقديم رؤية متجدّدة للإسلام.

٢ـ الدعوة إلى ظهور إنسان عربي جديد، أعيدت هيكلته جذريّاً.

٣ـ مصير المجتمع.

وسنلخّص عمل المؤلّف ضمن نقاط ـ كما رتّبها هو ـ لنقف على كلّيّات مشروعه.

يستقرئ هشام جعيط الساحة العربيّة الإسلاميّة، ليرى فيها اتجاهين:

١ ـ الاتجاه الذي يظهر قابليّة خاصّة للروحانيّة الدينيّة في قرن المادّيّة هذا.

٢ ـ الاتجاه الواسع الذي يدعو إلى رفع الطابع الإسلامي للوصول إلى تحرير المجتمع والرقي.

كما أنّه يرى الغلبة للاتجاه العلماني، ويقول: «المجتمع العربي الحالي

(279)

تطوّر في اتجاه العلمانيّة بخطوات عملاقة وإن غير متكافئة...»[1].

وللتوفيق بين التيّارين يقترح جعيط نظريّة الإصلاح الخارجي، يعني إصلاح العلاقة بين الدين وخارجه أي العالم الاجتماعي والدولة، والإصلاح الداخلي بمعنى التجديد من الداخل أي تجديد الرؤية في الإيمان وتقديم رؤية شخصيّة لأسس المعتقد[2].

والنتيجة التي يصل إليها جعيط ليس التوفيق بين هذين التيّارين، بل إنّه تذويب للتيّار الروحاني ودمجه في التيّار العلماني، مع الإبقاء على قشرة الدين ولكن من دون لبّ وأيّ محتوى، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام: «ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً»[3]. كما سنرى ذلك بوضوح لاحقاً.

١ ـ الإصلاح الخارجي (العلمانيّة المفتوحة):

في مقام الإصلاح الخارجي فإنّ مشروع جعيط يبتني على «العلمانيّة المفتوحة» غير معادية للإسلام، بحيث لن تستمد دافعها من شعور لا إسلامي، ويقول: «نحن ندّعي العلمانيّة بمعنى أنّنا نعتقد بضرورة الفصل الجذري بين التشريع الديني والمؤسّسات الاجتماعيّة والقانون والأخلاقيّة الممارسة. لكن هذه العلمانيّة لها حدود حيث نعترف بالعلاقة الجوهريّة بين الدولة وبعض عناصر السلوك الأخلاقي الاجتماعي، وبنية الشخصيّة الجماعيّة والعقيدة الإسلاميّة. ونحن نؤيّد بقاء هذه العقيدة ونؤيّد إصلاحها، لا يجب أن يتمّ الإصلاح على حساب الدين، بل يتمّ في نفس

(280)

الوقت بواسطة الدين وفي الدين ومستقلاً عنه... من منّا لا يدرك أنّ ما هو عقلاني يتابع سيره، ويجب أن يتابعه خارج كلّ سيطرة للعامل الديني وكلّ تبرير بواسطة الديني، وهكذا فليس للعلم والعقلانيّة السياسيّة أن يبحثا عن أسس ممارستهما في القرآن، حتى لو كان القرآن ثريّاً فكريّاً فريداً فيما يخصّ مصير الكون والإنسان»[1].

فالمشروع العملي لهشام جعيط في الإصلاح الخارجي والتجديد هو «العلمانيّة المفتوحة» ويدّعي أنّها لا تعادي الدين.

ولا ندري كيف يمكن فكّ هذا اللغز: «الإصلاح يتمّ في نفس الوقت بواسطة الدين وفي الدين ومستقلّاً عنه»؟! ولا أدري هل يعي جعيط ما يقوله، كيف يمكن وضع المتناقضات جنباً إلى جنب، والادّعاء بالانتصار، وإعطاء وصفة علاجيّة لمعالجة الأزمة. كيف يمكن أن يكون الإصلاح بواسطة الدين وفي نفس الوقت مستقلّاً عنه؟! إنّها رشحات مخيال علماني لا يعي مداليل الكلمات، وقد أضاع الطريق وتاه في وادي الحيرة الهرمنوطيقيّة التي تحمّل الكلمات والمعاني ما لا تتحمّلها، وتدّعي بنفس الوقت العلميّة والموضوعيّة.

ثمّ إذا كان القرآن ثريّاً بمصير الكون والإنسان كما يعترف به جعيط، فلماذا لا يمكن الرجوع إليه في رسم ما هو سياسي أو عقلاني، طالما أنّه يعتمد على الغيب وعلى الخالق الذي خلق الكون والإنسان، وهو الأعلم بمصيره الأخروي ومسيره الدنيوي؟!

(281)

ثمّ إنّ لهذه العلمانيّة معالم تتميّز بها، ويمكن من خلال هذه المعالم تقييم النظريّة ونقدها، ودراسة مدى نجاحها أو إخفاقها، وهذه المعالم هي:

١ ـ ١ ـ قبول قيم الحداثة:

في البدء يرى جعيط «أنّ تيار الحداثة سيل لا يقاوم، فهو في المجرى الحتمي للتاريخ... إنّ الحداثة هي الطور الأخير اليوم لتطوّر الإنسانيّة»[1]. كما أنّها قفزة «جوهريّة في تطوّر البشريّة، وليس كمرحلة من مراحل تاريخ محلّي هو تاريخ أوروبا»[2]. إنّها «تحوّل عميق في تطوّر الإنسانيّة وقفزة ضخمة»[3].

فهذه الحداثة التي أجرت تحوّلات عميقة في الإنسانيّة، لا بدّ من التمسّك بها عند جعيط، بل وبناء تأسيس الوحدة العربيّة عليها، طبعاً إنّه يحاول أن يزاوج بينها وبين التراث والدين، لذا يذهب إلى لزوم كليهما[4].

ويجعل ذلك من باب القضاء المحتوم، إذ يقول: «علينا أن نفصّل حداثتنا في نسيج كياننا؛ إذ نحن مجبرون على ذلك لا محالة، لقد قضي علينا بالتحرّك في دائرة الانتماء العربي الإسلامي»[5].

(282)

وتأكيداً لذلك يتحدث عن: «ضرورة غرس الحداثة في مجتمعنا من دون أن نفقده تقاليده العربيّة الإسلاميّة... نحن نستنكر كلّ عمل مخطّط يهدف إلى إخراج الإسلام من الضمائر، أو إلى رفع الصبغة الإسلاميّة عن المجتمع في مواقعه المركزيّة الناجعة»[1].

ثمّ إنّ جعيط يعترض على من يحاول تبعيض الحداثة لأخذ بعضها وترك البعض الآخر، كما حصل في اليابان حيث أخذوا التكنولوجيا والتقنيّة والتنظيم الرأسمالي للشغل من دون إدخال تغيير كبير على الهياكل الاجتماعيّة أو الذهنيّة، فهذه الحداثة وإن أمكن تطبيقها في العالم العربي، غير أنّ جعيط لم يرتضها، ويقول: «لكنّنا نرفضه؛ لأنّنا نريد الحداثة في مجموعها أي حداثة الإنسان لا حداثة الشيء فقط»[2].

من هذا المنطلق، يجلس جعيط مجلس الإفتاء، ويفتي بوجوب تحمّل الحداثة وتطبيقها، قائلاً: «يجب على المشرّعين تحمّل الحداثة بحيث يستوحون منها؛ لأنّها تعبّر عن التجربة التاريخيّة الحديثة للعقل العملي، وعليهم أيضاً ابتكار هذه الحداثة وإثراؤها باعتبار التجربة التاريخيّة لشعوبهم بالذات، لا أن يمتلكوا امتلاكاً كاذباً لأجزاء فقط وصولاً لأغراض اجتماعيّة نفعيّة»[3].

بل يذهب إلى أكثر من هذا، ويتحدّث عن وجوب «قبولها برحابة صدر

(283)

ضمن الإيحاء الذي يحرّكها، ومزجها بنصيبنا من الماضي حتى نصل إلى بناء الإنسان الذي نطمح إليه»[1].

إنّه يدعو إلى التمسّك بقيم الحداثة التي هي: الحرّيّة، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، أو قيمة الحياة العاديّة اليوميّة للإنسان العادي، «ولا جدال في أنّ قيم الحداثة رفيعة، وأنّ علينا أن نأخذ بها، أي أن نقوم بتحوّلٍ ثقافيٍّ كبيرٍ، ولا نقيم أيّ اعتبار لأصلها الجغرافي بل فقط لوجه الخير فيها... وإذا كانت القيمة الأساسيّة هي الحياة الإنسانيّة واحترامها، فكلّ ما يتعارض معها يفقد كلّ مصداقيّة مهما كانت وجاهته، ويجب علينا حسم الموضوع: فهو شرّ لا أكثر ولا أقلّ وبكلّ بساطة»[2].

وهذا الاهتمام بهذه القيم جاء من كونها بديهيّة الخير عند جعيط، فحتى «لو فرضنا أنّ الغرب مليء بالمساوئ، فهذا لا يمنع من أنّ القيم الإنسانيّة التي ابتدعها الفلاسفة والمفكّرون فيه، واعتباراً من القرن الثامن عشر، لها وجاهة في حدّ ذاتها»[3].

«فهناك بداهة أخلاقيّة وعقليّة في سبيل قيم الحداثة لا مردّ لها مهما كان المصدر»[4].

وبما أنّ قيم الحداثة الغربيّة إنسانيّة وبديهيّة يدركها العقل، فهي كونيّة وعالميّة عابرة الحدود، لذا يعتقد جعيط أنّه «ليست هناك حداثة غربيّة،

(284)

وحداثة إسلاميّة، وأُخرى صينيّة، وأُخرى هنديّة أو أفريقيّة، فهي واحدة في جميع أبعادها، أنْ يجري الكلام على الخصوصيّات لدحض قيم الحداثة، فهذا نفاق كبير وتضليل عظيم». لذا «لا شيء في الحداثة يهدّد الهويّات العرقيّة واللغويّة والدينيّة والثقافيّة، بل على العكس»[1].

ويغلو جعيط في أمر الحداثة ويدعو إلى التبعيّة المحض للحداثة، ويقول: «ولا يمكن أبداً للعرب والمسلمين أن يلجوا باب الحداثة والمشاركة في العالم المعاصر، إلّا إذا كوّنوا لأنفسهم طموحاً عالياً في مجالات الفكر والمعرفة والعلم والفن والأدب، وقرّروا بصفة جدّيّة الأخذ عن الغير، وما أبدعته الحداثة في كلّ هذه الميادين»[2].

ثمّ إنّ جعيط يوقع نفسه في تناقض عميق، حيث كما مرّ يرى أنّ الحداثة تحتوى على قيم إنسانيّة عليا، ولا بدّ من الأخذ بها، وإنّها حداثة واحدة عالميّة كونيّة، وأنّها لا تهدّد الهويّة والدين، لكن بعد كلّ هذا يناقض نفسه تناقضاً فاضحاً، ليقول: «لكن الحداثة في أوروبا أخذت منحى جديداً تماماً، وهو إقصاء الدين جملة من الوجود البشري، من هنا الصراع بين العقلانيّة والتاريخيّة ـ التي تضع الدين في مجرى التاريخ ـ وبين مطلقيّة الدين والمعتقد كحقيقة فوق التاريخ أي كحقيقة لا زمنيّة»[3].

وكما يقول أيضاً: «إنّ الإطار المرجعي للحداثة يقلّص بالضرورة

(285)

المشاعر الدينيّة»[1]. وإنّ الحداثة المادّيّة لو دخلت في بلادنا ستأتي حتماً بمظاهر سلبيّة[2]. وهو يعترف أنّ «الحداثة ارتكزت على نفي الدين بتاتاً في فرنسا، وإخراجه أكثر فأكثر من اللعبة السياسيّة والاجتماعيّة في البلدان الأُخرى»[3].

وأكثر من هذا، فإنّه يعترف أيضاً بأنّ «تراثنا من وجهة الإسلام التاريخي ـ وليس القيمي أو الروحي ـ يتعارض مع قيم الحداثة. فالاستبداد، والمجد الحربي الجهادي، والشريعة كما بناها الفقهاء في أحكام كانت متماشية مع العهود القديمة، كلّ هذا يتعارض مع قيم الحداثة من حرّيّة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة»[4].

إنّ هشام جعيط هو الذي لا بدّ أن يجيب عن حلّ هذا التناقض، ثمّ كيف يحقّ له أن يقسّم الإسلام إلى تاريخي وروحي، وأنّ الأوّل يخالف الحداثة دون الثاني، ومَنْ الذي خوّله بهذا التقسيم، وما هي المقوّمات العقليّة والبرهانيّة له؟! إنّها إفرازات المخيال العلماني الواسع للتخلّص من إلزامات التيّارات الإسلاميّة.

ثمّ إنّه يندّد بالاستبداد في العالم العربي والإسلامي ـ وهو أمر لا نناقشه فيه بل نتفق معه ـ لكنّه لِمَ لَمْ ير الاستبداد الإعلامي والتقني، وغسيل الأدمغة الموجود في الغرب حاليّاً؟! لماذا لم ير استبداد الإمبرياليّة

(286)

وتلاعبها بنفوس الناس لجني أرباح ماليّة على حساب البشريّة؟!

كما أنّه يندّد بمفهوم الحرب والجهاد ـ ونحن أيضاً نستنكر همجيّة الإرهاب الذي يتمّ باسم الإسلام ويطال الأبرياء من الناس ـ لكنّه لماذا لم يندّد بشنّ الغرب عدّة حروب ضدّ العالم الإسلامي والعربي، أو القيام بدعم هذه الدولة الإسلاميّة ضدّ تلك الدولة الإسلاميّة الأُخرى؟! أليست هذه أمور يندى لها الجبين؟!

ثمّ إنّه يصف الأحكام الشرعيّة المبنيّة على الاجتهاد السليم؛ يصفها بشريعة الفقهاء، وكأنّها أحكام منعزلة جاء بها الفقهاء من عند أنفسهم من دون أن يكون لها سند ديني أو نصّ مقدّس، فهكذا تصبح الأحكام الشرعيّة المبنيّة على النصّ المقدّس مخالفة للإنسانيّة، أمّا الأحكام المبنيّة على العرف المادّيّ المخالف للغيب مقدّسّة وموافقة للإنسانيّة!!

وجزافاً، يحاول جعيط أن يصف هذه الأحكام بالصحّة في العهود القديمة وأنّها كانت متماشية آنذاك؛ إذ إنّها لو كانت مخالفة لقيم الحداثة والإنسانيّة، وأنّ قيم الحداثة بديهيّة فطريّة، وأنّها كونيّة عالميّة، فلا فرق بين القديم والجديد، ولا بدّ أن يحكم بأنّها غير صحيحة، وأنّها صناعة الفقهاء من غير تفريق بين الماضي والجديد.

وشيء آخر، إنّ جعيط نفسه يعترف بأنّ بعض القيم العليا لها خصوصيّة أوروبيّة ويصعب الحسم فيها[1]. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا الدعوة إلى تطبيقها في عالمنا العربي والإسلامي؟ ولماذا التفوّه بأنّ الحداثة واحدة ولا توجد حداثات مختلفة؟!

(287)

كما أنّ جعيط يعترف بأنّ هذه الحداثة لم تكتمل بعد وفيها نواقص «فالحداثة الجديدة لم تُنجز بعد كلّ وعودها، بل تبدو الآن محفوفة بالمخاطر والشقاء، وهي بالتالي تركيبة محتاجة دوماً إلى تصحيح مستمرّ»[1].

فكيف ندمجها مع ماضينا، ونتخلّى عن أحكام قطعيّة معتمدة على نصّ قطعي ـ يعترف جعيط بصحّته ـ وهي غير مكتملة بعد، وبحاجة إلى تصحيح مستمرّ؟! كيف نضمن أنّ ما تمّ التعويل عليه من قيمها لم يتغيّر في المستقبل القريب أو البعيد، وقد رأينا أنّ تيار ما بعد الحداثة قد نسف كثيراً من تلك القيم المدعاة. وأنّ تيار ما بعد العلمانيّة يحاول أن يفسح المجال من جديد أمام الدين في الفضاء العامّ.

ثمّ كيف نحكم بكونها بديهيّة «لها وجاهة في حدّ ذاتها» ثمّ نحكم عليها بأنّها ناقصة وغير مكتملة؟! وأكثر من هذا اعترافه بأنّ «الحداثة في كلّ أطوارها وأبعادها لم تكوّن بعد إنسانيّة مستقرّة ومطمئنة، بل هذه الإنسانيّة في غليان مستديم وتعيش في الغرب ذاته العزلة واليأس والفقر»[2].

إنّه حقّاً تناقض عجيب لا يصدر إلّا من مخيال علماني عليل!!

٢ ـ ١ ـ علمنة الشريعة:

يدرك هشام جعيط جيّداً بأنّ التمسّك بالعلمانيّة المفتوحة وقيم الحداثة، لا يتوافق في كثير من الأحيان مع الشريعة الإسلاميّة؛ وذلك «للتضاد

(288)

الأساسي بين فكرة الحقيقة الإلهيّة الأزليّة في القرآن، وضرورة قبول القيم الحديثة التي تفرض علينا التشريع في الميدان الاجتماعي بعيداً وخارج المعطى الديني»[1].

والحلّ الذي يتوصّل إليه جعيط هو علمنة الشريعة، بمعنى «أن يقبل المرء فكرة أنّ القرآن كلام مقدّس، وأنّه شرّع مع ذلك في ظروف تاريخيّة واجتماعيّة معيّنة، وهو ما يبعث في نفس الوقت على رفع كلّ اتهام بالرجعيّة عن القرآن»[2].

إنّه لم يقبل باستخدام الحيل الشرعيّة، أو البحث عن التطابق مع روح الفقه الإسلامي، للوصول إلى تقديم أحد مكاسب الفكر الحديث كالمقصد الحقيقي للشريعة، كما يدعو إلى تجنّب كلّ محاولة تستهدف الرجوع إلى تأكيد ما نصّت عليه الشريعة من حيث المبادئ، وتحويرها على صعيد النتيجة العمليّة لبلوغ غايات التحديث، ويستشهد بمسألة جواز تعدّد الزوجات وتوثيقها بكثير من الشروط بحيث يصعب تحقّقها[3].

إنّ الحلّ الذي يقدّمه جعيط هو التركيز على المبادئ الإنسانويّة والغربيّة، والعمل من أجل أن تكون موجّهة للعمل والأخلاق، وعلى ضوئها يتمّ استنباط أحكام الحدود والديّات والأحوال الشخصيّة.

يقول جعيط بهذا الصدد: «ينبغي على البلدان المتخلّفة اللحاق في ميدان التشريع بالبلدان المتطوّرة، وأن يتوقّف العمل بالتشريع غير الملائم

(289)

القاسي المعروف بإقامة الحدود الذي تخلّى عنه الأمويّون منذ ثلاثة عشر قرناً خلت، وعلى القضاء الجنائي أن يعمل حيثما كان بالمبادئ العالميّة لعصرنا وأن يتأنسن... وأخيراً، وبالخصوص ينبغي أن يركّز الجهد على ميدان قانون الأحوال الشخصيّة الشاسع، والذي ما زال خاضعاً لصبغة عتيقة وتنصيعات قرآنيّة، فينبغي تخليص ما يُعرف بقوانين الميراث، وتشريع الزواج، وحتى التشريع الجنسي من عبء الفقه، وإخضاعه لمقولات العقل العملي»[1].

ومن الطريف بعد هذا، ما يذهب إليه جعيط من أنّ هذا العمل، وإفراغ الشريعة من محتواها والقيام بتشريع جديد بالاعتماد على العقل العرفي والمادّي، أنّه لا يعدّ هذا العمل انعدام الثقة بالكتب المقدّسة أو نقض لاحترامها، بل «إنّ هذه التحرير هو أوّلاً جهد للوضوح والنزاهة الفكريّة، لا رغبة في إخضاع الشريعة لرغائبنا ونزواتنا»[2].

ويضيف جعيط مزيداً من التوضيح، ويقول: «كان لنزعة الإسلام الماضية إلى التدخّل في نسق الكائن البشري ما يبّرره، وهو منطق ديني صارم وطموح مثالي عميق، وبما أنّ هذا العمل التربوي التوحيدي قد تمّ، وحيث إنّ على الطبقة التحتيّة الماورائيّة الدينيّة أيضاً أن تتخلّى عن احتكار الحقيقة على الأقلّ، فإنّ هذا الانفصال ممكن وضروري في آن. وبذا يحافظ التشريع الديني في مثل هذا الأُفق على كامل قيمته الإمكانيّة، لكن في ميدانه الخاصّ. أمّا المجتمع، فإنّه سينمو طبق مقاييسه الخاصّة

(290)

في المرحلة الراهنة من مصيره، لا عملاً برؤية مسبقة لآخرة تكون هي الحياة الحقّ»[1].

ويلاحظ على ما ذكره جعيط هنا ـ مضافاً إلى ما ذكرناه في النقطة السابقة ـ السؤال عن ملاك التشريع، هل ملاك التشريع رغبات الإنسان وآماله وتلبية طموحه المادّيّة! إذا كان الجواب نعم ـ كما يذهب إليه هشام ـ فحينئذٍ لا حاجة إلى أساس التشريع وبعثة الأنبياء، لا قديماً ولا حديثاً، ولا حاجة إلى التظاهر بتقديس الدين وأنّه في زمانه الإمكاني كان مقدّساً وصحيحاً وراقياً، أمّا الآن فمتخلّف وغير راق. إذ كما قلنا: بأنّ الملاك إذا كان هو الإنسان المنقطع عن الغيب، وفسح المجال أمامه ليسنّ الأحكام والقوانين بما تتطلّب مرحلته التي يعيش فيها، فلا حاجة إلى تشريع إلهي وإرسال الرسل.

أمّا إذا كان الملاك غير هذا، والقول بأنّ الأحكام شرّعت من لدن حكيم عليم خالق للإنسان، وعالم بمصالحه ومفاسده العاجلة والآجلة، وإذا قلنا إنّ الحياة الإنسانيّة لا تقتصر على هذه الدنيا، بل للإنسان حياة أُخرى وهي الحياة الدائمة الحقيقيّة، فحينئذٍ لا يمكن فسح المجال للإنسان ـ لا الإنسان القديم ولا الإنسان الجديد ـ أن يقوم بمهمّة التشريع لحياته الكونيّة العاجلة والآجلة؛ إذ هو جاهل بها أساساً، نعم أعطي له الحقّ أن يستخدم عقله، ويسنّ قوانين وضعيّة تخصّ حياته العاديّة، ورسم مناهج العمل وآليّات الوصول إلى النظم الاجتماعي من دون أن تتقاطع مع القوانين العامّة والكلّيّة الشرعيّة.

(291)

إنّ نقطة الخلاف الجوهريّة بين التيّار العلماني والتيّار الإسلامي هي هذه، فهنا خطّان متقاطعان لا يمكن مزجهما معاً، إنّه خطّ مستقيم يوصل كلّ الأمور إلى بارئها وخالقها ويقوم مقام العبوديّة له، وخطّ منحني آخر يُرجع الأمور إلى الهوى والنزعات الإنسانيّة المنقطعة عن الغيب، ولكلّ خطّ لوازمه ومناهجه وأحكامه، أمّا أن يريد جعيط الحفاظ على الدين من جهة، والتمسّك بالمادّيّة الصارخة من جهة ثانية، فإنّه لا يولد مولوداً سويّاً من هذه المزاوجة، ولا تكون النتيجة إلّا تعطيل الدين باسم الحفاظ عليه.

﴿وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [1].

٣ ـ ١ ـ علمنة الأخلاق:

في البدء لا يرى جعيط رجوع الأخلاقية الملموسة إلى الدين فحسب، بل إلى التقاليد والعادات والأفكار المسبقة أيضاً، ولذا يدعو إلى علمنة الأخلاق والتحرّر من وطأة الدين، ويقول:

«لا بدّ من الوصول إلى تحرير الأخلاق الملموسة من وطأة الأخلاق الدينيّة، من حيث ضيقها وتشدّدها، ولأنّها تحدّد تفتّح كلّ رؤية حديثة عقلانيّة للعلائق البشريّة. وضمن مشروع تجديد البناء هذا، ومن أجل توسيع قواعد الحياة الأخلاقيّة وفتحها، من المهمّ أن نمنح مسؤوليّة أكبر للعقل الفردي، وأن نفسح المجال لصوت الضمير الداخلي، وأن نزرع قيماً

(292)

جديدة، وأن نسمح ونشجّع تشعيب وإثراء الحياة الأخلاقيّة الذاتيّة التي يتاح لها بذلك تعاطي البحث الشخصي عن السعادة والخير. إنّ علمنة الأخلاق الملموسة هي بداية علمنة أسسها».

ثمّ يستدرك قائلاً: «ليس المقصود أن نعارض بصورة نسقيّة القيم القديمة... لكن يمكن حصول زرع مناسب لقيم جديدة كان أهملها الإسلام في أطراف الضمير الأخلاقي»[1].

ثمّ يذكر نموذجاً واحداً لشرح وتوضيح أخلاقه العلمانيّة، وهو قضيّة الحبّ؛ حيث يرى أنّ المجتمع انقسم حياله إلى القطاع الدنيوي الذي طمح إلى ازدهار الإنسانيّة، وصعّد الغريزة في طبقاته العليا إلى أسمى تعابيرها، وإلى قطاع ديني اتّجه إلى السيطرة التامّة على النفس وفرض صرامة على الحياة.

ويرى جعيط أنّ «من حسن الحظّ أنّ الإنسان خالف باستمرار الدين، وأنّ الدين بقي -مثلاً- لم يطبق كلّه أبداً، وإلّا لسحقت الحياة»[2].

ومن هذا المنطلق، يمجّد ويمتدح ممارسات الحبّ والغريزة في البلاط الأموي والعبّاسي، حيث يرى أنّ الأوساط المثقّفة كانت تتعاطى كلّ دقائق الشعور واللذّة، وكان الشعراء يغرقون في الخلاعة، وهكذا كانت تسير الروح الفرديّة، ولكن يتأسّف جعيط على ذهاب هذه الروح، ويكيل حقده للجهاز الديني حيث منع تلك الخلاعة والمجون، ويقول: «لكن عصر

(293)

الانحطاط حطّم تحطيماً كاملاً كلّ محيط دنيوي منظّم وعى نفسه، فبسط التزمت الديني على المجتمع رداءً موحّداً من الامتثاليّة والرياء... وقد جهل الإسلام» (الإقليمي البرجوازي المحنط) الحبّ وتلوّناته اللامتناهية وبُعده النبيل»[1].

والأنكى من ذلك يرى أنّ الغيرة عند الرجل من مأسسة الإسلام، وأنّ الإسلام كالمسيحيّة تجاهل العلاقة الغراميّة إلّا من خلال الزواج، وأنّ فكرة الفضيلة ذاتها سلبيّة إلى حدٍّ كبيرٍ، ومبنيّة على قمع الاندفاع الحيوي فينبغي مراجعتها. وأنّ قضيّة الحبّ هذه التي استشهد بها جعيط ليست إلّا مثالاً من بين ألف مثال[2].

وأخيراً: «إنّ علمنة الأخلاقيّة كما نعرضها هنا، تستهدف إثراء العالم البشري بإدخال إمكانيّات أُخرى ضمنه، ومتطلّبات أُخرى دون شكّ، تفرضها فكرة الحرّيّة ذاتها»[3].

ويلاحظ عليه: أوّلاً: إنّنا سواء كنّا من أنصار الحسن والقبح العقلي أو من أنصار الحسن والقبح الشرعي، ففي كلا الحالتين نفترض وجود محاسن ومساوئ بديهيّة يفرضها العقل ويؤيّدها الشرع، أو أنّ الشرع يسنّها رأساً، وهذه المبادئ الأخلاقيّة عامّة كونيّة لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، فالظلم قبيح أين ما كان ومتى ما كان، والعدل حسن أين ما كان ومتى ما كان.

(294)

ثانياً: إنّ جعيط يريد إناطة تشخيص السعادة والخير إلى العقل الفردي والضمير الداخلي، والعقل الفردي والضمير الداخلي عبارة أُخرى عن الهوى وغلبة الآمال والرغبات والنزوات الشهوانيّة، ولم يرد منه العقل العملي الذي يدرك الحسن والقبح، وإذا كان جعيط مرتاحاً بتسليم عنان التشريع الأخلاقي للأهواء الفردية فهذا شأنه، ولكن لا يحقّ له التنظير للمجتمع الإسلامي أجمع أو للأمّة العربيّة، المجتمع الذي يتقوّم بالدين ويعتزّ به ويرى نيل السعادة من خلال تعاليمه.

ثالثاً: إنّ جعيط يخلط خلطاً واضحاً بين المبادئ الأخلاقيّة، وبين بعض الآداب العرفيّة النسبيّة الصادرة من الاعتبارات، فالمبادئ الأخلاقيّة تؤخذ من العقل الفطري الذي أودعه الله تعالى في الإنسان، أو من الشرع المقدّس؛ إذ إنّ سعادة الإنسان مرتبطة بها، فلا يمكن التعويل على أيّ قانون وضعي أو أهواء عرفيّة تتغيّر بين الحين والآخر، أمّا التقاليد والآداب فبعضها يرتبط بالمجتمع والعرف لكلّ بلد، وبعضها الآخر ربّما يحصل من تعليم ذي علم.

رابعاً: إنّ جعيط يبحث عن قيم جديدة أهملها الإسلام، وهذه القيم إن كانت من ضمن الآداب والتقاليد الجزئيّة العرفيّة، فلا ضير بتولّد آداب جديدة بمقتضى متطلّبات العصر، أمّا لو كان يقصد المبادئ فكلامه غير صحيح، كما أنّه لم يكن صادقاً عندما يقول: «ليس المقصود أن نعارض بصورة نسقيّة القيم القديمة»؛ إذ قد عارضها بدعوته إلى العلمنة الأخلاقيّة، وبنائها على أسس الحداثة والعصرنة كما دعا إلى الخلاعة والمجون.

(295)

خامساً: من المؤسف جدّاً أن يتمسّك جعيط بسيرة خلفاء بني أميّة ـ الشجرة الملعونة في القرآن ـ وبالشعراء وبعض المفكّرين في تلك الحقبة الزمنيّة، ومسيرتهم الخلاعيّة وخوضهم في المجون والحبّ المحرّم، ويجعل هذا ملاك الحياة الطيّبة التي لا بدّ من الرجوع إليها، فمتى كان هؤلاء الطغاة نموذجاً للدين أو للخلق الرفيع، كي يستشهد بهم الإنسان؟!

ثمّ يصف القانون الإلهي المانع بصريح العبارة عن علاقات الحبّ خارج الحدود الشرعيّة، بأنّه حطّم تلك الحالات، ويوسمه بالإسلام الإقليمي البرجوازي المحنّط، ثمّ يريد بعد كلّ هذا أن يكون مشروعه إسلاميّاً وعربيّاً.

سادساً: كيف سمحت لجعيط نفسه في الحكم على مبدأ الفضيلة بأنّها مبنيّة على قمع الاندفاع الحيوي؟ فهل الرذيلة هي التي تقوّم الحياة وتبثّ الحيويّة؟!

وكيف يمكن جمع الرذيلة مع مشروع جعيط الذي يريد إثبات واستمراريّة الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة؛ إذ الرذيلة لو وافقت الشخصيّة العربيّة الأمويّة، فإنّها لا تتوافق مع الإسلام وقيمه الفاضلة قطعاً.

٤ ـ ١ ـ علمنة الدولة:

النقطة الأُخرى عند جعيط في علمانيّته المفتوحة، هي علمنة الدولة، ورسم علاقات خاصّة بين الدين والدولة، يقول بصدد شرحها وتوضيحها: «إنّ رأينا هو أنّه يجب أن يبقى الإسلام بمثابة دين للدولة، بمعنى أنّ

(296)

الدولة تعترف به تاريخيّاً وتهبه حمايتها وضمانها. ولأنّ الدولة أساساً هي وعي للتاريخ تجاه قوى النسيان، فليس لها أن تكون علمانيّة بمعنى أنّها لا تهتمّ بمصير الدين، معتبرة إيّاه مسألة خاصّة. إلّا أنّ الدولة إذا قرّرت التلاعب بالدين لغايات سياسيّة، أو إدخال إصلاحات داخليّة عليه من لدنها، فينبغي تجنيبها ذلك؛ لأنّ الدين قضيّة تهمّ الأمّة الإسلاميّة قاطبة، أمّة الأمس واليوم وغداً»[1].

ثمّ يطرح جعيط نظرية محمّد إقبال عندما انتقد العلمانيّة التركيّة الكماليّة حيث جعلت الدولة فوق الدين، بل يرى إقبال أنّ الدولة لا بدّ أن تجسّد الروحي في تنظيم البشريّة، غير أنّ جعيط لم يرتضِ هذا التحليل، ويرى لزوم تحرّر الدولة والمجتمع من ما ورائيّة دينيّة تعتبر وحدها هي الحقيقة، وما يراه جعيط وما يقدّمه لمشروع عملي، هو كالآتي:

«الأولى بنا أن نتّجه إلى الولاء التاريخي مع الشعور الأسمى بالحفاظ على وديعة مقدّسة، لكن من دون الخضوع لها، فيجب على الدولة أن تتطوّر في نطاق عملها العادي داخل دائرة مستقلّة، طبق القوانين المجرّدة للسياسة والمصلحة الاجتماعيّة وخارج كلّ حنين سلفي، كما فعلت دائماً أو يكاد»[2].

ومن مميّزات هذه الدولة الدينيّة الجعيطيّة أنّها تبتني على التعدّدية الدينيّة أو على حدّ تعبير جعيط «التعدّدية الأيديولوجية»؛ إذ انّها تسمح بحرّيّة الضمير فمن أراد الدين فليؤمن، ومن أراد الخروج منه فله ذلك:

(297)

«فليتظاهر عدم الإيمان وليبرز ويؤكّد ذاته، فليس للدولة أن تمنعه بل يجب عليها أن تضمن خلافاً لذلك هذه الإمكانيّة... ولذا، فكلّ إكراه صادر عن الدولة أو الكيان الاجتماعي لفرض الإيمان والممارسة الدينيّة على الفرد يجب أن يماثل بالاغتصاب للضمير، وليس آخر الأمر إلّا تطفيلاً للإنسان الذي يُعتبر قاصراً في خياراته الماورائيّة، وهذا هو إنكار بالذات لمفهوم الإنسان بصفته ذاتيّة مفكّرة حرّة، وخلافاً لذلك، فإنّه يجب مكافحة كلّ إرادة منظّمة واعية مُجبرة من قبل الدولة أو الطوائف المؤثّرة، تريد إخلاء الضمائر من الإسلام وإعاقة الشعائر، والحطّ من قدر الدين»[1].

يلاحظ على ما ذكره جعيط هنا أنّه يريد أن يجمع بين أمرين متناقضين لا يجتمعان: الدين والعلمانيّة؛ إذ الدين يدعو إلى الالتزام وتحديد السلوك، ووضع الأطر العامّة والخاصّة للسلوك الفردي طبقاً لقوانين وضوابط خاصّة، أمّا العلمانيّة فإنّها تدعو إلى التحرّر من تلك القوانين والضوابط الماورائيّة، وسنّ قوانين وضعيّة مادّيّة تدعو إلى تفجير الطاقات نحو الشهوات والميول الدنيويّة، ومحاولة الجمع بينهما يوقع الإنسان في التناقضات.

فمن جهة، يجعل جعيط الإسلام دين الدولة وأنّها لا بدّ أن لا تتخلّى عنه، ولم يسمح لها بالتدخّل في الدين والتلاعب فيه وإدخال إصلاحات داخليّة عليه، ومن جهة ثانية، يدعو إلى تحرّر الدولة من ما ورائيّة الدين، فكيف يمكن الجمع بينهما؟!

(298)

ثمّ إنّ جعيط يمنع الدولة من التلاعب بالدين وإجراء إصلاحات عليه، ومن جهة ثانية، يدعو إلى علمنة التشريع وإجراء إصلاحات عليه والتلاعب فيه، فهل يجوز للفرد التلاعب بالدين ولا يجوز لجهاز الدولة، ما هو معيار الحكم في الجواز لهذا وعدم الجواز لذلك؟!

ثمّ إنّه بعدما يوجب على الدولة الحفاظ على الدين، يدعوها إلى عدم الحفاظ عليه وذلك من خلال فتواه بجواز الارتداد وعدم التدين، فكيف يمكن للدولة أن تحافظ على الدين حينئذٍ؟!

ثمّ إنّ هناك ـ على مستوى الدولة ـ فرق بين الارتداد الشخصي الفردي على مستوى الضمير الخاصّ، وبين الارتداد الذي هو بمعنى الإجهار به، والتظاهر ممّا يعطي معنى التحدّي وسريان الداء إلى باقي أفراد المجتمع من خلال التشهير بالدين، ففي المقام الأوّل، لا تتدخّل الدولة بمتابعة هكذا سلوكات شخصيّة على المستوى الفردي، أمّا على المستوى الثاني، فمن وظائف الدولة الحفاظ على الأمن الفكري والديني، كما الحافظ على الأمن الصحّي والمعيشي وما شاكل.

ثمّ نتساءل عن معنى كلام جعيط «يجب مكافحة كلّ إرادة... تريد إخلاء الضمائر من الإسلام وإعاقة الشعائر والحطّ من قدر الدين»، أليس هو غير ما قلناه من لزوم اهتمام الدولة بالحفاظ على الأمن الفكري والمعرفي والديني، وعدم السماح للحركات المنافية له بالبروز والظهور؟!

ثمّ كيف يمكن فكّ هذا اللغز الجعيطي الداعي إلى الشعور الأسمى: «بالحفاظ على وديعة مقدسّة لكن من دون الخضوع لها»؟! ونحن

(299)

قد استخدمنا جميع القواميس اللغويّة، بل واستعنّا بجميع المناهج الهرمنوطيقيّة الغادامريّة والماخريّة والهايدغريّة، فلم نتمكّن من فكّ لغزها، ولم نهتدِ إلى عمق مغزاها!! عسى أن يأتي جيل آخر ليفسّر لنا معناها.

وأخيراً، لا بدّ أن ينتبه الجميع إلى مسألة عقلائيّة، وهي أنّ لكلّ نظام أو مجموعة تعمل ضمن غطاء معيّن أو اسم خاصّ؛ اقتضاءات خاصّة، مثلاً: إذا أراد شخص أن يعمل مع فريق كرة القدم، فلهذا الأمر اقتضاءات خاصّة، وطريقة وآليّات خاصّة يجب الالتزام بها، فلا يسمح له أن يطبق قوانين ألعاب أُخرى على كرة القدم؛ إذ تنفرط الأمور حينئذٍ.

فكذلك الأمر بالنسبة إلى الدين، فإنّ له اقتضاءات خاصّة على المستوى الفردي والجمعي وعلى مستوى الدولة أيضاً، فلا يمكن تطبيق قوانين منظومة أُخرى على المنظومة الدينيّة ثمّ الاحتفاظ بنفس الاسم؛ إذ حينئذٍ ستتغيّر اللعبة. وعليه، فلا يمكن إخلاء المجتمع من الدين وعلمنة الشريعة والأخلاق والدولة، ثمّ محاولة جمع الدين والدولة وإطلاق الدولة الدينية على الدولة العلمانيّة، كما يحاول هشام جعيط لذلك.

٢ ـ الإصلاح الداخلي (تاريخية الدين):

بعد أن انتهى جعيط من الإصلاح الخارجي للوصول إلى التجديد، والدخول في الحداثة مع محاولة الالتزام بالدين الإسلامي كركيزة أساسيّة في الشخصيّة العربيّة، وبعد أن رأى أنّ المفهوم الديني السائد، وأنّ الإسلام الذي يلتزم به أغلب الناس وينادي بتطبيقه التيّارات الإسلاميّة، لا ينسجم مع مشروعه ومع الخطاب العلماني، كان لزاماً عليه القيام بإعطاء معنى

(300)

آخر للدين كي ينسجم مع مخطّطه ومشروعه التجديدي.

من هذا المنطلق، دعا إلى الإصلاح الداخلي أو «التجديد من الداخل» ليتمّ من خلاله تحوير المعنى وإلباس الدين لباساً آخر، ويسمّيه: «تجديد الرؤية في الإيمان» ويقول: «وسنقتصر فيما يخصّنا على هذه الدائرة شبه الفلسفيّة التي تمدّد الإيمان وتعيد تأويله وتأسيسه، بل وتبتعد عنه أحياناً، وهذا ما نسميه: تجديد الرؤية في الإيمان»[1].

١ ـ ٢ ـ تاريخيّة الدين:

إنّ ما يطرحه جعيط هو تاريخيّة الدين، ويشير إلى اللبس الموجود في الدين «إنّه في آنٍ نتاج التاريخ ووعي للمطلق مستمرّ وحاضر»[2].

ويبدأ هذا الأمر عند جعيط «بقرار الرسول الدخول في مغامرة رهيبة لا غير»، ثمّ يقول: «لكن صفة التاريخيّة في الدين سلاح ذو حدّين ومعطى مزدوج، إنّ فترة الإرساء عظيمة؛ لأنّه وجب قلب البنى القائمة، لكنّها كانت قريبة جداً من الواقع، فليس من اليسير إكساؤها هالة فوق طبيعيّة... فباستثناء مدّة الهبوط التي تلت الانطلاقة، إنّها تتنامى بمرّ القرون، في نفس الوقت الذي تبدأ المبادئ الدينيّة تطابق الواقع الاجتماعي... عندئذٍ يبدو الدين متمكّناً إلى الأبد في حين تقوم مطابقات باطنيّة بين الذهنيّة والمؤسّسات وحتى اللغة والدين»[3].

(301)

ويضيف قائلاً بعد سرد الأديان، وتسلسلها التاريخي وصولاً إلى الإسلام ووفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: «ولعلّ الطقوس لم تنضبط نهائيّاً عند وفاة الرسول، وقد عاش القرنان المواليان نموّ الجسم العقائدي الأوّلي مدعوماً باجتهاد كبير في خلق الأحاديث، ولو أنّ الأحاديث لم تختلق جميعاً»[1].

إنّ الوحي عند جعيط كان الشكل المعبّر عن الروح الدينيّة لذلك العصر، ذلك الذي به كان ينفهم في الإنسان وفي العالم البشري الواقعي حدس الحقيقة واللانهائيّة، ولذا فإنّ تاريخيّة الدين مزدوجة المعنى غامضة: «فهي تجذّر الدين في الواقع بحيث تجعل منه معطى ثريّاً بالذكريات والمشاعر والوفاء من جهة، ومن جهة أُخرى، فإنّ مخالطة الدين للإنسانيّة القديمة تضعه في مواجهة مع الفكر والحساسيّة الحديثين، وتكشف عن صبغته الأسطوريّة وتناقضاته»[2].

ومع هذا، فإنّه يعترف بأنّ الاقتصار على تاريخيّة الدين لدراسة الإسلام أمر خطر؛ إذ يمكن الحكم عليه من طرف التاريخ يوماً ما، ولذا فإنّ «الطريقة التاريخيّة الصرف المستخدمة كوسيلة للبحث الحيادي في دراسة الإسلام، قد تصل حتى إلى هدم الإيمان حيث تفرّز ضمنيّاً التاريخانيّة»[3].

ويلاحظ على ما ذكره جعيط، أمور:

١ـ إنّ مسألة تاريخيّة الدين أصبحت من المسائل المشتركة في الخطاب

(302)

العلماني؛ إذ إنّ هذا الخطاب عندما يصطدم بالدين، فإمّا أن ينكره أساساً ويدخل في ساحة الإلحاد، وإمّا أن يحاول أن يحافظ على قشر الدين ويغيّر لبّه ويفرغه عن محتواه، والمنهج الذي يضطلع بهذه المهمّة هو المنهج التاريخي.

وذلك أنّ «التاريخيّة نزعة فكريّة تضفي النسبيّة والزمنيّة على الحقيقة، وتربطها بتاريخها وزمنها، رافضة أن تكون للحقائق ـ كلّ الحقائق ـ أيّة عموميّة أو ديمومة أو إطلاق أو خلود... معمّمة هذا الحكم على كلّ ألوان الحقائق بما فيها الحقائق الدينيّة، بل وخاصّة الحقائق الدينيّة بما في ذلك العقائد والقيم والأخلاق...»[1].

٢ ـ يهدف التوظيف الحداثي للتاريخية إلى عدّة أمور:

ألف: التركيز على التاريخ الوقائعي أمام التاريخ المتعالي ذي الطابع الغيبي الذي يقوم على القراءة الإيمانيّة للأحداث والوقائع التي عرفها الإسلام التأسيسي.

ب ـ التركيز على ديناميكيّة المتغيّرات، وتكريس التطوّر المستمرّ بدل الثبات، من خلال النظرة المادّيّة والوضعيّة للدين.

ج ـ تجلية الوعي الأسطوري، حيث يرى أنّ النصّ المقدّس يُحكم عليه بأنّه أسطوري، وأنّ التاريخية هي التي تحرّر النصّ من الأسطورة وتعيده إلى نصابه من الواقع[2].

(303)

٣ ـ بما أنّ جعيط يعترف مسبقاً بوحيانيّة القرآن، فاعترافه هذا لا يتناسب مع تشكيكه بالروايات الفقهيّة والتشريعيّة ورميها بأنّها صنيعة القرون التالية، إذ القرآن لا محالة يحتوي على أحكام تشريعيّة، ومن المفترض والطبيعي أن يأتي المسلمون للسؤال عن ماهيّة هذه الأحكام وكيفيّة العمل بها وتطبيقها، هذا ما يفرضه واقع الحال، فأين ذهبت يا ترى هذه التساؤلات الفقهية؟ نعم، نحن لا ننكر الدس والتزوير في الروايات، ولذا أنشأ العلماء علم الرجال والدراية للوصول إلى الخبر الصحيح.

٤ ـ نحن أيضاً نشاطر الرأي مع هشام جعيط، بأنّ الدين يصطدم مع بعض قيم الحداثة ومبادئها، لكنّنا نتساءل إلى أيّ وجهة لا بدّ أن يتّجه المسلم عند حدوث هذا التصادم؟

هل يتخلّى عن مبادئ الدين لصالح مبادئ الحداثة أو العكس؟! من الطبيعي أنّ المسلم لا يتخلّى عن مبادئه الإيمانيّة مهما كلّفه الأمر، أسوة بالصحابة والتابعين الذين تمسّكوا بقيم الدين، ورفضوا قيم المجتمع المخالفة له، بل بذلوا أنفسهم نصرة له.

٥ ـ من الطريف أنّ هشام جعيط يتمسّك بالتاريخيّة، رغم اعترافه بأنّها ربّما تنقلب على الدين وتكون وسيلة لهدمه، فكيف يبني هشام جعيط مشروعه على هكذا أساس وهو يريد بنفس الوقت أن يكون مشروعاً إسلاميًّا؟![1].

(304)

٢ ـ ٢ ـ الإنسان العربي المسلم:

العنصر الثاني الذي ذكره جعيط للدخول العملي في الإصلاح والتجديد الداخلي، هو «الدعوة إلى ظهور إنسان عربي جديد أعيدت هيكلته جذريّاً» وبعبارة أُخرى «عقلنة الفرد»[1].

ويستعير من محمد إقبال طريقين لتوجيه البشر إلى الرقي:

١ ـ العمل من خلال التنظيم.

٢ ـ العمل في الضمائر الفرديّة. وعليه، يدخل جعيط نفس المدخل للقيام بعقلنة الفرد؛ إذ يرى أنّ باتحاد العمل الفردي والتنظيم يمكن للمعجزات أن تظهر[2].

كما أنّ جعيط يرى وجود «ضغط اجتماعي كبير على الفرد، ونقص في نضج الأنا، وضعف في المدارك العقليّة والمنطقيّة»[3]. ويرى من جهة ثانية «أنّ اللاعقلانيّة والاندفاعيّة والعجز الفكري ما زال كلّ ذلك موجوداً في شخصيّتنا، وكلّها عناصر ضعف يجب البحث عن سببها في أنفسنا، وفي ضآلة تجربتنا التاريخيّة، وفي بعض التصوّرات الخاطئة للقيم، وفي هشاشة التربية، والأمر العاجل أن نعي ذلك ونحاول معالجته»[4].

لذا، يقترح النقد الذاتي الحقيقي، وهو: «يقوم على أساس من الصدق

(305)

والمودّة، ويشمل بنظرته جملة العناصر، ويفكّك ويجزّئ، لكن بشرط إعادة التركيب والسير قدماً»[1].

هذا كلّه بالنسبة للعمل في ضمائر الفرد، أمّا العمل التنظيمي، فيطرح مصطلح «الشخصيّة الأساسيّة» بالاعتماد على ما ذكره «كاردينار» وكذلك يستفيد من نظرية فرويد الثلاثيّة المتركّبة من «هذا، أنا، أنا الأعلى» ليدرس الشخصيّة التونسيّة أوّلاً، ثمّ يعمّمها على الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة.

الشخصيّة الأساسيّة ترتبط بمؤسّسات أوّليّة حيث الانضباطات التربويّة الأساسيّة، والدوافع الاقتصاديّة، والاتجاه العامّ لنشاط المجموعة، وهذه المؤسّسات الأوّليّة تفرز مؤسّسات ثانويّة، مثل: التقنيّات السحريّة والأنساق الدينيّة[2].

فبعد أن يدرس هذه الشخصيّة على مستوى المؤسّسات الأوّليّة والثانويّة، يرى أنّها قابلة للانطباق على الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة مع بعض الخلافات الجزئيّة غير المؤثّرة، وبعد هذا يرى «أنّ تحرير بادرة الفرد، وإعادة الاعتبار إلى الشخص عنصر رئيسي في مشروع إصلاح الإنسان العربي المسلم»[3].

كما أنّ إصلاح الإنسان العربي عند جعيط «لا يعني أن نرمي إلى إعادة الإنسان العربي التاريخي، أو الدعوة إلى تحويله إلى التصوّر الغربي، بل نقصد من وراء ذلك أن نرجع إليه أصالته... كائن متشبّع بالماضي،

(306)

ومتّجه لا محالة بكلّ قواه إلى التحقّق في الكونيّة الإنسانيّة»[1].

وفضاء هذه الكونيّة الإنسانيّة، هو «انتقاء بعض القيم الإنسانية القديمة، مع الدخول في الحداثة وقبولها برحابة صدر، ضمن الإيحاء الذي يحرّكها، ومزجها بنصيبنا من الماضي حتى نصل إلى بناء الإنسان الذي نطمح إليه»[2].

ويلاحظ عليه بعد موافقتنا على ما يقوله من لزوم توجيه البشر إلى الرقيّ من خلال العمل الفردي والتنظيمي معاً، لكن نرى أنّ الأولويّة هي للعمل في الضمير الفردي؛ إذ المجتمع صنيعة الفرد وهو أفراد مجتمعين، فإذا تمكّنّا من إصلاح الضمير الفردي، سنصل إلى إصلاح المجتمع أيضاً، مع قطع النظر عمّا طرح من أصالة المجتمع أو عدم أصالته.

ثمّ مع قطع النظر عن هذا، فإنّ الأمور التي يذكرها جعيط كمؤاخذات على الإنسان العربي المسلم من لا عقلانية وتخلّف والعجز الفكري وغيرها، فنحن نوافقه عليها ونعتقد بتلك الأزمات أيضاً، غير أنّنا نختلف معه في الوصفة العلاجيّة، فدواء اللاعقلانيّة هو التعقّل، لكن لا نقصد التعقّل المادّي المعتمد على المناهج الغربيّة الوضعيّة، فإنّنا حينئذٍ لا نخرج من التخلّف والتبعيّة، بل نقع في تخلّف وتبعيّة أُخرى، ربّما تكون أشدّ وطئاً علينا، حيث لا نحرز الدين ولا الدنيا، إذ نبقى ـ كما يعتقد جعيط أيضاً ـ متخلّفين في الوصول إلى دنيا الغرب مهما عدونا خلفهم، هذا من

(307)

جهة، ونفقد ديننا من جهة ثانية، ونكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿خَسِرَ الدُّنْيا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [1].

ومن هنا، نختلف أيضاً مع جعيط في تحليله للشخصيّة الأساسيّة، حيث إنّها تعتمد على البعد المادّي للإنسان فقط، وتنظر إلى الدين كحاجة ثانويّة ربّما يكون لها بعض الأثر الإيجابي على حياة الفرد الخاصّة، لذا يُصنّف الدين عندهم ضمن المؤسّسات الثانويّة، ويوضع إلى جنب التقنيّات السحريّة.

وأخيراً، إنّ الكونيّة الإنسانيّة التي يدعو جعيط الإنسان العربي المسلم للالتحاق بها، ليست إلّا كونيّة علمانيّة بامتياز، تعتمد على المادّيّة والوضعيّة، ولا تأخذ من التراث المادّي إلّا بمقدار ما لا يصطدم مع مبادئها وقيمها، والباقي لا بدّ من تحنيطه ووضعه في المتاحف؛ لأنّه أصبح سلعة متحفيّة كانت صالحة في زمانها، ولا بدّ من دراستها تحت المجهر ومن خلال الأدوات التحليليّة والتاريخيّة والاركيولوجيّة لمجرّد الاطلاع عليها فحسب، من دون أن تكون نافعة في عصرنا الحاضر.

٣ ـ ٢ ـ تنظيم المجتمع والدولة:

العنصر الثالث المهمّ في عمليّة بناء الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، هو تنظيم الدولة والمجتمع، وهنا يطرح جعيط مسألة التخلّف والتنمية، فمن جهة يحسّ الضمير العالمي بمسألة التخلّف والبؤس، وإذا لم تكن هناك

(308)

عتبة أُخرى سيكون البؤس لا يطاق، من هنا تُطرح مسألة التنمية لتصبح خياراً أخلاقيّاً وسياسيّاً [1].

لذا، يدعو إلى إصلاحات جذريّة، وتحوّل عميق ينتشر كآلاف الثورات المقبلة، الثورة السياسيّة من أجل الديمقراطيّة، الثورة الاقتصاديّة من أجل التصنيع، الثورة الاجتماعيّة من أجل العدالة في العلاقات البشريّة[2].

ومن الأمور الإصلاحية التي يقترحها: إصلاح الزراعة التي هي شرط ضروري لكلّ تنمية اقتصاديّة، وتستتبع تغييرات مترابطة في نظام الأرض، وعلى الصعيد التقني والنفساني والبشري.

وكذلك تحسين المردود والتقنيّات، والوصول إلى الرقي التكنولوجي، مضافاً إلى لزوم الاهتمام بالتعليم؛ حيث إنّ بنية التعليم أداة حاسمة في مشروع التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة[3]. وبناء محرّك المجتمع على العلم والثقافة[4].

إنّ الخيار الذي يقترحه جعيط للوصول إلى التحوّل الجذري للعالم العربي مستقبلاً، هو حصول توازن صعب لكنّه صارم بين دولة مستقلّة إبداعيّة في الاقتصاد، وبرجوازيّة لا تقلّ عنها استقلالاً وإبداعيّة، بدون أن يستولي أو يخضع أحد الطرفين على الطرف الآخر، ويقول:

(309)

«ما نقترحه من تصوّر هو كما يلي: على الدولة أن ترسي قواعد القوّة الاقتصاديّة، وتبني البنية التحتيّة للتصنيع، وعلى البرجوازيّة أن تتكفّل بالحياة المعاشيّة. فللدولة وحدها القدرة على النهوض بالتصنيع الأساسي، وتحريك المشاريع التجهيزيّة الكبرى، والاستمرار في بذل مجهود يُشرف على المنشآت التي ظهرت خلال العشرين سنة الأخيرة؛ وذلك لما تملكه من قدرة تنظيميّة متّسعة. وللبرجوازيّة الحديثة والتقليديّة والطبقات المتوسّطة والبرجوازيّات الصغيرة المختلفة المؤطّرة والمحرّكة للجهد الشعبي، أن تتقاسم القطاع الزراعي وقطاع الصناعات الاستهلاكيّة والتحويليّة، والمجال الشاسع لما ستخلفه الابتكارات الجديدة»[1].

وأخيراً، إنّ مصيرنا الذي هو آخر تجسيد للشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، لا يمكن أن يشيّد إلّا على مشروع تنمية وحداثة[2].

ونحن -أيضاً- نوافق جعيط في حاجة العالم الإسلامي إلى نهضة تنمويّة شاملة سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، غير أنّنا نختلف معه في آليّات تحقّق هذه التنمية سيّما فيما يخصّ الدين والأخلاق، فلا يمكننا بناء التنمية في العالم الإسلامي، على أسس ومباني بات الغرب ينتقدها ويحاول التخلّص منها من خلال نظريّات الما بعد: ما بعد الحداثة، ما بعد العلمانيّة، ما بعد الاستعمار و... إذاً، التنمية مطلوبة لكن على أساس رصين وعماد قوي لا على بيت العنكبوت.

(310)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

هشام جعيط والغرب

(311)
(312)

الفصل الخامس: هشام جعيط والغرب

يمتاز هشام جعيط بمعرفته الواسعة عن الغرب، ويعود ذلك أوّلاً إلى مطالعته الكثيرة لما أنتجه علماء الغرب ومفكّروهم، وثانياً هجرته إلى فرنسا واطلاعه على مجريات الأمور عن كثب، حيث يقول عن تلك الفترة: «وهناك وسّعت من آفاقي في المعرفة والاهتمامات... وقد واكبت التقدّم الذي أحرزه العلم في التاريخ وعلم الاجتماع والتحليل النفسي»[1].

هناك سؤال محوري يواجه دارسي الغرب، وهو تعريف الغرب وتبيين حدوده، وهنا يرى جعيط أنّ التعريف البديهي غير كاف لحصر مفهوم الغرب؛ إذ الجغرافيا عاجزة عن استقصاء مفهوم أوروبا، لذا نراه يلجأ إلى التاريخ، ويقول: «أوروبا تولّدت عن زحوف الجرمان، ثمّ عن التحام الغالبين والمغلوبين، فبرزت شعوب متباينة مكتسبة لملامح خاصّة، وتأكّدت ذاتيّتها بتجربة تاريخيّة بطيئة. على أنّ هذا التميّز وقع ضمن وحدة دينيّة فحضاريّة؛ إذ تطوّرت... إلى مجموعة حضاريّة ابتداء من القرن السادس عشر بفعل هبات متعدّدة حركتها من الأعماق: نهضة ثقافيّة، فإصلاح ديني، فحركة التنوير، فثورة سياسيّة، فثورة تقنيّة... مفهوم أوروبا إذن لم يلتصق بشعب من الشعوب، ولا بدين ولا بلغة، وإنّما إنجاز حضاري وثقافي تبلور في فترتها الأخيرة»[2].

(313)

وهذه الفتوحات والإنجازات سبّبت ولادة مفهوم المركزيّة الغربيّة وهي نظرة أيديولوجيّة بحتة، حيث ترسم خطّاً تطوّريّاً للإنسانيّة عبر التاريخ، يبدأ من اليونان فالرومان وينتهي في أوروبا: «وهذه النظرة بأشكالها المتنوّعة، ما زالت مسيطرة على أغلب أفق الضمير الغربي، فقد تشتط عند المستعمر والعنصري، وتضعف إلى حدّ ما لدى الشاعر والكاتب والفنّان، وهي تأخذ شكلاً ساذجاً لدى رجل الشارع، وشكلاً معقّداً عند المفكّر، لكنّها مهيمنة على الكلّ»[1].

إنّ أوروبا اليوم قد امتدت خارج مساحتها، ومغامرتها «المنحصرة في قرونها الأربعة من الإبداع كانت حاسمة ونموذجيّة لكلّ الإنسانيّة الحاضرة والقادمة... إنّ إنجازات أوروبا قد تخطّت باتساعها كلّ ما أنتجته الحضارات القديمة»[2].

علماً بأنّ الغرب الحديث يعتمد على عصر الأنوار؛ إذ يُعتبر كمرجع أساسي له، وهو الذي أدّى إلى علمنة السياسة والحضارة[3].

هذه الحضارة عند جعيط أدّت إلى البؤس الإنساني في الغرب، جرّاء التصنيع، والتفرّد، وتضخّم المدن، وتصحّر الريف، وقلب القيم[4]. ممّا كشف عن تفتّت الثقافة الغربيّة، وتجزّؤ حضارتها[5].

(314)

لذا، فنحن «واعون أشدّ الوعي بأنّ عجلة التاريخ قد تحوّلت، وأنّنا على عتبة مولد عالم جديد تحطّمت فيه تماماً الهيمنة الأوروبيّة في شتّى ميادينها»[1].

ومن هذا المنطلق، يطرح جعيط ضرورة إحداث حوار أوروبي عربي لتجاوز المرحلة الراهنة والتطلّع نحو المستقبل.

وهشام جعيط نفسه حاول أن يؤسّس لهذا الحوار، بأن يضع لبناته الأولى من خلال تناوله لثنائيّة إسلام غرب، وكذلك متابعة نشاط الغرب في بعده الاستشراقي العلمي. وعليه، نحاول متابعة مواقفه في هذا الفصل ضمن مبحثين:

المبحث الأوّل: الإسلام والغرب.

المبحث الثاني: الاستشراق.

ومع قطع النظر عن التنظير الذي يقوم به مؤرّخنا التونسي، والنقد الذي يوجّهه للغرب عموماً، يبقى مشروعه الإصلاحي الذي يقدّمه للأمّة العربيّة مشروعاً غربيّاً بامتياز، من حيث دعوته إلى العلمانيّة المفتوحة الشاملة، ومن حيث استخدامه المناهج الغربيّة في فهم الإسلام وأسسه المعرفيّة والثقافيّة وتحليلها. وأخيراً، من حيث اللَّهْث المستمرّ خلف الحداثة الغربيّة وقيمها.

(315)

المبحث الأوّل: الإسلام والغرب

إنّ هشام جعيط يُرجع علاقة الإسلام والغرب إلى جذورها الأولى، أي المسيحيّة الشرقيّة المستسلمة والمتعايشة مع الإسلام في وطن واحد، والمؤلّف لا يهتمّ كثيراً بردود فعل هذه المسيحيّة؛ إذ إنّها غير معروفة تقريباً[1]، مضافاً إلى أنّ «المسيحيّة الشرقيّة قد فقدت التعبير والقوّة السياسيَّيْن، فإنّ تطور موقفها تجاه الإسلام يفقد كلّ أهمّيّة ضمن تحليل قائم على المواجهة بين الحضارات»[2].

أمّا الغرب المسيحي فإنّه أصيب بجسده ونفسه بين القرنين الثامن والعاشر بآخر امتداد الفتوحات، والإصابة هذه كانت على هامش الجسم الغربي لا صميمه أي على إسبانيا وجنوب إيطاليا والغال الغربي.

علماً بأنّ الغرب «في الفترة الأولى لم يكن بإمكانه إلّا أن يقارن هذه الحملات المتواصلة لدولة منظّمة وإمبراطوريّة، بتلك الغزوات البرابريّة والفوضويّة التي كان هدفاً لها»[3].

فهذا العدوان العربي ـ عندهم ـ صاغ الوعي الغربي القروسطي تجاه الإسلام، ومن هنا صاغ مفهوم «العداوة» مع العالم الإسلامي.

ثمّ إنّ جعيط يفصل بين الوعي الشعبي والوعي النخبوي، فالوعي الشعبي يتغذّى من الحروب الصليبيّة وينتشر على مستوى الخيال، أمّا

(316)

الوعي النخبوي؛ فإنّه يتغذّى من المواجهة الإسلاميّة ـ المسيحيّة في إسبانيا، وينتشر على المستوى العقلاني[1].

إنّ الصورة المتكوّنة لدى الغرب المنهزم أمام الإسلام المنتصر والفاتح آنذاك كانت تدور حول محورين: المحور الأوّل: تصوير الإسلام كشذوذ جنسي من خلال إباحة تعدّد الزوجات، ومن خلال تصوير الملذّات في الجنّة، والمحور الثاني: تصوير الإسلام كقوّة عدوانيّة وعنيفة قسّمت العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، هذه الصورة دخلت الوعي واللاوعي الغربي وصاغته طيلة قرون، ليتساءل جعيط عن إمكانية محو هذه الصورة، ويقول: «إنّ الأحكام القروسطيّة المسبقة قد أدخلت في اللاوعي الجماعي للغرب في مستوى عميق، يسمح لنا بالتساؤل بجزع إن كان بإمكانها أن تخرج منه»[2].

وهنا، يفتح جعيط فصلاً لدراسة أوروبا الحديثة وصورتها عن الإسلام، ويرى أنّ في القرن السادس عشر وبزوغ طلائع التنوير وانحسار المسيحيّة عن النفوذ السياسي والأيديولوجي «فإنّ الإسلام لا يعود مُعتبراً العدو اللدود أو الرئيس»[3].

مضافاً إلى أنّ أوروبا نفسها قد مرّت بمراحل عدّة: أوروبا عصر النهضة والإصلاح، أوروبا الأنوار، أوروبا الإمبرياليّة ما بعد ١٨٦٠م، كما أنّ في داخل أوروبا تتشكّل عدّة زوايا للرؤية: الزاوية السياسيّة، الزاوية الدينيّة،

(317)

زاوية التاجر، زاوية المثقّف الحر، زاوية المستعمر المقيم[1].

ثمّ إنّ النظرة المسيحيّة في القرنين السادس عشر والسابع عشر بقيت على عدائها للإسلام، غير أنّ النظرة العلمانيّة بعد أن تحرّرت من الضغط المسيحي «انفتحت نظرة جديدة للكون، هذه النظرة الجديدة تمكّنت من رؤية الإسلام بعمق، كجزء متمّم وهامّ من الحياة الإنسانيّة... لقد حصل إثراء وتنويع للنظرة الفكريّة إلى الإسلام وإلى الشرق والنفس المسلمة، وأصبحت أكثر مباشرة وهدوءاً»[2].

وهكذا «فإنّ القرن الثامن عشر الأوروبي كان في كلّيّته وفي نواته المركزيّة مخترقاً بهمّ تفهّم الإسلام»[3].

ثمّ إنّ جعيط يأخذ نموذجين من أوروبا، ليواكب مسيرته في رؤية أوروبا للإسلام، فيأخذ نموذج فرنسا وألمانيا.

أمّا فرنسا، فإنّها وإن كانت بعيدة عن تمثيل كلّ الغرب «لكن من بين الغرب كافّة، تمثّل فرنسا البلد الذي أقام أكثر العلاقات مع الإسلام المتوسّطي، ونتيجة لذلك كان البلد الذي واجه الإسلام بحدّة أكبر، إنّ الحروب الصليبيّة كانت أساساً من صنع الفروسيّة الفرنسيّة، والاستعمار الفرنسي على عكس الاستعمار الإنكليزي، كان استعمار كبت عنيف وفظّ»[4].

(318)

وبخصوص فرنسا فانّه يأخذ نماذج من مفكّرين ومثقّفين ورومانطيقيين، ويدرس انطباعهم عن الإسلام حيث يتراوح بين الموقف المعادي البغيض والموقف المتفاعل والمتفائل، ليكون «الموقف اليوم أكثر هدوءاً وجدّيّة»[1].

أمّا ألمانيا والإسلام، فيرى جعيط أنّ ألمانيا كانت مشتّتة، ولم يكن لها تواصل مع الإسلام مثل فرنسا وإنكلترا وإيطاليا وإسبانيا، ولم تدخل في سلك الاستعمار للدول الإسلاميّة؛ لأنّها كانت منهمكة في تنظيم قواها الداخليّة.

«فألمانيا لم تهاجم الإسلام في الماضي، ولم تستعمر أراضي عربيّة أو إسلاميّة، وكانت عدوّة أعدائها، وأخيراً كانت حليفة تركيا التي كانت تمثّل لأسباب عديدة، شيئاً ما بالنسبة للوعي العربي الإسلامي»[2].

وألمانيا قد اكتشفت الإسلام بعد حكم بسمارك، كما أنّ العالم العربي اهتمّ بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فأصبحت الشعوب تهوى انتصار ألمانيا، بينما كان موقف الساسة ضبابيّاً. كما أنّ الألمان قد أظهروا استعداداً لفهم الإسلام وتقديره تبلور في الاستشراق الألماني، و«الحقيقة أنّ الألمان بحكم بعدهم عن الإسلام، ولكونهم غير مصارعين ولا منافسين له على أرضه، قد احترموه، وحصل أنّ بعضاً منهم قد اعتنقه في حركة انتساب فرديّة»[3].

(319)

ثمّ إنّ هشام جعيط يسلّط الضوء على انطباع كلٍّ من هيغل وشبنغلر عن الإسلام، حيث إنّ هيغل رغم اهتمامه بالشرق، غير أنّه لم يخصّص للإسلام إلّا بضع صفحات: «إسلام مفصول عن الشرق، ومحصور في الشريحة القروسطيّة كجسم غريب، كازدهار باهر أجهض، وبكلمة: كتيّار ثانوي على هامش تيّار التاريخ العالمي.

وعلى العكس، يعتبر شبنغلر الإسلام ظاهرة مركزيّة لتاريخ شرقي، منظوراً إليه من زاوية مختلفة. أخيراً، هناك فرق ثالث: ففي حين ينفي هيغل عمليّاً كلّ حضارة عدا الحضارة الأوروبيّة من مسار الفكر، يبتعد شبنغلر عن مركزيّة الذات الأوروبيّة معيداً تاريخ الغرب إلى النِسَب الطبيعية لتاريخ ثقافة كبيرة من بين ثقافات أُخرى»[1].

بعد هذه المقارنة السريعة بين أوروبا والإسلام، يرى جعيط من جهة «أنّ الإسلام لا يمكنه مضاهاة الغرب في قدرته التكنولوجيّة، وفي علمه وقوّته. ولن نقول حينئذٍ: ليتخلّ الإسلام عن السباق، بل نقول: لا يضيّعنّ نفسه فيه، ليحفظ ويحرث ويصقل حصّته الكبيرة ممّا هو إنساني»[2].

ومن جهة ثانية، يرى أنّه «لا يوجد اليوم جدال بين أوروبا والإسلام. لكنّ هناك نقاشاً بين كلّ أوروبي مع ذاته ومع العالم، وبين كلّ مسلم مع ذاته ومع أوروبيّته هو»[3]. وكذلك «إنّ الإشكاليّة القديمة إسلام غرب قد

(320)

ولّى عهدها؛ لأنّه لم يعد هناك إسلام موحّد، ولأنّ الغرب أصبح مزيجاً مركبّاً»[1].

ومن خلال هذين الموقفين، يأتي بوصفة علاجيّة، يقول فيها: «يمكن للمثقّفين ذوي الأصل الإسلامي، أن يتوجّهوا مع كلّ التعاطف الذي يريدونه، نحو الحضارة الغربيّة لا ليسلبوها سرّها، بل ليفهموها من الداخل، ليسألوها عن هويّتها بقلب ملتزم وبعيد في آن»[2].

إنّ ما يدعو إليه جعيط ضبابي يشكو من خلل منهجي، ويوقع المفكّر الإسلامي في أحضان الغرب جملة وتفصيلاً، فهو تارة يدعو ويقول: لا يضيّعنّ المسلم نفسه في السباق مع الغرب، وتارة ثانية: يدعو إلى التوجّه بكلّ تعاطف لفهم الغرب، فإذا تركنا السباق وعدنا نتعاطف مع الغرب لفهمه، لا يولد من هذه المزاوجة سوى مولود أشقر هجين لا هو غربي ولا هو شرقي، بل متغربن لا يجد إلى الهدى سبيلاً.

والحقّ ـ خلافاً لما يذهب إليه جعيط ـ فإنّ ثنائيّة إسلام ـ غرب، ما زالت حيويّة، وما زال الاستعمار الخفي سارياً في الوطن الإسلامي من خلال الرؤساء التابعين للغرب، ومن خلال التضليل الإعلامي.

نعم، نحن أيضاً من دعاة تفهّم الغرب، والاستفادة من آخر ما توصّل إليه العقل البشري من دون فرق بين الرقعة الجغرافيّة، غير أنّ ذلك لا بدّ أن لا يكون على حساب الاستلاب أو التغريب، بل من خلال الاقتباس،

(321)

والمشاركة، والتفكيك وإعادة التركيب؛ لأنّ العلم لا ينحصر في جهة أو طبقة خاصّة، إنّه إرث بشري وتراكمي يشترك الجميع في صوغه، وتأخَّر بعض الدول في اللحوق بالركب الصناعي العالمي، ليس لقصور فيهم، بل ناتج من أسباب عدّة، أهمّها الانحصاريّة الموجودة في الروح الغربيّة الناتجة من المادّيّة المفرطة حيت تريد أن تبقى هي المستثمرة الوحيدة والآخر يبقى المستهلك.

التغريب:

وفي خضمّ علاقة أوروبا والإسلام، لا يفوت هشام جعيط أن يشير إلى حالة سلبيّة دخلت العالم الإسلامي جرّاء هذا الاحتكاك الثقافي السياسي الاجتماعي والاقتصادي، وهي مسألة التغريب، حيث أشار في عدّة أماكن إلى عمليّة التغريب التي قام بها كلٌّ من بورقيبة في تونس، ورضا شاه في إيران، وأتاتورك في تركيا لنفي الدين والالتحاق بالغرب، ويقول مندّداً لهم: «وقد خاب ظنّ من اعتقد من التحديثيّين في القرن العشرين سواء كانوا قادة دول ـ مصطفى كمال، رضا شاه، عبد الناصر، بورقيبة ـ أو مفكّرين، أنّه يمكن التخلّص من الإسلام بشطبة قلم»[1].

كما يقول: «إنّ المثقّفين ذوي النمط الحديث قد طلّقوا الإسلام عمليّاً، ليتبنّوا إمّا ماركسيّة وإمّا أيديولوجيّة محدثة، وكلتيهما غربنة ثقافيّة»[2].

علماً بأنّ عمليّة التغريب هذه لم تقتصر على نفي الدين، بل تعدّت إلى

(322)

التأثيرات السياسيّة والاجتماعيّة التي أحدثها التنوير الغربي، يقول هشام جعيط بهذا الصدد:

«ينبغي الاعتراف بوجود تيّار قوي أقلّوي يستقي أفكاره ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ من ايديولوجيا التنوير، من الطهطاوي إلى طه حسين مروراً بفرح أنطون، ومن شبلي الشميل إلى قاسم أمين، إلى كلّ الذين نظّروا إلى الدين والسياسة والمجتمع نظرة تحديثية علمانيّة عقلانيّة، ويعتبرون أبناء فلسفة التنوير. كما أنّ كلّ المصلحين السياسيّين في القرن التاسع عشر الذين انتقدوا الطغيان في تركيا وتونس والشرق العربي، يمكن وينبغي اعتبارهم ممثّلين للتنوير على الأقلّ في حدود نقدهم السياسي»[1].

ومن هنا، أصبح الضمير الثقافي العربي خاضعاً للغرب على حدّ تعبير جعيط، إذ يقول: «وليس الضمير الثقافي العربي مجدباً وحسب، بل إنّه مفكّك وخاضع خضوعاً عميقاً للحضور المباشر أو غير المباشر للغرب»[2].

وبلغ التغريب مرحلة مدهشة؛ إذ نرى وجود أوروبا في كلّ مكان «أليس لكلّ مدينة من المدن غير الأوروبيّة صنوّها الأوروبي؟ أليس لكلّ مدينة لغتها بالإضافة إلى اللغة الأوروبية»[3].

خلاصة الأمر: إنّ «التغرّب أصبح بمثابة الأيديولوجيّة الجديدة للشعوب

(323)

الإسلاميّة، إمّا في مظهره الماركسي أو في مظهره الليبرالي، ولقد أصبح ظاهرة اجتماعيّة تُعاش على نطاق واسع»[1].

إنّ التغريب إذا كان بمعنى «تقليد الغرب في كلّ شيء أو اقتباس المظهر»[2] فهذا مرفوض عند جعيط، بل الذي يدعو إليه هو تغريب أعمق، إنّه تغريب العمق والباطن، بمعنى أن يعيد الإنسان العربي ابتكار الأنا وابتكار الحياة من خلال استبطان المكاسب الإنسانيّة الحديثة، والتحقّق في الكونيّة الإنسانيّة[3]. وذلك من خلال العلمانيّة المفتوحة التي يقترحها وقد بحثناها في فصل التجديد.

ويلاحظ عليه: إنّ مشروع جعيط مشروع تغريبي بامتياز، ولا يختلف عن باقي المشاريع التغريبيّة، من خلال استخدام الأدوات الغربيّة ومناهجها في كتبه وبحوثه، ومن خلال تبنّي قيم الحداثة والدعوة إلى العلمانيّة المفتوحة والتعدّدية الأيديولوجيّة.

وإذا كان ثمّة ما يُستشمّ منه نقد للتغريب، فهو لبقاء مشروعه الفكري ونظريّته الإصلاحيّة متماسكاً؛ إذ إنّه يعتمد في مشروعه على المزاوجة بين العروبة والإسلام، على استمراريّة الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، بينما التغريب يسبّب قطيعة بين الحال والماضي ويسلب الإنسان هويّته العروبيّة ودينه الإسلامي المستمرّ والمتّحد مع العروبة.

وفي الحقيقة، هذا تناقض في مشروع جعيط؛ إذ إنّه لا يمكنه التمسّك

(324)

بالاستمراريّة وبناء المشروع الإصلاحي والتجديدي على العروبة والإسلام، مع دعوته للتمسّك من جهة ثانية بقيم الحداثة والدخول في الكونيّة الإنسانيّة المعاصرة والحديثة التي اعترف بنفسه أنّها لا تتوافق مع الدين والقيم الدينيّة. فإنّه إمّا أن يدع المجاملات ويتغربن ويدخل في صف الذين انتقدهم، وإمّا أن يترك الحداثة والعلمانيّة وقيم الغرب ويدخل في الصف الإسلامي. أمّا هذا الخلط والتخبّط والتناقض فغير مقبول.

إنّ التنّبؤ الذي نقله جعيط من ريتشارد بولييه، بقوله: «إذا ساهم المفكّرون الحديثون في إغراق الإسلام في اغترابه، فإنّنا سنشهد دون شكّ في غضون جيلين أو ثلاثة عودة إلى تمسّك الإسلام بقواه الأكثر عمقاً»[1]. كان يقتضي منه أن يبني مشروعه الإصلاحي والتجديدي على حاقّ الإسلام، لا أن يحاول التلاعب بالدين وأحكامه الخالدة لصالح قيم الحداثة النسبيّة، والكونيّة الإنسانيّة التي صاغها المخيال العلماني، تلك القيم التي باعترافه هو أصبحت اليوم منبوذة من قبل الغرب نفسه[2].

(325)

المبحث الثاني: الاستشراق

عندما نراجع فهرس مصادر ومراجع كتب هشام جعيط، نقف على قائمة كبيرة من أسماء كتب وباحثين مستشرقين، قد اعتمد عليهم هشام جعيط في دراساته سواء تحليلاً ونقداً أو تأثّراً واقتباساً، فللاستشراق أثر مميّز في دراسات هشام جعيط، والملفت للنظر أنّه لم يقع أسيراً لكلّ ما تفوّه به المستشرقون، بل حاول أن يقتبس تارة ويناقش تارة أُخرى.

يقول جعيط في مقدّمة كتابه عن السيرة: «جاهدين في تجاوز بعض تناقضات المستشرقين طوراً، وفي الاستفادة من بعض نتائج أبحاثهم تارة. ففي هذا الميدان (أي دراسة السيرة النبويّة) الذي شحّت فيه المصادر عن إعطائنا المادّة الكافية، أو أنّها ابتعدت في الزمان عن فترة النبوّة، لا تلتزم دائماً أعمال المستشرقين بالانسجام المنطقي، فإمّا أن تنفي قيمة خبر ما، وإمّا أن تمنحه الثقة الكاملة، فإمّا الخيال المجحف من دون قاعدة، وإمّا الدخول في القصص والترّهات»[1].

ويقول أيضاً: «نحن لم نعتمد فقط على المصادر الأساسيّة، بل وأيضاً على المراجع الحديثة وأغلبها استشراقيّة المأتى»[2].

كما لا يفوته أن يصفعهم بأنّهم «لم يفهموا حقّاً القرآن، ولهم أفكار مسبقة، ونقص في المعرفة التاريخيّة العامّة لتلك الفترة من تاريخ الشرق... كلّ ما

(326)

كتب وإن كان يسعف المعرفة؛ ضعيف في دراستهم لحياة الرسول»[1]. كما يصف بأنّ أغلبهم «لا يفهمون شيئاً من القرآن والإسلام»[2].

وكذلك يصف الاستشراق الأكاديمي، بقوله: «إنّ نظرة الاستشراق الأكاديمي، كانت بدون شكّ نظرة ظالمة ضاربة بعروقها في التقليد الأوروبي المسيحي القديم، والأفكار المسبقة على الإسلام وحول الإسلام ما زالت قائمة الذات بل تغلغلت في عقول نخبة مسلمة تلقّت دروسها الغرب»[3].

وبكلمةٍ فاصلةٍ محوريةٍ: «إنّ في الاستشراق أيضاً انحياز وتحقير للإسلام من دون أيّ شكّ»[4]. طبعاً، هذا رغم إشادته بأعمال نولدكه وغولدزيهر وماسينيون.

وفي كلام آخر: «فأنت ترى -مثلاً- الكتب الكثيرة التي تصدر باللغة الفرنسيّة... هي مفعمة بالعدميّة والسطحيّة... فهي موجّهة لجمهور معيّن أو مؤدلجة في هذا الاتجاه أو ذاك، أو تلبية لرغبة الحكومات في خلق مراكز للسيطرة على هذه البلدان»[5].

هشام جعيط وإن لم يكن بصدد تورخة الاستشراق والبحث في جذوره، غير أنّه يجعل النصف الثاني من القرن التاسع عشر فترة تكوّن الاستشراق

(327)

المعرفي، إذ يقول: «أمّا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فنجد استتباب العلم في ميادين الفيلولوجيا واللغات والتاريخ. عندئذٍ تكوّن الاستشراق كقسم من أقسام المعرفة، فلم يعد رؤى فلاسفة وكتّاب وفنانين. أقول المعرفة عامّة؛ لأنّهم بحثوا في تاريخ الغرب ذاته، واليونان والرومان واليهوديّة والمسيحيّة، وهي أسسهم الحضاريّة والذاتيّة، وبصفة ثانويّة في الصين والهند والإسلام. أوروبا عندئذٍ كانت متعطشة إلى العلم إلى درجة كبيرة، وبما أنّ المناهج قد استقرّت، فقد ولجوا كلّ باب من أبواب المعرفة»[1].

كما أنّه يرى في مكان آخر أنّ الاستشراق كان «من إفرازات الشعور البروميثي الأوروبي، وتعبيراً عن وعي أوروبا بأنّها جمّعت في حلبتها كلّ ماضي الإنسانيّة في الفنّ والأدب والعلم: من هنا الاهتمام بالفنّ البدائي، ومن هنا الاستشراق الفنّي والأدبي كتغذية للشعور»[2].

والاستشراق هذا عند جعيط، رغم اهتمام العالم الإسلامي به سلباً أو إيجاباً، فهو لم يمثّل لبّ الثقافة الغربيّة، ويُعدّ جزءاً فرعيّاً من النظرة الغربيّة إلى الإسلام[3].

وهناك نقد آخر يوجّهه جعيط للاستشراق الكلاسيكي، حيث يرى مركزيّة الغرب، ويقول: «لقد استخدم هذا الاستشراق المسيحيّة والعلمنة المعاصرة، كلّاً بدورها لاتهام الإسلام اعتباطاً، إمّا بنقص في الروحانيّة وإمّا بالجمود الثيوقراطي. لذلك، فإنّ المستشرق الكلاسيكي هو الأكثر

(328)

غربيّة، وكأنّ تلك الصلة المطوّلة مع ثقافة أُخرى، تعيد له وعيه الحاد بتميّزه الذي يؤكّد عليه خوفاً من فقدانه أو ذوبانه... ففي حين أنّ المثقّف الناقد يشكّ في مجتمعه، والاتنولوجي يحاول الهروب منه أحياناً، فإنّ المستشرق يؤكّد على نموذجيّة مصير أوروبا، وهكذا يُحصر الإسلام في عمليّة مواجهة حضاريّة مع الغرب، ويسير تاريخ الإسلام لا وفق ديناميكيّة الخاصّة، بل كانعكاس شاحب ومعكوس لتاريخ الغرب»[1].

كما لا يفوت جعيط أن يقسّم الاستشراق إلى الاستشراق المهووس بالخواف الإسلامي، والمعادي له منذ نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشري، وإلى الاستشراق الموالي للإسلام منذ النصف الثاني للقرن العشرين، ويرى أنّ هذين القسمين ينتميان إلى لحظتين من الوعي الغربي الهامشي: «في الحالة الأولى يشعّ إيمان شبه مطلق بقيم الغرب، بالإنسانويّة والمسيحيّة والعقلانيّة، وفي الحالة الثانية يتواجد الشكّ، لا بل الامتعاض أمام ما يمكن اعتباره كفساد وانعدام الروحانيّة في الغرب، وهكذا يتعارض المستشرق الكلاسيكي والمستشرق المعاصر في درجة انتمائهما لعصرهما، ليتلاقيا بشكل أفضل في الانتماء الداخلي إلى المجموعة نفسها من القيم، المهانة هنا والمنتصرة هناك»[2].

ومع هذا، فإنّ جعيط يشيد بجهود المستشرقين في تحقيق التراث العربي والإسلامي ونشره، مع اعترافه بأنّ هدفهم لم يكن خدمة الإسلام والعرب وإعطاءهم حقّهم من المجد التاريخي بل «فعلوا ما فعلوا لأنّ تحقيق النصوص هو قاعدة العمل العلمي... وهذا ما يفسّر أنّهم ينشرون

(329)

أعمالاً جادّة، ويسخّرون حياتهم للقيام بوظيفتهم». ولكن مع هذا، فإنّ الإسلام ديناً وحضارة وثقافة، ما زال محتاجاً إلى جهودهم وأبحاثهم المدقّقة[1].

إنّ هشام جعيط يُعدّ من الذين يرون انحسار الاستشراق اليوم وعدم وجوده، وأنّه تحوّل إلى جهد علمي بحت حاله حال سائر الموضوعات والدراسات العلميّة العالميّة؛ لأنّ الاستشراق مرتبط بضعف العالم الإسلامي وعجزه عن معرفة ذاته، أمّا اليوم فقد تغيّر المناخ وتعّرف المسلمون والعرب على المناهج، لذا يقول بهذا الصدد:

«دون شكّ أنّ معنى النشاط الاستشراقي قد تغيّر. ولقد قلّص طموحاته الشاملة لينحسر نحو دائرة علميّة بحتة... منذ اليوم سيذوب «علم الشرق» في مختلف العلوم الإنسانيّة التي تكوّنه بانتظار أن يسيطر العرب المسلمون شيئاً فشيئاً على المناهج الحديثة في البحث، فيفقد تقريباً كلّ سبب للوجود، عدا كونه حلقة صغيرة في سلسلة المعرفة العالميّة»[2].

وأنّ ما يكتبونه حول الإسلام يدخل ضمن «الرابطة العلميّة العالميّة، وهم لا يكتبون خصّيصاً للمسلمين أو لأبناء جلدتهم، وإنّما للوسط العلمي الدولي»[3].

كما أنّه لا يفوته أن يستعلي ليذهب إلى موت الاستشراق، ليقول:

(330)

«وبخصوص الاستشراق اعتقد أنّه مات بموت رجاله أو أغلبهم...»[1].

ويوعز موت الاستشراق إلى:

١ـ إنّ الغرب أو أوروبا لم يعد العنصر الوحيد المهيمن على الكرة الأرضيّة، ولم تعد للغربيّين مستعمرات يطلّون عليها من فوق ويدرسونها ويشرحونها؛ إذ هناك علاقة وطيدة بين الاستشراق والاستعمار القديم، وبعد الاستقلالات تمادى هذا التيّار الاستشراقي لكنّه بدأ يضعف.

٢ ـ تعلّق اهتمام الرأي العام سواء من غير المتعلّمين أو المثقّفين في الغرب وفي عالمنا العربي بالحاضر، بقطع النظر عن كلّ ما هو ماض[2].

والحق أنّ الاستشراق لم يمت، بل ما زال حيّاً وناشطاً غير أنّه ربّما تبدلّت الآليّات والطرق، وكثرت الدراسات الموضوعيّة، وما نراه اليوم من كثرة المعاهد والأقسام المهتمّة بدراسة الإسلام في أميركا والغرب شاهد على حيوية الموضوع، نعم إنّهم لا يطلقون على أعمالهم «دراسات استشراقيّة» بل يصفونها بالدراسات الإسلاميّة أو العربيّة أو غيرها لما في الأولى من حمولات سلبيّة.

كما أنّ ما نشهده اليوم ظهور المؤسّسات ومراكز الفكر والدراسات السياسيّة الكثيرة التي تهتمّ بالشأن السياسي في الإسلام، وهذا ما نسمّيه بالاستشراق السياسي، أي المهتمّ بالشأن السياسي الإسلامي المعاصر، وما يدور من صراعات وخلافات في العالم الإسلامي والعربي.

(331)

وهذا الفرع إذ كان سابقاً ضمن الأروقة الاستخباراتيّة المغلّفة، قد ظهر اليوم للعلن، وأصبح باستطاعة الجميع متابعة نشاطهم من خلال الفضاء الافتراضي، ومن خلال المواقع الإلكترونيّة الكثيرة لهذه المراكز التي تُعدّ بالمئات.

وإذا كان الاستشراق القديم آلة بيد الاستعمار والإمبرياليّة، فالاستشراق المعاصر اليوم لم يختلف عنه أيضاً بكلا شقّيه الثقافي والسياسي، والمستشرق وإن كان موضوعيّاً وحياديّاً غير أنّه سوف يستغلّ لا محالة من قبل الأروقة الاستخباراتيّة شاء أم أبى، عرف ذلك أم لم يعرفه؛ إذ الصراع الغربي الإسلامي ما زال قائماً، وروح الاستعلاء والعداء الغربيّة ما زالت موجودة، ولكن ظهرت بلباس آخر، بلباس السُمّ في العسل.

وختاماً لهذا الفصل، ولهذه الرحلة في أعمال هشام جعيط، نورد فيما يلي أهمّ المستشرقين الذين تناولهم جعيط بالبحث والتحليل والنقد في مجموعة كتبه وآثاره.

وليعلم أنّ هشام جعيط وإن لم يقع أسيراً بيد ما أفرزه الاستشراق تماماً، فظهرت منه مناقشات معهم، غير أنّ نقده لهم لم يكن جذريّاً، بل بقي على مستوى بعض التحليلات والاستنتاجات؛ لذا نراه خاضعاً لجذور الاستشراق وحاضنته، أي الغرب.

وذلك أنّ الاستشراق جزء من كلّ، إنّه لم يكن مستقلًّا بل وليد بيئة، ويستقي من منهل الغرب وما أنتجه من علوم ومعارف ومناهج، فنقد الاستشراق «لا بدّ أن يبدأ بالأُسس التي خلقت تصوّراً معيّناً للطبيعة والليبراليّة والعلمانيّة والإنسانويّة العلمانيّة، والتمركزيّة الإنسانيّة، والرأسماليّة، والدولة الحديثة،

(332)

ولأُمور أُخرى كثيرة طوّرتها الحداثة كمفاهيم مركزيّة في مشروعها»[1].

١ ـ باتريشيا كرون (١٩٤٥ ـ ٢٠١٥):

ينتقد هشام جعيط في الأعم الأغلب أعمال المستشرقة الدنماركيّة باتريشيا كرون كثيراً، وقد قال عنها وعن كتابها المعروف «الهاجرية»: «قامت بتفلسف زائف حول الشرق القديم ومجيء الإسلام في كتابها هاغاريسم، وليس هذا من العلم في شيء، ولا من الفكر المتّزن العميق، بل هو من ضرب العلم القصصي أو الخيالي بمعنى «فيكسيون»»[2].

وممّا ذهبت إليه كرون أنّ مكّة تقع في فلسطين من خلال تفسير خطئ لآية قرآنيّة، وهنا يعترض عليها وعلى مايكل كوك الذي استقى فكرته منها بأنّه «ينمّ عن عدم فهم للمعجم القرآني، زيادة على كون هذا محض خيال لا يتماشى مع مجرى التاريخ»[3].

كما يردّ ادعاءها بوجود مصادر أجنبيّة معاصرة للإسلام تتحدّث عن مكّة، ويرى على عكسها بأنّ كلّ ما هو موجود عن مكّة إنّما هو مصادر عربيّة وإسلاميّة[4].

وكذلك، يعترض عليها في إرجاع نسب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وسط

(333)

الجزيرة العربيّة، لنفي انتسابه إلى قريش[1]. وكذلك فيما ذهبت إليه من كون أقصى محطّة في اليمن هي نجران، وأقصى أُخرى في الشمال هي غزّة، عندما رسمت خارطة التجارة العربيّة قبيل الدعوة النبويّة[2].

وأخيراً، فإن كتابات كرون «تظهر عمى عميقاً إزاء خصوصيّة الحركة الدينيّة النبويّة، وتبقى كلّها منغلقة في إشكاليّات موروثة عن العصر الغربي الوسيط أو القرون الحديثة الأولى...»[3].

طبعاً، موقفه السلبي هذا لا يعني رفضها ورفض ما كتبته بتاتاً، بل يذهب إلى تأييدها ومتابعتها في موردين: في نفيها لإعطاء الريادة التجاريّة الجاهليّة لأبناء عبد مناف[4]. وفي أنّ ظهور الدعوة النبويّة لم يكن بسبب وجود أزمة اجتماعيّة أو دينيّة أو نفسيّة تفسّر ظهورها كما يذهب إليه واط[5].

وممّا يلاحظ عليها وعلى زميلها كوك مضافاً إلى ما ذكره جعيط، أنّهما يريدان الاعتماد على مصادر غير إسلاميّة تعود لتلك الفترة؛ لأنّ المصادر الإسلاميّة تعود إلى فترة متأخّرة عن الحدث، لذا لا يمكن الاعتماد عليها، والحال أنّ نفس الإشكال يرد عليهما أيضاً؛ إذ قد اعتمدا على مصادر: «تعود إلى فترة بعد الفتوحات، ممّا يجعلها مندرجة ضمن الأدب السجالي الديني الذي دار بين رجال الدين من مسيحيّين ويهود إثر انتشار الإسلام، وهو ما يدعونا إلى توخّي الحذر في التعامل معها؛ لأنّها تتعامل مع الحدث

(334)

الديني الإسلامي تعامل المغزوّ الذي يجب أن يدافع عن وجوده»[1]. فهي إذاً لم تكن أكثر موثوقيّة من المصادر الإسلاميّة.

 ٢ ـ مايكل كوك (١٩٤٠ ـ...):

لم يرد ذكر لمايكل كوك المستشرق البريطاني في كتب جعيط إلّا مرّة واحدة يذكر كتابه «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يصفه بأنّه «مقبول وحذر سوى خرافته عن مكّة، وأنّها كانت موجودة في فلسطين، اعتماداً على تفسير خاطئ لآية قرآنيّة ينمّ عن عدم فهم المعجم القرآني، زيادة على كون هذا محض خيال لا يتماشى مع مجرى التاريخ، وهذه فكرة استقاها من باتريشيا كرون، وهي لا تمثّل سوى عدم الشعور بالمسؤوليّة العلميّة»[2].

ومع قطع النظر عمّا ذكره جعيط، فإنّ معاثر كوك لا تنحصر فيما ذكره، بل قد يرد عليه ما أورده على كرون أيضاً، مضافاً إلى أنّه قد اعتبر الساميّة العربيّة ساميّة لقيطة وغير أصيلة، بما أنّ أم إسماعيل ليست إلّا أمة مصريّة سوداء، فهو يدخل في عنصريّة عرقيّة من المفترض أن قد تجاوزها الغرب الحديث، لكنّنا نراه يغوص فيها.

كما أنّ كوك قد شكّك في توحيديّة إسماعيل، وجعل وراثة الجذور الإبراهيميّة من إسحاق وذريته فحسب، مضافاً إلى اتهام الإسلام بالعنف والهمجيّة[3].

(335)

٣ ـ مونتغمري واط(١٩٠٩ ـ ٢٠٠٦):

يمتدح جعيط ما كتبه المستشرق البريطاني مونتغمري واط عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويصفه بالكثافة والغنى وخضوعه لمنطق معيّن[1].

وأنّه أكثر عمقاً ودقّة بالقياس إلى غيره من المستشرقين ممّن كتبوا عن السيرة، ولا يأخذ عليه إلّا نزعته الاقتصاديّة وعدم اطلاعه على الأبحاث اللاحقة[2].

هناك أمور يعترض فيها جعيط على واط ولم يؤيّده، منها: قضيّة زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب، حيث يعترض على كتّاب السيرة في المصادر الإسلاميّة، وكذلك المستشرقين، من أمثال: واط، حيث جعلوا «المسألة مسألة عشق طارئ في غلاف خرافة سوقيّة... والحال أنّ الرسول كان يعرف زينب من قديم؛ لأنّها ابنة عمّته ومن المؤمنات القليلات، وهو الذي زوّجها من متبنّاه زيد بن حارثة. فلماذا لم يتزوّجها هو إذا كان أعجبه حسنها... كما أنّ هذه الواقعة أيضاً لها سبب مهمّ غاية الأهمّيّة، وهو رفع أيّة أبوّة عن النبي لأيّ رجل من رجال المؤمنين...»[3].

ومنها: أنّ واط يذهب إلى عزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتأسيس دولة في المدينة، ويخالفه جعيط ويرى أنّ هذا «لم يكن وارداً لديه على الإطلاق...؛ لأنّ هذا المفهوم يتضمّن الطاعة الكاملة لأوامره تحت طائلة العنف الإكراهي،

(336)

العنف القانوني خصوصاً في حالة الحرب، ولم تكن تلك هي الحال، بل لعلّها أبعد ما تكون عن ذلك»[1].

ومنها: أنّ واط يرى وجود تمرّد للقبائل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد معركة أحد وهزيمة المسلمين، غير أنّ جعيط لم يرتض هذا، ويقول: «بكلّ بساطة لم يكن هناك تمرّد، ولم يكن هناك أيّ سبب للتمّرد، هناك حدثان ضخّمتهما السيرة... يتعلّق الأمر بالرجيع وبئر معونة»[2].

ومنها: أنّ واط تبعاً لابن إسحاق ذهب إلى أنّ قبيلة هوازن هي التي هاجمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقصّدت العمل ضدّه، ولكن يعترض جعيط على ابن إسحاق ويصفه بأنّه لم يفهم منطق الأحداث، بل يرى جعيط أنّ الذي هاجم هوازن بخطّة مسبقة هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، لتصفية التحالف القبلي الكبير بين هوازن أوّلاً، والعثور على الغنائم لتطميع جيشه ثانياً؛ لأنّه كان ينوي دخول مكّة واستسلامها من دون حرب، «في هذه الحالة لن تكون هناك غنائم تُعرض على الجماعات البدويّة التي جلبها معه، وبالتالي كان يجب أن تكون ثمّة غنائم في مكان آخر، لقد كان إخضاع هوزان والطائف مبرمجاً مسبقاً»[3].

كما يناقش واط في سبب توجّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو الشمال في غزوة تبوك، وأنّها لم تكن لأسباب استراتيجيّة كما زعمها واط، بل يرى جعيط أنّها كانت عمل واستعراض عسكري خالص، وعمل نفسي محض لتكوين

(337)

جيش قارّ على أهبّة الحرب باستمرار، وتعبئة المؤمنين ليكونوا جاهزين للجهاد دوماً[1].

ثمّ إنّ هشام جعيط يؤيّد واط في نفيه لصحّة انتساب القصيدة المطوّلة التي أنشدها أبو طالب عليه‌السلام نصرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يشكو فيها ما يقاسيه من قومه من ضغط ومن عدم تضامن من عبد مناف معه، ويقصد عبد شمس ونوفل بقوله: «أخوينا من أبينا وأمّنا»، بل يراها جعيط من صنع الخيال بلا شكّ[2].

كما يؤيّد واط في عدم وجود هجرتين، بل إنّها هجرة واحدة[3]، وكذلك يؤيّده في أنّ من الحروب بين القبائل أيّام الجاهلية كانت لأجل الاستحواذ على الأراضي والحاجة إلى التوسّع[4].

وبخصوص صحيفة المدينة المنعقدة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويهود المدينة يشيد جعيط بتحليل واط لها ويجعله جيّداً مميّزاً في مجمله، وإن لم يؤيّده تماماً[5].

كما ينقل عن واط انطباعاً خاطئاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويؤيّده، إذ يقول: «يتحدّث مونتغمري واط عن تسلّطيّة ما من جانب النبي، وعن نزوع بيّن عنده إلى إسكات كلّ شكل من أشكال المعارضة. هذا صحيح لو نظرنا للأمور من زاوية سياسيّة» وكشاهد مثال يأتي على ادّعاء قمع اليهود إخراجاً من المدينة أو إعداماً بشكل منتظم بعد كلّ حدث حربي، حيث بهذه الطريقة تمكّن من تأمين طاعة العرب، ورصّ صفوف الأمّة وتعزيز سلطته.

(338)

ثمّ بعد هذا يذهب به خياله العلماني شططاً ليتهمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخروج على القرآن، ليقول: «فقد تراءى له أنّ الكلام المنزل غير كاف وحده لتحقيق المشروع الكبير الذي يحمله، وأنّه لا بدّ من المثابرة على تحقيق بعض الأفكار، ومن إبداء درجة معيّنة من الشدة والغلظة، وهذا ما يمتاز به السياسي الكبير»[1].

وخلاصة الأمر: إذا رمنا تقييم عمل واط حول السيرة النبويّة، رغم كونها أقلّ هجوماً على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمكننا القول بأنّه «وقع في هفوات وأخطاء، وهذا ناتج عن عدم استيعابه الكامل للموروث الإسلامي، وآراء المذاهب الفقهيّة والكلاميّة»[2].

وشأنه في ذلك شأن سائر المستشرقين الذين يعتمدون على مناهج مادّيّة بحتة لا تقيم للغيب وزناً، فلذا تراهم يقعون في هفوات، أو يتمسّكون بليت ولعلّ وربّما.

٤ ـ آرثر جفري (١٨٩٢ ـ ١٩٥٩):

يعرّج هشام جعيط على المستشرق الأسترالي آرثر جفري، في معرض حديثه عن مصحف عثمان، ووجود مصاحف أُخرى إلى جنبه، من قبيل: مصحف أبي، عبدالله بن مسعود وغيرهما، كما ورد عند الطبري، ثمّ يندّد بهذه المقولة وبتلك المصاحف بأنّها لا قيمة لها أمام النصّ العثماني، وما يذكره الطبري مزيّف في أغلبه إن لم يكن في كلّيّته.

(339)

ومن هنا يعرّج على جفري ومشروعه في الطعن في القرآن، ويقول: «فكلّ ما سجّله جيفري من بدائل مأخوذة عن المصاحف الضائعة عبر الطبري وغيره في الكلمات والآيات، لا يصمد أبداً أمام الفحص، ولا يمكن الاعتماد عليه، وهو بعد شيء طفيف يستبعده ويرفضه دائماً مرجعه الطبري بعد ذكره، وهي كلّها تركيب من الخيال، وإن بقي شيء منها فهو تافه، ولا أعتقد أنّه بقي شيء ما»[1].

إنّ ما يصبو إليه جفري من خلال أعماله القرآنيّة هو البحث عن «تاريخ تطوّر النصّ القرآني»[2]، وعمله هذا امتداد لأعمال غيره من علماء الغرب العلمانيّين في القراءة النقديّة للكتب المقدّسة، بغية إفقادها القدسيّة والجنبة الإلهيّة، غير أنّ هذا المنهج إن صدق على تلك الكتب، فهو لا يصدق على القرآن؛ لاختلاف طبيعة حفظه وتداوله عن تلك الكتب التي طالها التحريف ولم تدوّن زمن الأنبياء.

ثمّ إنّ المحدّثين القدامى الذين دوّنوا هذه الفروقات في كتبهم، فهم أوّلاً -كما ذكر جعيط- لا يصدّقونها بل يناقشون فحواها، ثمّ مع هذا فلا ضير على المحدّث في روايته لهذه الروايات؛ إذ إنّ مهمّته جمع وتبويب الروايات بحسب ما تتوفّر لديه وما أجازه بها شيخه، وكثير منهم لم يكن بصدد النقد والتمحيص، وبعضهم دخل هذا المضمار ولو إجمالاً، فذكر وزن الحديث من حيث الصحّة والضعف، وإذا أراد المؤرّخ الموضوعي تقديم دراسة شاملة كان لزاماً عليه الإحاطة بجميع هذا التراث، لا أن يعتمد على عمل انتقائي لتقديم صورة مبتورة.

(340)

ثمّ إنّه على فرض التسليم بصحّة بعض تلك الروايات، فإنّها تكشف عن اجتهاد صاحبها والقائل بها، فعدم احتساب ابن مسعود للمعوذتين ضمن النصّ القرآني، لا يعني ما يريده جفري وغيره من الطاعنين من وجود دسّ أو تزوير أو تحريف أو أيّ تطوّر، نعم إنّه اجتهاد خاطئ من ابن مسعود ناتج من تأويل خاطئ لما رآه من رسول الله  صلى‌الله‌عليه‌وآله وهكذا باقي الموارد.

ثمّ إنّ جفري في كتابه الآخر يحاول أن يضع معجماً باللغات غير العربيّة الواردة في القرآن، ليستنتج أنّ القرآن متأثّر باليهوديّة والمسيحيّة، ونحن على فرض تسليمنا لما يقوله، لا نوافقه على النتائج التي توصّل إليها.

إنّ جفري يعترف بوجود تلاقح طبيعي للمفردات في الوسط العربي آنذاك؛ وبسبب اتّصال الشعوب بعضها مع بعض[1].

ممّا يعني أنّ تلك المفردات قد استعربت وسرت في اللغة العربيّة واتحدت معها، لذا لم يعترض أحد على الشعر الجاهلي بأنّه متأثر باليهوديّة أو المسيحيّة، بل يجعلونه أدباً عربيّاً راقياً، كما لا ينسبون كبار شعراء الجاهليّة إلى أنّهم هرطقيّون، فلماذا عندما يصلون إلى القرآن، تبدأ أنواع التخرّصات والتأويلات الباردة لربط الدين الإسلامي بالأديان الأُخرى لمجرّد مشابهات لغويّة، مع أنّ الجذر السامي واحد ومنشأ الدين واحد؟!

مضافاً إلى أنّنا عندما نحكم بالإعجاز على القرآن لفظاً ومعنى، لا نقصد الكلمة أو الحرف الواحد بمعزل عن السياق والتركيب البلاغي، بل نقصد أنّ السورة وتركيبها أو الآية وتركيبها الأدبي واللغوي والبلاغي آية ومعجزة إلهيّة، فلا ينتقض علينا ما يورده المستشرقون ومن تبعهم من العلمانيّين في

(341)

مسألة الإعجاز، فلو ثبت -مثلاً- أنّ كلمة «الله» أو «الرحمن» مستخدمة في المسيحيّة أو اليهوديّة ولو بشكل آخر، فهذا لا يُعدّ نقضاً للإعجاز، كما لا يُعدّ الإسلام مسيحيّاً أو يهوديّاً.

٥ ـ جاكلين شابي (١٩٤٣ ـ...):

ينقل هشام جعيط ثلاثة مواضع من المستشرقة الفرنسيّة المعاصرة جاكلين شابي، المورد الأوّل يتعلّق بمعنى «الأبتر»، حيث فسّرته شابي بمعنى العجز الجنسي، لكن جعيط يعترض عليها، ويقول: «فمن لا يكون له ابن أو أبناء أو من فقدهم يسمّونه بالأبتر أي من انقطع نسله، وهي كلمة مأخوذة من قطع الذنب لدى الحيوان، ولا تعني أبداً العجز الجنسي كما ذهبت إلى ذلك جاكلين الشابي»[1].

أمّا المورد الثاني الذي يتماشى معه جعيط ويؤيّد جاكلين، يتعلّق بمسألة الحجّ في الجاهليّة، فيرى -تبعاً لجاكلين- بأنّ الحجّ والعمرة أمران متباينان تماماً، فالحجّ ليس إلى مكّة وإلى البيت، والعمرة أو الحجّ الأصغر تقع في مكّة. وما يؤكّد انفصالهما كونهما تنتهيان -كلّ منهما- بذبح وتضحية وحلق للشعر، فيما يخصّ الحجّ في منى وفيما يخصّ العمرة على المروة، وقد قام النبي في عمرة القضاء بهذا النحر في مكّة كما ورد في القرآن، وقد حذفت هذه الشعائر من التضحية في العمرة في سنة عشرة للهجرة في حجّة الوداع.

فالعمرة عند الشابي هي زيارة إلى بيت إيل إلى الحجر الأسود مقرّ الإله

(342)

أي الكعبة، والحجّ كان يدور في ثلاثة أماكن: عرفة والمزدلفة ومنى، ولا علاقة له بالبيت، ولا ينتهي -على الأرجح- بالطواف حولها، إنّما بالذبح وحلق الشعر في منى، وهو مفعم بالطقوس الغريبة والرمزيّة، فالوقوف تحت الشمس عند جاكلين معناه نداء هذا الكوكب الإله، أن تخفّ وطأته كي تنزل الأمطار في الخريف[1] .

أمّا المورد الثالث، فهو ما يتعلّق بعجز القرشيّين عن القيام بمبادرة نشطة أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث أصبحوا غير قادرين على تحمّل تهجّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على آلهتهم في القرآن، ويسمّيها جعيط تبعاً لجاكلين: «حرب الكلمات» [2].

إنّ هذه المستشرقة الفرنسيّة اليهوديّة، تعتمد على المنهج الأنثروبولوجي والتاريخي لدراسة السيرة النبويّة، وتقوم بتنقيب الفترة الجاهليّة لرسم صورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال رفع القدسيّة عنه، والاعتماد على تأويل باطل لنصوص المصادر الإسلاميّة لتشويه صورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، المصادر التي لا تعترف هي بصحّتها بتاتاً، غير أنّها تحاول أن ترسم من خلالها صورة مشينة، فتعتمد على الشاذ والموضوع، وتترك الصحيح الثابت زعماً منها أنّه مزوّر.

إنّ هذا الداء سار في جميع الدراسات التي انتهجت المناهج المادّيّة الوضعيّة التي لا تقيم للمقدّس وزناً، وتجعله صنيعة التاريخ والمجتمع [3].

٦ ـ هنري لامنس (١٨٦٢ ـ ١٩٣٧):

يرى المستشرق البلجيكي هنري لامنس أنّ العرب القدامى لا يمتازون

(343)

بالروح الدينيّة وبعمق الإيمان؛ بسبب تركيبة نفسيّتهم والبيئة التي يعيشون فيها، غير أنّ هشام جعيط لم يرتض ذلك، ويرى أنّ العرب القدامى أتقياء وبررة مثل الرومان وقبلهم اليونان والمصريّون، كما يرى «أنّ الإسلاميّين هم الذين نفوا عن الجاهليّين كلّ برّ إزاء الآلهة، وكلّ جدّيّة في شكل تدينهم، وتلاهم فيما بعد بعض المستشرقين من أمثال لامنس... وإذا كان البدوي فعلاً بعيداً عن الحسّ التأمّلي الميتافيزيقي لقوّة انشداده إلى الحياة وإلى البقاء على قيد الحياة، فإنّ تديّنه كان أصيلاً، فالآلهة مرتبطة بمتطلّبات الحياة، وهي تدعى ويرتجى منها الخير، وتقدّم إليها النذر والقرابين، ويراق لها الدم كي تستجيب إلى الأماني فترضى. هذا المسعى وهذه التركيبة النفسيّة عامّة في البشريّة القديمة، ولا يستثنى منها العرب»[1].

ويعترض جعيط على لامنس -أيضاً- في زعمه أنّ مكّة مثّلث «جمهوريّة» في العصر الجاهلي، ويرى أنّه غير صحيح ولا يمكن الإقرار به؛ لغياب الدولة والحكم القهري فيها، إنّما كانت النمط الأقرب لدى العرب للمدينة اليونانيّة القديمة [2].

ويعترض عليه -أيضاً- في تصويره لمكّة آنذاك بأنّها تشكّل ميتروبول العرب، فهو يؤيّد ذلك نوعاً ما، ولكن يقول: «ليس بالدرجة التي رفعها إليها لامنس»[3].

وفي مورد آخر، يصف انطباع الإسلام في نفسيّة لامنس، بقوله: «في كتابات هذا المؤلّف يبرز للأسف الشديد للنصر العربي في القرن السابع

(344)

كنقطة انطلاق لتقلّص أو لتحلّل المسيحيّة الشرقيّة، إنّ تعاطفه يذهب بمجمله نحوى القوى المعادية للإسلام أو إلى ما يتصوّره هو كذلك ـ مثلاً السلالة الأمويّة ـ ويذهب إلى أبعد من ذلك فيصبّ كلّ حقده على آل البيت النبوي، خصوصاً على عليّ كتجسيد للمثال الإسلامي الجديد...»[1].

ومن جانب آخر، يؤيّد جعيط لامنس في شرح مؤسّسة الثأر في العصر الجاهلي وتوضيحها، حيث يصف دراسته بالمعمّقة حيث أعطى شواهد عديدة على تغلغله في النفسيّة العربيّة والسلوك العربي، وانتهى إلى أنّه من أصل ديني، وأنّه واجب ديني بالنسبة للفرد والجماعة. فجعيط يؤيّد هذا الكلام غير أنّه يرى أنّ هذا الأصل الديني قد نُسي ودخل العرف والذهنيّات والسلوك[2].

وأخيراً، يتقارب مع فكرة لامنس في إنكار أخبار التحكيم في وقعة صفّين وخدعة عمرو بن العاص لأبي موسى في خلع عليّ عليه‌السلام من الخلافة؛ ودليل لامنس على ذلك أنّ هذه الخدعة كان بالإمكان أن ترتد على مرتكبها وتسيء إلى معاوية، غير أنّ جعيط يشكّك في هذه الأخبار ليس من باب المكر والخدعة، بل لكون هذه الرواية «تتناسب تماماً مع الصورة السوقيّة التي اصطنعها المأثور التاريخي عن عمرو ثمّ عن معاوية. ولم يكن في إمكان معاوية تأسيس مطامحه المقبلة على التحكيم بكثير من الثقة، لو كانت الأمور قد جرت بالكيفيّة التي تصفها بها الرواية التقليديّة التي تفرغ مضمون المؤتمر من كلّ جدّيّة»[3].

(345)

ومن الغريب من لامنس ـ كما أشار إليه جعيط أيضاً ـ دفاعه المستميت عن بني أميّة، وطعنه الكثير بأهل البيت عليهم‌السلام، وربّما يوعز ذلك إلى «العقدة المسيحيّة من الإسلام ككلّ تشكلّت لدى لامنس، وتركّزت في هذه الذوات المقدّسة الخمسة، والتي فضلاً عن كونها تمثّل العائلة المقدّسة المثال قبالة المثاليّة المسيحيّة: الأب، الابن، الأم، روح القدس، فإنّ كلاّ منها يعطي مثالاً قائماً بنفسه وبحدّ ذاته، قادراً على إزاحة ما يقابله في المثاليّة المسيحيّة: النبوّة، البنوّه، البتوليّة. وبتفصيل أكبر على نطاق المزايا والخصائص والمفردات»[1].

٧ ـ يوليوس فلهاوزن (١٨٤٤ ـ ١٩١٨):

إنّ المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن، يُعدّ عند جعيط غير متهمّ بمعاداة الإسلام [2] وأنّه مؤرّخ قريب من النصوص [3] .

وجعيط يؤيّد فلهاوزن في عدّة موارد، منها: فيما يخصّ التأثيرات المسيحيّة على الإسلام والقرآن، حيث يراه محقّاً في ذلك، بل وإنّ الواقع التاريخي يشهد على ذلك؛ لأنّ المسيحيّة كانت محيطة بمكّة من كلّ الجوانب [4].

ومنها: مسألة تصحيح صحيفة المدينة المنعقدة مع اليهود، غير أنّ جعيط يناقش فلهاوزن في دليله على صحّة الصحيفة، من أنّها تدعو إلى

(346)

إدخال اليهود في الأمّة الإسلاميّة لاحقاً، ويرى جعيط أنّ الصحيفة لا تقول ذلك أبداً، «بل تقول بكلّ بساطة إنّ اليهود يشكّلون أمّة بالتشارك مع المسلمين، بالتحالف معهم، وكلّ واحد منهما يحتفظ بدينه، وهذا هو الأساس»[1].

ومنها: اتّفاقه معه أيضاً على رمي أخبار مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام بالوضع أي رواية تآمر الخوارج الثلاثة وقصّة غرام ابن ملجم بقطام. نعم، هناك صورة لهذه الحادثة رواها الهيثم بن عدي تدلّ على قيام رجل ذي ميول خارجيّة من الكوفة بذلك؛ لوقوعه في حبّ امرأة مسكونة بمشاعر انتقاميّة، فتطلب منه حياة الخليفة مقابل هبة نفسها له. فهذه الرواية يقبلها فلهاوزن غير أنّ جعيط يردّها أيضاً ولا يقبلها: «ليس فقط بسبب رومنسيّتها العذبة والصاخبة؛ بل لأنّها تنتمي إلى عالم المخيال المبني حول شخصيّة عليّ بقدر ما تنتمي إلى عالم الأعماق الرمزيّة، فعليّ، علي الهائل، لا يمكنه أن يموت إلّا في الظلام الشيطاني لمؤامرة على المستوى الإسلامي، ومن جرّاء عشق مهلك كبير في وقت واحد»[2].

ومنها: اتفاقه معه خلافاً لرواية سيف، حيث جعل سيف وقعة البويب بعد شهر من معركة الجسر أيّام الفتوحات الإسلاميّة في العراق[3].

ومع هذا، فإنّه يختلف مع فلهاوزن في أنّ هُبَل هو الحجر الأسود[4]،

(347)

كما يذهب جعيط إلى أنّ الكعبة مقام الإله ومسكنه «وليس هذا الإله الله ولا هُبَل كما يرتأي ذلك فلهاوزن»[1].

وقد اشتهر فلهاوزن بنقد النصوص المقدّسة، وبدأ عمله بقراءة نقديّة تاريخيّة للعهدين، ومن هذا المدخل دخل إلى الإسلام، وحاول أن يحلّل التاريخ النبوي كذلك، فلذا تراه يورد نفس الموارد التي أوردها غيره من انتساب الإسلام إلى اليهوديّة والمسيحيّة، وقد تكلّمنا حول هذا المحور بما لا مزيد عليه في فصول هذه الدراسة.

أمّا سائر النتائج الخاطئة التي يتوصّل إليها، فإنّه جرّاء الانتقائيّة في التعامل مع النصوص، وعدم تقديم رؤية واضحة، والاعتماد على تخمينات وتأويلات ناتجة من خلفيّاته الفكريّة والمعرفيّة، والمناهج المادّيّة المعتمدة.

٨ ـ ارنست رينان (١٨٢٣ ـ ١٨٩٢):

يشير جعيط إلى المستشرق الفرنسي ارنست رينان، ويصفه بأنّه فكر مضيء لخّص وحده كلّ الطموحات العقلانيّة لذلك العصر، وأنّه مستشرق يعرف العبريّة ومتضلّع في الحضارات السامية، ومهتمّ بالإسلام عن قرب، وقد أثارت محاضرته حول الإسلام والعلم جدلاً واسعاً، كما أنّ أطروحته عن ابن رشد والرشديّة تحفة في المنهج والتنقيب والذكاء [2].

يحاول هشام جعيط أن يعطي صورة موضوعيّة لأعمال رينان، وأنّه غير معادي للإسلام، بل ينقل عنه تأثّره العميق عندما يدخل الجامع؛ لأنّه ليس

(348)

مسلماً، كما يشيد العظمة المقامة على البساطة في الإسلام، فما نسب إليه من عداء صارخ ليس مقبولاً عند جعيط، ويقول: «إنّ نظرته إلى الدور التاريخي للإسلام، مع كونها غير كافية وغير عادلة ومختصرة، فإنّها تبقى أقلّ كاريكاتوريّة ممّا نسب إليه، وأنّ الإسلام في كلّ الحالات ليس مفصولاً عن التراث الديني الهائل للإنسانيّة»[1].

نعم، يعترف جعيط بأنّ رينان «يدين الإسلام بأنّه مسؤول عن عبوديّة الفكر الشرقي، وعن صدّ تطوّر العلوم في بلاد الشرق، أنّه يتناول موضوع الإسلام انطلاقاً من كونه مؤرّخاً للعلم والأفكار»[2].

ثمّ يقوم جعيط بتلخيص فكرة رينان وإدانته للفلسفة الإسلاميّة، ورميه لابن رشد بأنّ نظريّته تنفي ظاهريّاً الوحي؛ إذ تعيد بناء العالم وفق حدس غير ديني أساساً.

وفي مقام المناقشة، يرى جعيط أنّ موقف رينان فضلاً عن كونه عنصريّاً، أنّه تبسيطي ومعقّد في وقت واحد، بل إنّه سطحي حيث يربط انحطاط الثقافة الإسلاميّة لسيطرة الفكر المتزمّت على السياسي والعقلي والاجتماعي، بل يراها جعيط أوسع من ذلك وأنّه يرجع إلى عّدة عوامل.

مضافاً إلى أنّ الغليان الرائع للحّريّة الفكريّة في القرنين العاشر والحادي عشر، يبرهن على الغنى الشاسع للثقافة الإسلاميّة. كما أنّ رينان لم يتمكّن من تحديد مفهوم الإسلام، ولا مفهوم العروبة بشكل صحيح.

وفي مقام نقد رينان للدين عموماً وأنّه يقوم بتعتيم العقل، يتماهى معه

(349)

جعيط نوعاً ما غير أنّه يعترف بأنّ الدين: الإسلام والكنيسة كانا في الأغلب حواجز أمام البربريّة. وأنّ الديني والثقافي يمتزج في الإسلام.

كما أنّ جعيط يؤيّد رينان في أنّ النهضة والتقدّم الثقافي والعلمي لا يمكن أن يتمّ حول الإرث القديم، ولكن ينفصل عنه شيئاً ما، ليقول: «مع ذلك أنّ فكرة النهضة لا يمكن أن تتأكّد إلّا على قاعدة نواة قديمة، تكون هدف دراسة وفخر واستعادة»، ولذا يدعو جعيط إلى ديالكتيك القديم والحديث.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ جعيط يعتقد بأنّ الفكر المتزمّت الإسلامي لم يبلغ الدرجة التي عرفتها محاكم التفتيش، وطبقة الفقهاء لم تصبح مثل سلطة الكنيسة، وأخيراً: «لن يكون رفض الإسلام شرطاً لكلّ تجديد كما يتوقّع رينان»[1].

٩ ـ لويس ماسينيون (١٨٨٣ ـ ١٩٦٢):

إنّ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون يحظى باهتمام واحترام كبيرين عند هشام جعيط، فإنّه يصنّفه ضمن التيّار الباحث عن الروحانيّات الشرقيّة[2]، كما يصفه بأنّه «النبي والعالم معاً»[3].

يعتمد هشام جعيط على ما كتبه ماسينيون عن الكوفة وتخطيطها وتمصيرها فقط، حيث يصفه بالبحث الثري ذي الطابع الطبوغرافي[4].

(350)

ويقول عنه: «لقد استطاع ماسينيون أن يصف بريشته المتوترة الحياة المتحرّكة للمدينة الإسلاميّة وغناها وتناقضاتها القاتلة، في العصر الذي أصبحت فيه ملامحها أكثر قسوة بشكلها الكلاسيكي...»[1].

ولم يقع جعيط مكتوف اليد أمام ماسينيون، فتوجد موارد كثيرة يؤيّده فيها ويعتمد عليه ويقتفي أثره[2]. وتوجد موارد أُخرى أقلّ منها يخالفه فيها[3].

ورغم أنّ لماسينيون الدور الكبير في كشف الروحانيّات الشرقية، غير انّه غالى في ذلك كثيراً بحيث أهمل الجانب العقلاني في الإسلام وألبسه لباس الغنوصيّة، فدراساته ـ كغيره من دراسات المستشرقين ـ تشكو من الانتقائيّة والنظر من منظار واحد.

كما أنّ النقطة الجوهريّة الأُخرى في أعمال ماسينيون أنّه يرى الخلاف بين الشرق والغرب هو «الاختلاف بين الحداثة والتقاليد العريقة» فإنّه كان «يخصّص في الماضي السحيق للشرق الإسلامي، ويخصّص الحداثة للغرب... لا يعتبر الشرقي إنساناً حديثاً بل إنساناً سامياً، وهي الفئة الاختزاليّة التي كانت تسيطر سيطرة محكمة على تفكيره»[4].

١٠ ـ ثيودور نولدكه (١٨٣٦ ـ ١٩٣٠):

رغم أنّ هشام جعيط يقيّم أعمال المستشرق الألماني نولدكه وغيره، من أمثال: بلاشير وماسون، ويقول عنهم: «هم لم يفهموا حقّاً القرآن، ولهم

(351)

أفكار مسبقة ونقص في المعرفة التاريخيّة العامّة لتلك الفترة من تاريخ الشرق»[1]. يعتمد على نولدكه في موردين:

المورد الأوّل: بخصوص تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (محمد) وأنّه مأخوذ من السريان[2].

والمورد الثاني: في تورخة سور القرآن، حيث يرى «أنّ أهمّ شيء أتى به العلم الحديث بخصوص القرآن هو تورخته»[3]. فيعتمد نهائيّاً على نولدكه وبلاشير في ترتيب السور القرآنيّة مكّيّةً ومدنيّةً ويسلسلها بحسب النزول.

والهدف من تورخة القرآن هو فهم تطوّر المعاني التي أتت بها الدعوة، وكذلك فهم فعاليّات الدعوة في مكّة والمدينة[4][5].

١١ ـ تور أندريه (١٨٨٥ ـ ١٩٤٧):

إنّ هشام جعيط كان محقّاً حينما قيّم آثار المستشرق السويدي تور أندري الخاصّة بالبعثة والسيرة النبويّة: «نجد عند طور أندري معرفة بتاريخ المسيحيّة الشرقيّة، لكنّ أحكامه على الرسول سخيفة ومسبقة، وكيف يمكن لأستاذ بسيط أن يفهم عقلاً كبيراً؟... وهؤلاء المستشرقون كانت لهم الحرّيّة الكافية للقيام بعمل تاريخي حقّ؛ لأنّهم ليسوا مسلمين، فأبواب الفهم مفتوحة أمامهم، لكن كلّ ما كُتب وإن كان يُسعف المعرفة،

(352)

ضعيف في دراستهم لحياة الرسول، وهم يؤمنون بسذاجة بخرافات السيرة وليسوا بعلماء من أصحاب سعة الأفق...»[1].

كما يشير في مكان آخر إلى أنّ الاستشراق لم يقم بغير النكوص والتراجع في فهمه للبعثة النبويّة منذ تور أندري[2].

والغريب أنّ هشام جعيط بعد اعترافه بضعف أعمال أمثال أندري، وأنّها سخيفة وضعيفة في تحليل دراسة البعثة النبويّة، يعتمد عليه كلّ الاعتماد في مسألة التأثيرات المسيحيّة واليهوديّة على القرآن وعلى الإسلام، بل ويتعدّاه إلى أكثر من ذلك، إنّ المؤلّف يعتمد كثيراً على كتاب (أصول الإسلام والمسيحية) لأندري، ويصفه بأنّه دقيق جداً[3]، وأنّه مهمّ وقد اقتبس منه كثيراً لتقديمه للجمهور العربي[4] غير أنّه يعترض عليه؛ لأنّه يقتصر على التأثيرات الاسكاتولوجيّة أي التبشير بالجنّة والإنذار من النار[5].

لذا، يقوم جعيط بتبرير تعسّفي لعمل أندري، ويجعل عمله مقتصراً على أوائل الدعوة والجذور الأولى للقرآن، وليس كلّ القرآن ولا كلّ الإسلام؛ «إذ التأثيرات المسيحيّة موجودة في مواقع أُخرى...»[6] هكذا يتطوّر الأمر عند جعيط من تقريع للمستشرقين -ومنهم أندري- بعدم الفهم الصحيح

(353)

للسيرة والبعثة، إلى تجاوزهم في الطعن على الإسلام والقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والأدهى من ذلك، أنّ جعيط يتهجّم على أندريه لماذا لم يستمرّ في برهنته وتوقّف عند حدٍّ معيّن، إذ يقول: «إنّ تور أندري بعد أن برهن على القرابة القريبة بين أفكار إفراييم السوري حول البعث والحساب، وتصوّره للجنّة والنار وبين النصّ القرآني، لا يجرؤ على المضيّ قدماً في برهنته...»[1][2].

وختاماً، فهذه بعض النماذج التي اعتمد عليها هشام جعيط في بحوثه ودراساته التاريخيّة، علماً بأنّ كتبه لا تخلو من كثرة الاعتماد عليهم والاستشهاد بهم، مع تحليل ونقد كما قلنا، ومن أراد المزيد يمكنه مراجعة كتبه للوقوف على ذلك[3].

(354)

الخاتمة: خلاصة الأقوال ونقد المباني

كثيراً ما نسمع اليوم نداءات حول مفهوم «الأمّة الواحدة» المستلّ من قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[1]. وكذلك مفهوم «إحياء الحضارة الإسلاميّة».

وإذا كان المفهومان فيما سبق شعاراً نظريّاً برّاقاً، باتت الضرورة اليوم ـ مع ما يشهده العالم الإسلامي من أزمات كبيرة وتناحر وإسالة دماء ـ مضاعفة للسعي نحو تطبيق هذين المفهومين على أرض الواقع، وبما يتناسب مع الواقع الحالي أيضاً.

وتحقيق هذه المهمّة ليست بالأمر السهل؛ إذ بحاجة إلى روافد وأعمال نظريّة كثيرة وكبيرة، منها: لزوم معرفة المشاريع المطروحة حاليّاً وسابقاً في الفترة الحديثة والمعاصرة، ودراسة ما قدّمته التيّارات المختلفة في هذا الشأن، ومنها: معرفة الآخر الممانع لهذه الوحدة ولهذا النهوض الإسلامي، سواء كان الآخر غربيّاً أو إسلاميّاً وعربيّاً متغربناً.

تندرج هذه الدراسة ضمن هذا المناخ العامّ، الذي يهدف إلى التعرّف على المشاريع الفكريّة المقدّمة من قبل التيّار أو الخطاب العلماني في العالم الإسلامي، بغية الوقوف على جدواه، ومدى صلاحيّة المشاريع المقدّمة أو عدم صلاحيّتها، وهل أنّها تسبّب التقدّم أو التأخّر.

لذا، قمنا بمناقشة مشروع أحد روّاد هذا الاتجاه في الفترة المعاصرة، ووقفنا على مشروعه الفكري المبتني على (العلمانيّة المفتوحة)، أي الدخول في العلمانيّة والحداثة من أوسع أبوابها.

(355)

وقد عرفنا أنّ علمانيّته شاملة وتشمل علمنة الفهم القرآني، وعلمنة السيرة النبويّة وعلمنة الأخلاق والدين، وعلمنة السياسة، والمؤلّف إذ حاول أن يُسند مشروعه على مفهوم الاستمراريّة في الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، غير أنّه لم يوفّق في الحفاظ على البعد الإسلامي في مشروعه هذا؛ إذ بقي إسلامه إسلاماً شكليّاً فارغاً عن اللبّ والجوهر، كما أنّه لم يتمكّن من المحافظة على الشقّ الأوّل، أي العروبة أيضاً.

فمشروع جعيط يعتمد على القشور: قشر الإسلام وقشر العروبة، من دون أيّ محتوى حقيقي؛ إذ لم يبق من إسلامه سوى الحروف (ا، س، ل، ا، م). أمّا المحتوى، فهو قيم الحداثة ونسبيّة الشريعة والأخلاق وتاريخيّة الدين وإفقاده البعد الألوهي. أمّا عروبته، فلم يبق منها إلّا التكلّم باللغة العربيّة، من دون أيّ هويّة أو عمق أصالوي. هذا هو لبّ المشروع، بعد إماطة الستار عن الجمل والأدبيّات البرّاقة المستخدمة في الدفاع عن العروبة والإسلام.

إن العلمانيّة الشاملة التي يقترحها جعيط كحلّ لأزمات العالم الإسلامي والتي طبّقها على القرآن والسنّة والفرد والمجتمع والسياسة تعتمد على مباني أنطولوجيّة وإبستمولوجيّة وأنثروبولوجيّة.

فالمبنى الأنطولوجي الذي يعتمد عليه جعيط يبتني على ميتافيزيقيا طبيعية، إنّه في مرحلة الإيمان القلبي يبتعد عن الصيغيّة العادية للإيمان ويقول: «أنا دائماً مندهش، متعجّب أن يوجد شيء ما عوض لا شيء وأن يوجد الكائن الإنساني، مع تركي فكرة وجود الإله الخالق كما صاغتها الأديان التوحيديّة، كما أنّي لا أتقبل فكرة البنغ بانغ»[1].

(356)

وفي مقام النظر والعمل يقترب من المباني الانطولوجيّة المادّيّة الحديثة التي تفسّر المنظومة الكونيّة تفسيراً مادّيّاً علميّاً، وهذا المبنى هو الذي أدّى به إلى القول بالعلمانيّة الشاملة.

فالقرآن منقطع عن الغيب، وأحكامه تاريخيّة جاءت متناسقة ومتناسبة لظرف النزول حصراً، ولا تصلح لعصرنا الراهن؛ حيث إنّ العلم والعقلانيّة المعاصرة لا تتوافق معها.

أمّا السيرة النبويّة، فإنّها تضرب بجذورها في العصر الجاهلي، وإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) متأثّر بما قبله من الأديان، وإنّ المعجزة غير صحيحة، وإنّ السنّة ولدت بالتدريج بحسب اقتضاءات المجتمع الإسلامي وتطوّره التاريخي.

أمّا الفرد والمجتمع، فإنّهما -وفقاً للمبنى الانطولوجي المادّي- لا بدّ وأن يخضعا لقيم الحداثة ويتلبّسا لباس التجدّد ضمن علمانيّة مفتوحة في الأخلاق والشريعة والدولة، حيث لا بد من خضوع الفرد والمجتمع لتلك القيم حصراً.

 ونحن في نقدنا لهذه النظريّات والوصفات، ننطلق من منطلق انطولوجي ديني، يعتمد على الكتاب والسنّة والمعارف الإسلاميّة، يرى أنّ المنظومة التكوينيّة كتلة واحدة متجانسة مرتبطة بالأعلى وتدار بقدرة غيبيّة ماورائيّة، وفي هذه المنظومة الدينيّة يكون الخالق هو المبدأ والمعاد، وهو الأوّل والأخر، فالقرآن منزل من لدن عليّ حكيم، وأحكامه دائمة وشاملة لكلّ الأزمان، والمعجزة حقّ، والنبوّة اصطفاء من الله، والأنبياء يشتركون في الأحكام الكلّيّة، و يختلفون في الشرائع بحسب مصالح كلّ فترة.

(357)

أمّا المبنى الأنثروبولوجي، فيضع الإنسان محور الكون، ومصدر الوعي، و مؤسّس العالم، فالإنسانويّة هي أيديولوجيا الحضارة الغربيّة، وإنّ قيمها بديهيّة الحسن لا عوج فيها ولا زيغ. ومن هذا المنطلق، يحاول جعيط تأويل القرآن ليقترب من النزعة الغربيّة، فيقول: «القرآن يركّز كثيراً على الإنسان من أوّل الخليقة، كما أنّ إنسانيّة النبي على عظيم شأنه أمر أساسي في الإسلام»[1]، وهكذا يحاول أن يستنبط من القرآن مركزيّة الإنسان في الكون على غرار ما هو موجود في الغرب.

والخلاصة التي يصل إليها جعيط في المبنى الأنثروبولوجي، ويحاول تأويل القرآن والسيرة والفرد والمجتمع على ضوئها، هي قوله: «إذا كانت القيمة الأساسيّة هي الحياة الإنسانيّة واحترامها، فكلّ ما يتعارض معها يفقد كلّ مصداقيّة مهما كانت وجاهته، ويجب علينا حسم الموضوع: فهو شرّ لا أكثر ولا أقل وبكلّ بساطة»[2].

ومن هذا المبنى، تتولّد فكرة تغيير أحكام الشريعة، فعقوبة الرجم -مثلاً- غير صحيحة بل وتخالف مقاصد القرآن، وحرمة الربا غير صحيحة؛ لأنّها تعطّل العمل التجاري، كما يلزم التزام الحرّيّة وحقوق الإنسان ومساواة المرأة وفق المنظومة الغربيّة.

لا مشاحّة مع جعيط في أنّ هذا المبنى، يستتبع هذه النتائج، وهذا ما شهدناه ولمسناه بالعيان في المجتمعات الغربيّة المبتنية على إنسانويّة صارخة، لكن هذا كلّه مردود وفقاً للنظرة الدينيّة تجاه الإنسان.

إنّ الإنسان في الأديان مقيّد بقيود وليس له مطلقيّة بحتة، ولم يكن

(358)

فعّالاً كما يشاء، إنّ الإنسان كائن مخلوق ولا بدّ أن يعمل وفق المنظومة المرسومة له من ذي قبل للوصول إلى إنسانيّتة الحقيقيّة التي هي التحرّر من قيود الدنيا والأهواء و الشهوات.

وهذا ما يؤيّده القرآن الكريم، حيث يجعل الإنسان خليفة الله تعالى أوّلاً، ثمّ يجعل كرامته وإنسانيّته في التقوى والطاعة والعبوديّة، وإذا انسلخ منها أصبح أضلّ من الأنعام، ولا كرامة له ولا نجاة ولا سعادة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أمّا المبنى الإبستمولوجي، فلم يتمكّن جعيط من إتقانه، بل يتخبّط، فتراه تارة يتمسّك بالهرمنوطيقيا ليجعل فهم المتن ملقى على عاتق المتلقّي، ويقول: «أيّ كتاب مقدّس كما أيّ أثر فكري عظيم، يفهم على حسب المستوى الذهني للمتفهّم»[1].

ومن هنا، يقوم بتأويل القرآن والسيرة النبويّة وفق الفهم الهرمنوطيقي، فالقرآن والسيرة في وادٍ، وفهم جعيط منهما في واد آخر، إذا تطابقت النصوص والمصادر والوثائق مع فهم جعيط فهي صحيحة وثابتة، وإذا اختلفت معه فهي مزوّرة ومن صنع الخيال، وهذا ما شاهدناه كثيراً في طيّات كتبه، وقد أشرنا إليها في هذه الدراسة.

ثمّ نرى جعيط تارة يتمسّك بالعلمويّة الصارخة، ليخضع أمام معطيات العلم، ويجعلها مقدّسة لا يشوبها شكّ ولا شبهة، ويتنازل لأجلها من المعتقدات الإيمانيّة، ليفي بالمعطى العلمي، فيرى التناقض مع العلم في القرآن وينحاز إلى العلم، كما يدرس  السيرة وفق المعطيات والمناهج العلميّة، وإن أدّت إلى إنكار الوحي وألوهيّة النبوّة، وجعلها حدثاً تاريخيّاً

(359)

تتطوّر بالتدريج وفق مقتضيات المجتمع، ومن خلال التأثير والتأثّر بينها وبين الطقوس والتقاليد والعادات القديمة.

وأخرى يتمسّك بالعقلانيّة والفلسفة، معتقداً بأنّ «للعقلانيّة حسنة واحدة، في أنّها تجعل جميع الأديان على مستوى واحد دون أن تلتزم بأحدها» [1].

وإذا أردنا أن ننطلق من المنظومة الدينيّة والمعرفة السليمة لنقد هذه المباني، فأوّل ما فيها التناقض وعدم التجانس؛ إذ تفسير المتن وفق فهم المتلقّي لا يزيد المتفهّم إلاّ بعداً، ولا يولّد إلاّ منظومة معرفيّة جديدة، لا تمت إلى مراد المتكلّم بصلة، فهي تأليف جديد وليس تفسيراً لمتن قديم، وهكذا تتسلسل دائرة الفهم والتفهّم كي لا تصل إلى نتيجة ونغرق في بحر النسبيّة المتلاطم؛ إذ كلّ تفسير لمتن إنّما هو ولادة جديدة، ولذلك فهم وتفسير هذا التفسير ولادة جديدة أيضاً وهكذا تتسلسل المعرفة إلى ما لا نهاية.

وهذا نقض لغرض التأليف، كما هو نقض للغرض الذي لأجله ألّف جعيط كتبه، وبنى عليها مشروعه.

أمّا العلمويّة والعقلنة الصارخة، فهما ليسا مطلقين، كما أنّ الغرب تراجع منذ زمن عن المطلقات والثوابت، ودخل زمن ما بعد الحداثة، فلم تبق أيّ قداسة لا للعلم ولا للعقلانيّة، فبات الاعتماد عليهما عقيماً إذا لا يعطيان سنداً قويّاً للاعتماد عليهما والقيام بتحليل المتون والحوادث وتفسيرها.

(360)

هذه من حيث المباني، أمّا منهجيّاً فلا يمكن إخضاع أمر غير مادّي مرتبط بالغيب والماورائيّات، للمناهج المنحصرة في عالم المادّة؛ إذ هذه المناهج مع قطع النظر عن مدى صلاحيّتها علميّاً، مقتصرة على معالجة العلوم المادّيّة فحسب، وهي غير صالحة للحكم على ما وراء المادّة وتقييمه. كما أنّ هذه المناهج -أيضاً- لم تسلم من النقد والنقض من قبل سائر المناهج الأخرى؛ إذ هذا هو شأن المادّة.

وخلاصة المطاف والحصيلة التي نصل إليها من خلال هذا البحث في قراءة مشروع هشام جعيط، أنّه يبتني على مباني معرفيّة من خارج دائرة الدين، ومناهج مادّيّة لا ترقى إلى عالم الغيب، ليصل إلى العلمنة الشاملة للفرد والمجتمع والدولة. وبما أنّ هذه المباني والمناهج متضاربة فيما بينها، ويحاول جعيط أن يستعين بكلّها بحسب حاجته في كلّ مبحث، فإنّه يقع في هفوات وتناقضات بل وفوضى منهجيّة مبنائيّة، ولم يتمكّن من تقديم مشروع فكري معرفي متجانس ومتناسق.

إنّ الضمير الثقافي الإسلامي اليوم، يشكو من ظمأ معرفي عميق، عبر مروره بمفاوز معرفيّة قاحلة، ووقوفه على أرض شائكة، رسمها له الخطاب العلماني، وقدّم له السراب ماءً، والإقفار خضاراً..

ولو رجعنا إلى الوراء لاستكشاف نقطة الخلل، وعن أسباب هذا الضياع والضلال لزم علينا أن نمعن النظر مرّة أخرى في قوله صلى الله عليه وآله:«إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

ليصلوا إلى ساحل البرّ والأمان....!

(361)

فهرس المصادر

1- الاتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن، أحمد محمد الفاضل، الطبعة الأولى، ٢٠١٧م، دار الفتح.

2- آثار الاستشراق الألماني في الدراسات القرآنيّة، أمجد يونس الجنابي، الطبعة الأولى، ٢٠١٥م، مركز تفسير للدراسات القرآنيّة.

3- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الطبعة الأولى، ١٤٣١ هـ، دار الهدى.

4- أزمة الثقافة الإسلاميّة، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الثالثة، عام ٢٠١١م.

5- الاستشراق، ادوارد سعيد، الطبعة الأُولى، دار رؤية، عام ٢٠٠٦م.

6- الاستيعاب، ابن عبد البر، الطبعة الأولى، عام ١٩٩٢م، دار الجيل.

7- الإسلام المبكر الاستشراق الانجلوسكسوني في الجديد باتريسا كرون ومايكل كوك أنموذجاً، آمنة الجيلاوي، الطبعة الأولى، عام ٢٠٠٨م، منشورات الجمل.

8- الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، دار الطليعة، الطبعة الثانية، عام ٢٠٠٨م.

9- أسنى المطالب، شمس الدين الجزري، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

10- إشكاليّة تاريخيّة النصّ الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر، مرزوق العمري، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٢م.

11- أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، تصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الخامسة، عام ١٣٦٣ ش.

(362)

12- أصول علم النفس الفرويدي، كلفن هال، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار النهضة العربية مصر.

13- الاعتقادات، محمد بن علي بن بابويه، الطبعة الأولى، ١٤٣٣هـ، مؤسسة الإمام الهادي عليه‌السلام.

14- أوروبا والإسلام صدام الثقافة والحداثة، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الثالثة، عام ٢٠٠٧م.

15- بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، مؤسّسة الاعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى محققة، عام ٢٠٠٨م.

16- البداية والنهاية، ابن كثير، دار إحياء التراث العربي، عام ١٩٨٨م.

17- البرهان على ثبوت الإيمان، أبو الصلاح الحلبي، مؤسّسة آل البيت في قم، عام ١٤٠٩هـ.

18- تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، مؤسّسة الاعلمي للمطبوعات.

19- تاريخ الحضارات العام، إشراف موريس كروزيه، منشورات عويدات، عام٢٠١٤م، بيروت.

20- تاريخ القرآن، تيودور نولدكه، منشورات الجمل، عام ٢٠٠٨م.

21- تاريخ النظريّات الفقهيّة في الإسلام مقدّمة في أصول الفقه السنّي، وائل حلاق، الطبعة الثانية، ٢٠١٨م، دار المدار الإسلامي.

22- تاريخ اليعقوبي، الطبعة الثانية، ٢٠١٠م، دار صادر.

23- تاريخ مصر الحديث ـ جورجي زيدان، مؤسّسة هنداوي.

24- التاريخ والتقدّم دراسات في أعمال هشام جعيط، مجموعة باحثين، مركز دراسات الوحدة العربيّة، الطبعة الثانية، ٢٠١٥م.

 

 

(363)

25- تأسيس الغرب الإسلامي، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الثانية، عام ٢٠٠٨م.

26- التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي، الطبعة الأولى، عام ١٤٠٩هـ، مكتب الإعلام الإسلامي.

27- تجريد الاعتقاد، نصير الدين الطوسي، مكتبة الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، عام ١٤٠٧هـ.

28- تمهيد الأصول في علم الكلام، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، منشورات جامعة طهران، عام ١٣٦٢ش.

29- التوظيف العلماني لأسباب النزول دراسة نقدية، أحمد قوشتى عبد الرحيم، الطبعة الأولى، ١٤٣٥هـ، مركز البيان.

30- جدل الهوية والتاريخ، قراءات تونسيّة في مباحث الدكتور هشام جعيط، مجموعة باحثين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منشورات سوتيميديا، تونس، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٨م.

31- جمع القرآن الكريم عند المستشرقين جون جلكريست أنموذجاً، رباح صعصع الشمري، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٤م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة.

32- جمع القرآن بين إشكالية النصّ ورؤية الاستشراق، عبد الجبار ناجي، الطبعة الأولى، ٢٠١٦م، دار الرافدين.

33- جمع القرآن نقد الوثائق وعرض الحقائق قراءة تحليلية جديدة، السيد علي الشهرستاني، الطبعة الأولى، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة.

34- حديث إسلامي خاستكاهها وسير تطور، هارالد موتسكي، دار الحديث، قم الطبعة الأولى، عام ١٣٩٠ش.

35- حديث الغدير بين أدلّة المثبتين وأوهام المبطلين، السيد هاشم الميلاني، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٧م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة.

(364)

36- خطر النزعة التاريخيّة على ثوابت الإسلام، محمد عمارة، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، عام ٢٠١١م.

37- دراسات فلسفية، حسن حنفي، منشورات المكتبة الأنجلو المصرية.

38- الذخيرة في علم الكلام، علي بن الحسين بن موسى السيد المرتضى، مؤسّسة النشر الإسلامي.

39- الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله واليهود، جعفر العارف الكشفي، دار الأثر، الطبعة الأولى، عام ١٣٨٧ش.

40- روش شناسى انتقادى حكمت صدرائي، حميد بارسانيا، الطبعة الثانية، عام ١٣٩٥ ش، كتاب فردا قم.

41- سلسلة الأحاديث الصحيحة، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف.

42- سير إعلام النبلاء الذهبي، مؤسسة الرسالة، عام ١٩٩٣م.

43- السيرة النبويّة، ابن كثير الدمشقي، دار إحياء التراث العربي.

44- السيرة النبويّة، ابن هشام الحميري، منشورات مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بمصر، عام ١٩٦٣م.

45- شبهات وردود حول القرآن الكريم، محمد هادي معرفة، مؤسّسة التمهيد، الطبعة الرابعة، ٢٠٠٩م.

46- الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الثالثة، عام ٢٠٠٨م.

47- شرح صحيح مسلم، النووي، دار الكتاب العربي، عام ١٩٨٧م.

49- الصحيح من سيرة الإمام علي عليه‌السلام، السيد جعفر مرتضى العاملي، الطبعة الثالثة، عام ٢٠١٠م، المركز الإسلامي للدراسات.

(365)

49- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله، السيد جعفر مرتضى العاملي، الطبعة السادسة، ٢٠١٠م، المركز الإسلامي للدراسات.

50- صورة أصحاب الكساء بين تجنّي النصّ واستباحة الخطاب الاستشراقي هنري لامنس أنموذجاً، شهيد كريم الكعبي، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٥م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة.

51- العلمانيّون والقرآن الكريم تاريخيّة النصّ، أحمد إدريس الطعان، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م، مكتبة ودار ابن حزم.

52- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين الأميني، الطبعة الخامسة، ٢٠٠٩م، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.

53- فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة.

54- الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة السادسة، عام ٢٠١٢م.

55- الفكر العربي المعاصر دراسة في النقد الثقافي المقارن، إليزابيت سوزان كساب، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، ٢٠١٢م.

56- فلسفة الثورة الفرنسية، برنار غروتو يزن، الطبعة الأولى، منشورات عويدات، عام ١٩٨٢م، بيروت.

57- في السيرة النبويّة (١) الوحي والقرآن والنبوة، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الخامسة، عام ٢٠١٥م.

58- في السيرة النبويّة (٢) تاريخية الدعوة المحمدية في مكّة، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الثالثة، عام ٢٠١٣م.

59- في السيرة النبويّة (٣) مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥م.

(366)

60- قراءة النصّ الديني بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي، محمد عمارة، دار السلام، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٢م.

61- قراءة نقديّة في تاريخ القرآن للمستشرق تيودور نولدكه، حسن علي حسن مطر، الطبعة الأولى ٢٠١٤م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة.

62- القرآن الكريم وشبهات المستشرقين، عبد الله خضر حمد، الطبعة الأولى، ٢٠١٨م، دار الكتب العلميّة.

63- قصور الاستشراق منج في نقد العلم الحداثي، وائل حلاق، الطبعة الأولى، الشبكة العربية، عام ٢٠١٩م.

64- اللاهوت المعاصر دراسات نقديّة، إعداد المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٩م.

65- محاضرات في الإلهيّات، الشيخ جعفر السبحاني، الطبعة السادسة عشرة، عام ١٤٣٤هـ، مؤسّسة الإمام الصادق عليه‌السلام.

66- مدخل إلى التحليل النفسي، سيغموند فرويد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الخامسة، عام ٢٠١٤م.

67- المسائل السرويّة، محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد، دار المفيد، الطبعة الثانية، عام ١٤١٤هـ.

68- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، إشراف يوسف المرعشلي.

69- المستشرقون والسيرة النبويّة، عماد الدين خليل، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، ١٤٢٦هـ.

70- المستشرقون والقرآن الكريم، محمد بهاء الدين حسين، الطبعة الأولى، ٢٠١٣م، ديوان الوقف السني، دائرة البحوث والدراسات.

(367)

71- مشكل الآثار، أحمد الطحاوي، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند.

72- معجم الألفاظ الغريبة في القرآن آرثر جفري، الطبعة الأولى، ٢٠٢٠م، دار ابكالو.

73- معجم مصطلحات الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلوم اللسان والمذاهب النقديّة والأدبية، د. سمير سعيد حجازي، دار الطلائع، ٢٠٠٧م، القاهرة، الطبعة الأولى.

74- المناقب، ابن المغازلي، الطبعة الأولى، عام ١٤٢٦هـ، مطبعة السبحان.

75- منزلت عقل در هندسه معرفت ديني، جوادي آملي، الطبعة الثامنة، نشر إسراء، عام ١٣٩٣ش.

76- منهج البحث التاريخي، حسن عثمان، الطبعة الثامنة، دار المعارف، مصر.

77- مواد من أجل التاريخ النصّي للقرآن المصاحف الأوّليّة والثانويّة، آرثر جفري، الطبعة الأولى، ٢٠٢٠م، دار ابكالو.

78- موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، إعداد السيد محمود المرعشي وغيره من المحقّقين، الطبعة الأولى، عام ٢٠٠٩م. منشوراً مكتبة السيد المرعشي النجفي.

79- موسوعة النبوّة في التراث الكلامي عند الإماميّة، إعداد المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، عام ١٤٤١هـ.

80- الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأولى المحقّقة، عام ١٩٩٧م.

81- نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاستشراق الفرنسي المعاصر جاكلين شابي انموذجاً، عبد الحكيم فرحات، بحث منشور ضمن فعاليّات الجمعيّة العلميّة السعوديّة للسنّة وعلومها.

82- نسبت دين ودنيا بررسى ونقد نظرية سكولارسيم، الشيخ جوادي آملي، الطبعة الثامنة، نشر إسراء، عام ١٣٩٤ ش.

(368)

83- نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة الكوفة، هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الثالثة، ٢٠٠٥م.

84- النظرية السياسيّة في الإسلام، محمد تقي مصباح اليزدي، الطبعة الثانية، بيروت، عام ١٤٣٢ هـ، ٢٠١١م.

85- النكت الاعتقادية، محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد، ضمن موسوعة الشيخ المفيد، دار المفيد، عام ١٤٣١هـ.

86- نهج البلاغة، جمع وتدوين الشريف الرضي، العتبة العلويّة المقدّسة، عام ٢٠١١م.

87- هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى؟ سامي عامري، دار رواسخ الطبعة الأولى، ٢٠١٨م.

88- الهيرمنوطيقا منشأ المصطلح ومعناه واستعمالاته في الحضارات الإنسانيّة المختلفة، صفدر الهي راد تعريب حسنين الجمال، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة، العراق، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٩م.

89- الإسلام الليبرالي كتاب مرجعي، تشارلز كورزمان، الطبعة الأولى، عام ٢٠١٧م، المؤسسة العربية للفكر والإبداع.

90- خطاب النقد الثقافي، سهيل الحبيب، الطبعة الأولى، ٢٠٠٨م، دار الطليعة.

91- من الإصلاح إلى النهضة، عبد الإله بلقزيز، الطبعة الثانية، ٢٠١٤م، مركز دراسات الوحدة العربيّة.

92- من النهضة إلى الحداثة، عبد الإله بلقزيز، الطبعة الثانية، ٢٠١١م، مركز دراسات الوحدة العربيّة.

93- نهاية الفكر العربي، عزيز الحدادي، الطبعة الأولى، ٢٠١٤م، دار الطليعة.

(369)

94- مؤسّسة راند والعالم الإسلامي، نقد ومناقشة جهاد سعد، الطبعة الأولى،٢٠٢٠م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة.

95- بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، شيريل بينارد واخرون، الطبعة الأولى، ٢٠١٥م، تنوير للنشر والإعلام.

96- تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، الطبعة الرابعة، عام ٢٠١٢م، المركز الثقافي العربي.

 

(370)

فهرس البحوث والدراسات

1-أثر فلسفة التنوير على تطوّر الفكر في العالم العربي الإسلامي، هشام جعيط، مجلّة الفكر العربي المعاصر، العدد ٣٧، عام ١٩٨٥ ـ ١٩٨٦.

2- جاك بارك موت الاستشراق تراجع مثقف ما بعد الحداثة فراغ ما بعد حرب الخليج، هشام جعيط، حوار معه في صحيفة حقائق، العدد ٥٠٧ عام ١٩٩٥م ٢٠ جويلية.

3- الحضارة الإسلامية والغرب، هشام جعيط، مجلة دراسات عربية العدد ٣ عام ١٩٨٠م.

4- الصحوة الإسلامية والثقافة المعاصرة، هشام جعيط، مجلة الفكر الإسلامي، العدد ٨ عام ١٩٨٧م.

5- لا صدى لأفكاري في المشرق، حوار مع هشام جعيط أجراه حسونة المصباحي، مجلة حوار العرب العدد ٢ عام ٢٠٠٥م.

6- المستشرق البريطاني مونتجومري وات وكتابه محمد في مكة، حسن الحكيم، مجلة دراسات استشراقية العدد ٥ عام ٢٠١٥م.

7- مع الأستاذ هشام جعيط، موقفي من الطقوس الدينية، مجلة الإذاعة تونس عدد ١٦٧ تاريخ ٢١، ٢، ١٩٦٦.

8- نظرية وفرهنك، حميد بارسانيا، مجلة راهبرد فرهنك، عام ١٣٩٢ ش العدد ٢٣.

9- هشام جعيط في حوار مفتوح حول كتابه الجديد عن السيرة النبويّة، صحيفة الوسط التونسية ١٤، ٢، ٢٠٠٧م.

(371)

10- الهوية تؤكد ذاتها عفوياً، حوار مع هشام جعيط، مجلة المستقبل العربي، العدد ٢٩٤ عام ٢٠٠٣م.

11- وجهاً لوجه: هشام جعيط وماجد السامرائي، مجلة العربي، العدد ٣٥٨ عام ١٩٨٨م السنة الحادية والثلاثون.

12- الوحي والقرآن والنبوة قراءة في كتاب هشام جعيط، رضوان السيد، مجلة التسامح العدد ٣ عام ٢٠٠٣م.

13- التجديد لايمكن أن يتم الاّ من داخل تراثنا،حوار مع محمد عابد الجابري، مجلة المستقبل العربي عدد٢٧٨، عام ٢٠٠٢م.

14- مدارس التجديد والإصلاح الرواد والافكار، ضمن اعمال المؤتمر الدولي الذي نظمته مكتبة الاسكندرية عام٢٠٠٩ م، والمطبوع ضمن كتاب: اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث.

15- تجديد خطاب الحداثة عبدالاله بلقزيز انموذجاً، هاشم الميلاني، مجلة العقيدة، العدد١٦ عام ٢٠١٨م.

(372)
العلمانية المفتوحة قراءة نقدية لمشروع هشام جعيط في هذا الكتاب يتناول الباحث مشروع المؤرخ التونسي المعاصر هشام جعيط حيث عد نفسه ضمن التيار الاصلاحي وقدم مشروعا اصلاحيا بزعمه يبتني على (العلمانية المفتوحة) التي تشمل علمنة الدين والفرد والمجتمع والدولة بالاعتماد على قيم الحداثة . وهذا هو المنهج المتبع في جميع كتبه وبحوثه المنشورة حتى انه قرأ القران والسيرة النبوية من خلاله . في هذه الدراسة يقوم الباحث باستخلاص مشروع هشام جعيط من طيات كتبه وبحوثه مع اعطاء نظرة تحليلية نقدية المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq info@iicss.iq islamic.css.lb@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف