فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 5 

القسم الأول : هيوم والفلسفة | 7

ديفيد هيوم ، خصيم العقل منكر الميتافيزيقا / محمود حيدر  | 9 

ديفيد هيوم كمثال لمعضلة التنوير حضارة الشكّ / بهاء درويش | 15 

هل يمكن للشكاك ان يعيش شكّه؟بحث في أثر الفكرة على نفس صاحبها / مايلز فريدريك بورنيت | 37

نقد ريبية هيوم معضلة التعرف على حقائق الوجود  / نور الدين السافي | 73 

السببية الناقصة نقد العقل القاصر عند ديفيد هيوم / سارة دبوسي | 93 

ديفيد هيوم وقانون العلية لعبة التناقض المريب / مازن المطوري | 113

ديفيد هيوم وتطبيقه للمنهج التجربي على الفلسفة دراسة مبدأ السببيّة نموذجا / شهاب الدين مهدي | 127 

نظرية العدل عند هيوم مسعى إلى نقد فلسفته السياسية / أحمد واعظي | 139 

القدماء ،الوعي البسيط،وشكوكيّة هيوم الهويّة والريبية المفرطة / ماريا ماغولا أداموس | 171 

القسم الثاني : هيوم والدين | 183

جدل العلاقة بين الذهن والعين،نقد العلامة مطهري لأطروحات هيوم / علي دجاكام | 185

المعجزة في فلسفة الدين عند هيوم ، الدليل المتهافت على نقضها / محمد فتح علي خاني | 205

نشأة الدين عند هيوم من التعددية إلى التوحيد نقد في تطور الأديان / غيضان السيد علي | 251

الوصل المضطرب بين العقل والأخلاق،مقاربة نقدية لرؤية ديفيد هيوم / حسين علي شيدان شيد | 275 

تحليل نقدي لنظريات ديفيد هيوم على ضوء أربع مسائل فلسفية / العلامة محمد تقي جعفري | 295

دراسات نقدية في أعلام الغرب 4 ديفيد هيوم مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي مجموعة باحثين العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

(2)

دراسات نقدية في أعلام الغرب 4 

ديفيد هيوم 

مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي 

مجموعة باحثين 

العتبة العباسية المقدسة 

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية 

العتبة العباسية المقدسة 

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية 

دراسات نقدية في أعلام الغرب 4 

ديفيد هيوم 

مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي 

مجموعة باحثين 

 

ديفيد هيوم : مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي / مجموعة باحثين . -الطبعة الأولى- النجف ، العراق : العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1442 هــ . = 2020 . 

392صفحة ، 24 سم . -(دراسات نقدية في اعلام الغرب ، 4) 

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية .

ردمك : 9789922625768

أ.العنوانPhilosophy Scotland 2. Hume , David, 1711-1776.1

LCC:B1498 D38 2020

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة 

 

العتبة العباسية المقدسة - المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الطبعة الاولى : 1442 هـ - 2020 م

مقدمة المركز 

الظاهرة الغربيَّة في عصرنا الراهن واسعة النطاق ومعقَّدةٌ غايةَ التعقيد لدرجة أنَّها بسطت نفوذها وتجاوزت تأريخ العالم الغربي وحدوده الجغرافيَّة لتُلقي بظلالها علىٰ جميع بقاع العالم وتسود في مختلف الأوساط الفكريَّة المعاصرة، ومن ثَمَّ قطعت الطريق علىٰ سائر الأنظمة المعرفيَّة لتقول كلمتها.

الفكر الغربي المعاصر رغم سطوته وسلطته الواسعة، إلَّا أنَّه متقوِّمٌ علىٰ عمالقة تأريخ الفكر البشري، وهو بكلِّ وجوده مدينٌ للمفكِّرين القدماء والمدارس الفكريَّة والفلسفيَّة التي تألَّقت في العهود السابقة؛ والجدير بالذكر هنا أنَّ تأثير علماء العصور الكلاسيكيَّة والحديثة علىٰ هذا الفكر شاملٌ وباقٍ.

بعد إخفاق العلماء الغربيِّين في صياغة الأُنموذج الأمثل الذي كانوا يطمحون لترويجه في الحياة الاجتماعيَّة للإنسان الحديث، وإثر عدم توقُّفهم عن الفضول المعرفي إزاء شتّىٰ الأوساط الفكريَّة في المجتمعات غير الغربيَّة؛ واجه المفكِّرون الشرقيُّون والغربيُّون المعاصرون سؤالاً مصيريًّا لا محيص منه حول الظاهرة الغربيَّة الواسعة والمعقَّدة؛ فهو سؤالٌ مشتركٌ، حيث يواجهه من يتصدَّىٰ لمواجهة المدِّ الفكري الغربي، وكذلك من يدعو إلىٰ الحوار والتبادل المعرفي.

هذه المواجهات الفكريَّة في عصرنا الحاضر محتدمةٌ في باطن العالم الغربي أيضاً علىٰ ضوء نقدٍ أثمر ظهورَ العديد من المصطلحات، مثل «مركزيَّة أُوروبا» و«العولمة» و«الأمركة»، وما شاكلها.

تتمحور سلسلة «دراسات نقديَّة في أعلام الغرب»، ضمن هدفها الأساسي حول الدراسات النقديَّة للفكر الغربي في إطار بحوث تحليليَّة نقديَّة للمنظومات الفكريَّة لفطاحل الفكر الغربي وروُّاده الذين أنشؤوه بفضل جهودهم الفكريَّة، تتمحور مواضيعها حول بيان الهواجس والتساؤلات المطروحة بخصوص ما ذُكِرَ.

(5)

في هذا الجزء من السلسلة سنقرأ متاخمات تحليلية نقدية للفيلسوف الانكليزي ديفيد هيوم (مقاربات نقديَّة لنظامه الفلسفي) وقد شارك في هذا الكتاب الجماعي جمعٌ وازن من المفكّرين والباحثين من الغرب والعالمين العربي والإسلامي.

وقد تم توزيع بحوث هذا الكتاب على قسمين: القسم الأوَّل: وهو تحت عنوان «هيوم والفلسفة» والقسم الثاني بعنوان: «هيوم والدين» وفيه بحوث نقدية وتحليلية لآرائه ومواقفه من الدين واللاهوت المسيحي على وجه الخصوص، وبيان لأبرز أطروحاته في هذا الصدد.

وإذ نُقدِّم هذا الجزء من هذه السلسلة إلىٰ قُرَّائنا الکرام، لا يفوتنا أنْ نشيد بجهود كلِّ من ساهم في إنجاز هذا العمل بحثًا وإعدادًا وتحريرًا وإخراجًا، خاصّين بالتقدير والامتنان الكتّاب والباحثين والمترجمين الذين شاركوا في أبحاث ودراسات هذا الكتاب.

والحمد لله ربِّ العالمين.
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة
النجف الأشرف
ربيع الأول/ 1442هـ
(6)

 

 

 

 

 

 

القسم الأوَّل

هيوم والفلسفة

 

 

(7)
(8)

ديفيد هيوم، خصيم العقل.. منكر الميتافيزيقا

 

محمود حيدر[1]

 

الملخَّص:

لم يُحِط الغموض بفيلسوف من فلاسفة الحداثة كمثل ما أُحيط به ديفيد هيوم. أكثر النظراء ممَّن عاصروه، أو أُولئك الذين جاؤوا من بعده قد ارتابوا من غموضه؛ بل إنَّ جمعًا منهم أخذهم الذهول حيال موقفه من دُربة العقل، ولم يجدوا ما يُسوِّغ عزوفه عن أيِّ معيارٍ عقلانيٍّ يوصل إلى إدراك حقائق الأشياء والأفكار. راح يتعدَّى ما وضعه أُستاذاه فرانسيس بيكون وجون لوك من قواعد للفلسفة التجريبيَّة. ولأجل أنْ ينفرد باختباراته الشخصيَّة، فقد خالفهما الرأي ليُعرِض عن كلِّ نزعة إيقانيَّة، وآثر التعامل مع التراث الميتافيزيقيِّ كلِّه بوصفه نقيضاً لأفهام الطبيعة البشريَّة. ولكي يتَّفق له ما يريد، مضى بشغفٍ غير مسبوق إلى مناصبة الميتافيزيقا العداء، وقد حرص على أنْ يزعزع أركانها من داخل دون أنْ يستغرق عالمها المكتظِّ بالعناء، وقد فعل هيوم هذا؛ إمَّا لقصور في الإحاطة بمفاهيمها، أو لخشيته الامتثال لمهابة أسئلتها العظمى.

(9)

ومثلما نالت الميتافيزيقا منه نصيبها من الهدر، سينال العقل حظَّه الأوفى من تهمة التقصير والغموض؛ ولأنَّه عدَّ الغموضَ موجعاً للعقل مثلما هو موجِعٌ للعين، فقد قرَّر أنْ يجتنب الوجع المحتَّم، وينساق نحو منهجٍ غرائزيٍّ يجعل العقل أقلَّ تحليقاً في الأعالي ممَّا اتَّخذه أيُّ فيلسوف حديث. هو لم يفترض أنَّ لدينا مَلَكَة أُخرى أفضل قدرة لتزويدنا بمعرفة طبائع الأشياء؛ بل رأى أنَّ الشكَّ هو الموقف المعقول الوحيد الذي يتعيَّن اتِّباعه.

اللَّافت أنْ لا نجاة من «الفراغ العجيب» الذي اقترفته مطارحات هيوم، إلَّا عن طريق الغريزة التي وهبتها الطبيعة للكائن البشريِّ لتدبير حياته اليوميَّة. والنتيجة أنَّه لـمَّا أقام نفسه في المنطقة الرماديَّة بين مرأى العين واستدلالات الذهن، فإنَّه لم يجد سوى السخرية سبيلاً لمواجهة ما لم يستطع على إدراكه صبراً، لقد أشكل عليه إدراك الحدِّ الفاصل بين الوهم والفهم، ثمّ مضى إلى القطع بعدم وجود أيِّ تبريرٍ فلسفيٍّ؛ لإثبات أيِّ حقيقة تتجاوز ميدان التجربة الحسِّيَّة. وللمفارقة، إنَّ ميدان التجربة نفسه لم ينجُ من شكوكيَّته ومسلكه الفكريّ المضطرب، بل يمكن القول: إنَّ ما انتهى إليه في كتابه «تحقيق في الفاهمة البشريَّة» هو أقرب إلى التيه في دوَّامات الريبة وعدم اليقين.

*   *   *

الذين أخذوا على هيوم ريبيَّته المفرطة تساءلوا عمَّا إذا كانوا في محضر فيلسوف يستحقُّ هذه الصفة. فالفيلسوف هو طالب الحكمة، والساعي إلى العثور عليها، ورأس الحكمة - على ما نعلم - التعرُّف على ما يتوارى خلف حجاب الحواسِّ الخمس. ولا يغيب عنَّا أنَّ لدُنْيَا الممكنات سحرَها وغوايَتها، إلَّا أنَّ الحكمة - دون أيِّ علم سواها - هي التي نبَّهت إلى وجوب العثور عمَّا يمكث وراء بوادي الأشياء ومظاهرها.

لقد أدان هيوم الميتافيزيقا واستنزلها منازل الأفكار الزائفة، لينتهي إلى ضربٍ من السخرية ممَّا توصَّل إليه من استنتاجات: «أنا خائفٌ ومرتبكٌ من تلك الوحدة البائسة التي وضعت فيها فلسفتي»، هكذا قال. لكن مرجع خوفه يعود على أرجح تقدير إلى «لا أدريَّته» حيال سؤال الوجود، وكذلك إلى شكوكيَّته بمنطق العلم ومنطق التجربة في آنٍ. وتلك مخافة مشروعة ما دام لم يعد لديه ما يستأمنه على أيَّام دهره. أمَّا نظريَّته في المعرفة - لو صَلُحَ لها هذا الاسم - فسنجدها مدعاة للعجب؛ فها هو يرى «أنَّ المعرفة المنطقيَّة التي تختصُّ بالعلاقة بين

(10)

تصوُّرات الذهن هي يقينيَّة مئة بالمئة؛ لأنَّها لا تقول لنا شيئًا عن العالم، أمَّا المعرفة التجريبيَّة التي تقوم على الانطباعات الحسِّيَّة البسيطة، فإنَّها تروي لنا شيئًا من العالم دون أنْ تكون يقينيَّة مائة بالمائة»...

الحصيلة المنطقيَّة لهذه المعادلة «الهيوميَّة» أنَّ كلتا المعرفتين لا ترتقيان إلى المنزلة التي يتأسَّس عليها ما يوصِلُ إلىٰ الحدِّ الأدنىٰ من اليقين، وبناءً عليه فقد جَزَمَ هيوم بأنَّ معرفة الطبيعة الإنسانيَّة تستلزم نبذ الوهم الميتافيزيقيِّ، والإقرار بعدم القدرة على النفاذ إلى موضوعات تستغلق على الذهن استغلاقًا.. أمَّا المنهج الوحيد الذي قرَّره ليقتدر به على تحرير المعرفة من هذه المسائل المستغلقة، فقد جاء على لسانه: «أنْ نبذل ما يسعنا البذل على تقصِّي طبيعة الذهن البشريِّ، وأنْ نُبيِّن من خلال تحليل دقيق لقواه وطاقاته، أنَّه ليس مُعَدًّا بأيِّ وجهٍ من الوجوه للخوض في مثل هذه الموضوعات القصيَّة والمستغلقة»...

*   *   *

ما الذي سيقوله هيوم بعد كلِّ هذا؟ أفلا يفضي مقصده إلى الهبوط المريع نحو اللَّاشيئيَّة والسخرية من بداهات التعقُّل؟.. ثمّ لنا أيضًا أنْ نسأل: من أين له كلَّ هذا الاعتقاد بمنهجٍ رماديٍّ نهايته الامتناع عن أيِّ ضرب من المعرفة اليقينيَّة؟

لو عدنا قليلاً إلى تاريخ الفلسفة منذ إرهاصاتها اليونانيَّة الأُولى، لتبيَّن لنا أنَّ الرجل لم يأتِ بخطب جلل. مَثَلُه كمثل سائر فلاسفة الحداثة ممَّن ذهبوا مذهب الشكِّ، حتَّى استوطن بعضهم أرض العدم، وهوى بعضهم الآخر إلى وادي الإلحاد. جلُّ هؤلاء أخذوا عن أسلافهم الإغريق عصارة أمرهم، ثمّ جاوزوهم لـمَّا خاضوا مغامرة الحداثة؛ لهذا جاز القول: إنَّهم تماهوا مع ما جاء به الأوَّلون، ثمّ لم يأتوا بجديد يُعوَّل عليه. في الفترة التي تلت عهد سقراط، أي قبل قرون مديدة من ظهور الحداثة في الغرب أطلَّت الشكوكيَّة برأسها مع رائدها الأوَّل بيرون حين رأى أنَّ: «المعرفة تُعَدُّ أمرًا مستحيلاً، والمصير المحتوم للبشريَّة هو الشكُّ واللَّا أدريَّة. بعد ذلك تمادت الشكوكيَّة، لتتحوَّل إلى مذهبٍ فكريٍّ يفيد أصحابه بأنَّ المعرفة الحقيقيَّة في حقلٍ معيَّنٍ هي عبارة عن معرفة غير محقَّقة، وليست ثابتة لدىٰ الإنسان؛ أي إنَّ الحقيقة خارجة عن نطاق إدراك الذهن البشريِّ، وأنَّ الإنسان لا يمتلك القابليَّة لمعرفة الحقائق الثابتة، باعتبار أنَّ الحسَّ والعقل معرَّضان للخطأ. فضلاً عن ذلك، فقد عُدَتَّ الأُصول المنطقيَّة التي وضعها

(11)

أُرسطو لصيانة الذهن من الخطأ غير كافية، وأنَّ السبيل الصحيح في التفكير هو التوقُّف عن إصدار آراء جَزْميَّة، ثمّ بالغوا في منهجهم هذا لدرجة أنَّهم طبَّقوه على مسائل الرياضيَّات والهندسة معتبرين أنَّها قضايا احتماليَّة وتشكيكيَّة.

من البيِّن أنَّ هيوم -وإنْ ادَّعى مجاوزة أسلافه القدماء، وهو ما لا دليل عليه- فإنَّه لم يفلح في مسعاه مع فلاسفة الحداثة. في الحقبة الحديثة سينبري إلى استنساخ شكَّانيَّة «التنوير» ويحفظها عن ظهر قلب. أخذ عن ديكارت منهجه الشكِّيّ واستبدل «الأنا أُفكِّر» بالغريزة، إلَّا أنَّه سيتَّبع حرفيًّا ادِّعاء ديكارت ويُؤسِّس عليه: «إنَّ علينا أنْ نصف بالزيف جميع الأشياء التي قد نتشكَّك فيها، وألَّا نصفَ أيَّ شيء من الأشياء بأنَّه حقيقيٌّ ما لم يكن بمقدورنا أنْ نُثبِت حقيقته. وحتَّى يتسنَّى لنا ذلك لا مناص من الاعتماد على برهان يبدأ ممَّا هو محلّ شكٍّ، ثمّ ينتقل من خطوة إلى أُخرى تكون كلٌّ منها صحيحة وفوق كلِّ شكٍّ»...

*   *   *

ربَّما تنبَّه هيوم إلىٰ مَعْثَرته لـمَّا ذمَّ الميتافيزيقا وأعلن عن قصور العقل، وهذا ما سيحمله على التمييز بين نوعين من الفلسفة:

- الفلسفة العويصة والمجرَّدة: وهي التي تبحث عن المبادئ العامَّة للطبيعة البشريَّة بواسطة الاستدلالات المجرَّدة.

- الفلسفة البسيطة والواضحة: وغرضها تهذيب الآداب، وموضوعها الفعل الإنسانيُّ، وهي «تشتغل بتلك المبادئ التي تُسيِّر أفعال الناس، من أجل أنْ تصلح من سلوكهم وتُقرِّبهم من أُنموذج الكمال الذي تصفه لهم».

لقد مالَ هيوم إلى الثانية بعد ما شقَّ عليه الخوض في العالم المجرَّد للميتافيزيقا، ثمّ انصرف إلى هندسة مقارباته للمعرفة البشريَّة في إطار ما أسماه «فلسفة عمليَّة بسيطة» تستفيد من دقَّة الفلسفة النظريَّة المجرَّدة ومن طاقة الاستدلال الميتافيزيقيِّ. لكن هل استطاع هيوم أنْ يُنجز هذه الفائدة من الفضاء الميتافيزيقيِّ ليُؤيِّد مدَّعاه؟

يبدو هذا المطمح مشكوكًا فيه على غالب الظنِّ، تبعًا للمقدّمات والتأسيسات التي ابتنى عليها مغامراته المعرفيَّة. ربَّما رغب هيوم أنْ يصير مبحثه عن «الفاهمة البشريَّة» نقطة

(12)

انعطاف تومئ إلى تحرُّر الإنسان من كهف التجريد الميتافيزيقيِّ، غير أنَّ هذه الرغبة لا تلبث حتَّى تؤول إلى استدخال هذا الإنسان في كهف العدم. فقد أقام عدميَّته على فَرَضَيَّة مفادها: أنَّ الفلسفة لـمَّا كانت تقوم على هيأة للفكر ولا تُخوِّل له دخول مشاغل الحياة والعمل، فإنَّها تتلاشى حالما يغادر الفيلسوف عتمة الظلِّ ليستقرَّ في وضح النهار، ولا يمكن لمبادئها أنْ تحافظ بيسر على أيِّ تأثير في سيرتنا وسلوكنا. فأحاسيس قلوبنا، واختلاجات أهوائنا، وهيجان عواطفنا، تُبدِّد ظلام استنتاجاتها كلِّها، وتحطُّ بالفيلسوف العميق إلى مجرَّد رجل من الدهماء.

لم يكتفِ هيوم بما اقترفه بحقِّ الميتافيزيقا لـمَّا حكم عليها بالبطلان، بل راح يبحث عن ذلك الفيلسوف الذي لا يقصد أكثر من أنْ يكون ترجمان الحسِّ الإنسانيِّ العامِّ. ربَّما كان بما له من «ذكاء فيزيائي»، مسلك الفلاسفة والمفكِّرين من بعده. وسنرى من بعد ذلك كيف استولدت مسارات الحداثة سلالة متَّصلة من الفلاسفة الْتَمَّ شملُها علىٰ ذمِّ الميتافيزيقا وعبادة العلم المحض.

من الشواهد الصارخة أنْ تحقَّق لديفيد هيوم مع إيمانويل كانط ما كان يرنو إليه. ففي عام 1756م قرأ الأخير ترجمة ألمانيَّة لنظيره حول الشكوكيَّة كانت كافية لتهزَّ إيمانه بشرعيَّة المعرفة الميتافيزيقيَّة، وهو ما عبَّر عنه بعد سنوات في مؤلَّفه «مقدّمات نقديَّة»[1] بجملته العصماء: «لقد أيقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوغمائيِّ»...

جناية هيوم على كانط أدَّت إلى اندفاعه على غير هدى نحو ما أسماه مواجهة اليأس العامِّ من المعرفة الميتافيزيقيَّة، ثمّ كانت معضلته الكبرى عندما شرع في تحويل الميتافيزيقا إلى علم.

لقد جاء الأمل الموهوم لكانط من المصدر نفسه الذي جيء لديكارت، أي من الثورة العلميَّة التي أبهرت الجميع بسحرها. ابتهج كانط بالنّور الخافت الذي أدركه في فوضى الهندسة المعاصرة، وصار يبصر في نور العلم منبعثًا لبداية إصلاح العلوم. كان ثَمَّة تباين بارز بين الضعف الواضح للأنظمة الميتافيزيقيَّة الغربيَّة وحالة الازدهار التي شهدها العلم الوضعيُّ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فقد حافظت الرياضيَّات على حسن سمعتها القديمة، وبلغت الفيزياء مع نيوتن عزًّا لم يعهده علم الطبيعة من قبل، لكنَّ الفلسفة ظلَّت تواجه معضلة العزلة حتَّى كادت أنْ تذوي تحت وطأة الضربات القاسية للعلم.

*   *   *

(13)

قيل: إنَّ هيوم هو أوَّل من اكتشف «مشكلة الشكِّ في الاستقراء»، وهذه المشكلة ترتبط بكلٍّ من منهجَيْ الاستقراء العاديّ والنخبويّ اللذين يؤولان عنده إلى النتيجة نفسها، أي إنَّ كِلا المنهجين لا يُنتجان اليقين المعرفيَّ؛ إذ فيما يُؤكِّد الشكّيُّ العاديُّ على أنَّ الحالات الموجبة للتعميم الاستقرائيِّ لا تُقدِّم أيَّ أُسُس مهما كانت لتأكيد صدق التعميم أو احتماليَّة صحَّته،... يُؤكِّد الشكّيُّ النخبويُّ على أنَّ الحالات المؤيِّدة لنظريَّةٍ ما، لا تُقدِّم أيَّ أُسُس لتأكيد صدقها أو احتمالها. وكما أشرنا من قبل، فإنَّ ما فعله هيوم  -وما واصل فعله- هو توجيه انتباه الذهن بعيدًا عن المشكلات المُلِحَّة للاستقراء النخبويِّ، ليتَّجه نحو المشكلات العاديَّة نسبيًّا للاستقراء العاديِّ. والواضح - كما يقول ناقدوه - أنَّ تجنُّب هيوم للاستقراء النخبويِّ مرتبط بجهله بعلم عصره الذي لا يقارنه فيه أحد، لكن الأمر يرجع بدرجة أكبر إلى إبستيمولوجيَّته الحسّيَّة التي تستلزم بطبيعتها أنْ تكون النظريَّات الأصيلة غير منجزة.

*   *   *

وأنَّى كان الأمر، ففي مستخلصات هيوم وإجراءاته ما يُؤكِّد حقيقة غابت عن كثيرين، وهي أنَّ ما صنعته الحداثة من أفكار هي أدنى إلى إعادة التدوير لبضاعة الإغريق الفلسفيَّة؛ بل جاءت أقرب إلى استعادات رديئة لما قرَّره السلف أحيانًا. وتمشّيًا مع هذه الفَرَضيَّة لا نكون قد جاوزنا الحدَّ لو قلنا: إنَّ تاريخ الحداثة الفلسفيَّة الغربيَّة ظلَّ موصولاً بحبل متين مع الفلسفة الأُولى، أخذ عنها كلَّ شيء ليستقرَّ أمره علىٰ دروس المعلِّم الأوَّل، ولـمَّا يفارقه قطُّ سحابة خمسة وعشرين قرنًا خلت.

*   *   *

 

(14)

ديفيد هيوم كمثال لمعضلة التنوير

حضارة الشكِّ

 

بهاء درويش[1]

 

يُمثِّل القرن الثامن عشر، تاريخيًّا، ما يُعرَف بالتنوير الغربيِّ[2]، وإنْ كان القرنان السادس عشر والسابع عشر قد مهَّدا له باكتشافاتهما العلميَّة وأفكارهما الفلسفيَّة. ويمكن إجمال الملامح العامَّة للتنوير بأنَّها الإيمان بسلطتَيْ العقل والعلم، والإعلاء من شأنهما، ورفض سلطة الكنيسة علىٰ الفلسفة والعلم.

هذا التنوير يفخر - من ضمن ما يفخر - بأنَّ أحد منجزاته هو التمييز بين المعرفة البشريَّة العقليَّة - نتاج العلم والفلسفة - والمعرفة الدِّينيَّة الدوغماطيقيَّة التي كانت تُملَىٰ علىٰ العقل إملاءً مسبَّبةً إلغاءه. أمَّا المعرفة المقبولة فهي تلك التي توصَّل إليها العقل البشريُّ بنفسه فحسب. فإذا كان رينيه ديكارت يُعَدُّ أحد أقطاب التنوير لهجومه علىٰ الافتراضات السكولائيَّة الأُرسطيَّة التي سادت لفترة طويلة من الزمن مشكِّلة عائقًا أمام تطوُّر العلم، فإنَّ منهجه في الشكِّ ساهم بشكل فعَّال في تقدُّم العلم الحديث. كما يُعَدُّ نسق باروخ سبينوزا أحد أُسُس الفكر التنويريِّ لإنكاره - اعتمادًا علىٰ البرهان الفلسفيِّ وحده - وجود مُتعالٍ، وتوحيده هذا

(15)

الوجود المتعالي مع الطبيعة، رافضًا الاعتماد علىٰ أيِّ علل أخيرة أو غائيَّة في التفسير. كذلك تُشكِّل ميتافيزيقا غوتفريد ليبنتز أحد أُسُس التنوير في ألمانيا لتعبيرها انطلاقًا من مبدأ السبب الكافي عن معقوليَّة الكون، والذي يُمثِّل أحد قناعات الفكر التنويريِّ. ولم يعنِ وصف عصر التنوير بأنَّه «عصر العقل» في مقابل «عصر الإيمان الدِّينيِّ» رفض المعرفة التجريبيَّة. فالعقل الذي يتحمَّس له التنويريُّون هنا - ليس مقصودًا به «العقل كمصدر للمعرفة»، وإلَّا لتمَّ رفض الحسِّ والتجريب كمصدَرين للمعرفة، ولكن المقصود به الحماسة والاعتماد علىٰ سائر ملكات العقل الإدراكيَّة. وإذا كان ديكارت يُعَدُّ مؤسِّس الاتِّجاه العقليِّ للتنوير، فإنَّ فرنسيس بيكون بكتابه «الأُورغانون الجديد» يُعَدُّ رائد التنوير في شقِّه التجريبيِّ. كذلك يُعتَبر كتاب جون لوك «مقالات في الفهم الإنسانيِّ» من النصوص المؤسِّسة للتنوير لاشتغاله برسم حدود المعرفة البشريَّة، ممثِّلاً بذلك لإبستمولوجيا تنويريَّة حديثة.

جدير بالقول: إنَّ من السِّمات الجوهريَّة التي يتَّصف بها الفكر التنويريُّ أيضاً هو أزمته مع سلطة الاعتقاد. يُمثِّل هذه السمة الفيلسوف الإنكليزيُّ دافيد هيوم خير تمثيل. بل يمكن القول: إنَّه فيلسوف الشكِّ في القرن الثامن عشر، شكّ في القدرة البشريَّة العقليَّة من حيث هي قدرة معرفيَّة، ولم يجد من تبرير للاعتقاد سوىٰ قوَّة العادة.

إلَّا أنَّ هيوم يُعبِّر عن معضلة أرىٰ أنَّ التنويريِّين وقعوا فيها - وهي الفرضيَّة الرئيسيَّة لهذه الورقة -: لـمَّا كان «الإنسان» كموضوع اهتمام وموضوع دراسة قد أصبح علىٰ قمَّة وعي التنويريِّين، وأصبح العلم أداة الدراسة لا المعرفة الدِّينيَّة الدوغماطيقيَّة مصدر المعرفة، كان من الطبيعيِّ أنْ يتَّجه العلم إلىٰ الدراسة العلميَّة للإنسان. وهنا نشأ التوتُّر الذي يمكن التعبير عنه علىٰ النحو التالي: إذا كانت قدرات العقل الإنسانيِّ التي وصل الإنسان بها إلىٰ الإنجازات العلميَّة قد جعلته يفخر ويعتزُّ بنفسه وقدراته، ويُوجِّه دراسته لنفسه هادفًا للوصول إلىٰ «علم للإنسان» -علىٰ النحو الذي أراده هيوم- يرىٰ أنَّ مكانه الطبيعيَّ أنْ يكون علىٰ قمَّة العلوم الأُخرىٰ، فإنَّ النتائج التي وصل إليها التنويريُّون عن الإنسان تقف علىٰ العكس تمامًا، ولا تُبرِّر فخر الإنسان بنفسه؛ إذ انتهت إلىٰ أنَّه كائن بلا روح، بلا جوهر نفسيٍّ، لا حرّيَّة للإرادة عنده، ولا ملكة غير طبيعيَّة للعقل لديه، وبالتالي لا تميُّز له عن غيره من الكائنات يوافق فخر الإنسان بقدراته.

(16)

يحاول هذا البحث تبيان أنَّ هيوم - كغيره من التنويريِّين - قد وقع - نتيجة هذا التوتُّر - في تناقض: لقد أراد  بكتابه «رسالة في الطبيعة البشريَّة»[1] 1739م تحديداً أنْ يدرس الإنسان مؤسِّسًا لما سمَّاه «علم الإنسان» جاعلاً منه أساس كلِّ العلوم أو حجر الأساس لكلِّ العلوم. ولكن إذا كان الإنسان علىٰ يديه لم يعد الكائن الذي يقع علىٰ رأس الكون، بل هو الكائن الذي لا جوهر روحيٌّ له أو حرّيَّة إرادة أو ملكة عقليَّة غير طبيعيَّة، الكائن غير القادر علىٰ تبرير اعتقاداته، أي إنَّه كائن طبيعيٌّ كسائر مخلوقات الطبيعة، فإنَّه بذلك قد محا كلَّ تمييز بينه وبين غيره من الكائنات، فلماذا يطلب لعلم الإنسان تميُّزًا وعلوًّا علىٰ غيره من العلوم، إذا كان هذا العلمُ علمَ كائنٍ لا تميُّز له عن غيره من الكائنات؟

عصر التنوير:

علىٰ الرغم من أنَّ التنوير يرتبط بأسماء مجموعة من المفكِّرين الفرنسيِّين البارزين الذين عاشوا في القرن الثامن عشر مثل فولتير ومونتسكيو، فإنَّه لم ينغلق جغرافيًّا وحدوديًّا علىٰ فرنسا؛ إذ مثَّله في اسكتلندا كلٌّ من فرانسز هاتشسون وآدم سميث وديفيد هيوم وتوماس ريد، ومثَّله في ألمانيا كلٌّ من  كريستيان وولف ومندلسون وليسنغ وكانط. وعلىٰ هذا النحو، امتدَّ عبر أُوروبا في القرن الثامن عشر. وهنا يُطرَح السؤال: ما الذي جمع هؤلاء المفكِّرين تحت مصطلح التنوير؟ والجواب أنَّ ما جمعهم هو اقتناعهم بضرورة تسليط الضوء علىٰ الكون وسُبُل الحياة، فتبدو الأُمور مختلفة تمامًا عمَّا كانت عليه في زمانهم. ولكن، من أين لهم هذا الضوء؟ هذا الضوء أقرب إليهم ممَّا يتصوَّرون، إنَّه العقل البشريُّ المستقلُّ، يكفي أنْ تؤمن بقدراته وتُعلي من سلطاته، لترىٰ الأُمور بقدراته وليس بالآخرين، عندئذٍ ستتخلَّص من سلطة الكنيسة علىٰ الفلسفة والعلم.

لا بدَّ من الإشارة إلىٰ أنَّ القرنين السادس عشر والسابع عشر قد مهَّدا  باكتشافاتهما العلميَّة وأفكارهما الفلسفيَّة لهذا التنوير، بل يمكن عدُّها نواة له. فلقد تمكَّنت الاكتشافات العلميَّة بهذا الضوء الذي سلَّطته من تغيير صورة العالم الطبيعيِّ من نموذج مُغلَق للعالم أرضيِّ المركز قدَّمه بطليموس، إلىٰ نموذج ثوريٍّ للعالم شمسيِّ المركز قدَّمه نيقولاس كوبرنيقوس ممثِّلة بذلك تغيُّراً في النموذج الإرشاديِّ علىٰ النحو الذي يعنيه توماس كون.

(17)

كما تمكَّنت الفلسفة من التخلُّص من تبعيَّتها للَّلاهوت والتفسيرات الدِّينيَّة لتصبح قوَّة مستقلَّة تستطيع أنْ تتحدَّىٰ الماضي وتبني ما هو جديد اعتماداً علىٰ مبادئها الخاصَّة[1]. يرتبط التنوير أكثر ما يرتبط بالفكر السياسيِّ حتَّىٰ إنَّ بعض مفكِّري السياسة يجدون في أفكار الإخاء والمساواة والحرّيَّة التي انتشرت من خلال فلاسفة السياسة في ذلك الوقت الوقود الذي أدَّىٰ إلىٰ اندلاع الثورات الثلاث: الثورة الإنكليزيَّة 1688م، الثورة الأميركيَّة 1775 - 1783م، ثمّ الثورة الفرنسيَّة 1789 - 1799م[2].

وإذا كان التنوير لم يرتبط مكانيًّا بفرنسا فحسب، فإنَّ فلاسفته لم يروا أنَّه يرتبط أيضاً بفترة زمنيَّة محدَّدة. فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يُعرِّفه بأنَّه التحرُّر البشريُّ من عدم النضج، أي عدم القدرة علىٰ الاعتماد الذاتيِّ في الفهم من دون معاونة الآخرين. هو يُحدِّده بأنَّه قدرة المرء علىٰ التفكير لذاته بذاته والاعتماد علىٰ قدراته العقليَّة في تحديد ما يؤمن به وكيف يسلك تجاهه. القوىٰ العقليَّة فحسب - وفقاً لفلاسفة التنوير - هي ما يمكن أنْ تُقدِّم لنا معرفة بالعالم الطبيعيِّ، وهي ما يُمثِّل السلطة المرشدة لنا في حياتنا العمليَّة فحسب[3].

لقد شهد عصر التنوير تغيُّرات واسعة في نظرة العلم الطبيعيِّ للكون، وفي انتشار العقلانيَّة. كما ظهرت نظريَّات أخلاقيَّة وسياسيَّة تُميِّزه وتُمثِّل خصائصه تختلف عن سابقاتها. كذلك امتدَّ التغيير إلىٰ الفكر الجماليِّ.

عصر التنوير - إذاً - هو عصر الثقة في العقل وفي قدراته الخاصَّة، معرفيًّا وعمليًّا.

هذا يُؤدِّي بنا إلىٰ السؤال التالي: إلىٰ أيِّ مدىٰ يمكن للقدرات العقليَّة - تلك التي نثق في قدراتها وفقاً لمقولات عصر التنوير - أنْ تُؤسِّس معرفتنا عن ذواتنا وعن الكون؟

الشكُّ في قدراتنا المعرفيََّة عند ديفيد هيوم:

لا بدَّ من القول: إنَّ ديفيد هيوم انتهىٰ من صياغة ما كان يريد أنْ يقوله وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. فقد وضع تفاصيل نظريَّته في الجزء الأوَّل من كتابه الأشهر

(18)

الذي سمَّاه «رسالة في الطبيعة البشريَّة». إلَّا أنَّ هذا الكتاب قُوبل بفتور وتجاهل شديدين. لقد شعر هذا الفيلسوف بإحباط شديد وهزيمة نكراء سببهما رعونته وتسرُّعه في الكتابة. من هنا قرَّر أنْ يعيد كتابة هذا المشروع بحيث يصيغ موضوعات كلِّ قسم من أقسامه الثلاثة في كتاب منفصل. بدأ بالجزء الأوَّل والخاصِّ بالإدراك العقليِّ فأخرجه في كتاب مستقلٍّ وأطلق عليه اسم «بحث في حدود الفهم الإنسانيِّ»[1]، وهو الكتاب الذي ترجمه إلىٰ العربيَّة د. موسىٰ وهبة تحت عنوان «مبحث في الفاهمة البشريَّة» ونشرته دار الفارابي في بيروت عام 2008م.

مصدر المعرفة:

لا يمكن - وفقاً لديفيد هيوم - أنْ يكون مصدر المعرفة سوىٰ الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار. هذه الانطباعات هي ما ينتج من تلقِّي أحد أعضاء الحسِّ لإحدىٰ خصائص الأشياء. أو بتعريفه «هي ما نُدركه حين نسمع ونرىٰ ونلمس ونُحِبُّ ونكره ونرغب ونريد»[2]. ولـمَّا كان بإمكاننا أنْ نستعيد بالذاكرة هذه الإدراكات، لا يمكننا أنْ نتذكَّرها بالوضوح والتوهُّج الذي كانت عليه أثناء إدراكنا لها. هذه الإدراكات الأقلُّ حيويَّة وقوَّة والتي تبقىٰ بعد زوال الأثر يُسمِّيها «الأفكار». وعليه، فإنَّ هذه الأفكار الأقلُّ حيويَّة والانطباعات الأكثر حياة وقوَّة هما فقط مصدر المعرفة، ولا مصدر لمعرفتنا سواهما. نعم، يستطيع عقلنا أنْ يتصوَّر أشياء لم تخطر في بالنا من قبل، ولكنَّها في الحقيقة لن تعدو تأليفًا وتركيبًا، زيادة وإنقاصًا لما تمدُّنا به الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار. هذه هي حدود قدرة الذِّهن الخلَّاقة، وليس أكثر. يمكنك أنْ تتخيَّل بالطبع جبلاً من ذهب، ولكن ليست هذه الفكرة سوىٰ فكرة مركَّبة من جبل، وذهب، وكلاهما أمران رأيناهما من قبل. يمكنك أنْ تتخيَّل حصانًا بجناحين، الفكرة أيضًا ليست سوىٰ تأليف من فكرتنا عن الطائر الذي رأيناه يطير، والحصان الذي رأيناه يصول. أضف إلىٰ هذا أنَّ فاقد إحدىٰ الحواسِّ لا يمكن أنْ تكون لديه الأفكار الخاصَّة بهذه الحاسَّة. هل يستطيع الضرير أنْ يُعطيك أفكارًا عن الألوان؟ أو يُعطيك الأصمُّ فكرةً عن الصوت؟

من المهمِّ الإشارة إلىٰ أنَّ الأفكار لا توجد في أذهاننا منعزلة أو بشكل منفصل، ولكنَّها تتداعىٰ في مخيَّلاتنا متىٰ كانت تتشابه، أي متىٰ استدعت فكرة ما يشبهها من أفكار عن طريق مبدأ تناسُب العنصر مع المجموع، أو متىٰ كانت تحكمها علاقة الجيرة المكانيَّة أو الزمانيَّة، أي

(19)

إنَّ فكرة ما تستدعي ما يتجاور معها من أفكار تنتمي إلىٰ السياق الزمانيِّ أو المكانيِّ نفسه[1]، أو الأثر، أي متىٰ كانت الصلة بينها وبين فكرة أُخرىٰ تُمثِّل علاقة العلَّة والمعلول.

إنَّ هذا الإصرار من قِبَل هيوم علىٰ القول: إنَّ معرفتنا تنحصر في الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار المركَّبة منها، دفعت به إلىٰ تجاوز كلِّ المذاهب التجريبيَّة الإنكليزيَّة التي بدأها فرنسيس بيكون ثمّ جون لوك ثمّ جورج باركلي والصعود بالتجريبيَّة إلىٰ قمَّتها. فهو لم يتابع جون لوك في رفضه للأفكار الفطريَّة التي يُولَد بها الإنسان فحسب، بل تابع أيضًا باركلي في رفض نظريَّة جون لوك في الأفكار المجرَّدة. ولم يتابع جون لوك في رفض الجوهر المادِّيِّ فحسب، بل أنكر أيضاً الاعتراف بوجود جوهر روحيٍّ للإنسان. وأكثر من هذا - وهو ما سنفصِّل فيه القول الآن - هو رفضه لتصوُّر العلِّيَّة وإمكانيَّة البرهان علىٰ تصوُّر اطِّراد الحوادث في الطبيعة اللذين يقوم عليهما الاستقراء العلميُّ.

تبرير الاعتقاد (علام يتأسَّس الاعتقاد؟):

إنَّ النقطة الأساسيَّة الجوهريَّة لتبرير الاعتقاد تبدأ من هنا، من هذه القسمة التي يُحدِثها هيوم بين ما سمَّاه «علاقات الأفكار» أي قضايا المنطق والرياضيَّات، و«الوقائع» أي القضايا التجريبيَّة. تنقسم موضوعات العقل البشريِّ - وفقاً له - إلىٰ قسمين: علاقات الأفكار، والوقائع. تندرج علوم الجبر والهندسة والحساب ضمن النوع الأوَّل، وقضاياها تكون يقينيَّة بإعمال الفكر وحده من دون الخضوع في شيء لما يوجد في العالم[2]. فالقضيَّة «مربَّع الوتر يساوي مجموع المربَّعين المُنشأين علىٰ الضلعين الآخرين»، هي قضيَّة نعتقد صدقها صدقاً يقينيًّا؛ لأنَّها تعبير عن العلاقة بين هذه الخطوط، فإذا قمنا بتعريف الجزء والكلِّ والمثلَّث والمربَّع والعدد والمساواة فإنَّ هذه القضيَّة تصدُق؛ لأنَّها تَلزم لزوماً ضروريًّا عن هذه التعريفات، بغضِّ النظر عن الوجود الواقعيِّ للمربَّع أو المثلَّث أو غيره[3]. أمَّا الوقائع - وهي القسم الثاني - فجميع التعليلات حولها تقوم علىٰ علاقة السبب والأثر. هذه التعليلات هي الأُخرىٰ وقائع. فإذا ما سمعنا مثلاً في الظَّلام صوتاً واضح اللفظ وحديثاً معقولاً، فإنَّنا نستنتج وجود إنسان. لماذا؟ لأنَّ ما سمعناه هو من آثار فعل الإنسان...

(20)

وهكذا. ولكن دعونا نتساءل: كيف نصل إلىٰ معرفة السبب والأثر؟ يُجيب هيوم بأنَّ الأسباب والمسبِّبات لا تُكتَشف بالعقل ولكن بالخبرة[1].

حريٌّ القول: إنَّ العلِّيَّة - وفق هيوم - هي تصوُّر أساسيٌّ في حياة الإنسان العادي. هذا الإنسان يدرك أنَّ بين النار والاحتراق أوالدفء علاقة علِّيَّة، وبين تناول الطعام والتغذِّي، أو بين سقوط الثلج والشعور بالبرودة، وما إلىٰ ذلك. العلِّيَّة - إذاً - مبدأ واجب التسليم به، يترتَّب علىٰ الشكِّ فيه اضطرابُ سلوك الإنسان. وهي أيضاً مبدأ أساسيٌّ في فلسفات أفلاطون وأُرسطو والمدرسيِّين؛ إذ كانوا يتساءلون عن علَّة الوجود والحركة والتغيُّر[2]. أمَّا ديكارت فلم يجعلها فكرة فطريَّة فينا فحسب، بل اشترط أيضاً أنْ يكون في العلَّة القدرة علىٰ إحداث المعلول[3]. من هنا، فإنَّ العلِّيَّة وفقاً للعقليِّين هي مبدأ فطريٌّ وضروريٌّ.

لم يأتِ هيوم ليُقوِّض اعتقاد الإنسان العاديِّ في العلِّيَّة، ولكن رفض القول بأنَّه مبدأ قبليٌّ أو فكرة فطريَّة، كما رفض القدرة علىٰ البرهان عليه؛ لأنَّ سائر معارفنا مصدرُها هو الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار. ولـمَّا كان كلُّ أثر حدث مستقلٌّ عن سببه، فلا يمكن اكتشافه في السبب علىٰ النحو الذي ارتآه ديكارت. إنَّ تحليل معنىٰ النار لا يتضمَّن في ذاته عنصر الدفء، وتحليل معنىٰ الخبز لا يتضمَّن معنىٰ التغذِّي. كلُّ ما هنالك تعاقب متَّصل من الأشياء، وحادث يتبع حادثاً. هذا هو ما نلاحظه فحسب.

لنفترض أنَّ إنساناً يتمتَّع بأقوىٰ ملكات عقليَّة وتأمُّليَّة حُمِلَ فجأةً إلىٰ هذا العالم، لا شكَّ في أنَّه سيلاحظ علىٰ الفور هذا التعاقب المتَّصل من الأشياء، والحوادث التي يتبع بعضها البعض. ولكنَّه سيكون عاجزًا عن اكتشاف أيِّ شيء آخر. سيكون في البداية عاجزًا عن بلوغ فكرة السبب والأثر، بأيِّ تعليل؛ لأنَّ القدرات الخاصَّة التي بها تُؤدّىٰ جميع الأعمال الطبيعيَّة لا تظهر بالحواسِّ، وليس من المعقول أنْ يُستَخلص، فقط لأنَّ حادثاً سبق حادثاً في حالة واحدة، أنَّ الواحد سبب والآخر أثر؛ إذ قد يكون ترافقهما عارضاً. ولكن لنفترض أنَّ هذا الإنسان اكتسب خبرةً أكبر وعاش في العالم ما يكفيه لملاحظة الترافق الثابت للأشياء. لن تكون نتيجة هذه الخبرة سوىٰ استدلاله وجود شيء من ظهور آخر، ولكنَّه لن يكتسب من خبرته أيَّ فكرة أو معرفة عن القدرة الخفيَّة

(21)

التي بها يُحدِث شيءٌ شيئاً آخر. ولكنَّه مع هذا سيجد أنَّه يتعيَّن عليه أنْ يخرج بالمبدأ الذي يُبرِّر هذه الخلاصة أو هذا التعاقب. ليس هذا المبدأ سوىٰ العادة أو التعوُّد. هذا المبدأ مبدأ من مبادئ الطبيعة البشريَّة مُعترف به ومعروف جيِّداً من آثاره. إنَّ ما يعيننا علىٰ توقُّع الواحد عند ظهور الآخر هو حكم العادة وحسب. هذا الفرض وفقاً لهيوم هو الوحيد الذي يجعلنا نتوقَّع في المستقبل سلسلة من الحوادث المشابهة لتلك التي ظهرت في الماضي. فالتعوُّد - إذاً - هو المرشد الأكبر للحياة البشريَّة، وهو المبدأ الوحيد الذي يجعل الخبرة نافعة لنا[1]. لتأكيد عدم وجود أيِّ ارتباط بين الحوادث سوىٰ الخبرة والتعوُّد علىٰ هذا الاقتران، ينفي هيوم فكرة وجود أيِّ ارتباط ضروريٍّ بين حوادث الطبيعة، ذلك أنَّه بالبحث عن هذه الفكرة في كلِّ المصادر التي يمكن أنْ تُستَمدّ هذه الفكرة منه، لن نكتشف سوىٰ تتالي حادثتين من دون القدرة علىٰ فهم أيِّ قوَّة أو قدرة تجعل السبب يعمل، أو أيِّ اقتران بينه وبين أثره المفترض.

هل نجد في داخلنا فكرة عن الضرورة؟

يمكننا ملاحظة أنَّ حركة البدن تتبع إرادة الذِّهن، لكنَّنا نعجز عن مشاهدة الرابط الذي يُوحِّد ما بين الحركة والإرادة، أو حتَّىٰ عن تصوُّره أو مشاهدة القوَّة التي تسمح للذِّهن بإحداث هذا الأثر. وليست سلطة الإرادة علىٰ ملكاتها الخاصَّة وأفكارها أكثر قابليَّةً للفهم في شيء، إلىٰ حدِّ أنَّه لا يظهر في الطبيعة أيُّ مثال علىٰ الاقتران يمكن تصوُّره. ولـمَّا كان لا يمكن أنْ يكون لدينا فكرة شيء لا يظهر أبداً لحواسِّنا الخارجيَّة أو لحسِّنا الباطنيِّ، فإنَّه ليس لدينا علىٰ الإطلاق أيُّ فكرة عن الاقتران أو القدرة. فهذه ألفاظ لا دلالة لها علىٰ الإطلاق في التعليلات الفلسفيَّة أو حتَّىٰ في الحياة العاديَّة. تتولَّد فكرة الاقتران الضروريِّ بين الحوادث - إذاً - من عدد من الحالات المتشابهة يكون فيها ترافق ثابت بين هذه الأحداث، بحيث يميل الذِّهن بعد تكرار هذه الحالات، بفعل العادة عند ظهور حادث ما، إلىٰ توقُّع الحادث الذي يصاحبه في العادة وإلىٰ الاعتقاد بأنَّه سيوجد[2].

ليست العلِّيَّة - إذاً - تصوُّرًا قبليًّا، ولكن أساسها أساس تجريبيٌّ، هو إدراك تتابُع حادثتين وتلازُمهما بصورة متكرِّرة أدَّىٰ إلىٰ تكوُّن عادة عن هذا الارتباط. هذه العادة هي ما كوَّنت لدينا تصوُّر العلِّيَّة. هذه العلِّيَّة ليست قانوناً ولكنَّها اعتقاد تبريرُه هو تكرار الحدوث ونشوء

(22)

تعوُّد علىٰ هذا التكرار أدَّىٰ بنا إلىٰ الاعتقاد فيه. وحتَّىٰ لو كانت قانوناً، فلن يزيدها ذلك قوَّةً، ولن يُعَدَّ ذلك تبريراً لها؛ لأنَّ سائر القوانين تستند إلىٰ مبدأ اطِّراد الحوادث في الطبيعة، وهو ما يُنكِره أيضاً هيوم، أو بمعنىٰ أدقٍّ يُنكِر إمكانيَّة تبريره:

في هذا السياق، يرىٰ هيوم أنَّ كلَّ عمليَّات الأجسام، بل وقوانين الطبيعة، لا تُعرَف إلَّا بالخبرة وحسب. ولكن إذا أردنا أنْ نذهب بتحليلاتنا إلىٰ أبعد من هذا ونسأل: ما هو أساس كلِّ الخلاصات المستمدَّة من الخبرة؟ يُجيب: أساسها هو الافتراض أنَّ المستقبل سيكون مطابقاً للماضي. ومحاولة التدليل علىٰ هذا الافتراض الأخير لا تعني سوىٰ الدوران في حلقة مُفرَغة.

من المعروف أنَّ البحث عن قوانين الطبيعة يفترض أنَّ حوادثها تسير بشكل مطَّرد وإلَّا ما كانت هناك قوانين تحكم ظواهرها يمكننا الوصول إليها أو اكتشافها. هذا المبدأ المفترض والمسلَّم به يُطلَق عليه مبدأ «اطِّراد الحوادث في الطبيعة»، وهو أحد مبدأي الاستقراء إلىٰ جانب مبدأ العلِّيَّة. هنا يرىٰ هيوم أنَّ أيَّ محاولة للبرهان علىٰ صدق هذا المبدأ لن تتمَّ من دون الوقوع في الدور؛ ذلك أنَّه لا يوجد ما يُبرِّر هذا المبدأ سوىٰ افتراض أنَّ المستقبل سيكون مطابقاً الماضي، وهو ما يعني أنَّ المبدأ يتمُّ تبريرُه بالمبدأ نفسه، وهو ما يعني أيضاً أنَّ الخبرة وحدها - أي توقُّع المستقبل علىٰ نحو ما - هي ما تضمن صدق القوانين.

موقف هيوم من حرّيَّة الإرادة (إنكار حرّيَّة الإرادة):

إنَّ الخلاف بين الناس حول الموقف من الحرّيَّة والضرورة - وفقاً لهيوم - هو خلاف قديم، سببُه عدم وجود تعريفات دقيقة للألفاظ التي يستخدمونها، وأنَّه لو اهتمَّ الجميع بوضع هذه التعريفات لظهر لهم أنَّهم علىٰ اتِّفاق بشأن هذا الأمر.

هل الاطِّراد الذي رأيناه قائمًا في حوادث الطبيعة قائم أيضًا في الأفعال البشريَّة؟ يُجيب هيوم: إنَّ ترافق الدوافع والأفعال الإراديَّة لا يختلف عن ترافق السبب والأثر المصادف في كلِّ أجزاء الطبيعة. كما أنَّه بمثل اطِّراده[1]. وهو يُدلِّل علىٰ ذلك كالتالي: نقرُّ جميعاً بأنَّ هناك كثيراً من الاطِّراد في الأفعال البشريَّة في جميع الأُمَم والعصور، وأنَّ الطبيعة البشريَّة واحدة في أفعالها ومبادئها. والدوافع عينها تنتج الأفعال عينها. فالطمع وحبُّ الذات والجشع والكبر والصداقة والكرم موجودة منذ بدء العالم، ولا تزال مصدر جميع الأفعال التي يقوم بها البشر.

(23)

فالتاريخ لا يُخبرنا بالجديد، وطباع الفرنسيِّين والإنكليز هي ذاتها طباع اليونانيَّين قديماً. من هنا كان بإمكان الخبرة المكتَسبة والمُعاشة طويلاً أنْ تكشف لنا عن صدق أو كذب من يروي لنا تصرُّفات معيَّنة للبشر.

ولكن هذا لا يعني أنَّ الاطِّراد في سلوكيَّات البشر يعني أنَّهم  كلَّهم  سيسلكون التصرُّف نفسه في الموقف نفسه، فعدم ثبات وعدم انتظام طباع الناس هو الطبع الثابت للطبيعة البشريَّة. فأقلُّ القرارات البشريَّة انتظاماً وتوقُّعاً سببه أنَّنا لا نعرف جميع الظروف الخاصَّة بالطِّباع.

ثمّ إنَّ جميع الناس في كلِّ المجتمعات في حاجة إلىٰ الناس. فأبسطهم يعرف أنَّ القضاء سيكفل له حماية حقوقه، ويتوقَّع عندما يحمل بضاعته إلىٰ السوق أنْ يجد مشترين. وبقدر المال الذي لديه يتوقَّع أنْ يحمل الناس علىٰ أنْ تمدَّه بحاجاته التي يريدها. وبقدر ما يُوسِّع الناس من تعاملاتهم يدرجون في مخطَّط حياتهم تنوُّعاً أكبر من الأفعال الإراديَّة التي يتوقَّعون أنْ تُسهم في مخطَّطهم الخاصِّ. وهم في ذلك يستمدُّون مقاييسهم من الخبرة السابقة علىٰ نحو ما يفعلون في تعليلاتهم حول الأشياء الخارجيَّة. ويعتقدون اعتقاداً راسخاً أنَّ البشر شأنهم شأن العناصر التي ستستمرُّ في عمليَّاته علىٰ نحو ما وجدوها عليه. فالصناعيُّ يعتمد علىٰ عمل عُمَّاله، تماماً مثلما يعتمد علىٰ الأدوات التي في يده، ويندهش فيما لو خابت توقُّعاته. علىٰ هذا النحو يتَّفق الناس جميعاً في ما يتعلَّق بالضرورة ولكنَّهم كانوا مختلفين في تعريف الألفاظ المستخدَمة[1].

الأخلاق في فلسفة ديفيد هيوم:

حتَّىٰ نفهم فلسفة الأخلاق عند ديفيد هيوم، علينا أنْ نعود إلىٰ مسرح أحداث الفكرالأخلاقيِّ في إنكلترا الذي عاصره. كانت تسود هذا المسرح الاتِّجاهات الآتية: نظريَّات الاهتمام بالذات[2]، يُمثِّلها خير تمثيل توماس هوبز، وبرنارد ماندفيل[3]، ثمّ العقلانيَّة الأخلاقيَّة

(24)

ويُمثِّلها صمويل كلارك[1]، وجون لوك[2]، وويليم ولستون[3]. ولقد دخل هيوم في حوارٍ فلسفيٍّ مع هذين الاتِّجاهين، وهو الحوار الذي بدأ في منتصف القرن السابع عشر وظلَّ حتَّىٰ نهاية القرن الثامن عشر، انتهىٰ منه بأنْ أصبح أبرز دعاة النزعة العاطفيَّة[4] مُتابعًا في ذلك لفرانسيز هاتشسون[5] وإنْ اختلفا في بعض التفاصيل كما سنرىٰ.

والواقع أنَّه خصَّص كتابه الأوَّل «رسالة في الطبيعة البشريَّة» للردِّ علىٰ العقليِّين مُتجاهلاً نظريَّة هوبز ومُعتبراً أنَّها انتهت، بينما عاد في كتابه «بحث في مبادئ الأخلاق» ليُخصِّصه للردِّ علىٰ نظريَّات الأنانيَّة مُعتبراً إيَّاها هدفه الأوَّل[6].

كان هيوم يعتبر صمويل كلارك خصمه الأساسيَّ من بين العقليِّين. وملخَّص رأي الأخير أنَّ العقل هو ما يمكن أنْ يُفسِّر كلَّ جوانب الأخلاق. به يمكننا أنْ نكتشف بصورة قبليَّة علاقات الملاءمة وعدم الملاءمة الأخلاقيَّة. فالامتنان هو الاستجابة الملائمة للطيبة، بينما الجحود هو الاستجابة غير الملائمة. والحدس العقليُّ الذي يرىٰ أنَّ الفعل ملائم هو ما يُحرِّكنا وما يُلزمنا. فالفعل الأخلاقيُّ ليس سوىٰ فعلٍ عقلانيٍّ[7].

العقل ليس مصدر التمييز بين الفضيلة والرذيلة:

يُخصِّص هيوم كتابه الثالث من «رسالة في الطبيعة البشريَّة» لعرض نظريَّته في الأخلاق. يبدأ الجزء الأوَّل بالحديث عن المعنىٰ العامِّ للفضيلة والرذيلة، ويطرح التساؤل التالي: إذا كان مصدر المعرفة هو الانطباعات الحسِّيَّة والأفكار، فهل نُميِّز بين الرذيلة والفضيلة اعتماداً عليهما؟ تُعلِّمنا الخبرة أنَّ التصوُّرات الأخلاقيَّة[8] تُؤثِّر في عواطفنا وأفعالنا، فواجباتنا الأخلاقيَّة

(25)

تحكم أفعالنا، والتزاماتنا تفرض علينا التزاماً تجاه الآخرين. فبما أنَّ للأخلاق تأثيراً علىٰ عواطفنا وأفعالنا، فلا يمكن أنْ تكون هذه التصوُّرات مشتقَّة من العقل. إنَّها تثير المشاعر وتُؤدِّي إلىٰ فعل ما أو تمنّعنا عنه. من هنا لم تكن قواعدها نتاج العقل[1]. لماذا؟ لأنَّ عمل العقل أنْ يكشف عن الصدق والكذب، والصدق والكذب هما الاتِّفاق أو عدم الاتِّفاق مع العلاقات الواقعيَّة بين الأفكار، أو مع الوقائع. ما لا يكون موضوعاً لهذا الاتِّفاق أو عدم الاتِّفاق، لا يمكن وصفه بصدق أو كذب، ولا يمكن أنْ يكون موضوعاً للعقل. ولا ينطبق هذا الاتِّفاق أو عدمه علىٰ الأفعال ولا العواطف، وبالتالي لا يمكن وصفها بالصدق أو الكذب أو اتِّفاقها أو عدم اتِّفاقها مع العقل. يمكن وصف الأفعال بالاستحسان أو الاستهجان، ولكن لا يمكن وصفها بالاتِّفاق أو عدمه مع العقل. وبالتالي لا يمكن أنْ تكون موضوعاً للعقل.

الفضيلة والرذيلة لا تُشتقَّان من أيِّ حسٍّ خُلُقيٍّ:

لـمَّا لم يكن العقل هو ما يُميِّز بين الفضيلة والرذيلة، فإنَّنا نُميِّز بينهما متىٰ أحدثا عاطفةً[2] ما تُمكِّننا من التمييز بينهما. قراراتنا حول الصحَّة أو المخالفة الأخلاقيَّة هي مدرَكات، هذه المدرَكات انطباعات نشعر بها ولا نحكم عليها، فالشعور أو الإحساس هو من الخفَّة بحيث نعتقد أنَّه فكرة أو نخلط بينه وبين الفكرة. إذاً، هي انطباعات، ولكن ما هي طبيعتها؟ ومتىٰ تعمل؟ الإجابة أنَّ الانطباع الذي يأتينا من الرذيلة يُنتِج شعوراً بعدم الراحة، والانطباع الذي يأتينا من الفضيلة هو انطباع مرحَّب به. إنَّ صحبة من نُحِبُّ ونصادق تُنتِج رضىً، كما أنَّ أشدَّ العقوبات هي أنْ نُجبَر علىٰ أنْ نحيا مع من نكره. قد تمنحنا قراءة إحدىٰ الروايات لحظات سعادة، ولكن انطباع السعادة هذا جاءنا من الفضيلة، مثلما يأتي انطباع الألم من الرذيلة.

الانطباعات - إذاً - التي من خلالها نعرف الخير من الشرِّ هي مشاعر السعادة والألم. لماذا نقول عن فعل أو عاطفة: إنَّه فاضل أو شرِّير؟ لأنَّ مظهره سبَّب لنا سعادةً أو ألماً من نوعٍ ما. لا تبرير يمكننا تقديمه لهذا الألم أو هذه السعادة التي أحسسنا بها سوىٰ بشرح الرذيلة أو الفضيلة. فلا معنىٰ للفضيلة سوىٰ الإحساس بالرضا. لسنا في حاجة للبحث عن علَّة الرضا. لا نقوم بأيِّ استدلال بأنَّ فعلاً ما فاضل لأنَّه أدخل علينا السرور، ولكن يكمن في إحساسنا أنَّ ما

(26)

يسرُّنا فعلاً هو الشعور بأنَّه فعل فاضل. الأمر نفسه ينطبق علىٰ كلِّ أحكامنا الخاصَّة بأشكال الجمال والتذوُّق المختلفة. المشاعر أو العواطف - إذاً - هي ما تنشأ منها تصوُّراتنا الأخلاقيَّة.

غنيٌّ عن القول: إنَّ هيوم لم يكن أوَّل من يذهب إلىٰ أنَّ تصوُّراتنا الأخلاقيَّة تنشأ من المشاعر أو العواطف، فلقد سبقه إلىٰ ذلك هاتشسون. لكنَّ الأخير رأىٰ أنَّ مصدر هذه المشاعر أو العواطف هو حسٌّ أخلاقيٌّ خُلقنا به يُسمِّيه «خاصِّيَّة أساسيَّة». نعم يتَّفق كلٌّ منهما علىٰ أنَّ أفكارنا أو تصوُّراتنا الأخلاقيَّة تنبع من العواطف، ولكنَّ هيوم يرفض ما ذهب إليه هاتشسون من أنَّ لدينا حسًّا أخلاقيًّا خلقه الله فينا - بالإضافة إلىٰ حواسِّنا الخارجيَّة - هو ما يجعلنا نستجيب بمشاعر القبول[1].

لا يمكن لفعل نحكم عليه بأنَّه فعل فاضل ما لم يكن هناك دافع فاضل أدَّىٰ بنا إلىٰ إحداث الفعل. قيمة الأفعال الفاضلة تُشتَقُّ من دوافع فاضلة، وتُعَدُّ هذه الأفعال علامات علىٰ هذه الدوافع. فالدافع - أو السبب - الفاضل هو ما يجعل الفعل فعلاً فاضلاً، بصورة مستقلَّة عن المعنىٰ الأخلاقيِّ الذي له. لا يمكن لفعلٍ أخلاقيٍّ أنْ يحدث من دون دافع أو عاطفة حرَّكته وأنتجته.

لنأخذ العدل مثالاً: لماذا أُعيد إلىٰ شخص ما مالاً اقترضتُه منه؟ حُبًّا في العدالة والأمانة؟ ولكن من أين جاء فهمي لهذه العدالة والأمانة؟ لا تكمن في الفعل بالطبع، ولكن في الدافع الذي أنتج الفعل.

لا يُمكننا التحجُّج بالقول: إنَّ الدافع الفاضل مطلب سابق للفعل الفاضل، وإنَّ الدافع للفعل هي الأمانة. يجب علىٰ الدافع أنْ يسبق مراعاة الفضيلة، فلا يمكن له ولمراعاة الفضيلة أنْ يكونا أمراً واحداً.

يجب إذاً أنْ نجد دافعاً لفعل الأمانة والعدل مستقلًّا عن مراعاتنا للأمانة. لو قلنا: إنَّ الدافع هو اهتمامنا بأُمورنا الشخصيَّة فهي الدافع العامُّ لكلِّ أفعال الأمانة، فإنَّ هذا يعني أنَّه متىٰ لم يعد هناك اهتمام شخصيٌّ ستختفي الأمانة. إنَّ حبَّ الذات يُؤدِّي إلىٰ عدم العدل والعنف. ولو قلنا: إنَّ المصلحة العامَّة هي الدافع للعدل، سنرىٰ أنَّ الارتباط بينهما ليس ارتباطاً طبيعيًّا وضعته الطبيعة فينا ولكن سيتمَّ ربطهما بالمواضعة والتعليم أي بعد أنْ يتكوَّن المجتمع ويصل إلىٰ درجة من الحضارة يعرف قيمة هذا الارتباط.

(27)

لم تقسُ الطبيعة علىٰ كائن مثل قسوتها علىٰ الإنسان، يتَّضح هذا بشكلٍ جليٍّ في كمِّ احتياجاته الضروريَّة التي عليه أنْ يأخذها منها، من مأكل وملبس ومسكن يقيه قسوة الطقس... إلخ. من هنا، فقد تعلَّم الإنسان مع الوقت أنَّ تكوين المجتمع سيساعده علىٰ توفير احتياجاته، بل وسيُنمِّي قدراته. ولكن الناس في مرحلتهم البدائيَّة لم يتمكَّنوا من التوصُّل إلىٰ معرفة قيمة التجمُّع وتكوين مجتمع في توفير احتياجاتهم. لقد عرفوا بداية الجنس، ثمّ الاهتمام بالنسل حُبًّا ورعايةً، وخبر الأطفال أيضاً أهمّيَّة هذا التجمُّع. ولكن الناس مع إدراكهم لأهمّيَّة التجمُّع والمجتمع، برزت لديهم عاطفة حُبِّ الذات والاهتمام بمصالحهم الشخصيَّة. من المستحيل أنْ تكون فضيلة العدالة قد نشأت بين الناس في مرحلتهم الأُولىٰ، أو أدركوا أنَّ الظلمَ وحُبَّ الذات رذيلة في هذه المرحلة. ولكن نشأ مفهوم العدالة عندما أدرك الناس أنَّ المميِّزات غير المحدودة من الوجود في مجتمع والمشكلات التي تُسبِّبها كثرة ما يمكن الحصول عليه من المجتمع في حاجة إلىٰ تنظيم يتَّفق عليه أعضاء المجتمع يُحقِّق لكلِّ أعضائه عدلاً في طريقة الحصول علىٰ هذه المميِّزات.علىٰ هذا النحو، يعرف كلُّ عضو من أعضاء المجتمع ما الذي يمكنه الحصول عليه بأمان، وما الذي يجب عليه أنْ يمتنع عن تناوله؛ لأنَّه من ممتلكات أو خصوصيَّات غيره.

هنا فحسب، بعد أنْ يعرف كلُّ عضو ما يمكن أخذه وما يجب أنْ يمتنع عنه، تنشأ أفكار العدل والظلم والحقِّ والملكيَّة والالتزام. مفهوم العدالة سابق علىٰ كلِّ المفاهيم الأُخرىٰ. ولا يمكن استخدام مفاهيم الملكيَّة أو الحقِّ من دون فهم معنىٰ العدالة.

نصل إلىٰ مفهوم العدالة - إذاً - بالملاحظة والخبرة. فالعدالة تنشأ من ملاحظتنا لبعض أهل الكرم وبعض محبِّي الذات. هذا المفهوم لم يأتِ من العقل أو من علاقات بين أفكار أبديَّة ومُلزِمة لكلِّ البشر من حيث إنَّهم بشر، لقد أسَّس البشر قواعد العدالة تحقيقاً لمصالحهم والمصلحة العامَّة. فالعدالة مفهوم تأسَّس علىٰ انطباعاتنا وعواطفنا وليس علىٰ أيِّ علاقة بين أفكار. هذه الانطباعات من خُلُق الإنسان وليست انطباعات طبيعيَّة من عقل الإنسان[1].

نظريَّة التعاطف:

ترتدُّ الخصائص الأخلاقيَّة - إذاً - لخاصِّيَّتَيْ الفضيلة والرذيلة، بمعنىٰ أنَّ أيَّ خاصِّيَّة عقليَّة تمنحنا رضىً أو حبًّا فهي خاصِّيَّة فاضلة، وكلَّ خاصِّيَّة تمنحنا قلقاً أو كراهيَّةً فهي رذيلة.

(28)

فالأفعال الخيِّرة أو الرذيلة علامة علىٰ خاصِّيَّة عقليَّة فاضلة أو رذيلة، الأفعال تعكس خصائص الشخصيَّة، إنْ فاضلة أو رذيلة.

ولكن ما منشأ هذه العواطف أو المشاعر؟ يسير هيوم بهذه العواطف أو المشاعر إلىٰ أنْ يصل إلىٰ ما يُسمِّيه «التعاطف»[1]. وهو ما يُفسِّر منشأ العواطف أو المشاعر، ليس التعاطف شعوراً، ولكنَّه الآليَّة التي تُفسِّر لنا كيف نشعر بما يشعر به الآخرون. ويحدث التعاطف في أربع خطوات: نعي أنَّنا جميعاً - أبناء البشر - نشترك في أنَّ لدينا مشاعر وعمليَّات عقليَّة (تشابه). فمتىٰ لاحظت تأثير عاطفة أو شعور ما في صوت وحركات وجه شخص ما (ملاحظة شعور)، فإنَّ ذهني يقفز سريعاً إلىٰ سبب أو أسباب هذا الصوت وحركات الوجه، وتتكوَّن لديَّ فكرة عمَّا يشعر به هذا الشخص. وبالعكس، متىٰ أدركت أسباب شعور ما، يقفز ذهني إلىٰ تأثيرات هذا الشعور وتتكوَّن لديَّ فكرة عن هذا الشعور. فالعاطفة التي يشعر بها الآخرون لا تأتي مباشرةً إلىٰ ذهني إلَّا متىٰ ظهر أمامي أسبابها وتأثيراتها (العلاقة العلّيَّة). ومن ثَمَّ يحدث تعاطفنا مع الآخر. هذا التعاطف يختلف شدَّةً وقوَّةً وفقاً لقرب أو بُعد صاحب العاطفة منِّي -صديقاً أو من عائلتي أو جاراً لي- (علاقة الجوار).

إنَّ الميزة التي يتَّصف بها تفسير هيوم للمشاعر - بردِّها إلىٰ التعاطف - عن تفسير هاتشسون بأنَّ لدينا حسًّا أخلاقيًّا خلقه الله فينا هو أنَّ هذا التفسير مكَّنه من تقديم نظريَّة موحَّدة في العقل. فالمشاعر والعواطف الأخلاقيَّة يُفسِّرها التعاطف والذي بدوره يُفسِّره استناداً إلىٰ مبادئ الترابط[2] (الخطوات الأربع السالفة الذكر) التي فسَّر بها الاعتقادات العلِّيَّة. فلولا التعاطف ومبادئ الترابط التي تُفسِّره، لكنَّا مخلوقات غير ما نحن عليه، أي مخلوقات لا أفكار علِّيَّة أو خُلُقيَّة لديها[3].

موقف هيوم من نظريَّات الاهتمام بالذات:

قلنا: إنَّ هيوم بعدما حدَّد موقفه من العقليِّين في «رسالة في الطبيعة البشريَّة» في إطار

(29)

وضع تصوُّره الأخلاقيِّ، عاد بعدها يُحدِّد موقفه من نظريَّات الاهتمام بالذات وخصوصاً توماس هوبز، وذلك في كتابه «بحث في مبادئ الأخلاق» الصادر لأوَّل مرَّة في 1751م.

يناقش هيوم في الجزء الثاني من الكتاب سبب قبولنا الصفات الأخلاقيَّة «الإحسان»[1]، والإنسانيَّة والروح العامَّة[2]. يرىٰ أنَّنا نقبلها؛ لأنَّها تفيد الآخرين والمجتمع، وليس لأنَّها تُحقِّق سعادة خاصَّة لنا. الإنسان «المحسن» يضفي حُبًّا وسعادةً علىٰ كلِّ من حوله، يشعر والداه بمدىٰ رعايته الاستثنائيَّة لهما، وأبناؤه بميزة كونه أباً لهم، وهو يُطعِم الجائع ويكسو العريان ويمنح الجاهل علماً. فهو كالشمس تضفي دفئاً علىٰ كلِّ ما تسطع عليه[3]. في الجزء الثالث يُؤكِّد علىٰ ما كان قد ذهب إليه في «الرسالة» أنَّنا نقبل العدالة لفائدتها للمجتمع. كذلك الأمر بالنسبة إلىٰ الولاء السياسيِّ، فهي صفة أخلاقيَّة مقبولة؛ لأنَّها مفيدة للمجتمع، إذ تساعد علىٰ حفظ النظام والسلام بين أفراد المجتمع[4].

يعترف هيوم بأنَّ حبَّ الذات مبدأ موجود في الطبيعة البشريَّة، وأنَّ المصلحة الشخصيَّة ترتبط بمصلحة المجتمع، لذا كان من الممكن أنْ يعذر هؤلاء الفلاسفة الذين تخيَّلوا أنَّ اهتمامنا بمصلحة المجتمع مردُّه أنَّه يُحقِّق سعادتنا الخاصَّة، لولا أنَّ هناك أمثلة قويَّة تبرهن علىٰ العكس، تضطرُّنا لرفض إرجاع العواطف الأخلاقيَّة لحُبِّ الذات. ألسنا نحزن لموت شخص ما حتَّىٰ لو لم يُؤثِّر موته علينا؟ ألَّا يُضحِّي الآباء كثيراً بمصلحتهم من أجل مصلحة أبنائهم؟ ألا تهتمُّ الحيوانات وتعتني بالحيوانات المشتركة معها في النوع نفسه؟ هذه الأمثلة وغيرها كثير علىٰ حدِّ قوله دليل علىٰ أنَّ تعاطفنا مبدأ موجود في الطبيعة البشريَّة[5]، وأنَّنا لا يمكن أنْ نتجاهل مصلحة المجتمع.

يرىٰ هيوم أنَّ صوت الطبيعة والخبرة هما ما يبرهنان علىٰ خطأ رأي هوبز. إذا جعلنا مبرِّر قبولنا أو عدم قبولنا للصفات الأخلاقيَّة التي يتمتَّع بها الآخرون أنَّها ذات نفع أو ضرر لنا، فلن نتمكَّن من الحكم علىٰ الصفات الأخلاقيَّة لأُولئك الذين يحيون بعيداً عنَّا؛ لأنَّهم لن يؤثِّروا فينا

(30)

سلباً أو إيجاباً. قبولنا للصفات الأخلاقيَّة التي يتحلَّىٰ بها الآخرون سببها ليس فائدتها لنا، ولكن لأنَّنا نتعاطف مع المنافع التي يُقدِّمونها لغيرهم وللمجتمع. الأمر نفسه يتعلَّق بالصفات مثل «النشاط»، وهي الصفة التي تجعله مفيداً لنفسه، و«البهجة» أي يكون شخصيَّة مبهجة وليس كئيباً، وهو ما يجعله مقبولاً لنفسه، ثمّ «الأدب» وهو ما يجعله مقبولاً للآخرين. يرىٰ هيوم أنَّنا نقبل سائر هذه الصفات للأمر نفسه، وهو أنَّنا نتعاطف مع المنافع التي تُحقِّقها للآخرين.

الخاتمة:

ما زالت فلسفة هيوم مَعين دراسة كثير من المعاصرين إمَّا للاهتداء بها أو تطويرها أو تعديلها، وإنَّ من يعدُّ نفسه للثورة علىٰ هذه الفلسفة في كلِّها وتفاصيلها يشعر أنَّه أمام عدوٍّ ضخم ويحتاج للنصر عليه إلىٰ سلاح نادر[1].

إلَّا أنَّ هذا لم يمنعه من الوقوع في بعض التناقضات. فعلىٰ سبيل المثال نرىٰ أنَّه لم يتمكَّن من البرهان علىٰ عدم وجود حرّيَّة الإرادة لدىٰ الإنسان، ذلك أنَّه إذا كان يجد تماثُلاً بين الترابط بين دوافع وأفعال الناس والترابط الذي يُفسِّر اطِّراد الطبيعة، فإنَّ هذا لا يكفي لأنْ يستدلَّ منه علىٰ إنكار حرّيَّة الإرادة؛ لأنَّه في قوله بالاطِّراد في الطبيعة، لم يُنكِر ولم يقبل وجود قوىٰ مسؤولة عن هذا الارتباط، ولكنَّه رفض القول بمعرفتنا لها فحسب. وإنَّ ارتباط الدوافع بالأفعال الإراديَّة بالمثل لا يعني إنكاراً أو إثباتاً لوجود ارتباط، وبالتالي فهو علىٰ هذا النحو لم يبرهن علىٰ عدم وجود الإرادة.

أمر آخر: هل أسَّس هوبز بالفعل أخلاقه علىٰ حبِّ الذات أو المصلحة الشخصيَّة؟ هذه النقطة في حاجة إلىٰ توضيح.

بداية، من الصعب أنْ نفصل فلسفة هوبز الأخلاقيَّة عن فلسفته السياسيَّة. يتحدَّد واجبنا -وفقاً لهوبز- بالحالة التي نكون عليها. متىٰ كنَّا في حالة الطبيعة، فمن حقِّنا أنْ نحمي أنفسنا بأيِّ وسيلة نراها. ومتىٰ كانت هناك سلطة سياسيَّة، فمن واجبنا طاعتها. ولكن من الممكن مع هذا أنْ نفصل الأخلاق عن السياسة؛ إذ تختصُّ الأخلاق عند هوبز بطبيعة الإنسان، وتختصُّ السياسة بما يحدث متىٰ تفاعل الناس مع بعضهم البعض.

(31)

ولكن ما هي طبيعة الإنسان هذه والتي تختصُّ بها الأخلاق؟ يرىٰ هوبز أنَّ الطبيعة البشريَّة تدلّ على أنَّ الإنسان محتاج وضعيف، وغالباً ما تكون أحكامه العقليَّة خاطئة، فقدراته في الأحاجيج بقدر ضعفه في المقدرة علىٰ المعرفة. أفعاله تغلب عليها الأنانيَّة، أو ناتجة من جهل مردُّه إلىٰ تبريرات عقليَّة خاطئة أو فهمٍ دينيٍّ فاسد، أو اختيارات عاطفيَّة نتيجة عبارات حماسيَّة[1].

هذا الإنسان ليس أمامه سوىٰ أنْ يعيش ما سمَّاه هوبز «الحالة الطبيعيَّة للبشريَّة»، أو أنْ يحيا تحت سلطة سياسيَّة لا يحاسبها أبناء المجتمع لضعفهم الذي أسلفنا شرحه. الحالة الأُولىٰ وفقاً لهوبز حالة لا يتمنَّاها أحد. لماذا؟ لأنَّ الطبيعة أعطت الإنسان ليس الحقَّ في أنْ يفعل كلَّ ما يستطيع لحفظ نفسه فحسب، ولكن أعطته أيضاً الحقَّ أنْ يحكم علىٰ ما يحفظ له حياته، أي يختار الوسيلة والفعل الذي يرى أنَّه يحفظ له حقَّه. وبالتالي فقد أحكم في ظلِّ ضعف قدراتي علىٰ الحكم الصواب أنَّ ما يحفظ حياتي هو قتلك، وقد تجد بالمثل في ظلِّ ضعف قدراتك علىٰ الحكم أنَّ ما يحفظ حياتك هو قتلي، لا أحد يملك معيار الصواب والخطأ، بل لا مكان في هذه الحالة التي هي حرب الجميع ضدَّ الجميع لما هو صواب وخطأ، عدل أو ظلم. للكلِّ الحقُّ في الحكم علىٰ الكيفيَّة التي يحمي بها حياته. هذه الحالة الطبيعية «يجب» تجنُّبها.

ولكن السؤال هنا، ما الذي عناه هوبز بـ «يجب»؟ هذه الـ «يجب» قد تعني أحد معنَيين: الأوَّل «قاعدة عامَّة» مفادها أنْ نتجنَّب حالة الطبيعة هذه إذا أردنا أنْ نتجنَّب الموت العنيف. ولكن هذه النصيحة لن تنطبق علينا إلَّا إذا كان هناك اتِّفاق بيننا أنَّ تجنُّب الموت العنيف هو أقصىٰ ما يمكن أنْ نخافه ولهذا يجب تجنُّبه، وإلَّا إذا اتَّفقنا علىٰ أنَّ البديل هو سلطة لا نحاسبها ولكن نخضع لها تقف بيننا وبين هذه الحالة من الطبيعة.

وقد يكون المعنىٰ الثاني الذي أراده هوبز أنَّ علينا إلتزاماً أخلاقيًّا بألَّا نجعل هذا الموقف ينشأ أو أنْ ننهيه متىٰ وُجِدَ. ولكن السؤال الذي ينشأ من هذا التفسير الثاني هو: لماذا هذه الالتزامات؟ وما الذي جعلها التزامات إجباريَّة أو إلزاميَّة؟ ما جعلها إجباريَّة وفقاً لهوبز هو أنَّها صادرة عمَّا أسماه القانون الطبيعي: القوانين الطبيعيَّة قوانين يكتشفها

(32)

العقل وتُوجِّه سلوكنا. هذه القوانين ليست قواعد أخلاقيَّة دينيَّة[1]. يُعدِّد هوبز تسعة عشر قانوناً، يهمنا منها القانون الأوَّل الذي نصُّه: ينبغي علىٰ كلِّ إنسان أنْ يسعىٰ جاهداً لتحقيق السلام بمقدار ما يأمل في بلوغه، وعندما لا يتمكَّن من بلوغه فمن حقِّه أنْ يستخدم كلَّ ما تُقدِّمه له الحرب من مزايا[2].

ما يحاول هوبز بيانه هنا هو تفسير الانتقال من حالة الطبيعة هذه إلىٰ المجتمع المدنيِّ ولكنَّه، وفقاً لبعض التفسيرات، لم يتمكَّن، وجاء عرضه غير واضح وأدَّىٰ إلىٰ صعوبات. علىٰ سبيل المثال: إذا كانت حالة الطبيعة سيِّئة علىٰ النحو الذي عرضه هوبز، فكيف يمكن لأعضاء هذا المجتمع الذي صوَّرهم في هذه الحالة البدائيَّة أنْ تجلس وتتَّفق علىٰ هذا الشكل الحضاريِّ للخضوع لسلطة سياسيَّة، أو أنْ تُنفِّذ هذا الشكل من السلطة السياسيَّة؟ وهل كان من الممكن لهذه السلطة السياسيَّة كما تصوَّرها هوبز أنْ تعمل متىٰ كان دافع الناس هو فقط حُبَّ الذات؟ وهو ما كان واضحاً أنَّه علىٰ وعي به.

لقد خلص هوبز إلىٰ أنَّ السلام هو المقصد والمُراد، كما خلص إلىٰ أنَّ النظام المدنيَّ[3] هو في مصلحتنا الشخصيَّة كمتحضِّرين، وهو في الوقت نفسه قيمة أخلاقيَّة. متىٰ أدركنا هذا الجانب من المصلحة الشخصيَّة لكلِّ شخص، سنُدرك القيمة الأخلاقيَّة لدعم السّلطة التي نخضع لها. هذه القيمة تتجاوز أيَّ تهديد لمصلحتنا الشخصيَّة باستثناء الموت[4]. علىٰ هذا النحو يمكننا القول: إنَّ تفسير أخلاق هوبز بردِّها تماماً إلىٰ حُبِّ الذات لا يخلو من تبسيط مخلٍّ.

فإذا ما وصلنا إلىٰ الفرض الأساسيِّ الذي بنينا عليه ورقتنا هذه، فعلىٰ الرغم من أنَّه يصدق القول: إنَّ ديفيد هيوم كان خير مُعبِّر عن التوتُّر الذي أصاب الفكر التنويريِّ، التوتُّر الناجم عن الفخر بقدرات وملكات الإنسان التي حقَّق بها الإنجازات العلميَّة التي حقَّقها. هذا من ناحية، والإحباط الذي أظهرته النتائج الفلسفيَّة والعلميَّة بأنَّ الإنسان ليس سوىٰ كيان طبيعيِّ كغيره من الكيانات، ولا يوجد ما يُبرِّر القول: إنَّه يقع علىٰ قمَّة الكون من ناحية أُخرىٰ. إلَّا أنَّ

(33)

هيوم عبَّر عن تناقض واضح حين هدف إلىٰ بناء علم للإنسان يكون علىٰ رأس العلوم الأُخرىٰ من حيث أنَّها نتاج للإنسان وتعبير عن قدراته وملكاته العقليَّة، ومن الطبيعيِّ أنْ يأتي هذا العلم ليضع الإنسان في المكانة العليا التي يستحقُّها، ثمّ انتهىٰ بالشكِّ في العقل كمصدر للمعرفة، وردِّ الاعتقاد إلىٰ قوَّة العادة وإنكار حرّيَّة الإرادة إلىٰ صورة للإنسان لا تجعل منه الكائن الذي تمنَّاه - علىٰ قمَّة نظام العالم - ولكنَّه لا يختلف عن أيِّ كيانٍ طبيعيٍّ آخر، وبالتالي لا يوجد ما يُبرِّر من جعل العلم الذي يدرس الإنسان رأس العلوم الأُخرىٰ.

*   *   *

 

(34)

المصادر:

أوَّلاً: المراجع العربيَّة:

1. ديفيد هيوم، مبحث في الفاهمة البشريَّة، ترجمة: د. موسىٰ وهبة، دار الفارابي، الطبعة الأُولىٰ، 2008م.

2. زهير الخويلدي، نقد فكرة السببيَّة عند ديفيد هيوم، مجلَّة اتِّحاد كُتَّاب الإنترنت المغاربة.

3. محمّد مهران، تطوُّر الفكر الأخلاقيِّ في الفلسفة الغربيَّة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998م.

4. محمود فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلميِّ، دار الجامعات المصريَّة، 1977م.

ثانياً: المراجع الأجنبيَّة:

5. Bristow, W. “Enlightenment”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta ed.

6. Hume, D,  A Treatise of Human Nature. The Project Gutenberg Ebook.  

7. Hume, D ,   An Inquiry Concerning the  Principles of Morals, A 1912 Reprint of the Edition of 1777.

8. Morris, William Edward and Brown, Charlotte R.,  David Hume,  The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2019 Edition), Edward N. Zalta ed.

9. Skirry, J. Rene Descartes, in Internet Encyclopedia of Philosophy.

10. Williams, G. Thomas Hobbes: Moral and Political Philosophy. Internet Encyclopedia of Philosophy. in.

*   *   *

(35)
(36)

هل يمكن للشكَّاك أنْ يعيش شكَّه؟

بحث في أثر الفكرة على نفس صاحبها[1]

 

مايلز فريدريك بورنيت[2]

 

يعرض الرواقيُّ أو الأبيقوريُّ مبادئ قد لا تكون ثابتة فحسب، بل يكون لها تأثير علىٰ التصرُّف والسلوك، لكنَّ البيرونيَّ[3] [نسبة إلىٰ بيرو أو بيرون مؤسِّس مذهب الشكِّ] لا يستطيع أنْ يتوقَّع أنْ يكون لفلسفته أيَّ تأثير ثابت علىٰ العقل، أو علىٰ الأقلّ لا يتوقَّع أنْ يكون تأثيرها مفيداً للمجتمع في حال كان لها تأثير ما. وعلىٰ العكس فإنَّ عليه أنْ يعترف - إذا اعترف بشيء - أنَّ حياة البشر محكومةٌ بالفناء؛ حيث ستسود مبادؤه باطِّراد وفي كلِّ مكانٍ، وعندها ستتوقَّف جميع الخطابات وجميع الأفعال، وسيبقىٰ البشر في حالة من سباتٍ كلّيٍّ، حتَّىٰ تضع الضرورات الطبيعيَّة - غير راضية - حدًّا لوجودهم البائس. صحيح أنَّ هذا الحدث الفتَّاك أصغر بكثير من أنْ يُخشىٰ؛ فالطبيعة دائماً في غاية القوَّة من أجل المبدأ، وعلىٰ الرغم من أنَّ البيرونيَّ يمكن أنْ يُلقي بنفسه أو بالآخرين في إرباك وذهول مؤقَّت من خلال تفكير عميق؛

(37)

إلَّا أنَّ الحدث الأوَّل والأقلّ أهمّيَّة في الحياة سيطيح بكلِّ الشكوك والوساوس، ويتركه كما هو في جميع مراحل الفعل والتأمُّل مع فلاسفة الطوائف الأُخرىٰ، أو مع الذين لم يُشغِلوا أنفسهم في أيِّ أبحاث فلسفيَّة، ثمّ عندما يستيقظ من حلمه، سيكون أوَّل المشاركين في الضحك علىٰ نفسه، وسيعترف بأنَّ جميع اعتراضاته ما هي إلَّا لهو، ولا يمكن أنْ يكون له ميل غير إظهار الحالة النزويَّة للبشر الذين يجب أنْ يفعلوا ويُفكِّروا ويؤمنوا؛ رغم أنَّهم عاجزون من خلال التحقيق الأكثر جدّيَّة، عن إرضاء أنفسهم فيما يتعلَّق بأُسُس هذه العمليَّات، أو عن إزالة الاعتراضات التي يمكن أنْ تثار ضدَّهم[1].

سأبدأ بهيوم، من الاختلاف مع التأثير الجوهريِّ للشكوكيَّة البيرونيَّة علىٰ الفكر الحديث بعد إعادة اكتشاف مؤلَّفات سكستوس أمبريكوس[2] ونشرها في القرن السادس عشر[3]، حيث إنَّ هيوم شديد الوضوح في المسائل الفلسفيَّة التي أتمنَّىٰ مناقشتها من حيث صلتها بـ سكستوس أمبريكوس. البيرونيَّة هي المحاولة الجدّيَّة الوحيدة في الفكر الغربيِّ لحمل الشكوكيَّة إلىٰ أبعد حدودها والعمل وفقاً لنتائجها، فقد كان السؤال عن إمكان هذا الأمر، أو حتَّىٰ عن تماسكه النظريِّ مورد نزاعٍ تامٍّ في العصور القديمة، وكان يُشكِّل بؤرة رئيسة لنقاش متجدِّد دام حوالي مئتي سنة قبل أنْ يكتب هيوم؛ لذا كان هدفي أنْ أعود إلىٰ هذه المجادلات القديمة وأدرسها من منظور الفهم العلميِّ الحديث لـ سيكتوس أمبريكوس.

خلفيَّة المقطع الذي اقتبسته هي ادِّعاء هيوم الشهير بأنَّ طبيعتنا تمنعنا من الاستنتاج ومن التشبُّث بالمعتقدات التي لا يمكن الدفاع عنها مقابل الاعتراضات الشكوكيَّة. وكان يميل بشكلٍ خاصٍّ للاعتقاد بوجود الأجسام الخارجيَّة وبالاستدلال السببيِّ، كما كان لديه هدف خاصٌّ من إظهار أنَّ الدفاع عن ذلك بطريقة عقليَّة غير ممكن. لكن الكشف عن اعتراضات الشكوكيِّين لن يمنعنا من الانغماس في الاعتقاد والاستدلال؛ إذ لا يبدو أنَّنا نستدلُّ ونتمسَّك بالاعتقادات بقوَّة المبرِّرات التي تُبيِّنُ حججُ الشكوكيِّين عدمَ كفايتها؛ لأنَّه عندما يكون الاعتقاد أو العمل مرتكزاً علىٰ مبرِّرات، فإنَّه سيتمُّ التخلِّي عنه عندما تكون المبرِّرات باطلة. ونظراً لأنَّنا

(38)

لا نتخلَّىٰ عن الاستدلالات والاعتقادات مقابل الاعتراضات الشكوكيَّة الهائلة، فلا بدَّ من وجود عوامل أُخرىٰ فعَّالة في طبيعتنا غير العقل -لا سيّما العادة والخيال- التي يعود الأمر لها أكثر من عقلانيَّة الإنسان المتفاخرة، والتي تُعزىٰ إليها الاعتقادات والاستدلالات[1]. ثَمَّة وجهان لمدَّعىٰ هيوم في المقطع المقتبس:

أوَّلاً: أنَّ ما يُبطِله الشكَّاك عندما تنجح حججه، وبالتالي ما سوف يأخذه منَّا لو كان لهذه الحجج «تأثير ثابت علىٰ العقل»، ليس أقلّ من العقل والاعتقاد.

ثانياً: أنَّ ما يجعل مواصلة الشكِّ الجوهريِّ في أعمال الحياة العاديَّة مستحيلة هو أنَّ «الإنسان.. يجب أنْ يفعل ويُفكِّر ويعتقد». بيد أنَّ التعليق الموجز علىٰ كلِّ ادِّعاء من هذه الادِّعاءات سيُوفِّر بدوره سياقاً فلسفيًّا نُفكِّر خلاله بما كان يجب علىٰ سكستوس أمبريكوس أنْ يقوله دفاعاً عن مثاليَّته البيرونيَّة ودعوته إليها.

يُفهَم هدف الشكَّاكين في النقاشات المعاصرة في كثير من الأحيان بأنَّه معرفيٌّ أكثر منه اعتقاديّ، فقد استعملت الحجج الشكوكيَّة لإثارة أسئلة حول كفاية المرتكزات التي ندَّعي علىٰ أساسها المعرفة بالعالم الخارجيِّ، وبالعقول الأُخرىٰ، لكن في الحقيقة توجد بعض المشاكل المهمَّة التي حصلت من خلال هذه الوسائل التي لا تُعَدُّ من مشاكل الاعتقاد المنطقيِّ أو المعرفيِّ. ولا مبالغة في التبسيط إذا قلنا: إنَّه كلَّما كان عدم الكفاية الظاهر في أُسُس الادِّعاء المعرفيِّ، كلَّما صار الاعتقاد القائم علىٰ هذه الأُسُس أقلّ منطقيَّةً. فلنأخذ مثلاً تقليديًّا معروفاً، إذا تُبيِّن أنَّ أدلَّتنا الحسّيَّة في الواقع غير موثوقة، وأنَّ الاستدلالات التي اعتدنا أنْ نقيم عليها هذا الدليل غير مضمونة، فلن تكون العبرة المستخلصة الصحيحة أنَّنا لا ينبغي علينا أنْ ندَّعي معرفة هذه الأشياء علىٰ هذه الأُسُس فحسب، بل ينبغي علينا أنْ لا نُصدِّقها. لكن في الأحوال العاديَّة، حيث نعتقد أنَّنا ينبغي ألّا نعتقد أنَّنا لا نعتقد، فيحتاج الأمر إلىٰ ظروف خاصَّة لفهم الفكرة القائلة: إنَّ الإنسان يمكن أنْ يحتفظ باعتقاد رغم إدراكه الواضح بأنَّ اعتقاده لا أساس له؛ لذا إذا كانت الشكوكيَّة مقنعة، فيجب أنْ نقتنع، ويجب أنْ يكون لهذا تأثير جذريٌّ علىٰ بنيتنا الفكريَّة.

من الواضح أنَّ هيوم قدَّر هذا، فقد ضغط علىٰ البيرونيَّة ليس في مسألة الادِّعاءات

(39)

المعرفيَّة التي يتمُّ التخلِّي عنها بسهولة، بل في السؤال عمَّا إذا كان بمقدوره إيقاف التشبُّث بالمعتقدات التي تُبيِّن حججه أنَّها غير منطقيَّة. كما أنَّ سكستوس قدَّر الفكرة أيضاً. فقد كان الاعتراض القائل: إنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يعيش من دون اعتقادٍ مألوفٍ، وفعلاً أقدم بكثير من الحركة البيرونيَّة، نظراً لأنَّه يعود إلىٰ الزمن الذي جادل أثناءه أرسيسيلوس[1] في الأكاديميَّة للمرَّة الأُولىٰ، في البداية حثَّ علىٰ تعليق الحكم علىٰ كلِّ شيء[2]. وهكذا دافع سكستوس بالتحديد عن الفرضيَّة التي تحدَّىٰ هيوم البيرونيِّين أنْ يدافعوا عنها، وهي فرضيَّة أنَّه ينبغي أنْ يتخلَّىٰ عن معتقداته لمواجهة حجج الشكوكيِّين، وهو يقدر أنْ يتخلَّىٰ عن هذه المعتقدات، وخارج هذا التخلِّي المستمرِّ عن الاعتقاد اقترح أنْ يُقدِّم طريقة حياة. وكذلك مع تخلِّي البيرونيِّين عن العقل. وهذا أيضاً - وفقاً لسكستوس - ليس مرغوباً فقط، بل هو مستطاع، وخاضع للتعقيد القائل: إنَّ التخلِّي عن العقل هو ذاته ناتج عن البرهان، أي الإصغاء لصوت العقل، وبالتالي - وهنا أصل إلىٰ النقطة الثانية من الملاحظة - لا يملك هيوم حقَّ الافتراض بدون حجَّة استحالة العيش دون عقل واعتقاد. لا شكَّ أنَّ هذا يبدو استحالة واضحة، لكن سكستوس يدَّعي خلاف ذلك، فهو يرمي إلىٰ الحديث عن حياة تُعزِّز مدَّعاه. ويجب التحقُّق من هذا الحديث بالتفصيل قبل التسليم بمدَّعىٰ هيوم الدوغمائيّ القائل: إنَّ البيرونيَّ لا يستطيع أنْ يعمل وفقاً لشكِّه[3]. علينا أنْ نحاول أنْ نكتشف المعنىٰ الحقيقيَّ للحياة دون اعتقاد.

(40)

الاعتقاد، الصواب والوجود الحقيقيُّ:

يمكن أنْ نبدأ -كما يبدأ الشكَّاك نفسه- بالحجج. الشكُّ[1] يعني التساؤل والتمحيص، والشكُّ البيرونيُّ هو ممارسة متطوِّرة جدًّا للبحث الجدليِّ في المقام الأوَّل، وتتشكَّل وفقاً لعدد من النماذج والأساليب الجدليَّة. النماذج العشرة لإينسيديموس[2]، والنماذج الخمسة[3]، هي الأكثر بروزاً من بين النماذج، لكن هناك غيرها، وهي تتكرَّر بدرجة كبيرة من الانتظام الملحوظ عبر الصفحات في كتابات الشكَّاكين، وتصل دائماً إلىٰ النتيجة نفسها: الإبوخة[4]، يتعلَّق الحكم والاعتقاد. هذه النماذج الجدليَّة، مع هذه النتيجة، تُشكِّل جوهر الشكوكيَّة[5] كما عرَّفها سكستوس أمبريكوس في كتاب الخطوط العامَّة للبيرونيَّة[6]، إنَّها: «القدرة علىٰ إدخال الأشياء التي يمكن أنْ تظهر والأشياء التي يُفكَّر فيها في التعارض بأيِّ طريقة، بغية الوصول، بسبب تكافؤ قوَّة العناصر المتعارضة والمزاعم المتنافسة أوَّلاً إلىٰ تعليق الحكم، وبعدها إلىٰ الأتراكسيا[7] (الطمأنينة، والتخلُّص من الاضطراب)[8]. يرسم التعريف مسار الرحلة التي يقوم بها الشاكُّ مراراً انطلاقاً من تعارض الأفكار أو تنافرها إلىٰ تعليق الحكم فالطمأنينة[9].

تبدأ الرحلة عندما يُحقِّق في سؤال أو في حقلٍ بحثيٍّ ويجد أنَّ الآراء حول وجود الحقيقة متناقضة. المأمول من التحقيق، علىٰ الأقلّ في المراحل الأُولىٰ من سعيه للاستنارة، هو الوصول إلىٰ الطمأنينة، وذلك إذا استطاع اكتشاف الأُمور الصحيحة والخاطئة من المسألة وإعطاء تصديقه بالحقيقة[10] الصعوبة التي واجهها هي -كما وجد الشكَّاكون عبر العصور- أنَّ الأشياء في أيِّ مسألة تبدو بشكل مختلف لأُناس مختلفين وفقاً لظرف أو آخر من الظروف المختلفة، وهذا كلُّه مفهرس بتفصيل كبير في نماذج أنسيديموس العشرة. علينا أنْ نفهم - وأحياناً يذكر

(41)

هذا بصراحة[1] - بأنَّ الظواهر المتناقضة لا يمكن أنْ تكون متساوية في صوابيَّتها، أو في واقعيَّتها؛ لذلك يحتاج إلىٰ معيار للحقيقة كي يُحدِّد ما يقبله، لكن الشكَّاك بعد ذلك يجادل، وأحياناً بشيء من الإطالة، مؤكِّداً علىٰ عدم توفُّر معيار مقبول عقليًّا يمكن أنْ نثق به ونستخدمه، وهذا هو المرتكز الأساسيُّ الحقيقيُّ للمناقشة الذي يوازي محاولة الشكَّاك الحديث لإثبات أنَّنا لا نملك طريقة كافية لنُثبِت متىٰ تكون الأشياء كما تبدو في الواقع، وبالتالي لا يوجد ضمان كافٍ ضدَّ الأحكام الخاطئة. وبعد أنْ افترض إثبات الفكرة، تُرِكَ الشكَّاك مع الظواهر المتعارضة والآراء المتضاربة التي ترتكز عليها، عاجزاً عن إيجاد أيِّ علَّة لتفضيل أحد هذه الآراء علىٰ الآخر، وبالتالي توجُّه لمعاملتها جميعها بالقوَّة نفسها وباستحقاق القبول نفسه (أو عدم استحقاقه). لكنَّه لا يستطيع قبولها كلَّها بسبب تناقضها، وبالتالي فإذا كان لا يستطيع أنْ يقبلها كلَّها (بسبب تناقضها)، ولا يستطيع أنْ يختار إحداها (لعدم توفُّر المعيار)، فإنَّه لا يستطيع أنْ يقبل أيًّا منها. تلك هي النتيجة النموذجيَّة للاكتشاف الشكوكيِّ لتساوي المزاعم المتعارضة في القوَّة[2]. أمَّا فيما يتعلَّق بالحقيقة، فعلينا أنْ نُعلِّق الحكم، وعندما يُعلِّق الشكَّاكُ الحكمَ، تحصل الطمأنينة. الطمأنينة التي يسعىٰ إليها تأتي إليه، كما لو بالصدفة، وعندما يتوقَّف عن محاولة الحصول عليها بفاعليَّة، يحصل له ما حصل مع الرسَّام[3]  الذي لم يستطع إنجاز رسم لُعاب الحصان إلَّا عندما استسلم وقذف بريشته علىٰ اللوحة[4].

هذا كلُّه يندرج تحت تعريف سكستوس[5] للشكوكيَّة. والتسلسل هو: تناقض - عدم قدرة علىٰ الحسم - تكافؤ في القوَّة - تعليق الحكم، وأخيراً الطمأنينة. توصل الحجج إلىٰ الإبوخة - تعليق الحكم والاعتقاد -، ويبدو أنَّ هذا يُؤدِّي إلىٰ تغيير أساسيٍّ في خاصّيَّة التفكير عند الإنسان، وبالتالي في حياته العمليَّة، وبالتالي فإنَّه يعيش حالة من الطمأنينة[6] بدون اعتقاد، فيتمتَّع بطمأنينة العقل (التخلُّص من الاضطراب)، وهي تعبير الشكوكيِّ عن السعادة[7].

لكن لاحظ أنَّ التعارض بين الآراء يعني عدم انسجامها، واستحالة أنْ تكون صحيحة

(42)

معاً[1]؛ وعدم القدرة علىٰ رفع التناقض هو استحالة البتِّ في صوابيَّة أيِّ رأي؛ غير أنَّ تساوي الآراء المتصارعة في القوَّة يعني أنَّها جميعها متساوية في استحقاق (أو عدم استحقاق) القبول بصحَّتها؛ وتعليق الحكم هو حالة  يمتنع الفرد فيها عن إثبات أو نفي صحَّة أيِّ واحدٍ منها، حتَّىٰ الطمأنينة هي وغيرها من الأشياء عبارة عن التوقُّف عن القلق حول الصواب والخطأ. تتعلَّق جميع هذه الأفكار بمفهوم الصواب، ولا معنىٰ لأيِّ مرحلة من السلسلة دونها. وثَمَّة حقيقة ذات أهمّيَّة مركزيَّة وهي أنَّ الصواب في مفردات الشكوكيِّ وثيق الصلة بالوجود الحقيقيِّ بوصفه مبايناً للظاهر[2].

عندما يشكُّ الشكَّاك بصوابيَّة شيء ما[3]، يكون في اعتباره ادِّعاءات حصريَّة تتعلَّق بالوجود الحقيقيِّ. البيانات التي لا تُسجِّل إلَّا كيف تبدو الأشياء ليست مثار بحثٍ -وهي لا تُسمَّىٰ صواباً أو خطأً-، مثار البحث هو البيانات التي تقول: إنَّ الأشياء في الواقع كذا وكذا فقط. المسألة في الجدل الدائر بين الشكَّاكين والدوغمائيِّين حول أصل وجود أو عدم وجود حقيقة، هي ما إذا كان يمكن قبول صدق قضيَّة أو صنف من القضايا علىٰ عالم حقيقيٍّ موضوعيٍّ يتميَّز عن الظواهر؛ لأنَّ عبارة «صادق» في هذه النقاشات تعني «يصدق علىٰ عالم موضوعيٍّ حقيقيٍّ»؛ والصواب هو إذا كان وجود هذا الشيء يتوافق مع الواقع، ويرتبط ارتباطاً تقليديًّا بكلمة  alethes منذ أقدم مراحل الفلسفة اليونانيَّة[4].

والآن اتَّضح أنَّه إذا كانت الحقيقة محصورة بالأُمور التي تنتمي إلىٰ الوجود الحقيقيِّ باعتباره مغايراً للظاهر، فإنَّ الأمر نفسه سيعود وينطبق فوراً علىٰ التسلسل الذي تتبَّعناه منذ لحظات. المفاهيم المشمولة هي الانسجام والتعارض وعدم القدرة علىٰ الحسم[5]؛ لأنَّها بالجملة، ستترابط عن طريق الحقيقة والوجود الحقيقيِّ مقابل الظاهر، لا سيّما إذا كانت

(43)

الإبوخة[1] تعليقاً للاعتقاد المتعلِّق بالوجود الحقيقيِّ بوصفه مختلفاً عن الظاهر، وهذا يعادل تعليق كلِّ الاعتقادات، نظراً لأنَّ الاعتقاد هو القبول بصوابيَّة الشيء. لا يمكن أنْ يُطرَح سؤال حول الاعتقاد بالظاهر باعتباره مختلفاً عن الوجود الحقيقيِّ، فإذا كان لا يمكن أنْ توصف البيانات التي تُسجِّل كيفيَّة ظهور الأشياء بالصدق أو الكذب، فإنَّ البيانات التي تدَّعي كيف تكون الأشياء في الحقيقة هي التي يمكن أنْ توصف بذلك فقط.

ومن الواضح أنَّ لهذه النتيجة بالغ الأهمّيَّة في فهم مشروع الشكَّاكين وتصوُّرهم المثاليِّ للحياة دون اعتقاد. يُعرِّف سكستوس «العقيدة» -وبالطبع إنَّ كلمة دوغما[2] اليونانيَّة الأصل تعني ببساطة «عقيدة»[3]- بأنَّها التصديق بشيء غير واضح، أي بشيء لا يُتاح في الظاهر[4]. وعلىٰ نحو مشابه، فالمراد من (أنْ نعتقد) كما يُفسِّر سكستوسُ العبارةَ، هو ما يفعله المرء الذي يفترض الوجود الحقيقيَّ بشيء ما[5]، من سياقٍ يكون الاعتراف فيه بعدم قدرة الجميع علىٰ استعمال العبارة بهذا المعنىٰ الحصريِّ[6]. الإقرار هو الجنس؛ والرأي أو الاعتقاد هو النوع الذي يتعلَّق بمسألة الوجود الحقيقيِّ المخالف للظاهر. الدوغمائيُّون، يُمثِّلون التنوُّع الذي لا حدود له، والذين تزوَّد آراؤهم المتعلِّقة بالوجود الحقيقيِّ الشكوكيِّ بأسلحته وأهدافه معاً، إنَّهم ببساطة أهل الاعتقاد، إلىٰ حدِّ القول: إنَّ القراءة في الدلالة الحديثة لـ «الدوغمائيِّ» مبرّرة، أي هو الشخص الذي يتشبَّث برأيه بعناد وبطريقة غير منطقيَّة، لكن لا علاقة لهذا المعنىٰ بالمعنىٰ الحقيقيِّ للمصطلح اليونانيِّ، بل بالزعم الذي يفرضه الشكَّاك، والذي سنتعرَّض له،

(44)

وهو الذي يرىٰ أنَّ كلَّ عقيدة هي غير منطقيَّة، فكلُّ عقيدة غير منطقيَّة؛ لأنّ -كما نرىٰ الآن- كلَّ اعتقاد يتعلَّق بالوجود الحقيقيِّ الذي يختلف عن الظاهر.

فاصل تاريـخيٌّ:

يمكن أنْ نصل في تتبُّع هذا الجدال ضدَّ الاعتقاد علىٰ الأقلّ إلىٰ بدايته مع أينسيديموس[1]، الرجل الذي كان مسؤولاً بشكلٍ رئيسيٍّ عن تأسيس، أو علىٰ الأقلّ إعادة إحياء البيرونيَّة في القرن الأوَّل قبل الميلاد، قبل ما يقارب المئتي سنة أو أكثر من تأليف سكستوس لكتاب معالم البيرونيَّة[2]. وربَّما كان كتاب Aenesidemus مدخلاً مختصراً للبيرونيَّة أوَّل كتاب يحمل هذا العنوان، ونحن لا نعرف إلَّا قليلاً عنه من خلال تقرير لديوجينس لايرتيوس[3][4]، شرع أينيسديموس في تصنيف النماذج أو الطرائق المتنوِّعة التي من خلالها تُؤدِّي الأشياء إلىٰ نشوء الاعتقاد أو الاقتناع[5]، ومن ثَمَّ تقوم بالتدمير المنهجيِّ للاعتقاد المكتسب بهذه الطريقة من خلال تبيان أنَّ كلَّ صيغة من هذه الصيغ تنتج اعتقادات متناقضة وبالدرجة نفسها من قوَّة الإقناع، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لجهة إيصالنا إلىٰ الحقيقة[6]. ومن الواضح جدًّا أنَّه عندما تُرسِل حواسنا تقارير منسَّقة نميل للاقتناع بأنَّ الأشياء هي كما تبدو[7] لنا، لكن إذا راعينا تماماً الانطباعات المختلفة التي تنتجها الأشياء عند حيوانات مختلفة وأُناس مختلفين وأُناس في شروط وظروف مختلفة، وجميع الاعتبارات الواردة تحت عنوان الأنماط العشرة، سوف نرىٰ أنَّه في أيِّ قضيَّة ثَمَّة قدر من الأدلَّة من النوع نفسه، أو بالقدر نفسه من الجودة، ويمكن إيرادها كدليل علىٰ رأي معاكس؛ لأنَّ كلَّ نموذج من الأدلَّة يمكن أنْ يضاهي الأدلَّة من النوع نفسه، لكن من خلال التوجُّه باتِّجاه آخر، وكلُّ مصدر للاعتقاد هو مصدر للاعتقادات المتناقضة. ولا شكَّ أنَّ العبرة من ذلك هي تعليق الحكم بشأن ما هو صواب[8]، لكن هذا

(45)

ما يُعبَّر عنه أيضاً بقولنا: علينا أنْ نقبل جهلنا بالطبيعة الحقيقيَّة للأشياء[1]، والذي يُؤكِّد من جديد علىٰ الصلة الحميمة بين الصواب والواقع. أمَّا الاعتبار الإضافيِّ فمعناه أنَّ بعض الأنماط التي يُكتَسب الاعتقاد من خلالها ليس لها إلَّا تأثير طفيف أو ربَّما لا تأثير لها علىٰ الإطلاق علىٰ صدق القضايا وكذبها، كما عندما نعتقد بشيء لأنَّه مألوف لنا أو لأنَّ متحدِّثاً بارعاً أقنعنا به.

باختصار، لا ينبغي أنْ نفترض أنَّ ما يقنعنا (to peithon) هو صحيح في الواقع؛ لأنَّ الشيء نفسه قد لا يقنع الجميع، ولا حتَّىٰ الأشخاص ذاتهم دائماً. يتوقَّف الإقناع (pithanotes) أحياناً علىٰ الظروف الخارجيَّة، علىٰ سمعة المتكلِّم، علىٰ قدرته كمفكِّر أو علىٰ براعته، وعلىٰ المعرفة بالموضوع وعلىٰ ما فيه من جاذبيَّة[2].

ولهذا الكلام عن الإقناع والقدرة علىٰ الإقناع صدىٰ خاصٍّ في سياق[3]، مطابق تماماً للمقطع الذي اقتبسناه للتو، وليس بعد ذكر أنيسيديموس بكثير[4]، يساوي سكستوس ما يقنعنا (to peithon hemas) بالمعنىٰ الأكاديميِّ لـ الإقناع. وعادةً تُترجَم عبارة «pithanon» خطأً إلىٰ «راجح»، لكن في الغالب ما تعنيه العبارة اليونانيَّة هو «مقنع» أو «مفحم»، وقد عرَّف كارنيادس[5] الانطباع المقنع بأنَّه الانطباع الذي يبدو صحيحاً[6]. الفكرة المهمَّة لأهدافنا هي أنَّه في التأريخ الشكوكيِّ، كما في كلِّ كتاب تاريخ منذ ذلك الحين، كان يُفتَرض علىٰ كارنيادس أنْ يجعل الإقناع  - المقياس الأكاديميَّ للسلوك في الحياة[7] - معياراً قابلاً للخطأ؛ نظراً لأنَّه أتاح لنا في بعض الأحيان أنْ نقنع بشيء قد كان خطأ بالفعل[8]. وقال أيضاً: إنَّ اعتقادنا يكون أعظم - وفهم البيرونيُّون بأنَّه يعني أنَّه ينبغي أنْ يكون أعظم - عندما تُقدِّم حواسُّنا تقارير منسجمة[9]؛ وهذه الفكرة التي رأينا أنَّها إحدىٰ أهداف أينسيديموس[10]، هي الركيزة للمعيار الثاني والأدقّ في مخطَّط كارنيادس القياسيِّ

(46)

الثلاثيِّ المستويات، الانطباع الذي ليس مقنعاً فقط؛ بل الذي لا يكون «معكوساً» أيضاً من خلال أيِّ انطباع مرتبط به. إذاً، إذا كانت عبارة to peithon (يقنع) هي عبارة pithanon (مقنع) الأكاديميَّة، وإذا كنت محقًّا في الكشف عن أينسيميدوس وراء المقاطع في كتابات ديوجينس وسكستوس، حيث يكون to peithon عرضةً للنقد، تكون حملته علىٰ الاقتناع والاعتقاد في الوقت نفسه حرباً جداليَّة ضدَّ الأكاديميَّة التي انشقَّ عنها[1]. الهدف العامُّ للأنماط العشرة هو أنْ تُضلِّلنا وتُبعِدنا عن أيِّ شيء يقنعنا بأنَّه يُمثِّل الحقيقة والواقع. والهدف الأخصّ لـ أينسيميدوس هو الفكرة، التي ينسبها للأكاديميَّة (سواء أكان صدقاً أم جدلاً)[2]، وهي أنَّ لدىٰ المرء معياراً يكفي للفعل، ويكفي في اعتبار المقنع صحيحاً بمعنىٰ أنَّه يبدو صحيحاً. يرىٰ  أينسيميدوس أنَّه لا ينبغي للمرء أنْ يعتقد بصحَّة شيء، وقد كان لديه حجج تُبيِّن أنْ لا شيء صحيحاً في الواقع[3].

إذاً، ليس فقط أنَّ الحياة بدون اعتقاد كانت ميزة أساسيَّة للبيرونيَّة بدءاً من أينسيميدوس، بل إنَّ من طرحها هو أينسيميدوس في معارضة واعية لـ (ما يُقدِّمه علىٰ أنَّه) تعليم الأكاديميَّة الجديد. إذا كان للأنماط العشرة تأثيرها المقصود، فسنكون منفصلين عن المعيار الأكاديميِّ لإدارة حياة إلىٰ مثال حياة البيرونيِّ الجديد لـ أينسيميدوس بدون اعتقاد. لكن علىٰ الأرجح أنَّ هذا لم يكن اقتراحاً جديداً بقدر ما كان إحياء لاقتراح أقدم.

تبرز فكرة أنَّ الإنسان لا يستطيع العيش بدون اعتقاد (الكلمة المستعملة هي adox astous، كما في كتابات سكستوس) في أكثر الكتابات التاريخيَّة انتشاراً المتوفِّرة عن فلسفة بيرون: الاقتباس في يوسابيوس[4] من أُرسطوقليس، الكاتب المشائيّ من القرن الثاني للميلاد الذي يُقدِّم ما يزعم أنَّه اختصار للآراء المنسوبة إلىٰ بيرو عن طريق أحد أتباعه تيمون[5]. جاء في الملخَّص أنَّه لا ينبغي أنْ نضع أيَّ ثقة في إدراكاتنا أو معتقداتنا؛ ذلك لأنَّها ليست صحيحة وليست خاطئة، وبالتالي عندما نضع أنفسنا علىٰ الحياد، بدون اعتقاد، ينتج

(47)

طمأنينة. الراجح أنَّ أُرسطوقليس تلقَّىٰ هذا التقرير من خلال أينيسيديموس[1]  نفسه[2]، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنَّه يُعطي تفسيراً مشوَّهاً لتفسير تيمون لبيرو. إنَّ مقداراً لا بأس به من شذرات تيمون التي بلغتنا هو علىٰ الأقلّ مؤشِّر علىٰ البيرونيَّة اللَّاحقة[3]. بالإضافة إلىٰ أنَّ القَصص المتنوِّعة التي تروي كيفيَّة اضطرار أصدقاء بيرون لاتِّباعه من أجل حمايته من الدهس تحت العربات أو من المشي علىٰ  حافَّة الهاوية[4] هي بالتحديد من النوع الذي يمكن للمرء أنْ يتوقَّع تزايده حول رجل معروف بتعليم حياة بدون اعتقاد. وهذه القَصص قديمة، وهي مقتبسة من سيرة ذاتيَّة لبيرو كتبها أنتيغونوس الكاريستوسي[5] في الثلث الأخير من القرن الثالث قبل الميلاد، وهذا قبل أينسيميدوس بكثير؛ في الواقع شعر أينسيميدوس بضرورة محاربة الفكرة القائلة: إنَّ الفلسفة التي ترتكز علىٰ تعليق الاعتقاد ستجعل بيرون بدون بصيرة[6]. وهذا يبدو دليلاً واضحاً علىٰ أنَّ الحياة بدون اعتقاد بالنسبة لـ أينسيميدوس نفسه كان إحياء لمثال أقدم بكثير.

وكذلك لا يوجد صعوبة في تخمين أيٍّ من الأسباب الفلسفيَّة التي اضطرَّت أينسيميدوس للجوء إلىٰ بيرو من أجل نموذجه. فبدت الأكاديميَّة في زمن فيلون اللاريسي[7] أقلّ حدَّةً في شكِّها ممَّا كانت عليه؛ ولا سيّما حيال تفسير فيلون المثير للجدل لـ غرنياديس[8]، يمكن أنْ يكون الاقتناع قد قدَّم كمعيارٍ إيجابيٍّ للحياة[9]. والمشكلة الأكبر أمام الشكوكيَّة الأكاديميَّة كانت دائماً الاعتراض -اعتراض هيوم- بأنَّ التعليق الكلّيَّ للحكم يجعل العيش مستحيلاً[10].

(48)

قدَّم التراث المتعلِّق ببيرو حلًّا للمشكلتين في الوقت نفسه. طريقة العيش بدون اعتقاد وبدون تخفيف الإبوخة الشكوكيَّة تكون من خلال الحفاظ علىٰ الظاهر، كانت هذه طريقة أو معيار العيش الذي تبنَّاه أنيسيديموس[1]، والتي لم يظهر أيُّ تأييد لها في شذرات تيمون[2]، والتي سنجدها مفصَّلة في كتاب سكستوس أمبريكوس. وهناك فكرة سارَّة تقول: إنَّ سكستوس إضافةً لاعتراضه الذي سبق اعتراض هيوم إذا كنت محقًّا حول السياق الفلسفيِّ الذي حثَّ أنيسيديموس علىٰ إحياء البيرونيَّة، كان هناك شيء من الدقَّة في تلقِّي الاعتراض بفاعليَّة أكبر ممَّا كان من قبل، وهذا ما جعل أنيسيديموس يترك الأكاديميَّة وينحاز لبيرون.

العيش من خلال الظواهر:

إعادة هيكلة الفكر الشكوكيِّ، والحياة بدون اعتقاد، والطمأنينة هي أفكار لا نربطها في هذه الأيَّام بالشكِّ الفلسفيِّ الذي بات نوعاً من الممارسة الجدليَّة في معالجة المشاكل التي تُركِّز - كما أشرت سابقاً - علىٰ المعرفة أكثر من الاعتقاد. حتَّىٰ بيتر أونغر[3] الذي أطلق حديثًا برنامجًا لإعادة هيكلة الفكر الشكوكيِّ[4] لا يحاول في الواقع إزالة الاعتقاد، فبعد العمل الدؤوب أعاد اكتشاف أنَّ الشكوكيَّة تشتمل علىٰ إنكار للعقل، وأنَّ العلاقة بين الشكوكيَّة والمشاعر، وأُمور كثيرة غيرها كانت مألوفة لسكستوس إمبريكوس الذي وافق علىٰ أنَّ كلَّ اعتقاد هو غير منطقيٍّ، وحتَّىٰ إنَّ لديه حجَّة تقول: إنَّه لا أحد في الواقع يعتقد بشيء، فالاعتقاد نفسه مستحيل. لكنَّه لا يؤمن في الواقع بهذه التنقية الأخيرة؛ نظراً لأنَّ برنامجه يتوخَّىٰ استبدال مفاهيم مثل المعرفة والعقل بتقديرات أقلّ إلحاحاً لعلاقاتنا المعرفيَّة بالواقع، بالأحرىٰ في روح المطالب الأكاديميَّة؛ وبالتالي يبدو واضحاً أنَّه فيما قد يزول عدد كبير من اعتقاداتنا الراهنة، (في البدء، كلُّ الاعتقادات التي ترتبط بما هو معروف وبما هو معقول)، فإنَّ الاعتقاد بهذه الطريقة سيبقىٰ راسخاً ثابتاً في مركز حياتنا الذهنيَّة. أمَّا البيرونيَّة اليونانيَّة القديمة فلن تسمح لها بالبقاء، فهو يشكُّ في المعرفة -وللتأكيد: هذه وطأة جميع الحجج ضدَّ انطباع الرواقيِّين

(49)

الجامد-، الانطباع الذي يكون واضحاً ومميَّزاً[1] يحتمل إدراكاً لموضوعه ويُشكِّل أساساً للمعرفة الآمنة. لكنَّ هذا العدوَّ الرئيس -كما رأينا- هو الاعتقاد؛ لذا يبرز السؤال الآتي: ماذا يبقىٰ للإنسان الذي يعتنق حياة بدون اعتقاد عن طريق الحجج الشكوكيَّة، وهذا يعني -كما دائماً- بدون اعتقاد بالنسبة للوجود الحقيقيِّ؟ هذا السؤال الذي يجب علينا أنْ نسأله إذا أردنا أنْ نكشف سرَّ طمأنينة الشكَّاك.

باختصار، جواب الشكَّاك هو أنَّه يتبع الظواهر[2]. المعيار الذي يعيش حياته علىٰ أساسه هو الظاهر. وفي تفصيل أكثر، لديه مخطَّط للحياة من أربع وجوه[3]، وهذا المخطَّط يسمح له أنْ يكون خاضعاً لأربعة قوىٰ أساسيَّة، كما يأتي:

أوَّلاً: هناك قيادة الطبيعة، تقود القوىٰ الإنسانيَّة الطبيعيَّة الشكَّاك إلىٰ الإدراك والفكر، وهو يستعمل حواسَّه ويُمَرِّن قواه العقليَّة.

ثانياً: يأتي ضغط القوىٰ الجسمانيَّة[4]، فالجوع يدفعه إلىٰ الطعام، والعطش إلىٰ الشرب، وسكستوس يوافق مع هيوم علىٰ أنَّنا لا نستطيع إزالة المواقف التي لا علاقة لسبب منشئها بالعقل والاعتقاد[5]. وبالفعل في هذا الخصوص لا يمكن لإنسان أنْ يحصل علىٰ الطمأنينة الكاملة[6]، فالشكوكيُّ بوصفه كائناً مادّيًّا يقنع بتلطيف المشاعر[7]، سيتلطَّف الاضطراب إلىٰ حدٍّ كبير إذا تحرَّر من عنصر الاعتقاد الإضافيِّ[8] ويكون لتوفير الطعام والشراب أهمّيَّة.

ثالثاً: هناك تراث القوانين والعادات، الشكَّاك يحافظ علىٰ القواعد ويراقب السلوك في الحياة من أجل صلاح مجتمعه[9].

(50)

رابعاً: التوجيه في مجال الفنون، يمارس فنًّا أو مهنةً، في حالة سكستوس الخاصَّة هي الطبُّ، إذاً لديه ما يفعله. وكلُّ هذا يندرج تحت عنوان الظاهر، لكن سكستوس لا يهدف في الحقيقة إلىٰ تطوير الخطَّة بتفصيلٍ فعليٍّ. عندما يُوجِّهنا في هذه الاتِّجاهات الأربعة، يكون اهتمامه الرئيسيُّ -وبالتالي اهتمامنا نحن هنا- بمعيار الظهور العامِّ.

في قسم من كتاب الخطوط العامَّة للبيرونيَّة[1] الذي ذكر فيه بشكلٍ رسميٍّ أنَّ الظاهر هو  المعيار الذي يعيش من خلاله الشكَّاك حياته[2]، ليس أنَّ الظاهر يتعارض مع الواقع فقط، بل إنَّ العمل علىٰ أساس الظاهر يتعارض مع حياة الاعتقاد. إنَّ المصادر العقليَّة المتبقّية للشكَّاك عندما يتجنَّب الاعتقاد ستكون متناسبة مع أيِّ شيء يكون إلىٰ جانب الظاهر عندما يوضع حدٌّ بين الظاهر والوجود الحقيقيِّ؛ لذا بات السؤال مهمًّا، وأنا لم أسأل بعد، ماذا يخالف الشكوكيُّ عندما يضع الظاهر في مقابل الوجود الحقيقيِّ. من خلال المعطىٰ نفسه، لو تحدَّد الظاهر بنوع واحد من الظواهر - والمرشَّح الراجح لهذا الأمر هو الظاهر الحسّيُّ - سيكون له دلالات محدودة بالنسبة للمضمون العقليِّ لحياة بدون اعتقاد.

فلنرجع قليلاً إلىٰ المقطع الذي قدَّم فيه سكستوس تعريفه للشكوكيَّة بأنَّها القدرة علىٰ خلق تباين بين الأشياء الظاهرة أو الأشياء الموجودة في الفكر... إلخ. وعندما يصل سكستوس لتوضيح مصطلحات تعريفه، يقول: نحن نعني بـ «الأشياء الظاهرة[3] المحسوسات[4] التي تباين الأشياء المفكَّر فيها»[5]. وهذا يدلُّ بالتأكيد علىٰ أنَّه لا يعني دائماً أو عادةً المحسوسات فقط عندما يتحدَّث عن الظاهر[6]. وقد اعتبر بعض المفسِّرين وأحدثهم شارلوت ستو[7] أنَّ معيار الشكَّاك هو الظهور الحسّيُّ بالمعنىٰ الحصريِّ؛ إذ عندما يقول سكستوس: إنَّ المعيار هو ما يظهر[8]، فإنَّه يضيف أنَّ الشكَّاكين يقصدون بهذا الانطباع[9] الحاصل عن الشيء الذي

(51)

يظهر[1]. لكنَّ الفكرة هنا هي الشرح التبسيطيُّ الذي يفيد أنَّ ما يعمل الشكَّاك وفقه في حياته اليوميَّة لا يقتصر علىٰ الشيء ذاته الذي يظهر، بل الانطباع الذي يحصل منه ووفقاً لتعبير سكستوس (كما في الاستعمال الرواقيّ)[2] هناك انطباعات[3] لا يمكن التفكير بها باعتبارها انطباعات حسّيَّة. احتاج فقط لذكر الانطباع الذي يتشارك فيه جميع خصوم بروتاغوراس[4]، الذي يقول: إنَّه ليس كلُّ انطباع صحيحاً[5]. بالنسبة لما يظهر، ويمكن أنْ يكون هذا الـ «ما يظهر» أيَّ شيء. سكستوس جاهز لأنْ يضمَّ إلىٰ الأشياء الظاهرة موضوعات الحواسِّ وموضوعات الفكر[6]، ويصل أحياناً إلىٰ حدِّ الكلام عن الأشياء الظاهرة للعقل[7] أو الفكر[8][9]. وأخيراً هناك مجموعة ظواهر أكثر أهمّيَّةً أُلحقت بالتعابير الفلسفيَّة للشكَّاك نفسه؛ كما أكَّد ميخائيل فريدي[10] بأنَّنا لا نستطيع تصنيفها في خانة الظواهر الحسّيَّة.

حذَّر سكستوس مراراً وتكراراً من أنَّ صيغة الشكَّاكين مثل «أنا لا أُحدِّد شيئاً، هذا ليس أرجح من ذاك»[11]، أو نتائج حجج الشكَّاكين مثل «كلّ شيء نسبيٌّ»[12]، أو بالفعل يمكن اعتبار المحتويات الكاملة لمقالته[13] مجرَّد مدوَّنات للظواهر. يُسجِّلون، كما يُسجَّل سجل للأحداث[14]، كيف يبدو كلُّ شيء للشكَّاك، ويُعلِنون أو يروون كيف تُؤثِّر فيه[15] دون إلزامه

(52)

بالاعتقاد أو بالتأكيد علىٰ أنَّ أيَّ شيء هو في الواقع والحقيقة يكون كما يبدو له[1]. وكما يتَّضح أنَّه سيكون مستحيلاً اعتبار جميع هذه المظاهر انطباعات حسّيَّة[2]. لكن ممارسة البحث الجدليِّ تُمثِّل جانباً مهمًّا جدًّا من الطريقة التي يعمل الشكَّاك وفقها؛ لذا يجب بالتأكيد أنْ تُضَمُّ لمعيار الشكَّاك. إنَّها نتيجة واحدة بالتأكيد، وهي نتيجة في غاية الأهمّيَّة لقدرته الطبيعيَّة علىٰ الإدراك والتفكير. لا يمكن أنْ يكون المظهر الحسّيُّ هو ما يقول الشكَّاك: إنَّه يتبع المظاهر.

قد نُسلِّم بأنَّ نتيجة حجَّة الشكَّاك عادةً هي أنَّه لا يمكن تحديد الطبيعة الحقيقيَّة لشيء، وأنَّه علينا أنْ نُقنِع أنفسنا بالقول: كيف يظهر، وهذا يعني كيف يبدو للحواسِّ. لكن الصيغ نفسها في الأساس تُستَخدم عندما يكون موضوع البحث - مثلاً - وجود الأنواع والأجناس[3]، وصوابيَّة أو خطأ بعض العادات والممارسات[4]، أو عموماً موضوعات الفكر[5] التي تختلف عن الأشياء المحسوسة[6]؛ بل نتيجة الحجَّة الشكوكيَّة يمكن أنْ تكون أيضاً أنَّ المفهوم لا يمكن أنْ يُصاغ، مثل مفهوم الإنسان[7]. وفي هذا الخصوص يعارض سكستوس التأكيد الدوغمائيَّ بأنَّ الإنسان في الواقع مثلاً حيوان بلا ريش يمشي علىٰ قدمين، له أظافر عريضة، وقدرة علىٰ اكتساب العلوم السياسيَّة، ويُوضِع هذا التعريف باعتباره مجرَّد شيء مقنع[8]؛ الأوَّل هو الشيء غير الشرعيِّ الذي يُشكِّل هدف الحجَّة، والثاني ما يُعتَقد أنَّ أفلاطون كان سيفعله[9]. أعتقد أنَّه قد يكون بالتماشي التامِّ مع الروح، ما لم تكن رسالة هذا النصِّ إضافة بديلة عن قول البيرونيِّين الصحيح: إنَّ الإنسان هو ما يبدو للمرء أنَّه إنسان. فسكستوس يصرُّ[10] علىٰ أنَّ الشكَّاك ليس ممنوعاً من التفكير[11]، وصياغة المفاهيم، فيمكن

(53)

أنْ يصوغ مفاهيمه الخاصَّة، وطالما أنَّ أساس هذا أنَّ الأشياء التي يختبرها تبدو بوضوح للعقل ذاته، وأنَّه لم يُقَدْ إلىٰ أيِّ التزام بواقع الأشياء المفهومة[1].

بالتالي لا بدَّ أنْ أُشير إلىٰ أنَّ تمييز الشكَّاك بين الظاهر والوجود الحقيقيِّ هو تمييز شكلي بحت، مستقلٌّ بالكامل عن موضوع البحث، فالشكَّاك لا يُقسِّم العالم بين ظواهر وحقائق، ويمكن للمرء أنْ يسأل عن انتماء أيٍّ منها لخانة الظاهر أو خانة الحقيقة؛ بل إنَّه يُقسِّم الأسئلة إلىٰ أسئلة حول الكيفيَّة الظاهرة للشيء، وأسئلة حول كيفيَّة وجود الشيء في الواقع والحقيقة، ويمكن أنْ يسأل كلا النوعين من الأسئلة عن أيِّ شيء مهما كان.

يقول سكستوس في الفصل المتعلِّق بمعيار الشكَّاك:

أظنُّ أنَّه لا أحد يختلف حول ظهور الموضوعات الأساسيَّة كذا وكذا: ما يبحث عنه هو ما إذا كانت كما تبدو[2].

السؤال المألوف في الفلسفة الحديثة، والذي يُجيب عنه الجميع بشكل حازم هو: كيف يبدو الشيء أو كيف يظهر؟ عندما يقول سكستوس: إنَّ انطباع الإنسان ليس موضوعاً للبحث  azététos[3]، فإنَّه لا يمكن الطعن بالادِّعاء بتقريره الذي يقول: إنَّه هكذا يظهر له، كما لا يمكن أنْ يكون مُلزماً بإعطاء تبرير، أو دليل أو برهان عليه. ولا يمكن أنْ يُسأل عن التبرير المناسب إلَّا عندما يتجرَّأ علىٰ ادِّعاء المعرفة بكيفيَّة وجود الشيء في الواقع. ونتيجة هذا أنَّ الشكَّاك الذي يتمسَّك حصريًّا بالظاهر ينسحب إلىٰ موقف لا يتعرَّض فيه للنقد أو التحقيق. يمكن أنْ يتحدَّث عن أيِّ شيء تحت الشمس - لكن لا يمكنه الحديث كيف يكون في الواقع -، بل فقط الإشارة إلىٰ كيف يبدو له. إنَّه ينسحب إلىٰ هذا الموقف المفصول، نتيجة لإرضائه المتكرِّر لنفسه القائل: إنَّ البحث المتعلِّق بالطبيعة الحقيقيَّة للأشياء يُؤدِّي إلىٰ خلاف لا يمكن حلُّه. هكذا يمكن أنْ نفهم لماذا لا يكون استعمال الشكَّاك للعقل إلَّا جدليًّا. وبكلِّ بساطة لا يريد شخصيًّا قول شيء يبدو كأنَّه يتطلَّب تبريراً عقليًّا[4]. والعقل مفهوم إضافيٌّ مهمٌّ يرتبط بالحقيقة والوجود الحقيقيِّ.

(54)

إذاً اتَّضح أنَّ الحياة بدون اعتقاد ليست حياة الذهن الفارغ التي يمكن للمرء أنْ يتصوَّر أوَّلاً أنَّها تكون كذلك، وحتَّىٰ لا تقتصر علىٰ موضوع البحث الذي تدور حوله أفكار الشكَّاك؛ بل إنَّ سرَّها موقف ذهنيٌّ يظهر في أفكاره. وهو يشير إلىٰ أنَّ الانطباع الذي تثيره الأشياء عنه والانطباعات المعاكسة التي يثيرها عن الناس الآخرين، وانطباعاته الخاصَّة لا تبدو له أقوىٰ -وليست أكثر قبولاً- من انطباعات الآخرين[1]. وبقدر ما يُحقِّق الطمأنينة، لا يعود مهتمًّا بالاستفسار عن صحَّة أيٍّ منها. وعندما يظهر له شيء في ضوء ما، لا شيء يجعله يميل للاعتقاد بأنَّه كما يظهر أكثر من حقيقة أنَّه هكذا يظهر لأحد غيره. إنَّه مجرَّد انطباع إضافيٍّ أو مظهر يجب ملاحظته؛ لذلك يصبح الانسحاب من الحقيقة والوجود الحقيقيِّ انفصالاً للمرء عن نفسه. بمعنىٰ ما.

التصديق والإكراه:

أعتقد أنَّنا مع هذه النتيجة، نصل إلىٰ المقصد الحقيقيِّ للشكوكيَّة بوصفها فلسفة حياة. إذاً الانفصال الشامل للمرء عن نفسه لا يُفهَم بسهولة - في الواقع سأُحدِّد هنا موضع عدم الاتِّساق المطلق للفلسفة الشكوكيَّة -، لكن لا بدَّ من المحاولة إذا كان علينا تقدير إعادة الهيكلة التي تهدف حجج الشكَّاكين لإنتاجها في فكر الإنسان، وبالتالي في حياته العمليَّة. ولأجل هذه الغاية يجب أنْ أطرح الآن موضوعاً صعباً هو التصديق والإرادة.

شرحت في  ما مرَّ أنَّ التصديق مفهوم أوسع من مفهوم الاعتقاد، فإنَّ لا اعتقاد الشكَّاك هو (الإبوخة)[2] التي هي الامتناع عن التصديق بأيِّ شيء لا يتعيَّن في المظهر[3]. لكن يوجد أشياء يُصدِّق بها: ta phainomena، وهي ما يظهر. وقد ذُكِرَ هذا المبدأ علىٰ نحوٍ تامٍّ في PH i19-20، من دون أيِّ قيدٍ علىٰ أيِّ صنفٍ محدَّدٍ من الظواهر، رغم أنَّ المثل الذي سنضطرُّ أنْ نضربه هو المظهر الحسّيُّ، طعم العسل، أعتقد - كما في السابق - أنَّ سكستوس يعني أيَّ نوع من الظهور، وبالتالي إنَّ التوصيف الإضافيَّ الأهمَّ الذي يُعطيه في هذا الخصوص يجب تطبيقه علىٰ كلِّ المظاهر بدون استثناء.

(55)

وهناك توصيف إضافيٌّ هو: الأشياء التي تظهر تقودنا للتصديق، بدون أنْ نريد ذلك، انسجاماً مع الانطباع الذي يُؤثِّر فينا (kata phantasian pathétikén). يقال ما يشبه هذا حول مناسبات عدَّة في أماكن أُخرىٰ. عندما يُصدِّق الشكَّاك يكون بسبب تجريبه لنوعين من الإكراه. الأوَّل، ما يُصدِّق به هو الحالات التي يتأثَّر بها قسراً انسجاماً مع انطباع ما[1]. يمكن أنْ يُصدِّق بانطباع أو كما يُعبِّر سكستوس[2] يمكن أنْ يُصدِّق بما يُقدِّم انسجاماً مع انطباع تأثَّر به بقدر ما يظهر؛ لأنَّ الانطباع بذاته، والطريقة التي يظهر بها الشيء، هي شعور انفعاليٌّ لا يحصل بإرادة الشخص الذي يعيشه، وهو بذلك لا يخضع للبحث أو الجدال[3][4]؛ بتعبير آخر، إنَّه فقط ما يحصل له الآن.

لكن ثانياً، إلىٰ جانب حصول الانطباع المفروض عليه، فهو أيضاً ممنوع في هذه الحالات من التصديق. الشكَّاك يُسلِّم بالأشياء التي تهزُّنا بشكل فعَّال وتدفعنا قهراً إلىٰ التصديق[5].

إذاً، ما هو مضمون تصديق الشكَّاك؟ يُوصَف التصديق بأنَّه تصديق بشيء بقدر ما يظهر أو بالحالة / الانطباع الظاهر لنا، لكن التعبير عن هذا التصديق يكون من خلال قضيَّة خبريَّة، مثلاً: «العسل يبدو حلو المذاق»[6]. وفي موضع آخر[7] يُعبِّر سكستوس عن الفكرة بطريقة سلبيَّة: عندما يشعر الشكَّاك بالدفء أو بالبرد، فإنَّه لا يقول: «أنا أعتقد أنَّني لست دافئاً / بارداً) . اعتبر آرن نايس[8] أنَّ صيغة النفي محاولة للتعبير عن الفكرة التي لا يقبلها الشكَّاك ولا يرفضها «يبدو الآن بارداً بالنسبة لي» هو افتراض[9]. لا أجد عند سكستوس أيَّ دليل علىٰ التمييز بين التصديق بحالة أو انطباع بشيء وبين التصديق بافتراض كيفيَّة ظهور الشيء للمرء. يقول سكستوس: نحن نُسلِّم[10] بأنَّ العسل يبدو حلو المذاق لأنَّنا نتحلَّىٰ حسّيًّا، وهذا ما أفهم أنَّه يعني: أنَّنا نخضع لتجربة حسّيَّة تُظهِر خصائص الحلاوة.

(56)

إنَّ تصديق الشكَّاك لا يعدو كونه اعترافاً بما يحصل له، والتصديق القسريُّ والاعتراف بما يحصل له متساويان في البساطة. هذا لا يعني أنَّ هناك مقاومة يجب تجاوزها، بل يعني أنَّه لا يمكن أنْ يكون هناك خلاف حول ماهيَّة الانطباع؛ إنَّه ليس خاضعاً للبحث. الانطباع لا يعدو كونه الطريقة التي يظهر فيها الشيء للمرء، والتصديق به هو مجرَّد اعتراف بأنَّ هذا بالفعل كيف يظهر الشيء في اللحظة الراهنة.

حتَّىٰ الآن، أوضحت هذا الأفكار، كما عرضها سكستوس، وأشرت إلىٰ انطباعات الحواسِّ ولكن كما يحدث، علىٰ الأقلّ واحدة من البيانات المذكورة ترد في سياق يصف موقف العقل الذي يدفعه الشكَّاك لممارسة البحث الجدليِّ. إنَّه البيان[1] القائل: إنَّ الشكَّاك يُصدِّق بالأشياء التي تعرض له انسجاماً مع الانطباع الذي يُؤثِّر فيه (kata phantasian pathétiké)، بقدر ما يبدو له. وبالنظر إلىٰ السياق، فإنَّ من الطبيعيِّ الرجوع إلىٰ ملاحظة المظاهر الملحقة بتصريحات الشكَّاك الفلسفيَّة المتنوِّعة. والقول: إنَّ الانطباع[2] يتَّصف بأنَّه شيء يتأثَّر به المرء ليس عائقاً أمام هذا، فقد سبق ورأينا أنَّه لا ضرورة لأنْ يكون الانطباع حسّيًّا، وأنْ نُسمِّيه pathétiké يعني ببساطة أنَّه انفعال[3] كما في[4] سكستوس في أتمِّ الجهوزيَّة للحديث عن الانفعال[5]، والعاطفة، الملحقة بصيغة الشكَّاك «أنا لا أُقرِّر شيئًا»[6]. وكما يشرح، عندما يقول الشكَّاك: «أنا لا أُقرِّر شيئاً»، فإنَّ ما يقوله يعني: «أنا الآن أتأثَّر بشيء بطريقة لا يمكنني أنْ أُثبت أو أنفي بطريقة دوغمائيَّة أيًّا من المسائل موضع البحث»[7]، وهذا يُعمَّم علىٰ جميع تعابير عدم التأكيد الشكوكيَّة[8] (فقدان القدرة علىٰ الكلام)، ويربط بموضوع التصديق القهريِّ بحالات الظهور. وبكلِّ وضوح، إنَّ موقف «أنا لا أُقرِّر شيئاً» بوصفه تعبيراً عن عدم تأكُّد الشكَّاك، لا يشير إلىٰ الانطباع الحسّيِّ. لكنَّه لا يشير إلىٰ الشعور الانفعاليِّ. وبالتالي قد يبدو أنَّ هذا الشعور والتصديق به مفروض علىٰ الشكَّاك باعتباره نتيجة لحججه تماماً بقدر ما يفرض الانطباع الحسّيُّ عليه من خلال مواجهة شيء حسّيٍّ ثمّ يمارس تصديقه قسراً.

(57)

أعتقد أنَّ هذا صحيح. انظر من خلال عيِّنة من حجج الشكَّاكين وستجد أنَّ عدداً كبيراً منهم ينتهي إلىٰ القول: إنَّ المرء مجبَر علىٰ تعليق الحكم، والكلمة الشائعة (مكرَه)[1]، المفردة نفسها التي تصف علاقتنا الانفعاليَّة بالانطباع الحسّيِّ والتصديق الذي يحصل. لا يُصدِّق الشكَّاك إلَّا إذا كان تصديقه قسريًّا، وكذلك الأمر عندما يمتنع عن التصديق، إنَّه يُعلِّق الحكم، هذا لأنَّه وجد نفسه مجبَراً علىٰ فعل ذلك. الانفعاليَّة الملحوظة مقابل أحاسيسه وعمليَّاته الفكريَّة الخاصَّة هي سمة مهمَّة لانفصال الشكَّاك عن نفسه. لكن من جديد، لا ينطوي الإكراه علىٰ أيِّ غموض أو جهد.

ونحن جميعاً علىٰ دراية بالطريقة التي تُفرَض فيها الحجَّةُ أو الدليل الدامغُ التصديقَ. فقط بهذه الطريقة أُعدِّت حجج الشكَّاكين لتحليل التصديق (فعل  epechein) له صيغة متعدّية تعني «حلّل» وصيغة لازمة وتعني «تعليق الحكم». تصوَّر إنساناً في موقف لا يستطيع أنْ يرىٰ في الواقع أيَّ سبب للاعتقاد أنَّ القضيَّة (ب) صادقة بالمقارنة مع القضيَّة السالبة (غير ب)، والاعتبارات المؤيِّدة والمعارضة تبدو متساوية تماماً مهما بلغ مستوىٰ الجهد الذي يبذله في حلِّ المشكلة. وبالتالي كما يُعبِّر سكستوس سيُعلِّق الحكم[2]. وإذا كانت المسألة مسألة تصرُّف حيث لا يستطيع إيجاد سبب لاختيار هذا أو ذاك، يمكن أنْ يرمي قطعة نقديَّة أو ببساطة يفعل أيَّ شيء اعتاد المرء علىٰ فعله في هذه الظروف. وفي الواقع، هذا ما يفعله الشكَّاك عندما يتبنَّىٰ اعتقادات المجتمع الذي يعيش فيه بدون أنْ يؤمن هو نفسه فيها أو بدون أنْ يكون له أيُّ التزام شخصيٍّ بقِيَم هذا المجتمع. غير أنَّ الاعتقاد ليس كذلك. بالطبع، إنَّه سؤال فلسفيٌّ وجيه، ما إذا كان غير ممكن في بعض الظروف أنْ نُقرِّر أو نريد الإيمان بشيء، لكن لا بدَّ أنْ تكون هذه الظروف أكثر ملاءمةً من تلك التي ذكرتها، حيث لا يمكن لأحد بالفعل أنْ يجد ما يُخوِّله للاختيار بين (ب) و(غير ب). ولنستشهد بأبيكتتوس[3]، فقط حاول أنْ تعتقد، أو بطريقة لا تعتقد بطريقة إيجابيَّة، أنَّ عدد النجوم زوج[4].

(58)

أُكرِّر: جرِّب ذلك. اجعل نفسك مدرِكاً بوضوح لعجزك عن اختيار أحد أمرين، هكذا يريدك الشكَّاك أنْ تشعر تجاه كلِّ شيء، وإذا كان ما أقوله صحيحاً أو خطأً (لا أنْ تقتنع بسمعة أو ببراعة المتكلِّم). إنَّها الطمأنينة. إذا أرسل ظالم رسالة يقول فيها: إنَّك أنت وعائلتك ستُقتَلون عند الفجر ما لم تقترف عملاً شنيعاً، الشكَّاك الحقيقيُّ لن يكون مضطرباً حيال صدق الرسالة أو كذبها، أو حيال مضمونها أخير هو أم شرٌّ حتَّىٰ  يمتثل للأمر. لن تكون مضطرباً ليس لأنَّ إرادتك أخضعت ميلك للاعتقاد وأخضعتك للاضطراب الانفعاليِّ؛ بل لأنَّك جعلت عاجزاً عن إيجاد أيِّ سبب للاعتقاد بأنْ يكون الشيء صحيحاً وليس زائفاً أو خيراً وليس شرًّا. وهذا لا يعني أنَّك لن تفعل شيئاً، استيقظ من سُباتك [إشارة إلىٰ قول كانط: «لقد أيقظني هيوم من سُباتي الدوجماطيقي»]، لقد تصدَّىٰ سكستوس لهذا المأخذ القديم علىٰ النحو التالي: أوَّلاً من خلال الاعتراف بدور الدوافع الجسديَّة كالجوع والعطش، وثانياً، فإنَّه من خلال القول بالطبع سيكون للشكَّاك تصوُّرات مسبقة نتيجة لتربيته في نمط حياة معيَّن[1]، وهذا ما سيدفعه للتصرُّف بطريقة أو بأُخرىٰ. لكن المسألة أنَّه لا ينسجم مع قِيَم معيَّنة. ويشير إلىٰ أنَّها تركت له ميولاً تدفعه للسعي لبعض الأُمور واجتناب بعضها، لكنَّه لا يعتقد بأنَّ ثَمَّة سبباً لتفضيل الأشياء التي يسعىٰ إليها علىٰ الأشياء التي يتجنَّبها[2].

الافتراضات البارزة هنا تعيد إلىٰ أذهاننا سقراط، كما في كثير من السيكولوجيا الأخلاقيَّة الهلنستيَّة أيضاً. تعتمد المشاعر علىٰ الاعتقاد، لا سيّما الاعتقادات المرتبطة بالخير والشرِّ. فعندما يزول الاعتقاد تختفي المشاعر؛ كالخوف مثلاً، يتلاشىٰ عندما نزيل اعتقاد الخائف بأنَّ الشيء الذي يخافه خطير. علىٰ الأقلّ إلىٰ حدٍّ أنَّ المشاعر الصادرة عن العقل والفكر يجب أنْ تتلاشىٰ عندما يتوقَّف الحكم علىٰ كلِّ مسألة واقعيَّة، وعلىٰ كلِّ قيمة. لكن هذا لن يُزيل الاضطرابات الجسديَّة كالجوع والعطش، ولا الميول للعمل التي تنتج عن المواهب الطبيعيَّة وعن التنشئة في المجتمع الإنسانيِّ[3]، فهي لا تتوقَّف علىٰ المنطق والفكر، لكنَّها ستكون أقلّ إرباكاً بدون عنصر الاعتقاد الإضافيِّ حيال الخير والشرِّ، الحقيقيِّ والزائف[4].

(59)

يمكن أنْ يشعر المرء أنَّ عنصر الاعتقاد الإضافيِّ هو الشيء ذاته الذي يمنح الحياة معنىً ومغزىً، حتَّىٰ لو كانت مصدر القلق والاضطراب أيضاً، ستكون حياة الشكَّاك من دونه فقَّاعة جوفاء للوجود الذي يحظىٰ به، والذي أقلقه قبل استنارته الشكوكيَّة، لكن هذا هو ثمن السلام والطمأنينة، والشكَّاك يريد أنْ يدفعه بالكامل، أو بالأحرىٰ هو مجبَر بحجَّة تعليق الحكم والاعتقاد، ومن ثَمَّ يجد أنَّ هذا يحصل لتوفير الطمأنينة فقط[1]. هو لا يمارس الاختيار المتداول في المسألة، أكثر ممَّا عندما يدفعه الجوع لتناول الطعام[2]. وبعيداً جدًّا عن الاعتماد علىٰ الإرادة للسيطرة علىٰ التصديق، البلسم الشافي للشكَّاك، الذي يبدأ من الأنماط العشرة لـ أنيسيديموس[3]، هو استخدام المنطق لتفقُّد جميع مصادر الاعتقاد وتدمير كلِّ ثقة بالعقل نفسه، وبالتالي إزالة ميل الاعتقاد من جذوره. الحياة بدون اعتقاد ليست إنجازاً للإرادة، بل هي تعطيل العقل لذاته[4].

(60)

فاصل مثير للجدل:

حان وقت تقويم الأمر. وصفنا الحياة، ونريد أنْ نعرف ما إذا كانت حياة ممكنة للإنسان، لكن قبل ذلك علينا مواجهة هذا السؤال أوَّلاً: هل الحياة الموصوفة هي حياة بدون اعتقاد، كما يزعم سكستوس عادةً[1][2].

من المفترض أنْ يقنع الشكَّاك نفسه بالمظاهر عوضاً عن المعتقدات، لكن يمكننا أنْ نعترض، وليقل سكستوس ما يشاء، علىٰ أنَّ بعض هذه الظواهر هي اعتقادات مقنعة. «مذاق العسل حلو» يمكن أنْ يفي بالغرض المطلوب بوصفه تقريراً لتجربة حسّيَّة أو جسديَّة، لكن عندما يتعلَّق الأمر بـ «كلِّ الأشياء تبدو نسبيَّة»[3]، أو «فلنُسلِّم أنَّ مقدّمات البرهان تظهر»[4]، أو «بعض الأشياء تبدو خيراً، وبعضها يبدو شرًّا»[5]، بالكاد نستطيع أنْ نفهم «يظهر»[6] بغير معناها المعرفيِّ، أي عندما يُقدِّم الشكَّاك تقريراً بصيغة «يظهر لي الآن أنَّ القضية (ب) صادقة»، علىٰ الأقلّ أحياناً هو يُؤرِّخ لحدث يقول: إنَّه يعتقد أو يجد نفسه يميل للاعتقاد أنَّ شيئاً هو القضيَّة.

هذه القراءة المعرفيَّة لكلام الشكَّاك عن المظاهر يمكن أنْ تُعرَض بإحدىٰ صيغتين: باعتبارها رفضاً لسكستوس أو رفضاً لتفسيري لسكستوس. في النسخة الثانية التي تناولتها أوَّلاً سيكون المدَّعىٰ أنَّ تصديق الشكَّاك بالظهور - كما يصفه سكستوس - ليس إثبات وجود انطباع أو تجربة، بل تعبير عن اعتقاد غير دوغمائيٍّ حول ماهيَّة المسألة في العالم، ثمّ ستكون النتيجة أنَّ ما يتحاشاه الشكَّاك، عندما يُعلِّق الحكم علىٰ كلِّ شيء، ليس أيُّ نوع من الاعتقاد أو كلُّ نوع من الاعتقاد حيال الأشياء، بل اعتقاد من النوع الأكثر طموحاً، الذي يمكن أنْ نُطلِق عليه (بانتظار مزيد من الإيضاح) اسم الاعتقاد الدوغمائيِّ[7].

(61)

أنا لا أشكُّ بإمكان القراءة الإبستيمولوجيَّة لعدد وفير من التعابير المتعلِّقة بالظواهر عند سكستوس أمبريكوس. لكن لو أمكن لهذه الحقيقة أنْ تُثمِر رفضاً ليس لسكستوس، بل لتفسيري له، هناك ضرورة لإظهار أنَّ القراءة الأبستيميَّة نالت موافقة سكستوس نفسه. المقطع الأقرب لإظهار ذلك هو[1] الذي  يقول فيه سكستوس: إنَّ الناس يُحدِّدون معنىً واسعاً للـ «دوغما» يعني القبول بالشيء أو عدم التناقض معه[2]، وبهذا يتعارض مع معنىٰ أضيق شرحه بعض الناس بأنَّه أحد الأشياء غير الواضحة الذي حقَّقت فيها العلوم. المقصود من هذا التمييز هو توضيح المعنىٰ الذي لا يكون فيه الشكَّاك دوغمائيًّا: لن يكون له أيّ علاقة بالدوغما بالمعنىٰ الثاني والأضيق؛ «لأنَّ البيرونيَّ لا يُصدِّق بأيِّ شيء لا يكون واضحاً». لكنَّه يُصدِّق بالحالات التي يتأثَّر فيها مكرَهاً انسجاماً مع انطباع، وهذا التصديق (والمفترض أنْ نفهم ذلك) هو دوغما أو يشتمل علىٰ دوغما بالمعنىٰ الواسع الذي لا يعترض عليه البيرونيُّ. مثلاً (وهو مثل رأيناه سابقاً) لن يقول عندما يكون دافئاً أو بارداً: «أعتقد أنَّني لست دافئاً أو بارداً». وهنا يبرز سؤالان: أوَّلاً: هل يدلُّ تسامح سكستوس مع المعنىٰ الواسع علىٰ المصادقة علىٰ القراءة الإبستيميَّة للتعابير المتعلِّقة بالظاهر بشكلٍ عامٍّ؟ وثانياً: هل يفرض تفسيره للمعنىٰ الضيِّق قيوداً علىٰ عدم مصادقته علىٰ ما سبق أنْ سمَّيناه الاعتقاد الدوغمائيّ؟

1- ما يقبله الشكَّاك أو ما يتناقض معه هو «أنا دافئ / بارد». هذه دوغما (بالمعنىٰ الواسع) بقدر ما الشكَّاك يظنُّ، أو يظهر له، أنَّه دافئ / بارد[3]. لكن لا يلزم عن ذلك أنَّه ظاهر معرفيٌّ بالمعنىٰ المتَّصل بنقاشنا، ما لم يكن مضمون «أنا دافئ / بارد» فرضيَّة حول ماهيَّة الحالة في العالم وليس الفرضيَّة حيال تجربة الشكَّاك.

يجب أنْ نكون حذرين هنا. فالفعلان اليونانيَّان thermainesthai وpsuchesthai لا يعنيان عادةً «أشعر بالحرِّ / بالبرد» رغم أنَّ المترجمين (Burry, Hossenfelder) يميلان لإعطائهما هذه الدلالات هنا؛ لأنَّ سكستوس يشير إلىٰ الشعور[4] فقط، إنَّهما يعنيان عادةً

(62)

«يكون دافئاً / بارداً)[1]. من جهة أُخرىٰ، كذلك لا تدلُّ «أنا دافئ / بارد» بالضرورة علىٰ عمليَّة موضوعيَّة هي اكتساب أو فقدان الحرارة. ووجهة نظري الخاصَّة هي أنَّ الإصرار علىٰ أنَّ الشعور التفسيريَّ عند سكستوس يجب أنْ يكون إمَّا شعوراً ذاتيًّا أو حدثاً موضوعيًّا يعني فرض حلٍّ ديكارتي، وهذا دخيل علىٰ طريقته في التفكير.

قد تكون مصطلحات سكستوس هنا سيرينيَّة[2]. تظهر مفردتا Thermainesthai وpsuchesthai علىٰ لائحة من المصطلحات السيرينيَّة لـ pathé الإدراك الحسّيّ في كتاب بلوطارخ[3] إلىٰ جانب مفردة «يتحلَّىٰ»[4]، التي يستعملها سكستوس في «يبيضُّ»[5] وما شابه، التي طبَّقها سكستوس علىٰ أنشطة الحواسِّ، وهي تبدو من المصدر نفسه[6]. كما يُصوِّر بلوطارخ العقائد السيرينيَّة التي كانت المصدر الأصل لهذا المصطلح الخاصِّ[7]؛ لذلك أستطيع أنْ أقول: «أنا دافئ»[8]، لكن لا أستطيع أنْ أقول: thermos ho akratos التي لا تعني هذا «الخمر الصافي دافئ»، بل «الخمر الصافي يُسبِّب الدفء»[9]، المسألة شديدة الشبه بمسألة نجدها عند أُرسطوقليس[10]، وفقًا للسيرينيِّين عندما أجرح أو أحترق أعرف أنَّني أخضع لشيء؛ لكن هل النار هي التي تُحرقني أو الحديد هو الذي يجرحني؟ لا أستطيع الإجابة. هل يقصدون عندما يتحدَّثون عن خضوعهم لشيء، الحدث المادّي أم الطريقة التي يشعرون بها؟ لا يوجد إجابة واضحة علىٰ هذا السؤال، والمصطلحات تجعل القرار مستحيلاً. والأمر نفسه ينطبق علىٰ سكستوس. الإشارة إلىٰ هذه الأفعال الغريبة هي عمليَّة حسّيَّة واضحة أكثر منها نقلاً للحرارة «مسألة الخمر المصفَّىٰ: وفي المقابل دفء إنسان يشعر بالبرد الشديد لدرجة أنَّه لا يستطيع الشعور بشيء عندما يفرك يديه لن يُوضِّح فكرة سكستوس علىٰ الإطلاق»، لكن علينا أنْ نحافظ علىٰ الترجمة «كان دافئاً 

(63)

بارداً». الرجل متأثِّر حسّيًّا «نحن نتحلَّىٰ حسّيًّا»[1][2]، وهو يستعمل thermainein[3] لكنَّنا لا نستطيع أنْ نُقسِّم الشعور إلىٰ مكوِّنات ذهنيَّة منفصلة «ذاتيَّة» ومكوِّنات مادّيَّة «موضوعيَّة». العبرة التي يمكن استخلاصها هنا ليس أنَّ البيرونيَّ يسمح لنفسه ببعض الاعتقادات حول ماهيَّة المسألة، لكن الشكوكيَّة ما زالت غير مرتبطة بالمفهوم الديكارتيِّ للنفس[4].

إذا كان هذا صحيحاً، فإنَّ الفقرة PH i.13 لا تُقدِّم تبريرات من أجل قراءة معرفيَّة لتعابير الشكوكيِّين عن الظاهر. المعنىٰ الواسع لمفردة «دوغما» هو مجرَّد قبول التجربة الحسّيَّة بوصفها تجربة تكون مصادقاً عليها بالشكل الكافي بالطريقة التي وجدناها فيها مسبقًا[5] لم يخرج سكستوس من طريقه إفساحاً للمجال أمام نموذج غير دوغمائيِّ من الاعتقاد حول مسائل الوجود الحقيقيِّ. علىٰ العكس، يقول: إنَّه عندما يُصرِّح بشيء بوصفه شكَّاكاً يستخدم فعل الكون ‘to be’ الذي يُفهَم بأنَّه يعني «الظهور»[6] وهو يتطرَّق لشرح هذا الاستعمال لـ ‘to be’ في M xi.18 بتعابير غير معرفيَّة بما لا يدع مجالاً للشكِّ:

لعبارة «كان» معنيان: (أ) المعنىٰ الأوَّل «كان» فعلاً «huparchei»، كما نقول في اللحظة الراهنة: «يكون نهار» بدل «يكون بالفعل نهار»، (ب) المعنىٰ الثاني «يظهر»، كما يعتاد بعض الرياضيِّين علىٰ القول عادةً: إنَّ المسافة بين نجمين «تكون» بطول ذراع، يقصدون بهذا ما يطابق «إنَّها تبدو كذلك، ولكنَّها بدون شكٍّ ليست كذلك في الواقع»؛ إذ قد تكون بالفعل مائة ميل، لكنَّها تبدو ذراعاً بسبب الارتفاع وبُعد المسافة عن العين.

ثمّ يُطبَّق هذا التوضيح علىٰ واحد من الأقوال التي سبَّبت لنا الاضطراب في السابق، «بعض الأشياء تبدو خيراً، وبعضها يبدو شرًّا»[7].

2 - بالانتقال إلىٰ المعنىٰ الضيِّق لـ «دوغما»، فإنَّ الفكرة التي يجب ملاحظتها هي أنَّ أيَّ شيء غير واضح هو موضوع للتحقيق العلميِّ، وغير الواضح بحكم تعريفه هو الذي لا يمكن أنْ يُعرَف

(64)

إلَّا عن طريق الاستدلال[1]. سيتمُّ تحديد مجال التحقيق أو الاستفسار من خلال مقدار الأشياء غير الواضحة، كما يقول سكستوس؛ «لأنَّ البيرونيَّ لا يُصدِّق بشيء ليس واضحاً». لكن هجوم البيرونيِّ علىٰ معيار الحقيقة يلغي الأدلَّة علىٰ كلِّ شيء يعتبره الدوغمائيُّ واضحاً[2]. خذ واحداً من أمثلة الدوغمائيِّين المفضَّلة علىٰ الأشياء الواضحة والجلّيَّة لدرجة لا يمكن الشكُّ فيها، وهو تعبير: «يكون نهار» الذي يظهر مرتبطاً بالمعيار[3] وبالمقطع الذي مرَّ اقتباسه: يرفض الشكَّاك أنَّها واضحة، وهو - كما رأينا - لا يقبلها إلَّا كتعبير غير معرفيٍّ عن الظاهر، «يبدو أنَّه كان نهاراً» [لكن قد لا يكون كذلك في الواقع]. كلُّ ما يتجاوز الظواهر «غير المعرفيَّة» عرضة للتحقيق[4].

باختصار لا أعتقد أنَّ إشارة وحيدة إلىٰ العلوم (ذلك أنَّها لا تتكرَّر في مكان آخر عند سكستوس) في تعريف مقتبس من أحد غيره[5] هي ركيزة كافية يُحمَد عليها سكستوس، وهي التمييز بين الاعتقاد الدوغمائيِّ وغير الدوغمائيِّ. ولن يكفي حتَّىٰ عندما نضيف للموازين، أنَّ سكستوس يُكرِّر تقييد ما يوقف الحكم حياله بسؤال: كيف تكون الأشياء «في الطبيعة»[6]؟ أو كيف تكون الأشياء «بقدر تعلُّقها بما يقول الدوغمائيُّون عنها»[7]، أو بصورة غامضة، كيف تكون الأشياء «بقدر ما أنَّها مسألة تتعلَّق باللوغوس» (التصريح، التعريف، العقل)[8]. يتوقَّف مدىٰ تقييد هذه المواصفات للشيء الذي تتباين معه، وفي كلِّ مسألة يكون التباين مع كيفيَّة ظهور الأشياء، حيث يجب أنْ يُفهَم هذا -كما مرَّ معنا- بطريقة غير معرفيَّة. وبالتالي إنَّ كلَّ ما تركنا معه، هو الانطباع الانفعاليُّ[9] أو التجربة[10] التي يُعبِّر عنها بتعبير لا يدَّعي الحقيقة حيال

(65)

ماهيَّة المسألة. وكما يُلخِّص سكستوس تجنُّب الشكَّاكين للدوغمائيَّة، في نهاية المقطع الذي احتجزنا طويلًا جدًّا، إنَّه ببساطة: «يقول ما يبدو له ويُعلِن تجربته الخاصَّة بدون اعتقاد، ولا يُؤكِّد شيئاً حيال الأشياء الخارجيَّة»[1].

يمكن أنْ نضيف إلىٰ ما مرَّ أنَّ الشكَّاك لو سمح لنفسه أنْ يعتقد شيئاً سيتَّهمه معارضو البيرونيَّة بمغالطة تجاهل المطلوب[2] بشكلٍ جدّيٍّ عندما يطرحون الاعتقادات الغريزيَّة البسيطة، التي يدَّعون أنَّها لا تنفصل عن استعمال هذه الحواسِّ وعن الأفعال اليوميَّة. (انظر حجج أُرسطوقليس وغالن Galen التي ذكرناها سابقاً). يعتبر أُرسطوقليس بشكل متكرِّر أنَّ هدف الفلسفة التي تتظاهر أنَّها تتجنَّب كلَّ الأحكام والاعتقادات من أيِّ نوع كانت، بحيث يستطيع القول: إنَّه من غير الملائم للبيرونيِّ أنْ يُقدِّم أيَّ تأكيد أو حجَّة متناقضة[3] رأينا أنَّ سكستوس يربط  الدوغمائيَّة بالمزاعم القائلة: إنَّ الشيء يكون (ببساطة) صحيحاً، وهو مضطرٌّ لقول ذلك إذا أراد التقليل من آمال الإنسان العاديِّ ومخاوفه؛ لأنَّ الأمل والخوف يمكن أنْ يأتيا بشكل واضح من أيِّ نوع من الاعتقاد حول ماهيَّة المسألة أو ما ستكون عليه؛ لا ضرورة لأنْ يكون اعتقاداً دوغمائيًّا بمعنىٰ أنَّه صارم. المسألة المطروحة هنا هي الاعتقاد العاديُّ للإنسان العاديِّ بأنَّ الحصول علىٰ المال خير ومرغوب، أو الشهرة أو اللذَّة مثلاً، والبقاء من دونها هو شرٌّ[4]. فالاعتقاد بالمعنىٰ الذي ينتقده سكستوس مسؤول عن كلِّ الأشياء التي يسعىٰ إليها الإنسان ويتجنَّبها من خلال أحكامه الخاصَّة[5]. يلزم عن المنطق الداخليِّ للبيرونيَّة أنَّ العقيدة والمبدأ dogma وdoxa سكستوس لا يُميِّز بين هذين المصطلحين اللذين يعنيان في الواقع: الاعتقاد[6].

يكمن وراء هذا  التفسير سؤال فلسفيٌّ مفيد جدًّا، وهذا السؤال هو: هل يمكن أنْ يحصل التمييز بين الاعتقاد الدوغمائيِّ وغير الدوغمائيِّ وبأيِّ عبارات؟ يمكن أنْ يكون الخطُّ الواعد

(66)

الذي يمكن البدء منه هو التمييز بين الاعتقاد بأنَّ العسل حلو المذاق، والاعتقاد بأنَّ العسل حلو في الواقع بمعنىٰ أنَّ الحلاوة موجودة في العسل كجزء من طبيعته الموضوعيَّة. لهذا الكلام صدىً فلسفيّ عندما يتعلَّق الأمر بالصفات الحسّيَّة، لكن قد نضطرُّ لشرح ما يعادل عند تطبيقه علىٰ أمثلة مثل: «يكون نهار»، «أنا أتحدَّث»[1]، أو «هذا رجل»[2]. ومن جديد قد يشير المرء إلىٰ أنَّ الاعتقاد غير الدوغمائيِّ هو اعتقاد غير قائم علىٰ تبريرات وتفكير منطقيٍّ واستجابة له، لكن هذا سيتسبَّب بقطع العلاقة بين الاعتقاد والحقيقة. ما يعترض عليه سكستوس هو قبول أيِّ شيء علىٰ أنَّه حقيقة، وأيُّ قبول من هذا النوع سوف يعتبره طريقاً إلىٰ الدوغمائيَّة[3]. وأنا لا أعتقد أنَّ هناك مفهوماً للاعتقاد يفتقد لهذه العلاقة بالحقيقة، وبطريقة أكثر تعقيداً، مع المنطق[4].  كما أنَّ هيوم لم يفعل، ولم يجد تناقضاً في القول: إنَّ الحجج الشكوكيَّة تعجز عن زلزلة الاعتقاد. لكن كلَّ ما أكَّدته هنا هو أنَّ سكستوس لا يملك مفهوماً آخر للاعتقاد غير القبول بالشيء بوصفه حقيقة.

بقي أنْ ننظر في ما إذا كان هذا القول اعتراضاً علىٰ سكستوس، يبدو أنَّ عدداً من بياناته عن الظاهر تقتضي القراءة المعرفيَّة التي يرفضها. ومن الأمثلة الكثيرة علىٰ ذلك قوله: «يبدو لي أنَّ لكلِّ زعم دوغمائيٍّ حقَّقتُ فيه ادِّعاء دوغمائيًّا مقابلاً يساويه في استحقاق الاعتقاد وعدم استحقاقه[5]. يصرُّ سكستوس علىٰ أنَّ هذا الكلام ليس دوغمائيًّا، أي لا يُعبِّر عن الاعتقاد، إنَّه إعلان عن حالة وجدانيَّة إنسانيَّة، تكون شيئًا يظهر أو هو ظاهر للشخص الذي يختبره «ho esti phainomenon toi paschonti». ويكون هذا صحيحًا إذا كانت عبارة «يبدو لي أنَّه كذا» تعني «لدي ميل للاعتقاد أنَّه كذا». وقد يكون هناك تجربة من المناسب أنْ تُسجَّل بتلك العبارات. لكن الميل للاعتقاد هو آخر ما يريد الشكَّاك إدخاله في سجلِّ الأحداث. يجب أنْ يُفهَم فعل «ظهر» في العبارة التي وردت أعلاه، وفي غيرها بطريقة غير معرفيَّة، كما رأينا. لا شكَّ أنَّ القراءة غير المعرفيَّة تكون محض خدعة من جانب سكستوس أحياناً، لكن معارضة الرافض لن تكون بذاتها أفضل من مجرَّد تأكيد مضادٍّ إلَّا إذا حشد المزيد

(67)

من الأقوال. أعتقد أنَّ ثَمَّة كثيراً ممَّا يقال حول المظاهر الملحقة بتصريحات الشكَّاك الفلسفيَّة. إنَّها تُشكِّل صنفاً من المظاهر التي تكمن في مركز فهم الشكَّاك لنفسه ولحياته.

تذكَّر أنَّنا نعرف تماماً لماذا يبدو للشكَّاك أنَّ أيَّ ادِّعاء دوغمائيٍّ له مقابل يساويه من حيث استحقاق القبول أو عدم استحقاقه، وهذا ناتج عن عدد من الحجج المعدَّة لتبيان -بما لا يدع مجالًا للشكِّ- أنَّ هذه في الواقع هي المسألة. يمكن لهذه الحجج أنْ ترغمه علىٰ تعليق الحكم؛ لأنَّها ترغمه علىٰ قبول نتائجها، القبول يعني أنَّ الادِّعاءات الدوغمائيَّة في كلِّ مسألة تكون متعادلة بالفعل، وبالتالي يكون المرء مضطرًّا لتعليق الحكم. (وهذا بالطبع يكون كافياً في العادة، لطريقة استنتاج سكستوس لحججه). غير أنَّ القبول بصدق القضيَّة (ب) علىٰ أساس حجَّة ما، يتميَّز بصعوبة عن الاقتراب من الاعتقاد بصدق القضيَّة (ب). وبعد تبيان أنَّ هناك أسبابًا قليلة أو كثيرة للاعتقاد بقضيَّة من المستوىٰ الأوَّل تقول: إنَّ العسل مرُّ المذاق كما هو حلو المذاق، لقد أُعطي الشكَّاك سببًا للاعتقاد بقضيَّة من المستوىٰ الثاني تقول: إنَّ الأسباب المؤيِّدة والمعارضة متعادلة بشكلٍ مساوٍ. وعندما يتبيَّن - سواء علىٰ أُسُس عامَّة أو من خلال تراكم الأمثلة - أنَّه لا يمكن أنْ يكون الادِّعاء حول الوجود الحقيقيِّ مفضّلاً علىٰ رفضه، فقد قدَّم من جديد سبباً للاعتقاد بصحَّة التعميم. وبالتأكيد يبدو له أنَّ المزاعم الدوغمائيَّة متعادلة بشكلٍ متساوٍ، لكن هذا الظاهر، المزعوم، عندما يكون نتيجة للحِجاج، لا يكون مفهوماً من جهة العقل، والاعتقاد والحقيقة، المفاهيم نفسها التي يكون الشكَّاك في غاية الحرص علىٰ اجتنابها[1]. فهو يريد أنْ يقول شيئاً بصيغة: «يظهر لي أنَّ القضية (ب) صادقة لكنَّني لا أعتقد أنَّ القضيَّة (ب) صادقة»، مع استعمال غير معرفيٍّ لـ «يظهر»، لكن هذا لا يبدو واضحاً إلَّا إذا كانت «يظهر» في الواقع معرفيَّة، وفي هذه الحال فهي تُؤدِّي إلىٰ تناقض: «أنا (أميل لـ) أعتقد أنَّ القضيَّة (ب) صادقة لكنَّني لا أعتقد أنَّ القضيَّة (ب) صادقة». فكيف يمكن اجتناب هذه النتيجة؟

لا يمكن تجاوز هذه الصعوبة من خلال الإشارة إلىٰ أنَّ الشكَّاك يخرج من حججه في حالة من الدهشة وليس في حالة اعتقاد. قد تكون الدهشة ناتجة عن الحجج المؤيِّدة أو المضادَّة؛

(68)

أنت الآن مجذوب بهذا الاتِّجاه، والآن حتَّىٰ إنَّك لا تعرف ماذا تقول[1]. المشكلة في اكتشاف السبب الذي يجعل هذا ينتج طمأنينة ولا ينتج قلقاً شديداً[2].

كما لا ينبغي لنا أنْ نسمح لسكستوس أنْ يُنكِر أنَّ المظاهر الفلسفيَّة للشكَّاك هي نتيجة لحجَّة، فهو يُعلِن في بعض الأحيان أنَّ الحجج الشكوكيَّة لا تُقدِّم تفنيداً برهانيًّا لآراء الدوغمائيِّين، بل مجرَّد رسائل تذكير أو إشارات علىٰ ما يمكن أنْ يُقال ضدَّها، ومن خلال هذه الرسائل ذات القوَّة المتساوية للمواقف التي تبدو متعارضة[3]. في التعابير التقنيَّة للمرحلة فإنَّ الحجج لا تكون إشارات توضيحيَّة، بل إشارات تذكاريَّة. لا أحتاج للاستزادة من المسائل التقنيَّة؛ لأنَّ سكستوس (بصراحة) لا يُقدِّم إيضاحات من أيِّ نوع علىٰ الفكرة الحاسمة عن قول شيء ضدَّ مبدأ أو اعتقاد، ولكن ليس عن طريق التفكير المنطقيِّ أو الأدلَّة ضدَّه. لو عمل الشكَّاك من خلال حجَّة مثبتة منطقيًّا لفكرة تتعادل فيها الأسباب من الجهتين والعقل يُسفِّه نفسه، فإذا كانت حججه (في الجملة الشهيرة الآن) سُلَّماً يمكن أنْ تُلقىٰ عنه بعدما تسلَّقته[4]، إذاً يجب أنْ نُؤكِّد علىٰ أنَّ تأثيرها يحصل من خلال العمليَّات العاديَّة لعقلنا. الإبوخة ليست تأثيراً ميكانيكيًّا أعمىٰ، بل يفترض أنْ تكون نتيجة طبيعيَّة واضحة لاتِّباع قدرتنا البشريَّة علىٰ التفكير بمحاذاة المسارات التي حدَّدتها الحجج الشكوكيَّة.

ثَمَّة إشارة أُخرىٰ، وهي أنَّه قد يكون ما يُسجِّله الشكَّاك من نتائج لحججه عبارة عن إطار ذهنيٍّ استفهاميٍّ لا توكيديٍّ: «إذاً هل الادِّعاءات المتناقضة متعادلة حقًّا؟»، قد يتناسب هذا مع تصنيف الشكَّاك لنفسه بأنَّه zetetikos، المستمرُّ في الطلب[5]، يقول سكستوس: إنَّ بعض الشكَّاكين يُفضِّلون اعتبار صيغة «هذا ليس أرجح من ذاك» سؤالاً: «لماذا هذا وليس ذاك؟»[6]، لكن من جديد يجب أنْ نكون حذرين بالنسبة للطمأنينة. ويستمرُّ الشكَّاك في البحث، ليس بمعنىٰ أنَّ لديه برنامجَ بحث نشط، لكن بمعنىٰ أنَّه ما زال يعتبر السؤال مفتوحاً: هل المسألة هي (ب) أو غير (ب)؟ علىٰ الأقلِّ بالنسبة للقضايا من المستوىٰ الأوَّل التي تتعلَّق بالوجود

(69)

الحقيقيِّ. لكن هذا لا يعني أنَّه يبقىٰ في حالة من التساؤل الفعليِّ حول ما إذا كانت المسألة (ب) أو غير (ب)؛ لأنَّ هذا قد يثير القلق. ما زال ثَمَّة ما ينبغي له أنْ يتساءل حوله، وهو ما إذا كانت الادِّعاءات المتعارضة متعادلة حقًّا.  فلو كان احتمالاً حقيقيًّا بالنسبة له بأنَّها ليست كذلك، فهذا يعني أنَّه احتمال حقيقيٌّ يُرجِّح ضرورة إيجاد أجوبة؛ وإذا كان لا يعرف الأجوبة فإنَّه سيشعر بقلق هائل، كالذي شعر به في بداية تعليمه الشكّيِّ.

بتعبير آخر، إذا كان تحقيق الطمأنينة مطلوباً -في مرحلة ما-، فإنَّ الأفكار البحثيَّة للشكَّاك يجب أنْ تصل إلىٰ حالة من الراحة أو الطمأنينة[1]. لا حاجة لأنْ يكون هناك نهاية لهذا الإنجاز، يمكن للشكَّاك أنْ يكون علىٰ أتمِّ الجهوزيَّة للاقتناع بأنَّ هناك إجابات يجب الحصول عليها، فهو ليس دوغمائيًّا سلبيًّا مزوَّداً بالاعتراضات القبليَّة a priori التي تستبعد احتمال الإجابات باعتباره مسألة مبدأ عامٍّ وبشكل نهائيٍّ[2]. لكن ليس من السهل الوصول إلىٰ الطمأنينة إلَّا إذا لم يكن راضيًا بمعنىٰ ما - حتَّىٰ الآن - من عدم وجود إجابات مرتقبة، ومن أنَّ الادِّعاءات المتناقضة متعادلة بالفعل. وسؤالي هو: إذاً كيف يمكن لسكستوس أنْ يُنكِر أنَّه يعتقد بهذا؟

لا أظنُّه يقدر! فأسباب (الحجج المنطقيَّة) الحالة التي يُسمِّيها سكستس ظاهراً ونتائجها علىٰ السواء (الطمأنينة وتوقُّف الاضطراب العاطفيِّ) كانت بمثابة مبرِّر لنا لتسميتها حالة اعتقاد. وهذا الرفض لادِّعاء سكستوس بأنَّه وصف الحياة بدون اعتقاد يُؤدِّي للإجابة علىٰ سؤالنا المركزيِّ حول احتمال، الحياة التي يصفها سكستوس.

مصدر الرفض الذي كنَّا نحثُّ عليه هو أنَّ الشكَّاك يريد معالجة «يبدو لي أنَّ (ب) صادقة لكنَّني لا أعتقد أنَّ (ب) صادقة» حيث إنَّ (ب) هي قضيَّة فلسفيَّة مثل قضيَّة «الادِّعاءات المتناقضة لها قوَّة متساوية» في مستوىٰ الأمثلة الحسّيَّة من تلك الصيغة مثل «يبدو (يظهر) لي أنَّ العصا الموجودة في الماء ملويَّة، لكنَّني لا أعتقد أنَّها كذلك». هذه القضيَّة مقبولة؛ لأنَّ مقدَّمها يصف تجربة صحيحة بالتعابير اليونانيَّة، انفعال pathos، أو انطباع phantasia، ينتظر تصديقي به. ومن المهمِّ هنا أنَّ التصديق والانطباع مستقلَّان منطقيًّا، فهما ليسا مستقلَّين في القضيَّة

(70)

الفلسفيَّة. فالانطباع في القضيَّة الفلسفيَّة، عندما يقال: كلُّ شيء ويفعل كلَّ شيء، يكون تصديقي بنتيجة الحجَّة، التصديق بأنَّها صحيحة. إنَّه خطر السماح بالكلام عن ظواهر أو انطباعات الفكر: بات مشرَّعاً علىٰ ما يبدو أنْ تعالج حالات هي بالفعل حالات اعتقاد، تفترض التصديق مسبقاً، كما لو كانت مستقلَّة عن التصديق بالطريقة التي يمكن أنْ تكون فيها الانطباعات الحسّيَّة. فإذا كان الانطباع الفلسفيُّ المقنَّع بالشعور الانفعاليِّ مشتملاً علىٰ التصديق، فلن يكون لإصرار الشكَّاك علىٰ التصديق بصحَّته أيّ معنىٰ. سيكون تفكيراً بفعل تصديقٍ إضافيٍّ بالتصديق المفترض مسبقاً. إذا أصرَّ الشكَّاك، وإذا رفض التماهي مع تصديقه، يكون كما لو كان يفصل نفسه عن الشخص (تحديداً هو نفسه) الذي كان مقتنعاً بالحجَّة، وهو يعامل فكره الخاصّ كما لو كان فكر شخص آخر يُفكِّر بفكرة في داخله. وفي الحقيقة، إنَّه يقول: «إنَّها فكرة في داخلي تقول: إنَّ (ب) صادقة، لكنَّني لا أعتقد بها». في الظروف المناسبة، يمكن أنْ يُقال هذا، لكن ليس في كلِّ زمانٍ، ولكلِّ ظاهرة أو  فكرة يحملها المرء[1]. ومع ذلك، هذا ما ستصل إليه الأُمور إذا فُسِّر كلُّ ظاهر قطعاً، رفيع المستوىٰ وكذلك منخفض المستوىٰ، بطريقة غير معرفيَّة.

من الأقوال الخالدة الذكر المنسوبة لبيرو هو الملاحظة التي أعرب فيها عن أسفه علىٰ صعوبة أنْ يُجرِّد المرء نفسه تماماً من إنسانيَّته[2]. (كما تقول القصَّة، كان هذا ردُّه علىٰ اتِّهامه بالفشل في تطبيق ما يعظ به عندما ارتعب ذات مرَّة من كلب). يرىٰ سكستوس أنَّ هدف الشكَّاك هو حفظ كلِّ ما يستحقُّ الحفظ في الطبيعة البشريَّة. لكن يبدو لي أنَّ هيوم والنُقَّاد القدامىٰ كانوا علىٰ حقٍّ، فعندما يرىٰ المرء كيف يضطرُّ الشكَّاك أنْ يفصل نفسه عن نفسه بصورة جذريَّة، فإنَّه سيوافق علىٰ أنَّ الحياة المفترضة بدون اعتقاد ليست - علىٰ الإطلاق - حياة ممكنة للإنسان[3].

*   *   *

(71)
(72)

نقد رَيبية هيوم

معضلة التعرُّف علىٰ حقائق الوجود

 

نور الدِّين السافي[1]

 

أنْ نستحضر فلسفة ديفيد هيوم في دراسةٍ فلسفيَّةٍ في عصرنا الحالي، لا بدَّ من أنْ يكون له ما يُسوِّغه خاصَّة بعد التطوُّرات الكبيرة التي عرفتها الفلسفة والعلوم والثقافات عمومًا بعد قرون من ظهور هيوم وفلسفته. وإذا كان واقع عصره متَّصلاً بزمن نشأة الحداثة الغربيَّة ورؤيتها للعقل والحياة، ومن ثَمَّ رؤيتها للإنسان والله، فإنَّ واقعنا اليوم يعيش تجربة ما بعد الحداثة ليسمح العقل المعاصر لنفسه بالمراجعة وإعادة البناء. ورغم أنَّ عصر التأسيس للحداثة مغاير للعصر الحاليِّ الذي يريد إعادة النظر والتأسيس فإنَّ الفعلين يشتركان في أمرٍ مهمٍّ وعميقٍ ألَا وهو أنَّ العقل النقديَّ يبقىٰ دومًا الأكثر حياةً من أيِّ وجه آخر من وجوه العقل التي أسَّست الأنساق والإيديولوجيَّات والعلوم والتقنيَّات وغيرها. فالعقل النقديُّ هدَّام بنَّاء بالضرورة وفي الوقت نفسه، وهذا ما نلاحظه في أعماق الحركة التاريخيَّة للحضور البشريِّ في هذا العالم.

(73)

وإذا كان النقد هو الفعل الأصيل للعقل الإنسانيِّ فإنَّ عودتنا للحظة هيوم التاريخيَّة تجعلنا نُدرك شروط إمكان قوله وتوجُّهه الفلسفيِّ، ومدىٰ صواب هذا التوجُّه؛ لأنَّ فلسفته تبقىٰ بالضرورة رهينة واقعها التاريخيِّ. فالفيلسوف لا يغادر عصره رغم أنَّه يصبو إلىٰ مطلق ما يتجاوز من خلاله ضرورة الزمان والمكان اللَّذين أنتجاه. قد تبدو محاولة الريبيِّين تقويض العقل بالحجاج والعقلنة هوسًا مفرطًا علىٰ الرغم من أنَّ هذا التقويض هو المرمىٰ الأكبر لكلِّ مباحثهم ومنازعاتهم. فهم يجهدون للعثور علىٰ الاعتراضات ضدَّ تعليلاتنا التجريديَّة كما ضدَّ تلك التي تعود إلىٰ الوقائع والوجود[1].

فما هي طبيعة ريبيَّة هيوم؟ وإلىٰ أيِّ حدٍّ يمكن اعتبارها أحد عناصر البناء الغربيِّ للفكر الحديث؟ إذ لا أحد يُنكِر دور فلسفته النقديَّة في بناء العقل الحديث وما توصَّل إليه من نتائج نظريَّة وعمليَّة. وهل يمكن أنْ نعتبر هذه الريبيَّة مؤشِّرًا نفهم من خلاله طبيعة الحداثة الغربيَّة التي جعلت من نفسها نموذجًا مُعولمًا فكرًا وسياسةً وأخلاقًا.

ما هي ملامح ريبيَّة هيوم؟

تقوم فلسفة هيوم علىٰ فكرة كثيرة التكرار في مؤلَّفاته ألَا وهي فكرة الطبيعة الإنسانيَّة، ويربط هذه الطبيعة بفكرة الاعتقاد والإدراك والتفكير وغيرها من المفاهيم التي يحاول تفكيكها دوماً من خلال العودة إلىٰ فكرة الطبيعة الإنسانيَّة. كما نلاحظ أنَّه يقيم دوماً مقارنة بين حياة الإنسان العاديَّة أو الطبيعيَّة والاعتقادات التي يحملها  في حياته اليوميَّة والعمليَّة وحياة الفيلسوف الفكريَّة التي تتجاوز اعتقادات الإنسان اليوميَّة؛ لبناء الأنساق الفلسفيَّة التي تريد احتلال مكان الاعتقادات القائمة فعلاً في الممارسة والحياة. ونلاحظ تهكُّم هيوم من هذه الفلسفات التي يراها غريبة الأطوار غير مجدية وغير نافعة؛ لأنَّها منحت العقل مقامًا لا ينسجم مع طبيعته، وسمحت له بنسج عوالم خياليَّة فكريَّة لا واقع لها ولا حجَّة.

«ماذا نعني بريبيِّ؟ وإلىٰ أيِّ حدٍّ يمكن أنْ ندفع مبادئ الشكِّ والحيرة الفلسفيَّة؟»[2]. بهذا السؤال يُوجِّه هيوم بحثه في معنىٰ الريبيِّ وينتهي بنا إلىٰ أهمّيَّة الاعتدال في الريبيَّة ضدَّ الريبيَّة المغالية المتطرِّفة، التي تُؤدِّي إلىٰ استحالة النظر والعمل، وضدَّ الدوغمائيَّات الفلسفيَّة التي تبني أنظمة فكريَّة وتعتبرها يقينيَّات حقيقيَّة لا يمكن أنْ ينال منها ريب الريبيِّين. ولا

(74)

شكَّ في أنَّه لا يوافق علىٰ هذين التصوُّرين للفلسفة الريبيَّة من جهة والفلسفة الدوغمائيَّة من جهة أُخرىٰ. إنَّه إذًا، ينادي بضرورة ممارسة ريبيَّة معتدلة تسمح للعقل بالنقد ومراجعة أفكاره باستمرار. «يجب الإقرار بأنَّ هذا النّوع من الريبيَّة حين يكون أكثر اعتدالاً يمكن أنْ يفهم بمعنىٰ معقول جدًّا»[1]. وهذه الريبيَّة التي يُسمِّيها معتدلة تقف وسطاً بين دوغمائيَّة الفلاسفة وريبيَّة القدامىٰ. ريبيَّة معتدلة يُشرَّع لها؛ ليجعل من مشروعه الفلسفيِّ مشروعًا معتدلاً رغم ريبيَّته التي سمَّاها ريبيَّة معتدلة أيضًا. وليُؤكِّد صدق توجُهه هذا يستدعي هيوم ثلاثة أنواع من التيَّارات القائمة:

- التيَّار الأوَّل يُمثِّله الإنسان العامّيُّ الحامل لاعتقاداته الحسّيَّة والفكريَّة في رؤيته للعالم وعدم التشكُّك فيه.

- التيَّار الثاني يُمثِّله الفلاسفة الذين ينقدون التصوُّر العامّيّ ويُبيِّنون تهافته باعتبار أنَّ الحواسَّ لا تعطينا إلَّا تمظهُرات خاطئة لا يمكن الثقة فيه. ومن ثَمَّ فإنَّ الحقيقة الفعليَّة هي التي يبنيها العقل؛ إذ ليس العالم في حقيقته إلَّا ما استطاع العقل أنْ يتمثَّله ويتصوَّره.

- التيَّار الثالث هو تيَّارٌ ريبيٌّ قديمٌ وعميقٌ ينتسب إلىٰ البيرونيَّة أي المدرسة الريبيَّة الأُولىٰ التي عرفها اليونان. يُقدِّم إلينا جميع الحجج للتشكيك في قدرات الحسِّ والعقل معاً، وأنَّ المعرفة غير ممكنة مطلقًا. «لا يكن لأيِّ بيرونيٍّ أنْ يتوقَّع لفلسفته أيَّ تأثير علىٰ الذِّهن أو يكون تأثيرها إنْ وُجِدَ مفيدًا للمجتمع، ويجب عليه علىٰ العكس أنْ يُقِرَّ بأنَّ كلَّ الحياة البشريَّة ستفنىٰ إنْ سارت مبادئه بصورة كلّيَّة وثابتة. وسيتوقَّف كلُّ حوار وكلُّ فعل علىٰ الفور، وسيبقىٰ الناس في سبات كامل إلىٰ حين يضع عدم إشباع الحاجات الطبيعيَّة نهاية لحياتهم البائسة»[2].

بهذا تتأكَّد نزعة هيوم الرافضة للريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة، ومعياره في هذا الرفض هو النفع الواقعيُّ والحياتيُّ. وهو معيار لا ندري من أين استقاه إذا استبعدنا طبيعة الحياة الإنسانيَّة الواقعيَّة التي يعتبرها مرجعاً مهمًّا في تقرير كلِّ شيء.

يمكن من خلال ما تقدَّم من تعبير عن موقف هيوم من الريبيَّة نفسها أنْ نتصوَّر قناعاته

(75)

التي انطلق منها ليُبرِّر ريبيَّته المتعدلة كما أراد أنْ يُسمِّيها. إنَّه يرىٰ نفسه ريبيًّا يواجه دوغمائيَّة الأنساق الفلسفيَّة من جهة، ويرىٰ نفسه في الوقت نفسه حاملاً لمشروع في المعرفة أو نظريَّة خاصَّة في المعرفة. والحامل لنظريَّة في المعرفة لا يكون ريبيًّا فكيف يُسمِّيها ريبيَّة إذًا؟ «هناك حقًّا ريبيَّة أكثر اعتدالاً، فلسفة أكاديميَّة يمكن أنْ تدوم وأنْ تكون مفيدة في الوقت عينه، ويمكن أنْ تتحصَّل جزئيًّا عن البيرونيَّة أو الريبيَّة المتطرِّفة عندما نجري فيها بواسطة الحسِّ العامِّ والتفكير بعض التصحيح في شكوكها غير المتمايزة»[1].

ينطلق هيوم إذًا من مسلَّمة الريبيِّين، ويُكلِّف نفسه تعديلها لتجني تطرُّفها تحقيقاً للفائدة والمنفعة الطبيعيَّة والإنسانيَّة؛ لمواجهة كلِّ أشكال الوثوقيَّة التي بَنَتها الفلسفات قديمًا وحديثًا وبمختلف مدارسها[2]. ويضع لنفسه معيارًا مهمًّا هو الحياة الطبيعيَّة والنفع: «فالطبيعة هي أبداً فائقة القوَّة من أجل مبادئها»[3].

الفائدة والمنفعة مبدآن مهمَّان عند هيوم ينطلق منهما لتقرير موافقته لأمر أو رفضه. وإلىٰ جانب هذه القيمة يضع لنا مرجع نظر للتحقُّق من صدق تفكيرنا. إنَّه الوجود الخارجيُّ والواقع علىٰ الرغم من وعيه بالشكوك العديدة والاعتراضات الكثيرة التي قدَّمها الفلاسفة قبلَه والذي شكَّك طويلاً في مدىٰ موضوعيَّة الواقع الخارجيِّ واستقلاله عن إدراكاتنا، فلعلَّ العالم الخارجيَّ ليس له إلَّا وجود في الذِّهن الَّذي لولاه لما كان للعالم الخارجيِّ وجود. ويمكن أنْ نُؤكِّد هذا التصوُّر حين نعرف أنَّ هيوم استفاد كثيرًا من أعمال فيلسوفين مهمَّين هما: جون لوك، والأب بركلي.

أمَّا لوك فلا شكَّ في أنَّه الأب الأوَّل للتوجُّه التجريبيِّ في نظريَّة المعرفة الغربيَّة الحديثة. ولا شكَّ في أنَّه في اتِّجاهه إلىٰ ديكارت أب الحداثة الغربيَّة والعقلانيَّة القائمة علىٰ الكوجيتو يحاول التخلُّص من وطأة الكوجيتو المتعالي ليُرجِع العقل إلىٰ فضائه الأوَّل الأصليِّ، أي الواقع الحسِّيِّ الحاضر أمام أدواتنا الإدراكيَّة الظاهرة، أي الحواسَّ محاوراً ديكارت ومن سار سيره في تشكيكهم في قدرات الحسِّ المخادع حسب تصوُّرهم، وأنَّ وهم الخداع هذا هو الذي أوقعنا

(76)

في وهم العقلانيَّة المتعالية التي وضعها الكوجيتو، فما كان علىٰ لوك إلَّا أنْ يعيد للتجربة الحسِّيَّة مكانتها الأصليَّة وفاعليَّتها الحقيقيَّة في بناء المعرفة. ولا شكَّ أيضاً في أنَّ تجريبيَّة لوك الفلسفيَّة التي استعاد فيها منزلة الإدراكات الحسِّيَّة مخلِّصًا العقل من أوهام الكوجيتو الفطريَّة[1]، لم يتوقَّف عند حدود التجربة الحسِّيَّة، ولم يحبس الفكر في دائرة هذه التجربة وإنَّما وسَّع أُفُقها؛ لأنَّه اعترف بالدِّين والمسيحيَّة والإيمان متحرِّرًا في الوقت نفسه من سلطة رجال الدِّين الكاثوليك؛ ليبني رسالة في التسامح يفصل فيها بين الأمر الإلهيِّ والسلطة البشريَّة باعتبار مدنيَّة سلطة الإنسان، التي لا تستطيع أنْ تتحوَّل إلىٰ سلطة إلهيَّة مطلقة لا يستأثر بها إلَّا الله نفسه الذي لم يُكلِّف أحداً أو جهةً لمثل سلطانه علىٰ الأرض. «لو أنَّ ممارسة الدِّين تُترَك بسلام للاختيار الشخصيِّ، ولو يُسمح لكلِّ فرد أنْ يمارس العبادة الدِّينيَّة بطريقته الخاصَّة فلا يتظاهر بدافع الزهو الشديد بذاته بأنَّه أكثر معرفةً وأكثر اهتماماً بروح غيره من البشر وخلاصهم الأبديِّ أكثر من اهتمامه بنفسه، فهذا من شأنه حقًّا أنْ يُهدِّد السلام في العالم»[2]. ومؤرِّخو الفلسفة يعلمون جيِّدًا أنَّ لوك لم يُوضِّح لنا في فلسفته كيف يمكن أنْ نُحقِّق هذا الإيمان إذا سلَّمنا بنظريَّته في المعرفة القائمة علىٰ أساسٍ تجريبيٍّ خالص. والمعروف أنَّ لوك كان محافظًا علىٰ عقيدته الإيمانيَّة رغم خصامه الصريح مع السلطات الكنسيَّة ودعوته لمقاومة الإكراه الدِّينيِّ وإزالة السلطة الدِّينيَّة. ففي أوائل 1596م قبل أنْ يشرع في كتابة أيٍّ من مؤلَّفاته الرسميَّة، وضع بحماسة وتخيُّل تصوُّرًا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي ينظر فيها إلىٰ العقل بوضوح بوصفه عبداً للعواطف، فبدلاً من أنْ يُسيطِر العقل ببساطة علىٰ أفعال الإنسان وتصرُّفاته فإنَّه لا يعدو أنْ يكون  مجرَّد وسيلة لتبرير رغباته[3]. ومع ذلك فإنَّ لوك يعتقد أنَّ «تصوُّرَه لنطاق الفهم البشريِّ وحدوده الذي طرحه في «مقال في الفهم البشريِّ» هو المفهومَ الذي أقرَّ هو نفسه بأنَّه رائعته الفكريَّة؛ وكان هذا هو نفسه المفهوم الذي عَلِقَ في مخيِّلة الأجيال القادمة»[4]. وبهذا استطاع وضع تجربة فلسفيَّة جديدة في أُوروبا

(77)

الإنكليزيَّة تقوم أوَّلاً علىٰ تجريبيَّة المعرفة وحدودها، وذاتيَّة الإيمان وخصوصيَّته، وتسامح السياسة ومدنيَّتها، وسلطان الإله المطلَق الذي لا يُمثِّله أحد في الأرض إلَّا حالة المؤمن به الذي اختاره طوعاً وتعبُّداً.

وأمَّا بركلي فقد سار في اتِّجاه آخر رغم أنَّه دعَّم الموقف التجريبيَّ، اتِّجاه يهدف إلىٰ إثبات وجود الله بصورة مغايِرة لما هو سائد عند من سبقه من رجال الدِّين والفلاسفة. ورغم أنَّ مهمَّته القصوىٰ ترمي إلىٰ هذه الغاية أي إثبات وجود الله إلَّا أنَّه أكَّد علىٰ الطابع الحسِّيِّ للمعرفة بشكل مغاير لمذهب الحسِّيين والتجريبيِّين قبله الأمر الذي جعل بركلي متميِّزاً ومختلفاً عمَّن جاء قبله من أصحاب نظريَّات المعرفة العقليَّة والمثاليَّة والمادِّيَّة والحسِّيَّة وغيرهم. وقد انطلق مذهبه في المعرفة من فرضيَّة أولىٰ مهمَّة هي أنَّ الإدراك لا يكون إلَّا حسِّيًّا؛ لأنَّه الوسيلة الوحيدة التي تُطلِعنا علىٰ العالم الخارجيِّ إلَّا أنَّه يجب أنْ نُميِّز «بين ما تُدركه الحواسُّ وبين ما نستدلُّه من ذلك الإدراك بالعقل والذاكرة، ما يعني في النهاية أنَّنا نُدرك فحسب أفكارنا وتصوُّراتنا. ففي البدء كانت الفكرة أو الصورة وفي النهاية أيضاً كانت الفكرة أو الصورة»[1]، وأساس هذا التصوُّر وضامنه هو الوجود الإلهيُّ، فكلُّ شيء نُدركه إنَّما يأتي من قِبَل الله لا من مصدر آخر. وإذا ما أقدم امرؤ ووضع هذه البديهيَّة موضع تساؤل فإنَّه ينزلق مباشرةً إلىٰ النزعة الشكِّيَّة التي اعتبرها بركلي المأزق الكبير الذي يواجه المادِّيَّة. فالأشياء عنده لا تتمتَّع بوجودٍ حقيقيٍّ دائم، إلَّا من حيث إنَّها قائمة في عقل الله، أو في العقل اللَّامتناهي. وهذه النقطة تُمثِّل حجر الزاوية في فلسفة بركلي كلِّها[2]. فالمعرفة بهذا المعنىٰ حسِّيَّة وحقِّيَّة ما نعرفه لا يعود إلىٰ عقلنا أو ما وصلنا من محسوسات خالصة لأنَّ المادَّة في آخر الأمر ليست إلَّا مجموعة من الصفات الحسِّيَّة التي يرجعها بركلي إلىٰ مجرَّد تأثيرات ذاتيَّة غير مفرِّق في ذلك بين الصفات الثانويَّة والصفات الأوَّليَّة، وينتهي من هذا كلِّه إلىٰ أنَّ الجوهر المادِّيَّ لا وجود له[3]. وإذا كان الأمر علىٰ هذا النحو فإنَّه ينتهي بالضرورة إلىٰ التسليم بروحانيَّة النفس؛ لأنَّ روحانيَّتها شرط وجود لمحات العقل وحدوساته، والتسليم ضرورة الإلهيَّة لكونها شرط وجود إدراكاتنا نفسها؛ لأنَّ ما يصلنا من الحواسِّ لا يكفي لبناء فكرتنا عنها. فالله ضامنٌ للحقيقة ولكن بمعنىٰ مغاير للمعنىٰ الديكارتيِّ. وهو الضامن الذي يقي العقل من الوقوع في

(78)

الرَّيب. وبالتالي لا يمكن للمادِّيِّ إلَّا أنْ يكون ريبيًّا بالضرورة؛ لأنَّه يكتفي بإدراكاته الحسِّيَّة ولا يمنح للوجود الإلهيِّ أيَّ قيمة معرفيَّة أو وجوديَّة.

وبالعودة إلىٰ فلسفة لوك وبركلي يتبيَّن لنا بوضوح الأسباب الفعليَّة التي وجَّهت فلسفة هيوم هذا التوجُّه. فهو من جهة يذهب مذهب الحسِّيِّين الذي أسَّسه لوك قبله لما اعتبر العقل صفحة بيضاء، وأنَّ كلَّ ما في العقل ليس له من مصدر إلَّا الواقع المحسوس. غير أنَّ لوك لم يصل به القول والاستننتاج إلىٰ أبعاد الدِّين والإيمان بالله في نظامه الفلسفيِّ علمًا وأخلاقًا وسياسةً. وهذه النقطة الأخيرة ستكون محلَّ نقد هيوم الذي يقرُّ بأنَّنا لا نستطيع التسليم بمثل هذا الأمر؛ لأنَّ المدرَكات الحسِّيَّة لا توصلنا إلىٰ ذلك بقدر نستطيع فيه أنْ نثق في استنتاجاتنا الثقة التامَّة. ولكنَّ هيوم من جهة أُخرىٰ كان عارفًا بالنقد الذي قام به بركلي للردِّ علىٰ المذهب الحسِّيِّ، الذي أقامه لوك وعارفًا بالموقف الذي قدَّمه في خصوص طبيعة الإدراك والعقل والحقيقة، وكذلك منزلة الله ودوره في بناء اليقين والحصول عليه. بل كان عارفًا تمامًا بخطورة التنبيه الشديد الذي صرَّح به في أنَّ المادِّيَّ لا يمكن أنْ يكون إلَّا ريبيًّا. هذه المعرفة اجتمعت جميعها عند هيوم؛ ليُقدِم علىٰ بناء تصوُّر ريبيٍّ اعتبره معتدلاً ضدَّ الريبيَّة البيرونيَّة المطلَقة من خلال تأكيده علىٰ الإدراك الحسِّيِّ والاكتفاء به في جميع تصوُّراته المعرفيَّة والأخلاقيَّة والدِّينيَّة وغيرها. إنَّه واعٍ تمام الوعي لقيمة مشروعه الفلسفيِّ المبنيِّ علىٰ الإدراك الحسِّيِّ والمعترف بالريبيَّة وإنْ كانت معتدلة، والمقبلة علىٰ موقف سلبيٍّ من المسألة الدِّينيَّة والإلهيَّة لكونها تخرج ضرورة من دائرة الإدراك الحسِّيِّ الذي يُمثِّل منطلق هذه الفلسفة.

ما هي الطبيعة البشريَّة عند هيوم؟

أقام هيوم بناءه الفلسفيَّ علىٰ فكرة الطبيعة البشريَّة، بل جعلها عنواناً لكتابه الأشهر «رسالة في الطبيعة البشريَّة». ولتحليل هذه الطبيعة تناول المسائل التالية: تحليل الإدراك العقليِّ، وتحليل العواطف، وتحليل الأخلاق. ولتعريفها يقول:

يمكن للفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة أنْ تُعالَج بحسب كيفيَّتين مختلفتين لكلٍّ منهما مزيَّتها[1].

(79)

وهذا يعني أنَّ علم الطبيعة البشريَّة هو الفلسفة الخلقيَّة، فقد ساوىٰ بينهما أي الفلسفة الخلقيَّة أو علم الطبيعة الإنسانيَّة. والجواب عن هذه المسألة موجود في نوعين من الفلسفات قال عنها هيوم: فلسفات الفعل وفلسفات العقل. أي إنَّ فلسفة الفعل تنظر إلىٰ الإنسان من جهة كونه إنساناً فاعلاً، أي إنَّه  مولود للفعل أساساً. وفلسفة العقل تراه عاقلاً أكثر من كونه فاعلاً. وهم يجتهدون في تربية ذهنه أكثر من تهذيب أخلاقه، إذ «يعتبرون الطبيعة الإنسانيَّة موضوعاً للتأمُّل النظريَّ ويفحصونها فحصاً دقيقاً سعياً لإدراك تلك المبادئ التي تُسيِّر أذهاننا وتثير أحاسيسنا، وتجعلنا نقبل أو نُنكِر موضوعاً بعينه أو فعلاً بعينه أو سلوكا بعينه»[1]. وبهذا التمييز يريد هيوم أنْ يُبيِّن موقفه الصريح والواضح من الفلسفة الميتافيزيقيَّة التي يعتبرها وهماً وشعوذةً مقابل الفلسفة الأُخرىٰ التي يقول عنها: إنَّها علم، وإنَّ الميتافيزيقا تنتشر دوماً في المواقع التي لم يدخل إليها العلم والتفكير الحقيقيُّ. «إنَّ المنهج الوحيد الذي نقدر به علىٰ تحرير المعرفة من هذه المسائل المستغلقة هو أنْ نجدَّ في تقصِّي طبيعة الذِّهن البشريِّ وأنْ نُبيِّن من خلال تحليل دقيق لقواه وطاقاته أنَّه ليس مُعدًّا بأيِّ وجه من الوجوه للخوض في مثل هذه الموضوعات القصيَّة والمستغلَقة»[2]. إنَّ معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم الميتافيزيقيِّ، وهم القدرة علىٰ النفاذ إلىٰ موضوعات مستغلَقة علىٰ الذهن استغلاقاً فضلاً عن وهم العلميَّة[3]. فإذا كانت معرفة الطبيعة البشريَّة تقتضي نبذ الوهم أي الميتافيزيقا فإنَّه بالضرورة لا بدَّ من أنْ يكشف لنا هيوم كيف نخرج من الوهم إلىٰ الحقيقة، ومغادرة الميتافيزيقا إلىٰ العلم سيكون من خلال «معرفة الطبيعة الإنسانيَّة أي إنشاء علم الطبيعة البشريَّة هو قبل كلِّ شيء وعلىٰ نحو رئيسيٍّ نقد لا يمكن أنْ يقوم به إلَّا علىٰ تحليل قوىٰ الذِّهن وامتدادها الطبيعيِّ»[4]. وهو تحليل فعليٌّ وواقعيٌّ لأنَّه يقوم علىٰ وقائع أثبتت جدواها في العلوم التي نعرفها والتي لا يخفي هيوم إعجابه بها، ونعني بهذا الفيزياء التي أرساها نيوتن ومن معه من العلماء. «وهكذا، فإنَّ مجرَّد معرفة مختلف عمليَّات الذِّهن وفصل بعضها عن البعض الأُخر إلىٰ ما يناسبها من الأبواب، وإصلاح كلِّ تلك الفوضىٰ الظاهريَّة التي تتغشَّاها كلَّما جعلناها موضوعاً للتفكير والبحث إنَّما هو إقامة لجزء غير هيِّن من العلم»[5]. يشهد هيوم بصدق العلم

(80)

ويقينه منهجاً وحقائق، ويرىٰ أنَّ هذا الصدق يمكن استعماله لفهم جغرافيا الذِّهن ومعرفة طبيعته لإبعاد أوهامه، وبهذا ينفي هيوم إمكان الشكِّ في هذه المجالات، وهو ما يُؤكِّد رفضه للريبيَّة المطلَقة والمغالية واكتفائه بريبيَّة معتدلة. فما دام يحمل إمكان اليقين فهذا يُخرجه ضرورةً من دائرة الريبيِّين ونجاح العلوم دليل قويٌّ عنده علىٰ نجاح الذِّهن في هذا المجال وما عليه إلَّا أنْ ينسجم مع نفسه ولا يغادر قواه هذه نحو مبادئ عقليَّة وهميَّة من إنشاء الفلاسفة الذين يصنعون الوهم ويُصدِّقونه ويُروِّجونه. «لقد ظلَّ الفلكيُّون طويلاً يكتفون بالاستدلال انطلاقاً من ملاحظة الظواهر علىٰ الحركات الحقيقيَّة التي للأجسام السماويَّة وعلىٰ نظامها ومقاديرها حتَّىٰ طلع عليهم أخيراً فيلسوف بدا أنَّه توصَّل بأوفق البراهين إلىٰ تحديد القوانين والقوىٰ التي تُسيِّر دورات الأفلاك وتُوجِّهها»[1].

يتبيَّن إذن ممَّا تقدَّم أنَّ هيوم مؤمن بقيمة ما أنتجه العلماء من قوانين تُفسِّر حركة الطبيعة، ومؤمن أيضاً بأنَّ منهجهم هذا هو الذي يجب اعتماده لفهم الطبيعة البشريَّة، ويعني بالطبيعة البشريَّة ذهن الإنسان في كيفيَّة عمله واشتغاله قصد القطع كلّيًّا مع الفلسفات الميتافيزيقيَّة التأمُّليَّة التي يراها وهميَّة. وبما أنَّ الأمر بُيِّن علىٰ هذا النحو فإنَّ هيوم يوجزه بقوله:

إنَّ كلَّ موادِّ التفكير مشتقَّة إمَّا من إحساسنا الداخليِّ أو من إحساسنا الخارجيِّ وإنَّما إلىٰ الذِّهن والإرادة وحدهما يرجع مزج هذه وتركيبها، وبعبارة فلسفيَّة سأقول: إنَّ كلَّ أفكارنا، وهي أضعف إدراكاتنا ونُسَخ من انطباعاتنا، هي أقوىٰ تلك الإدراكات[2].

وبناءً عليه، فإنَّ المرجعيَّة الواقعيَّة الحسِّيَّة تبقىٰ المحكَّ الأخير للحكم علىٰ القضايا والأفكار، وإنَّ أيَّ لفظ مستعمل بغير مدلول أو فكرة يتعيَّن علينا أنْ نتحقَّق من صدقه من خلال التحقُّق من مدىٰ انطباقه علىٰ انطباع حسِّيٍّ ما؛ لأنَّه لا بدَّ للفكرة -أيِّ فكرة كانت- من أنْ تكون مشتقَّة من انطباعٍ حسِّيٍّ، فإذا امتنع تعيين أيٍّ من الانطباعات مصدراً لهذه الفكرة يحقُّ لنا أنْ نرتاب في صدقها ووجاهتها. وبهذا يقرُّ هيوم بأنَّ بإمكاننا التخلُّص من جميع الأفكار التي لا تعود لأيِّ انطباع حسِّيٍّ وتنتهي الخصومة نهائيًّا بين الأفكار؛ لأنَّ المعيار صار جليًّا وواضحاً. فلا يمكن التسليم بوجود الأفكار الفطريَّة أو الأفكار التأمُّليَّة التي لا أساس

(81)

حسِّيًّا لها، وفي هذا ضرب جذريٌّ لجميع النظريَّات الفلسفيَّة التي بنت نظريَّاتها في المعرفة علىٰ أساس العقل الخالص المؤمن بفطريَّة الأفكار أو بعضها، والمؤمن بأنَّ العقل هو الأداة الوحيدة القادرة علىٰ بناء المعرفة الحقَّة التي صارت في نظر هيوم معرفة وهميَّة زائفة سبب كلِّ ميتافيزيقا.

إذا كان الأمر كما بيَّنَّا فكيف يقرُّ هيوم بصدقيَّة المعارف العلميَّة بنوعيها: الفيزيائيِّ والرياضيِّ، خاصَّة أنَّها لا تعود جميعها إلىٰ الانطباع الحسِّيِّ أو الوقائع الحسِّيَّة؟

يرىٰ هيوم أنَّ الوقائع نوعان والعلاقات نوعان: علاقات الأفكار، وعلاقات الوقائع. أمَّا علاقات الأفكار فتُنسَب إليها العلوم الرياضيَّة عموماً من أرثمطيقا وهندسة وجبر...، «وأنَّ قضايا من هذا النوع تُكشَف بالعمل البسيط للفكر من غير ما تبعيَّة لأيٍّ ممَّا يوجد في الكون. ورغم أنَّه لم يوجد قطُّ دائرة ولا مثلَّث في الطبيعة فإنَّ الحقائق التي برهن عليها إقليدس ستظلُّ إلىٰ الأبد حافظة علىٰ يقينها وبداهتها»[1]. فالرياضيَّات يقينيَّة يقيناً ثابتاً دائماً رغم أنَّها لا تعود إلىٰ أصل حسِّيٍّ أو واقعة فعليًّا. أمَّا الوقائع أو علاقات الوقائع فيتسرَّب إليها الشكُّ بصورة أسهل، وقد توقعنا في أوهام ولذلك وجب الانتباه إليها أكثر وتحليلها بشكل أدقَّ وأعمق. وبما أنَّ أغلب الوقائع تعود في النهاية إلىٰ استدلال سببيٍّ يربط بين السبب والنتيجة، فإنَّه من الضروريِّ أنْ ننظر في طبيعة هذا الاستدلال للتأكُّد من مدىٰ صدقه وقوَّته حتَّىٰ نتأكَّد من سلامة استنتاجاتنا العقليَّة المتَّصلة بالوقائع الفعليَّة. وبما أنَّه لا يمكن لنا تجاوُز ما تمنحه لنا حواسُّنا أو ذاكرتنا عن حواسِّنا فإنَّ تحليلنا يجب ألَّا يتجاوز هذا المُعطىٰ؛ لأنَّه الأساس الذي لا يطاله ريب.

يتجلَّىٰ إيمان هيوم والتزامه بالحسِّ كأداة واحدة فاعلة في عمليَّة الإدراك في تصوُّره للسببيَّة ونقده للمقاربات الفلسفيَّة التي سبقته في تاريخ الفلسفة الغربيَّة. ولعلَّ اهتمامه الشديد بنقد السببيَّة يعكس لنا شدَّة تمسُّكه بموقفه في نظريَّة المعرفة الحسِّيَّة، فلا شيء خارج الإدراك الحسِّيِّ. ولأنَّ الأمر علىٰ هذه الشاكلة يجب الاكتفاء بما تُقدِّمه لنا الحواسُّ في هذا الأمر وعدم إضافة أيِّ أمر آخر؛ لأنَّ أيَّ إضافة مهما كان مصدرها لا ثقة فيها إنْ لم نقل: إنَّها وهميَّة لا قيمة علميَّة لها، بل ومشوِّهة لواقعيَّة الحدث والواقعة الطبيعيَّة. وبالنَّظر العميق والدقيق لما يحدث في الطبيعة، وملاحظة كيفيَّة ظهور الوقائع والأحداث، نرىٰ تعاقُباً بينما فهمه أنصار الميتافيزيقا

(82)

بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وهو فهم لا يستقيم حسِّيًّا لأنَّه لا أساس له أي لا يوجد ما يُؤكِّده. فما نلاحظه أمامنا لا يتجاوز حدَّ تعاقُب الأحداث واقترانها من دون أنْ نستطيع تجاوُز ملاحظة الاقتران والتعاقُب إلىٰ القول بأنَّ أحدهما سبب والآخر نتيجة فضلاً عن قولنا بأنَّ الأسباب نفسها يجب أنْ تُؤدِّي إلىٰ النتائج نفسها، وهو المبدأ الأهمُّ في التفكير العلميِّ المعروف بمبدأ الحتميَّة. فكلُّ ما نلاحظه في عمليَّة الاحتراق مثلاً هو اقتران النار بالاحتراق من دون أنْ نجد ما يُؤكِّد حسِّيًّا أنَّ النار هي سبب الاحتراق، وبما أنَّ الأحداث تتكرَّر فإنَّها تُرسِّخ عادةً في أذهاننا أنَّه كلَّما لاحظنا النار قلنا بوجود الاحتراق، وهي إضافة ذهنيَّة لا أساس حسِّيًّا لها، ومن هنا يتسرَّب الوهم إلىٰ الذِّهن حسب هيوم، لأنَّنا نضيف إلىٰ الوقائع ما ليس فيها. «إنَّ الأسباب والمفاعيل لا تُكتَشف بالعقل وإنَّما بالتجربة»[1]. وأنَّ الاقتران والتكرار يصنعان العادة التي تمنح فكرنا معرفة النتيجة من السبب لا لأنَّ السبب فاعل وإنَّما لتكرار اقترانهما. «إنَّ كلَّ الاستنتاجات المأخوذة من التجربة إذاً هي من أثر العادة لا من أثر الاستدلال»[2]. وهذا يعني أنَّ العادة هي المفهوم الجديد الذي سيأخذ محلَّ الاستدلال عند هيوم لأنَّ مفهوم العادة عنده قرين التجربة وتكرارها بينما الاستدلال قرين العقل المجرَّد، وبالتالي فالاستدلال وهميٌّ بينما العادة واقعيَّة تُعبِّر عن واقع فعليٍّ. ويُلخِّص هيوم هذا المعنىٰ في قول واحد:

إنَّ كلَّ مفعول هو حدث مختلف عن سببه. ولا يمكننا بالنتيجة أنْ نكشف عنه ضمن السبب. وعندما يعمد الذِّهن أوَّل أمره إلىٰ تصوُّره أو استنباطه قبليًّا فإنَّ ذلك لا يكون إلَّا تحكُّماً[3].

ويتأكَّد إيمان هيوم بفاعليَّة التجربة كأصل أوَّل لجميع تفسيراتنا والقوانين التي ننتهي إليها باستبعاده الصريح لفاعليَّة الرياضيَّات أيضاً رغم إيمانه بيقينها، فالهندسة نفسها رغم دقَّة استدلالاتها تبقىٰ عاجزة عن معالجة هذا الوضع وكليلة عن أنْ توصلنا إلىٰ معرفة العلل القصوىٰ. «وأنَّ الاستدلالات المجرَّدة تُستَعمل إمَّا لمساعدة التجربة في الكشف عن هذه القوانين، أو لتحديد تأثيرها في بعض الحالات الخاصَّة حيث يتوقَّف ذلك التأثير عن مدىٰ تدقيق المسافة أو الكمِّيَّة»[4].

(83)

جدير بالذكر هنا أنَّ هذا المنهج في النظر إلىٰ الواقع الحسِّيِّ يُعمِّمه هيوم ليستعمله في المسألة الأخلاقيَّة والمسألة الدِّينيَّة ليُؤكِّد سلامة توجُّهه وصدق اتِّصاله بالواقع الحسِّيِّ تحصينا للنفس من أيِّ وهم يمكن أنْ يتسلَّل إليها مثلما هو حاصل عند جميع الفلاسفة الذين يُؤلِّفون الكلام والمجلَّدات ويبنون فلسفات ميتافيزيقيَّة لا تتجاوز صحَّتها صحَّة معاني الكلمات التي لا تحيل إلىٰ أيِّ واقع وهي التي كانت سبباً في تعميق الوهم الفكريِّ الذي ساد قروناً ولا يزال. وأنَّ الموقف الريبيَّ المعتدل الذي وضعه هيوم يراه الحلَّ الأمثل لبناء نظريَّة في المعرفة قائمة علىٰ أساس متين لا يمكن أنْ يتسلَّل إليه الوهم. «وأنَّ العادة هي الدليل الأكبر للحياة الإنسانيَّة إذاً. فهذا المبدأ وحده هو الذي يجعل تجربتنا مفيدة لنا ويجعلنا نتوقَّع في المستقبل نسقاً من الأحداث مماثلاً لتلك التي كانت ظهرت في الماضي أمَّا بدون تأثير العادة فإنَّنا سنكون جاهلين تماماً لكلِّ واقعة تتجاوز ما هو حاضر مباشرةً للذاكرة والحواسِّ»[1].

الواقع الحسِّيُّ ومجالا الأخلاق والدِّين:

يُعمِّم هيوم تحليلاته في مجال الطبيعة الإنسانيَّة وسيكولوجيَّة المعرفة التي لخَّصها في مفهوم الواقع والعادة وينقلها إلىٰ مجالَيْ الأخلاق والدِّين. ولا شكَّ في أنَّ تخصيصه لمجال الأخلاق مبحثاً خاصاً وكذلك للدِّين دليل واضح علىٰ ذلك. إذ يبدو كما يقول:

إنَّ شغفنا بالفلسفة كشغفنا بالدِّين معرَّض للمؤاخذة بهذه النقيصة[2].

وإنَّ النقد الذي وجَّهه إلىٰ نظريَّة المعرفة هو نفسه الذي وجَّهه للأخلاق والدِّين. ولهذا يُطرَح السؤال التالي: علىٰ أيِّ أساس نقيم أحكامنا الخلقيَّة، أنُقيمها علىٰ أساس المنطق العقليِّ أم علىٰ أساس الميول الوجدانيَّة؟ هل يكون الحكم علىٰ شيء بأنَّه فضيلة وعلىٰ آخر بأنَّه رذيلة من قبيل الحكم علىٰ شيء بأنَّه مُثلَّث الأضلاع، أو يكون من قبيل تأمُّلنا للشيء الجميل نختلف في الحكم علىٰ جماله باختلاف أذواقنا وطرائق النشأة التي نشأناها[3]؟ وعلىٰ هذا الأساس، يذهب هيوم إلىٰ أنَّ الحكم الأخلاقيَّ لا أساس عقليًّا له وإنَّما يعود إلىٰ الذوق والعاطفة، وذلك لأنَّ الجانب الأخلاقيَّ في الإنسان قوامه الإرادة والعمل، «ومعنىٰ هذا أنَّ الخير والشرَّ يصحبان

(84)

مقولتين أساسيَّتين في الطبيعة البشريَّة مفطورتين في تلك الطبيعة فطرة الحواسِّ الأُخرىٰ من رؤية وسمع ولمس»[1]، مقولتان مرتبطتان بحالة الشعور بالرضا  إزاء الأفعال.

والأمر نفسه في الدِّين والمسألة الإلهيَّة يرجعها هيوم إلىٰ القاعدة نفسها الخبرة الحسِّيَّة والطبيعة الإنسانيَّة التي لخَّصها في قوله بالعادة. وعلىٰ أساس هذه القاعدة ناقش اللَّاهوت المسيحيَّ في الأدلَّة التي يُقدِّمونها علىٰ وجود الله، كما ناقش الفلاسفة أيضاً في المسألة نفسها ليُؤكِّد أمراً واحداً هو أنَّه لا يمكن إثبات أيِّ قضيَّة بمثل هذا المنهج وأنَّ استعمال هذه الحجج تسير ضدَّ إثبات الدِّين ووجود الله لأنْ لا قدرة للإدراك البشريِّ علىٰ فعل ذلك. «لأنَّ الكمَّ والعدد هما الموضوعان الوحيدان للمعرفة والبرهان»[2]، وإثبات حقيقة الدِّين أو إثبات وجود الله ليس من القضايا الرياضيَّة أي ليس من القضايا العقليَّة البرهانيَّة. ولعلَّ في محاولة هيوم الدفاع علىٰ أبيقور في المدينة الذي ثار علىٰ معتقداتها ومن ثَمَّ الأخلاقيَّات التي تقوم عليها إثبات من قبله بأنَّ الدِّين والاعتقاد مرتبطان بالواقع والسياسة أيضاً، وأنَّ الدفاع عن موقف أبيقور للتأكيد علىٰ أنَّ عدم اعتقاده بالاعتقادات المدينة ذاتها ليس له من غاية إلَّا سلامة المدينة وأمنها أيضاً عكس ما يدَّعيه أعداؤه، بل ربَّما الحجج التي يُقدِّمها أبيقور أقوىٰ من حجج أعدائه، وكأنَّ هيوم يقحم المسألة الدِّينيَّة فلسفيًّا في سياقَيْ المعرفة البشريَّة من جهة، والأخلاق والسياسة من جهة أُخرىٰ، وينتهي دفاعه عن أبيقور إلىٰ إثبات خطورة حجج الخصوم علىٰ الاعتقاد بالوجود الإلهيِّ واليوم الآخر. وهي نتيجة مربكة لأنَّ الفلاسفة الذين يسعون لإثبات وجود الله، ويُقدِّمون الحجج والبراهين علىٰ ذلك، إنَّما يفعلون ذلك دفاعاً عن الدِّين وتأكيداً لفكرة وجود الله، بينما يرىٰ هيوم أنَّهم في الحقيقة يُثبِتون العكس وهم لا يُدركون ذلك: «إنَّ الفلاسفة الدِّينيِّين، إذ لا يعتقدون بتراث أجدادكم ولا بمذهب كهنتكم يُطلِقون العنان لفضول متسرِّع محاولين أنْ يروا إلىٰ أيِّ حدٍّ يمكنهم أنْ يقيموا الدِّين علىٰ مبادئ العقل، وهم بذلك يثيرون الشكوك التي تتولَّد طبيعيًّا من تقصٍّ فطن نفَّاذ بدلاً من أنْ يُخمدوها»[3]. إنَّ الذين يُثبتون وجود الله حسب هيوم إنَّما يوقعون الناس في ريبيَّة خطرة، ولتأكيد نظرته يُذكِّرنا باعتماد الفلاسفة العقلانيِّين إلىٰ نظريَّتهم العقليَّة في المعرفة والتي أُثبت تهافتها، ويُذكِّرنا باستعمال هؤلاء الفلاسفة الحجَّة الطبيعيَّة التي تدعونا إلىٰ النظر في الطبيعة

(85)

ودقَّة صنعتها لينتهي إلىٰ السبب الأوَّل أي وجود الله ويرىٰ اعتماداً علىٰ نظريَّته في المعرفة الحسِّيَّة القائمة علىٰ فهم الطبيعة البشريَّة التي تتأسَّس علىٰ الخبرة الحسِّيَّة والعادة إلىٰ أنَّ أساس حجج الفلاسفة الدِّينيِّين خاطئ بالضرورة؛ لأنَّهم يُحمِّلون العقل ما لا طاقة له به. وحريٌّ القول: إنَّ قوانين الطبيعة تعود إلىٰ أصل تجريبيٍّ خالص، واعتماد البرهان علىٰ العلم الطبيعيِّ إضعاف لفكرة وجود الله وليس تأكيداً لها. وبهذا، فإنَّ الموقف الريبيَّ من وجود الله واليوم الآخر يصير أقوىٰ في هذه الحالة.

إذا كان الأمر علىٰ هذا النحو، فإلىٰ أيِّ مجال تنتمي مسألة الوجود الإلهيِّ واليوم الآخر وغيرها من المسائل المتَّصلة بالدِّين والكهنوت المسيحي الكاثوليكي الذي كان مسيطراً في ذلك العصر؟ وما هو البديل المناسب لتعويض ضعف حجج الفلاسفة الدِّينيِّين؟

فما دام الفلاسفة يعتمدون علىٰ الحجج العقليَّة النظريَّة أو التأمُّليَّة، أو الحجج القائمة علىٰ أساس النظر في النظام الطبيعيِّ فإنَّ حججهم موصلة للريبيَّة ولا تُثبِت شيئاً، ولهذا يصرُّ هيوم علىٰ قوله:

فمن النظام في الصنعة تستدلُّون علىٰ أنَّه يجب أنْ يوجد تخطيط وتدبير في الصانع، فإنْ كان لا يمكنكم إسقاط هذه النقطة يتعيَّن عليكم أنْ تُسقِطوا الخلاصة. وأنتم تدَّعون أنَّكم لا تقيمون الخلاصة علىٰ مجال أوسع ممَّا تُسوِّغه ظاهرات الطبيعة. تلك هي حقوقكم وآمل أنْ تُسجِّلوا النتائج[1].

يحاول هيوم تعميق ما ذهب إليه بمعالجته مسألة أصل الشرِّ في العالم، وما علاقتها بصفات الكمال التي ينسبها الفلاسفة إلىٰ الآلهة، ويرىٰ أنَّ السبب يجب أنْ يكون دوماً من جنس الأثر، وإذا سلَّمنا بوجود الآلهة فكيف نُفسِّر وجود الشرِّ اعتماداً علىٰ المنهج نفسه والحجَّة نفسها، أي السبب والمفعول؟

يُلخِّص هيوم موقفه علىٰ النحو التالي: إنَّه يُصنِّف المعارف والمجالات والقدرات الطبيعيَّة في الإنسان.

إنَّ الخبرة وحدها هي التي تُعلِّمنا طبيعة السبب والأثر وحدودهما، وتجعلنا قادرين علىٰ

(86)

أنْ نستدلَّ علىٰ وجود شيء من وجود آخر. وفي هذا السياق نجد التاريخ والجغرافيا والفلك والسياسة والفلسفة الطبيعيَّة والفيزياء والكيمياء هي العلوم التي تعالج الوقائع العامَّة.

الإلهيَّات أو اللَّاهوت الذي يُثبِت وجود الله والنفس تتقاسمه مجالات أهمَّها تحليلات الوقائع الجزئيَّة وتحليلات الوقائع العامَّة وتتأسَّس علىٰ العقل بقدر ما تستند إلىٰ الخبرة. «ولكن أفضل قاعدة وأصلبها توجد في الإيمان والوحي الإلهيِّ»[1].

الجمال الخلقيُّ والطبيعيُّ من مجالات الذوق والشعور:

ويمكن أنْ نختم تحليلنا لفلسفة هيوم المعرفيَّة وما يتَّصل بها من مجالات السياسة والأخلاق والدِّين، بقول الأخير نفسه:

حين نطوف في المكتبات مزوَّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أنْ نُتلِف؟ إذا أخذنا بيدنا أيَّ مجلَّد في اللَّاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسيَّة مثلاً، هل يتضمَّن أيَّ تعليلات تجريديَّة حول الكمِّ والعدد؟ كلَّا. هل يتضمَّن تعليلات تجريبيَّة حول وقائع ووجود؟ كلَّا. إذن ارمِه في النار لأنَّه لا يمكن أنْ يتضمَّن سوىٰ سفسطات وأوهام[2].

رؤية نقديَّة لفلسفة هيوم:

هيوم ناقداً لهيوم:

يبدو مشروع هيوم الفلسفيِّ موجَّهاً نحو هدف واحد ووحيد ألَا وهو نقد الميتافيزيقا، وسايره الفيلسوف الألماني كانط بعد ذلك في مشروعه النقديِّ. ورغم الاختلاف بين الفلسفتين هيوم وكانط إلَّا أنَّنا يمكن أنْ نقرَّ بتشابُه في الموقف والاتِّجاه. فالعقلانيَّة النقديَّة الكانطيَّة قامت علىٰ أساس الريبيَّة اللطيفة التي أنشأها هيوم وحاول إيجاد حلول للمشاكل والصعوبات التي أثارها نقده لنظريَّة المعرفة العقليَّة والتجريبيَّة معاً من خلال دعوة لمعرفة جغرافيا الذِّهن البشريِّ ومعرفة الطبيعة البشريَّة. وقد استفادت الفلسفة الغربيَّة كثيراً من هذا المشروع النقديِّ، وواصلت النظر في المسألة لإيجاد حلٍّ لمسألة الاستقراء، وعلاقة الاستنباط بالاستقراء، والعقل الصوريِّ رياضيًّا ومنطقيًّا بالعقل التجريبيِّ في العلوم الطبيعيَّة بمختلف

(87)

أنواعها. وبقطع النظر عن الحلول التي ساقها الفلاسفة الغربيُّون بعد هيوم، فإنَّ مقاربة هيوم النقديَّة تحمل تناقضاً داخليًّا لا يستطيع هيوم تجاوزه أو الخروج عنه. ويتمثَّل هذا التناقض في طبيعة خطابه الداخليِّ نفسه فهو يصنع خطاباً للإقناع بقوَّة موقفه ووجاهته بمنهج مغاير للمنهج الذي يدافع عنه.

ولتحليل هذا الموقف علينا أنْ نُوضِّح أمرين: أوَّلهما أنَّ هيوم يرىٰ أنَّ العقل لا يُفكِّر إلَّا من خلال التجربة والحسِّ، وأنَّه لا حجَّة لمن يُطلِق العنان للعقل لينتج سفسطةً ووهماً وخداعاً ويعني الميتافيزيقا. فالحجَّة الحسِّيَّة هي أقوىٰ الحجج ولا يوجد سواها. وثانياً يقرُّ هيوم بصدق العقل الرياضيِّ في منهجه الاستنباطيِّ ويرىٰ أنَّه لا صلة له بالعالم الطبيعيَّة وبالعمليَّات الذهنيَّة التي تريد فهم هذا العالم. ونستنتج من خلال هذين الأمرين أنَّ المنهج إمَّا حسِّيٌّ تجريبيٍّ أو رياضيٍّ ليكون مقبولاً بعيداً عن كلِّ وهم وسفسطة. إذا سلَّمنا بأُطروحة هيوم هذه وذهبنا معه هذا المذهب لنستخدمه في تفكيرنا ونُطبِّقه في فهمنا للمسائل التي تعترضنا، فإنَّنا سنضطرُّ إلىٰ نفي الصدق عن مشروع هيوم نفسه. فما كتبه وما تركه لنا من مؤلَّفات في الطبيعة البشريَّة والفاهمة والعواطف والأخلاق والدِّين والسياسة وغيرها فإنَّنا نجده لا يستعمل منهجه هذا. أي لا نجده يستعمل منهجه التجريبيَّ الذي لا يتجاوز العالم المحسوس ولا يستعمل أيضاً المنهج الرياضيَّ. وإذا كانت الحقيقة تسكن العالم الحسِّيَّ - حسب قوله -، وإذا كان المنهج الحقيقيُّ هو المنهج الحسِّيُّ -حسب رأيه -، فإنَّ منهج هيوم في جميع كتاباته ومحتواها خالية من جميع شروط الصدق التي عرضها ودافع عنها. فكلُّ قارئ لإنتاجه لا يجد الشرط الحسِّيَّ ولا التجريبيَّ ولا الرياضيَّ وإنَّما يجد تأمُّلات واستنتاجات منطقيَّة ينتقل فيها من فكرة إلىٰ أُخرىٰ من دون أنْ تكون أيُّ فكرة من هذه الأفكار فكرة حسِّيَّة بل جميعها تأمُّلات عقليَّة خالصة لا واقع لها.

إنَّ هذا التناقض والتعارض الذي وقع فيه هيوم طبيعيٌّ جدًّا، بل ضروريٌّ ولا يستطيع تجاوُزه، لأنَّ العبارة القائلة: إنَّ الحقيقة تجريبيَّة ليست في الواقع تجريبيَّة وإنَّما هي عقلية مجرَّدة خالصة، ويكون مَثَلُه كمَثَل من يقول: إنَّ الحقيقة لا تكون إلَّا علميَّة، فنستنتج من هذا أنَّ قوله خطأ إذن؛ لأنَّه ليس قولًا علميًّا. بهذا تكون العبارة ناسفة لنفسها لما تناقض محتواها. أو من يكتب لنا بأنَّ العبارة الرياضيَّة هي العبارة الصادقة، فنستنتج من هذا أنَّ عبارته هذه ليست صادقة بالضرورة لأنَّها ليست رياضيَّة ومن ثَمَّ لا يمكن قبولها.

(88)

إنَّ استعمالنا لمحتوىٰ فلسفة هيوم لنقد فلسفته وكتاباته تُفضي في النهاية إلىٰ نسف فلسفته من الأساس، فلا أساسَ تجريبيًّا لكلِّ كتاباته، ولا أساسَ رياضيًّا لها أيضاً، أي لا يوجد أيُّ مظهر من مظاهر الصدق التي اشترطها في كتابته نفسها. إنَّ هذا المفكِّر الكاتب المتأمِّل ينسف محتوىٰ فلسفته بنفسه وممارسته لأنَّ منهج كتابته وشروطها تناقض المنهج الذي يدعو إليه وشروطه.

نقديَّة هيوم وريبيَّته:

أكَّد هيوم علىٰ الطبيعة البشريَّة، وحاول تعيين جغرافيا الذِّهن البشريِّ لتطهيره من الميتافيزيقا والأوهام - كما يزعم -، واطمأنَّ موقفه إلىٰ الحواسِّ والخبرة الحسِّيَّة والتجريبيَّة، وشكَّك في فكرة السببيَّة وفي العلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، مؤكِّداً في الوقت نفسه علىٰ فكرة العادة، وجعل هذا الأساس هو المرجع الذي يفصل في المسائل إنْ كانت المسألة قابلة للمعالجة الفعليَّة أم من المسائل الوهميَّة التي لا تحتاج إلىٰ نظر؛ لأنَّ العقل غير مؤهَّل للنظر فيها، وذهبت به قناعته التجريبيَّة إلىٰ التشكيك في الدِّين والمسائل المتعلِّقة بالأُلوهيَّة وغيرها. وقد اعتبر الريبيَّ هذا فتحاً جديداً في الفلسفة الغربيَّة أثَّر علىٰ جميع التيَّارات التي أتت بعده بجميع صورها، واستوىٰ في ذلك من ينتمي إلىٰ المدارس العقليَّة أو التجريبيَّة، وعرفت أقصىٰ تأثيراتها في الفلسفات الوضعيَّة وغيرها. إنَّ هذا التوجُّه الجديد في الفلسفة الغربيَّة المتأثِّر بنقديَّة هيوم وريبَّيته جديد فعلاً في الفكر الغربيِّ ولكنَّه ليس غريباً في تاريخ الفلسفة. إنَّ جلَّ ما ذهب إليه هيوم تمَّت معالجته في مدارس فلسفيَّة قديمة منذ أُرسطو الذي آمن بأنَّه من فقد حسًّا فقد علماً، وقال بالاستقراء، وبنىٰ الأرغانون وقواعده، وتحدَّث عن صعوبات المقدِّمات التي يقوم عليها القياس نفسه بما في ذلك القياس البرهاني. ولكنَّ الأهمَّ من كلِّ هذا، أنَّ ما ذهب إليه الإمام الغزاليُّ بنقده للاستقراء في كتابه «معيار العلم» من جهة، وفي نقده لفكرة السببيَّة من جهة أُخرىٰ، ونقده لفطريَّة المبادئ العقليَّة من جهة ثالثة، جعله بالفعل يثير المسائل نفسها التي أثارتها ريبيَّة هيوم، إلَّا أنَّه رفض القول بالعلاقة الضروريَّة بين السبب والنتيجة، وقال بالاقتران بينهما وفسَّره بالعادة أيضاً، كما فسَّره هيوم، وهو انتهىٰ في محطَّة أُولىٰ إلىٰ ما انتهىٰ إليه الأخير، وهو نقد الحجج التي تقوم علىٰ هذه المبادئ، واعتبرها متهافتة، وبيَّن تهافتها فعلاً في كتابه «تهافت الفلاسفة». إلَّا أنَّ ما قام به الغزالي لم يستطع هيوم إنجازه، وهو الخروج من حالة الشكِّ الدائم في الحقيقة واليقين،

(89)

وحالة الاكتفاء بما تُقدِّمه الحواسُّ من أساسٍ تجريبيٍّ لبناء المعرفة. لئن انطلق الغزالي من منطلقات هيوم نفسها،  وانتهىٰ إلىٰ النتائج نفسها، فإنَّ هذا العمل النقديَّ لم يكن إلَّا مقدِّمة لإعادة السؤال الفلسفيِّ الأوَّل: ما الإنسان، وما العلم، وما حقيقته، وما أصنافه ودرجاته، وما اليقين، وكيف يمكن الحصول عليه؟ وهو ما فسَّره الغزالي في «المنقذ من الضلال» إجمالاً وحلَّله في بقيَّة مؤلَّفاته مميِّزاً بين العقل الغريزيِّ والعقل المكتَسب، وبين درجات المعرفة الحسِّيَّة والعقليَّة والصوفيَّة الإشراقيَّة.

ليس غرضُنا في هذا السياق عرض أُطروحة الغزالي الفلسفيَّة والمعرفيَّة، وموقفه من الحقيقة واليقين، ومنزلة العقل وحدوده، وقيمة المنهج الإشراقيِّ في ذلك ومنزلته، وإنَّما غرضُنا أنْ نُبيِّن أنَّ هاجس هيوم النقديَّ ليس بالجديد في تاريخ الفلسفة، وأنَّه وإنْ وقفت معالجته في حدود ريبيَّته اللطيفة كما أرادها، فإنَّ الفلاسفة الآخرين قبله وبعده عرفوا كيف يعالجون المسألة نفسها ويتجاوزونها. فمحدوديَّة نظرة هيوم في تفسيره للطبيعة البشريَّة واضحة جليَّة وقد جعلته من جهة لا يرىٰ أيَّ شيء، ومن جهة ثانية يعارضها ولا يلتزم بها لـمَّا عرض فلسفته وفسَّرها كما بيَّنَّا آنفاً.

الرياضيَّات والطبيعيَّات وإشكال اليقين:

اعتقد هيوم في الحقيقة التجريبيَّة والحقيقة الرياضيَّة، من دون سواهما. وما يُؤكِّد اعتقاده هذا نجاح العلوم في عصره التي تُمثِّلها فيزياء نيوتن وبقيَّة العلماء قبله وبعده الذين جسَّموا الثورة الكوبرنيكيَّة. غير أنَّه لم يُدرك قيمة الرياضيَّات في ذاتها بوصفها علماً صوريًّا يكشف كيفيَّة عمل الذِّهن وكيفيَّة بناء براهينه. ولم يكشف العلاقة الضروريَّة بينها وبين العلوم الطبيعيَّة، فلم نرَ لها أيَّ أثر أو دور في بناء الحقيقة الطبيعيَّة التي أرادها حسِّيَّة. والغريب في الأمر أنَّه لم يتمكَّن من فهم نسق نيوتن الفيزيائيِّ الذي كشف عنه في كتابه الأشهر «المبادئ الرياضيَّة في الفلسفة الطبيعيَّة»، والذي بيَّن فيه الدور الأساس الذي يجب أنْ تضطلع به الرياضيَّات في بناء علم الطبيعة، فلا يستقيم علم الطبيعة خارج حدود الرياضيَّات، أي كما فهمها هيوم خطأً لـمَّا فصلها عن الرياضيَّات وجعلها حسِّيَّة تجريبيَّة خالصة. فالعقل الفيزيائيُّ عقلٌ رياضيٌّ أوَّلاً وتجريبيٌّ ثانياً. وهذا ما أكَّده تاريخ العلم بعد نيوتن وهيوم، فلم تعد التجربة هي القاضي الأعلىٰ للعلم - حسب تعبير غاستون بشلار - وأنَّ الرياضيَّات هي

(90)

عقل العلم ولغته وشرط نجاح تفسيره وبناء قوانينه. وبهذا نفهم أنَّ ريبيَّة هيوم ليس لها أساسٌ علميٌّ حتَّىٰ داخل العلوم التي يؤمن بها، بل إنَّ هذه العلوم نفسها دليل تهافت ريبيَّته وشكوكه وكلِّ أُسُس فلسفته ونتائجها.

إنَّ العقلانيَّة العلميَّة هي عقلانيَّة رياضيَّة بالأساس، ولعلَّها أُخذت هذه الميزة من كلمة عقلانيَّة نفسها التي تعني في اللسان اللَّاتينيِّ الحساب أو العقل الحسابي.

إلىٰ جانب تهافت مشروع هيوم النقديِّ الذي أدخل الفلسفة في توجُّه ريبيٍّ؛ بسبب تناقُضه الداخليِّ وتعارُضه مع منهج العلم وبنيته التي يقرُّ هو نفسه بصحَّته، يمكن أنْ نضيف إلىٰ هذا الأمر إشارة أخيرة مهمَّة تتمثَّل بأُسلوبه في التفلسف، وهو الأُسلوب الذي ناقض فيه محتوىٰ مشروعه وخالفه؛ لأنَّه تفلسفٌ تأمُّليٌّ صرفٌ يربط بين الأفكار، ويبني الاستنتاجات ويُركِّبها ويُطوِّرها ويدفعها إلىٰ الأمام كلَّما تقدَّمت به الفكرة. وهذا يعني أنَّ العقل الفلسفيَّ ليس العقل التجريبيَّ وإنَّما هو العقل التأمُّليُّ لكونه يملك قدرات فعليَّة علىٰ تمكين العقل من كشف حقيقة نفسه وحقيقة فعله، وهذا يُؤكِّد لنا أنَّ المنهج التأمُّليَّ منهجٌ مهمٌّ جدًّا ومناسب للعمليَّة الفلسفيَّة. أمَّا إذا أضفنا إلىٰ هذا العقل التأمُّليِّ البُعد الإيمانيَّ الذي يقرُّ هيوم بأهمِّيَّته في بناء الدِّين من دون أنْ نرىٰ له أثراً في فلسفته، فإنَّنا ننتهي إلىٰ رؤية عقليَّة تأمُّليَّة متسامية يمنحها الإيمان قدراتٍ أُخرىٰ تتجاوز حدود العقل المادِّيِّ أو الخبريِّ والعقل الرياضيِّ معاً. وبهذا تنفتح الفلسفة أمام آفاق أُخرىٰ لا يمكن لفلسفة هيوم تصوُّرها.

*   *   *

 

(91)

المصادر:

1. هيوم، مبحث في الفاهمة البشريَّة، ترجمة الدكتور موسىٰ وهبة، دار الفارابي، الطبعة الأُولىٰ، 2008م.

2. جون دن، «جون لوك مقدِّمة قصيرة جدًّا»، ترجمة فايقة جرجس حنا، مراجعة هبة عبد المولىٰ، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة،  الطبعة الأُولىٰ،  2016م.

3. هيوم، تحقيق في الذهن البشريِّ، ترجمة محمّد محجوب، توزيع مركز دراسات الوحدة العربيَّة، المنظَّمة العربيَّة للترجمة، بيروت، 2008م.

4. بركلي المحاورات الثلاث بين هيلاسوفيلونوس، ترجمة وتقديم يحيىٰ هويدي، المركز القومي للترجمة، 2015م.

5. زكي نجيب محمود،  رسالة في الطبيعة البشريَّة لديفيد هيوم، حياته وكُتُبه.

*   *   *

(92)

السببية الناقصة

نقد العقل القاصر عند ديفيد هيوم

 

سارة دبوسي[1]

 

تنبَّه الفكر الفلسفيُّ -منذ غابر الأزمان- إلىٰ أهمِّ الإشكالات الكبرىٰ التي تُؤرِّق وجود الإنسان في الكون، شأن البحث في سبب وجوده. وقد كان لسؤال: لماذا وُجِدَ؟ دورٌ مركزيٌّ في تأسيس العلوم والأفكار البشريَّة التي حفَّزت الإنسان علىٰ نبش جذور هذا العالم من أجل كشف حوادثه المختلفة، وإدراك نتائجه، ومثَّلت الفلسفة الحاضنة المتينة لجُلِّ الإشكالات التي أربكته وما زالت تُطرَح علىٰ بساط البحث حتَّىٰ يومنا هذا، ووفَّرت لها التُّربة الخصبة.

بيد أنَّ الإنسان الأوَّل لم يفقه إلَّا جزءاً من وجوده في العالم عن طريق الحواسِّ والذِّهن، لذلك كان البحث في الأسباب والمسبَّبات من أهمّ المشاغل التي استحوذت علىٰ تفكيره من أجل فكِّ الغموض المُحدِق به، ومنه اتَّجه نحو افتراض العديد من النظريَّات الفلسفيَّة والعلميَّة لتكون بذلك مسألة السببيَّة إحدىٰ النظريَّات التي فكَّر فيها لتفسير غموض الكون. إنطلاقاً من ذلك، لسنا في حاجة إلىٰ الكثير من تدقيق النظر في طبيعة الوجود البشريِّ، ولا التساؤل عن أهمِّ الإشكالات التي حيَّرته، حتَّىٰ نتساءل عن دعاوىٰ الحاجة إلىٰ البحث في موضوع السببيَّة.

(93)

تُعَدُّ السببيَّة من أهمِّ المواضيع الفلسفيَّة الدالَّة علىٰ ترابُط الظَّواهر الطبيعيَّة، وهي أيضاً من بين المواضيع المعرفيَّة التي تناولها العلم التجريبيُّ بالدراسة والتحليل. لذلك احتلَّت مكانة هامَّة لدىٰ الفلاسفة والعلماء باعتبارها تُقدِّم تفسيراً شافياً للظواهر الطبيعيَّة من خلال بحثها في علاقة السبب بالمسبَّب أو العلَّة بالمعلول.

من هنا، فإنَّ التفكير في مفهومها يطرح العديد من الإشكالات المرتبطة بوجود الإنسان في الكون، خصوصاً أنَّ هذا المفهوم لم يكن وليد لحظة فلسفيَّة معيَّنة، بل إنَّه ضارب في عمق تاريخ الفكر الإنسانيِّ؛ إذ حاز علىٰ مساحة كبيرة من هذا الفكر حتَّىٰ إنَّه صار مبحثاً أساسيًّا ضمنه، وذلك من خلال تناول الفلاسفة له سواء بالقبول أم بالرفض، كما أنَّ له مكانة خاصَّة في مجال البحث العلميِّ من حيث وضع القوانين وقراءة الظواهر الطبيعيَّة.

ولقد لقيت مسألة السببيَّة اهتمامًا واسعًا لدىٰ فلاسفة اليونان ولا سيَّما أُرسطو الذي تشكَّلت بداية ظهورها معه (العلل الأربع)، كما تطوَّرت في العصر الوسيط مع فلاسفة الإسلام لدىٰ كلٍّ من الغزالي، ابن رشد، ابن سينا، ومع فلاسفة الحداثة لدىٰ كلٍّ من جون لوك، بركلي، وديفيد هيوم[1]، والذي هو محور مبحثنا الأساسيّ. وبالتالي، فإنَّ السؤال المطروح هو: ماذا نعني بالسببيَّة؟ وهل إنَّ مبدأها لدىٰ هيوم قائم علىٰ الضرورة أم علىٰ العادة فقط؟ وكيف تمكَّن من الزجِّ بها من مجال المنطق إلىٰ مجال السيكولوجيا؟ وإلامَ أفضىٰ تصوُّره الفلسفيُّ لها؟

1. في مفهوم السببيَّة:

قبل الغوص في ثنايا هذا المبحث ومدلولاته الكبرىٰ، يتوجَّب علينا أنْ نُولِّي أنظارنا جهة التذكير بتوجُّه هيوم الفكريِّ؛ حيث قامت فلسفته علىٰ عدم الثِّقة في التأمُّل الفلسفيِّ، ورأىٰ أنَّ المعرفة البشريَّة تتأتَّىٰ من الخبرة، أي إنَّها خالصة من كلِّ إضافة عقليَّة. ويُعتَبر المنهج التجريبيُّ الحسِّيُّ من أهمِّ الموضوعات التي شغلت تفكيره. هذا، ويتصدَّر اهتمامه بمسألة السببيَّة مجمع أبحاثه التجريبيَّة فقد أولاها اهتمامًا واسعًا يتجلَّىٰ من خلال تحليله الدقيق والعميق الذي وجَّهه إليها. وربَّما سبب ذلك انتماؤه إلىٰ المذهب الشكوكيِّ الذي بلغ نضجه الفكريَّ في رحاب نظريَّاته العلميَّة والفلسفيَّة، لذلك لا يمكننا أنْ نفهم نظريَّته في السببيَّة ما لم نفهم فلسفته في تشكيل الأفكار.

(94)

من المفيد الإشارة إلىٰ أنَّ السببيَّة تعني العلاقة بين السبب والمسبَّب، أي إنَّ لكلِّ ظاهرة سببًا يكمُن خلفها، وهي أيضًا أحد مبادئ العقل. ويرادف معناها معنىٰ العلِّيَّة في العلاقة الجامعة بين أمرين بحيث يُؤثِّر أحدهما في الآخر فينتج منه أمر آخر، وبالتالي يكون سببًا في وجوده.

أمَّا في اللّغة، فإنَّ للسببيَّة أو العلِّيَّة المعاني التالية: «العلَّة اسم لعارض يتغيَّر به وصف المحلِّ بحلوله لا عن اختيار (...)، ومنه سُمِّي المرض علَّة؛ لأنَّه بحلوله يتغيَّر حال الشخص من القوَّة إلىٰ الضعف، وكلُّ أمر يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال أو بانضمام الغير إليه، فهو علَّة لذلك الأمر، والأمر معلول له، فيتعقَّل كلُّ واحد منهما بالقياس إلىٰ تعقُّل الآخر»[1].

ويُعَدُّ لفظ السببيَّة من الألفاظ الأكثر شيوعًا في حياتنا ليس في مجال العلم والتجربة فحسب، وإنَّما هو كامن أيضاً في عمق أعماق الفكر البشريِّ، حتَّىٰ إنَّ الكلَّ يعود إليه في تفسيره لمجريات الأحداث التي تغمر حياتنا. فالقول: إنَّ لكلِّ شيءٍ سببًا يعني أنَّ توق الإنسان إلىٰ معرفة الأشياء بمسبَّباتها يظلُّ علىٰ الدوام قائمَ الذَّات، خصوصاً أنَّ الحياة البشريَّة مليئة بالأحداث والظواهر التي تُفسِّر السبب الذي تتَّبعه النتيجة وجوباً، فالعقل ما انفكَّ يُفسِّر الطبيعة وفقاً لنظام ثابت من الأحداث لا الفوضىٰ واللَّامعنىٰ.

لا شيء يوجد من لا شيء، ذاك هو المحفِّز الأساسيُّ للفكر البشريِّ الذي ما فتئ يبحث في الطبيعة البشريَّة من أجل فكِّ لغزها الغامض، والذي هو مبدأ أساسيٌّ في كلِّ معرفة بشريَّة سواء كانت علميَّة أم عاميَّة. ولم يكن هيوم أوَّل من تناول هذا الإشكال باعتبار أنَّ الفلسفة اليونانيَّة قد سبقته في تناولها لهذا الإشكال، لكنَّه كان سبَّاقًا من حيث تناوله له انطلاقًا من المنهج التجريبيِّ. ولكن ما المقصود بالسببيَّة في الاصطلاح الفلسفيِّ؟

إنَّها تعني تلك العلاقة الوطيدة بين السبب والمسبَّب، وهي أيضاً أحد مبادئ العقل. «هي العلاقة الثابتة بين السبب والمسبَّب. ومبدأ السببيَّة هو أحد مبادئ العقل، ويُعبَّر عنه بالقول: إنَّ لكلِّ ظاهرة سبباً أو علَّةً، وما من شيء إلَّا وكان لوجوده سبب، أي مبدأ يُفسِّر وجوده»[2].

وعلىٰ الرغم من تحيُّزها علىٰ مكانة هامَّة في أعماق تاريخ الفكر الإنسانيِّ لا يزال الغموض

(95)

يكتنف العلِّيَّة أو السببيَّة التي هي مقولة فلسفيَّة تدلُّ علىٰ الروابط القائمة بين الظَّواهر، أي إنَّها تُعبِّر عن تلك العلاقة بين السبب والنتيجة بحيث يكون الحدث الثاني نتيجة للأوَّل. «وللعلَّة اصطلاح أخصُّ هو عبارة عن ذلك الموجود الكافي لتحقيق موجود آخر، ووجود المعلول يصبح ضروريًّا بواسطته»[1]. وهذه النظريَّة قديمة منذ أُرسطو إلَّا أنَّها تطوَّرت أكثر علىٰ يد ديفيد هيوم.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ معظم الدراسات الفلسفيَّة والعلميَّة تذهب في تناولها لمبدأ السببيَّة إلىٰ القول بسِمَة الضرورة، وأنَّ عدم افتراض هذه الضرورة سيُفضي حتماً إلىٰ عدم إمكانيَّة صياغة قوانين الطبيعة، ومن ثَمَّ ستهتزُّ أركان العلم، فمن غير الممكن القول بأنَّ لمس النار مثلاً لن يؤدِّي إلىٰ الحرق، وهذا ما يوصل إلىٰ ضرورة التَّلازم بين السبب والنتيجة، إلَّا أنَّ تناول هيوم لهذا الموضوع سيُزعج التصوُّرات العلميَّة السابقة له، وسيعمل علىٰ تغيير هذا القانون.

2. موقف هيوم من مسألة السببيَّة:

احتلَّت مسألة السببيَّة مكانة هامَّة في فكر هيوم؛ حيث تناولها بالدِّراسة والتحليل، وهذا ما جعل لها أثرًا بالغًا في الفلسفات اللَّاحقة له بصفة عامَّة، وأيضاً لها تأثير علىٰ منطق الاستدلال الاستقرائيِّ بوجهٍ خاصٍّ. كما أنَّها تُعَدُّ أساس المعرفة العلميَّة التي تقوم علىٰ اقتران السبب بالمسبَّب.

ويشهد قانون السببيَّة علىٰ تمركُزها علىٰ ثلاثة أُسُس رئيسيَّة هي: الاتِّصال، والأسبقيَّة، والضرورة، كما أكَّدت علىٰ ذلك معظم التصوُّرات العلميَّة السابقة. لكن هل سيظلُّ هذا القانون علىٰ حاله مع التصوُّر التجريبيِّ لهيوم لها، أم إنَّه سيشهد زعزعة لم يَعْهَدْها من قبل؟

إنَّ تناول هيوم لمسألة السببيَّة بصيغة نقديَّة يعود إلىٰ شعوره بضرورة إخضاع النزعة التجريبيَّة التي أرساها سابقوه إلىٰ الشكِّ، وربَّما يعود ذلك إلىٰ طبيعة مواقفه الرَّيبيَّة التي تقرُّ باستحالة التوصُّل إلىٰ حقائق نهائيَّة. وهذا ما يدفعنا إلىٰ التساؤل التالي: ما هي البراهين التي اتَّكأ عليها في نقده لمبدأَيْ العقل والتجربة في تفسيره لهذه المسألة؟

(96)

أ - رفض الدليل العقليِّ:

كان هيوم تجريبيًّا بكلِّ معنىٰ الكلمة، فقد سعىٰ في طرحه الفلسفيِّ لتبيان أهمّيَّة التجارب التي تساعدنا علىٰ فهم السبب والنتيجة كأفكار مجرَّدة تساهم في تفسير العالم الطبيعيِّ ما يعني أنَّ فهمنا للعالم يصدر من معارفنا الحسِّيَّة، وأنَّ للسببيَّة ثلاثة ضروب أساسيَّة وهي «أنَّ فكرة العلِّيَّة قائمة علىٰ أُسُس ثلاث هي: الاتِّصال، الأسبقيَّة، وكذا الارتباط الضروريُّ  (الضرورة)»[1].

لقد اعتبر هيوم أنَّ مسألة السببيَّة تُعَدُّ عنصراً أساسيًّا في حياة الإنسان وفي النظريَّات المعرفيَّة بصيغة إجماليَّة باعتبار أنَّ لكلِّ حادثة سبباً، ومعلوم أنَّ هذه النظريَّة التي سادت منذ أُرسطو وصولاً إلىٰ العصر الحديث تقرُّ بأنَّ البحث في الأسباب هو مبدأ قائمٌ في العقل، وخاضعٌ لمبدأ الضرورة والفطرة ولا مجال لإنكار هذه المبادئ. فهل سيظلُّ هذا القانون علىٰ حاله في التناول الهيوميِّ له؟

في تحليله لهذا الموضوع أقرَّ هيوم بوجود عنصر الاتِّصال واعتبره أساسيًّا وجوهريًّا لتفسير مبدأ السببيَّة، وكذا هو الحال لعنصر الأسبقيَّة الزمنيَّة بين السبب والمسبَّب، إلَّا أنَّه رأىٰ في عنصر الضرورة إشكالاً. وهو يقول: «إنَّ تصوُّر العلِّيَّة تصوُّرٌ معقَّد وليس بسيطاً، إذ يتضمَّن ثلاثة أفكار هي: السبق، والجوار المكانيُّ، والضرورة»، ولم يُثِر السبق والجوار مشكلة لديه، إذ يقول: «لا توجد صعوبة في فهمها»، ولكنَّه رأىٰ أنَّ «فكرة الضرورة في العلاقة العلِّيَّة فكرة تستلزم التحليل»[2].

لا بدَّ من القول: إنَّ هذا الفيلسوف أنكر وجود فكرة الضرورة التي تشدُّ السبب بالمسبَّب أي الوجوب المنطقيَّ، كما ذهب إلىٰ ذلك سابقوه من الفلاسفة العقلانيِّين، ليقرَّ بأنَّ هذه العلاقة هي مجرَّد تتابع وتكرار للانطباعات والأفكار التي وقعت في الماضي، مُعتبراً أنَّ هذه الضرورة ليست منطقيَّة وإنَّما هي مجرَّد انطباع تجريبيٌّ فحسب خاضع للتتابع العاديِّ للأحداث والوقائع المرتبطة بالملاحظة الحسِّيَّة والذِّهنيَّة النابعة من صميم التجربة البشريَّة.

وأنَّ ما يحدث في الطبيعة من أحداث تبدو منفصلة ومتتابعة شأن تحليل معنىٰ الدفء

(97)

الذي لا يتضمَّن عنصر النار أو حرارة الشمس، وتحليل معنىٰ النار لا يتضمَّن عنصر الدفء وإنَّما معرفة العناصر الكيميائيَّة والطبيعيَّة التي أدَّت إلىٰ وقوعها.

ففي تناوله لقضيَّة السببيَّة ضمن كتابه تحقيق في الذهن البشريِّ يذهب إلىٰ إبراز شكوكه في عمليَّات الذِّهن منطلقاً في ذلك من الحالة الآدميَّة للإنسان الأوَّل، ونظرته للشمس، وتلك الحيرة التي تنتابه حول إمكانيَّة شروقها مرَّةً أُخرىٰ أم لا، خصوصاً أنَّه لا يمتلك دليلاً عقليًّا علىٰ ذلك، بل إنَّ ما يملكه يقتصر علىٰ العادة والتكرار. تُفضي إذن المسلَّمة التي عالجها إلىٰ القول بأنَّ المسألة لا ترتبط بالضرورة العقليَّة وإنَّما تعود للعادة والتكرار النابعين من التجربة، «ولا يمكن لعقلنا، إذا لم تسنده التجربة، أنْ يرسم أيَّ استنتاج يتعلَّق بالوجود الفعليِّ وبأُمور الواقع»[1]. ما يعني أنَّ حدوث الظواهر السببيَّة يخضع للعادة والتكرار النابعين من صميم الحواسِّ لا المنطق العقليِّ.

يبدو التفسير الهيوميُّ للتجربة البشريَّة أسير الحواسِّ لا العقل، وهذا ما يجعل من مسألة السببيَّة تتَّخذ عنده وجهة العادة والتكرار لا المنطق، وهو ما ينزع عنها سِمَة الضرورة. فأنْ نُخضِع ظاهرة شروق الشمس مثلاً للعادة والتكرار فذاك يعني التغييب التامَّ للمنطق العقليِّ الذي افترضه سابقوه، وهذا ما جعل من نسَقَيه يختلفان عنهم.

في السِّياق عينه، رفض هيوم في تفسيره لعلاقة السبب بالمسبَّب القول بأنَّ العقل يُمثِّل مصدراً للمعرفة، معتبراً أنَّه ليس بمستطاعه أنْ يمدَّ الإنسان بالمعرفة الكلِّيَّة، بل هو عاجز عن الكشف عن الأسباب والخلفيَّات التي تقع في الظواهر الطبيعيَّة التي يتعرَّض لها الإنسان. «إنَّ الأسباب والمفاعيل لا تُكشَف بالعقل، (...) فلا أحد يتخيَّل أنَّ انفجار البارود، أو جاذبيَّة حجر المغناطيس يمكن أنْ يُكتَشفا بواسطة حجَّة قبليَّة»[2]. وهذا يعني أنَّه لا يعترف بالمبادئ العقليَّة لمسألة السببيَّة كما اعترف بها أُرسطو ولاحقوه من الفلاسفة العقلانيِّين.

إلىٰ هذا، يرىٰ هيوم أنَّ المعرفة التي يكتسبها الإنسان حيال ما يمرُّ به من ظواهر ووقائع لا تحمل في ثناياها السِّمَة العقليَّة القبليَّة، ما يعني أنَّ العقل عاجز عن تفسير العلاقة السببيَّة

(98)

القائمة بين السبب والمسبَّب ليُعطي بذلك الأسبقيَّة للخبرة والتجربة، خصوصاً أنَّه انتقد الأفكار الفطريَّة للعقل البشريِّ معتبراً إيَّاها مجرَّد انعكاسات للأحاسيس ليُؤكِّد علىٰ صلابة الانطباعات ومدىٰ تأثيرها علىٰ العقل البشريِّ مقارنةً بالأفكار «بإمكاننا أنْ نُقسِّم إدراكات الذِّهن جميعها إلىٰ نوعين يتميَّزان باختلاف درجة القوَّة والحيويَّة، فالتي هي من نوع أقلَّ قوَّة وأقلَّ حيويَّة تُسمَّىٰ في العادة أفكاراً أو أيديَّات، أمَّا التي هي من النوع الآخر فتفتقر إلىٰ اسم (...)، فنأخذ حرّيَّتنا إذن ونُسمِّيها انطباعات»[1].

وهذه الانطباعات تعني وفق هيوم كلُّ معرفة يكتسبها الإنسان جرَّاء العواطف والأحاسيس الناجمة عن الحواسِّ «أعني إذن بلفظ انطباع كلِّ ما هو أكثر حياةً في إدراكاتنا حين نسمع، نرىٰ، نلمس، نُحِبُّ ونكره، ونرغب ونريد»[2]. وهذا يعني أنَّ الانطباعات مختلفة عن الأفكار ليقرَّ بأنَّ المعرفة الإنسانيَّة مرتبطة بالتجربة لا بالعقل. هذا فضلاً عن تقسيمه للإدراكات إلىٰ بسيطة أي لا تتجزَّأ، وهي أيضاً جزء من الانطباعات، وأمَّا الأفكار المركَّبة فتتألَّف من الأفكار البسيطة المشتقَّة من الانطباعات، وتبدو في نظره مستمدَّة جميعها من التجربة.

لقد أقام هيوم هذا التمييز بين إدراكات الذِّهن ليقرَّ بأنَّها تتكوَّن من أفكار وانطباعات متمايزة من حيث القوَّة والحيويَّة، وليُؤكِّد بالتالي علىٰ أنَّ الأفكار التي يحوز عليها العقل البشريُّ ليست فطريَّة وإنَّما هي متولِّدة من الخبرة الحسِّيَّة المتأتِّية من التجربة، ليقرَّ في النهاية بأنَّ العقل غير سابق للتجربة، والمعرفة الإنسانيَّة بَعديَّة وليست قَبليَّة، وهي أيضاً مكتسبة وليست فطريَّة كما ذهب إلىٰ ذلك الفكر السابق له.

يقف هيوم إذن ليُؤكِّد علىٰ مسألة في غاية من الأهمّيَّة بنظره، وهي أنَّ المعرفة الإنسانيَّة صادرة من التجربة لا من الأفكار العقليَّة الفطريَّة، ومنه يُبيِّن كيف أنَّ الطبيعة الجامعة بين السبب والمسبَّب قائمة علىٰ التجربة لا علىٰ العقل الذي يبدو بنظره عاجزاً عن تقديم معرفة يقينيَّة ما لم يستند إلىٰ الانطباعات والعواطف. هذا يعني أنَّ المعرفة لا تتجسَّد إلَّا من خلال التجربة الصادرة من الحواسِّ، أي إنَّها تُمثِّل المصدر الرئيسيَّ لولوج العالم الخارجيِّ بحسب تفسيره.

(99)

ويتوغَّل هذا الفيلسوف في نقده للعقل من خلال اعتباره مجرَّد ملكة تساعد الإنسان علىٰ التذكُّر وإعادة صياغة الصور الحسِّيَّة، لينتهي بذلك إلىٰ التأكيد علىٰ أنَّ المعرفة مصدرها حسِّيٌّ لا عقليٌّ. ما يعني أنَّ العقل لا يحوز علىٰ أفكار فطريَّة، أي إنَّه بمثابة الصفحة البيضاء ولا توجد فيه أفكار ما لم تكن موجودة في العالم الحسِّيِّ، أي إنَّ معارف الإنسان تنبع من التجربة والخبرة لا غير. «ما دام العقل لا يعلم إلَّا طائفة من الإدراكات الحسِّيَّة، كان من المستحيل أنْ يكون في عقولنا شيء ما يكون مخالفاً في نوعه للآثار الحسِّيَّة»[1].

لقد كان همُّه تبيان أنَّ العقل لا يحتوي علىٰ أفكار فطريَّة، أي إنَّه صفحة بيضاء تخطُّ عليها التجربة انطلاقاً من الانطباعات التي تحصل لديها من الحواسِّ، وبذلك يزعزع أفكار سابقيه من العقلانيِّين في رفضه القول بأنَّ المعرفة تحصل جرَّاء الأفكار الفطريَّة التي يحوز عليها العقل ليُعلِن بذلك عن رفضه القاطع لفرضيَّة تفسير العلاقة الجامعة للسبب بالمسبَّب، والتي تُقِرُّ بأنَّ العقل يُمثِّل مصدراً للمعرفة بها.

يذهب هيوم إلىٰ أنَّ كلَّ ما له صلة بالوقائع المرتبطة بتجارب الحياة يقوم علىٰ السببيَّة، أي علاقة السبب بالمسبَّب، وهذه العلاقة تجعل من الكائن البشريِّ يتجاوز تفسير وقائع العالم الطبيعيِّ بالحسِّ ليُبرهن علىٰ ذلك بالتجربة التي تُفضي إليها، أي إنَّنا نتكلَّم عن موضوعين مترابطين وهو ما يُفضي بنا إلىٰ استنتاج أحدهما من الآخر، «فبعض الأسباب كلِّيَّة الانتظام والتواتر في إحداث مفعول مخصوص ما، ولم يُعثَر أبداً علىٰ حالة واحدة من حالات انخرام هذا الانتظام أو تعطُّله في عملها، فلا تزال النار محرقة للناس والماء مغرقة لهم»[2].

يتَّضح ممَّا سبق أنَّ السببيَّة تعني تسلسُل الأحداث بصيغة منتظمة، وبتحليله لها أقرَّ هيوم بأنَّ مبدأها لا يعني البتَّة مجرَّد تتابُع لأحداث منفصلة عن بعضها البعض وإنَّما تقوم علىٰ علاقة ترابط مسؤول بين السبب والنتيجة يُمكِّننا من التنبُّؤ المستقبليِّ انطلاقاً من ملاحظتنا للظَّواهر نفسها التي جرت في الماضي. يعني ذلك أنَّ التنبُّؤ بأحداث المستقبل لا تتمُّ إلَّا بشكل احتماليٍّ، وهذا ما أكَّده حول فكرة الاحتمال والسببيَّة مؤكِّداً أنَّ ذلك لا يُفضي إلىٰ أيِّ تناقضٍ عقليٍّ.

في حديثه عن علاقات الدم مثلاً يقرُّ هيوم بأنَّ للسببيَّة دوراً فعَّالًا في تفسير العلاقات ما

(100)

بين الأفراد وفق عدد الأسباب التي يتمُّ ربطها بهم، إذ يعترف بأنَّ «العلاقة السببيَّة هي الأكثر شموليَّة، حيث يمكن اعتبار كائنين موضوعين في هذه العلاقة، وذلك عندما يكون أحدهما سبباً للآخر، كما هو الحال عندما يكون الأوَّل هو سبب وجود الأخير»[1]، ما يعني أنَّ السببيَّة لا تستطيع تقديم تبرير عقليٍّ، وأنَّ ما تُعبِّر عنه هو مجرَّد تتابُع للأحداث صادر من الحواسِّ.

في هذا الإطار، يرىٰ هذا الفيلسوف أنَّ الحواسَّ والخبرة هي المصدر الأساسيُّ لمعارفنا التي نحصل عليها، ولا وجود لأيِّ رابطة ضروريَّة ما بين السبب والنتيجة، ما يعني أنَّ فكرة الضرورة عنده مرتبطة بفكرة العادة، أي إنَّ الإنسان يُفسِّر الأحداث بحسب ما تعوَّد عليه، كأنْ يتوهَّم أنَّ الحدث الأوَّل سبب للثاني، وهذا ما يتعارض مع التجربة حيث يرىٰ أنَّه لا يوجد رابطة ضروريَّة تجعل من النتيجة متضمَّنة في السبب ليُعلِن أنَّ التجربة الحسِّيَّة لا تفضي إلَّا إلىٰ تكرار الوقائع «يبدو أنَّ جميع استدلالاتنا المتعلِّقة بالوقائع قائمة علىٰ العلاقة بين السبب والمفعول؛ إذ بواسطة هذه العلاقة يمكننا أنْ نذهب إلىٰ ما بعد بداهة ذاكراتنا وحواسِّنا، فلو كان لك أنْ تسأل شخصاً عمَّا يجعله يُصدِّق واقعة هو غائب عنها كأنْ (يعتقد) مثلاً أنَّ صديقه في الغاب، أو أنَّه في فرنسا، فسوف يُعطيك سبباً، وهذا السبب سيكون بعض واقعة أُخرىٰ: رسالة تلقَّاها منه، أو معرفة سابقة بقراراته ومشاريعه»[2]. فالعقل بنظره لا يستطيع أنْ يرسم حقائق الوجود الفعليِّ وإشكالات الواقع ما لم تُسنِده التجربة.

إذًا، العلاقة بين السبب والنتيجة تبدو في نظر هيوم مجرَّد علاقة يتجاوز عبرها الإنسان حدود شهادة الحواسِّ وشهادة الذاكرة في تفسيره لوقائع العالم الطبيعيِّ، ما يعني أنَّ للخبرة والتجربة دورًا هامًّا في تفسير هذه العلاقة. «وإنَّ معرفة العلاقة لا تتحصَّل من تعليلات قَبْليَّة، بل تتولَّد بأسْرِها من الخبرة حيث نجد أشياء معيَّنة تترافق بعضاً مع بعض بشكلٍ مستمرٍّ»[3]، ما يعني أنَّ الإنسان يستطيع معرفة العلاقة القائمة بين السبب والنتيجة من خلال الخبرة التي يكتسبها في الحياة.

وضمن حديثه عن مُستطاع العقل، يذهب هيوم إلىٰ أنَّ العقل لا يستطيع فهم العلاقة بين

(101)

السبب والنتيجة من دون مساعدة الحواسِّ والخبرة له. «علىٰ افتراض تماميَّة ملكاته العقليَّة، لم يكن بإمكانه أنْ يستدلَّ من سيولة الماء وشفَّافيَّته علىٰ أنَّه قد يخنقه، ولا من ضوء النار وحرارتها علىٰ أنَّها قد تُحرقه، فليس ثَمَّة شيء يكشف بخصائصه التي تظهر للحواسِّ لا عن الأسباب التي تُحدِثه، ولا عن المسبَّبات التي يتولَّد منها»[1]. هذا يعني أنَّ العقل لا يستطيع البرهنة علىٰ واقعة ما إنْ لم يستند إلىٰ الحواسِّ والذِّهن، وبهذا نستخلص إلىٰ أنَّ فكرة السببيَّة مع هيوم تخضع لمنطق التتابع لا غير. ومن ذلك يكون هيوم أوَّل من نقلها من معانيها الأُرسطيَّة إلىٰ معنىٰ التتابُع المجرَّد بين السبب والمسبَّب ما يشير إلىٰ أنَّ السبب سابق لمسبَّبه كما دلَّت عليه التجربة.

انطلاقاً ممَّا تقدَّم، يتبيَّن أنَّ رفض هيوم لفكرة السببيَّة القائمة علىٰ الضرورة بين السبب والمسبَّب من جهة ورفضه كذلك لصدورها عن العقل، نابع من نظريَّته للمعرفة القائمة علىٰ التجربة الحسِّيَّة التي تأكَّد علىٰ وجود تكرار متواصل بين الأحداث ونتائجها، وهو ما يدعو إلىٰ القول بوجود علاقة ضروريَّة بين الحادثتين.

إنَّ اللُّغز الذي يختفي وراء دفاعه الكبير عن التجربة، قلَّما يجد أهمّيَّته في تصوُّره التجريبيِّ لمسألة السببيَّة، حيث أقرَّ بعدم قدرتها علىٰ تفسير العلاقة الضروريَّة القائمة بين السبب والمسبَّب، وأنَّ هذه العلاقة تقوم علىٰ التسلسل والتتابع، ما يعني أنَّ كلَّ ما يحدث في العالم الخارجيِّ هو مجرَّد عادة ذهنيَّة، وما يصدر من التجربة لا يمكن أنْ يكون إلَّا مجرَّد اقتران مطَّرد، وهذا ما أكَّده من خلال حديثه عن كرة البلياردو، وهذا ما يبرهن علىٰ رفض هيوم للتبرير التجريبيِّ لمبدأ السببيَّة.

من هذا المنطلق، نتبيَّن أنَّه أقرَّ بعدم وجود ضرورة  في العلاقة السببيَّة مهما كانت سواء عامَّة أم خاصَّة، باعتبار أنَّ كليهما يخضعان إلىٰ النتيجة نفسها، وأنَّ التجريبيَّة ليست ملزَمة بإثبات أو نفي وجود الضرورة في العلاقة السببيَّة، ومن ذلك رفع عن مبدأها سِمَة الحتميَّة ليُلقي بها في الاحتمال متجاوزاً بذلك ما أقرَّه سابقوه من الفلاسفة العقلانيِّين الذين أكَّدوا علىٰ وجود الضرورة.

(102)

ب - التحليل النفسيُّ للسببيَّة:

يرفض هيوم القول بموضوعيَّة العلاقة الرابطة بين السبب والمسبَّب، مشيراً إلىٰ ارتباطها بانطباعات ذهنيَّة، ليقرَّ بأنَّها تتميَّز بطبيعة نفسيَّة، وذلك من خلال ما نُسقِطه علىٰ العالم الخارجيِّ من تصوُّرات، كأنْ نعتقد في تكرار الحدث والنتيجة عينها إذا كان لدينا العلاقة نفسها بين السبب والمسبَّب. كما هو الحال في تمدُّد الحديد والنحاس عندما نُعرِّضهما إلىٰ درجة حرارة معيَّنة، فنتبيَّن أنَّ الحرارة تُمثِّل السبب، والتمدُّد المسبَّب (نتيجة)، وعند إعادتنا للكرَّة سنصل إلىٰ النتيجة عينها، ما يعني أنَّ العلاقة السببيَّة بين الحرارة وتمدُّد الحديد والنحاس تعني اقترانهما. «إنَّ أوَّل ظهور للموضوع لا يُقدِّم أيَّ سبب لحدوثه، لكن يمكن اكتشاف هذا السبب في الذِّهن، كما يمكن أنْ نتوقَّع حدوث الظاهرة من دون تجربة، ونستطيع أنْ نحكم بيقين بخصوص ظهور هذه الظاهرة انطلاقًا من التفكُّر والتعقُّل»[1].

يبدو أنَّ  الاقتران بين السبب والمسبَّب الذي تكلَّم عنه هيوم، هو ما يبرهن علىٰ وجود تتابُعٍ مستمرٍّ ما بين أسباب ومسبَّبات الظواهر، ويلغي بالتالي فكرة الضرورة ليقرَّ بفكرة العادة، أي إنَّ حضور الفكرة الأوَّليِّ يُؤدِّي إلىٰ تعقُّب الأُخرىٰ. وبهذا يعترف بأنَّ أذهاننا تعوَّدت علىٰ إحداث هذا التلازُم بين السبب والمسبَّب كأنْ نلزم فكرة النار بفكرة الحرق مثلاً.

لا بدَّ من الإشارة إلىٰ أنَّ ما يُسمِّيه هيوم بالارتباط الضروريِّ هو ما يصدر من الذِّهن نتيجة العادة الكامنة به، والتي تدفعه إلىٰ توقُّع حدوث ظواهر مقارنة لبعضها البعض، وكذلك أنْ يعتقد بضرورة وجودها وهو صادر في أصله من الاحساس أو الانطباع الذي تنبع منه فكرة التأثير. وهذا يعني أنَّ مسألة السببيَّة تقوم علىٰ ما يتوقَّعه الفرد من خلال تكرار علاقة الاقتران بين واقعتين متعاقبتين كالنار والحرق مثلاً.

حريٌّ القول: إنَّ هيوم لم يقتصر في تناوُله لمسألة التحليل النفسيِّ لمبدأ السببيَّة عند مجال الظواهر الطبيعيَّة، بل إنَّه تعدَّاها إلىٰ مجال الملاحظة الذاتيَّة للنفس البشريَّة، لينبش في طبيعة العلاقة القائمة بين الحركة والإرادة، وليُؤكِّد بذلك علىٰ وجود علاقة سببيَّة تربط الحركة بالإرادة، أي تربط العقل بالبدن، ولكنَّه رفع عنها سِمة الضرورة «فنُسمِّيه موضوعاً متبوعاً بموضوع آخر، ويحمل ظهوره الفكر دوماً إلىٰ ذلك الآخر»[2].

(103)

لقد كان ربطه لفكرة السببيَّة بالاستنتاج يعني أنَّ لكلِّ سبب مسبَّباً، وعليه فقد صارت تُعَدُّ من بين الشروط التجريبيَّة التي تسهم في ترابط الأفكار وتسلسُلها، وأنَّها تتشكَّل في الذات نتيجة الانفعالات والمشاعر المرتبطة بالجانب السيكولوجيِّ لا العقليِّ في الإنسان من خلال ما يعيشه من تجارب التكرار والعادة، أي إنَّها تخضع لمنطق المُعاوَدة والتتابُع ولا يمكنها أنْ تخضع لأيِّ مبدأ فطريٍّ في العقل البشريِّ.

نخلص هنا إلىٰ أنَّ أصالة هيوم في تناوله لإشكال السببيَّة تكمن في نزعِه سِمَة الضرورة عنها ليزجَّ بها في العادة، معتمداً في ذلك علىٰ العديد من البراهين التجربييَّة التي تُبرز ارتباط السبب والمسبَّب بالعادة، ما يعني أنَّه قد أخرجها من عالم المنطق إلىٰ عالم السيكولوجيا الذي تحكمه العواطف والانفعالات لا الأحكام العقليَّة.

هكذا بدت العلاقة السببيَّة في التصوُّر الهيوميِّ لا يمكن أنْ تُبرَّر لا بالاعتماد علىٰ العقل ولا علىٰ التجربة، ما يعني أنَّ هذا الإشكال المعرفيَّ للمنهج الاستقرائيِّ للعلاقة السببيَّة لا يمكن تبريره لا بالعقل ولا بالتجربة ليزجَّ بها في العادة والتكرار الناجمين عن الحواسِّ، وبالتالي يُخرجها من دائرة الضرورة إلىٰ الاحتمال.

إنَّ تعرية هيوم للسببيَّة من شرط الضرورة والاكتفاء بالقول أنَّها مجرَّد عادةً وتكرار يُؤدِّي من جهة إلىٰ القول بهشاشة العلم القائم عليها، ومن جهة ثانية يظهره علىٰ شاكلة معتَقد ذي مرتكزات هشَّة، وهذا ما جعل من العلم الحديث في ريبة من نتائجه. فإخضاعه العالم لمنطق الاحتمال لا الحتميَّة له العديد من التبعات الدِّينيَّة والأخلاقيَّة التي ستُخضِع أفكاره لا محالة إلىٰ النقد.

3. نقد موقف هيوم من السببيَّة:

انطلق هيوم في تحليله لمسألة السببيَّة برفضه القاطع لمبدأ التلازم الضروريِّ ما بين السبب والنتيجة، واعتبر أنَّ العقل لا يظفر بها بطريقة بديهيَّة كما فسَّرها الفكر السابق له، وهذا ما جعل من البعض يعتبر أنَّه بتصوُّره هذا قد وضع المسألة في إطارها العلميِّ الصحيح، لكن ذلك لم يُعفِه البتَّة من سجالات القبول والرفض، حتَّىٰ إنَّ البعض اتَّهمه بالفكر الرَّيبيِّ والهدَّام خصوصاً أنَّه بقي أسير نسَقه الفلسفيِّ القائم علىٰ أساس سيكولوجيٍّ فحسب، وقطع مع عالم المنطق.

(104)

وإذا كان هذا الفيلسوف قد تحدَّث عن الانفصال القائم بين السبب والنتيجة، ولم يهتمّ بالاختلاف التامِّ بينهما، فإنَّه سعىٰ بذلك للقطع مع التصوُّرات السابقة المهتمَّة بهذه المسألة، ما جعله يتَّجه نحو التطرُّف بدل مسايرة النَّسق، وهو ما سيوصل حتماً إلىٰ تهافُت تصوُّره الفلسفيِّ المبنيِّ علىٰ نزعة تجريبيَّة متطرِّفة، باعتباره يرفض أنْ يقوم قانون السببيَّة علىٰ العقل والتجربة ليزجَّ به في العادة والتكرار الصادرين من الحواسِّ.

والواقع أنَّنا إذا ما فحصنا موقف هيوم من السببيَّة سنجد أنَّه يقوم علىٰ ضرب من السفْسَطَة والمُغالَطة، باعتبار أنَّ قانونها هو قانون تلازم الكون ولا مجال لرفضه لأنَّ ذلك سيُفضي حتماً إلىٰ إلغاء علل الأشياء ومسبَّباتها، ما يتنافي مع نواميس الكون القائمة عليه، خصوصاً أنَّ إلغاءه سيُلغي أيَّ احتمال لوجود الكون. من هنا، إذا ما نظرنا إلىٰ هذا الكون نتبيَّن أنَّ الله مصمِّمُه وواضعَ نظامه، وهو أيضاً علَّة ذاته وعلَّة الموجودات ككلِّ، ما يعني أنَّه لا مجال لرفض قانون السببيَّة، والحال أنَّ الله وضع لكلِّ سبب مسبَّباً ليجعل من هذا الكون متماسكاً ومترابطاً وخاضعاً في الآن ذاته إلىٰ منطق السببيَّة لأنْ لا شيء يأتي من لا شيء.

لا بدَّ من الإشارة هنا إلىٰ أنَّ رفض هذا الفيلسوف للارتباط الضروريِّ بين السبب والنتيجة، وإرجاع العلاقة القائمة بينهما إلىٰ العادة والتكرار، قد أوقعاه في العديد من الأخطاء المنهجيَّة التي جعلت منه موضوعاً للدراسة والنقد، باعتباره خرج عن مجاراة نسق سابقيه بأُسلوب تعسفيٍّ رَيبيٍّ. ولا شكَّ في أنَّ نزعه لسِمَة الضرورة عن مسألة السببيَّة سيُؤدِّي حتماً بتصوُّره العلميِّ إلىٰ الرَّيبيَّة باعتبار أنَّ هذا التصوُّر يفتقر إلىٰ سند عقليٍّ لا سيَّما أنَّه أخرجه في صورة معتَقد ذي أساسيَّات هشَّة، وهذا ما يتنافىٰ مع أساسيَّات البحث العلميِّ السليم؛ لأنَّه بإظهاره علىٰ شاكلة معتقَد قد يزعزع أركان العلم، وقد يكون له أيضاً العديد من التبعات الدِّينيَّة القائمة علىٰ العلاقة السببيَّة بين الله والكون، باعتبار أنَّ الله هو علَّة ذاته وعلَّة كلِّ الموجودات.

أ - التَّبعات الدِّينيَّة:

يمكن هنا توجيه سهام النقد للتصوُّر الفلسفيِّ العلميِّ والمنهج الاستقرائيِّ الذي أثاره هيوم في تناوله لمسألة السببيَّة، خصوصاً أنَّه رفض القول بالضرورة المنطقيَّة بين السبب والنتيجة وأرجع هذه العلاقة إلىٰ العادة والتكرار والانطباعات المرتبطة بالحواسِّ، وهذا ما يتعارض وحقيقة تشكيل الوجود برُمَّته.

(105)

ولـمَّا كان قانون السببيَّة هو أحد الشروط التجريبيَّة التي تضمن ترابط الأفكار والأحداث التي تدور فيها جلُّ أفعال الإنسان داخل الكون، فإنَّ رفض هيوم لهذا القانون قد جعل منه حبيس نسَقِه الفلسفيِّ المنغلق علىٰ أفكاره التجريبيَّة المتطرِّفة، باعتبار أنَّ القول بإلغاء هذا القانون سيُلغي معه أيَّ مسبَّبات لوجود الأشياء والكون، وهذا ما يُبرز مدىٰ تهافت تصوُّره الفلسفيِّ كون هذا الرفض لا يقوم علىٰ أُسُس دقيقة وإنَّما يعتمد علىٰ مبرِّرات هشَّة ولا تمتلك الحقيقة المطلَقة. كما أنَّ القول برفض قانون السببيَّة من قِبَله سيُفضي إلىٰ عبثيَّة الكون ولا معناه. علماً أنَّه بُنِيَ علىٰ أُسُس سببيَّة وضعها الخالق في ما خلق. هذا المفهوم يبدو جليًّا سواء في كتاب الله أم في العلاقات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة التي تشدُّها إلىٰ بعضها بعض علاقات سببيَّة. فحتَّىٰ الطبيعة وضعها الله وفقاً لعلاقات سببيَّة، وهذا نتبيَّنه من قوله تعالىٰ: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57)[1]، ما يعني أنَّ نزول الماء كان نتيجة لوجود السحاب، أي إنَّ هناك علاقة سببيَّة ضروريَّة بينهما، كما هو الحال في وجود علاقة سببيَّة بين خروج النبات والماء، وأيضاً في إخراج الموتىٰ، ما يُوحي أنَّ ثَمَّة علاقة سببيَّة ضروريَّة تحكم بنيان الكون.

وفي الحديث عن إنكار هيوم للوجوب المنطقيِّ لمسألة السببيَّة، كما أقرَّ بذلك سابقوه من الفلاسفة العقلانيِّين، وإقراره بأنَّ هذه العلاقة هي مجرَّد تتابُع وتكرار للانطباعات والأفكار التي وقعت في الماضي، واعتبار أنَّ أحداث الطبيعة تبدو منفصلة ومتتابعة ولا تخضع لأيِّ منطقٍ عقليٍّ، فإنَّ هذا الأمر يتنافى وحقيقة الطبيعة التي أنشأها الخالق، كحديثه مثلاً عن الحالة الآدميَّة للإنسان الأوَّل، ونظرته للشمس، وتلك الحيرة التي انتابته حول إمكانيَّة شروقها مرَّة أُخرىٰ أم لا، وإرجاعه هذه الظاهرة الطبيعيَّة إلىٰ العادة والتكرار النابعين من صميم الحواسِّ لا المنطق العقليِّ، كلُّ ذلك  يُخفي في طيَّاته ضرباً من الرَّيبيَّة والإلحاد.

ومن الأمثلة التي تُؤكِّد المنطق العقليَّ لنظام السببيَّة الذي اقتضته الطبيعة الإلهيَّة في الكون، ما نراه كلَّ يوم من وجود الشمس، فهي دومًا تشرق من المشرق وتغرب من المغرب وهذه سُنَّة الله في خلقه، أي إنَّ هناك نظامًا سببيًّا ضروريًّا ومنطقيًّا في تفسير هذه الظاهرة

(106)

الطبيعيَّة. قال نبيُّ الله إبراهيم: (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 258)[1].

وحول رفض هيوم القول بالضرورة المنطقيَّة لمسألة السببيَّة نجد أنَّ الله ربط كذلك الثواب والعقاب بأسبابهما، فأنْ نتحدَّث عن السرقة مثلاً فإنَّنا نكون ملزمين بالحديث عن قطع اليد، ما يعني أنَّ السرقة سبب لقطع اليد، وكذا هو الحال مع الاستغفار الذي هو سبب للتوبة. يقول الله تعالىٰ: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً 68 يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً 69 إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً 70)[2].

ما نتوصَّل إليه هنا أنَّ الله أكَّد في كتابه الكريم علىٰ الضرورة المنطقيَّة في وجود مبدأ السببيَّة بين الأحداث والظواهر الطبيعيَّة، واعتبر أنَّ ما يشدُّ السبب إلىٰ النتيجة هي الضرورة الحتميَّة النابعة من الأسباب الجعليَّة لا الذَّاتيَّة. ومن ذلك نُدرك أنَّ هذه الأسباب بمسبَّباتها ترتبط بالقدرة الإلهيَّة لا البشريَّة، وهذا ما يجرُّنا مجدَّدًا إلىٰ القول بريبيَّة التصوُّر الهيوميِّ وهشاشة منهجه العلميِّ.

من خلال قراءتنا لنقد هيوم لهذا القانون، نتبيَّن مَيْلَه إلىٰ الجانب السَّفسَطيِّ والمُغالطيِّ في موقفه من السببيَّة، فما أنْ يُشرع في تفسير الظواهر والأحداث الطبيعيَّة حتَّىٰ يتعرَّض إلىٰ القول بالضرورة في تفسيره للأسباب والنتائج من دون أنْ يُعلِن عن ذلك، ففي تناوله لمسألة شروق الشمس وتفسيرها وفقًا للعادة مثلاً نراه يتَّجه إلىٰ السَّفسَطة من دون منازع باعتبار أنَّ شروق الشمس يظلُّ رهين الإرادة الإلهيَّة لا البشريَّة، فالله علَّة ذاته وعلَّة الموجودات ككلِّ، ومن الخطأ تجاهُل وجوده في علاقة سببيَّة مع الكون بما احتوىٰ عليه من أشياء وظواهر طبيعيَّة عديدة، وهذا ما يعني أنَّ قانون السببيَّة قانون شامل وواضح المعالم لعالمَيْ الغيب والشهادة ولا مجال لرفضه.

لم يُرجِع هيوم السببيَّة إلىٰ مصدر فاعل في الطبيعة كما ذهب إلىٰ ذلك العديد من الفلاسفة

(107)

العقلانيِّين كالغزالي الذي يرىٰ أنَّ الله هو الفاعل، أي إنَّه القوَّة الفاعلة في الكون بأكمله، بل ترك المصدر مبهماً، وهذا ما يجعل من تصوُّره هشًّا ويتَّسم بالرَّيبيَّة والسَّفسَطة، وجلب إليه العديد من الانتقادات.

ب - التَّبعات الأخلاقيَّة:

إذا كانت التناولات الهيوميَّة لمسألة السببيَّة تقف عند حدود الانطباعات وما يتأتَّىٰ من الحواسِّ، ولا يتجاوز مجال الحسِّ، وقصرت بالتالي مجال المعرفة ضمن ما يتأتَّىٰ من الحواسِّ، فقد أفضت بتصوُّره الفلسفيِّ للسببيَّة إلىٰ العقم والرَّيبيَّة، حيث إنَّ تفسيره للوقائع والظواهر الطبيعيَّة بدت عاجزة تماماً عن تقديم تفسير معقول ومقبول علميًّا ومنطقيًّا.

كما أنَّ هذه الفلسفة بدت عاجزة عن تقديم بديلٍ معرفيٍّ يكون قادراً علىٰ تقديم قراءة شافيَّة لهذه الظواهر، ولكنَّه اكتفىٰ بالتفسير السفسطيِّ للواقع، ليصبح تناوله لمسألة السببيَّة محدود المعنىٰ بل عاجزاً عن تقديم حلول نهائيَّة لأهمِّ الإحراجات التي ما زالت تُؤرِّق العقل البشريَّ إلىٰ اليوم. فحين نتحدَّث مثلاً عن مسألة الإجرام سيكون هناك ترابط ضروريٌّ بين المجرم والجريمة بما هي أيضًا علاقة سببيَّة، لذلك لا يجب التسليم بغياب الضرورة عن مسألة السببيَّة.

من منظور آخر، يقرُّ تصوُّره العامُّ لمسألة السببيَّة عن عدم اعترافه بوجود حقيقة مطلقة كامنة في الوجود إلَّا من خلال ما أدركه من خلال التجربة أو ما تأتَّىٰ من الحواسِّ، وهو ما يُضفي علىٰ تصوُّره الفلسفيِّ الغموض والرَّيبيَّة، رغم أنَّه اعتنىٰ عناية فائقة بمسألة العلاقة السببيَّة لما لها من أهمّيَّة بالغة في حياة الإنسان ككلٍّ، باعتبار أنَّ هذه العلاقة هي التي تجعلنا ننتقل من قضيَّة لنا علم بها إلىٰ قضيَّة لا نعلمها.

هكذا يحاول هيوم بكلِّ ما أُوتِيَ من جهد أنْ يُقوِّض كلَّ تفسير يقول بوجود علاقة منطقيَّة ضروريَّة بين السبب والنتيجة في تفسيره لمسألة السببيَّة، ومن ثَمَّ يصبح تفسير الظواهر والوقائع كلِّها عنده خاضعاً إلىٰ الانطباعات والأفكار الصادرة من الحواسِّ أو التجربة لا العقل. فلا أهمّيَّة للعقل عنده إذن باعتبار أنَّ حقيقة تصوُّره غير كامنة به وإنَّما يُرجِعها إلىٰ الغرائز والرغبات لا العقل.

(108)

ما نُعيبه علىٰ التصوُّر الهيوميِّ هو إرجاعه الحقائق إلىٰ الحواسِّ والرغبات والغرائز التي تُعتَبر ظرفيَّة وغير خاضعة لمنطق العقل، خصوصاً أنَّ الجانب المعرفيَّ الذي يُدركه الإنسان من طريق حواسِّه محدود ولا يشتمل علىٰ جميع الكيفيَّات المحسوسة لفهم الأشياء. ما يعني أنَّه غير قادر علىٰ تمكينه من إدراك المعرفة التامَّة التي يتعطَّش لبلوغها ورفع نقاب الجهل عنها.

في هذا الإطار، يبدو المذهب الفكريُّ لهيوم قائمًا علىٰ وجود غير عقلانيٍّ، ما دفع بالبعض إلىٰ اعتباره عارًا علىٰ الفكر؛ لنزوعه نحو تفسير الواقع من طريق الحواسِّ لا العقل، وهذا ما يتنافىٰ والحقيقة، باعتبار أنَّ العقل هو الموجِّهُ الأساسيُّ للإنسان ولو لم يكن كذلك لما تميَّز به عن سائر الموجودات الأُخرىٰ، ولما تحمَّل عبء خلافة الله في الكون، وما تقتضيه من شروط.

ولـمَّا كانت السببيَّة هي أحد الشروط التجريبيَّة التي تسمح بترابط الأفكار في ما بينها، فإنَّ إقرار هيوم بخلاف ذلك سيجعل من تصوُّره الفلسفيِّ ذا مرتكزات هشَّة ومختلفة عن تصوُّرات سابقيه من الفلاسفة العقلانيِّين، لا سيَّما أنَّه قدَّم العديد من الاستدلالات من دون سندٍ عقليٍّ يقرُّ بوجود الضرورة ليقرَّ تالياً بأنَّها مجرَّد عادة وتكرار، وبالتالي قد أخرج تصوُّره لمسألة السببيَّة علىٰ شاكلة معتقَد ذي أُسُس هشَّة، وهذا ما جعل العديد من الفلاسفة يصفونه بالرَّيبيَّة والدوغمائيَّة خصوصاً أنَّه أخرج هذه المسألة من العقل إلىٰ السيكولوجيا بعيداً عن كلِّ حقيقة منطقيَّة يفترض أنْ تجوب الوجود الإنساني.

خاتمة:

يُعتَبر مبدأ السببيَّة مبدأً مهمًّا في الحياة البشريَّة، فانطلاقاً منه نستطيع تفسير الوقائع والأحداث التي نتعرَّض لها وغيرها من الظواهر الطبيعيَّة الأُخرىٰ. وهو مبدأ يقوم علىٰ ثلاثة أُسُس هامَّة، هي: التجاوز والأسبقيَّة والضرورة. ولكن هيوم في تناوله لهذه المسألة رفض القول بالضرورة وأقرَّ بالتجاوز والأسبقيَّة وضمن وجودها من خلال العادة والتكرار لا التجربة. وهذا ما جعل تصوُّره الفلسفيِّ العلميِّ موضع جدل واسع نظراً لأثر الرَّيبيَّة والسَّفسَطة عليه تصوُّره من جهة، وباعتبار أنَّه أحدث نوعاً من القطيعة مع تصوُّر العقلانيِّين السابقين له من جهة ثانية.

ما تجدر ملاحظته هو أنَّ تناول هيوم لمسألة السببيَّة وردَّه للتجربة البشريَّة إلىٰ التجربة لا العقل، ورفضه تحليلها بالعقل واستنتاج النتيجة من السبب، كما هو الحال في باقي العلوم

(109)

الصحيحة الأُخرىٰ، هذا التناول أبهر بعض الفلاسفة مثل كانط الذي أقرَّ بأنَّه قد أيقظه من سباته العقائديِّ. لكنَّ ذلك لم يمنعه من التصادم مع المسلَّمة الواقعيَّة الربَّانيَّة التي تُقِرُّ بأنَّ كلَّ شيء يحدث في الكون له علاقة سببيَّة قائمة علىٰ الوجود الضروريِّ بين السبب والنتيجة ولا يمكن لأمرٍ ما أنْ يحدث من دون سبب لحدوثه.

علىٰ هذا الأساس، تظلُّ مقاربة هيوم لمسألة السببيَّة حبيسة تصوُّره الفكريِّ، وبعيدة عن الحقِّ باعتبارها ترفض الإقرار بأهمّيَّة العقل في تفسيره للتجربة البشريَّة في الوجود، وبقائه أسير الحواسِّ والتجربة. وهذا ما جعل منه حبيس نَسَقه الفلسفيِّ المبنيِّ علىٰ نزعة تجريبيَّة شكِّيَّة متطرِّفة أفضت بتصوُّره الفلسفيِّ إلىٰ التهافت، وبالتالي عدم مجاراة مبادئ الفلسفة العقليَّة التي تُفسِّر الواقع بالعقل لا غير.

غنيٌّ عن القول: إنَّه إذا كان هيوم قد أرجع تفسير التجربة البشريَّة للوجود إلىٰ الحواسِّ والتجربة لا العقل، فإنَّ ذلك لم يكن من قبيل الصدفة وإنَّما يعود إلىٰ موقفه التجريبيِّ المتطرِّف الذي ينزع إلىٰ جعل مسألة السببيَّة تركيبيَّة لا تحليليَّة ليتجاوز بذلك الآراء الشائعة في عصره، ما يعني أنَّ كلَّ ما هو موجود ينبغي أنْ يكون له سبب ليقرَّ بأنَّ السببيَّة هي مسألة تركيبيَّة لا يمكن البرهنة عليها.

انطلاقاً ممَّا تقدَّم، يبدو تناول هيوم لمسألة السببَّة محفوفاً بالنقائص، شأنه شأن العديد من الطروحات الفلسفيَّة الأُخرىٰ؛ بفعل تركيز اهتمامه علىٰ تفسير التجارب البشريَّة علىٰ التجربة والحواسِّ لا علىٰ الحتميَّة الكونيَّة التي أقرَّها الله في الكون. كما أنَّه أهمل الجانب الأخلاقيَّ في تصوُّره للسببيَّة خصوصاً أنَّ العالم يعجُّ بالعديد من القضايا الأخلاقيَّة القائمة علىٰ هذه المسألة. زد علىٰ ذلك، إنَّ تصوُّره الفلسفيَ يبدو متضاربًا في العديد من المسائل، وربَّما يعود ذلك بالأساس إلىٰ شكِّه المستمرِّ في الأشياء والظواهر.

نختم بأنَّ ما طرحه هيوم بشأن مسألة السببيَّة يبدو بمثابة الزوبعة؛ لأنَّه لا يزعزع أركان العلم فحسب، بل يُظهره أيضاً علىٰ شاكلة معتَقَد زائف بعيد عن كلِّ حقيقة وجوديَّة، خصوصاً أنَّه نزع عنه سِمَة الضرورة، وأرجعه إلىٰ العادة والتكرار، وهذا ما يتنافىٰ وأخلاق العلم. كما أنَّ هذا الطرح جلب له العديد من التبعات الدِّينيَّة والأخلاقيَّة؛ وذلك لإخراجه هذه المسألة من دائرة الضرورة والحتميَّة إلىٰ دائرة الصدفة والعادة.

*   *   *

(110)

المصادر:

1. جميل صليبا، المعجم الفلسفيُّ، دار الكتاب البناني، بيروت، ط 1982م.

2. جلال الدِّين سعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيَّة، دار الجنوب للنشر، تونس، 2007م.

3. محمّد تقي مصباح اليزدي، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني، دار التَّعارف للمطبوعات، بيروت، 1990م.

4. عمرو عليّ بسيوني، الأُسُس اللَّاعقليَّة للإلحاد: مشكلة مبدأ العالم نموذجاً، مجلَّة «براهين».

5. محمّد فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلميُّ، دار الجامعات المصريَّة، ط 1977م.

6. ديفيد هيوم: تحقيق في الذهن البشري، ترجمة محمّد محجوب، المنظَّمة العربيَّة للترجمة، بيروت، الطبعة الأُولىٰ، 2008م.

7. ديفيد هيوم: مبحث في الفاهمة البشريَّة، ترجمة موسىٰ وهبة، دار الفارابي، بيروت، ط 1، 2008م.

8. أيُّوب أبو ديَّة، العلم والفلسفة الأُوروبيَّة الحديثة من كوبرنيق إلىٰ هيوم، دار الفارابي، بيروت، ط 1، 2009م.

9. David Hume: A treatise of Human Nature. Part.SIV.Rcprunted from the Original Edition Three and Edited. By L.A Selbybigge, M. Alascford, clarendon press, 1739.

10. Hume, D. Enquête sur l’entendement humain. Paris, Edition Montaigne, 1947.

*   *   *

(111)
(112)

ديفيد هيوم وقانون العلّيَّة

لعبة التناقض المريب

 

مازن المطوري[1]

 

البحث في قانون العلِّيَّة العامِّ من الأبحاث الفلسفيَّة المهمَّة جدًّا؛ لما يُمثِّله هذا القانون من قاعدة ارتباطٍ عامٍّ في سلسلة الموجودات، واتِّكاء البحث الطبيعيِّ والتجريبيِّ عليه، ولذلك صار البحث في هذا القانون من بين سائر أبحاث الفلسفة علىٰ رأس سُلَّم الأولويَّات الذي استحوذ علىٰ الفكر البشريِّ منذ قديم الزمان، ودفعه إلىٰ التفكير من أجل الكشف عن لغز الوجود والعالم المحيط به؛ ذلك أنَّ الإنسان يُدرك في دخالة نفسه أنَّ كلَّ ما يقع في هذا العالم من ظواهر وأحداث لا يمكن أنْ يكون صدفةً واتِّفاقاً، وإنَّما له علَّة أوجبت تحقُّقه وحصولَه، وعلىٰ أساس ذلك يندفع باحثاً عن عِلَل الأشياء وأسبابِها إشباعاً للميل الغريزيِّ الفطريِّ في حُبِّ الاستطلاع من جهة، وتلبيةً لحاجاته الحياتيَّة من جهة أُخرىٰ، فإنْ وقف علىٰ العلَّة فقد بلغ مُناه وهدفَه، وإنْ لم يقف عليها اكتفىٰ بالإيمان بوجود علَّة خفيَّة عليه انسجاماً مع ذلك الإدراك البديهيِّ.

في الواقع، إنَّ ما يُقال في الحديث عن نشأة الدِّين والإيمان بوجود خالق لهذا العالم

(113)

من أنَّ الإنسان البدائيَّ، وبحكم مستواه العقليِّ البسيط يومئذٍ، لم يستطع تفسير حوادث الطبيعة، فأرجعها إلىٰ كائن خلف العالم، وقوَّة عظمىٰ هي السبب في حصول مختلف الظَّواهر والحوادث. وبرغم أنَّ خصوم الدِّين والإيمان بالخالق يتَّخذون ذلك ذريعة؛ لتوصيف الإيمان بالخالق عند الإنسان الأوَّل بالجهل، نقول: إنَّ كلَّ ذلك شاهد علىٰ إدراك الذِّهن الإنسانيِّ لقانون العلِّيَّة والسببيَّة العامَّة، فهو لا يقبل أنْ تكون تلك الحوادث والظواهر الطبيعيَّة قد حدثت صدفةً واتِّفاقًا من دون سبب وعلَّة.

علىٰ أساس ذلك، فمن أوَّليَّات ما يُدركه البشر في حياتهم اليوميَّة مبدأ العلِّيَّة والسببيَّة العامَّة، والذي يُقرِّر أنَّ لكلِّ حادثةٍ سببًا، فهو مبدأ عقليٌّ ضروريٌّ يؤمن به الإنسان اضطراراً، وهو غنيٌّ عن التدليل والبرهنة، فالإنسان يجد في صميم ذاته باعثاً يبعثه إلىٰ تعليل كلِّ ما يجده من ظواهر وحوادث في هذا العالم المحيط به، وتبرير وجوده والكشف عن أسباب حصوله. هذا الباعث موجود بصورة فطريَّة في طبيعة الإنسان، فالإنسان دائماً وأبداً يواجه سؤال: لماذا؟ عند إدراكه ومشاهدته ظواهر حياته اليوميَّة الخاصَّة والعامَّة، فيلتفت إلىٰ جهة الصوت؛ لأنَّه يؤمن أنَّ هذه الظاهرة لا بدَّ لها من سبب، وهكذا.

علىٰ كلِّ حال، تُعنىٰ هذه المقالة المقتضبة بدراسة رؤية الفيلسوف الاسكتلنديِّ الشكَّاك ديفيد هيوم (1711 - 1776م) لقانون العلِّيَّة عرضاً ونقداً.

في الواقع، ثَمَّة اتِّجاهان في تفسير هذا القانون:

الاتِّجاه الأوَّل: اتِّجاه الفلاسفة الواقعيِّين:

ورابطة العلِّيَّة وفق هذا الاتِّجاه رابطة واقعيَّة بين واقعيَّتين، تتوقَّف إحداهما علىٰ الأُخرىٰ، ومع زوال واقع العلَّة يستحيل وجود المعلول وتحقُّقه، فهناك ضرورة وجوديَّة تربط بين واقعيَّتين هي رابطة التوقُّف (العلِّيَّة والمعلوليَّة)، وإذا ما وُجِدَت الواقعة التي هي العلَّة فلا بُدَّ وأنْ تُوجَد الواقعة التي هي المعلول بالضرورة والحتم والوجوب. وهذا الإدراك بديهيٌّ أوَّليٌّ غير مستنتَج من العلوم الطبيعيَّة التجريبيَّة، وإنَّما قيام العلوم التجريبيَّة وكفاءة قوانينها مرهونة بهذا القانون وما يتفرَّع عنه.

الاتِّجاه الثاني: اتِّجاه الفيلسوف الاسكتلنديِّ الشكَّاك ديفيد هيوم وجمعٍ من الحسِّيِّين، وهو الاتِّجاه الذي تُعنىٰ المقالة بدراسته.

(114)

هيوم وقانون العلِّيَّة:

ديفيد هيوم فيلسوف حسِّيٌّ تجريبيٌّ، فهو يعتقد أنَّ كلَّ محتويات (إدراكات) الذِّهن تأتي من طريق الحسِّ، ويُصنِّف الإدراكات إلىٰ صنفين: انطباعات وخواطر، تُمثِّل الانطباعات مُعطيات التجربة بشكل مباشر من دون واسطة، أمَّا الخواطر فهي الأشكالُ الباهتةُ للانطباعات. ويرىٰ أنَّ كلَّ معارف الإنسان لها جذور في الانطباعات، فكلُّ تصوُّر مسبوق بانطباع، وبما أنَّ كلَّ معارفنا ترجع إلىٰ التجربة والانطباع، فإنَّ تصوُّرات من قبيل الجوهر تكون فاقدة للمعنىٰ؛ لأنَّها غير مسبوقة بأيِّ انطباع، فينبغي الشَّطب عليها واعتبارها خاليةً من كلِّ معنىٰ. ولنستمع إليه وهو يُسجِّل قائلاً:

كلُّ واحدٍ منَّا سيوافق بسهولة علىٰ أنَّ ثَمَّة فرقاً عظيماً بين إدراكات الذِّهن حين نحسُّ ألماً من حرارة زائدة أو لذَّة من حرارة مُلطَّفة، وحين نستعيد في ما بعد بالذاكرة ذلك الإحساس أو حين نتوقَّعه بالمخيَّلة. وبإمكان الملكتين هاتين أنْ تحاكيا أو تنقلا إدراكات الحواسِّ لكن ليس بإمكانهما أنْ تبلُغا قوَّة الإحساس الأصليِّ وحيويَّته.. بإمكاننا إذن أنْ نُقسِّم إدراكات الذِّهن جميعاً إلىٰ صنفين أو نوعين يتميَّزان باختلاف درجة القوَّة والحيويَّة، فالتي من نوع أقلَّ قوَّة وأقلَّ حيويَّة تُسمَّىٰ في العادة أفكاراً، أمَّا التي من النوع الآخر فتفتقر إلىٰ اسم في اللّغة الإنكليزيَّة وفي معظم اللّغات الأُخرىٰ، وأعتقد أنَّ الأمر كذلك؛ لأنَّ تسميتها أو ضمَّها تحت لفظٍ عامٍّ لا يلزم إلَّا لأغراض فلسفيَّة، فلنأخذ حرِّيَّتنا إذن ولنُسمِّها انطباعات، مستخدمين هذا اللّفظ بمعنىٰ مختلف قليلاً عن المعنىٰ العاديِّ، وأعني بلفظ انطباع كلَّ ما هو أكثر حياةً في إدراكاتنا حين نسمع ونلمس ونُحِبُّ ونكره ونرغب ونريد. وتتميَّز الانطباعات من الأفكار التي هي ما هو أقلُّ حياةً في إدراكاتنا، وما نعيه عندما نُفكِّر بأيٍّ من الإحساسات أو الحركات التي ذكرت الآن[1].

استند هيوم إلىٰ حجَّتين؛ لتقرير أنَّ الحسَّ هو المصدر الوحيد لكلِّ محتويات الذِّهن التصوُّريَّة:

الأُولىٰ: إذا قمنا بعمليَّة تحليل لأفكارنا التي مهما بلغ تركيبها وسموُّها، نجدها تتحلَّل وترجع إلىٰ أفكار بسيطة نُسِخَت عن سابق إحساس وشعور، بل حتَّىٰ الأفكار التي قد تبدو لنا في الوهلة الأُولىٰ أنَّها أبعد عن

(115)

ذلك الأصل، نجد حين فحصها عن كثب أنَّها راجعة إلىٰ إحساس وشعور، ففكرة (الله) التي تعني الموجود النهائيَّ غير المحدود، تُعبِّر عن تصوُّرات حسِّيَّة طرأت عليها تطويرات ذهنيَّة عبر التوسِعة والتصرُّف.

الثانية: المطلب المعروف الذي يُقرِّر أنَّ مَنْ فقد حسًّا فقد علماً، بمعنىٰ أنَّ من يفقد حاسَّة من الحواسِّ فسيفقد جميع التصوُّرات والأفكار المرتبطة بذلك الحسِّ، فلا يمكن لأعمىٰ أنْ يُعطي فكرة عن اللّون، ولا لأصمّ أيَّ فكرة عن الصوت[1].

من هذا الإيمان ختم هيوم كتاب (مبحث في الفاهمة البشريَّة) مقرّرًا:

حين نطوف في المكتبات مزوَّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أنْ نتلف؟ إذا أخذنا بيدنا أيَّ مجلَّد في الَّلاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسيَّة مثلاً، وتساءلنا: هل يتضمَّن أيَّ تعليلات تجريديَّة حول الكمِّ والعدد؟ كلَّا. هل يتضمَّن تعليلات تجريبيَّة حول وقائع ووجود؟ كلَّا. إذن ارمِهِ في النار لأنَّه لا يمكن أنْ يتضمَّن سوىٰ سفسطات وأوهام[2].

ومن هذا المنطلق الحسِّيِّ الشامل توجَّه صوب البحث عن انطباع لتصوُّر العلِّيَّة، فلو لم يكن له انطباع لكان كتصوُّر الجوهر وهميًّا خالياً من المعنىٰ؛ إذ لا يتعدَّىٰ دور العقل التصرُّف في التصوُّرات الحسِّيَّة، ويعجز عن إبداع تصوُّرات وأفكار مختلفة تماماً عمَّا يُكسَب بالحواسِّ كما رأىٰ أصحاب النظريَّة العقليَّة، فالعقل عند هيوم:

محجور عليه في حدود ضيِّقة، وأنَّ كلَّ قدرة الذِّهن الخلَّاقة لا تتعدَّىٰ ملكة التركيب والنقل والزيادة والإنقاص للموادِّ التي تُزوِّدنا بها الخبرة والحواسُّ، فعندما نُفكِّر في جبل من ذهب فإنَّنا نجمع بين فكرتين متلائمتين نعرفهما سلفاً: الذهب والجبل. ويمكننا أنْ نتصوَّر حصاناً فاضلاً؛ لأنَّ الشعور الذي لدينا عن أنفسنا يسمح لنا بتصوُّر الفضيلة، ويمكننا أنْ نُوحِّد ما بين هذه وهيأة الحصان وشكله، وهو حيوان مألوف لدينا. باختصار، إنَّ كلَّ موادِّ التفكير مستمدَّة من الحواسِّ الخارجيَّة أو الباطنة، وما يخضع للذِّهن أو الإرادة إنَّما هو خلطها وتركيبها وحسب، أو ما أُعبِّر عنه بلغة فلسفيَّة: جميع أفكارنا، أو إدراكاتنا الأضعف، هي نُسَخٌ من انطباعاتنا أو إدراكاتنا الأكثر حياةً[3].

(116)

إذًا، نحتاج -وفق هيوم- إلىٰ تفحُّص فكرة العلِّيَّة حسِّيًّا وتجريبيًّا.

لقد أنكر العلِّيَّة والضرورة الوجوديَّة الواقعيَّة بين الأشياء، وأرجع فكرة العلَّة والمعلول إلىٰ تداعي المعاني والأُلفة الذهنيَّة. فالإنسان - جرَّاء مشاهدته التجريبيَّة - يرىٰ وقوع حادثة عقب حادثة أُخرىٰ باستمرار، كما في رؤيته حصول الغليان والاحتراق عُقَيب النار، فينتزع من هذا التعاقب مفهوم العلِّيَّة، فالعلِّيَّة ليست سوىٰ التعاقب، وإذا ما قلنا بأنَّ (X) علَّة لـ (B) فالمراد أنَّ (B) يعقب حصول (X) باطِّراد، ويقوم الذِّهن بعمليَّة التعميم لهذا التعاقب علىٰ أساس قانون تداعي المعاني، فاقتران التعاقب المطَّرد خارجاً والمتكرِّر بين حادثتين أو ظاهرتين يخلق في الذِّهن عادةً استدعاء تصوُّر أحدهما عند مشاهدة الأُخرىٰ، أمَّا وجود ضرورة وجوديَّة بين ما نُسمِّيه علَّةً ومعلولاً، وأنَّ حصول العلَّة يقتضي تحقُّق المعلول بالضرورة، فأمر لا يمكن الوقوف عليه تجريبيًّا، وهكذا قرَّر:

لا يمكننا البتَّة أنْ نكتشف بأكثر الفحوص إيغالاً سوىٰ تتالي حادثتين، من دون أنْ نكون قادرين علىٰ فهم أيِّ قوَّة أو قدرة تجعل السبب يعمل، أو أيِّ اقتران بينه وبين أثره المفترض[1].

ولكن هل يكفي هذا التحليل لرفض وجود ضرورة (ثبوتيَّة) واقعيَّة بين الأشياء الخارجيَّة برغم أنَّ حواسَّنا لا تشعر بها؟ وهل يكفي عدم فهمنا لتلك القوَّة لنكران وجودها؟ ولِـمَ لا تكون الضرورة الذِّهنيَّة والنفسيَّة بين تصوُّراتنا وانطباعاتنا دليلاً أو مؤشِّراً علىٰ تلك الضرورة الواقعيَّة الثبوتيَّة؟ لا سيَّما أنَّ القول بالصدفة والاتِّفاق ليس له محلٌّ بأيِّ حالٍ من الأحوال؟

ينبغي القول: إنَّه يحقُّ لديفيد هيوم، باعتباره تجريبيًّا مبتَذلاً أنْ يُقرِّر قصور البشر عن إدراك تلك الضرورة في عالم الثبوت والواقع، وعدم وقوفه عليها حسِّيًّا، ولكن لا يحقُّ له بأيِّ حالٍ أنْ يُنكِر وجود الضرورة العلِّيَّة الواقعيَّة بين الأشياء الخارجيَّة لعدم وقوفه عليها حسِّيًّا وتجريبيًّا. وسيأتي تعميق ذلك في ملاحظة ختاميَّة.

ها هو يمضي في تأكيده إنكار الضرورة الواقعيَّة، فيُسجِّل لنا قائلاً:

لكن لا يزال هناك طريقة لتجنُّب هذه الخلاصة، وهناك مصدر لم نفحصه بعد، فعندما يحضر شيء أو حادث طبيعيٌّ فإنَّ كلَّ حنكتنا وكلَّ نفاذنا يعجزان عن اكتشاف أو حتَّىٰ عن

(117)

تخمين أيِّ حادث سيحصل عنه من دون الخبرة، أو عن حمل تنبُّؤاتنا إلىٰ ما وراء الشيء الماثل مباشرةً للذاكرة والحواسِّ، وحتَّىٰ بعد حالة واحدة أو تجربة واحدة نشاهد فيها حادثاً يتبع آخر فإنَّنا لا نكون مؤهَّلين لصياغة قانونٍ عامٍّ للتنبُّؤ بما سيحصل في حالات مماثلة، لأنَّ ما نحسبه بمثابة تهوُّر في الحكم لا يُغتَفر هو بالضَّبط أنْ نحكم علىٰ مجرىٰ الطبيعة الكامل من تجربة مفردة وإنْ كانت دقيقة أو يقينيَّة.

لكن عندما يكون نوع خاصٌّ من الأحداث مترافقاً مع آخر في جميع الحالات فإنَّنا لا نتردَّد طويلاً في التنبُّؤ بواحدة عند ظهور الآخر، وباستعمال هذا التعليل الذي يمكنه وحده أنْ يجلب لنا اليقين حول مسألة واقعيَّة أو وجود. ونُسمِّي عندها أحد الشيئين سبباً والآخر أثراً، ونفترض أنَّ هناك اقتراناً بينهما، وأنَّ قدرة الواحد تُحدِث الآخر حتماً، وتفعل بأكبر يقين وأقوىٰ ضرورة.

يظهر إذن، أنَّ فكرة الاقتران الضروريِ هذه بين الأحداث تتولَّد من عدد من الحالات المتشابهة يكون فيها ترافق ثابت بين هذه الأحداث، وأنَّ هذه الفكرة لا يمكن لها البتَّة أنْ تُستوحىٰ من أيِّ حالة من الحالات المعايِنة كلَّ الأضواء وكلَّ المواقع الممكنة، لكن لا شيء في عددٍ من الحالات يختلف عن كلِّ حالة مفردة نفترض أنَّها مشابهة تمامًا للحالات الأُخرىٰ، سوىٰ أنَّه بعد تكرار الحالات المتشابهة يميل الذِّهن بفعل العادة عند ظهور حادث ما إلىٰ توقُّع الحادث الذي يصاحبه في العادة، وإلىٰ الاعتقاد بأنَّه سيوجد هذا الاقتران الذي نشعر به في ذهننا، وهذا الانتقال المعتاد للمخيَّلة من شيء إلىٰ الشيء الذي يصاحبه في العادة هو إذن الشعور أو الانطباع الذي فيه نُشكِّل فكرة القدرة أو الاقتران الضروريِّ، وليس هناك أيُّ شيء أكثر من ذلك.

حريٌّ القول: إنَّ هذا هو الفرق الوحيد القائم بين حالة مفردة لا نتلقَّىٰ منها أيَّ فكرة عن الاقتران، وعدد من الحالات المتشابهة بوحي هذه الفكرة. فأوَّل مرَّة رأىٰ فيها إنسان الحركة تتواصل بالدَّفع مثل الاصطدام بين كُرَتَيْ بليارد لم يكن بإمكانه أنْ يزعم أنَّ إحدىٰ الحادثتين كانت مقترنة بالأُخرىٰ، كأنْ يقول فحسب: إنَّ إحداهما ترافق الأُخرىٰ، لكن ما أنْ لاحظ حالات كثيرة من هذا النوع حتَّىٰ أكَّد أنَّ الوقائع مقترنة، فما هو التبدُّل الذي حصل وولَّد فكرة الاقتران الجديدة هذه؟ لا شيء سوىٰ أنَّ هذا الإنسان يحسُّ الآن أنَّ هذه الحوادث مقترنة في مخيَّلته، وأنَّ بإمكانه أنْ يتنبَّأ بسهولة بوجود الواحد مع ظهور الآخر، فعندما نقول: إذن

(118)

إنَّ شيئاً ما مقترن مع آخر، فنحن نريد القول فحسب: إنَّ هذين الشيئين قد اكتسبا اقتراناً في فكرنا، هو أنَّهما يُولِّدان ذلك الاستدلال الذي يجعل من كلِّ واحدٍ منهما الدليل علىٰ وجود الآخر[1].

خلاصة هذا الاتِّجاه، أنَّ ما هو في عالم الواقع لا يتعدَّىٰ التعاقب بين الحادثتين المشهودتين حسًّا، وحكمنا الكلِّيُّ بأنَّ (B) تعقب (X) باستمرار ناشئ من الاقتران الذهنيِّ بين تصوُّر الحادثتين جرَّاء التعاقب باطِّراد، أمَّا فكرة الضرورة الوجوديَّة واللَّابُدِّيَّة والحتميَّة في وجود (B) عند وجود (X) فغير متحقِّقة، إذ لا يوجد شيءٌ اسمه الضرورة العلِّيَّة.

من هنا، فإنَّ النتيجة التي توصَّل إليها هيوم في دراسته لقانون العلِّيَّة تُقرِّر: أنَّ علاقة العلِّيَّة ليست ضروريَّة ومن ثَمَّ غير قبليَّة، وإنَّما تصوُّر بعديٌّ مكتسب من الخبرة التجريبيَّة نتيجة العادة الذهنيَّة التي تُؤدِّي إلىٰ الاعتقاد بأنَّ هذا التصوُّر ضروريٌّ، وإذا كان قانون العلِّيَّة مكتسباً من الخبرة وفق العادة الذِّهنيَّة وليس مبدأً قبليًّا، فلا يمكننا والحال هذه توقُّع حوادث المستقبل. وبما أنَّ العلوم الطبيعيَّة تنطلق من الوقائع الملاحَظَة إلىٰ ما لم يُلاحَظ (استقرائيًّا)، أي من حالات وقضايا جزئيَّة إلىٰ نتائج وقوانين عامَّة تشمل ما لم تتمُّ ملاحظته خبرويًّا، فإنَّ هذه القوانين ستفقد المبرِّر المنطقيَّ، وتكون النتيجة الحتميَّة هي الشكَّ، ولذلك قرَّر برتراند راسل في حديثه عن أهمّيَّة هيوم قائلاً:

وصل بفلسفة لوك وباركلي التجريبيَّة إلىٰ نتيجتها المنطقيَّة، وإذ جعلها متَّسقة مع ذاتها جعلها غير قابلة للتَّصديق. وهو يُمثِّل بمعنىٰ معيَّن نهاية ميِّتة، ففي اتِّجاهه من المستحيل المضيُّ إلىٰ أبعد ممَّا وصل إليه[2].

فضلاً عن ذلك، إنَّ أيَّ إنكار لعقليَّة وقبليَّة مبدأ العلِّيَّة كما يؤمن أنصار المذهب العقليِّ في المعرفة، لا يمكن من ناحية أُخرىٰ -وفق هيوم- الاستدلال عليه بمبدأ استحالة التناقض؛ إذ لا تناقض في تصوُّر بداية لشيءٍ من دون استناده إلىٰ علَّة سبَّبت تلك البداية، فـ «الضدُّ من أيِّ واقعة يظلُّ ممكناً؛ لأنَّه لا ينطوي علىٰ أيِّ تناقض، والذِّهن يتصوَّره بمثل السهولة والتميُّز الذي سيتصوَّره به لو كان مطابقاً تماماً للحقيقة. والقضيَّة (الشمس لن تشرق غداً) ليست أقلَّ معقوليَّةً، ولا تنطوي علىٰ تناقض أكثر ممَّا تنطوي عليه القضيَّة

(119)

(ستشرق)، فباطل إذن ما نُجرِّب البرهنة علىٰ خطئها، إذ حين تكون برهانيًّا خاطئة ستنطوي علىٰ تناقض ولن يمكن للذِّهن قطُّ أنْ يتصوَّرها بتميُّز»[1].

في هذه النقطة بالتحديد، أي رفض استنباط مبدأ العلِّيَّة من قانون استحالة التناقض، يتَّفق الفيلسوف المسلم السيِّد محمّد باقر الصدر مع هيوم، برغم إيمان الصدر أنَّ قانون العلِّيَّة من مبادئ العقل الأوَّليَّة، إذ لا تناقض بين أنْ يكون للشيء بداية وبين أنْ لا يكون له علَّة، فتصوُّر الحادثة لا يوجب علىٰ نحو الضرورة الانتقال إلىٰ أنَّ لها مُحدِثاً أوجدها، حتَّىٰ يلزم التناقض حين نرفض فكرة العلِّيَّة ونقول بوجودها من دون علَّة. وقد سجَّل في هذا الصدد قائلاً:

إنَّنا مع هيوم في تأكيده علىٰ أنَّ مبدأ العلِّيَّة لا يمكن استنباطه من مبدأ عدم التناقض، إذ لا يوجد أيُّ تناقض منطقيٍّ في افتراض حادثة من دون سبب، لأنَّ مفهوم الحادثة لا يستبطن ذاتيًّا فكرة السبب، وعلىٰ هذا الأساس يتوجَّب علىٰ الاتِّجاه العقليِّ في الفلسفة الذي يؤمن بمبدأ العقليَّة وقبليَّته، أنْ يُوضِّح طريقة تفسيره عقليًّا لمبدأ العلِّيَّة من دون أنْ يتورَّط في محاولة استنباطه من مبدأ عدم التناقض مباشرةً[2].

وفق هذا النص، لا يكون مبدأ العلِّيَّة قضيَّة تكراريَّة يستنبط محمولها من موضوعها، فتصوُّرنا للحادثة لا يستبطن أنْ يكون لها علَّة حتَّىٰ إذا تصوَّرناها من دون علَّة كان من التناقض بين التصوُّرين، خلافاً للقضايا التكراريَّة، فتصوُّر قضيَّة الأعزب لا زوج له، والتي هي من القضايا التكراريَّة، يكون تصوُّر المحمول (لا زوج له) مستبطناً في الموضوع (الأعزب)، ولا يمكن تصوُّر أحدهما من دون تصوُّر الآخر للزوم التناقض.

ينتج من هذا التحليل أنَّ قانون العلِّيَّة هو مبدأ عقليٌّ مستقلٌّ عن مبدأ استحالة التناقض، ولا يعتمد عليه في الاستدلال، وإنَّما الإيمان بهما علىٰ حدٍّ سواء بشكلٍ مستقلٍّ.

لكنَّ الصدر - وبرغم اتِّفاقه مع هيوم في هذه النقطة، ورفضه كذلك استدلالات رجال المدرسة العقليَّة علىٰ مبدأ العلِّيَّة - يُقرِّر من ناحية أُخرىٰ اختلافه مع هيوم في نقطتين هما: الإقرار بمبدأ العلِّيَّة بوصفه قضيَّة عقليَّة قبليَّة، والاعتقاد بإمكان الاستدلال عليه بالتجربة[3].

(120)

هيوم والغزالي:

إذا كانت ثَمَّة أهمّيَّة لديفيد هيوم في طرحه لأفكار تنال من قانون العلِّيَّة بوصفه قانوناً عقليًّا قبليًّا، فهناك أولويَّة للمتكلِّم المسلم أبي حامد الغزالي في هذا المجال، فقد كانت روح الأفكار التي طرحها الأوَّل حاضرةً في مناقشات الثاني لقانون العلِّيَّة.

رأىٰ الغزالي أنَّ ما نشاهده من اقتران بين النار والإحراق هو مجرَّد اقتران ليس فيه علاقة ضرورة بين وجود أحدهما ووجود الآخر، وإنَّما يحصل اعتقادنا بسببيَّة النار للإحراق بفعل العادة، ومن المستحسن نقل نصِّ كلامه حيث قال:

الاقتران بين ما يُعتَقد في العادة سبباً وبين ما يُعتَقد مُسبَّباً ليس ضروريًّا عندنا، بل كلُّ شيئين، ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمِّناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمِّناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الريِّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجزِّ الرَّقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل، وهلمَّ جرَّا، إلىٰ كلِّ المشاهدات من المقترنات في الطبِّ والنجوم والصناعات والحِرَف[1].

وقرَّر الغزالي أنَّنا آمنَّا بسببيَّة هذه الظواهر، واعتقدنا بكونها فاعلة التأثير بفعل المشاهدة، مع أنَّ المشاهدة وحدها لا تدلُّ علىٰ أكثر من الاقتران،  فما الدليل علىٰ أنَّها [النار] الفاعل وليس لهم دليل إلَّا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدلُّ علىٰ الحصول عندها ولا تدلُّ علىٰ الحصول بها، وأنَّه لا علَّة سواها[2].

وفق هذه النصوص تكون العلِّيَّة بنظر الغزالي علاقة منشأها الأفعال التي جرت العادة أنْ تحصل من دون أنْ تصل إلىٰ حدِّ الضرورة، وأثَّرت العادة في أذهاننا تلك العلاقة بشكل لا ينفكُّ. وبرغم رسوخ هذه العلاقة في الذِّهن بفعل العادة إلَّا أنَّها لا تُشكِّل قانوناً عامًّا يمكن أنْ يضمن سير الحوادث مستقبلاً بشكلٍ ضروريٍّ، وإنَّما يمكن الانفكاك والزوال فيها.

نعم يفترق الغزالي عن هيوم في عدم إنكاره للعلِّيَّة مطلقاً وقصره لهذه العلاقة في مصداق واحد هو

(121)

الله تعالىٰ خالق العالَم، خلافاً للأخير الذي لم يجد مصداقاً واحداً يُمثِّل علاقة العلِّيَّة. وفضلاً عن ذلك، فقد كانت منطلقاته كلاميَّة صرفة، حيث دعاه إيمانه بفاعليَّة الله التامَّة المطلَقة إلىٰ رفض العلِّيَّة المطلَقة، بينما كان إنكار هيوم لها سبباً في رفض فاعليَّة الله في المعاجز والرعاية الإلهيَّة. والمقارنة بينهما تفصيلاً تحتاج إلىٰ دراسة مستأنفة.

ملاحظات ختاميَّة:

حيث إنَّنا لا نؤمن في (نظريَّة المعرفة) بأنَّ التجربة والخبرة الحسِّيَّة هي المصدر الوحيد والفريد لمعارف الإنسان وتصوُّراته، فإنَّ كلَّ هذا البناء الذي طرحه هيوم في مناقشته لقانون العلِّيَّة، يبقىٰ رؤية نظريَّة مبنيَّة علىٰ فكرة خلافيَّة لا تمتلك قيمةً وأساساً مُحكَماً، كما أنَّ حصر التصوُّرات في تلك التي يأخذها الإنسان من الخارج بشكل مباشر عبر الحواسِّ (المفاهيم الماهويَّة) هو الآخر غير تامٍّ كما تقرَّر في محلِّه من نظريَّة المعرفة.

وما سوىٰ هذا الخلاف المبنائيِّ الأساسيِّ، ثَمَّة مجموعة من الملاحظات التي يمكن تسجيلها علىٰ اتِّجاه هيوم في تفسير قانون العلِّيَّة:

1. أنَّ تصوُّر الإنسان عن العلِّيَّة يختلف عن تصوُّره مفهوم التعاقب، وهذا التصوُّر ليس مأخوذاً من الخارج بشكل مباشر حتَّىٰ نستشكل بعدم وجوده خارجاً، وإنَّما هو معقول ثانٍ فلسفيٌّ لا يتوفَّر عليه كتوفُّره علىٰ مفاهيم التعاقب والحرارة والإنسان والضوء وسائر المفاهيم الماهويَّة (معقولات أوَّليَّة) بشكلٍ مباشر من الخارج عبر الارتباط الحسِّيِّ، وإنَّما يتوفَّر عليه وفق عمليَّات ذهنيَّة معيَّنة وينتزع من منشأه، فلا يمكن القول: هو غير موجود في الخارج، وفي الوقت ذاته ليس له ما بإزاء في الخارج، وإنَّما من المفاهيم التي يقال بشأنها: (عروضها ذهنيٌّ واتِّصافها خارجيٌّ)، في مقابل المفاهيم الماهويَّة التي يكون عروضها واتِّصافها خارجيَّين، ومفاهيم المنطق التي يكون عروضها واتِّصافها ذهنيَّين.

2. أنَّ العلَّة والمعلول قد يكونان مقترنين تماماً بالزمان ومع ذلك نُدرك علِّيَّة أحدهما للآخر من قبيل حركة اليد وحركة القلم حال الكتابة، فالحركتان توجدان دائماً في وقتٍ واحدٍ، ومن ثَمَّ إذا افترضنا أنَّ العلِّيَّة والضرورة يرجعان إلىٰ استتباع إحدىٰ الظاهرتين للأُخرىٰ وفق قانون تداعي المعاني، لما أمكن في هذا الافتراض أنْ تحتلَّ حركة اليد مركز العلَّة من دون حركة القلم، لأنَّ العقل أدرك الحركتين في وقتٍ واحدٍ، والسؤال حينئذٍ: لِـمَ وضع العقل حركة اليد موضع العلَّة وحركة القلم موضع المعلول؟ هذا معناه أنَّ العلِّيَّة تختلف عن التعاقب والتداعي[1].

(122)

3 - أنَّ التداعي كثيرًا ما يحصل بين شيئين من دون الاعتقاد بعلِّيَّة أحدهما للآخر، فلو صحَّ لديفيد هيوم أنْ يُفسِّر العلَّة والمعلول بأنَّهما حادثتان نُدرك تعاقبهما كثيراً حتَّىٰ تحصل بينهما رابطة تداعي المعاني في الذِّهن، لكان الليل والنهار من هذا القبيل، فكما أنَّ الحرارة والغليان حادثتان تعاقبتا حتَّىٰ نشأت بينهما رابطة تداعي المعاني في الذِّهن، فالحال نفسه في الليل والنهار إذ إنَّهما يتعاقبان دائماً ويحصل تداعٍ عند تصوُّر أحدهما لتصوُّر الآخر، مع أنَّ عنصر الضرورة والعلِّيَّة التي نُدركها بين الحرارة والغليان ليس موجوداً بين الليل والنهار، فليس الليل علَّة النهار ولا العكس، ولا يمكن تفسير هذا العنصر بمجرَّد التعاقب المتكرِّر والمؤدِّي إلىٰ تداعي المعاني كما افترضه هيوم[1].

إضافةً إلىٰ ما تقدَّم، فإنَّ تصوُّر هيوم عن العلِّيَّة قد هُوجِم من لدُن علماء تجريبيِّين يشتركون معه في الفضاء المعرفيِّ، فقد أكَّد مان دي بيران في كتابه عن تحليل الفكر علىٰ وجود حالة ممتازة نُدرك فيها العلِّيَّة، وهي المجهود العضليُّ، فهذا المجهود يدلُّ علىٰ انتقال القوَّة من العلَّة إلىٰ المعلول، ونصَّ قائلاً:

وعبثاً نحاول استبعاد هذا المجهود، أعني العلَّة أو القوَّة التي تبقىٰ دائماً في أعماق الفكر تحت أيِّ اسمٍ اصطلاحيٍّ نستعمله، أو حتَّىٰ إذا لم نُسمِّه. وعلىٰ الرغم من كلِّ محاولات المنطق، فإنَّ هذه الفكرة الحقيقيَّة، فكرة العلِّيَّة، لا يمكن أبداً خلطُها بأيَّة فكرة عن التوالي التجريبيِّ للظَّواهر أو الارتباط بينها[2].

يضيف بيران أنَّ المجهود يحمل معه بالضرورة إدراك علاقة بين الكائن الذي يُحرِّك أو يريد أنْ يُحرِّك، وبين عقبة ما تقاوم حركته، ومن دون الذات أو الإرادة التي تُعيِّن حركته، ومن دون الحدِّ الذي يقاوم لا يوجد مجهود، ومن دون المجهود فلا معرفة ولا إدراك من أيِّ نوع، ففي المجهود إذن نُدرك الأنا علىٰ أنَّها العلَّة الضروريَّة للحركة الملاحَظة، أي إنَّنا لا نُدرك مجرَّد توالٍ، بل نُدرك علاقة علِّيَّة.

في هذا السياق، قرَّر علماء نفس الشكل أنَّه من وجهة النظر الظاهراتيَّة البحتة، فإنَّ التجربة المباشرة تُعطينا أكثر من مجرَّد توالٍ بسيط لمضمون الشعور، بل يتولَّد عندنا انطباع بأنَّ الحالة الثانية تتولَّد وتصدر وتنتج من الأُولىٰ، واتِّصالها الضروريُّ مُعطىٰ لنا في الوقت نفسه الذي نُدرك فيه مضمونها، ولا فصل بينهما إلَّا بطريقة مصطَنعة.

أمَّا عالم النفس التجريبيُّ ألبرت ميشوت، فقد أجرىٰ تجارب أشرك فيها مئات من الأشخاص لتفنيد اتِّجاه

(123)

هيوم في تفسير العلِّيَّة، وخلص في كتابه الرائد في هذا المجال «إدراك السببيَّة» إلىٰ التأكيد علىٰ أنَّ إدراك العلِّيَّة هو أمر موضوعيٌّ مثل سائر الإدراكات، وقد ساق شواهد عدَّة علىٰ ذلك، منها مثال المطرقة التي تدفع مسماراً في قطعة الخشب، ومثال السكِّين الذي يقطع قطعة من الخبز، فحين نشهد هذه العمليَّات هل نجد أنَّ الإدراك يقتصر علىٰ انطباع حركتين متناسقتين زمانيًّا ومكانيًّا وهما تقدُّم السكِّين مثلاً وتقدُّم الشَّقِّ في الخبز أو العكس؟ وإنَّما نُدرك مباشرةً الفعل نفسه بما هو كذلك، أي قطع السكِّين للخبز بالضرورة[1].

في المقابل، رأىٰ راسل الفيلسوف التجريبيُّ المعروف في نظريَّة هيوم جزئين أحدهما موضوعيٌّ والآخر ذاتيٌّ:

الجزء الموضوعيُّ مفادُه: حين نحكم بأنَّ (أ) تُسبِّب (ب) فقد لاحظنا مراراً وتكراراً اقترانهما، بمعنىٰ أنَّ (أ) أعقبتها فوراً أو بغاية السرعة (ب). وفي هذا الجزء ليس لدينا حقٌّ  في أنْ نقول: إنَّ (أ) يجب أنْ تعقبها (ب) في المناسبات المقبلة، ولكن هل لدينا أيُّ سند في أنْ نفترض - رغم كثرة المرَّات التي كانت فيها (أ) تعقبها (ب) - وجود علاقة تتخطَّىٰ هذا التعاقب؟ وهنا يرىٰ هيوم أنَّ العلِّيَّة يمكن تعريفها في حدود التعاقب وهي ليست تصوُّرًا مستقلًّا.

أمَّا الجزء الذاتيُّ من النظريَّة فمفادُه: أنَّ اقتران (أ) بـ (ب) الملاحَظ مراراً وتكراراً يجعل انطباع (أ) يُسبِّب فكرة (ب)، ولكن إذا كان علينا أنْ نُعرِّف العلَّة - كما اقترنت في الجزء الموضوعيِّ من النظريَّة - فيجب أنْ نُكرِّر الكلمات السابقة، وإذا استبدلنا تعريف العلَّة يصبح ما سبق: «لقد لوحظ مراراً وتكراراً أنَّ الاقتران الملحوظ بين الموضعين (أ) و(ب) مراراً وتكراراً يعقبه أمثلة تعقب فيها فكرة (أ) انطباع (ب)».

ولكن راسل يُقرِّر أنَّنا حتَّىٰ لو سلَّمنا بأنَّ هذه القضيَّة صحيحة ولكنَّها لا تبلغ المدىٰ الذي يعزوه هيوم إلىٰ الجزء الذاتيِّ من نظريَّته، وهو يُؤكِّد المرَّة تلو المرَّة أنَّ الارتباط المتكرِّر بين (أ) و(ب) لا يُشكِّل أيَّ سبب لتوقُّعهما مرتبطين في المستقبل وإنَّما هو علَّة هذا التوقُّع فحسب، ومعنىٰ ذلك أنَّ تجربة الاقتراب المتكرِّر تقترن في معظم الأحيان بعادة تداعٍ.

ولو سلَّمنا - بحسب راسل - بالجزء الموضوعيِّ من نظريَّة هيوم، فإنَّ الواقع القائل بأنَّ التَّداعيات في الماضي كثيراً ما كانت تتشكَّل في ملابسات من هذا القبيل، ليست سبباً في افتراض أنَّها ستستمر، أو أنَّ تداعيات جديدة ستتشكَّل في ملابسات مماثلة. والحقيقة وفق راسل حيث كان الأمر متَّصلاً بعلم النفس فإنَّ هيوم يبيح لنفسه أنْ يعتقد في العلِّيَّة بمعنىٰ يدينه هو بوجهٍ عامٍّ، ويسوق راسل شاهداً علىٰ ذلك بالقول:

(124)

أنا أرىٰ تُفَّاحة وأتوقَّع أنَّني إذا أكلتها سأُجرِّب نوعاً معيَّناً من الطعم، فوفق هيوم ليس هناك سبب لكوني أُجرِّب هذا النوع من الطعم! إنَّ قانون العادة يُفسِّر وجود توقُّعي أنا، ولكنَّه لا يُبرِّره، بيد أنَّ قانون العادة هو نفسه قانون علِّيٍّ، ومن ثَمَّ كما رأىٰ راسل لو أخذنا هيوم مأخذ الجدِّ للزم أنْ نقول: علىٰ الرغم من أنَّ منظر التُّفَّاحة في الماضي كان مقترناً بتوقُّع نوع معيَّن من الطعم فليس سبباً ينبغي معه أنْ يستمرَّ اقتران هذا المنظر بذاك التوقُّع، فربَّما حين أرىٰ في المرَّة القادمة تُفَّاحة سأتوقَّع أنْ يكون لها طعم مشابه لطعم لحم البقر المشويِّ، وفي وسعك في هذه اللَّحظة أنْ تظنَّ الأمر علىٰ غير هذا الوجه بعد خمس دقائق، فلو كانت نظريَّة هيوم الموضوعيَّة صحيحة فليس لدينا سبب أفضل للتوقُّعات في علم النفس منه للتوقُّعات في العالم المادّيِّ، وفي الوسع - كما قرَّر راسل - رسم نظريَّة هيوم رسماً كرويًّا علىٰ النحو التالي: «القضيَّة (أ) هي علَّة (ب) تعني انطباع (أ) هو علَّة فكرة (ب)»، وهذا كتعريف جهد غير موفَّق.

ثمّ يمضي راسل في فحص نظريَّة هيوم الموضوعيَّة فحصاً دقيقاً[1].

ختاماً، ينبغي القول: إنَّه من الغريب جدًّا أنْ يتَّجه هيوم إلىٰ إنكار الضرورة الوجوديَّة واللَّابُدِّيَّة والحتميَّة بين الظاهرتين (العلَّة والمعلول)، لعدم الوقوف عليها حسِّيًّا، وكأنَّ الإدراك الحسِّيِّ هو ميزان وجود الحقائق خلف الذِّهن! علىٰ أنَّ هذه النزعة الحسِّيَّة المبتَذلة عند هيوم تعني القضاء التامَّ علىٰ حقائق علميَّة كثيرة أثبتتها العلوم التجريبيَّة من دون الوقوف عليها بشكل حسِّيٍّ مباشر، فقانون الجاذبيَّة الذي أضحىٰ حقيقة علميَّة مسلَّمة لم يُتوَصَّل إليه عبر الإحساس المباشر، وإنَّما تمَّ التوصُّل إلىٰ هذا القانون واستكشافه بمعونة ظواهر أُخرىٰ محسوسة، وتدخُّلِ العقل في الاستنتاج.

*   *   *

(125)

المصادر:

1. هیوم، مبحث في الفاهمة البشريَّة ، ترجمة: د. موسىٰ وهبة، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأُولىٰ، 2008م.

2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، ترجمة: د. محمّد فتحي الشنيطي، الهيأة المصريَّة العامَّة للكتاب، 2012م.

3. محمّد باقر الصدر ، الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصيَّة للشهيد الصدر، قم، الطبعة الثانية، 1426هـ.

4. الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة الرابعة.

5. محمّد باقر الصدر، فلسفتنا، مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصيَّة للشهيد الصدر، قم، الطبعة الأُولىٰ، 1424هـ.

6. د. عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلىٰ الفلسفة، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الأُولىٰ، 1975م.

*   *   *

(126)

ديفيد هيوم وتطبيقه للمنهج التجربيِّ على الفلسفة

دراسة مبدأ السببيَّة نموذجاً

 

شهاب الدِّين مهدي[1]
 

يُمثِّل عصر ديفيد هيوم - بلا شكٍّ - منعطفاً تاريخيًّا في مسار الفلسفة الغربيَّة؛ حيث تمكَّن من تطوير فلسفة تجريبيَّة ظهرت معالمها عند أسلافه كجون لوك وجورج بيركلي، وصياغتِها صياغةً مُمنهَجة ومتكاملة. ولا نبالغ إذا قلنا: إنَّه هو الذي وضع الحجر الأساس لإنكار المفاهيم الميتافيزيقيَّة ورواج الرؤية الشُّكوكيَّة في العالم الغربيِّ إلىٰ درجة اعتراف الفيلسوف الوجوديِّ إيمانويل كانط في كتابه «مقدِّمات نقديَّة» بأنَّ أعمال هيوم هي التي أيقظته من سباته الدوغمائيِّ.

في الواقع، لا يُمكننا تفسير مشروع هيوم إلَّا إذا أخذنا بعين الاعتبار سلسلة من أحداث تعقَّبت العصور الوسطىٰ وكانت خلفيَّة تاريخيَّة لأعماله؛ ولقد كان لكوبرنيكوس وثورته الفلكيَّة، ومن تبعه من أمثال غاليليو ونيوتن، دور عظيم في تشييده لصرحه المعرفيِّ، فهم تمكَّنوا عبر ما طبَّقوه من نظرة ميكانيكيَّة للعالم، من أنْ يُقوِّضوا إرث أُرسطو العظيم، ويُنجِزوا تحوُّلات كبرىٰ علىٰ ساحة العلوم الطبيعيَّة، الأمر الذي فتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين، وشغل بال العلماء وأثار انتباههم إلىٰ موضوع منهجيَّة العلم. وكان في طليعتة هؤلاء الفيلسوف البريطانيُّ فرانسيس

(127)

بيكون الذي أعار منهجيَّة العلم اهتماماً فائقاً، ورفض بشدَّة المنهج السائد وقتئذٍ بقوله:

إنَّ الأساليب الرائجة لا تُحقِّق تقدُّماً كبيراً في الآراء العلميَّة، ولا تنتج أعمالاً علميَّة ملموسة[1].

ويقصد بالأساليب الرائجة قواعد المنطق الأُرسطيِّ بالذات، معتقدًا أنَّ العلوم المألوفة لا تُجدي في استكشاف الصناعات الحديثة، كما أنَّ المنطق السائد عاجزٌ عن إنتاج العلوم الحديثة.

لم تكن النظرة النقديَّة تجاه منهجيَّة العلوم القديمة حكرًا علىٰ بيكون، بل كانت موضع اهتمام لفلاسفة وعلماء آخرين نظير ديكارت وغاليليو ونيوتن أيضًا. ونتيجةً لهذه المحاولات أصبح الرأي السائد لدىٰ الفلاسفة الجُدُد أنَّه من المستحيل بمكان أنْ يُدرك الإنسان ذوات الأشياء، لذا من الأفضل أنْ يتنازل عن المحاولات العقيمة لاكتناهها، ويصبَّ اهتمامه علىٰ ملاحظة الأُمور الجليَّة. وقد أعرب نيوتن عن هذا المنحىٰ بقوله:

لقد وضع الكُتَّاب الجُدُد البحث عن المُثُل والصور الذاتيَّة جانبًا، وحاولوا دراسة الطبيعة وفقًا لقوانين الرياضيَّات... فمهمَّة الفلسفة الطبيعيَّة هي أنْ تستدلَّ بحسب الظواهر الطبيعة ومن دون الفرضيَّات المقبولة مسبقاً، وتستنتج العلل من المعاليل[2].

حريٌّ القول هنا: إنَّ الطبيعة في نظر نيوتن بدت وكأنَّها نظام تقوده القوانين الميكانيكيَّة ويعمل وفق آليَّة التروس المتقاطرة. فقد كان يعتقد أنَّ اكتشاف هذه القوانين بفضل الملاحظة والتجربة يُعتَبر خطوة كبيرة إلىٰ الأمام، بينما الحديث عن العلل المجهولة والأسباب الخفيَّة والغامضة - كما كانت تُروِّج له الفلسفة الإغريقيَّة - كان مجرَّد كلام باطل. ومن هذا المنطلق كان يرفض أيَّ افتراضٍ قَبْليٍّ في البحث العلميِّ، ويُطلِق مقولته الشهيرة: أنا لا أُكوِّن الفرضيَّات، والفرضيَّة هي كلُّ ما لا يمكن استنتاجه من الظواهر الملموسة؛ ولا مكانة لها في الفلسفة التجريبيَّة سواء أكانت ميتافيزيقيَّة أم فيزيائيَّة، علىٰ أساس علم الغيب أو الأُصول الميكانيكيَّة[3].

(128)

ولقد اقتفىٰ هيوم في ذلك أثر نيوتن لأنَّه كان شغوفاً بإنجازاته العملاقة في الفيزياء، وإذا كان الأخير يهدف إلىٰ تطبيق المنهج التجريبيِّ علىٰ العلوم الطبيعيَّة، فإنَّ الأوَّل كان يحاول أنْ يمدَّ مناهج العلم النيوتنيِّ علىٰ ساحة العلوم الإنسانيَّة آنذاك. وكما صرَّح في مدخل كتابه «رسالة في الطبيعة البشريَّة»، كان يعتقد بأنَّ كلَّ العلوم لها علاقة ما بالطبيعة البشريَّة، ويقول: إنَّ ذلك أمر واضح في المنطق والأخلاق والنقد والسياسة، وأمَّا الرياضيَّات والفلسفة الطبيعيَّة والدِّينُ الطبيعيُّ فهي تبدو في بادئ الأمر وكأنَّها تهتمُّ بموضوعات غير الإنسان، بيد أنَّ لها صلة أيضًا بهذه الطبيعة، إذ تُعرَف عن طريق الإنسان، والإنسان هو الذي يحكم علىٰ ما هو صادق وما هو زائف في هذه الفروع من المعرفة. ويخلص هيوم إلىٰ القول بأنَّ الطبيعة البشريَّة تكون مركز العلوم وأساسها، ومن الأهمّيَّة البالغة أنْ تُطوِّر علماً للإنسان، ولكن كيف يتمُّ ذلك؟ عن طريق تطبيق المنهج التجريبيِّ؛ لأنَّ هذا العلم هو الأساس الصلب والوحيد للعلوم الأُخرىٰ، لذا فإنَّ الأساس الصلب والوحيد الذي يمكن أنْ نُعطيه إيَّاه لا بدَّ من أنْ يرتكز علىٰ التجربة والملاحظة[1]. كما أنَّه في كتابه «بحث في مبادئ الأخلاق»، يُظهر شغفه بالمنهج النيوتنيِّ، ويستدلُّ علىٰ ضرورة اعتماد المنهج التجريبيِّ في دراسة الطبيعة البشريَّة بأنَّ المبادئ الميتافيزيقيَّة غير متلائمة مع هذه الطبيعة، وأنَّها مصدر للوهم والخطأ، ويدعو إلىٰ بناء نظامٍ أخلاقيٍّ قائم علىٰ أساس الملاحظة والتجريب[2].

لقد حاول هيوم في أعماله الفلسفيَّة أنْ يجتنب قدر المستطاع المفاهيم الغامضة والخفيَّة نظير الجوهر والصور النوعيَّة وما إلىٰ ذلك، وأنْ يُولي - في المقابل - اهتماماً أكبر للملاحظة والتجربة، فلم يكن يُذعِن لتفسير الأحداث عبر الأوصاف الخفيَّة والتحليلات الميتافيزيقيَّة، بل كان يعتبر هذا المنهج نوعاً من الافتراضات الخياليَّة التي حالت دون وصول الأجيال القديمة إلىٰ العلم الحقيقيِّ[3].

السببيَّة عند ديفيد هيوم:

انطلاقاً ممَّا سبق، نلاحظ أنَّ هيوم بدأ مسيره الفلسفيَّ بدراسة الطبيعة البشريَّة، مؤكِّداً علىٰ ضرورة انتهاج المنهج الاستقرائيِّ - بدلاً من المنهج الاستنباطيِّ - الذي سار عليه العلماء الجُدُد في اكتشاف قوانين الطبيعة. وبما أنَّ استخدام المنهج الاستقرائيِّ في العلوم الإنسانيَّة عموماً والفلسفيَّة علىٰ وجه الخصوص، يواجه صعوبات من الناحية المعرفيَّة، ركَّز جهوده علىٰ

(129)

مبدأ السببيَّة بوصفها عنصراً محوريًّا لحلِّ المفارقة المعرفيَّة الكامنة في نظريَّته. وبناءً علىٰ هذا، فقد شغلت السببيَّة حيِّزاً كبيراً في فكره، وأصبحت بمثابة قطب الرُّحىٰ في أعماله الفلسفيَّة، كما أنَّها تُمثِّل ركيزة أساسيَّة للمنهج التجريبيِّ الذي يقترحه، إلَّا أنَّ الرؤية الخاصَّة التي أسَّس عليها مسعاه حول السببيَّة كانت تتجذَّر في آرائه الإبستمولوجيَّة، ومن أجل ذلك لا يمكن دراسة فكره بمعزل عن نظريَّته المعرفيَّة.

نظريَّة هيوم المعرفيَّة:

يُسمِّي هيوم محتويات الذِّهن بالإدراكات[1]، ويُقسِّمها إلىٰ الانطباعات[2] والأفكار[3]. فالانطباعات هي التي ينالها الإنسان من معطيات تجريبيَّة مباشرةً ومن دون وساطة، وأمَّا الأفكار فهي صور باهتة ورواسب تتبقَّىٰ في أذهاننا من الانطباعات بعد انقطاع اتِّصالها المباشر بالحواسِّ، وهي قد تكون تصوُّرًا مطابقًا بالكامل للانطباعات، وقد تكون تصوُّرًا جديدًا مُركَّبًا من صورها بعضها مع بعض كصورة الحصان المجنَّح علىٰ سبيل المثال. من هنا، فإنَّ الانطباعات تُمثِّل ركنًا أساسيًّا في منظومة هيوم الإبستمولوجيَّة، حيث تُعتَبر مرجعًا لجميع الإدراكات، وكلُّ إدراك مسبوقٌ بالانطباع دائمًا، فلا فكرة حينئذٍ إلَّا وتكون مُتَّخذة بشكلٍ من الأشكال من الانطباع.

انطلاقاً من هذا المبدأ، يعتبر هيوم كلَّ فكرة لا يسبقها الانطباع إدراكاً أجوفًا فارغاً عديماً للمعنىٰ، ويرفضها كما رفض بالفعل فكرة الجوهر والصور النوعيَّة باعتبارهما صوراً موهومة غير مُستمدَّة من الحسِّ والتجربة. وهو يسأل عمَّا إذا كان يمكن إرجاع السببيَّة كمفهوم إلىٰ انطباع ‌ما أم لا؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يبحث بين الإدراكات المختلفة ذات الصِّلة بالعلل الخاصَّة مُحاولاً إيجاد عنصر مشترك بينها يمكن اعتباره مصدراً لنشوء إدراك السببيَّة لدىٰ الإنسان، ولكن هذه المحاولة لم تُجدِ شيئاً لذا اضطرَّ إلىٰ عدِّ السببيَّة نسبة قائمة بين الأشياء بدل أنْ تكون خاصَّة كامنة في ذواتها، ومع ذلك فهو لا يتخلَّىٰ في مسار كشف هذه النسبة المُومَىٰ إليها عن تطبيق نزعته الحسِّيَّة، فيطرح نسبة التوالي - التي هي أمر يخضع للملاحظة والتجربة - كمقوِّمٍ أساسيٍّ للعلِّيَّة، حيث يقول:

(130)

[العلِّيَّة عبارة عن] شيء متقدِّم علىٰ شيء آخر ومجاور له، وكلُّ الأشياء المشابهة للشيء المتقدِّم متقدِّمة ومجاورة للأشياء المشابهة للشيء المتأخِّر.

ثمّ يُردِف قائلاً:

العلَّة شيء يأتي تبعاً له شيءٌ آخر[1].

ولكنَّ هيوم سرعان ما يُدرك أنَّ التعريف المذكور أعلاه قد تجاهل عنصر الضرورة الذي يُشكِّل مكوِّناً أساسيًّا في العلاقة العلِّيَّة فيبادر فوراً إلىٰ تعديل التعريف بما لا يتماشىٰ مع رؤيته الحسِّيَّة ويقول:

[العلَّة شيء يأتي بعد شيء آخر] بحيث لو لم يكن الشيء الأوَّل لما كان الشيء الثاني علىٰ الإطلاق[2].

ولكن هل يمكن إرجاع هذا الإدراك عن العلِّيَّة إلىٰ الانطباع وفق ما تبنَّاه هيوم من نظريَّته الإبستمولوجيَّة؟ وإذا لم يكن ذلك ممكناً فهل يمكن الالتزام فعلاً بأنَّ العلِّيَّة هي إدراك فارغ لا يتضمَّن معنىٰ من المعاني؟ في الواقع، لم يهمل هيوم مثل هذا السؤال الذي كان من شأنه أنْ يُقوِّض صرحه المعرفيَّ، فعالج الموقف بتقديم نظرة قابلة للتجربة عن فكرة الضرورة في مبدأ العلِّيَّة، وربط بين إدراكنا لها والعادة، وقال:

متىٰ ما ظهرت علَّة فإنَّها تنقل أذهاننا عن طريق نقلة تعويديَّة إلىٰ تصوُّر المعلول. إنَّنا نُجرِّب مثل هذا الانتقال التعويديِّ[3].

وهذا يعني أنَّ الضرورة العلِّيَّة لديه لا تعدو كونها ضرورةً ذهنيَّةً تُفرَض علىٰ أذهاننا من المشاهدة المتكرِّرة لتعاقبٍ وعلاقةٍ دائمة بين شيئين. والنتيجة الأخيرة التي ينتهي إليها في تعريفه لأصل السببيَّة هي كما يلي: «العلَّة شيءٌ يأتي في أثره شيءٌ آخر، وظهوره ينقل الفكر دوماً إلىٰ ذلك الشيء الآخر»[4].

(131)

ويقول في «رسالة في الطبيعة البشريَّة»:

العلَّة عبارة عن شيء متقدِّم علىٰ شيء آخر ومجاور له يتَّصل به بحيث يضطرُّ الذِّهن بتصوُّره لأحدهما أنْ يصنع تصوُّراً للآخر، وبانطباع أحدهما أنْ يصنع تصوُّراً أكثر حيويَّة للآخر[1].

الاستنتاج العلِّيُّ:

شوكة هيوم[2] تعبير أطلقه الفلاسفة علىٰ تقسيمه للمعرفة إلىٰ فئتين منفصلتين تختصُّ الأُولىٰ بالعلاقات بين الأفكار[3]، والثانية بأُمور الواقع[4]. أمَّا العلاقات بين الأفكار فهي القضايا التي تبحث في ربط العلاقات الضروريَّة بينها، ويمكن تصديقها بنحوٍ شهوديٍّ أو برهانيٍّ يقينيٍّ من دون الرجوع إلىٰ الطبيعة كعلوم الهندسة والجبر والحساب. فقضيَّة (مربَّع وتر المثلَّث القائم الزاوية يساوي مجموع مربَّعات الضلعين الآخرين) تُعبِّر عن علاقة ضروريَّة بين هذه الأشكال من دون الرجوع إلىٰ العالم الخارجيِّ للتأكُّد من صحَّتها، لكونها  قضايا قطعيَّة وبديهيَّة حتَّىٰ لو لم يكن هناك مثلَّث في العالم. وأمَّا القضايا المتعلِّقة بأُمور الواقع فهي ليست بالجزم الذي عهدناه في الفئة الأُولىٰ، وأدلَّتنا علىٰ صحَّتها - مهما كانت قويَّة - ليست شبيهة بماهيَّة أدلَّة العلاقات بين الأفكار؛ والدليل علىٰ ذلك أنَّ خلاف أيِّ أمر من الأُمور الواقعيَّة شيء ممكن لا تناقض فيه. فقضيَّة (الشمس ستشرق غداً) تُعبِّر عن قضيَّة يمكن إنكارها من دون أنْ يستلزم ذلك تناقضاً، وبعبارة أُخرىٰ ليست قضيَّة (الشمس لن تشرق غداً) أقلَّ عقلانيَّة من الأُولىٰ، ويمكن التسليم بصدقها من دون أنْ ينطوي ذلك علىٰ تناقض؛ وعليه يستحيل إقامة البرهان علىٰ صحَّة أحدهما أو عدم صحَّته[5].

في ضوء هذا التقسيم الثنائي، يعتقد هيوم بأنَّ استخدام الاستنتاجات العقليَّة لا يتأتَّىٰ إلَّا في ما يختصُّ بالعلاقات بين الأشياء من قضايا الرياضيَّات والمنطق، والسمة البارزة لهذه القضايا

(132)

هي أنَّها لا تحقُّق لها في العالم الخارجيِّ، ولكن استخدام هذا المنهج في القضايا المتعلِّقة بأُمور الواقع هو استخدام خاطئ ومرفوض؛ لأنَّها ليست قضايا ضروريَّة ويمكن فرض صحَّة نقيضها، إنَّما هي غير قابلة للبرهان ولا يجري فيها المنهج العقلي، بل يقتصر الطريق لإثباتها علىٰ المشاهدة والتجربة، فقضيَّة (الفحم أسود) مثلاً يمكن التأكُّد من صحَّتها من خلال المشاهدة المباشرة.

تأسيساً علىٰ ما تبنَّاه من موقفٍ تجاه أُمور الواقع، يرفض هيوم بصرامة إمكانيَّة إقامة البرهان علىٰ وجود الله سبحانه وتعالىٰ، ويعتبر كلَّ المحاولات عبثيَّة وبلا طائل؛ لأنَّ قضيَّة (الله موجود) ليست ضروريَّة الصدق، ويمكن أنْ نفرض الوجود بمعزل عن الله من دون إيجاد أيِّ تناقض، فتكون القضيَّة المذكورة من سنخ أُمور الواقع التي لا سبيل للتأكُّد من صحَّتها إلَّا المشاهدة. وقد أشار في كتابه عن عدم جدوىٰ المنهج العقليِّ في القضايا العقائديَّة حيث قال:

لنُمسِك بأيدينا - مثلاً - كتاباً في علم الكلام أو كتاباً مقرَّراً في ما بعد الطبيعة لنرىٰ إنْ كان فيه استدلال تجريديٌّ متعلِّق بالكمِّ أو العدد؟ فإنْ لم يوجد، فلنرَ هل فيه استدلال تجريبيٌّ متعلِّق بما له تحقُّق في العالم الخارجيِّ، فإنْ لم يوجد، فلنجعله حطباً، فإنَّه ليس فيه حينئذٍ إلَّا سفسطة ووهم[1].

والسؤال الذي يُطرَح هنا هو: كيف يمكن الحكم حول القضايا الواقعيَّة التي لا يمكن تقييمها بالمشاهدة المباشرة لعوامل مختلفة؟ جواباً علىٰ هذا  يقترح هيوم منهجاً للحكم علىٰ هذه القضايا يُسمِّيه المنهج التجربيَّ أو منهج الاستنتاج العلِّيِّ.

الضرورة عند ديفيد هيوم:

لقد مرَّ بنا سابقاً أنَّ هيوم يعتبر الضرورة في الخارج أمراً لا يمكن إرجاعه إلىٰ الانطباع، ويُفسِّرها في مبدأ السببيَّة بأنَّها ضرورة ذهنيَّة ناشئة من العادة وقائمة علىٰ أساس قانون التداعي، وقد أصبح موقفه هذا مثاراً للخلاف بين من تأخَّر عنه، فظهر اتِّجاهان رئيسان في تحديد ما قصد به من إنكار الضرورة الخارجيَّة. فالاتِّجاه الأوَّل، وهو الواقعيَّة التشكيكيَّة[2]، يذهب إلىٰ أنَّ هيوم يؤمن بوجود قوىٰ خفيَّة[3] في الطبيعة إلَّا أنَّ الإنسان عاجز عن إدراك

(133)

حقيقة هذه القوىٰ[1]، بينما الاتِّجاه الثاني، وهو الإسقاطيَّة[2]، يذهب إلىٰ أنَّ السببيَّة ليست سوىٰ مقارنة زمنيَّة بين الأشياء تدفع الذهن إلىٰ انتزاع العلاقة الضروريَّة بينهما[3].

ومهما كان موقف هيوم من السببيَّة الخارجيَّة فهو كفيلسوفٍ طبيعيٍّ يُرسي دعائم منهجه في ما قدَّمه من إيجاد علاقة ذهنيَّة بين العلَّة والمعلول، ويُسمِّي ذلك - كما مضىٰ - بالاستنتاج العلِّيِّ. وفي هذا الاستنتاج ننتقل - بالاعتماد علىٰ العلاقة العلِّيَّة التي تتجلَّىٰ لنا بعد المعاينة المتكرِّرة للاقتران والتعاقب بين شيئين أو أكثر - من وجود العلَّة إلىٰ وجود المعلول أو صفات المعلول، وبالعكس. هذا الانتقال من أحد طرفَيْ العلاقة العلِّيَّة نحو الطرف الآخر هو انتقال طبيعيٌّ قائم علىٰ مبدأ التداعي أوالتخاطر. بداية هذا الاستدلال تتمثَّل في وجود انطباع حسِّيٍّ حاضر، أو انطباع موجود في الذاكرة، يُؤدِّي عبر النقلة الذهنيَّة إلىٰ تصوُّر شيءٍ آخر[4].

كيف يمكن تبرير الاستنتاج العلِّيِّ؟

من المفيد الإشارة إلىٰ أنَّ العلاقة السببيَّة لدىٰ هيوم تحكي عن ضرورة ذهنيَّة بين العلَّة والمعلول ولا تعكس ضرورة خارجيَّة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أنْ نحكم علىٰ الواقع من خلال الاستنتاج العلِّيِّ الذي يقترحه؟

لا يمكن ردم هذه الهوَّة بإلحاق مقدِّمة معيَّنة، وتلك المقدِّمة هي فكرة أنَّ (المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي)، أو (الطبيعة واحدة دائماً)، لنقول بأنَّنا شاهدنا في الماضي دائماً الشيء (أ) والشيء (ب) مقترنين أو متعاقبين، ولأنَّ المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي، أو لأنَّ الطبيعة واحدة دائماً، ففي المستقبل أيضاً متىٰ ما شاهدنا الشيء (أ) يمكننا استنتاج أنَّ الشيء (ب) موجود برفقته، أو إذا شاهدنا الشيء (ب) كان بوسعنا استنتاج أنَّ الشيء (أ) موجود أيضاً. إنَّ هاتين المقدِّمتين نفسيهما من أُمور الواقع بحيث لا ينطوي فرض نقيضهما علىٰ تناقض، فيمكن أنْ نفترض أنَّ (المستقبل لا يكون وفق ما عليه الماضي)، أو (أنَّ الطبيعة

(134)

ليست واحدة دائماً)، من دون أنْ نرتكب تناقضاً؛ وعلىٰ ذلك فلا يسعنا إثباتهما إلَّا باستخدام الاستنتاج العلِّيِّ، ولكن تبرير هذا الاستنتاج يتوقَّف علىٰ صدقهما، وهذا يعني أنَّ ردم الهوَّة القائمة في الاستنتاج العلِّيِّ بواسطتهما ينطوي علىٰ الدور[1].

بناءً علىٰ ما سلف، فإنَّ السؤال الأساسي هو: إذا لم يكن بوسعنا إقامة دليل علىٰ مبدأ رتابة الطبيعة بأيِّ شكل من الأشكال، فما هو مسوِّغنا في أحكامنا علىٰ الأُمور غير المشاهَدَة استناداً إلىٰ الأُمور المشاهَدَة؟ وكيف يبني هيوم استدلاله العلِّيِّ علىٰ منهج يستبطن مفارقة منطقيَّة؟

الإجابة عن هذا السؤال نجدها في النزعة الطبيعيَّة لهيوم، فرغم أنَّه فيلسوف شكَّاك من الوجهة المعرفيَّة إلَّا أنَّه لا يسمح بمخالفة قانون الطبيعة من الناحية الوجوديَّة، وهو يعتقد أنَّ الطبيعة حكيمة، وسلوكها حكيم، ولا يستطيع البشر اجتناب ما تفرضه علينا. لقد سلَّحتنا مسبقاً بمبدأ العلِّيَّة، ولا يجوز لنا -ككائنات طبيعيَّة- أنْ نعارض ما تفرض علينا، وهكذا لا يبدو تبريره لمبدأ العلِّيَّة والاستدلال العلِّيِّ تبريرًا منطقيًّا معرفيًّا، بل هو تسويغٌ طبيعيٌّ[2].

ملاحظات نقديَّة على رؤية هيوم:

ينبغي القول: إنَّ رؤية هيوم بأنَّ كلَّ فكرة لا بدَّ من أنْ تكون مسبوقة بالانطباع هي رؤية لا غبار عليها في حدِّ ذاتها، ونحن نعتقد أيضاً بأنَّ جميع أفكار الإنسان ترجع في نهاية المطاف إلىٰ إدراكاته الحسِّيَّة، وهذا ما أشار إليه صدر المتألِّهين حيث قال:

فاعلم أنَّ النفس إنَّما تعرف الحقائق الكلِّيَّة من إعداد الجزئيَّات بوسيلة إدراك الحواسِّ؛ لأنَّ النفس في أوَّل نشأتها في درجة الحواسِّ، ثمّ ترتفع إلىٰ درجة التخيُّل، ثمَّ التعقُّل، ولهذا قيل: من فَقَدَ حسًّا فَقَدَ علماً[3].

بيد أنَّ ما نؤاخذ عليه هيوم هو أنَّ الحسَّ لا يقتصر علىٰ الظاهر بل يشمل الباطن أيضاً، وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ المراد من الإدراك الحسِّيِّ -الذي بنىٰ عليه هيوم برهانه- هو الإدراك الجزئيُّ الذي لا ينحصر حصوله بالحواسِّ الظاهرة، فكما أنَّ بعض الأفكار تُنتَج من الإدراك الحسِّيِّ المباشر للواقع الخارجيِّ، كذلك ثَمَّة أفكار تُنتَج من خلال الحسِّ الباطن أو ما نُسمِّيه بالعلم

(135)

الحضوريِّ، ورغم أنَّه لا يُنكِر العلم الحضوريَّ، بل قد يُرجِع بعض الانطباعات والأفكار إليه، فهو أخطأ أحياناً عندما أغفل إمكانيَّة إرجاع بعض الأفكار - ومنها العلِّيَّة - إلىٰ هذا العلم. والصحيح هو ما قاله الشهيد مطهَّري: من أنَّ الذِّهن يعثر ابتداءً علىٰ نموذج العلَّة والمعلول في داخل النفس فينسج تصوُّراً عنه، ثمَّ يقوم بتعميم هذا التصوُّر وبسطه، ويبني بهذا البيان تصوُّر العلِّيَّة علىٰ أساس العلم الحضوريِّ [1] .

يُقسِّم هيوم الإدراكات البشريَّة إلىٰ الانطباعات والأفكار، ويحكم بأنَّ جميع الإدراكات لا بدَّ من أنْ ترجع بشكل من الإشكال إلىٰ انطباعٍ‌ ما، وإلَّا فهي مفاهيم فارغة وعديمة المعنىٰ. وهنا نستوقفه ونسأله عمَّا إذا كان يمكن إرجاع مفهومَيْ «الانطباع» و«الفكرة» بوصفهما مفهومين ذَويْ معنىٰ إلىٰ الانطباع - بحسب منظومته المعرفيَّة - أم لا؟! وإذا أرجعهما فنسأله عن مصدر ذاك الانطباع أيضاً، وهكذا يتسلسل الأمر إلىٰ ما لا نهاية؛ وهذا يعني أنَّ نظريَّته تنطوي علىٰ مفارقة ذاتيَّة.

ليس هناك مُلازَمة بين عجز الإنسان على إيجاد، أو عدم إيجاد، انطباع يمكن إرجاع الفكرة إليه، فامتناع الكشف عن الانطباع المرجوع إليه لا يدلُّ علىٰ أنَّه غير موجود، وهذا الأمر ينمُّ عن وجود هوَّة إبستمولوجيَّة في نظريَّة هيوم.

لقد كان هذا الفيلسوف يعتقد بأنَّ العلاقة السببيَّة لا تندرج تحت قسم «العلاقات بين الأفكار» الذي هو قضايا يقينيَّة ولا تقبل الخلاف، بل إنَّها من سنخ أُمور الواقع التي لا ينطوي فرض عدم صحَّتها علىٰ تناقض. هذا الرأي ناقشه الشهيد محمّد باقر الصدر في كتابه «الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء»، مناقشة جادَّة، واعتبره خطأً ناشئاً من عدم التمييز بين مبدأ العلِّيَّة وعلاقاتها القائمة بين الأشياء، وأراد بمبدأ العلِّيَّة المبدأ القائل: «إنَّ لكلِّ حادثة سبباً»، وأراد بعلاقات العلِّيَّة، العلاقات القائمة بين الحرارة والنار، أو بين الغليان والتبخُّر، أو بين أكل الخبز والشبع. ويضيف مردفاً:

إنَّ الاتِّجاه العقلي علىٰ الصعيد الفلسفي الذي يُسبِغ علىٰ العلِّيَّة طابعاً عقليًّا قبْليًّا، يريد بذلك أنَّ مبدأ العلِّيَّة من القضايا التي يُدركها العقل بصورة قبْليَّة مستقلَّة عن التجربة؛ ولا

(136)

يدَّعي أنَّ تلك العلاقات الخاصَّة بين الحرارة والتمدُّد، أو بين الغليان والتبخُّر، يُدركها العقل بصورة قبْليَّة[1].

علىٰ هذا الأساس، فإنَّ ما أدلىٰ به هيوم من براهين بإنكار مبدأ السببيَّة، إنَّما تُنكِر عقليَّة علاقات السببيَّة من دون أنْ يعارض موقف الفلسفة العقليَّة من مبدأ العلِّيَّة.

يحاول هيوم من خلال تقديم تفسيره عن العلِّيَّة إنكار العلاقة الضروريَّة الخارجيَّة، بينما ترتكز نظريَّته علىٰ قبول مبدأ العلِّيَّة في الخارج، حيث يُصرِّح بأنَّ فكرة العلَّة تنتج من العادة التي هي أيضاً معلول للمقارنة الدائمة بين الأشياء. وإلىٰ ذلك أشار برتراند راسل بقوله:

إنَّ هيوم يتوسَّل باستدلال مبرَّر ومقبول إلىٰ حدٍّ ما، ويُوحي بأنَّه ينتقد مبدأ العلِّيَّة، بينما يفعل ذلك اعتماداً علىٰ هذا المبدأ، فمحصَّل كلامه هو أنَّ لفكرة العلِّيَّة في أذهاننا سبباً وهو الاعتياد، الذي هو الآخر معلول لتعاقب الأشياء بشكل متكرِّر[2].

كذلك يُوجِّه عالم الرياضيَّات الشهير ألفريد نورث وايتهيد، الإشكال نفسه إلىٰ هيوم، قائلاً:

إنَّ خطأه يكمن في أنَّه ينظر إلىٰ العلِّيَّة عبر الحوادث الخارجيَّة، ومن الواضح أنَّنا عندما ننظر إلىٰ كُرات البليارد لا نرىٰ إلَّا التوالي من دون أنْ نجد أيَّ تأثير أو ضرورة في ذلك، بيد أنَّنا لو رجعنا إلىٰ أنفسنا، لشعرنا - علىٰ العكس ممَّا يقول هيوم - بوجود نوع من التأثير والتسبيب في أنفسنا، والدليل علىٰ ذلك أنَّ هيوم نفسه يعتبر فكرة العلِّيَّة مُسبَّبة من العادة وليست العادة إلَّا واقعاً نفسيًّا يستتبعه عدد من المعلولات[3].

*   *   *

(137)

المصادر:

1. جهانگيري محسن، أحوال وآثار وآراء فرانسيس بيكون، طهران، شركت انتشارات علمي وفرهنگي.

2. بومر، فرانكلين لوفان، جريانهاي بزرگ در تاريخ انديشه غربي، ترجمة: حسين بشيريَّة، طهران، مركز بازشناسي إسلام وإيران، 1978م.

3. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، ترجمة: محمود سيّد أحمد، المجلس الأعلىٰ للثقافة، الطبعة الأُولىٰ، 2003م.

4. ملَّا صدرا، الشواهد الربوبيَّة، مشهد، جامعة مشهد، الطبعة الثانية، 1981م.

5. السيِّد محمّد حسين الطباطبائي، أُصول الفلسفة والمنهج الواقعي، تعليق: مرتضىٰ مطهَّري، ترجمة: عمَّار أبو رغيف، المؤسَّسة العراقيَّة للنشر والتوزيع.

6. محمّد باقر الصدر، الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء، بيروت، العارف للمطبوعات، 2008م.

7. Isaac Newton, The Principia: Mathematical Principles of Natural Philosophy, Translated by I. Bernard Cohen &Anne Whitman, University of California Press (1999).

8. David Hume, Enquiries Concerning the Human Understanding and Concerning the Principles of Morals, 1989.

9. Hume, David, A Treatise of Human Nature, 1978, Oxford, Claredon press.

*   *   *

 

(138)

نظريَّة العدل عند هيوم

مسعىٰ إلىٰ نقد فلسفته السياسيَّة[1]

 

أحمد واعظي[2]

 

بإمكاننا تتبُّع التأثير الذي تركه ديفيد هيوم علىٰ الفلسفة السياسيَّة ضمن نطاقين أساسيَّين، أحدهما تأكيدُه علىٰ عدم وجود ارتباطٍ منطقيٍّ بين المبادئ الأكسيولوجيَّة والقضايا الحقيقيَّة، وهذه الرؤية المنطقيَّة - كما هو معلوم - تُعَدُّ مصدرَ إلهامٍ ومُرتكَزاً أساسيًّا لأصحاب الفلسفة الوضعيَّة المنطقيَّة[3]؛ حيث يعتمدون عليها لتضييق نطاق الفلسفة السياسيَّة ونبذ الكثير من مواضيعها التقليديَّة.

ضمن كتابه بحث في الطبيعة الإنسانيَّة[4]، أكَّد هيوم غاية التأكيد علىٰ أنَّ نقض أيِّ استدلال مُعتبر يجب أنْ لا يتقوَّم مُطلَقاً علىٰ مقدّمات ذات ارتباط بقضايا واقعيَّة حينما يكون الهدف تحقيق نتائج أكسيولوجيَّة ومعياريَّة[5]، وهذا الرأي عُرِفَ بأنَّه شوكة هيوم[6] حيث أصبح

(139)

مُنطلَقاً لدراسات وبحوث تحليليَّة واسعة النطاق تحت عنوان الوجوب والوجود[1]، والمرتكَز الأساسيُّ الذي ارتكز عليه هيوم في هذا المضمار هو عدم إمكانيَّة استنتاج قضايا أكسيولوجيَّة أخلاقيَّة أو حقوقيَّة تُوصَف بكونها ذات طابع إلزاميٍّ من قضايا مرتبطة بالواقع وفق الأُسُس والقواعد المنطقيَّة، إذ من المستحيل استخراج الوجوب (الإلزام)[2] من باطن ما هو كائن وموجود؛ وعلىٰ هذا الأساس، لا يمكن الاعتماد علىٰ القضايا الأكسيولوجيَّة والأخلاقيَّة والحقوقيَّة لإثبات قضايا إبستيمولوجيَّة ارتكازيَّة، كذلك ليس من الممكن الاعتماد علىٰ مقدّمات واقعيَّة[3] لتحصيل نتائج أكسيولوجيَّة ومعياريَّة.

ولا بدَّ من القول: إنَّ تداعيات هذا الأمر علىٰ الصعيد السياسيِّ تمثَّلت في عدم إمكانيَّة الاعتماد علىٰ البحوث المرتبطة بطبيعة الإنسان وحقائق المجتمع الإنسانيِّ لتسويغ مبادئ سياسيَّة وأخلاقيَّة، وهذا يعني انقضاء عهد الفكر السياسيِّ التقليديِّ؛ لأنَّ أتباع هذا الفكر لم ينفكُّوا عن ربط الخير والسعادة والحقِّ مع واقع الظروف والحقوق الإنسانيَّة، فهذا هو دأبُهم في هذا المضمار وهدفهم هو صياغة أُسُس مشروع سياسيٍّ مناسب، وترويج مبادئ وقِيَم تكون لها الكلمة الفصل في مجال العلاقات السياسيَّة علىٰ ضوء فهم الحقائق الإنسانيَّة وواقع المجتمع.

في هذا السياق، أكَّد أصحاب الفكر الوضعيِّ المنطقيِّ ضمن تبنِّيهم معياراً محدود النطاق بخصوص المسائل السيمنطيقيَّة، أنَّ كلَّ رأي يُطرَح حول الحقائق المرتبطة بالإنسان والمجتمع يجب أنْ يكون منبثقاً من تجربةٍ ونهجٍ عمليٍّ تجريبيٍّ؛ لأنَّ جميع القضايا العقليَّة البحتة التي لا تخضع للتجربة عارية من كلِّ معنىٰ، نظراً لكون الدلالة السيمنطيقيَّة تقتصر علىٰ القضايا التي يمكن إثباتها بالحسِّ والتجربة فحسب، ومن ناحيةٍ أُخرىٰ ليس من شأن كلِّ الحقائق التجريبيَّة الخاصَّة بالإنسان والمجتمع أنْ تُتَّخذ كمرتكز للبتِّ بالقضايا الأكسيولوجيَّة والمعياريَّة علىٰ الصعيد السياسيِّ بداعي أنَّ النتائج الخاطئة المُستوحاة من الوجوب والوجود تقضي منطقيًّا بعدم جواز الاستناد إلىٰ الإلزامات الحقوقيَّة وفقاً للحقائق والمبادئ الإبستيمولوجيَّة.

لا ريب في أنَّ هذه الرؤية الرجعيَّة الوضعيَّة قيَّدت القضايا السياسيَّة بمصدرين فقط لا ثالث لهما، أحدهما الدراسات التجريبيَّة الخاصَّة بالسلوكيَّات السياسيَّة، والآخر التحليلات

(140)

المنطقيَّة للمفاهيم التي تُطرَح في عالم السياسة؛ وعلىٰ الرغم من أنَّ الوضعيَّة المنطقيَّة لم تدُم طويلاً جرَّاء عدم عقلانيَّة أُطروحتها وتأكيدها اللَّامنطقيِّ علىٰ عدم صواب كلِّ قضيَّة غير تجريبيَّة، لكن إلىٰ يومنا هذا ما زال نقد ديفيد هيوم المنطقيُّ الذي ساقَه علىٰ مسألة ارتباط الحقائق بالمبادئ الأكسيولوجيَّة مضماراً للبحث والتحليل بين علماء المنطق والفلسفة؛ لذا فالبراهين التي تُساق في مجال الفلسفة السياسيَّة والمتقوِّمة علىٰ حقائق معيَّنة مثل الفطرة الإنسانيَّة، بحاجةٍ إلىٰ تحليل منطقيٍّ يضع حلًّا للنقد الذي ذكره هذا الفيلسوف الغربيُّ.

النطاق الآخر الخاصُّ بتأثير هيوم علىٰ الفلسفة السياسيَّة يرتبط بفهمه الخاصِّ لمسألة العدل، فلو قارنَّاه بالفكر التقليديِّ المرتبط بالعدل لوجدناه جديداً من نوعه، ومتقوِّماً علىٰ فرضيَّات ومزاعم ذات طابع معيَّن.

محور البحث في المقالة التي بين يدي القارئ الكريم هو دراسة وتحليل رؤية هذا المفكِّر الغربيِّ إزاء مفهوم العدل، لذا سوف نتطرَّق أوَّلاً إلىٰ بيان ما دوَّنه بخصوص هذا الموضوع، ثمّ نتناول آراءه ونظريَّاته بالشرح والتحليل في إطارٍ نقديٍّ.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ أهمَّ كتابات ديفيد هيوم حول مفهوم العدل يجدها القارئ في كتابه «بحث في الطبيعة الإنسانيَّة» الذي طُبِعَ في عام 1738م ويتكوَّن من ثلاثة أجزاء هي كالتالي:

الجزء الأوَّل: يتمحور موضوع البحث فيه حول الفهم، ونلمس فيه المبادئ الإبستيمولوجيَّة التي يتبنَّاها هيوم، كذلك فيه تفاصيل حول السبيل الأمثل لكسب العلم، والعقبات التي تعترض هذا السبيل وتُقيِّد فهم الإنسان، ومدىٰ صواب المعارف البشريَّة.

الجزء الثاني: يتمحور موضوع البحث فيه حول الرغبات[1]، ويمكن اعتباره مرآةً لفلسفة سيكولوجيا هيوم لكونه يتضمَّن مباحث حول إرادة الإنسان وعقلانيَّة سلوكيَّاته.

الجزء الثالث: يتمحور موضوع البحث فيه حول القضايا الأخلاقيَّة[2] ويتضمَّن ثلاثة فصولٍ: الفصل الأوَّل ذُكِرَت فيه تفاصيل عامَّة حول الفضائل والرذائل، والفصل الثالث ذُكِرَت فيه مباحث بخصوص الفضائل الطبيعيَّة[3]، في حين أنَّ الفصل الثاني من هذا

(141)

الجزء تمَّ تخصيصه لمباحث حول العدل والإجحاف، لذا نلمس فيه أهمَّ آراء هيوم التي طرحها بخصوص موضوع بحثنا في هذه المقالة، وضمن نظريَّاته التجريبيَّة التي ذكرها في هذا المضمار نأىٰ بنفسه بشكلٍ صريحٍ عن فلاسفة من أمثال جون لوك وكلارك[1]. فهؤلاء يعتقدون بكون العدل أمراً طبيعيًّا مُرتكِزاً علىٰ قوانين أزليَّة لا يطاولها أيُّ تغييرٍ مطلقاً، ويعتبرون العقل مؤهَّلاً لمعرفته، لكنَّه تبنَّىٰ رأياً آخر يختلف عمَّا تبنَّاه هؤلاء[2].

وضمن كتاب آخر طُبِعَ في عام 1777م دوَّن بحثًا حول المبادئ الأخلاقيَّة[3]؛ حيث خُصِّص الفصل الثالث منه لمفهوم العدل وفي الملحق الذي أضافه إليه ذكر بعض المسائل حول هذا الموضوع؛ وبما أنَّه دوَّن هذا الكتاب بعد الكتاب الذي أشرنا إليه أوَّلاً، لا نجد فيه مباحث موسَّعة بهذا الخصوص، بل اكتفىٰ بذكر نقاطٍ معيَّنةٍ، ورأيه هنا بشكلٍ عامٍّ ذو ارتباط بما طرحه في ذلك الكتاب.

مدوَّنات هيوم بخصوص العدل تتمحور بشكلٍ أساسي حول الموضوعين التاليين:

الموضوع الأوَّل: السبب الأساسيُّ لحاجة البشريَّة إلىٰ العدل، والظروف التي تكون فيها القوانين والأفكار العادلة مفيدةً للفرد والمجتمع.

الموضوع الثاني: طبيعة فضيلة العدل وأوجه تشابهها واختلافها مع سائر الفضائل الأخلاقيَّة الشهيرة.

في ما يلي نواصل بيان الموضوع عبر تسليط الضوء علىٰ نظريَّته العامَّة بخصوص العدل وذلك في رحاب استعراض إجماليٍّ لوجهة نظره بالنسبة إلىٰ هذه الفضيلة الأخلاقيَّة مقارنةً بسائر وجهات النظر المطروحة في هذا المضمار:

أوَّلاً: العدل برؤية ديفيد هيوم:

الرؤية الشائعة بين المفكِّرين الذين تطرَّقوا إلىٰ دراسة مفهوم العدل بنحوٍ ما فحواها أنَّه فضيلة ومعيارٌ مبدئيٌّ مستقلٌّ عن رغبة الإنسان وإرادته ومصالحه المتنوِّعة والمتغيِّرة، وهو علىٰ هذا الأساس يُعَدُّ هامًّا ومُعتَبراً بحيث يجب علىٰ الجميع مراعاته والعمل علىٰ أساسه في

(142)

شتَّىٰ جوانب الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة وعلىٰ الصُّعُد كافَّة مثل التقنين، والقضاء، والقرارات السياسيَّة، وتقسيم الثروات بمختلف أنواعها الطبيعيَّة وغير الطبيعيَّة، كذلك لا بدَّ من صياغة نهج الحياة في رحابه واتِّخِاذ القرارات المصيريَّة والتدابير اللَّازمة وفق مقتضياته وأُسُسه.

حريٌّ القول: إنَّ هذه الرؤية تضاهي المبادئ الأخلاقيَّة الثابتة والمتعارفة بين البشر، وتحتلُّ مرتبةً أسمىٰ من الرغبات الشخصيَّة والفئويَّة بحيث تجعل الإنسان خاضعاً لمبادئه في ما لو أراد العيش في رحاب حياة عقلانيَّة لا وجود لظلم فيها.

والواقع أنَّ أصحاب هذه النظريَّة يطرحون تحليلاً مختلفاً بالنسبة إلىٰ مضمون العدل وأُصوله وطريق نيله، مثلاً إيمانوئيل كانط تبنَّىٰ نهجاً عقلانيًّا في هذا السياق، وعلىٰ هذا الأساس أوعز منشأ العدل إلىٰ العقل المحض وبعض المفاهيم المرتبطة بالأمر المطلق[1]، في حين أنَّ جون رولز تبنَّىٰ رأياً متبايناً بالكامل مع هذا الرأي، حيث اعتبر أُسُس العدل وأُصوله العمليَّة كافَّة تندرج ضمن نطاق المعارف النظريَّة، كما أنَّ صحَّة وسقم إحدىٰ القضايا لا يتمُّ تعيينهما إلَّا وفق معيار الحقيقة، وكذا فالبنية الاجتماعيَّة والنظام الحقوقي وجميع الوظائف الضروريَّة إنَّما يتمُّ تقييمها بمعيار العدل وأُصوله المعتَبرة؛ ناهيك بأنَّه لا يعتبر هذه الأُصول من سنخ القضايا التي يتمُّ تحديدها وإدراكها بواسطة العقل النظريِّ، بل هي برأيه ثمرة لاتِّفاقٍ جماعيٍّ يتحقَّق في رحاب ظروف وأوضاع خاصَّة.

نلفت هنا إلىٰ أنَّ تصوير ديفيد هيوم للعدل لا يتناسب بتاتاً مع الرؤية الشائعة بين غالبيَّة المفكِّرين؛ إذ لا يعتبره معياراً خاصًّا أو فضيلةً مستقلَّةً عن الأُسُس الذهنيَّة والرغبات التي تكتنف البشر، لذا ليس هناك أيُّ التزام عقليٍّ أو طبيعيٍّ بشأنه، فهو بحدِّ ذاته لا يُعَدُّ فضيلةً وإنَّما يحتاج الإنسان إليه في ظروف خاصَّة فقط؛ لأنَّ تعريفه ومضمونه وقوانينه من صناعة البشر، فهي حصيلة لاتِّفاق أبناء مختلف المجتمعات؛ لذلك هو ليس من سنخ القضايا التي يمكن النزوع إليها أو إدراكها عن طريق العقل أو الفطرة الإنسانيَّة، بل يكون مفيداً لنا أنْ نجد أنفسنا بحاجة إليه في ظروف خاصَّة، وإثر ذلك نلتزم به علىٰ ضوء قوانين واتِّفاقيَّات اجتماعيَّة، والدافع الذي يُحرِّكِنا لتطبيقه والالتزام به يتمثَّل بتلك القوانين التي صُغناها بأنفسنا والمصالح التي نروم تحقيقها في مختلف نشاطاتنا.

(143)

ديفيد هيوم -كما سيتَّضح لنا في المباحث اللَّاحقة- يعتقد أنَّنا حينما نفتقد القوانين والنُّظُم التي هي ثمرة لما نتَّفق عليه بصفتنا بشراً، لا يبقىٰ بعد ذلك مجال لطرح مسألة العدل، فهو بشكلٍ عامٍّ عبارة عن قواعد وقوانين نصوغها بأنفسنا بهدف الحفاظ علىٰ مصالحنا ضمن ظروف خاصَّة؛ ومن هذا المنطلق فإنَّ هيوم نأىٰ بنفسه عن فكرة كونه معياراً ذاتيًّا ينزع إليه الإنسان بشكلٍ غريزيٍّ ويرغب في تطبيقه عمليًّا علىٰ أرض الواقع. حسب هذا الرأي، لا يمكن اعتبار العدل بكونه معياراً أو فضيلةً علىٰ نحو الإطلاق بحيث يُتصوَّر أنَّه حتميٌّ في شتَّىٰ الأحوال وغير خاضع لأيَّة ظروف خاصَّة، بل تتبلور موضوعيَّته حينما يشعر أعضاء المجتمع بأنَّهم بحاجة إلىٰ قوانين خاصَّة تُقسِّم الثروات علىٰ أساسها وتُحدَّد نطاقها، وهذه القوانين بطبيعة الحال متَّفق عليها بشكلٍ جماعيٍّ.

في الواقع أنَّ هيوم قلَّما تطرَّق في بحوثه إلىٰ تحليل مفهوم العدل، وسلَّط الضوء بشكلٍ أساسي علىٰ مباحث خاصَّة كأوضاعنا الذاتيَّة المرتبطة بهذا المفهوم والظروف التي تقتضي إقراره، والقيام بسلوكيَّات عادلة، وإيجاد ارتباط بينه وبين الفضائل الأخلاقيَّة؛ ويمكن القول باختصارٍ أنَّ هذا المفكِّر الغربي أجاب عن سؤالين أساسيَّين فقط في هذا السياق هما كالتالي:

- هل العدل فضيلة طبيعيَّة أو لا؟

- ما هي المرتكزات الأساسيَّة للعدل والظروف التي تقتضي العمل به وتجعل الفرد والمجتمع بحاجة ماسَّة إليه؟

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ هيوم حينما يتطرَّق إلىٰ شرح مفهوم العدل وتحليله من جهتين متباينتين فهذا لا يعني تبنِّيه نظريَّتين مختلفتين بهذا الخصوص كما تصوَّر بعض الباحثين من أمثال برايان باري[1]، بل الحقيقة أنَّ فهمه للعدل مرتكز علىٰ تصوُّرات خاصَّة بالنسبة إلىٰ الإنسان ومكانته المعرفيَّة، وطبيعة فضائله الأخلاقيَّة، ودوافعه الباطنيَّة التي تُحفِّزه علىٰ تأسيس مجتمع تُراعىٰ فيه مبادئ العدل والقانون، لذا فهو حينما أشار إلىٰ جذور العدل والفضيلة ضمن محورين أساسيَّين أراد بيان فرعين يتشعَّبان من نظريَّة العدل، وينطبقان بالكامل علىٰ الأُسُس والرؤىٰ الفلسفيَّة التي يتبنَّاها. إذًا، فهمُ نظريَّته التي طرحها في هذا المضمار مرهون بمعرفة هذه المرتكزات الإبستيمولوجيَّة الفلسفيَّة، لذا سوف نتطرَّق إلىٰ بيان تفاصيلها علىٰ نحو الإجمال.

(144)

بما أنَّ هيوم من جملة الباحثين الذين لديهم كتابات مشتَّتة ولم تتمحور النصوص التي دوَّنها حول موضوع معيَّن، لذلك عادةً ما نلمس في مدوَّناته حول مفهوم العدل مباحث متنوِّعة، ومن هذا المنطلق سوف نُسلِّط الضوء بشكلٍ أساسيٍّ علىٰ أهمِّ آرائه في هذا السياق، ونتطرَّق إلىٰ بيان نظريَّته التي طرحها بهذا الخصوص بتفصيل وإيضاح أكثر.

ثانيًا: مكانة العقل في السياسة والأخلاق:

ديفيد هيوم ضمن رؤيته التي تتَّسم بطابعٍ تجريبيٍّ بحتٍ - وعلىٰ ضوء موقفه المناهض لمتبنَّيات أُرسطو - قيَّد العقل إلىٰ حدٍّ كبيرٍ، وأكَّد علىٰ ضيق نطاقه في مجال الأخلاق والسياسة، واللَّافت أنَّ أصحاب النزعة العقليَّة منذ عهد هذا الفيلسوف الإغريقيِّ وإلىٰ يومنا هذا يعتبرون العقل مرتكزاً أساسيًّا ومنطلَقاً ثابتاً لكلِّ القضايا الأخلاقيَّة وكلِّ ما يرتبط بمسائل الفلسفة العمليَّة مثل السياسة.

الحقيقة أنَّ هيوم استعرض متبنَّياته الإبستيمولوجيَّة ضمن الجزء الأوَّل من كتابه «بحث في الطبيعة الإنسانيَّة» والذي خصَّصه لمسألة الفهم، فهو ضمن تدوينه بحثاً تحليليًّا حول قابليَّات الإنسان الذهنيَّة والمعرفيَّة ضيَّق نطاق النشاط العقلي وقيَّده بالقضايا الأخلاقيَّة والسياسيَّة البحتة، ومن جانبٍ آخر فتح الباب علىٰ مصراعيه للمشاعر والرغبات والعواطف البشريَّة؛ ناهيك عن أنَّه وفقاً لرؤيته التجريبيَّة اعتبر العقل ذا دور محدود النطاق من الناحية العمليَّة لكونه قادراً علىٰ أداء مهمَّتين فقط هما كالتالي:

الأُولىٰ: البتُّ بالقضايا الواقعيَّة[1].

الثانية: إدراك طبيعة الارتباط بين الأفكار.

المقصود من القضايا الواقعيَّة هنا كلُّ مسألة أخلاقيَّة يمكن بيان تفاصيلها وحلحلة ما يكتنفها من إشكالات عن طريق الحسِّ والتجربة المباشرة، لأنَّ العقل برأيه عبارة عن قابليَّة يمكن الاعتماد عليها لمعرفة الحقيقة، وتمييزها عمَّا هو غير حقيقي، وعلىٰ هذا الأساس حينما تحدث خلافات حول أمرٍ ما ويتمُّ الاتِّفاق علىٰ قضايا معيَّنة، عادةً ما يتَّخذ العقل كمرتكزٍ لوضع حلٍّ لها باعتباره مرجعاً أساسيًّا؛ وهذا الاختلاف يحدث أحياناً بشأن القضايا الواقعيَّة

(145)

التي يمكن أنْ تخضع للتجربة، وفي أحيان أُخرىٰ يحدث بخصوص العلاقات بين الأفكار[1] التي يقصد هيوم منها تلك العلاقات المنطقيَّة الرابطة بين شتَّىٰ التصوُّرات.

واضحٌ أنَّ النزعة التجريبيَّة المتطرِّفة التي تبنَّاها هيوم اضطُرَّته لأنْ يُقيِّد الأفكار والتصوُّرات بتصوُّراتٍ منتزعةٍ بطُرُقٍ تختلف عن الإدراك الحسِّيِّ والتجريبيِّ، وعلىٰ هذا الأساس فالحقيقة والخطأ والأحكام العقليَّة برأيه محدودة بالإدراكات الحسِّيَّة أو ما ينبثق منها[2]؛ ولا شكَّ في أنَّ تقييد الأداء العمليِّ للعقل بهذا النطاق لا يُبقي مجالاً لمساهمته في القضايا التي لها ارتباط بأهداف الحياة وغاياتها، لذا جرَّد العقل من كلِّ دورٍ وتأثيرٍ علىٰ صعيد الحياة الأخلاقيَّة بشكلٍ عامٍّ والسياسيَّة بالأخصِّ، فهو يعتقد بأنَّ الأحكام المرتبطة بالقِيَم الأخلاقيَّة والسياسيَّة تُعتَبر من سنخ الإرشادات العمليَّة[3] التي تفوق نطاق القابليَّات العقليَّة، وممَّا قاله في هذا الصدد:

نظراً لكون المبادئ الأخلاقيَّة ذات تأثير علىٰ سلوكيَّاتنا ومشاعرنا فهي لا يمكن أنْ تكون منبثقةً من العقل، إذ كما أثبتنا في المباحث السابقة فهو غير قادرٍ لوحده علىٰ أنْ يسهم بتأثيرٍ كهذا.

المبادئ الأخلاقيَّة تثير الحماس الذاتي لدىٰ الإنسان بحيث تُمسي وازعاً للسلوك أحياناً، وفي أحيان أُخرىٰ تصبح رادعةً عنه، بينما العقل عاجز بحدِّ ذاته عن القيام بذلك، لذا لا يمكن للمبادئ الأخلاقيَّة أنْ تكون ثمرةً للعقل... وما دام - العقل - عديم التأثير علىٰ رغباتنا وسلوكيَّاتنا، فمن العبث بمكانٍ التظاهر بأنَّه يمتلك القابليَّة لاستكشاف المبادئ الأخلاقيَّة[4].

إذًا، بما أنَّ العقل لا دور له علىٰ صعيد الغاية والهدف فهو مقيَّد بالقضايا المادِّيَّة بصفته وسيلةً فحسب، لذا فهو يعين الإنسان علىٰ بلوغ تلك المقاصد التي يتمُّ تعيينها من قِبَل مصدرٍ آخر، وعلىٰ هذا الأساس نأىٰ هيوم بنفسه إلىٰ أقصىٰ حدٍّ عن النزعة العقليَّة ذات الطابع الفلسفيِّ العمليِّ الذي يتكفَّل بإصدار الأحكام التطبيقيَّة في شتَّىٰ المجالات مثل الأخلاق والسياسة، فهذه القضايا مدينة للعقل لكونه المرجع الأساسيَّ لاستنتاجها.

(146)

من المفيد القول هنا: إنَّ أحد أهمّ الأسباب التي دعت هذا الفيلسوف الغربيَّ لأنْ يدافع بشدَّة عن النزعة المناهضة للعقل العملي هو اعتقاده بكون استنتاج الوجوب من الوجود ليس سوىٰ مغالطة حيث أشرنا إلىٰ ذلك سابقاً بشكلٍ مقتضبٍ. وأمَّا الموضوع الأساسيُّ الذي استقطب الأنظار نحوه في فكره فهو تصوُّره عدم ارتباط المعايير المبدئيَّة للفلسفة العمليَّة بعالم الواقع[1]، وتأكيده علىٰ ارتباطها بالمشاعر الإنسانيَّة، لذا فهي خارجة عن نطاق العقل الذي لا دور له سوىٰ استكشاف العلاقات بين الأشياء، والحكم بصواب أو سقم الحقائق الخارجيَّة؛ وفي هذا السياق اعتبر الشعور[2] المرتكز الأوَّل للسلوكيَّات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والأخلاقيَّة، فالعقل برأيه ليس مرجعاً أو مُرتكَزاً أخلاقيًّا أو سياسيًّا؛ ومن ثَمَّ أكَّد علىٰ أنَّ الشعور بحبِّ النوع - المشاركة الوجدانيَّة الإنسانيَّة[3] - هو البنية الأساسيَّة للسلوكيات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة، لكن هناك غموض حول مراده من هذا الشعور، فعلىٰ سبيل المثال الباحث جوناثان هاريسون الذي يُعَدُّ أحد أشهر شُرَّاح آثار هيوم وأدقّهم، والذي ألَّف كتابين لتحليل إبستيمولوجيا هذا الفيلسوف وبيان تفاصيل نظريَّة العدل التي تبنَّاها، ذكر بصريح العبارة أنَّه لا يعتقد بوجود شيءٍ اسمه حبُّ النوع في طبيعة الإنسان[4]؛ ويُؤيِّد ذلك ما قاله هيوم بنفسه:

يمكن البتُّ علىٰ نحو العموم بعدم وجود نزعة ذاتيَّة في طبيعة الإنسان باسم الحبِّ[5].

إذًا، هيوم يعتبر القوانين الأخلاقيَّة، والأهداف الاجتماعيَّة، والمبادئ والأهداف السياسيَّة متقوِّمة علىٰ مشاعر بشريَّة، وفي هذا المضمار حاول إثبات أنَّ هذه المرتكزات الشعوريَّة يشترك فيها الناس إلىٰ حدٍّ كبير، وبالتالي فهي وازع لأنْ تنأىٰ بالمبادئ الأخلاقيَّة والفلسفة العمليَّة عن الرغبات الذاتيَّة[6]. فدور العقل يحين إذ يتمُّ تعيين الإطار العامِّ للسلوك الإنسانيِّ، إذ يُعتَمد هنا بصفته وسيلةً لتحقيق المقاصد السلوكيَّة، والنتيجة المحتومة علىٰ هذا الأساس هي أنَّه مجرَّد عبدٍ طيِّعٍ لرغبة الإنسان ومشاعره، بل حتَّىٰ الأخلاق تفي بالدور ذاته لكونها محض مصدر يخدم

(147)

رغباتنا الطبيعيَّة، ولا تعلو عليها مُطلَقاً، ومن ثَمَّ لا يمكن ادِّعاء أنَّها تشرف علىٰ ما نريد وإنَّما هي ثمرة لمشاعرنا ما يعني أنَّها إلىٰ جانب العقل محكومة بتنسيق شؤونها مع هذه الرغبات.

نستشفُّ من هذا التحليل للعقل والأخلاق والقِيَم الاجتماعيَّة والمبادئ السياسيَّة أنَّ هيوم يعارض كلَّ رأي يعتبر العقل قِواماً للعدل، بل يرىٰ أنَّه لا يُعَدُّ مرتكَزاً مرجعيًّا لكلِّ ما هو خارج عن نطاق المشاعر والرغبات الطبيعيَّة؛ وإلىٰ جانب إقراره بأنَّنا نوافق أحياناً علىٰ بعض القضايا الجزئيَّة للشعور ونعترض عليها في أحيان أُخرىٰ بحيث نُصدِر أحكاماً كلِّيَّةً في هذا الصعيد، لكنَّه مع ذلك لا يعتبر هذه المواقف معايير عقليَّة أو فطريَّة تضرب بجذورها في ذات الإنسان وطبيعته، بل يعتبر كلَّ المبادئ من هذا القبيل مصنوعة من قِبَل البشر ومتأثِّرة برغباتهم ومشاعرهم الذاتيَّة المشتركة[1].

ثالثًا: أُسُس العدل والنزعة إليه:

لقد أكَّد ديفيد هيوم في دراساته علىٰ الدور الفاعل الذي يلعبه العدل باعتباره فضيلةً ارتكازيَّةً في الفكر السياسيِّ، ومن هذا المنطلق سلَّط الضوء علىٰ الموضوع في رحاب مسألتين أساسيَّتين، هما كالتالي:

المسألة الأُولىٰ: الجذور الأساسيَّة لهذه الفضيلة والسبب الذي يدعو الإنسان لأنْ يعتبر العدل مرتكَزاً بنيويًّا في القرارات السياسيَّة والحياة الاجتماعيَّة.

المسألة الثانية: طبيعة فضيلة العدل وأوجُه التشابه والاختلاف بينه وبين سائر الفضائل الأخلاقيَّة.

ثَمَّة ملاحظة جديرة بالاهتمام بالنسبة إلىٰ المسألة الأُولىٰ، وهي أنَّ هيوم لا يعتقد بوجود مرتكَز عقليٍّ لمسألة العدل، وعلىٰ أساس هذا الرأي لا يمكن اعتبار الدعوة إلىٰ العدل ثمرة لفكرٍ نظريٍّ واستنتاجٍ عقليٍّ، وبالتالي ليس من الصواب ادِّعاء أنَّها من جملة الضرورات والإلزامات التي يحكم بها عقل الإنسان، فالعقل العمليُّ لا يحكم بوجوب إقرار العدل والعمل علىٰ أساسه في كلِّ شؤون الحياة في منأىٰ عن مصالح الإنسان الشخصيَّة وواقع ظروفه ومكانته الاجتماعيَّة، لذا إنْ أدرجنا فضيلة العدل ضمن الفضائل العقليَّة ففي هذه الحالة لا بدَّ لنا

(148)

من الإذعان بأنَّ النزعة إليه عبارة عن أمرٍ مُطلَقٍ ودائمٍ وغير مستثنىٰ عن غيره، نظراً لكون الأحكام العقليَّة العمليَّة علىٰ غرار الأحكام العقليَّة النظريَّة بصفتها قضايا ضروريَّة ومُطلَقة. من ناحيةٍ أُخرىٰ، أنكر هذا الفيلسوف وجود رغبة ونزعة وشعور ذاتيٍّ في كيان الإنسان. هذا الكلام يدلُّ علىٰ أنَّه لا يُذعِن إلىٰ أنَّ الإنسان يستحسن العدل ذاتيًّا ويرغب في مراعاة حقوق أقرانه البشر وصيانة مصالحهم، حيث أكَّد بشكلٍ صريحٍ علىٰ عدم وجود أيِّ وازعٍ ذاتيٍّ لديه يُحفِّزه علىٰ الدعوة إلىٰ العدل وإقراره في المجتمع ما لم يكتنفه شعور بضرورة ذلك - وسنشير إلىٰ سبب ذلك لاحقاً -، وعلىٰ هذا الأساس فهو في الظروف الطبيعيَّة[1] التي لا تُطرَح فيها الملكيَّة، لا يلمس في حياته أيَّ معنىٰ للعدل ولا للظلم. هذا الكلام لا يعني أنَّ هيوم يعتقد بجواز الاستحواذ علىٰ ملكيَّة الآخرين في الأوضاع الطبيعيَّة، لأنَّ قوانين الملكيَّة برأيه هي البنية الأساسيَّة، لذا عند زوالها لا يبقىٰ أيُّ دور لبعض المفاهيم مثل العدل والظلم والجواز والمنع، حيث تفقد موضوعيَّتها في  أوضاع كهذه[2].

ومن جملة الآراء الأُخرىٰ التي تبنَّاها في هذا المجال أنَّ السؤال عن السبب في وجوب إقامة العدل لا يُطرَح إبَّان الظروف الطبيعيَّة، فالإنسان في أوضاع كهذه - حسب التعريف - غير خاضع للقوانين الوضعيَّة، وعند انعدام القانون لا يبقىٰ أيُّ محرِّك باطنيٍّ يسوقُه نحو العمل وفق مبادئ العدل؛ لأنَّ السؤال عن هذا الأمر - برأيه - يعني «ما الداعي للالتزام بالقانون؟»، ونظراً لانعدام القانون لا يأتي الدور للحديث عن السبب في وجوب الالتزام به[3].

نستنتج من هذا التوضيح المقتضب أنَّ هيوم لا يعتقد بوجود جذور ذاتيَّة للعدل سواءً كانت شعوريَّةً أم عقليَّةً، ومن منطلق هذه الرؤية أكَّد علىٰ عدم وجود أيِّ إلزامٍ عقليٍّ أو شعوريٍّ يُحفِّز الإنسان علىٰ أنْ يلتزم جانب العدل ويشعر بالرأفة والمودَّة إزاء أقرانه البشر، لذا لا بدَّ من البحث عن منشأ العدل في تلك القضايا التي تجعله بحاجة إلىٰ القوانين؛ وكما ذكرنا آنفاً فقد قال بصريح العبارة مِراراً: إنَّ مسألة ضرورة أو عدم ضرورة إقامة العدل لا تُطرَح علىٰ أرض الواقع إلَّا حينما يعيش الإنسان في كنف مجتمع تحكمه أُصول وضوابط خاصَّة؛ لأنَّ القوانين التي يقرُّها البشر لأنفسهم تُعَدُّ أفضل دليل علىٰ وجوب إقرار العدل،

(149)

الأمر الذي يعني أنَّ الإنسان خلال الظروف الطبيعيَّة يتوصَّل إلىٰ نتيجة فحواها ضرورة سَنِّ قوانين وتشريعات تُنظِّم حياته الفرديَّة والاجتماعيَّة لأجل انتشال نفسه ومجتمعه من منطق الغاب وانعدام القانون، لذلك يسعىٰ إلىٰ إقرار العدل وتطبيقه علىٰ أرض الواقع في رحاب هذه القوانين التي يجعلها ملزمةً للجميع، وهنا يتبلور المعنىٰ الحقيقيُّ لهذا المفهوم.

إذًا، منشأ العدل طبقاً لما ذُكِرَ هو الرَّغبة في إقامة القانون، والدافع علىٰ هذا الصعيد هو النزعة إلىٰ القانون واحترامه؛ إذ يُدرك الإنسان ضرورة سَنِّ قوانين، وفي ضوء ذلك تكتنفه رغبة جامحة ونزعة شديدة لإقرار العدل وتطبيقه بشكلٍ عمليٍّ.

الجدير بالذكر هنا أنَّ ربط مفهوم العدل بالقوانين البشريَّة الموضوعة وتعريفه وفقها جعل هيوم في مواجهة التعريف المشهور والمتعارف للعدل، فهو عادةً ما يُعرَّف من قِبَل الباحثين بمعنىٰ منح الحقِّ إلىٰ أصحابه، في حين أنَّه أكَّد علىٰ عدم استقلال الحقِّ عن العدل أو تقدُّمه عليه معتبراً هذا الأمر خطأً جليًّا، وعلىٰ هذا الأساس ليس من الصواب بمكان القول بأنَّه يعني وجوب مراعاة حقوق الآخرين ومنحها لأصحابها، فالحقوق لا معنىٰ لها بتاتاً من دون وجود قوانين وضعيَّة، كذلك فالعدل لا يصدق بتاتاً في منأىٰ عن هذه القوانين؛ ومن ثَمَّ لا بدَّ من القول بأنَّ العدل والحقَّ لا يتبلوران علىٰ أرض الواقع إلَّا بعد أنْ تسود في المجتمع قوانين وضعيَّة، ما يعني عدم وجود أيِّ حقٍّ مستقلٍّ عن القانون، وبالتالي لا يأتي الدور بتاتاً لادِّعاء تقدُّمه علىٰ العدل[1].

هذه الرؤية الشخصيَّة للعدل جعلت هيوم في الجهة المقابلة للمعنىٰ المتعارَف بين الباحثين، إذ الشائع علىٰ نطاق واسع أنَّ العدل عبارة عن معيار خارجي يجب الاعتماد عليه لتقييم مضمون السلوك لكون ما يبدر من الإنسان، إمَّا أنْ يندرج ضمن مبادئ العدل أو ضمن مبادئ أُخرىٰ تتعارض معه. وهذا المعيار له دور عمليٌّ علىٰ أرض الواقع ضمن اعتماده كمرتكَز في سَنِّ القوانين وتطبيقها، حيث تُقسَّم  علىٰ أساسه إلىٰ قوانين عادلة وجائرة؛ بينما الرؤية التي تبنَّاها هيوم تُؤكِّد علىٰ عدم إمكانيَّة استقلال العدل عن القانون الوضعيِّ، وإثر ذلك لا يمكن اعتباره مرتكَزاً لتقييمها، ناهيك بأنَّه يعتبر المصالح الفرديَّة بنيةً[2] أساسيةً ودافعاً ثابتاً لإقرار العدل في المجتمع علىٰ المستويين الفرديِّ والاجتماعيِّ، حيث أكَّد أنَّ المصلحة تُعَدُّ المرتكَز الأساسيَّ لإقامة العدل وتثبيت دعائمه، وهي تتواكب بنحوٍ ما مع ضربٍ من حبِّ النوع

(150)

-الشعور الوجدانيِّ الإنسانيِّ[1]- إزاء المصالح العامَّة؛ وهذا الشعور يُحفِّز الناس علىٰ اعتبار العدل أمراً أخلاقيًّا وفضيلةً سلوكيَّةً[2]. مراد هيوم من هذا الكلام أنَّ المصلحة الفرديَّة البحتة ليس من شأنها مطلَقاً أنْ تكون مُنشِئاً للعدل، لأنَّ المبادرة إلىٰ تدوين القوانين تُعَدُّ حركة جماعيَّة، لذلك ينبغي اتِّباع سبيل يضمن المصالح العامَّة وليس الفرديَّة البحتة، ومن هذا المنطلق فإنَّ لحظة إقرار العدل وسَنِّ القوانين تتضمَّن مصلحة فرديَّة تتلازم مع حبِّ النوع والشعور بالمسؤوليَّة إزاء الآخرين والدعوة إلىٰ الحفاظ علىٰ مصالحهم، وهذا التلاحم الإنسانيُّ يضفي علىٰ العدل بُعداً أكسيولوجيًّا وأخلاقيًّا، ولا شكَّ في أنَّ مراعاة المصالح الفرديَّة يُشجِّع الناس علىٰ إقرار قوانين وقواعد خاصَّة وعامَّة.

في الظروف الطبيعيَّة حينما تفتقر المجتمعات إلىٰ القوانين يُدرك الناس أنَّ مصالحهم وأموالهم عرضةً للخطر والخسران في أيَّة لحظة، إذ لا يُستَبعد أنْ تُغتَصب منهم من دون أنْ يتمكَّنوا من الدفاع عنها نظراً لعدم وجود رادعٍ يحول دون ذلك، لذا لا يجدون بُدًّا من سَنِّ قوانين تنتشلهم من هذه الظاهرة المزرية؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ ديفيد هيوم - ولأسباب غير واضحة - قيَّد العدل بمفهوم الملكيَّة وأكَّد أنَّ قوانين العدل وما يتمُّ إقراره في الأوضاع المتعارَفة علىٰ ثلاثة أصناف تتمحور كلُّها حول مسألة الملكيَّة: الصنف الأوَّل عبارة عن قوانين العدل المرتبطة بتأسيس مؤسَّسات خاصَّة بالملكيَّة وتثبيتها بصفتها مراكز معتَبرة؛ والصنف الثاني يتمثَّل في مسألة انتقال الملكيَّة، أي الأساليب القانونيَّة والمشروعة لانتقال الأملاك والأموال إلىٰ الآخرين؛ وأمَّا الصنف الثالث فهو تلك الاتِّفاقيَّات والالتزامات والعقود المبرَمة بين الناس حول الأموال والممتلكات. هذه الأصناف الثلاثة اعتبرها مرتكزات أساسيَّة وقوانين محورها العدل[3].

ولا ريب في أنَّ السعي لتحقيق المصلحة الشخصيَّة يخلق لدىٰ الإنسان وازعاً يُحفِّزه علىٰ سَنِّ القوانين التي تضمن إقرار العدل في المجتمع، وهذا الأمر يتبلور علىٰ أرض الواقع حينما يُدرك الجميع أنَّ القانون يعود بالنفع علىٰ كلِّ فردٍ في المجتمع، وهنا يتحقَّق التلاحم الإنسانيَّ بين الناس ويتجلَّىٰ حبُّ النوع كما أشرنا آنفاً؛ لكن مع ذلك، لا يمكن اعتبار المصلحة الشخصيَّة الدافع الأساسيَّ لإقامة العدل والالتزام بالقوانين، إذ غالباً

(151)

ما تكون هذه المصلحة منوطةً بتجاوز الأُطُر القانونيَّة وعدم التقيُّد بكلِّ ضابطةٍ يتمُّ إقرارها في المجتمع، ومن البديهي القول: إنَّ انعدام الدافع الباطني مثل محبَّة النوع واحترام الآخرين لا يُعتَبر محرِّكاً وحافزاً يُرغِّب الإنسان في احترام القانون والتقيُّد به، لذا لا بدَّ من وجود ضمانة تنفيذ قانونيَّة مُعتَبرة مثل تعيين عقوبات بدنيَّة وغرامات ماليَّة لمن يخالف المقرَّرات ولا يعمل بما أقرَّه المجتمع، فهذه الأُمور الرادعة تضطرُّ كلَّ شخصٍ لأنْ يلتزم بالقانون ولا يتنصَّل عنه.

بعدما أوضحنا رأي هيوم حول جذور رغبة الإنسان في إقامة العدل والدافع الأساسيِّ الذي يُحفِّزه علىٰ ذلك بشكلٍ إجماليٍّ، سوف نُسلِّط الضوء في ما يلي علىٰ وجهة نظره بالنسبة إلىٰ طبيعة فضيلة العدل، حيث سنلاحظ كيف أنَّه فسَّر العدل بشكل يتناسب بالكامل مع طبيعة القوانين الوضعيَّة التي يقرُّها البشر.

رابعاً: العدل بمثابة فضيلة اجتماعيَّة:

حينما نتأمَّل بما ذكره ديفيد هيوم حول مفهوم العدل، نلمس للوهلة الأُولىٰ أنَّه أكَّد غاية التأكيد علىٰ عدم وجود أيِّ دافعٍ ذاتيٍّ لدىٰ الإنسان يُحفِّزه علىٰ العمل وفق معايير العدل واحترام ملكيَّة الآخرين وعدم التعدِّي عليها، فهذا الأمر لا يتحقَّق برأيه إلَّا في رحاب سَنِّ قوانين تُضفي موضوعيَّةً ودلالةً علىٰ مسألتَيْ العدل والظلم بشتَّىٰ أنماطهما -أي الالتزام بالقوانين أو التنصُّل عنها-، حيث نستشفُّ من هذه الرؤية أنَّه لا يعتبر العدل فضيلةً من الأساس، ويُؤيِّد ذلك أنَّنا حينما نُدقِّق في كلامه ونغور في مداليله نلاحظ أنَّه لا يعتبره فضيلةً طبيعيَّةً[1]، بل يُصوِّره وكأنَّه فضيلة اعتباريَّة (مصطَنعة)[2] لا غير؛ فهو يرىٰ أنَّ العدل فضيلة من منطلَق اعتقاده بكون الفضائل والرذائل عبارة عن مواضيع خاضعة للأحكام الأخلاقيَّة، وبما أنَّ العدل والظلم من جملة القضايا التي تخضع للتقييم علىٰ أساس المبادئ الأخلاقيَّة، لذا يمكن القول بكون العدل فضيلة، لكنَّه ليس من سنخ الفضائل الطبيعيَّة.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ مصطلح (طبيعي)[3] يُستَخدم أحياناً في مقابل ما كان نادراً

(152)

وشحيحاً، لكنَّ هذا المعنىٰ لم يقصده ديفيد هيوم في مباحثه التي دوَّنها حول مفهوم العدل، بل مقصوده هو الطبيعيُّ الذي يقع في مقابل الاعتباريِّ (المصطَنع)[1]، وهذا ما يريده من ادِّعائه كون العدل فضيلة غير طبيعيَّة، إذ أكَّد وجود دوافع ورغبات في باطن الإنسان تُشجِّعه علىٰ القيام ببعض السلوكيَّات، لذلك يجد نفسه مكلَّفاً بالقيام بها، أي إنَّها تضطرُّه لأنْ يسلك هذا النهج، ولو تضاءل هذا الدافع لديه عادةً ما يسعىٰ لملء الفراغ الحاصل علىٰ ضوء شعوره بالتكليف، وذلك لأنَّ نزعةً ذاتيَّةً كهذه لا وجود لها من الأساس، أي ليس لدىٰ الإنسان أيُّ وازع يُحفِّزه علىٰ عدم اقتناص أموال الآخرين وأملاكهم، ولا يوجد في ذاته أيُّ ضابطة ذاتيَّة تجعله مقيَّداً باحترام ملكيَّة الآخرين وعدم التعدِّي علىٰ ثرواتهم، لذا لا بدَّ من سَنِّ قوانين تُجبِره علىٰ مراعاة حقوق الآخرين الماليَّة واحترام ملكيَّتهم؛ وبما أنَّ قوانين العدل توضع من قِبَل البشر ولا تتَّسم بأيَّة جوانب ذاتيَّة، فالعدل علىٰ هذا الأساس عبارة عن أمرٍ اعتباريٍّ (مُصطَنع) وليس ذاتيًّا.

المسألة الهامَّة الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي اعتقاد هيوم بأنَّ الإنسان يُقِرُّ بفضيلة قوانين الملكيَّة ويحترمها ويعمل علىٰ أساسها من منطلق رغبته في تحقيق مصالحه الشخصيَّة، كما يرىٰ أنَّ الفضائل[2] في شتَّىٰ أنماطها سواءً الطبيعية منها أم المصطَنعة تتقوَّم من أساسها علىٰ مبدأ المصلحة[3]، ومن ثَمَّ فالعدل وكلُّ القوانين المرتبطة به عبارة عن قضايا من صنع البشر، بينما المصلحة ليست كذلك، ما يعني أنَّ القوانين التي تعود بالنفع علىٰ الإنسان والمتَّفق عليها اجتماعيًّا هي التي تتَّسم بالفضيلة، لذا لا يمكن ادِّعاء أنَّ فضيلة العدل تختصُّ بمكانٍ أو زمانٍ أو مجتمعٍ بالتحديد.

إنَّ قوانين العدل ومضامينها كافَّةً - برأي هيوم - تختلف من مجتمع إلىٰ آخر من حيث مصاديقها إثر اختلاف أنظمتها الحقوقيَّة ومقرَّراتها والقوانين التي تُشرِّعها، لكنَّ مسألة فضيلة القانون تبقىٰ علىٰ حالها باعتبارها مبدأً ارتكازيًّا ولا أحد يُشكِّك بذلك، لأنَّها تتواكب مع مبدأ المصلحة الذي يطمح إليه كلُّ إنسانٍ في المجتمعات كافَّة؛ وهذه القوانين - مهما كانت طبيعتها - تُعَدُّ فضائل، ناهيك بأنَّ اتِّباعها هو الآخر يُعتَبر فضيلةً من فضائل المصلحة؛ والمقصود من

(153)

ذلك أنَّ العدل عبارة عن أمرٍ مصطَنعٍ، بينما الشعور بكون أحد الأُمور أخلاقيًّا وفضيلةً يُعَدُّ طبيعيًّا وليس مصطَنعاً[1].

ينبغي القول: إنَّ هيوم قد أشار في مباحثه إلىٰ الاختلافات الكائنة بين الفضيلتين الطبيعيَّة والاصطناعيَّة، وفي هذا السياق أكَّد أنَّ النتائج الإيجابيَّة التي تتَّسم بالخير[2] والمنبثقة من الفضائل الطبيعيَّة يمكن أنْ تُنسَب إلىٰ كلِّ ظرفٍ حتَّىٰ وإنْ كان جزئيًّا، ما يعني أنَّ كلَّ سلوك جزئيٍّ من هذه الفضائل يستتبع نتائج وآثاراً إيجابيَّةً خلافاً للعدل الذي تترتَّب عليه مصلحة عامَّة حينما يلتزم جميع الناس بالقوانين التي يتمُّ إقرارها، لذا فالتزام الإنسان بها بصفته فرداً ليس له أيُّ تأثير يذكر حتَّىٰ وإنْ تواكَب مع طاعة الآخرين.

ومن جملة ما نستلهمه من آرائه التي طرحها في هذا الصعيد أنَّه شبَّه الفضائل الطبيعيَّة مثل الإحسان[3] بالجدار المستحكم، وشبَّه الفضائل المصطَنعة مثل العدل بالطوق[4]، كما اعتبر كلَّ عمل من البرِّ والإحسان علىٰ غرار قطعة الطابوق التي تساهم في رفع مستوىٰ هذا الجدار حتَّىٰ وإنْ لم يساهم الآخرون في ذلك، في حين أنَّ الطوق لا ينشأ ويستقرُّ إلَّا بعد أنْ تترابط جميع أجزائه  من دون نقص وتتلاحم في ما بينها، لذا فالسلوكيَّات العادلة لبعض الناس الذين يتَّبعون القوانين إذا لم تتواكب مع التزام أقرانهم بها سوف لا يترتَّب عليها أيُّ خير ولا تستتبع أيَّة نتيجة إيجابيَّة[5].

كذلك يرىٰ وجود قضايا أُخرىٰ تابعة للقوانين الوضعيَّة في ما سوىٰ العدل، مثل الواجبات والتكاليف[6]، لذا لا معنىٰ لكلِّ إلزام فيما لو انعدمت هذه القوانين التي هي من صناعة البشر، ويبدو أنَّ ربط هذه المفاهيم بالقوانين التي هي من صياغة البشر يُعَدُّ وازعاً لطرح نظريَّة ذات معالم خاصَّة علىٰ صعيد الأخلاق، ولكن مع ذلك هل يمكن اعتبار جميع المفاهيم

(154)

والقضايا الأخلاقيَّة بكونها من صناعة البشر وتابعة للقوانين والأعراف البشريَّة؟ بعض شُرَّاح نظريَّات هيوم من أمثال هاريسون يعتقدون بأنَّ الباحث حينما يتطرَّق إلىٰ شرح وتحليل آراء هذا الفيلسوف التي طرحها في مضمار الأخلاق والفضائل، لا بدَّ له من التفكيك بين فئتين من المفاهيم والقضايا الأخلاقيَّة، إحداهما توصف بأنَّها عبارة عن كلمات معياريَّة[1] وتشمل مفاهيم علىٰ غرار الحُسن والقُبح والفضيلة والرذيلة؛ وأمَّا الأُخرىٰ فهي لا تتضمَّن مبادئ معياريَّة علىٰ صعيد الأخلاق، إذ تتبلور في سلوكيَّات الإنسان ومختلف مواقفه وأفعاله، مثل الصواب والخطأ والإباحة والمنع، وهذه الفئة تتمحور فقط حول ما ينبغي فعله من قِبَل الإنسان أو ما يمكن أنْ يفعله أو ما لا يجب أنْ يحدث.

تأكيد هيوم علىٰ ارتباط المبادئ الأخلاقيَّة بالأعراف والقوانين التي هي من صياغة البشر يندرج ضمن الفئة الثانية من المفاهيم الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّ بعض المفاهيم مثل الرأفة بالآخرين والبرِّ والإحسان والجدِّ والاجتهاد يمكن اعتبارها فضائل أخلاقيَّة حتَّىٰ عند انعدام القوانين الوضعيَّة، إذ في أحوال كهذه - أي في الظروف الطبيعيَّة - تتَّسم بكونها مفيدة أو تحظىٰ بتأييد شامل من قِبَل جميع الناس؛ وعلىٰ أساس هذا التفسير يمكن اعتبار العدل وغالبيَّة المبادئ والمفاهيم الأخلاقيَّة بأنَّها مجرَّد قضايا مُصطَنعة ومُتَّفق عليها (مُتعارَفة) بين الناس[2] بداعي أنَّها ذات ارتباط وطيد بالقوانين الوضعيَّة، لذا يُدرَج هذا التفسير ضمن نظريَّة مستقلَّة في مجال الأخلاق[3].

لا بدَّ من الإشارة إلىٰ أنَّ ارتباط العدل بالأعراف المتَّفق عليها والقوانين المُصاغَة من قِبَل البشر لا يُراد منها كون هذا التلاحم الفكريَّ يغرس في نفس الإنسان حافزاً لإقرار العدل، وإذا انعدم هذا الاتِّفاق - برأي هيوم - لا يبقىٰ أيُّ دافع للدعوة إلىٰ إقرار مبادئ العدل، كما لا يمكن إيجاد دافع في هذا السياق علىٰ أساس التوافق العامِّ والقوانين الموضوعة، بل تُعيِّن وجهة الدوافع الكامنة في نفس الإنسان ولاسيَّما الرغبة في تحقيق المصلحة الشخصيَّة.

يُشار هنا إلىٰ أنَّ القوانين الوضعيَّة قبل أنْ يصادق عليها وتبلغ درجة القطعيَّة - في الأوضاع الطبيعيَّة - فالعرف السائد في المجتمعات البشريَّة فحواه أنَّ الإنسان عادةً ما ينزع نحو

(155)

السعي للاستحواذ علىٰ أموال الآخرين وممتلكاتهم وفق مبدأ المصلحة الشخصيَّة[1] لكن بعد أنْ يتمَّ إقرارها والمصادقة عليها تصبح أموال وممتلكات كلِّ إنسان حقًّا شخصيًّا وحصريًّا له وفق أُسُس قانونيَّة ثابتة بحيث يُعاقَب كلُّ من يتعدَّىٰ عليها أو يغتصبها، فالمصلحة الشخصيَّة الكامنة في ذات كلِّ إنسان تسوقُه نحو احترام قانون العدل وعدم الاستحواذ علىٰ استحقاقات أقرانه البشر؛ ولا شكَّ في أنَّ دافعه الأساسيَّ في هذه الحالة يتبلور علىٰ ضوء احترام مصالح الآخرين والعمل وفق قوانين الملكيَّة المصادق عليها قانونيًّا في رحاب مبدأ العدل، حيث يمتزج في باطنه شعور بالخشية من العقاب والحرمان من المصالح التي يمكن أنْ يكتسبها جرَّاء احترام القوانين والأعراف السائدة في مجتمعه[2].

إنَّ العدل - بصفته فضيلةً أخلاقيَّةً مُصاغةً من قِبَل البشر - ذو ارتباط وثيق بمسألة الملكيَّة، وفي هذا المضمار أكَّد هيوم أنَّ أفضل فهم له هو اعتباره منطلَقاً للحفاظ علىٰ البنية الاجتماعيَّة والعرفيَّة الموجودة علىٰ أرض الواقع، وصيانة مقرَّرات الملكيَّة المشروعة في المجتمع، ما يعني أنَّ قوانين العدل يجب أنْ تُسخَّر للحفاظ علىٰ المقرَّرات والأعراف الخاصَّة بالملكيَّة وإبقائها علىٰ حالها، كذلك لا بدَّ من أنْ تكون مُرتكَزاً أساسيًّا لمقرَّرات نقل الملكيَّة والتداول الماليِّ؛ ومن هذا المنطلق استدلَّ علىٰ عدم نجاعة كلِّ تفسير آخر للعدل فيما لو أُريد منه تغيير هذا الواقع المتعارَف في المجتمع.

كذلك ذكر هيوم ثلاثة أنواع بخصوص تقسيم الثروات والأموال في المجتمع كما يلي:

النوع الأوَّل: تقسيم عادل علىٰ أساس مبدأ الاستحقاق.

النوع الثاني: تقسيم عادل علىٰ أساس مراعاة مبدأ المساواة[3].

النوع الثالث: تقسيم علىٰ أساس المقرَّرات والأعراف الحاكمة في المجتمع حسب مبدأ الملكيَّة والثروات الماليَّة.

في هذا السياق أكَّد علىٰ عدم إمكانيَّة اللجوء إلىٰ مبدأ الاستحقاق أو المساواة بصفته بنيةً أساسيَّةً للعدل والقوانين الحاكمة علىٰ تقسيم الملكيَّة والثروات، لذا لا بدَّ من الإبقاء علىٰ

(156)

المقرَّرات والأعراف الحاكمة في المجتمع كمرتكَز أساسيٍّ في إقرار العدل؛ وقد استدلَّ علىٰ رأيه هذا بأنَّ مبدأ الاستحقاق أو المساواة فيه نقاش من حيث الأُسُس الأخلاقيَّة يحول دون اتِّخاذه معياراً ثابتاً بهذا الخصوص، لذا ليس من الصواب بمكان العمل به كمرتكَز للقوانين العامَّة المتعلِّقة بالملكيَّة والأموال؛ وبيان ذلك كما يلي: من البديهيِّ أنَّ الناس لا يتَّفقون علىٰ آراء مشتركة بالنسبة إلىٰ دلالة مفهومَيْ الاستحقاق والمساواة، ومن ثَمَّ لا يتحقَّق أيُّ اتِّفاق بينهم بشأن التقسيم العادل أو سَنِّ قوانين وضعيَّة تُحدِّد معالمه الرئيسيَّة، ما يعني أنَّ الاعتماد علىٰ المساواة كمنطَلَق لتقييم الثروات والممتلكات لا يتقوَّم علىٰ أيِّ مبدأ علميٍّ جرَّاء عدم امتلاك جميع الناس قابليَّات ورؤىٰ متكافئة، فكلُّ إنسان يمتاز بخصائص فكريَّة وقابليَّات ذهنيَّة تختلف عن أقرانه، وهذا هو السبب في رغبته المتواصلة والجادَّة بعدم الالتزام بمبدأ المساواة، ومن ثَمَّ لا يتسنَّىٰ ذلك إلَّا في رحاب نظام حاكم مقتدر سياسيًّا واجتماعيًّا؛ وهذا الأمر طبعاً تناقض صريح لكونه يسفر عن انعدام المساواة من الناحية السياسيَّة.

النتيجة التي توصَّل إليها بعد هذا النقاش فحواها أنَّ الحفاظ علىٰ الثروات والممتلكات يتطلَّب الإبقاء علىٰ المقرَّرات والأعراف الاجتماعيَّة الكائنة في المجتمع علىٰ ضوء إقرار قوانين تصونها وتُشذِّبها، إذ لا طائل ولا جدوىٰ من كلِّ مسعىٰ لتغيير الوضع الموجود أو لإقرار العدل في هذا المجال[1].

شروط العدل:

لا شكَّ في أنَّ العدل يدرج ضمن الفضائل الأخلاقيَّة علىٰ كلِّ حال، سواءً اعتبرناه فضيلة طبيعيَّة بحسب رأي الكثير من الفلاسفة والباحثين، أم مصطَنَعة كما ادَّعىٰ ديفيد هيوم ومن حذا حذوَه، إلَّا أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه علىٰ هذا الصعيد هو: هل يمكن اعتباره فضيلةً مطلَقةً أو مشروطةً ومقيَّدةً بظروف خاصَّة؟

المقصود من كونه فضيلة مطلَقة هو عدم اشتراطه من حيث القيمة والاعتبار بشروط خاصَّة، بل هو كذلك في جميع الأحوال والأوضاع ومثال ذلك الحقيقة[2] فهي في عالم القضايا والعلوم والمعارف تُعدُّ معياراً وقيمةً علىٰ نحو الإطلاق، لأنَّ صدق كلِّ قضية منوط بكونها حقيقة؛ لذا يقال إنَّ اعتبار الحقيقة غير مشروط بشروط خاصَّة، بل هي معتَبرة وصادقة في

(157)

جميع الأحوال وضمن شتَّىٰ الظروف، ولكن هل يُعتَبر العدل من وجهة نظر هيوم ذا قيمة مطلَقة كما هو الحال بالنسبة إليها؟

نذكر هنا أنَّ تصوُّر هيوم بكون فضيلة العدل ذات طابع شفائيٍّ وترميميٍّ [1] حال دون اعتقاده بكونه معتَبراً علىٰ نحو مطلق، فهو برأيه ضروريًّا وكذلك القوانين المرتبطة به تصبح ضروريَّةً حينما تتوفَّر ظروف خاصَّة يتسنَّىٰ له ولهذه القوانين إصلاح الخلل الموجود وترميم كلِّ عيب ونقص؛ وعندما يتَّسع نطاق الاختلاف وتبلغ مستوىٰ لا يتمكَّن الناس خلاله من وضع حلول ناجعة لمواطن الافتراق علىٰ صعيد القضايا الأخلاقيَّة والسياسيَّة، يأتي الدور إلىٰ قوانين العدل فتصبح مُرتَكَزاً لحلحلة المشاكل وتحقيق وئامٍ عامٍّ وشاملٍ يُرضي الجميع؛ وفي ظروف كهذه يتبلور العدل بصفته فضيلة عليا مقدَّمة علىٰ سائر الفضائل الأخلاقيَّة بحيث يمكن تشبيهه بفضيلة الشجاعة التي تفوق كلَّ فضيلة أخرىٰ في ساحة القتال، ما يعني أنَّ الشجاعة كمثالٍ علىٰ ما ذكر ليست بهذا المستوىٰ في كلِّ آنٍ ومكانٍ، فهي ليست كذلك في غير ساحة القتال.

ولإثبات أنَّ فضيلة العدل مشترطة بظروف وحالات خاصَّة ننوِّه بأنَّ هيوم أكَّد في بعض مدوَّناتها علىٰ عدم كونه فضيلةً أحياناً كما لو سادت في المجتمع أجواء ملؤها الخير والإحسان بين الناس كافَّةً، ففي هذه الحالة لا تبقىٰ أيَّة حاجة لتدوين قوانين تضمن إقامة العدل في المجتمع ولا ضرورة في البحث والنقاش حول طبيعة العدل وكيفيَّته، بل الخوض في هذه المباحث عبثيٌّ ولا جدوىٰ منه، ومثال ذلك الأسرة المثاليَّة التي يعيش أبناؤها حياةً ملؤها الوئام والوفاق والمودَّة، إذ قلَّما يلجؤون إلىٰ نقاشات لإحقاق حقوقهم وضمانها حتَّىٰ وإن حدث تعارض في مصالحهم الشخصيَّة، وهذا الأمر لا يحدث طبعاً جرَّاء انعدام العدل أو سلب الحقوق، بل سببه الالتزام بقوانين العدل وإقرار الحقوق القانونيَّة لكلِّ فرد في المجتمع علىٰ ضوء مبادئ المودَّة والبرِّ والإحسان المتبادل، لأنَّ كلَّ شخصٍ في ظروف كهذه يحظىٰ بنصيب من المصالح والأملاك الأسريَّة وهذه الملكيَّة لا تدعو بتاتاً إلىٰ قلق سائر أعضاء الأسرة أو خشيتهم من تضييع مصالحهم الخاصَّة. من البديهيِّ لو تغيَّرت هذه الظروف وتفاقمت الخلافات الأسريَّة، ففي هذه الحالة تقتضي الضرورة إقرار قوانين ومقرَّرات تضمن الحقوق الشخصيَّة لكلِّ فردٍ وتجعل العدل منطلقاً أساسيَّاً في الحياة الأسريَّة، وهنا يقال إنَّ العدل فضيلة أخلاقيَّة.

(158)

إذن، الظروف التي تجعل من العدل فضيلةً عادةً ما تكون متغيِّرةً لا ثَباتَ لها، إذ من الممكن أن تتغيَّر وتصبح الأوضاع بشكلٍ لا يمكن فيه تصوير العدل بكونه فضيلةً، بل يتحوَّل إلىٰ رذيلة وهنا يطرح ذات المثال الذي ذكرناه حول الأسرة المثاليَّة التي يعيش أبناؤها في رحاب أجواء تسودها المودَّة والوئام، فلو أصيب أحدهم بداءٍ يتطلَّب علاجه نفقات طائلة سوف يبادر الآخرون بكلِّ رغبة وسرور إلىٰ مساعدته بشفقة وإحسان، وهنا لا موضوعيَّة لطرح مسألة الحقوق والمصالح الشخصيَّة أو السعي لتقسيم الأموال والممتلكات وفق قوانين وضعيَّة متقوِّمة علىٰ العدل، فهذا الأمر يُعدُّ زائداً ولربَّما يدعو إلىٰ شعورهم بالأسىٰ وعدم الارتياح.

لا ريب في أنَّ هيوم كان سيتوصَّل إلىٰ نتيجة كهذه ويُعتبر العدل مجرَّد فضيلة أخلاقيَّة مشروطة وليست مطلَقة علىٰ ضوء تفسيره الخاصِّ له باعتباره مبدأ مصطَنعاً ومُصاغاً من قِبل البشر وإثر تقييده بمسألة حلحلة الخلافات حول الملكيَّة وتقسيم الأموال، وممَّا قاله في هذا المضمار ما يلي: “العدل إنَّما يتبلور في ما يتَّفق عليه البشر[1]... وهذا الاتِّفاق يهدف إلىٰ علاج بعض التعارضات الناشئة من التقارن الحاصل بين عدد من الخصائص الإنسانيَّة وبين طبيعة الأشياء الموجودة في عالم الخارج، فالأنانيَّة والكرم المحدود بنطاق معيَّن [علىٰ سبيل المثال] يُعتبران من الخصائص النفسيَّة للبشر، في حين أنَّ طبيعة الأشياء الموجودة في عالم الخارج تحكي عن بعض القضايا التي هي من قبيل سهولة تغييرها وندرتها مقارنةً مع رغبات الإنسان... ومع التزايد المنسجم لمستوىٰ البِرِّ والإحسان والكرَم والجود ورواج شتَّىٰ الفضائل الكريمة ووفرة الخيرات والنِّعم، تصبح الدعوة إلىٰ إقامة العدل أمراً عبثيَّاً لا طائل منه”[2].

في مختلف بحوثه أشار هيوم إلىٰ عددٍ من الشروط التي اعتبرها مُرتَكَزاً لتحقيق النفع والمصلحة في رحاب إقامة العدل، ومن ثمَّ يصبح العدل وقوانينه كافَّة فضيلةً؛ لذا إن افتقد أيُّ واحد من هذه الشروط سوف يتجرَّد عمَّا ذكر ولا يُعدُّ بعد ذلك فضيلةً جرَّاء تجرُّده عن البنية الأساسيَّة التي تضمن كونه فضيلةً، وهذه البنية هي المصلحة طبعاً.

(159)

في ما يلي بعض الشروط المُشار إليها بشكل مقتضب:

الشرط الأوَّل: هذا الشرط وصفه هيوم بالندرة المعتدلة[1] وهنا لو أنَّ شيئاً لم يكن نادراً من الأساس بحيث يتوفَّر علىٰ نطاق واسع لدرجة أنَّه يُشبع رغبات الناس ويلبّـِي كلَّ ما يطمحون إليه بالتمام والكمال، ووفرته كالهواء الموجود بكثرة في كلِّ آنٍ ومكانٍ، ففي هذه الحالة لا تبقىٰ حاجة إلىٰ الدعوة للتوزيع العادل ومن ثمَّ فالعدل يصبح مفهوماً عبثيَّاً لا جدوىٰ منه ولا حاجة إليه. ومن ناحية أخرىٰ لو أنَّ ندرة أحد الأشياء تجاوزت الحدَّ المتعارَف بحيث أصبح نادراً بشكل مبالغ فيه، فهنا أيضاً لا طائل من الدعوة إلىٰ إقامة العدل، لذلك يصبح التوزيع العادل أمراً عبثيَّاً عديم الفائدة، إذ لا يمكن توزيع الثروات والممتلكات بشكل عادل بين الناس نظراً للندرة المفرطة؛ وعلىٰ هذا الأساس يقال إنَّ موضوع العدل يتبلور ضمن أمور تتَّسم بندرة معتدلة.[2]

الشرط الثاني: الأنانيِّة المعتدلة؛ إذ من المؤكَّد وجود نزعة أنانيَّة في ذات كلِّ إنسان وهذا أمر طبيعيّْ، لكنَّها إن جمحت وبلغت حدَّ التطرُّف فهي عندئذٍ ليست طبيعيَّةً، بل خارجة عن الكيان الحقيقيِّ للإنسان، وهنا يأتي الدور لطرح مفهوم العدل، فالأنانيَّة المفرطة تقتضي سنَّ قوانين تضمن العدل للبشريَّة، فهذه النزعة حتَّىٰ وإن تفاقمت لكنَّها لا ينبغي أن تصبح رادعاً عن إقامة العدل في المجتمع.

الجدير بالذكر أنَّ النزعة الأنانيَّة المتطرِّفة تجعل الإنسان يفكِّر بنفسه فقط ولا ينصف الآخرين أو يمنحهم حقوقهم الطبيعيَّة والمشروعة، لذا لا بدَّ من سنِّ قوانين ومقرَّرات عادلة تتيح المجال لتقسيم الثروات والممتلكات بشكلٍ مُنصف بحسب الاستحقاق، ومن ناحية أخرىٰ فالبرُّ والإحسان المبالغ فيه والذي يُسفر عن انعدام الأنانيَّة من أساسها وبكلِّ جزئيَّاتها هو الآخر يحول دون إقامة العدل، إذ كما ذكرنا آنفاً لو ساد عمل الخير في المجتمع بشكل غير متعارف وخرج عن إطاره المعقول سوف تفتقد قوانين العدل نجاعتها ولا تُعدُّ ذات أدنىٰ فائدة، لذلك يمكن اعتبار الأنانيَّة المعتدلة حدَّاً فاصلاً بين الأنانيَّة المتطرِّفة والإحسان البحت[3] وهي في الواقع شرط أساسيٍّ لأن يصبح العدل فضيلةً[4].

(160)

الشرط الثالث: وجود تناسب في مستوىٰ القدرة بين مختلف أعضاء المجتمع، لذا إن استحوذ عدد من الناس علىٰ مقاليد السلطة والاقتدار في المجتمع بشكلٍ مبالَغٍ فيه سوف يتحوَّل العدل إلىٰ أمر عبثيٍّ وعديم النفع، إذ ليس هناك رادعٌ يردع هؤلاء أو يُضطرَّهم للالتزام بالقوانين والمقرَّرات العامَّة والخاصَّة، ولا نجد ضرورة هنا لذكر مثال يثبت هذه الظاهرة، لكنَّ هيوم أشار في هذا السياق إلىٰ واقع العلاقة بين الأوروبيِّين المتحضِّرين والسكَّان المحلِّيين في شبه القارَّة الهنديَّة، حيث استدلَّ من هذا المثال علىٰ أنَّ الأوروبيِّين المقتدرين الذين هاجروا إلىٰ تلك الديار جعلتهم يتصرَّفون بشكلٍ استكباريٍّ من منطلَق احتقارهم لأبناء تلك الشعوب وكأنَّهم حيوانات لا تفقه شيئاً، لذلك أعرضوا عن جميع مبادئ العدل والإنسانيَّة[1].

نلفت هنا إلىٰ أنَّ موضوع شروط العدل استقطب أنظار عدد من المفكِّرين الذين تلوا عهد هيوم، ومن جملتهم جون رولز الذي عرَّف هذه الشروط بأنَّها قضايا طبيعيَّة تفسح في المجال للتعاون بين الناس لأجل وضع الأُسُس الارتكازيَّة لمبادئ العدل، وفي الحين ذاته تجعل هذا التعاون ضروريَّاً؛ وقد اعتُبر رأيه هذا منبثقاً من نظريَّة سلفه هيوم[2].

وعلىٰ الرغم من أنَّ جون رولز حذا حذو هيوم حينما اعتبر قوانين العدل ومبادئه من صناعة البشر لكونها أتت علىٰ غرار الأمر المتَّفق عليه وليست حقائق أزليَّة يستكشفها الإنسان بوجدانه وقابليَّاته الذهنيَّة، ومع أنَّه سلك نهجه أيضاً وأناط هذا الاتِّفاق العامِّ بشروط وظروف خاصَّة؛ لكنَّه في الواقع تبنَّىٰ رؤيةً تختلف عمَّا ذهب إليه الأخير في هذا المضمار، فهو أكَّد أنَّ الثمرة العمليَّة التي تترتَّب علىٰ الشروط الخاصَّة بالعدل تساهم أوَّلاً في تبرير الحاجة إلىٰ القوانين العادلة وعلىٰ أساسها يتحقَّق النفع منها وتتبلور المصلحة علىٰ أرض الواقع في رحابها، وثانياً تمهِّد الأرضيَّة المناسبة للدوافع التي تحفِّز الإنسان علىٰ سنِّ القوانين وتنظيمها ووضع الأُسُس الارتكازيَّة للعدل، في حين أنَّ رولز اعتبر شروط العدل مؤشِّراً علىٰ تلك القضايا التي تضمن تحقُّق الإنصاف ممَّا تمَّ الاتِّفاق عليه بشكل جماعيٍّ إزاء مبدأ العدل خلال الأوضاع الأولىٰ والأصيلة[3]. وأمَّا شروط العدل من وجهة نظر هذا المفكِّر الغربيِّ فتعكس في الحقيقة واقع الأوضاع التي تكتنف الناس في بادئ الأمر مثل تجاهل الرغبات والمصالح الشخصيَّة،

(161)

وهذه الأوضاع تساعد علىٰ تحقيق اتِّفاق بينهم بشأن مبادئ العدل؛ إذ إنَّهم لا يقحمون مصالحهم الفرديَّة والفئويَّة ممَّا يعني اتِّصاف ما تمَّ الاتِّفاق عليه بالعدل والإنصاف، ومن ثمَّ ضمان إقرار مبادئ العدل والعمل بها.

وينبغي الإشارة إلىٰ أنَّ شروط العدل التي ذكرها هيوم تختلف بالكامل عمَّا ذكره إيمانوئيل كانط من شروط يمكن علىٰ أساسها فهم مبادئه الحقيقيَّة، حيث صاغها من جهة علىٰ ضوء الحقائق الذاتيَّة للإنسان ولا سيَّما رغباته وغرائزه مثل سعيِه وراء مصالحه، وصاغها من جهة أخرىٰ علىٰ أساس الحقائق الخارجيَّة والمحدوديَّات البشريَّة التي تتبلور بشكل عمليٍّ علىٰ أرض الواقع، وفي هذا السياق تبنَّىٰ رؤية تجريبيَّة رام من ورائها تعيين هذه الشروط، لذلك أكَّد أنَّها عارية من كلِّ مبدأ أكسيولوجيٍّ وأصل أخلاقيٍّ وأُسُس ميتافيزيقيَّة وعقليَّة، فهذه الأمور برأيه لا تأثير لها في مسألة العدل، ما يعني أنَّ رؤيته ذات طابع وصفيٍّ وناظرة إلىٰ محدوديَّات تُبرِّر ضرورة سنِّ قوانين وإقامة العدل في الحياة الاجتماعيَّة. وأمَّا كانط فقد وقف في الجانب المقابل تماماً لهذه الرؤية، حيث تبنَّىٰ وجهة نظر مثاليَّة لا ارتباط لها بالطابع التجريبيِّ والقواعد الطبيعيَّة، لذلك قال إنَّ الإنسان ما دام قادراً علىٰ إدراك المبادئ الأخلاقيَّة وأصول العدل في الحياة بشكل يجعله يتجاهل مصالحه الشخصيَّة وأهدافه وغاياته الخاصَّة، ولا ينظر إلىٰ الآخرين وكأنَّهم وسائل يحقِّق من خلالها هذه المصالح والاهداف والغايات، فهو في هذه الحالة يمتلك إرادة مُثلىٰ كلُّها برٌّ وإحسان، ومن ثمَّ فالقوانين التي يصوغها في هذا المضمار لا بدَّ وأن تكون منبثقة من العقل المحض؛ ومن هذا المنطلق اعتبر مبادئ العدل والأخلاق قضايا مطلَقة وضروريَّة بحيث لا يمكن التعدِّي عليها أو استثناؤها بتاتاً.

خامساً: نظريَّة هيوم في بوتقة النقد والتحليل:

في ما يلي نسلِّط الضوء علىٰ نظريَّة العدل التي طرحها ديفيد هيوم ضمن إطار تحليل نقديٍّ، فإذا تأمَّلنا بجملة ما ذكر من تفاصيل حول آرائه بالنسبة إلىٰ مسألة العدل نجده متأثِّراً بآراء هوبز التي طرحها في كتابه الشهير «لويثان»، حيث استلهم منه نظريَّة الوضع الطبيعيِّ ليصوِّر العدل بأنَّه ذو دور علاجيٍّ وإصلاحيٍّ للخلافات والنقاشات التي تحدث في الظروف الطبيعيَّة التي يفتقد فيها القانون وينعدم النَّظم، وعلىٰ هذا الأساس يمكن اعتبار العدل  وصفًا لنظام وسلسلة من القوانين ولا سيَّما القوانين التي توضع لتنظيم القضايا المرتبطة بالملكيَّة والأموال والمصالح المادِّيَّة.

(162)

لقد اعتبر ديفيد هيوم المصلحة العامَّة والنفع الشخصيَّ بنيةً أساسيَّةً تجعل من العدل فضيلةً أخلاقيَّةً، وأكَّد أنَّ الالتزام بقوانين العدل يضمن تحقُّق أنانيَّة معتدلة تشبع رغباتهم، وتلبِّي مصالحهم، وتغرس لديهم الشعور بضرورة الخروج من الأوضاع الطبيعيَّة والإذعان لقوانين الملكيَّة التي يتمُّ وضعها من قبل البشر، ولذلك يمكن القول أنَّ نظريَّة العدل التي طرحها تدرج ضمن النظريَّات النفعيَّة[1] التي طُرحت من قِبَل سائر الفلاسفة والمفكِّرين.

وعلىٰ الرغم من أنَّ بعض التعابير والمصطلحات التي نجدها في مدوَّنات هيوم من قبيل النفع العامِّ[2] والمصلحة العامَّة [3]، وتأكيده علىٰ أنَّ هذه المصالح تتحقَّق عبر مراعاة قوانين العدل وترسيخها في المجتمع، هي أمور جعلته في جبهة المدافعين عن مبدأ النفعية بنحوٍ ما، ورغم أنّها جعلت نظرية العدل التي طرحها تنتسب إلىٰ مبدأ النفعية بدلاً عن  مبدأَيْ تبادل المنفعة[4] والحدسيَّة [5]؛ لكن حينما نفسِّر مبدأ النفعيَّة الذي دعا إليه ينبغي ألَّا نقع في خطأ تأريخيٍّ [6] بحيث ننسب إليه رؤية جُرمَيْ بنثام وجيمس مل في تفسير هذا المبدأ لكونهما متأخِّرين عنه زمانيَّاً.[7]

حريٌّ القول هنا إنَّ المذهب النفعيَّ الشهير والمتعارَف في الأوساط الفكريَّة قائمٌ في أساسه علىٰ نظريَّات بنثام ومل، وفحواه أنَّ المصلحة الجماعيَّة[8] هي فقط الغاية القصوىٰ والمرتَكَز البنيويُّ للفضيلة، لذا فهي بصفتها أصلاً أكسيولوجيَّاً يجب أن تُتَّخذ كمنطلق وأساس لكلِّ الكيانات والمؤسَّسات الاجتماعيَّة والقرارات السياسيَّة والاقتصاديَّة.

إذا اعتبرنا النفعيَّة واحدة من نظريَّات العدل، فهي من الناحية النظريَّة تؤكِّد علىٰ أنَّ العدل الاجتماعيَّ لا يتحقَّق إلَّا في رحاب تحقُّق النفع والمصلحة، وفي هذا السياق لا يُستبعَد أن يُدنَّس الكثير من المبادئ الأخلاقيَّة التي يتقوَّم عليها العدل بحسب وجهات النظر الأولىٰ

(163)

والعامَّة بحيث لا تتكافأ حقوق شخصين متساويين من النواحي كافَّة؛ لأنَّ النزعة النفعيَّة تعني امتزاج مصالح الجميع بعضها ببعض، ومن ثمَّ فالخير الجماعيُّ يتحقَّق في رحاب الخير الفرديّْ، أي أنَّ المعيار هو مصلحة الشخص بصفته فرداً؛ ومن هذا المنطلق فإنَّ تحقيق المصالح الاجتماعيَّة يعني في نهاية المطاف النهوض بمصلحة كلِّ فرد علىٰ حِدَة، وبالتالي ينبغي اتِّخاذ المصلحة العامَّة مُرتَكَزاً لتحقيق أهداف المجتمع علىٰ صعيد سنِّ القوانين وتطبيقها وشتَّىٰ القرارات الشاملة.

ولا يختلف اثنان في أنَّ ديفيد هيوم لا يعتقد بهذا الكلام مطلَقاً، أي أنَّه لا يعتبر المصلحة العامَّة مُنطلَقاً لنظريَّته في العدل، إذ لم يعتبر أنَّ هذه المصلحة تعني تحقيق الحدِّ الأقصىٰ من المنافع الشخصيَّة واعتبارها مُرتَكَزاً لتدوين قوانين عادلة، كذلك لم يؤكِّد علىٰ ضرورة أن تُدوَّن قوانين العدل علىٰ هذا الأساس، بل أكَّد علىٰ أنَّ المنفعة الفرديَّة تتحقَّق في الظروف الطبيعيَّة علىٰ ضوء تغيير هذه الظروف والإقبال علىٰ قوانين عادلة تضمن مصالحهم الشخصيَّة، لذا إن رُوعِيت هذه القوانين فسوف تسود المصلحة العامَّة وينتفع الجميع من دون استثناء، وهذا الاهتمام بالمصلحة العامَّة وقوانين العدل يُعدُّ مُرتَكَزاً أخلاقيَّاً وأكسيولوجيَّاً ويُضفي علىٰ السلوك المنبثق منه فضيلةً، لأنَّ نظريَّة هيوم الأخلاقيَّة تؤكّد أنَّ كلَّ ما يضمن النفع والمصلحة يُعدُّ فضيلةً أخلاقيَّة.

من ناحيةٍ أخرىٰ، تُعتبر نظريَّة العدل التي تبنَّاها هذا الفيلسوف من سنخ النزعات التقليديَّة[1] لأنَّه يرىٰ العدل مرتبطاً بسلسلة من القوانين الوضعيَّة، ويصوِّر السلوك العادل علىٰ أنَّه احترام للقوانين والأعراف المتَّفق عليها والتزام بها، وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ النزعات التقليديَّة لها أنماط متنوِّعة، ومن جملة أمثلتها التعريف المشهور للعدل بكونه منح الحقَّ لصاحبه، وهذا الأمر يمكن اعتباره نوعاً منها إذا أدركنا أنَّ شتَّىٰ الكيانات والمؤسَّسات والاتفاقيَّات القانونيَّة وشتَّىٰ المقرَّرات الوضعيَّة هي التي تعيِّن حقوق كلِّ فرد في المجتمع؛ لكن إذا قلنا إنَّ الحقوق الفرديَّة لا تتقوَّم علىٰ هذه القوانين والمقرَّرات لكونها منبثقة من نظام الطبيعة والأحكام الشرعيَّة الدينيَّة بحيث لا توجد للإنسان حقوق طبيعيَّة لا يساهم البشر في وضعها أو نبذها، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار التعريف المشهور حاكياً عن توافق جماعيّْ.

(164)

خلاصة الكلام أنَّ هيوم، علىٰ ضوء ربطه الحقوق والعدل بالاتِّفاقيَّات الجماعيَّة والقوانين الوضعيَّة، دافع بشكلٍ علنيٍّ عن النزعة التقليديَّة.

نقد نظريَّة العدل:

نستهلُّ نقد نظريّة العدل التي طرحها هيوم في رحاب نقد فهمه لواقع الإنسان. وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ هذه النظريَّة تتقوَّم علىٰ توجُّهات فكريَّة تجريبيَّة بحتة بالنسبة إلىٰ الإنسان، وضمن هذه الرؤية الضيِّقة الأفق والمحدودة الأُطُر لا يبقىٰ أيُّ دور للعقل والمفاهيم الأخلاقيَّة، والمفكِّر ريموند بلانت أصاب حينما عزا السبب في عدم طرح هيوم تصويراً للإنسان وكأنَّه ذو شخصيَّة غنيَّة ومتكاملة إلىٰ عدم التزامه بالنزعة التجريبيَّة الصريحة والمطلَقة، وهذه الرؤية التجريبيَّة المتشدِّدة تحول بطبيعة الحال دون طرح أيَّة نظريَّة إبستيمولوجيَّة غنيَّة ومتكاملة حول الإنسان سواءً من قِبَل هيوم أم من قِبَل كلِّ فيلسوف آخر يتبنَّاها.

وفقاً لمعايير النزعة التجريبيَّة والأُسس الإبستيمولوجيَّة التي تبنَّاها هيوم، لا يوجد شيء ثابت ومستقرٌّ باسم الذات الإنسانيَّة self، ومن ثمَّ لا يحين الدور لأن يصبح موضوعاً للبحث والتحليل التجريبيّْ. وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّه علىٰ ضوء استناده إلىٰ مدركاته الحسِّيَّة لم يذعن إلَّا لتلك الأمور التي لها تأثير علىٰ قابليَّاتنا الحسِّيَّة والتجريبيَّة، لذا ليس هناك أمر ثابت ومستقرٌّ يمكن أن يعرف باسم الشخصيَّة الإنسانيَّة[1]، أو الذات الإنسانية self.

ليست هناك أيَّة تجربة أو إدراك حسِّيٍّ يمكن علىٰ أساسه طرح مفهوم أو صورة ثابتة للإنسان، لذا نحن لا نمتلك شيئاً بالنسبة إلىٰ معرفة الإنسان سوىٰ إدراكات مشتَّتة ومتباينة بحيث لا يوجد لدينا أيُّ اطِّلاع حسِّيٍّ ثابتٍ ومستقرٍّ نستشفُّ من خلاله واقع المعرفة الإنسانيَّة؛ فنحن نستشعر الخوف والمحبَّة والحرارة والبرودة والجوع والعطش في كياننا، لكنَّنا لا نشعر بوجود أيِّ أمرٍ مستقلٍّ عن ذلك باسم نفسي[2] ، أي أنَّ النفس ليست مستقلَّةً عن إدراكاتنا الحسِّيَّة والتجريبيَّة التي هي في حقيقتها مشتَّتة وعُرضة للتغيير في كلِّ حينٍ، إذ ليس لدينا أيُّ إدراك حسِّيٍّ نتطرَّق إلىٰ التنظير له ولمتبنيَّاته، ومن هذا المنطلق عندما نتحدَّث عن الإنسان بصفته فرداً عادةً ما نشير إلىٰ هذه التصوُّرات والإدراكات التجريبيَّة والحسِّيَّة بدل أن نشير إلىٰ

(165)

التصوُّر الصريح للشخصيَّة الإنسانيَّة والذات الكائنة فيها؛ وهذه الرؤية المعرفيَّة توجب علينا الإذعان بحقيقة تجريبيَّة وثابتة اسمها إنسان، وهو بالطبع حقيقة ثابتة ومستقرَّة في هذا الكون ومن ثمَّ لا بدَّ  من أن يكون مُرتَكَزاً للدراسات الأنثروبولوجيَّة؛ ومن المؤكَّد أنَّها رؤية منكرة من أساسها لأنَّ التجربة والإدراك الحسِّي ليس من شأنهما إثبات هذه الحقيقة المشتركة والثابتة في الذات البشريَّة[1].

من جملة المباحث الهامَّة والأساسيَّة علىٰ الصعيد الإبستيمولوجيِّ، تفنيد النزعة التجريبيَّة المتطرِّفة وبيان الواقع المعرفي للعقل البشريِّ، ولا شكَّ في أنَّ شرح وتحليل هذا الموضوع يتطلَّب تدوين بحث مسهب ومفصَّل، لكنَّ ذلك لا يسعنا في هذه الدراسة الموجزة؛ كما أنَّ الأُسُس الأخلاقيَّة التي تبنَّاها هيوم وإنكار المعارف الأخلاقيَّة الضروريَّة، وربط الفضائل والقِيَم بمبدأ النفعيَّة، وكذلك طرح تفسير تجريبيٍّ للنفعيَّة العامَّة، هي من المباحث الهامَّة للغاية والتي تقتضي شرحاً واسعاً حيث تُدرج ضمن مواضيع فلسفة الأخلاق. مُرادنا من هذه المقدِّمة هو القول أنَّ الأصول الفلسفيَّة لنظريَّة العدل التي طرحها هيوم ترتبط في العديد من جوانبها بقضايا علميَّة متنوِّعة مثل الأنثروبولوجيا والإبستيمولوجيا وفلسفة الأخلاق، لذا فهي في هذا السياق تواجه تحدِّيات ونقداً جادَّاً، ومن ثمَّ إن أُريد لها أن تكون معتبَرةً فلا بدَّ من أن تجتاز هذه التحدِّيات بسلامةٍ ومن دون المساس بمبادئها.

المعضلة الأخرىٰ التي تعاني منها نظريَّة هيوم المذكورة أشرنا إليها في المباحث الآنفة، وهي رأيه القائل بعدم إمكانيَّة استنتاج الوجوب من الوجود، حيث وقع في مغالطة الوجوب والوجود، فهو من جهةٍ أكَّد علىٰ أنَّ العدل منوط بمراعاة القوانين الموجودة بخصوص الملكيَّة لذلك قال لو لم تتمّ مراعاة هذه القوانين لسادت الفوضىٰ في المجتمع، وهذه الفوضىٰ ناشئة بطبيعة الحال من انعدام قانون العدل؛ وعلىٰ هذا الأساس استنتج المعيار الأساسيَّ للعدل وقوانينه واستدلَّ علىٰ كونه فضيلةً - واجباً - من منطلق كونه يضمن تحقيق مبدأ النفعيَّة في المجتمع. ومن جهةٍ أخرىٰ عزا فائدة القوانين إلىٰ كونها وازعاً للحؤول دون وقوع فوضىٰ في المجتمع، أي أنَّ الوجوب والمعيار

(166)

المبدئيِّ يُستنتجان من حقيقة الوجود التي تتمثَّل بالنفعيَّة. والطريف أنَّ هذا الاستدلال هو الأمر ذاته الذي حذَّر منه سائر الفلاسفة والمفكِّرين من أن يخدعوا به!

وفي هذا السياق اعتبر العدل وصفاً لقوانين الملكيَّة، وأكَّد أنَّ المجتمع حينما يفتقد القانون ففي هذه الحالة لا يطرح أيَّ موضوع للبحث حول العدل أو الظلم، إذ من خلال تبلور القانون علىٰ أرض الواقع يتّضح المعنىٰ والمدلول الواقعي للحقوق والعدل، ومن هذا المنطلق يمكن وصف السلوك العادل بأنَّه مراعاة هذه القوانين والالتزام بها.

يبدو أنَّ هيوم غفل عن موضوع في غاية الأهميَّة وهو أنَّ السؤال عن العدل مقدَّم علىٰ القانون الذي هو في الحقيقة موضوع له وللظلم، كما لم يلتفت إلىٰ أنَّ السلوك الخارجيَّ من شأنه أن يتَّخذ كمصداق للسلوك العادل أو الجائر، والقانون بدوره قد يكون عادلاً أو جائراً؛ لذا يطرح السؤال التالي حول كلِّ اتِّفاق ووحدة في وجهات النظير علىٰ الصعيد القانوني: هل يمكن اعتبار هذا القانون مناسباً أو هو ليس كذلك؟ أي هل يُعتبر عادلاً أو جائراً؟ إذا اعتبرنا العدل وصفاً للقانون ودالًّا علىٰ مراعاته وليس معياراً متعالياً تُقيَّم القوانين علىٰ أساسه، ففي هذه الحالة يمكن اعتبار كلِّ قانون متَّصفاً بالعدل علىٰ نحو اللزوم والضرورة مهما كان نوعه ومضمونه، لكنَّ هذا التصوُّر علىٰ خلاف مبادئ العقل السليم. القوانين التي من صياغة البشر والمتحصِّلة من اتِّفاق عدد من الناس أو من غالبيتهم لا يمكنها بحدِّ ذاتها ضمان العدل في كلِّ وضع أو ظرف يمكن تصوُّره.

المأخذ الآخر الذي يرِد علىٰ نظريَّة العدل التي طرحها هي أنّها تُقيِّد قوانين العدل بمفهوم الملكيَّة والمواضيع الثلاثة المرتبطة به، لذا نلاحظ أنَّ بعض الناقدين وشرَّاح آثاره اعتبروا تأكيده المبالغ فيه علىٰ الربط بين العدل والملكيَّة مجرَّد تشويه للحقائق، أو علىٰ أقلِّ تقدير اعتبروا الدواعي السيكولوجيَّة والتأريخيَّة تشير إلىٰ هذه الوجهة الفكريَّة الغامضة؛ فالإنسان لديه متطلِّبات كثيرة أحدها الحاجة إلىٰ المال والملكيَّة المادِّيَّة، كذلك من الناحية المنطقيَّة لا صواب للاعتقاد بأنَّ كلَّ الخلافات والنزاعات التي تحدث بين البشر تضرب بجذورها في ملكيَّة الأمور الشحيحة والنادرة.[1]

الجدير بالذكر هنا أنَّ النظام والقانون لا يقتصران علىٰ نَظْم شؤون الملكيَّة واحتواء الخلافات الماليَّة، بل لهما ارتباط وطيد بالحياة الاجتماعيَّة، وأبعادهما متنوِّعة بحيث يعمَّان

(167)

كلَّ العلاقات بين أعضاء المجتمع. أمَّا نظريَّة هيوم فقد التزمت جانب الصمت إزاء مسألة التوزيع العادل للثروات مثل المصادر الطبيعيَّة، والمناصب السياسيَّة والاجتماعيَّة، ومختلف الوظائف والتكاليف في معترك الحياة، والسبب في هذا التجاهل للحقائق الاجتماعيَّة يعود إلىٰ اعتقاده بأنَّ كلَّ نظام حقوقيٍّ والقوانين بأسرها - مهما كان مضمونها - تتَّسم بالعدل قهراً، لذا ليست هناك أيَّة موضوعيَّة لاختيار معايير أو أنظمة حقوقيَّة خاصَّة باعتبارها مرتكزات أساسيَّة ومثاليَّة لتقسيم الثروات؛ والحقيقة أنَّ فهم هيوم لمبدأ العدل يسفر عن قطع الطريق علىٰ المثُـل المقترحة بخصوص البنية الاجتماعيَّة المثاليَّة والعادلة.

المسألة الأخرىٰ الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي أنَّ نظريَّة هيوم هذه لا تعطي أيَّة إجابة عن السؤال المطروح حول الداعي لضرورة التزامنا بقوانين العدل، ونذكر هنا أنَّ هذا الفيلسوف أنكر وجود أيَّة رغبة أو وازع طبيعيٍّ لدىٰ الإنسان يحفِّزانه علىٰ القيام بسلوكيَّات تندرج ضمن مبدأ العدل، كما عزا مسألة كون العدل فضيلةً إلىٰ مبدأ النفعية، حيث اعتبر الدافع الأساسيَّ لتبنِّي سلوكيَّات عادلة مرهونًا بسنِّ قوانين تضمن إقرار العدل في المجتمع باعتبار أنَّ هذه القوانين تنصبُّ في مصلحة الإنسان وتخدم نزعته النفعيَّة. ربَّما يعمُّ هذا الرأي تلك الموارد التي تنصبُّ القوانين في رحابها بمصلحة فرديَّة والتي يعني الالتزام بها احترام القوانين العادلة بغضِّ النَّظر عن مغالطة الوجوب والوجود؛ لكن هناك الكثير من الحالات التي تتبلور المصلحة الفرديَّة فيها علىٰ ضوء تجاوز القوانين وعدم الاكتراث بها، وفي هذه الحالة حتىٰ وإن كان المرتكز الاستدلاليُّ هو ضرورة الاهتمام بشخصيَّة الإنسان بصفته فرداً والتزامه عمليَّاً بالقوانين التي تضمن إقرار العدل، فليس هناك أيُّ مجال لتطبيق نظريَّة هيوم ومختلف آرائه التي طرحها بخصوص العدل والأخلاق والأنثروبولوجيا.

*   *   *

(168)

المصادر:

1. Hume David, Treatise on Human nature, edited by L.A. selby - Bigge The clarendon press, oxford, 1888.

2. Hume David, An Enquiry concerning the principles of morals, edited by la salle, Illinois, 1966.

3. Barry Brian, Theories of Justice, Harvester-Wheat sheaf, 1989.

4. Hume David, An Inquiry concerning human Understanding and the principles of Morals, edited by L.A. selby - Bigge, revised by P.Nidditch, The clarendon Press, 1975.

5. Harrison Jonathan, Hume`s theory of Justice, clarendon press, oxford, 1981.

6. Plant Raymond, Modern Political thought, Blackwell, 1991.

*   *   *

 

(169)
(170)

القدماء، الوعي البسيط، وشكوكيَّة هيوم

الهويَّة والريبيَّة المفرِطة[1]

 

ماريا ماغولا أداموس[2]

 

يُعدُّ قسم “الفلسفة القديمة” تطبيقاً آخر لمقاربة هيوم الطبيعيَّة تجاه النظريَّات الفلسفيَّة القديمة. وفقاً لهيوم، لا يعدو مفهومنا حول الأجسام اعتبارها مجموعاتٍ “يُشكِّلها العقل من خصائص عدَّة ملموسة ومتمايزة تتألَّف منها الأشياء، ونجدُ أنَّ لديها اتِّحادٌ ثابتٌ مع بعضها البعض”[3]. ولكنَّنا، في تجربتنا اليوميَّة، نُخطئ في اعتبار هذه الخصائص الملموسة والمتمايزة “شيئاً واحداً يبقىٰ علىٰ الحالة نفسها أثناء حصول التغيُّرات الكبيرة”[4].

(171)

وعليه، فإنّنا ننسبُ (بشكلٍ خاطئ) البساطة إلىٰ “التشكُّل المعتَرَف به” للتصوُّرات، والهويَّة لهيئاتها المتباينة. ولكن يقولُ لنا هيوم إنَّ هذا يُعدُّ تناقضاً؛ لأنّ حواسَّنا تُدركُ خصائص متمايزة ومُختلفة تماماً من جهة، ونعتقدُ أنَّ مجموع هذه الأجزاء المنفصلة ينطوي علىٰ اتِّحادٍ وبساطة ثابتَين عبر الزمن من جهةٍ ثانية.

يرىٰ هيوم أنَّ هذا هو السبب الرئيسيُّ الذي دفع القدماء إلىٰ الُّلجوء لمفاهيم المادَّة[1]
أو المادَّة الأوَّليَّة[2] .وإذا كان القدماء قد أرادوا تقديمَ منظومةٍ فلسفيَّة تُنقذنا، نحن أصحاب الوعي البسيط، من تناقضاتنا فحسب، فهو يعتبرُ أنّ إسناداتهم للمادَّة والمادَّة الأوَّليَّة مُتقلِّبة وزائفة، وتنشأ هي أيضاً من المبادئ الأساسيَّة للطبيعة البشريَّة، وهي بالتالي تستحقُّ الدراسة: “إنّني مُقتنعٌ بإمكانيَّة وجود اكتشافاتٍ عدّة مُفيدة يُمكن التوصُّل إليها عبر نقد تخيّلات الفلسفة القديمة في ما يتعلَّق بالموادّْ... والتي بغضِّ النظر عن عدم مقبوليَّتها وتقلُّبها تحظىٰ برابطٍ وثيقٍ للغاية مع مبادئ الطبيعة البشريَّة”[3].

لماذا “نقع علىٰ وجه العموم تقريباً في هذه التناقضات الواضحة؟[4]”. بهدف الإجابة عن هذا السؤال، يُناقشُ هيوم مفهومنا حول “هويَّة الأجسام”. وفقاً لهيوم، حينما تتَّحد مفاهيم الخصائص المنفصلة -ولكن المتسلسلة- للأشياء في علاقةٍ وثيقة للغاية، فإنّ العقل “يُخدَع” حينئذٍ -إن جاز التعبير- ويعتبرُ تسلسل الخصائص المختلفة والمنفصلة شيئاً واحداً “مُستمرَّاً”.

“حينما ينظرُ العقل إلىٰ التسلسل، ينبغي أن ينتقل من جزءٍ منه إلىٰ آخر عبر عمليَّة انتقالٍ سهلة، ولن يُلاحِظ التغيير بعد ذلك وكأنّه ينظرُ إلىٰ شيء غير مُتغيِّر. هذا الانتقال السهل هو نتيجة العلاقة أو جوهرها، والخيال يأخذ بسهولةٍ فكرةً مكان أخرىٰ حينما يكونُ تأثيرهما علىٰ العقل واحداً. وعليه، فإنَّ أيَّ تسلسلٍ للخصائص المرتبطة يُعتبر بسلاسةٍ شيئاً واحداً ومُستمرَّاً وموجوداً من دون تغيير”[5].

(172)

يستخدمُ هيوم هنا مقاربته المعروفة بـ“التَّداعي”[1] ؛ أي أنَّ التَّواصل غير المنقطع للأفكار يخدعُ العقل، وبالتالي فإنَّه ينسبُ الهويَّة إلىٰ “تسلسل الخصائص المرتبطة” الخاضع للتبدُّل. وعليه، لدىٰ مراقبة شيءٍ ما باستمرار عبر سلسلةٍ من التغيُّرات الصغيرة، يقع انتقالٌ سهلٌ من فكرةٍ إلىٰ أخرىٰ، ونعتقدُ أنَّ أمامنا الشيء نفسه (المتطابِق) الثابت عبر الزمن.

فلنسلِّم جدلاً بأنَّ هيوم مُحقُّ في رأيه حول سهولة انتقال الأفكار حينما تجمعها علاقةٌ وثيقة. ولكن ماذا يحصل حينما لا تعودُ العلاقة بين الأفكار وثيقة؟ يقول في هذه الحالة: رغم أنَّ التغيُّرات الصغيرة قد لا تتمُّ ملاحظتها عبر الزمن، إلَّا أنّنا إذا لاحظنا الشيء في مرحلتين زمنيَّتَين مُختلفتَين، تُصبح التغيُّرات واضحة ويُدركها العقل: “التغيُّرات التي كانت غير محسوسة حينما تكوَّنت بشكلٍ تدريجيّْ، تبدو الآن ذات أهميَّة ويبدو أنَّها تُدمِّر الهويَّة بشكلٍ تامّْ”[2]. هنا يبدأ التناقض: من جهة، يرىٰ العقل التغيُّرات الطارئة علىٰ الشيء ولكنَّه يتردَّدُ في نسب هويَّةٍ له، ومن جهةٍ ثانية، يستشعرُ العقل نزعةً قويَّةً لنسب الهويَّة إلىٰ الشيء رغم التغيُّرات التي لاحظها. من أجل حلِّ التناقض، “يختلق” الخيال (مددنا الغيبيّ) شيئاً “مجهولاً وغير مرئيٍّ يستمرُّ في الحالة نفسها أثناء هذه التغيُّرات بمجملها، ويُسمِّي هذا الشيء غير المفهوم المادَّة، أو المادَّة الأصليَّة والأوَّليَّة”[3].

وعليه، يعتبرُ هيوم أنَّ الوعي البسيط يكونُ في حالة تناقض حينما ينسبُ الهويَّة إلىٰ الأشياء. إذا كان هذا هو الحال، لا أرىٰ أيَّ خطأ في المنظومة الفلسفيَّة لأنَّها تُنقذ ظاهريَّاً منظومة الوعي البسيط من التناقض، وذلك عبر ابتكار مفاهيم المادَّة والمادَّة الأوَّليَّة. وهو يرىٰ أنَّ هذا هو بالضبط ما ينبغي علىٰ المنظومة الفلسفيَّة فعلُه، أي “الاقتراب من مشاعر الوعي البسيط”[4]. فضلاً عن ذلك، إذا لم يكن هناك مهرب من ادِّعاء الهويَّة للوعي البسيط كما يبدو من طرح هيوم، يستتبعُ ذلك إمكانيَّة عدم وجود مفرٍّ أيضاً من افتراض القدماء للمادَّة الأوَّليَّة.

ولكن، لعلَّ احتجاج هيوم علىٰ الهويَّة يكتسبُ وضعاً أفضل إذا قُمنا بتبنِّي نظريَّته حول العقل

(173)

(علىٰ افتراض صحَّتها). فإذا كان مُصيباً في اعتقاده بأنَّ التصوُّرات حول الخصائص المحسوسة هي وحدها الموجودة، فإنَّ الشيء الوحيد الذي يُدركه فعلاً الوعي البسيط (والفيلسوف القديم) هو تصوُّره للخصائص - وليس الشيء الذي يمتلكُ تلك الخصائص. كما رأينا، حينما لا يُلاحظ الوعي البسيط أيُّ تغيُّرات في خصائص الشيء - حينما يوجد انتقالٌ سهلٌ للعقل- فإنّه ينسبُ الهوية إليه بسهولة. ويُمكن لنظريَّة هيوم حول التصوُّر استيعاب هذه الفكرة بسلاسة.

السؤال الأهم هو: ماذا يحصل عندما يُحدِّد الوعي البسيط التغيُّرات الطارئة علىٰ خصائص الشيء؟ هل يُصرُّ علىٰ أنَّ الشيء يمتلكُ الخصائص نفسها بهدف نسب الهويَّة إليه؟ أم أنَّه يفترضُ وجودَ مادَّةٍ أو مادَّة أوليَّة للتأكيد علىٰ بقاء الخصائص علىٰ حالها؟ حينما يفهم الوعي البسيط أنَّ خصائص الشيء قد تبدَّلت، ألا يُدرك أنَّه كان قد أصدر حُكماً خاطئاً؟ هنا، يتحتَّمُ علينا أن نعرف أنَّ احتجاج هيوم بالهويَّة في قسم “الفلسفة القديمة” قُدِّم علىٰ ضوء الخصائص وليس الثبات أو الوجود المستمر. وعليه، حتىٰ لو قُمنا بتبنّي نظرية هيوم حول التصوُّر، إلا أنّ الخصائص المختلفة التي يكتسبها الشيء عبر الزمن تُدمِّرُ الهويَّة، ويبدو أن لا شيء يستطيعُ إنقاذ ادِّعاء الوعي البسيط بوجود هويَّة. فضلاً عن ذلك، حتَّىٰ ولو افترضنا وجودَ “مادَّة” أو “مادَّة أوليَّة” في هذه الحالة، فإنَّنا لا نزالُ نعاني من المشكلة نفسها.

علىٰ سبيل المثال، لو تمَّت ملاحظة الخصائص Q التابعة للشيء P -فلنفترض أنَّ هذا الشيء هو شجرة سنديان- خلال مرحلتين مُختلفتَين ومُتباعدَتَين، فإنَّ الخصائص Q سوف تختلف تماماً عن بعضها البعض في هذين الوقتين. في هذه الحالة، يتحتَّم علىٰ الوعي البسيط الاعترافَ بأنَّ الشيء P في الوقت الأول يُصبح P مُختلفاً في الوقت الآخر (علىٰ افتراض كون نظريَّة هيوم عن الوجود المستقلِّ للتصوُّرات صحيحةً). إذا كان مُحقَّاً في اعتقاده بأنَّ تصوُّرات الخصائص وحدها موجودة، إذاً حتَّىٰ لو “اختلق” الوعي البسيط مفهومَ المادَّة إلا أنَّه لا يستطيع إنقاذ دعواه ببقاء الخصائص علىٰ حالها خلال المرحلتَين الزمنيَّتَين. لقد تغيَّرت خصائص P ولا يبدو أنَّ هناك شيءٌ ما يستطيعُ جعلها مُتطابقة. ولكن، بما أنَّ فرضيَّة المادَّة لا تستطيع إنقاذ الادِّعاء بتطابق P في الوقتين من حيث النوع، فإنّ نزعتنا نحو نسب الهويَّة لا يُمكن أن يُفسِّر لماذا ينبغي أن نقوم نحن (أو القدماء) باختلاق المادَّة.

يبدو أنَّنا إذا لم نملك مُسبقاً مفهوماً عن المادَّة حيث تكون جميع هذه الخصائص المختلفة مُتأصِّلة، فإنَّ ادِّعاء وجود الهويَّة فيما يتعلَّق بالخصائص المختلفة ليس فعَّالاً في الواقع. بتعبيرٍ

(174)

آخر، يبدو أنَّه إذا لم نملك مُسبقاً مفهوماً عن المادَّة يُمكِّننا من القول بأنَّ الشيء يبقىٰ علىٰ حاله رغم التغيُّر الطارئ علىٰ خصائصه، فإنَّ افتراض المادَّة بعد مُلاحظتنا أنَّ الخصائص هي مُختلفة لا يُساعد ادِّعاءنا علىٰ وجود الهويَّة. لن تجعلنا هذه الفرضيَّة نظنُّ أنَّ الخصائص التي لاحظنا كونها مُختلفة أصبحت مُتطابقة الآن. بهدف نجاح ادِّعائنا علىٰ وجود الهويَّة، نحتاجُ أولاً إلىٰ تشكيل مفهومٍ عن بساطة المادَّة لكي نُكوِّن مفهوماً عن الشيء، ومن ثمَّ نستطيعُ نسبَ الهويَّة له. سوف يُمكِّننا هذا من الإعلان أنَّ الشيء الذي لاحظناه في الوقت الأوَّل هو مُشابهٌ للشيء الذي لاحظناه في الوقت الثاني[1].

إذا كنتُ مُحقَّاً، فإنَّ بيان هيوم للكيفيَّة التي نقومُ من خلالها - نحن أصحاب الوعي البسيط- في نسب الهويَّة للأشياء يتداعىٰ. ذلك أنَّه حتىٰ لو قبلنا نظريَّته حول التصوُّرات، إلَّا أنَّ تحليله غير مُرضٍ لأنَّه لا يشرح كيف تحلُّ فرضيَّتنا المتعلِّقة بالمادَّة أو المادَّة الأوَّليَّة التناقضات التي يتَّهمنا بها. يُظهر لنا هذا بدوره شيئين:

يُخطئ هيوم في نقده للنظريَّات الفلسفيَّة القديمة علىٰ ضوء افتراضها للمادَّة، وذلك لأنَّها تُقدِّمُ بياناً أفضل عن الهويَّة ممّا يُقدِّمه، وفي الوقت نفسه تتمكّن من “البقاء قريبةً من مشاعر الوعي البسيط”.

لا يبقىٰ الوعي البسيط مع اعتقاداتٍ مُتناقضة فحسب، بل مع الإحباط والضيق أيضاً لأنَّه إذا تبنَّىٰ الرأي الفلسفيَّ المتعقِّل (الشبيه برأي هيوم) فلن يتمكَّن أبداً من التخلُّص -أو علىٰ الأقل من توضيح- أحكامه الخاطئة. بالفعل، فإنَّ تحليله غير المرضي يؤدِّي بنا إلىٰ شكوكيَّةٍ مفرِطة؛ لأنَّه يُظهر عدم وجود تبريرٍ لمعتقداتنا الطبيعيَّة وأيضاً عدم كوننا في موقعٍ يسمحُ لنا بتقديم شرحٍ لها حتىٰ ولو قُمنا بتبنِّي موقفه الفلسفي المتعقِّل.

(175)

رأي هيوم بالبساطة

   هل إنَّ نقاش هيوم حول “بساطة الموادِّ” هو أكثر إقناعاً؟ إنَّه يستخدمُ مُقاربة التَّداعي هنا أيضاً. وحينما يُلاحظُ العقل “شيئاً” تكونُ أجزاؤه مُرتبطة بشكلٍ وثيق ببعضها البعض عبر “علاقةٍ قويَّة”، فإنَّه يعتبرُ الشيء واحداً: “ترابط الأجزاء في الشيء المركَّب يملكُ التأثير نفسه تقريباً، وبالتالي فإنّه يُوحِّدُ الشيء ضمن نفسه فلا يشعرُ الوهم بالانتقال من جزءٍ إلىٰ آخر. وعليه، يتمّ إدراك اللّون والطَّعم والشَّكل والصَّلابة وغيرها من الخصائص المجتمِعة في خوخة أو بطّيخة علىٰ أنّها تُشكِّلُ شيئاً واحداً”[1].

ولكن هنا، علىٰ خلاف قضيَّة الهويَّة، لا يكونُ العقل مُدركاً للخطأ - الأقل من وجهة نظر الوعي البسيط:

“حينما ينظرُ (العقل) إلىٰ الشيء من منظورٍ آخر، يجدُ أنَّ جميعَ هذه الخصائص مُختلفة وقابلة للتمييز ومُنفصلة عن بعضها البعض. إنَّ رؤية الأشياء علىٰ نحوٍ يُدمَّرمفاهيم (العقل) الأوَّليَّة والأكثر طبيعيَّة يفرضُ علىٰ الخيال اختلاق شيءٍ مجهول أو مادَّة أصليَّة كمبدأٍ مُوحِّد لهذه الخصائص، ويمنحُ الشيء المركَّب صفة الوحدة بغضِّ النَّظر عن تنوُّعه وتكوينه”.[2]

فلنفترض أنَّنا استطعنا مُلاحظة العالم “من منظورٍ مُختلف”، كما يقترحُ هيوم، ولكن مع ذلك سوف نُواجه التناقضات. وإذا قُمنا بتبنِّي وجهة نظر الوعي البسيط، سوف نرىٰ الأشياء البسيطة التي تُشكِّلُ أجزاؤها مجموعاً مُوحَّداً. ولكن إذا تبنَّينا وجهة النَّظر الفلسفيَّة، سوف نُدرك أنَّ الشيء يتشكَّل من  أجزاء عدَّة مُتمايزة ومُفكَّكة. بهدف تحرير نفسه من التناقضات، يختلقُ الخيال (مجدَّداً) “شيئاً مجهولاً أو مادَّة أصليَّة، كمبدأٍ مُوحِّد لهذه الخصائص، ويمنحُ الشيء المركَّب صفة الوحدة بغضِّ النَّظر عن تنوُّعه وتكوينه” (كما مرّْ)[3]. وعليه، وفقاً لهيوم، يفترضُ العقل مادَّة “أصليَّة” لكي يُنقذ نفسه

(176)

من التناقضات الكامنة في رؤية الوجودات المنفصلة للخصائص المختلفة للشيء وبساطته في آنٍ واحد.

للأسف، سوف يتبيَّن لنا أنَّ هذه الحجَّة لا تخلو من إشكال أيضاً. فلنفترض أنَّنا نُوافق مع هيوم علىٰ كون الخصائص المحسوسة وجوداتٍ مُنفصلة في الواقع، ولنتخيَّل أنّ لون التُّفاحة وطعمها الحلو هما وجودان مُتمايزان ومُنفصلان، بمعنىٰ أن يبقىٰ اللون علىٰ حالته في وقتٍ ما في المستقبل بينما يختفي الطَّعم الحلو (أو بالعكس)، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ الَّلون الأحمر للتفاحة (في تلك اللحظة) يُمكن أن يوجد بنفسه مُنفصلاً عن الطعم أو الخصائص الأخرىٰ للتفاحة. بالفعل، يبدو أنّ هيوم يُنكر إمكانيَّة الوجود المتميِّز والمنفصل للخصائص في القسم السابع من الفصل الأول. فهو يدَّعي كون اللون والشكل مجرَّد تمييزاتٍ عقليَّة:

حينما تُقدَّم كُرة مصنوعة من الرخام الأبيض، فإنَّنا نتلقّىٰ فقط انطباع اللون الأبيض المكوَّن بشكلٍ مُحدَّد، ولا نستطيع فصلَه وتمييزه عن الشكل. ولكن حينما نُلاحظ بعدها كُرةً مصنوعةً من الرخام الأسود ومُكعَّباً أبيض ونُقارنهما بالشيء السابق، نجدُ تشابهَين مُنفصلَين في ما كان يبدو سابقاً، وهو كذلك فعلاً، غير قابل للانفصال تماماً. بعد المزيد من التدريب علىٰ هذا النحو، نبدأ بالتفريق بين الشكل واللون عبر التمييز العقليِّ، أي ننظر إلىٰ الشكل واللون معاً لأنَّهما بالفعل عينُ الشيء وغيرُ قابلَين للتمييز، ولكن مع ذلك، ننظر إليهما علىٰ ضوء أبعادٍ مُختلفة ووفقاً للتشابهات التي هما عُرضةً لها. حينما ننظر إلىٰ كرة الرُّخام الأبيض فقط، نُكوِّن في الواقع فكرةً عن الشكل واللون معاً، ولكنّنا نُوجِّه أنظارنا ضمنيَّاً إلىٰ تشابُهها مع كرة الرخام الأسود. وبالطريقة نفسها، حينما ننظرُ إلىٰ اللون فقط، نُوجِّه أنظارنا إلىٰ تشابُهه مع المكعَّب الأبيض الرخاميّْ”[1].

يبدو هنا أنَّ خصائص التفاحة، كخصائص الرُّخام، لا يُمكنها أن تُشكِّل وجوداتٍ مُتمايزة ومُنفصلة، بمعنىٰ إمكانيَّة وجودها من دون بعضها الآخر، في النهاية. السبب هو أنَّ لون التفاحة وطعمها هما فقط تمييزاتٍ عقليَّة، وعليه، لا يُمكنهما تشكيل وجوداتٍ متمايزة مُنفصلة. ولكن، إذا كان هذا هو الحال، فإنَّ تحليل هيوم لبساطة المادَّة هو مُجدَّداً غير مُرضٍ لأنَّه إذا لم يتمكَّن من إثبات امتلاك تصوُّرات الخصائص لوجوداتٍ

(177)

مُنفصلة -وبالتالي غير قابلة للتمييز- يبدو إذاً أنَّنا لا نقومُ نحن، أصحاب الوعي البسيط، بارتكاب الأخطاء حينما ننظرُ إلىٰ الشيء كمجموعٍ موحَّد. يُمكن لهذا بدوره أن يوضح كيف ننسبُ الهوية إلىٰ الشيء عبر الزمن: نقومُ أولاً بتكوين مفهوم بساطة المادَّة حيث تكونُ جميع الخصائص متأصِّلة، ومن ثمّ يُمكننا أن نقول بأنَّ الشيء يبقىٰ علىٰ حاله حتىٰ بعد تغيُّر خصائصه.

خلال مسعاه لتقديم الإجابة عن سبب وقوعنا في التناقضات حينما يتعلَّق الأمر ببساطة المواد، يُخبرنا هيوم أنَّ الإجابة تكمنُ في عادة التخيُّل. ومن المفاجئ أنّه يُساوي عادتنا المتمثِّلة بالاستدلال من الأسباب إلىٰ النتائج بعمليَّة استنباط المادَّة أو المادَّة العرضيَّة: “العادة نفسها التي تجعلنا نستدلُّ علىٰ وجود علاقةٍ بين السبب والنتيجة تجعلنا نستدلّ هنا علىٰ اعتماد كلِّ خاصيَّة علىٰ مادَّة مجهولة”[1].

ولكن إذا كان هذا هو الحال، يُمكن لنا أن نتساءل: لماذا يُثيرُ هيوم صخباً عالياً ضدَّ الفلسفة القديمة، مُدَّعياً أنّ أولئك الفلاسفة أسوأ من الأطفال والشعراء؟ إذا كانت العادة نفسها - التي تجعلنا نستدلُّ علىٰ النتائج من الأسباب- تجعلنا ننسب “اعتماد كلِّ خاصيَّة علىٰ مادة مجهولة”، فإنَّ استنتاج القدماء يبرز بشكلٍ طبيعيٍّ، وبالتالي لا ينبغي إلقاء اللّوم عليهم. فضلاً عن ذلك، إذا كانت العادة التي تجعلنا نستدلُّ علىٰ “اعتماد كلِّ خاصيَّة علىٰ المادَّة المجهولة” مُتشابهة مع تلك العادة التي تجعلنا ننطلق بالاستدلال من السبب إلىٰ النتيجة، يستتبعُ ذلك إذاً أن يكون قد انبثق الاثنان من مبادئ الخيال نفسها.[2][3].

يُمكن أن يسأل أحدهم: إذا كان هيوم يعتبرُ أنَّ الخيال هو “الحاكم” الوحيد في جميع المنظومات الفلسفيَّة، كيف يُمكننا إذاً تبريرَ نظريَّته الفلسفيَّة الخاصة؟ يكمنُ جوابه في الفقرة الافتتاحيَّة من قسم “الفلسفة الحديثة”. في لحظةٍ من النقذ الذاتيِّ، يعترفُ قائلاً: “ولكن

(178)

يُمكن الاعتراض هنا (علىٰ ضوء فكرتي) بأنَّ الخيال هو الحاكم الأعلىٰ في جميع المنظومات الفلسفيَّة -وفقاً لاعترافي الشخصيِّ- بأنَّني غير مُنصف في إلقاء اللّوم علىٰ الفلاسفة القدماء بسبب توظيفهم لهذه المقدرة والسماح لأنفسهم بالاسترشاد بها بشكلٍ تامٍّ في استدلالاتهم”[1]. وهنا نراه يُقدِّمُ جواباً علىٰ هذا الاعتراض يُفيدُ وجودَ فرقٍ بين مبدأيْ الخيال.

“لكي أُبرّر رأيي، ينبغي أن أميِّز، في الخيال، بين المبادئ الثابتة، وغير القابلة للمقاومة، والشاملة كالانتقال المعهود من الأسباب إلىٰ النتائج ومن النتائج إلىٰ الأسباب، وبين المبادئ القابلة للتبدُّل والضعيفة وغير المنتَظَمة كتلك التي لاحظتها للتوّْ (في ما يتعلَّق بالموادِّ، والهيئات الصلبة، والطوارئ، والخصائص التنجيميَّة). تُشكِّلُ الأولىٰ أساس جميع أفكارنا وأفعالنا، وفي حال أُزيلت (هذه المبادئ) تهلك الطبيعة البشريَّة فوراً، وتذهب نحو الخراب. أمّا الثانية، فيُمكن للبشريَّة تفاديها ولا تُعدُّ ضروريَّة أو حتىٰ مُفيدة في السلوك الحياتيّْ”[2].

وعليه، يعتبرُ هيوم أنَّ إيماننا بالأسباب شامل ولا يُمكن تفاديه، بينما الاعتقاد القديم بالمادَّة غير مُفيد وغير ضروريٍّ في تجربتنا اليوميَّة. هذا يعني أنَّه لن يُنشئ منظومةً فلسفيَّة وفقاً لوهمه. وعليه، يعتقدُ أنَّ المجموعة الأولىٰ للاستدلال (أي إيماننا بالأسباب) ليست محلَّ إشكالٍ علىٰ الإطلاق ولكنَّ المجموعة الثانية هي محلَّ إشكالٍ وغير نافعة أيضاً[3].

حتىٰ لو اعترفنا بأنَّ افتراض القدماء للمادَّة والمادَّة الأوَّليَّة هو غير ضروريٍّ ومحلَّ إشكال، يبدو غريباً ما يقوله هيوم عن الهويَّة في القسمين الثاني والرابع من كتابه، لأنّه من المستبعد جداً أن نُفكِّر -نحن أصحاب الوعي البسيط- بالطريقة التي يصفها. كما الفلاسفة القدماء، نعتقدُ نحن بوجود شيءٍ في العالم غير تصوُّراتنا عن الخصائص. ذلك أنّنا نعتقدُ بأنَّ العالم بتألَّف من أشياء مادِّيَّة ملموسة تبقىٰ علىٰ حالها مع مرور الزمن. يترتَّب علىٰ ذلك أن لا يكون الفلاسفة القدماء وحدهم  من ينسبون المادَّة إلىٰ عالمنا الخارجيّْ، بل أصحاب الوعي البسيط أيضاً. بالتالي، فإنَّ مفهوم المادَّة القديم “المختلَق” ينتمي إلىٰ النوع الأول من مبادئ الخيال

(179)

التي يذكرها هيوم؛ لأنّه يبدو “شاملاً وغيرَ قابلٍ للتفادي وللمقاومة”. مُجدداً، يمكن القول إنَّه يبتعدُ عن مشاعر الوعي البسيط أكثر من القدماء.

شكوكيَّة هيوم

الفيلسوف الحقيقيُّ، وفقاً لهيوم، يتَّصفُ بشكوكيَّةٍ مُعتدلة، وتتمثَّل نصيحته لـ”الفيلسوف الحقيقيِّ” في الفرار أولاً من الفلسفة الزائفة، والإقرار بأنّنا “لا نملك فكرةً أو قوةً أو فاعليَّة مُنفصلة عن العقل” في ما يتعلَّق بالعلاقات اللَّازمة في الطبيعة. “أيُّ شيءٍ أكثر إيلاماً من البحث بحماسةٍ عمَّا يستعصي علينا دائماً، والسعي وراءه في مكانٍ يستحيل أن يوجد فيه؟”[1]. وعليه، يتحتَّم علىٰ الفيلسوف اكتسابَ “الفلسفة الحقيقيَّة” من خلال العودة إلىٰ حالة الوعي البسيط، والنظر إلىٰ “جميع هذه الأبحاث بالجمود واللَّامبالاة”[2].

يبدو أنَّ هيوم يمتلكُ شكوكيَّةً “مُفرطة”، لأنّه كما رأينا، يعتبرُ أنَّه حينما تخضعُ مُعتقداتنا الطبيعيَّة لتأمُّلٍ نقديٍّ فإنَّها تفقدُ أيَّ نوعٍ من التبرير. وعليه، لا يُمكن أخذ نصيحة هيوم بامتلاك “شكوكيَّة مُعتدلة” علىٰ محمل الجدّ. بالفعل، يؤدِّي بيانه غير الوافي عن الهويَّة إلىٰ “شكوكيَّة مُفرِطة” أشدِّ الإفراط، ولا أرىٰ كيف يُمكن له الفرار من اتِّهامه بالتناقض. إذا كان يدَّعي أنَّه “فيلسوفٌ حقيقيٌّ”، ينبغي إذاً أن تنبثق استنتاجاته بعد التأمُّل النقديّْ. وإن كان  “الفيلسوف الحقيقيُّ”، غير قادرٍ علىٰ تقديم شرحٍ وافٍ عن اعتقادنا الطبيعيِّ بالهويَّة، يبدو إذاً أن لا شيء يستطيعُ فعلاً إرشادنا إلىٰ الحقيقة. ولكن هذا الاستنتاج يتجاوزُ (مُجدَّداً) حدودَ “الشكوكيَّة المعتدلة”[3].

(180)

الخاتمة

بإيجاز، يُعدُّ هذا البحث محاولة لإظهار كيف أنَّ بيان هيوم للهويَّة علىٰ ضوء الخصائص هو غير وافٍ. فقد فشلت حُجَّته حول “عدم جدوىٰ” فرضيَّة الفلسفة القديمة في ما يتعلَّق بـالمادَّة والمادَّة الأوليَّة في إقناعنا. لو كان يعتقدُ فعلاً بأنَّ الفلسفة الحقيقيَّة ينبغي أن تكون أقرب إلىٰ “مشاعر الوعي البسيط”، لبدا أنَّ الفلسفة القديمة تتوافق بدقَّة مع هذا التوصيف؛ لأنّها تُتيح بياناً أكثر معقوليَّةً عن الهويَّة ممَّا يُقدِّمه. أمَّا نحن أصحاب الوعي البسيط فنعتقدُ أنَّ العالم الخارجيَّ يتألَّف من الأشياء المادِّيَّة البسيطة الملموسة التي تبقىٰ علىٰ حالها مع مرور الزمن.

بناءً علىٰ ذلك، لا يُمكن لدعوىٰ هيوم إيَّانا إلىٰ امتلاك “شكوكيَّة معتدلة” إقناعنا؛ لأنَّه هو نفسه يمتلكُ شكوكيَّةً “مُفرِطة” من خلال تقديم تناقضٍ أساسيٍّ بين مُعتقداتنا الطبيعيَّة من جهة، وبين مُعتقداتنا الطبيعيَّة واستدلالنا الفلسفيِّ من جهة أخرىٰ. فضلاً عن ذلك، لا يدع شرحه غير الوافي حول هويَّة الموادِّ وبساطتها مكاناً لشكوكيَّةٍ “مُعتدلة” علىٰ الإطلاق.

(181)

المصادر

1- vFogelin, R. J. (1985). Hume’s Skepticism in the Treatise of Human Nature. London: Routledge & Kegan Paul.

2- Hume, D. (1978). Treatise of Human Nature. L.A. Selby-Bigge (ed.). Oxford: Oxford University Press.

3- Penelhum, T. (1968 [1888]). „Hume on Personal Identity‟. In: V.C. Chappell (ed.) Hume. New York: Anchor Books.

4- Smith, N. (1941). The Philosophy of David Hume. London: Macmillan.

5- Strawson, G. (2011). The Evident Connexion: Hume on Personal Identity, Oxford: Oxford University Press.

6- Stroud, B. (1977). Hume. London: Routledge & Kegan Paul.

7- __________ (1991).”Hume’s Scepticism: Natural Instincts and Philosophical Reflection” in Philosophical Topics. 19: 1: 15 -40.

 

(182)

 

 

 

 

 

 

القسم الثاني

هیوم و الدین

(183)
(184)

جدل العلاقة بين الذِّهن والعين،

 نقد العلاَّمة مطهَّري لأطروحات هيوم[1]

 

علي دجاكام[2]

   

يعتقد معظم الناس، بمن فيهم أصحاب النزعة المادِّية، بوجود ارتباطٍ مباشرٍ بين الذِّهن والعالم الخارجي، وهذه الوجهة المعرفيَّة تندرج في ضمن مباحث المعقولات الأولىٰ الفلسفيَّة، والثانية - الفلسفيَّة والمنطقيَّة - لذا يقولون إنَّ جميع المعلومات المتحصِّلة في أذهاننا حول العالم المحيط بنا، إنَّما هي من العلم الحصوليِّ الذي يظفر فيه الذِّهن بالمفاهيم والصور الذِّهنيَّة من دون واسطةٍ، ولهذه المفاهيم خصوصيَّةٌ من حيث كونها مرآةً للخارج؛ إذ يتخيَّل الإنسان للوهلة الأولىٰ أنَّه قد أدرك ما حوله من حقائق مباشرة، ثمَّ يقول في المرحلة الثانية إنَّ هذه المفاهيم التي أتصوَّرها عن الأرض والسماء مثلاً، لها وجودٌ في الخارج، وفي المرحلة الثالثة يقول إنَّ منشأ ظهور التصوُّرات الذِّهنيَّة هو التأثيرات الخارجيَّة.

إنَّ الرؤية الديالكتيكيَّة تَعدُّ الإنسان مجرَّد معلولٍ لمصالحه الماديَّة والاقتصاديَّة، وهذه المصالح هي التي تفرض عليه تطوير وسائل الإنتاج، وعليه فكلُّ ما لديه من مشاعر ورغبات

(185)

وأحكام وقدرات، ليست في الواقع سوىٰ انعكاسٍ للظروف البيئيَّة والطبيعيَّة والاجتماعيَّة التي يعيش في كنفها؛ لأنَّه مجرَّد مرآةٍ تعكس ما يحيط به، وهو في واقع الحال لا يقدر علىٰ القيام بأيَّة حركةٍ مخالفةٍ للأوضاع المحيطة به.

أمَّا بالنسبة إلىٰ المعقولات الثانية، فنجدُ بعض الفلاسفة من أمثال كانط، قد جرَّدوها بالكامل عن المعقولات الأولىٰ، وهذا الأمر أيضاً غير صائبٍ حالُه حال عدِّ المفاهيم الذهنيِّة بأنَّها صورٌ مباشرةٌ للأشياء؛ وفي هذه الحالة لا يبقىٰ علمٌ ولا معرفة.

ومن المفيد القول إنَّ الذِّهن لو أراد القيام بنشاطٍ علميٍّ ومعرفيٍّ، فلا بدَّ له عندئذٍ من انتزاع صور الأشياء وفق ضوابط ومعايير خاصَّة، وهذا يعني أنَّ هذه الانتزاعات هي تصوُّرٌ غير مباشرٍ لما هو موجود في الخارج؛ أي أَّنها صورٌ ذهنيَّةٌ منتزعَةٌ للصور الخارجيَّة. الصور الأوَّلية حينما تدخل في الذِّهن البشريِّ ينتزع منها معاني أخرىٰ تنطبق بشكلٍ غير مباشرٍ علىٰ النوع الموجود في الخارج، لذا لا يمكن أن يكون علمنا بها جهلاً.

في هذا السياق، يعتقد معظم الناس بأنَّ كلَّ ما يتصوُّره الذهن لا بدَّ من أن يكون هناك وجودٌ مباشرٌ بإزائه، ويقولون إنَّ هذا الشيء حتَّىٰ وإن لم يكن موجوداً في عالم الأعيان، لكنَّه في الحقيقة شيءٌ وليس تخيُّلاً عبثيًّا لا واقع له. إحدىٰ الشبهات التي طرحوها هي: هناك عدد من القضايا التي تكون مواضيعها عدميَّة - أي ليس لها مصداقٌ خارجيٌّ - إذ نُخبر عنها، مثلاً يُقال: (في يوم الجمعة المقبل سيحدث كذا)، ومن الطبيعيِّ أنّ الحادث (كذا) يُعدُّ معدوماً اليوم، لكنَّنا علىٰ أيِّ حالٍ قد أخبرنا عنه، وهذا الإخبار يدلُّ علىٰ أنَّ هذا العدم (كذا) هو شيءٌ وليس لا شيء؛ إذ ليس من الممكن الإخبار عن لا شيء. ويضيفون أنَّ اللّاشيء المطلَق لا يصلح لأن يُخبَر عنه.

علىٰ هذا الأساس، رفض هؤلاء قاعدة (المعدوم لا يُخبَر عنه)، وقالوا إنَّ الصحيح هو أن تكون القاعدة كما يأتي: (اللّاشيء المطلَق لا يُخبَر عنه). وخلاصة كلامهم أنَّ المعدومات التي نخبر عنها لها شيئيَّة حتَّىٰ وإن كانت غير موجودة.

كذا هو الحال بالنسبة إلىٰ سائر الشُّبهات التي طرحوها؛ إذ نستشفُّ منها أنَّهم لم يدركوا حقيقة القضايا المرتبطة بالاعتبارات الذِّهنيَّة ولم يتمكَّنوا من التمييز بين الأمور الانتزاعيَّة وغير الانتزاعيَّة بشكلٍ صائبٍ مُتصوّرين أنَّ كلَّ مفهومٍ يكتنف الذِّهن يجب أن يكون من سنخ

(186)

المعقولات الأولىٰ، ولا بدَّ من وجود ما بإزائه في الخارج، أي أنَّهم يَعدُّون الذِّهن كالمرآة التي تعكس صورة الشيء الموجود في الخارج[1].

 الاستنباط (حركة الذِّهن الباطنيَّة):

كما أنَّ الذِّهن قادرٌ علىٰ صياغة النظريَّات وإعمامها، كذلك فالنشاطات التي يقوم بها علىٰ صعيد التصديق لا تقتصر علىٰ عمليَّة التنظير هذه، لذا فإنَّ معارف الإنسان ليست محدودةً بصياغةٍ نظريَّةٍ تمَّ تعميمها فحسب. وللذِّهن وظيفةٌ أخرىٰ تتمثَّل في عمليَّةٍ عقليَّةٍ يُطلَق عليها (استنباط)، وهذا الاصطلاح ينطبق إلىٰ حدٍّ ما مع أُطروحة الفيلسوف الغربيِّ برتراند راسل الذي عدَّ النشاط الذِّهنيَّ في هذه الحالة نمطاً من أنماط الحركة الباطنيَّة.

جدير بالذكر أنَّنا حينما نحلِّل معلوماتنا ومعارفنا بشكلٍ صائبٍ نجد كثيراً منها معقولاتٍ أوَّليةً انطبعت في أذهاننا من دون واسطةٍ، لكن لو تأمَّلناها جيَّداً لوجدناها عبارةً عن سلسلة استنباطاتٍ توصَّلنا إليها عبر نشاطاتنا الذِّهنيَّة[2]. مثلاً، نحن نقبل في بادئ الأمر كون المادَّة من مقوِّمات المعقول الأوَّلي الذي نعلم بوجوده مباشرةً، لكنَّنا إن تعمَّقنا في إدراكنا هذا فسوف لا نجد أيَّ إدراكٍ مباشرٍ للمادَّة في ذهننا؛ فنحن نُدرك لون أحد الأشياء، لكنَّ هذا اللّون في الواقع ليس الشيء ذاته،[3] كما ندرك حجمه، إلَّا أنَّ هذا الحجم ليس ذاته؛ إذ من الممكن لهذا الشيء أن يتَّصف بلونٍ وحجمٍ خلافاً لما هو موجود. وكذا هو الحال بالنسبة إلىٰ جميع صفاته المادِّية، كالحرارة والبرودة والنعومة والخشونة والرائحة، وما إلىٰ ذلك من صفاتٍ ملموسةٍ أخرىٰ.

لم يكتفِ ديفيد هيوم بإنكار وجود الجوهر النفسانيِّ المستقلّ، بل أنكر أيضاً وجود الجوهر المادِّي الخارجيِّ الذي تُعدُّ الأعراض الطبيعيَّة من حالاته؛ إذ ادَّعىٰ أنَّنا نستنتج من الإحساس والتجربة وجود سلسلةٍ من الأمور المسمَّاة بالأعراض والحالات، أمَّا وجود الجوهر الجسميِّ الذي هو منشأ حالات الضمير والوجدان فلا تؤيِّده التجربة، ولا يشهد له الحسّ.

هيوم وأتباعه يُعدُّون النفس سلسلةً من التصوُّرات المتعاقبة التي تظهر في الذِّهن، لذلك

(187)

قال: «لـِمَ يجب عليَّ افتراض وجود جوهرٍ مادِّيٍّ؟!حينما أثق بشعوري، أجد وجود بعض الأعراض لكنَّني لست قادراً علىٰ معرفة جوهرٍ يمكن عدُّه مادَّةً لها». إلَّا أنَّ متبنَّياتنا الفكريَّة تفرض علينا عدم موافقته في ذلك، فنحن نؤمن بوجود جواهر الأشياء عن طريق الاستنباط؛ ولكن كيف يتمُّ الاستنباط هنا؟ للإجابة عن هذا السؤال نقول: الاستنباط يبدأ بسلسلةٍ من العلائم والدلالات التي تكتنف ذهن الإنسان وتُعينه علىٰ فهم ما لا يمكن إدراكُه بشكلٍ مباشرٍ، وبعد ذلك يقوم الذهن بعمليةٍ دقيقةٍ لاستكشاف حقائق الأمور. إذن، عملية الاستنباط تختلف عن الإعمام، فهي عبارةٌ عن تعمُّقٍ في باطن الذهن لمعرفة حقائق الأُمور التي لا يمكن تحصيلها عن طريق الحسِّ وحده، فالحسُّ مجرَّد علامةٍ تُرشد الذِّهن إلىٰ موضوع الاستنباط بصفته نوراً يهتدي به التائه في البيداء ليلاً.[1]

قيمة المعرفة الحسِّيَّة:

يعتقد ديفيد هيوم أنَّ الإنسان بإمكانه الاطمئنان لكلِّ ما يدركه الذِّهنُ عن طريق الحواسِّ، فالمعلومات برأيه متحصِّلةٌ من ارتباطه بعالمه الخارجيِّ؛ ومن ثم  فكلُّ ما يكتنفه من مسائل غير محسوسةٍ هي في الحقيقة لا تعدو كونها مجرَّد أوهامٍ تُراوده وتخيُّلاتٍ من صناعته لا غير، لذا فهي عاريةٌ من أيَّة قيمةٍ معرفيَّةٍ.

وقال لو أنَّنا أعَرنا لكلِّ أمرٍ وهميٍّ تتخيَّلُه أنفسنا أهميَّةً، وأضفينا عليه قيمةً، سنقع في محذورٍ لا محالة، وفي نهاية المطاف سوف نصل إلىٰ نفقٍ مظلمٍ لا مخرج منه، ومن ثم لا تبقىٰ أيَّة قيمة لمعارفنا لأنها لا تعيننا علىٰ إدراك الحقيقة من بين كلِّ تلك الأوهام الزائفة.

أمَّا اقتراحه لحلِّ هذه المعضلة الفكريَّة، فهو عدم التمييز بين النمطين اللّذين طرحهما إيمانوئيل كانط؛ لأنَّهما يتعلَّقان بعالم المادَّة والحواسِّ، في حين أنَّ التصوُّرات متعلِّقةٌ بعالم الذِّهن؛ لذا لا بدَّ من وجود ارتباطٍ بين العلم والمعلوم.

لا ريب في أنَّ الإشكال الذي يُطرح علىٰ رأي هيوم هذا، يكمُن في أنَّ الارتباط الذي يدَّعيه غير كافٍ لإثبات المطلوب علىٰ وفق متبنَّياته الفكريَّة، فاعتبار أنَّ هذه التصوُّرات علىٰ نوعين - منها ما هو موجود في الخارج ومنها من صياغة الذِّهن - يرِدُ عليه أنَّ الذِّهن عاجزٌ عن إبداع

(188)

شيءٍ من تلقاء نفسه، فما يتصوَّره عبارةٌ عن معقولاتٍ أوَّليةٍ ترتكز عليها المعقولات الثانية؛ وفي هذه الحالة تُحلُّ معضلة المعرفة التي احتار بها هذا الفيلسوف. المعقولات الأولىٰ هي ذات الماهيَّات الموجودة في الخارج، ومن ثمَّ انطبعت في الذِّهن، وقد اتَّصفت بميزاتها الخاصَّة نظراً لأنَّها مكنونةٌ في وعاء العقل، فهي الأمور الخارجيَّة نفسها لكنَّها تتَّصف بطابعٍ آخر عند حلولها في الذِّهن، ومن ثم  فهي ذات صلةٍ عينيَّةٍ بالعالم المادِّي.

إذًا، هناك فرقٌ بين ادِّعاء أنَّ الصورة المحسوسة تلِجُ في الذِّهن من العالم الخارجيِّ فتمتزج مع تلك التصوُّرات التي صاغها الذِّهن من تلقاء نفسه ليركِّب منها أموراً خاصَّةً، وبين عدِّ الذِّهن عاجزاً عن صياغة أيِّ شيءٍ من دون وجود مؤثِّرٍ خارجيٍّ. استناداً إلىٰ أدلَّة الوجود الذِّهنيِّ، فإنَّ ماهيَّات الأشياء بعينها موجودةٌ في الذِّهن، وهناك تكتسب ميزاتٍ معيَّنةً لتصبح (معقولات أولىٰ)، ومن ثمَّ يُطلق عليها (معقولات ثانية)؛ ونتيجة امتزاج هذين الصنفين من المعقولات تنشأ المعرفة لدىٰ الإنسان.

 وإذا قلنا إنَّ الذِّهن لا يصوغ أيَّ أمرٍ من تلقاء نفسه، بل إنَّ المعقولات الأولىٰ هي السبب في وجود المعقولات الثانية، فإنَّ مشكلة هيوم المعرفيَّة سوف تُحلُّ أيضاً.

ينبغي القول إنَّ القوَّة المدركة للإِنسان تقوم بنشاطٍ انتزاعيٍّ، وهو الذي يوجد في الذهن البديهيَّات الأَوَّليَّة في المنطق وأغلب المفاهيم العامَّة للفلسفة، وهذه العموميَّة ناشئةٌ من كونها أشمل التصوُّرات التي تنطبع في الذِّهن بحيث لا يمكن أن يوجد ما هو أعمُّ منها، كتصوُّر الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإِمكان، وما إلىٰ ذلك. هذه المفاهيم العامَّة من حيث الظهور في الذِّهن، تعتبر متأخِّرةً عن المفاهيم الخاصَّة، ولا سيَّما أنَّها متأخِّرةٌ عن المحسوسات الخارجيَّة، وهي من هذه الجهة تكون في الدرجة الثانية -معقولات ثانية- ولكنَّها من الناحية المنطقية تكون بديهيةً أوّليةً، أي إنّها في الدرجة الثانية من الناحية الفلسفية والنفسية، وفي الدرجة الأُولىٰ من الناحية المنطقيَّة.

ونلفت هنا إلىٰ أنَّ هيوم في نظريَّته الطبيعة البشرية ينظر إلىٰ الإنسان من حيث الانفعال لا العقل، ولا يطلق علىٰ المدركات العقليَّة مصطلح (أفكار) كما فعل لوك، بل يُطلق عليها (إدراكات)، ويقسِّمها إلىٰ نوعين، انطباعات وأفكار. وهو يميِّز بين المواضيع التي تنطبع في الذِّهن علىٰ أساس تمييزه بين الإحساس والخبرة من جهةٍ، والتفكير والاستدلال من جهةٍ أخرىٰ،

(189)

فبرأيه، كي يتمكَّن العقل من التفكير والاستدلال، يجب أن تتوفَّر له في بادئ انطباعاتٍ تنشأ من الشعور والإدراك الحسِّيّْ.

وهو يميِّز بين الانطباعات والأفكار علىٰ النحو الآتي: الفرق بينهما يتمثَّل في درجة القوَّة والفاعليَّة التي تؤثِّر علىٰ العقل، وتدخل عن طريقها في التفكير والوعي، فتلك الإدراكات التي تترسَّخ في الذِّهن يمكن أن نسمِّيها انطباعات، ومن خلالها يمتلك الإنسان كلَّ أحاسيسه وانفعالاته وعواطفه بصورتها التي تتجلَّىٰ في نفسه لأوَّل مرَّةٍ؛ وقد وصف هذه الأفكار بأنَّها صور خافتة.

ويضيف هيوم إلىٰ نظريَّته حول العلاقة بين الانطباعات والأفكار توضيحاً هامًّا جاء فيه: «بما أنَّ الأفكار تُعتبر صوراً للانطباعات، لذا يمكننا أن نكوِّن أفكاراً ثانويَّةً تكون صوراً للأفكار الأوَّليَّة، فالَّلون الأحمر الذي أُفكِّر فيه هو صورةٌ ذهنيَّةٌ لإدراكي الحسِّيِّ لهذا الَّلون، وهذه الصورة الذهنيَّة هي فكرةٌ أوَّليَّةٌ تؤدِّي إلىٰ تكوين فكرةٍ ثانويَّةٍ تصبح في ما بعد صورةً ذهنيَّةً من مستوىٰ ثانٍ أكثر تجرُّداً عن فكرة الَّلون ذاتها».

 وغنيٌّ عن القول أنَّه يذهب إلىٰ اعتبار هذا التمييز بين الفكرة الأوَّلية والفكرة الثانويَّة ليس استثناءً من نظريَّته حول أرجحيَّة الانطباعات علىٰ الأفكار، بل هو تأكيدٌ لها؛ ذلك لأنَّه يثبت إمكانيَّة أن تقوم الفكرة الأوَّليَّة بدور انطباعٍ من مستوىٰ ثانٍ يؤدِّي إلىٰ ظهور فكرةٍ ثانويَّةٍ. ومعنىٰ هذا أنَّ ما يسمِّيه بالانطباع ينطبق علىٰ ما تستقبله الحواسُّ من إدراكاتٍ، وأيضاً علىٰ ما يستقبله العقل من أفكارٍ أوَّليةٍ.

ومن جملة اعتراضات هذا الفيلسوف هو تساؤله عن السبب الذي يدعوه للاعتماد علىٰ أمرٍ لا يدركه بحواسِّه، إذ قال: «يمكنني أن أثق بحواسِّي لأنَّني لم أخترعها، فقد أدركت بواسطتها شيئاً ثمَّ ارتسمت صورته في مخيّلتي، فيدي عندما تلمس شيئاً ساخناً لا تشعر بالبرودة بتاتاً؛ لذلك أصدِّق شعور يدي الحقيقيِّ ولا أقبل بشيءٍ آخر سواه».

يمكن القول إنَّ كلام هيوم هذا صحيحٌ بنسبة خمسين في المئة، فالجانب الباطل منه هو عدم قبوله لأيِّ شيءٍ آخر خارجٍ عن حواسِّه المادِّيَّة؛ فيا ترىٰ هل إنَّ العلم المادِّيَّ يُثري الذِّهن البشريَّ عن كلِّ تلك العلوم والمعارف الغيبيَّة والماورائيَّة التي لا حدَّ لها ولا حصر؟ وهل إنَّ المعرفة الحقَّة تتحصَّل لدىٰ الإنسان من طريق هذه النافذة المادِّية الضيِّقة؟ ونحن بدورنا نطرح عليه السؤال الآتي: بالنسبة إلىٰ العلوم والمعارف التي تمتلكها وتقرُّ بحتميَّتها وصوابها،

(190)

وتستدلُّ بها وتناقش الآخرين وتناظرهم علىٰ أساسها، هل تستطيع أن تجزم بأنَّك حصلت عليها من هذه النافذة المادِّية ومن حواسِّك الملموسة فحسب؟! إنَّ الذي يُنكر المعارف والحقائق الماورائيَّة لا بدَّ له من أن يُنكر كلَّ حقيقةٍ ثابتةٍ وأصلٍ معتبر وعلَّةٍ قطعيَّة[1].

برهان النَّظم:

يُعدُّ برهان النَّظم أبسط البراهين التي استُدِلَّ بها لإثبات وجود الله سبحانه وتعالىٰ، لذا فهو أكثرها شيوعاً بين العلماء؛ إذ استدلَّ به القرآن الكريم عادًّا الكائنات ونظامها الدقيق الذي يحكمها آياتٍ -علائم- علىٰ وجود البارئ جلَّ شأنه.

فحوىٰ هذا البرهان أنَّ النَّظم الموجود في الكون دليلٌ علىٰ وجود ناظمٍ له، وقيل بأنَّه يختلف عن سائر البراهين التي طُرحت علىٰ هذا الصعيد بما فيها براهين المحرِّك الأوَّل، والوجوب والإمكان، والحدوث والقِدم، والصِّدِّيقين. هذه البراهين تطغىٰ عليها صبغةٌ فلسفيَّةٌ كلاميَّةٌ، أي أَّنها ترتكز علىٰ قواعد عقلانيَّة محضة، في حين أنَّ برهان النَّظم يُعدُّ من سنخ البراهين الطبيعيَّة والتجريبيَّة التي تُناظر إلىٰ حدٍّ ما تلك البراهين التي استدلَّ بها التجريبيُّون.

ديفيد هيوم هو أحد الفلاسفة الغربيِّين الذين قدحوا بهذا البرهان الذي يُعدُّ أهمَّ قاعدةٍ يستند إليها أصحاب النزعة الَّلاهوتيَّة لإثبات وجود الله تعالىٰ، ومنذ تلك الآونة زعم بعض العلماء الغربيِّين أنَّه باطلٌ ولا يمكن الاعتماد عليه لإثبات المطلوب. الأمر الذي رسَّخ النزعة المادِّية بين الشعوب الغربيَّة، ويمكن القول إنَّ إنكاره هو السبب الأساسيُّ في رواج الفكر المادِّي في العصر الحديث ولا سيَّما في العالم الغربيّ.

ولقد دوَّن هذا الفيلسوف كُتبًا عدَّة، من بينها كتابه الشهير الذي طُبع بعد وفاته (محاورات في الدين الطبيعيِّ) الذي ذكر شبهاته فيه؛ إذ ساق هذه الشُّبهات علىٰ لسان شخصين افتراضيَّين، أحدهما (كلينثس) وهو الذي يدافع عن برهان النَّظم، في مقابل (فيلون) الذي يشكِّك به ويبدي اعتراضاتٍ وشبهاتٍ حوله؛ وعلىٰ هذا الأساس طرح نقاشاً علىٰ لسان هاتين الشخصيَّتين.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ هيوم لا يتبنَّىٰ فكراً مادِّيَّاً بحتاً، فقد انتقد المادِّيين والَّلاهوتيِّين

(191)

علىٰ حدٍّ سواء، لذلك بذل قصارىٰ جهوده لإثبات أنَّ البراهين التي أقامها علماء الَّلاهوت ضعيفةٌ ولا تفي بالغرض؛ لأنّه يرىٰ الإيمان أمراً نفسانيَّاً. وإذا اعتبرنا برهان النَّظم معياراً عقليًّا يرِدُ علىٰ هذا الاعتقاد أنَّ النَّظم المشهود في الطبيعة إن لم يكن دليلاً كافياً، فهو علىٰ أقلِّ تقديرٍ قرينةٌ علىٰ وجود علَّةٍ أو عللٍ لنَظم الكون شبيهةٌ بالعقل الإنسانيّ؛ لذا ليست لدينا وسيلة سوىٰ العقل كركيزةٍ نستند إليها بغية إثبات خصائص هذه العلَّة أو العلل.

يُشار أيضاً إلىٰ أنَّ هيوم قد تبنَّىٰ فلسفة الشكِّ واللّا أدرية، وسعىٰ بكلِّ ما لديه من قوّةٍ كي يقدح ببرهان النَّظم ويثبت عدم نجاعته في إثبات المدَّعىٰ، فقد قيل إنَّه أفنىٰ حياته في دراسة وتحليل الأدلَّة التي يُعتمد عليها لإثبات وجود الله عزَّ وجل، لذا نجده انتقد الأدلَّة والبراهين التي استشهد بها علماء الَّلاهوت والفلاسفة، وحاول تفنيدها بشتَّىٰ الوسائل؛ ولربَّما يكون السبب في ذلك رواج برهان النَّظم في تلك الآونة؛ إذ سخَّر خمسة وعشرين عاماً من حياته تقريباً في هذا الصدد، وكانت ثمرة ذلك كتابه الشهير (محاورات في الدين الطبيعي)[1].

ويُلخِّص هذا الفيلسوف اعتراضه كما يأتي: برهان النَّظم متقوِّمٌ علىٰ كون جميع المصنوعات البشريَّة المنتظِمة لاتخلو من صانعٍ ماهرٍ، فالبيت لا يُشيَّد بلا بنَّاء، والسفينة لا تتحرَّك بلا ربَّان؛ لذا، لا بدَّ للكون المنتظم من صانعٍ -خالق - نظراً لشبهه بالمصنوعات البشريَّة، وقد انتقد هذا الاستدلال بداعي أَنّه مستندٌ إلىٰ التَّشابه بين الكائنات الطبيعيَّة والمصنوعات البشريَّة، وبطبيعة الحال، فإنَّ هذا التشابه بمجرَّده لا يكفي لتسْرية حكم أَحدهما إلىٰ الآخر بسبب اختلافهما؛ إذ إِنَّ مصنوعات البشر ذات منشأ صناعيٍّ، في حين أنَّ الكون ذو منشأ طبيّ، لذا فهما صنفان من سنخين متباينين، فكيف يمكن أَن نثبت لأحدهما حكم الآخر؟ صحيحٌ أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فتيقَّنَّا من أنَّها لاتوجد إِلَّا بصنع صانعٍ عاقلٍ، لكننا لم نجرِّب ذلك في الكون، فالكون لم يتكرَّر وجوده حتَّىٰ نقف علىٰ كيفيَّة خلقه وإِيجاده، بل واجهناه مرَّةً واحدةً؛ وبهذا لا يمكن أن تثبت لنا العلَّة الموجِدة له علىٰ غرار مصنوعات البشر إِلَّا إِذا جرَّبناه قبل ذلك عشرات المرَّات وشهدنا عمليَّة الخلق والتكوين، كما شاهدنا ذلك وجرَّبناه في المصنوعات البشريَّة؛ فهذه هي الطريقة الوحيدة التي نتمكَّن علىٰ أساسها من استنتاج أنَّ الكون وما فيه من نظمٍ لا يمكن أَن يوجد من دون خالقٍ عليمٍ وصانعٍ خبيرٍ.

(192)

الإشكال المذكور في الحقيقة ينمّ عن فهمٍ ساذجٍ وسطحيٍّ لبرهان النَّظم، ويدلّ علىٰ فقدان الغرب لمدرسةٍ فلسفيةٍ متكاملةٍ تدرك حقيقة هذا البرهان بصورته الصحيحة؛ إذ لا صلة له بتاتاً بالتشابه والتمثيل والتجربة، وإِنما هو برهانٌ استدلاليٌّ تامٌّ يحكم العقل بصحَّته بعد ملاحظة طبيعة النظام؛ إذ يدرك عندئذٍ أنَّه قد وجد بفعل فاعلٍ عاقلٍ هو خالقٌ قديرٌ.

برهان النَّظم من وجهة نظر كلينثس:

لقد طرح هيوم برهان النَّظم علىٰ لسان كلينثس كما يأتي: لنُلقِ نظرةً علىٰ العالم في جميع مكوِّناته وأجزائه بصغيرها وكبيرها، سنجده عبارةً عن آلةٍ عظيمةٍ مكوَّنةٍ من اجتماع عددٍ غير مُتناهٍ من الآلات الصغيرة، وكلُّ واحدةٍ من هذه الآلات هي الأخرىٰ مكوَّنةٌ من أجزاء أدقَّ وأصغر، وهلمَّ جرًّا حتَّىٰ نصل إلىٰ مرحلةٍ يعجز فيها العقل عن إدراك أجزائها.

هذه الآلات المتنوِّعة وأجزاؤها الظريفة قد حُبكت بدقَّةٍ فائقةٍ بحيث تعمل باتِّزانٍ وتناسقٍ مذهلٍ يثير دهشة كلِّ إنسانٍ، لذا لا نجد بدًّا حينئذٍ من التأمُّل فيها والإمعان بدقَّتها. الطبيعة بكلِّ ما فيها من كائناتٍ وجماداتٍ متَّسقةٌ اتِّساقاً عجيباً في ما بينها ومع غاياتها، وهي شبيهةٌ إلىٰ حدِّ كبيرٍ بتلك الاختراعات والصناعات البشريَّة المتقَنة وكأنَّ هناك ذهناً فكَّر في إيجادها، وهذه الحالة تنطبق علىٰ تفكير الإنسان في صناعة متطلّبات حياته.

إذًا، الشبه بين الطبيعة المنظومة في جميع أجزائها وبين المصنوعات المرتَّبة التي أبدعتها يد الإنسان، يفسح المجال لنا للمقارنة بين مختلف العلل التي أوجدت الأشياء الطبيعيَّة والصناعيَّة، وعلىٰ هذا الأساس بإمكاننا تشبيه صانع الطبيعة بالروح الإنسانيَّة الخلَّاقة رغم وجود بَوْنٍ شاسعٍ بين النَّظم الطبيعي المذهل والصناعة البشريَّة. فهذا البرهان غير التجريبيِّ يثبت لنا وجود الله من دون ترديدٍ، إذ نثبت أنَّه موجودٌ من خلال تشبيه وجوده بوجود الروح والعقل لدىٰ الإنسان[1].

برهان النَّظم من وجهة نظر فيلون:

طرح هيوم برهان النَّظم علىٰ لسان فيلون كما يأتي: عندما نشاهد بيتاً سوف نجزم بالقطع واليقين بأنَّه بُني بواسطة بنَّاءٍ، فهو معلولٌ لعمليَّة البناء التي جرَّبناها في حياتنا، ولكن ليس

(193)

لدينا يقينٌ بكون العالم يشبه هذا البيت، لذا لا يمكننا الاستدلال علىٰ وجود علَّةٍ له نظير العلَّة التي أوجدت البيت؛ وهذا الاختلاف في الاستنتاج يتَّضح لنا بشكلٍ جليٍّ حينما ندرك أنَّنا نستند في تصوُّرنا هذا إلىٰ الظنِّ والتخمين فحسب.

ربَّما يكون للمادَّة نظمٌ إلىٰ جانب الروح الموجودة فيها، فتصوُّر وجود عددٍ من العناصر المنتظمة مع بعضها البعض بتأثير علَّةٍ باطنيَّةٍ مجهولةٍ، ليس أكثر تعقيداً من تصوُّر صورٍ منتظمةٍ في روحٍ عالميَّةٍ كبرىٰ ترتَّبت مع بعضها البعض بواسطة علَّةٍ باطنيَّةٍ مجهولةٍ. إذن، هل من الممكن ادِّعاء أنَّ العالم المنتظم لا بدَّ من أن يكون ناشئاً من صنع صانعٍ، فنحن لم نجرِّب هذا الأمر في الكون إلَّا مرّةً واحدةً؛ فإذا أردنا إثبات المدَّعىٰ فلا بدَّ من أن نعتمد علىٰ تجربةٍ نتعرَّف من خلالها علىٰ مبدأ العالم. بناءً علىٰ ما ذُكِر، لا يمكن لأحد ادِّعاء أنَّ المدن المنتظمة والمباني المشيَّدة علىٰ الأرض والسفن الجارية في البحار والتي هي من صنع البشر، تشابه صياغة الكون وما فيه من نظمٍ محبوكٍ؛ فهل رأىٰ أحدٌ ذلك كما نرىٰ الأشياء علىٰ الأرض؟ فيا أيُّها الإنسان، هل شاهدت تكوين العالم بأُمِّ عينيك؟! وهل أنَّ عمرك طويلٌ بحيث تمكَّنت من خلاله معرفة جميع التطوُّرات والأحداث والظواهر الكونيَّة التي طرأت علىٰ العالم وأدَّت إلىٰ نظمه؟! قطعاً أنت لا تملك دليلاً علىٰ ذلك، فأنت غير قادرٍ علىٰ وصف الله بصفة الكمال وأنت عاجزٌ عن تنزيهه من الوقوع في الخطأ والاشتباه وعدم الانتظام في أفعاله. علىٰ أقلِّ تقديرٍ يجب عليك الإقرار بأنَّ ذهنك محدودٌ ولست قادراً علىٰ إصدار حكمٍ بكون هذا النظام الشامل فيه خللٌ أو لا، فهل يتمكَّن قرويٌّ أُميٌّ من شرح وتحليل أشعارٍ كنائيَّةٍ عميقة المعنىٰ ويبدي رأيه فيها لدرجة أنَّها تكون عاريةً من كلِّ عيبٍ ونقصٍ؟!

حتّىٰ وإن كان هذا العالم ذا نظمٍ متكاملٍ عارٍ من أيِّ نقصٍ وخللٍ، فهو مع ذلك مجهولٌ وخفيٌّ علينا، ومن ثم  لا يوجد لدينا مسوِّغٌ يحتِّم علينا نسبة تكامله هذا إلىٰ صانعه، فلو تأمَّلنا في صناعة سفينةٍ بحريَّةٍ سوف نتعجَّب من حذاقة صانعها ومهارته، ولكنَّنا لو أُخبرنا أنَّ هذا الصانع هو أحمقٌ لم يبتدع شيئاً من نفسه وإنَّما قلَّد الآخرين الذين أفنوا حياتهم في وضع أُسُسها وحبكة تقنيَّتها؛ فهل عندئذٍ سيبقىٰ شعورك تجاهه علىٰ حاله من من دون أن يطرأ عليه تغيير؟! إذًا، ربَّما يكون هذا العالم المنظوم مسبوقاً بعوالم أخرىٰ كثيرة تطوَّرت شيئاً فشيئاً لتصل إلىٰ هذه الدرجة من النَّظم والترتيب طوال عصورٍ متمادية. فيا ترىٰ من ذا الذي بإمكانه الحكم علىٰ حقيقة هذه الأمور بحيث تكون له القدرة علىٰ تشخيص الفرضيَّة الصحيحة من السقيمة؟!

(194)

نحن لا نمتلك أيَّ علمٍ في هذا المضمار، ولسنا مخوَّلين بأن ندلو بدلونا هنا؛ لأنَّنا لا نعرف مبدأ العالم، وتجاربنا ضئيلةٌ وضيِّقة النطاق هنا بحيث لا يمكننا الجزم بأيَّة فرضيَّةٍ مطروحةٍ؛ ومع ذلك لا بدَّ من طرح فرضيَّةٍ هنا، لكن علىٰ وفق أيِّ قاعدةٍ؟ أَهناك قاعدةٌ أخرىٰ غير تلك التي اعتدنا عليها في المقارنة بين الأشياء لنتعرَّف علىٰ أوجه التشابه والاختلاف في ما بينها؟ فهل عقلنا له القابليَّة علىٰ معرفة علَّة تكاثُر الحيوان أو تنامي النبات بطريقةٍ أخرىٰ من غير مقارنة ذلك مع الآلة الإنتاجيَّة الميكانيكيَّة؟

من الجدير القول إنَّ الاستدلال التمثيليَّ الذي يعتمد عليه برهان النَّظم يستند إلىٰ افتراض وجود ناظمٍ للكون، لكن حتَّىٰ وإن تمَّ إثبات وجود هذا الناظم وفق هذا البرهان فليس من الممكن إثبات صفاته الحميدة علىٰ هذا الأساس، فتصوُّر وجود إلهٍ رؤوفٍ عادلٍ لا يمكن بتاتاً إثبات صحَّته عن طريق مقارنة آثاره الموجودة في الكون مع أعمال الإنسان. إذًا، حتَّىٰ وإن افترضنا أنَّ ذلك الناظم يشبه الإنسان، فما هو الدليل علىٰ إثبات صفاته الحميدة؟ فالخالقيَّة شيءٌ والـحُسن شيءٌ آخر؛ ولو أخذنا بعين الاعتبار تلك الكوارث الطبيعيَّة المدمِّرة كالعواصف والبراكين والزلازل وما شاكلها، فهل يمكن ادِّعاء أنَّها من صنع عقلٍ سليمٍ أو شيءٍ يتَّصف بصفاتٍ حميدةٍ فضيلةٍ؟![1]

خلاصة آراء هيوم حول برهان النَّظم:

يمكن تلخيص آراء الفيلسوف ديفيد هيوم حول برهان النَّظم في النقاط الآتية:

1. برهان النَّظم لا يُعدُّ برهاناً عقليَّاً محضاً ولا يتقوَّم علىٰ البديهيَّات الأوَّلية، فهو برهانٌ تجريبيٌّ تمخَّض عن التجربة الطبيعيَّة، لذا لا بدَّ من أن تتوفَّر فيه الشروط الواجب توفُّرها في البراهين التجريبيَّة.

2. المدَّعىٰ في هذا البرهان هو تشبيه النَّظم الموجود في الكون بالنَّظم الذي يصنعه العقل الإنسانيِّ، فالطبيعة المحبوكة والمتناسقة في مختلف جوانبها تشابه البناء المنتظم الذي يشيِّده الإنسان أو السفينة المتقَنة الصنع والتي تجوب عباب البحار؛ فهذه المصنوعات الناشئة من الفكر والتعقُّل تدلُّ علىٰ وجود إنسانٍ صنعها، وكذا هو الحال بالنسبة إلىٰ الكون، فنظمُه ليس اعتباطاً ولا بدَّ من وجود صانعٍ أبدعه.

(195)

3. هناك قاعدةٌ عامَّةٌ يُعتمد عليها في البراهين التجريبيَّة فحواها أنَّ أوجُه الشبه بين المعلولات تدلُّ علىٰ تشابه العلل الموجِدة لها، ونتيجة هذا الكلام أنَّ المصنوعات البشريَّة المتقَنة تدلُّ علىٰ وجود عقلٍ إنسانيٍّ مدبِّرٍ أوجدها، لذا يمكن عدُّها مماثلةً للطبيعة المتقَنة التي يجب أن تكون من صنع صانعٍ مدبِّرٍ.

أمّا النقد الذي طرحه علىٰ أوجه الاستدلال في برهان النَّظم، فيمكن بيانه في النقاط الآتية:

1. لا يوجد تشابهٌ بين المصنوعات البشريَّة والآثار الطبيعيَّة، لذلك لا مجال لادِّعاء أنَّ هذه الآثار قد وجُدت علىٰ أساس تفكيرٍ مسبقٍ، ومن ثم لا يمكن تشبيه العالم ببناءٍ متَّسقٍ أو آلةٍ متكاملة الأجزاء وزعم أنَّه خُلق بتدبير مدبِّرٍ بغية تحقيق هدفٍ معيَّنٍ؛ فأوجُه الشبه هذه ليست تامَّةً ولا تفيد الجزم واليقين، بل هي مجرَّد حدسٍ وتخمين.

2. نحن عن طريق التجربة، أدركنا أنّ الإنجازات البشريّة قد تحقّقت نتيجةً للإرادة والعلم، لكنّنا لم نجرّب ذلك علىٰ الآثار الطبيعية حتّىٰ نعلم كيف نشأت. فالإنسان منذ خلقته شاهد كثيراً من الإنجازات البشرية المتقنة والصناعات المحبكة علىٰ وفق نظمٍ وترتيبٍ وفي مسيرةٍ دامت طويلاً حتّىٰ انتهت إلىٰ ما هي عليه من روعةٍ وإتقانٍ، إلا أنّ تجربته هذه محدودةٌ في نطاق صناعاته وإبداعاته فحسب؛ لأنّه لم يجرّب عوالم أخرىٰ غير هذا العالم لكي يستنتج من صنعها أنّ عالمنا أيضاً مصنوعٌ من قبل صانعٍ مدبّرٍ، كما لم يشهد مسيرة النَّظم الموجودة في هذا العالم ولا يدري متىٰ وكيف بدأت؛ لذلك لا يمكنه تشبيه النَّظم الطبيعي بالنَّظم المتحقّق في تشييد المبنىٰ أو السفينة والذي تكامل علىٰ مرِّ العصور.

3. الهدف من هذا البرهان هو إثبات وجود إلهٍ ذي حكمةٍ بالغةٍ وقدرةٍ لا متناهيةٍ وكمالٍ مطلقٍ، لكنَّنا حتَّىٰ لو افترضنا أنَّ مبدع الكون وخالقه هو مدبِّرٌ له إرادةٌ وعقلٌ علىٰ غرار ما لدىٰ الإنسان من قدراتٍ إدراكيَّةٍ؛ فهذا الادِّعاء لا يكفي لإثبات الصفات الفريدة التي نُسبت إليه من حكمةٍ وقدرةٍ وكمالٍ. وحتّىٰ لو قلنا إنَّ هذا البرهان يثبت وجود الناظم، فلا يمكننا الاستناد إلىٰ تجاربنا الطبيعيَّة وزعم أنَّ عالمنا هو أكمل العوالم وناشئٌ من حكمةٍ ودرايةٍ، فنحن لم نلمس سوىٰ هذا العالم، ولا علم لنا بما سواه من عوالم أخرىٰ، لذا ليس هناك وجهٌ للمقارنة بينها. ويمكن تشبيه هذا الأمر بإنسانٍ أُمّيٍّ لم يطالع في حياته أكثر من كتابٍ أدبيٍّ واحدٍ هو الأروع بين

(196)

جميع المصادر الأدبيَّة، ثمّ نطلب منه أن يثبت لنا أنَّ هذا الكتاب هو أفضل الكتب المدوَّنة في الأدب.

4. لنفترض أنَّ هذا العالم هو أفضل العوالم بحيث لا يوجد عالمٌ آخر أفضل منه، فهذه الأفضليَّة بطبيعة الحال ليست دليلاً علىٰ وجود الصانع الذي هو واجب الوجود ويتَّصف بالكمال المطلَق والغنىٰ بالذات؛ كما أنَّه لا يثبت لنا أنَّ هذا العالم أفضل العوالم، فكيف يمكن افتراض ذلك وهو أوَّل عالمٍ خلقه الخالق من دون تجربةٍ مسبقةٍ ولم يقلِّد في صنعه أحداً؟! فما الذي يثبت لنا أنَّ الصانع قد صنع هذا العالم من دون أن يقلِّد غيره؟ وما الذي يثبت لنا أنَّه حبَكَهُ وصاغَهُ منذ بدايته وفق نظمٍ وترتيبٍ؟ أَلا يمكن القول إنَّ نظمَه قد حدث إثر تكرار التجربة والصنع؟

5. هناك نواقص ومساوئ كثيرة موجودةٌ في هذا العالم، وهذا يتعارض تماماً مع ادِّعاء وجود ناظمٍ حكيمٍ، إذ قال: «في العالم شرٌّ، ولذا لا يمكن بواسطة برهان النَّظم أن ننسب الصفات الأخلاقيَّة إلىٰ الناظم الإلهيّْ»، فكيف نبرِّر الكوارث الطبيعيَّة من أعاصير وزلازل وأمراض مسرية، وغيرها من شرور تؤرِّق البشريَّة جمعاء؟!

نقد آراء هيوم

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الانتقادات والآراء التي طرحها ديفيد هيوم ليس من شأنها تفنيد دلالة برهان النَّظم، وفي ما يأتي نثبت سقمها وهشاشتها:  

لقد تصوَّر هيوم أنَّ برهان النَّظم من سنخ البراهين التجريبيَّة، وهذا التصوُّر خاطئٌ؛ لأنَّنا نعتمد علىٰ البراهين التجريبيَّة حينما نروم معرفة الصلة بين أمرين محسوسين، بمعنىٰ أنَّ هذه البراهين يمكن الاعتماد عليها لاستكشاف العلاقة بين مكوِّنات الطبيعة وأجزائها وليس من الممكن الاستدلال بها فيما وراء ذلك، أي أنَّها غير ناجعةٍ لمعرفة واقع العلاقة بين أمرٍ طبيعيٍّ وآخر ما وارئيّ.

ينبغي القول إنّ التجربة مقتصرةٌ علىٰ المشاهدات الحسِّيَّة، وبإمكاننا تسخيرها كمرتكزٍ للتعرُّف علىٰ الظواهر الطبيعيَّة واستكشاف علَّتها أو عللها عن طريق الاختبار والتقصِّي المادِّيّْ؛ والأمثلة في هذا المضمار كثيرةٌ، ومنها عمليَّة تبخير الماء بالحرارة وانجماده بالبرودة، فهذه

(197)

الحالات بطبيعة الحال لا بدَّ من أن تكون ناشئةً من تأثير مؤثِّرٍ وفعل فاعلٍ، والتجربة أثبتت لنا أنَّنا حين مشاهدة عاملين متواليين فالعقل يحكم بأنَّ أحدهما يُعدُّ علَّةً للآخر. إذًا، الشرط المفترض لتحقُّق التجربة هو كون الحالات التي تطرأ علىٰ الشيء محسوسةً لنا وبإمكاننا لمسُها بحواسِّنا الظاهريَّة، كالمشاهدة العينيَّة.

بناءً علىٰ ما تقدَّم، نتساءل: هل أنَّ الاستدلال بالنَّظم علىٰ وجود الناظم هو استنتاجٌ حسِّيٌّ؟ أي هل هو برهانٌ تجريبيٍّ؟ قبل أن نتناول أطراف الحديث عن ماهيَّة برهان النَّظم، لا نجد ضيراً من الاستشهاد بأحد أنماط الاستدلال التي عدَّها هيوم تجريبيَّةً بحتةً وشبَّه وجه الاستنتاج في هذا البرهان بها. مُرادُنا هنا مثاله الذي ذكره حول دلالة المصنوعات البشريَّة علىٰ وجود صانعٍ عاقلٍ لها، لذا نطرح عليه السؤال الآتي: هل أنَّ هذا الاستدلال يندرج في ضمن التجارب العقليَّة؟! أَمن الممكن عدُّه برهاناً تجريبيَّاً علىٰ غرار تلك البراهين التي نثبت علىٰ أساسها العلاقة الموجودة بين مختلف مكوِّنات الطبيعة، كعلاقة الحرارة بتبخير الماء والبرودة بانجماده؟! فهل هذا الاستنتاج يُعدُّ من سنخ البراهين العقليَّة أو التجريبيَّة؟! مثلاً: كيف لنا أن نعلم بأنَّ الحكيم ابن سينا كان فيلسوفاً أو طبيباً؟! وما هي الأدلَّة التي نجزم علىٰ أساسها بأنَّ فلاناً من الناس ذكيَّاً وفلاناً غبيَّاً؟! بطبيعة الحال نحن نتابع آثار هؤلاء وتصرُّفاتهم لكي نحكم عليهم، فنحن لم نشاهد ولم نلمس بحواسِّنا (عقل) ابن سينا، ولا (ذكاء) فلان، ولا (غباء) فلان، وإنَّما أدركنا ذلك عن طريق استنتاجاتنا العقليَّة، وهي بكلِّ تأكيدٍ تكفي لإثبات المدَّعىٰ؛ إذ ليس هناك عقلٌ أو فكرٌ مطروحٌ للبحث علىٰ طاولة تجاربنا الحسِّيَّة كي نزعم أنَّ التجربة هي التي يجب أن تثبت ما يكتنفه وما يصدر منه، بل التجربة ذاتها أثبتت لنا أنَّ لا أحد قادرٌ علىٰ إدراك مكامن العقل والفكر سوىٰ العقل نفسه.

ونتساءل هنا أيضاً: ما هو الدليل علىٰ جزمِنا بوجود عقلٍ لدىٰ سائر الناس؟ فلماذا لا ينتابنا الشكُّ في هذا الأمر؟ وما السبب في إجماع البشريَّة علىٰ أنَّ المصنوعات البشريَّة تتزايد عظمةً وتقنيَّةً مع ارتفاع مستوىٰ العقل والفكر لدىٰ صانعها؟ وما المسوِّغ لأن نقول إنَّ كلَّ مصنوعٍ يعكس ذوق صانعه؟ أَلَـم يقل ديكارت إنِّ الحيوانات - باستثناء الإنسان- عبارةٌ عن آلاتٍ عديمة الشعور ولها القابليَّة علىٰ ردِّ الفعل تجاه ما يطرأ عليها؟! فكيف يمكننا الحكم علىٰ الحيوانات بأنَّها عديمة الشعور والعقل في حين أنَّ بني آدم لهم عقلٌ وشعورٌ؟! فهل هناك برهانٌ تجريبيٌّ يثبت هذه القاعدة العقليَّة؟!

(198)

خلاصة القول إنَّ الاستنتاج العقليَّ لدىٰ الإنسان ليس كافياً لإثبات أنَّ ما لديَّ لا بدَّ من أن يكون موجوداً لدىٰ جميع البشر، فهذا الكلام بحسب القواعد المنطقيَّة يسمَّىٰ (تمثيل)، أي عدَّ أحد الأشخاص معياراً لتقييم الآخرين؛ في حين أنَّ المنهج التجريبيَّ يعني إخضاع مجموعةٍ من الناس للتجربة - ويتراوح عددهم بين القلَّة والكثرة حسب موضوع البحث - بغية إثبات أنَّ أحد الأمور الشائعة بين عيِّنة البحث لا يختصُّ بها فحسب، بل هو أمرٌ عامٌّ يسري علىٰ جميع أفراد النوع البشريّ. لذا، فإنَّ معرفة مدىٰ القدرة العقليَّة للإنسان عن طريق ما يخلِّفه من آثارٍ ومصنوعاتٍ هي في الحقيقة ليست من سنخ التمثيل المنطقيِّ، وكذلك ليست من سنخ الاستدلال التجريبيِّ، بل هي برهانٌ عقليٌّ.

لا ريب في أنَّ الإنسان يشعر مباشرةً في باطنه بامتلاك شيءٍ اسمه عقلٌ أو إرادةٌ أو فكرٌ، ويُدرك أنَّ هذه الأمور هي التي تمنحه الإرادة والقدرة علىٰ القيام بأفعاله؛ وعلىٰ هذا الأساس فهو حتَّىٰ وإن لم يدرك وجود هذه الأمور لدىٰ الآخرين بشكلٍ مباشرٍ، إلَّا أنَّه يتوصَّل إليها ويجزم بوجودها عن طريق ما يبدر منهم من أفعالٍ وتصرُّفاتٍ، فحينما يمسك بقلمٍ ويجعله علىٰ ورقةٍ بيضاء، بإمكانه حينها تصوُّر آلاف الصور والأحرف والكلمات التي قد يخطُّها به، ولو أنَّه كتب جملةً مفيدةً ذات دلالةٍ صحيحةٍ فهذا يعني ضعف احتمال وجود الصدفة علىٰ هذا الصعيد وبلوغه أدنىٰ درجة، والبتّ بأنَّه دوَّن ما دوَّن عن قصدٍ وإرادةٍ، إذ كيف يمكن للصدفة أن تجمع تلك الحروف في إطار كلماتٍ، والكلمات في إطار جملةٍ مفيدةٍ لمعنىٰ يصحُّ السكوت عليه؟! لذا فاحتمال الصدفة هنا ضئيلٌ بحيث لا يمكن تصوّره، والعقل السليم بطبيعة الحال يرفض هذا الأمر جملةً وتفصيلاً؛ ومن ثم  يثبت لنا وجود عقلٍ وإرادةٍ لهذا الكاتب الذي دوّن جملته في إطار المعنىٰ المراد.

كما أشرنا آنفاً، فإنَّ المصنوعات البشريَّة التي تدلُّ علىٰ وجود عقلٍ بشريٍّ مدبِّرٍ، لا يمكن ادِّعاء أنَّ الاستدلال بها علىٰ وجود صانعٍ مدبِّرٍ للكون هو من سنخ التمثيل المنطقيِّ حسب التوضيح الذي ذكرناه -كما لو تيقَّن الإنسان من وجود قلبٍ لدىٰ جميع بني آدم من منطلق امتلاكه قلباً- وهو كذلك ليس من سنخ البراهين التجريبيَّة التي تثبت وجود شيءٍ عن طريق الحسِّ والتجربة؛ بل هو برهانٌ عقليٌّ يشابه البراهين التي يستدلُّ بها العقل علىٰ صعيد المسائل التأريخيَّة المتواتِرة.

(199)

يثبت لنا مـمَّا ذُكر أنَّ معارفنا الشخصيَّة وما لدينا من معلوماتٍ حول القدرات العقليَّة لدىٰ سائر الناس، هي ليست من سنخ البراهين التجريبيَّة؛ لذا من الأولىٰ بمكانٍ عدم عَدُّ برهان النَّظم من سنخ البراهين التجريبيَّة؛ لأنّه يرتبط بالكون وبالبارئ جلَّ وعلا.

إنَّ من يدَّعي كون برهان النَّظم يندرج في ضمن البراهين التجريبيَّة هو في الواقع يؤمن باللّاهوت التجريبيِّ إن صحَّ القول؛ إذ يتصوَّر أنَّ القائلين به عَدُّوا آيات الله تعالىٰ سبيلاً لمعرفته عن طريق حسِّهم وتجربتهم؛ وعلىٰ هذا الأساس زعم قدرة الإنسان علىٰ معرفة العلوم الَّلاهوتيَّة بالأسلوب نفسه الذي يعتمد عليه علماء الطبيعة لمعرفة ما يكتنفها من قضايا، لدرجة أنَّه همَّش جميع البحوث والمسائل الفلسفيَّة الدقيقة، وجرَّد علم الَّلاهوت من كلِّ استدلالٍ عقليٍّ فلسفيٍّ. لقد غفل هذا المدَّعي عن كون التجربة لا تفيدنا شيئاً سوىٰ معرفة آثار الله تعالىٰ في الكون، وأنَّ معرفة الذات الإلهيَّة المقدَّسة علىٰ أساس هذه الآثار هو استدلالٌ عقليٌّ محضٌ.

لقد ظنّ هيوم أنَّ علماء اللاهوت يرومون إثبات كون النَّظم الموجود في الطبيعة شبيهًا للنَّظم الموجود في المصنوعات البشريَّة، واعتمدوا علىٰ تشابه العلل والمعلولات لاستدلال أنَّ الكون شبيهٌ بآلةٍ ضخمةٍ أو بناءٍ عظيمٍ متناسقٍ ومترامي الأطراف، وأكَّد علىٰ أنَّه شبيهٌ بآلةٍ منتظمةٍ أو نباتٍ أو حيوانٍ قبل أن يكون شبيهاً بسفينةٍ أو بناءٍ من صنع العقل البشريّ.

نردُّ علىٰ هذا الكلام بالقول: أنت تدَّعي أنَّ الكون ليس شبيهاً بسفينةٍ أو بناءٍ، وإنَّما يشابه ما فيه من مكوِّناتٍ طبيعيَّةٍ فحسب. فهل يمكن لعاقلٍ تصوُّر أنَّ العالم لا يشبه نفسه؟! أَلا يعدُّ كلُّ نباتٍ وحيوانٍ جزءاً من هذا الكون؟! نؤكِّد لك أنَّ هذا النبات والحيوان هو محور بحثنا، فقد خُلق وحُبك بتناسقٍ واتِّزانٍ مثل اتِّساق واتِّزان الآلة الميكانيكيَّة المتقَنة الصنع، بل هو أكثر تطوُّراً وإتقاناً بأضعافٍ مضاعفةٍ من كلِّ آلةٍ مصنوعةٍ بيد الإنسان؛ وبما أنَّ آيات الصنع في الطبيعة أعظم وأدقُّ من الحبكة الموجودة في الآلات الميكانيكيَّة وسائر الصناعات البشريَّة، لذا نقول إنَّ تمتُّع صانع السفينة بعقلٍ وفكرٍ فذٍّ، فالعالم الذي يتمثَّل بطبيعته المنتظمة لا بدَّ من أن يكون حينئذٍ ناشئاً إثر صنع صانعٍ أعظم وأسمىٰ وأرقىٰ من العقل الإنساني.

يدَّعي هيوم أنَّ ماهيَّة البرهان هي التشبيه بين صناعة ناظم الكون وصناعة الإنسان، لكنَّ هذا الادِّعاء غير صائبٍ جملةً وتفصيلاً، فمن المستحيل بمكانٍ زعم أنَّ نظم خالق الطبيعة

(200)

(الله) ينطبق بالكامل علىٰ نظم المخلوق (الإنسان)؛ فالبارئ العزيز الجليل منزَّهٌ من كلِّ شبيهٍ ونظيرٍ في وجوده وفي أفعاله وخلقته.

الإنسان جزءٌ من الطبيعة، لذا فهو يطوي مراحل في طور التنامي والتكامل، وهو يبذل غاية مساعيه لتفعيل طاقاته وبلوغ درجة الكمال المنشود؛ لذا يمكن اعتبار جميع حركاته تنصبُّ في هذا المضمار، وبما أنَّه ليس خالقاً للطبيعة التي يحيا في كنفها فتحكٌّمه بها إنَّما يكون علىٰ أساس إقامة علاقةٍ مصطَنعةٍ -غير طبيعيَّةٍ- بين أجزائها. والواقع أنَّ إنجازات البشريَّة التي تتمثَّل في المباني المتناسقة والمدن المنتظمة، ما هي إلَّا عبارةٌ عن سلسلةٍ من الحركات الطبيعيَّة التي بدرت لأجل غايةٍ للصانع لا للمصنوع، فهو من خلال ارتباطه بها يروم تحقيق هدفٍ معيَّنٍ، لذا يمكن القول أنَّ الصناعة البشريَّة تتقوَّم علىٰ الدعامتين الأساسيَّتين الآتيتين:

1. الترابط بين أجزاء المادَّة المصنوعة بشكلٍ صناعيٍّ وليس طبيعيًّا.

2. هدف الصانع هو المحور الأساسيُّ في هذه الصناعة، أي أنَّ الصانع هو الذي يحقِّق غرضه عبر ما يصنع ليزيح النقص عن نفسه ويفعِّل شخصيَّته.

ومن المؤكَّد أنَّ هذين المبدأين لا يمكن تصوُّرهما علىٰ صعيد خلقة البارئ عزَّ وجلّ؛ إذ ليس من الممكن أن تكون العلاقة بين أجزاء مخلوقاته غير طبيعيَّةٍ، ولا يمكن أن يكون الهدف الموجود هو هدف الصانع؛ إذ لا بدَّ من أن تكون الصلة بين أجزاء المخلوقات طبيعيَّةً كما هو الحال في المنظومة الشمسيَّة المترابطة وفق نظامٍ طبيعيٍّ محبوكٍ ودقيقٍ يعمُّ جميع الكائنات الحيَّة من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبشرٍ. وما أكَّد عليه الحكماء أنَّ جميع أفعال الخالق هي غايات الفعل وليس الفاعل، وهو معنىٰ قولهم إنَّ حكمة الإنسان تعني اختيار أفضل الوسائل لأفضل الغايات، وحكمة البارئ سبحانه هي الأخذ بيد الكائنات لبلوغ غاياتها، إذ قال شاعرهم:

إذْ مُقتَضَىٰ الحكمةِ والعِنايةِ * * * إيصالُ كُلِّ مُمْكنٍ لِـغايةٍ

هذا هو معنىٰ قولهم: «العالي لا يلتفت إلىٰ السافل»، وهو معنىٰ قولهم إنَّ ما يترتَّب علىٰ خلقة الكائنات بواسطة الذات الكاملة المطلَقة، وجود غايةٍ لها ورسوخ المحبَّة في باطنها، وإنَّ هذه الذات المطلَقة هي غاية الغايات.

لا نبالغ لو قلنا إنَّ قراءة هيوم وسائر الفلاسفة الغربيِّين لبرهان النَّظم هي قراءةٌ ساذجةٌ

(201)

لا تختلف شيئاً عن الفهم الشائع بين عامَّة الناس من غير العلماء؛ إذ افترضوا الله تعالىٰ صانعاً كسائر البشر، وعلىٰ هذا الأساس تطرَّقوا إلىٰ البحث عن وجوده بالنفي والإثبات؛ ولكنَّ ثمرة هذا الاستدلال الهشِّ هي في الحقيقة إثبات وجود صانعٍ شبيهٍ للإنسان لا غير!

حريٌّ القول إنَّ نظريَّة هيوم حول برهان النَّظم أثارت جدلاً واسعاً في أوساط الفلسفة الغربيَّة طوال ثلاثة قرونٍ، ومن ثمَّ فالنقاشات والآراء التي تمخَّضت عنها أثبتت ضعف البُنية الفلسفيَّة الغربيَّة علىٰ الصعيدين المادِّي والمعنويِّ، كما نستشفُّ منها أنَّ فهم الغربيِّين لبرهان النَّظم لا يتَّصف بأيَّة صبغةٍ فلسفيَّةٍ، ومن ثمَّ لا يمكن مقارنته بالطرح الفلسفيِّ الإسلاميِّ بتاتاً. حتَّىٰ ولو تسامحنا وقلنا إنَّ فهم الفلاسفة الأوروبيِّين لهذا البرهان أعلىٰ درجةً من فهم عامَّة الناس، فهو مع ذلك لا يتجاوز فهم علماء الكلام من الأشاعرة والمعتزلة الذين هم أدنىٰ درجةً من سائر الحكماء المسلمين. ومن جملة ما قاله: «لنفترض أنَّ هذا البرهان يثبت لنا امتلاك خالق الكون عقلاً كالعقل البشريِّ، ولكنَّه لا يثبت لنا أنَّه إلهٌ كاملٌ وغير متناهٍ».

إنَّ الخطأ الذي ارتكبه هذا الفيلسوف هو اعتقاده بأنَّ الذين يؤمنون بكون الله تعالىٰ كاملاً مطلَقاً وغير متناهٍ، قد استندوا في رأيهم هذا إلىٰ نظريَّته التي تقول بأنَّ برهان النَّظم يُعدُّ من سنخ البراهين التجريبيَّة؛ ولكنَّ الحقيقة علىٰ خلاف هذا المدَّعىٰ، فقد أثبتنا آنفاً أنَّ غاية ما نستحصله من هذا البرهان هو إثبات حقيقةٍ عظيمةٍ في عالم ما وراء الطبيعة صاغت الكون وحبكته بهذا النَّظم المذهل بحيث أصبح الكون أثراً بيِّناً لوجودها، ولكنَّ صفات هذه الحقيقة الما ورائيَّة من حيث كونها حادثةً أو قديمةً، واحدةً أو أكثر، محدودةً أو غير متناهيةٍ، وما إلىٰ ذلك من ميزاتٍ أخرىٰ؛ هي في الواقع خارجةٌ من النطاق الاستدلاليِّ لهذا البرهان وإنَّما يتمُّ إثباتها بالاعتماد علىٰ براهين عقليَّة أخرىٰ.

وقال أيضًا: «لو افترضنا أنَّ عالمنا هو أكمل العوالم التي يمكن تصوُّرها، فهل يمكن لنا الجزم بأنَّ صانعه لم يقلِّد غيره في صنعه؟ لعلَّ هذا النّظام المُشاهَد اليوم هو من إفراز الكثير من العوالم التي خضعت للتطوُّر والازدهار شيئاً فشيئاً عبر العصور والأزمنة الغابرة إلىٰ أن أنتجت هذا العالم».

هذا الاعتراض سببه أنَّ الناقد لم يدرك ماهيَّة برهان النَّظم، فقد ظنَّ أنَّ جميع مسائل علم اللاهوت يمكن استنتاجها من برهانٍ واحدٍ، لذا عليه أوَّلاً إدراك أنَّ فائدة هذا البرهان هي إثبات كون الطبيعة غير موكَلةٍ إلىٰ نفسها، بل إنَّ الطاقات الموجودة فيها مسخَّرةٌ من قبل قدرةٍ عظمىٰ،

(202)

فهي مؤثِّرةٌ بفعل فاعلٍ ما ورائيٍّ يمتلك سلطةً عليها. هذا المقدار من البرهان يكفي لتحقيق المراد منه، ولكن في ما يخصُّ ميزات القدرة الما ورائيَّة وخصائصها الذاتيَّة، فهي مباحثٌ يمكن التطرُّق إليها في رحاب براهين أخرىٰ؛ وهذا الأمر بطبيعة الحال لا يقلِّل من شأن برهان النَّظم، ولا يمسُّ باستدلاله، فهدفه هو الانطلاق بالذِّهن البشريِّ من عالم الطبيعة إلىٰ عالم ما وراء الطبيعة.

إذًا، يقال في الردِّ علىٰ هذا الانتقاد إنَّنا نروم من البرهان المذكور إثبات أنَّ ناظم هذا العالم هو الذي يمتلك الشعور فقط، وأمَّا صفاته الأخرىٰ فيمكننا البرهَنَة عليها بواسطة طرقٍ واستدلالاتٍ أخرىٰ.

ولو ذهبنا أبعد من ذلك، وتأمَّلنا في ما طرحه هيوم من أنَّ وجود الشرور في العالم يمنعنا من نسبة العلم المطلَق -اللا محدود- إلىٰ الناظم، وأنَّ الكوارث الطبيعيَّة بمختلف أشكالها تتنافىٰ مع ادِّعاء أنَّ النَّظم الموجود في الكون من صنع صانعٍ عاقلٍ وحكيمٍ؛ ينبغي لنا القول إنَّ هناك سُبُلاً عديدةً قد ذُكرت لحلِّ هذه المسألة، ومن أراد الاطِّلاع عليها بإمكانه مراجعة كتابنا (العدُّ الإلهيّ) إذ ذكرنا تفاصيل الموضوع هناك بإسهاب[1].

(203)

المصادر

1- ريتشارد بوبكين - أُوروم سترول، كلِّيَّات فلسفه (باللّغة الفارسيَّة)، ترجمه إلىٰ الفارسيَّة: جلال مجتبوي.

2- مرتضىٰ مطهَّري، شرح مبسوط منظومة (بالُّلغة الفارسيَّة)، ج3.

3- مرتضىٰ مطهَّري، مجموعة آثار (بالُّلغة الفارسيَّة)، ج1.

 

(204)

المعجزة في فلسفة الدين عند هيوم،

الدليل المتهافت علىٰ نقضها[1]

 

محمد فتح علي خاني[2]

 

في القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد شاع حقلان للدفاع عن الإيمان بالله؛ حقل يخوض في الأصول والمبادئ المشتركة بين المسيحيّين والربوبيّين (المؤمنين بالله غير الدينيّين) ويحاول إثبات وجود الله استنادًا إلىٰ أدلّة عقليّة تمامًا. وتحدّثنا حول هذا الحقل من المعتقدات في البحوث المتعلّقة ببرهان النظام؛ أمّا الحقل الثاني من المناقشات والمنافحات فيختصّ بالمسيحيّين، ويُقصد منه إثبات حقّانيّة رسالة عيسىٰ بن مريم(عليه السلام)، والواقع أنّ حصيلة هذه المنافحات هي معارضة الملحدين والربوبيّين بشكل متزامن. يوافق الدائيّون علىٰ وجود الله خالق العالم، لكنّهم ينكرون أيّ تدخّل له في العالم، فهم يرفضون تدخّل الله في عمليّات تدبير العالم عن طريق المشيئة والعناية الإلهيّة، وينكرون تدخّله الوحيانيّ عن طريق إرساله رسلًا يؤمن المسيحيّون بهم؛ لذلك ينكرون أيضا التدخّل في سياقات الطبيعة عن طريق المعجزة لإثبات دعوىٰ الرسل والأنبياء.

(205)

لقد أحرز معارضو المسيحيّة في العصر الحديث في إطار نهضة مثل الربوبيّة نفوذًا وتأثيرًا ملحوظًا، وبذلك اكتسبت الاستعانة بالمعجزة في إطار الدفاع عن المسيحيّة أهمّيّة مضاعفة. وقبل هيوم وافقت بعض الشخصيّات البارزة مثل جون لوك -وهو من مؤسّسي العقلانيّة في العصر الحديث- علىٰ المعجزة كدليل. ويرىٰ لوك أنّه يمكن إثبات وجود الله اعتمادًا علىٰ البديهيّات، ولكن لا يمكن إثبات المسيحيّة بالاستناد إليها، فالمسيحيّة تعني الإيمان بأنّ عيسىٰ ابن الله، والاعتقاد بالابن يعني الاعتقاد بأنّه المسيح، فلا بدّ من الإيمان بمعجزاته وادّعاءاته[1]. وهكذا فإنّ معجزات عيسىٰ من وجهة نظر لوك تمثّل شهادات تثبت رسالته السماويّة وأنّه المسيح الذي أرسله الله، يقول في هذا الصدد: «الدليل علىٰ الرسالة السماويّة لمخلّصنا، أي مجموع ما قام به أمام كلّ الناس، دليل قاطع جدًّا، حيث إنّ كلّ ما عرضه لا يمكن إلّا أن يكون وحيًا إلهيًّا وحقيقةً لا شبهة فيها»[2].

ويمكن بيان الاستدلال بالمعجزه لإثبات صحّة ادّعاء عيسىٰ في المقدّمات الآتية:

1. الله فقط يمكنه منح القدرة علىٰ الإتيان بالمعجزة لشخص ما.

2. الله لا يمنح مثل هذه القدرة لشخص يتسبّب في انحراف الناس وإضلالهم.

النتيجة: كلّ من يأتي بمعجزة أو بمعاجز يكون في الواقع قد قدّم دليلًا علىٰ كونه جديرًا بالارتباط بالله، ويمكنه أن يبلِّغ الوحي الحقّ[3].

شاع مثل هذا الاستدلال في زمن هيوم، وكان معارضو هذا الاستدلال يرتابون في دلالة المعجزة علىٰ صحّة ادّعاء صاحبها، ويشكّكون كذلك في صحّة المعجزات المرويّة ويثيرون الشبهات حولها.

وكان هيوم مطّلعًا علىٰ آراء المدافعين عن المعجزة كدليل، وكان يقدّر أهمّيّة هذا الدليل ونفوذه في أذهان العامّة من الناس؛ بل حتىٰ في أذهان المستنيرين والمثقّفين منهم أيضًا، وكان كذلك علىٰ علم بآراء المتحرّرين في العصر الحديث الذين يعارضون المعاجز معارضة جدّيّة. ومن أجل أن يستكمل نقده للمؤمنين بالله والدين، كان قد انشدّ لبحث إشكاليّة المعجزة منذ

(206)

فكّر في تأليف وكتابة الأجزاء المختلفة من «رسالة في الطبيعة البشريّة» لقد حاول أن يقرّر وينقّح نقدًا حول مسألة المعجزة، ويقول هيوم إنّ هذا الإشكال قد خطر بباله أثناء حواراته مع يسوعيٍّ فرنسيٍّ، وكانت ثمرة هذه المحاولة إشكاليّة دوّنها وكان يريد في البداية إدراجها ضمن كتابه المذكور لكنّه في نهاية المطاف لم ينشرها في ذلك الكتاب بسبب اعتباراته المحافظة من جهة، ولأنّه كان يرغب في إعادة النظر فيها من جهة أخرىٰ لكنها نُشرتْ بعد ذلك مع إضافات وتعديلات تحت عنوان الفصل العاشر من البحث الأوّل. واهتمّ كلّ من ناقش قضيّة المعجزة في أوروبا اهتمامًا خاصًّا بهذا الفصل منذ صدوره، وتحدّث عنه المعارضون والمؤيّدون وكتبوا عنه الكثير، حتىٰ إنّ كاتب مقال «المعجزات» في «موسوعة استانفورد» يقول: «الفصل العاشر من كتاب هيوم «بحث حول الفهم البشريّ» المعنون «حول المعاجز» يعدّ نصًّا كلاسيكيًّا ومثلًا أعلىٰ للبحوث الفلسفيّة حول المعجزات في الحقبة الحديثة والمعاصرة». ويذهب بعض الخبراء إلىٰ أنّه كان لهذه الدراسة تأثير أساسيّ علىٰ تيّار فلسفة الدين في العصر الحديث[1].

المعجزة وحساب الاحتمالات

حاول هيوم إشراك بحوث الاحتمالات في الحكم علىٰ المعاجز، وكانت خطوته هذه محاولة للتغلّب علىٰ مشكلة لم يستطع الماضون حلّها. كان جون لوك قد سبقه بالقول إنّ ثمّة مصدرين لمعتقداتنا الظنّيّة والاحتماليّة: الأوّل الشبه بين الشيء وبين علومنا ومشاهدتنا وتجاربنا، والثاني شهادات الآخرين الذين يروون لنا مشاهداتهم وتجاربهم. وبعد أن عرض لوك شروط قبول شهادات الآخرين ورواياتهم، أكّد علىٰ أنّ المنهج العقلانيّ لقبول العقائد الاحتماليّة بشكل عامّ يكمن في مقارنتها ببعضها من حيث القوّة والرصانة، وترجيح الاحتمال الأقوىٰ علىٰ سائر الاحتمالات[2].

يرىٰ لوك في مقام المقارنة بين الاحتمالات أنّ ثمّة مشكلة تبرز عندما تتعارض الشهادات مع التجارب العامّة، وعندما تتناقض الأخبار والشهادات التاريخيّة مع بعضها، ومع السياق المألوف للطبيعة. هنا لا بدّ من المثابرة والتوجّه والدقّة للخروج بحكم صحيح، وتكييف درجة ومرْتِبة تصديق أمرٍ ما مع الاحتمال الحاصل من المشاهدات المشتركة في الحالات المتشابهة [من جهة] والاحتمال الحاصل من شهادات خاصّة حول ذلك الأمر نفسه [من جهة ثانية]...

(207)

الدرجات المختلفة من التصديق التي يمحنها الأفراد لكلّ واحد من الأدلّة والشواهد من الصعب إدراجها ضمن قاعدة دقيقة»[1].

المشكلة التي يطرحها لوك في العبارات المذكورة هي في الواقع الصورة الكلّيّة لمشكلةٍ تطرّق هيوم لأحد مصاديقها، وقد حاول بنحو من الأنحاء الحكم بين أخبار المعاجز والأدلّة والقوانين الطبيعيّة عن طريق حساب الاحتمالات، وترجيح أحد الجانبين علىٰ الآخر، وحاول بذلك إدراج هذا الحكم أو التقويم في إطار قاعدة، لكن لوك لم يستعن بحساب الاحتمالات في هذا المقام (ربما بسبب عدم اطّلاعه عليه)، فلم يكن بوسعه فعل شيء سوىٰ الدعوة للدقّة والمثابرة وما إلىٰ ذلك[2].

حول المعاجز

وردت دراسة هيوم الرئيسة حول المعجزات في فصل تحت هذا العنوان (حول المعاجز) في كتابه (بحث حول الفهم البشريّ). تعود الفكرة الأصليّة للبحوث المطروحة هنا إلىٰ الفترة التي كان يمكث فيها هيوم في فرنسا، أي حينما كان يكتب رسالته[3]. يروم هيوم في دراسته هذه مستعينًا ببحوث حول حساب الاحتمالات الانتهاء إلىٰ نتيجة فحواها أنّ أخبار المعاجز غير معقولة، والقول إنّ توظيف المعاجز للدفاع عن المسيحيّة عمليّة غير مجدية وغير كفوءة. ولتحقيق هذه الغاية فإنّ هيوم لا يدرس أيّ خبر خاصّ حول وقوع المعاجز، بل يدّعي أنّ بمقدوره عرض استدلال كلّيّ شامل يغنينا عن هذه الدراسة للحالات الخاصّة. حيث يتوهّم أنّ لديه استدلال ضدّ المعجزات يسقط كلّ أخبار المعاجز عن الاعتبار، حتىٰ لو وردت عن لسان أوثق الشهود وأكثر الرواة أمانةً، وهو يرىٰ أنّ هذا الاستدلال إبداعيّ ومتقن ورصين طبعًا، لكنّ نقّاده يرون غير ذلك.

شكّك بعض الباحثين في إبداعه هذا الدليل، ورووا نماذج له جاء بها سابقون عليه، وأنكر فريق آخر إتقان الدليل وانسجامه، ووصفوا كلّ الدراسة (حول المعاجز) بأنّها مشوّشة وتفتقر للمتانة[4]. وقد انطلقت مثل هذه النقود علىٰ هيوم منذ كتابته هذه الدراسة؛ حيث سجّل

(208)

عليه معاصروه بعض الملاحظات والإشكالات. ارتاب جورج كمبل[1] المعاصر لهيوم في أصالة استدلال هيوم وإبداعه، لكنّه لم يتحدّث عن مضمونه، وقرّر بلغة ساخرة أنّ آراء هيوم في رفض روايات المعاجز تفتقر للقيمة والأهمّيّة، معتبرًا أنّ أسلوب بحثه يشكّل حيلة لإثارة دهشة القرّاء وكسب ثقتهم:

عندما يعرض كاتبٌ صاحب نبوغ وفصاحة وبلاغة أفكاره بتعابير عامّيّة، فمن السهل عليه أن يخلع علىٰ أبعد الأشياء عن العقلانيّة لبوس العقل وظاهره....إنّه يستخدم الاستعارات بشكل خاصّ... استعارات مناسبة لكسب القارئ إلىٰ معسكره. ما من شخص بسيط طيّب يستطيع الشكّ في حياد باحث يقيس كلّ استدلالات أطراف النزاع بمقاييس عقليّة، أو يستطيع تسجيل شبهة علىٰ دقّة باحث يطرح كلّ شيء ويوضحه بحسابات عدديّة. استدلال هيوم من زاوية سطحيّة لا يقلّ عن البرهان، ولكن إذا دُرس بدقّة، فلا يمكن أن نجد حالة يمكن استخدام ذلك الاستدلال فيها بشكل معقول[2].

يشير كمبل في حديثه عن الحسابات العدديّة إلىٰ استعانة هيوم ببحوث الاحتمالات، بالشكل الذي يعتقد فيه أنّ هيوم قبل أن يستطيع تكوين استدلال متقن بواسطة حساب الاحتمالات، حاول بعرضه حسابات عدديّة أن يمنح استدلاله رونقًا ويبهر القارئ السطحيّ بقابليّاته الفريدة.

ليس كلّ الذين تطرّقوا لدراسة هيوم هذه في مناقشاتهم للمعجزة يفكّرون ويكتبون مثل كمبل، فقد نظر بعضهم نظرة قبول لاستدلاله ضدّ المعجزة، واعتبروه استدلالًا حاسمًا في رفض المسيحيّة.

وإذا أردنا أن نرجّح إحدىٰ هاتين الرؤيتين المتعارضتين تمامًا، فلا بدّ أن نفهم أوّلًا ما الذي يقوله هيوم في دراسته هذه، وما هو هذا الاستدلال الحاسم الذي يتحدّث عنه؛ لذلك نعرض أوّلًا تقريرًا مختصرًا لدراسته.

(209)

بنية فصل «حول المعاجز»

يتكوّن فصل «حول المعاجز» من قسمين رئيسين؛ يحاول هيوم في القسم الأوّل إقامة استدلال عامّ، وعلىٰ حدّ تعبير شرّاحه: إقامة استدلال قبليّ؛ حتىٰ يمكن بالاعتماد عليه البتّ في مدىٰ صحّة كلّ روايات المعاجز، والشطب بقلم البطلان علىٰ المعجزة كدليل علىٰ حقّانيّة المسيحيّة، وذلك دون الخوض في بحوث تفصيليّة دقيقة حول الوثائق والتوثيق وما شاكل. يرىٰ بعض النقّاد أنّ محاولة هيوم هذه هي محاولة عبثيّة تنمّ عن نوع من الأحلام المجنّحة، ولا تجلب شيئًا سوىٰ الفضيحة[1].

يعرّج هيوم في القسم الثاني من دراسته علىٰ الاستدلال البعديّ، فيوافق بشكل ضمنيّ علىٰ أنّه من غير المعلوم أنّ طموحه في إسقاط الاعتبار عن روايات المعجزة قد تحقّق أو لم يتحقّق. يسوق هيوم في هذا القسم أربعة أدلّة تشهد علىٰ أنّ روايات المعاجز لا تتوفّر علىٰ الشروط والخصائص اللازمة لكي تكون وثائق تاريخيّة معتبرة يمكن الوثوق بها. وبعبارة أخرىٰ فإنّ الروايات التي تخبر عن نهوض عيسىٰ وانبعاثه حيًّا من الأموات لا تتوفّر علىٰ شروط الاعتبار. ولا بدّ من الإشارة إلىٰ أنّ هيوم لا يتعرّض إلىٰ روايات انبعاث عيسىٰ واحدةً واحدةً، ولم يحاول دراسة مدىٰ اعتبار كلّ واحدة منها بشكل منفصل، لكنّه علىٰ كلّ حال حاول بنظرة في الواقعيّات التاريخيّة تسجيل نواقص وثغرات علىٰ هذه الروايات.

ببيان أفضل، في القسم الأول يأخذ هيوم بعين الاعتبار -وفي أجواء انتزاعيّة تمامًا- فرضيّات مختلفة يمكن ذكرها للحكم علىٰ اعتبار رواية من الروايات في حدّ ذاتها، يقول في هذا الخصوص: علىٰ فرض أيّ درجة من الاعتبار لرواية ما، يمكن القول إنّ مضمون روايات المعاجز ومحتواها يمنعنا مسبقًا من قبولها. في هذا القسم لا يكلّف هيوم نفسه أبدًا عناء مراجعة التاريخ والوثائق التاريخيّة، لكنّه في القسم الثاني يقدّم حكمًا تاريخيًّا في الواقع، ويتطرّق في ضوء ما وقع في التاريخ، بحيث يمكن قبوله من دون أيّ شكّ لتقويم أخبار المعجزات، وخصوصًا معجزات العهد الجديد، ومنها معجزة قيام عيسىٰA من الأموات بشكل أساس. يعتقد هيوم أنّ الأمور الواقعيّة والتاريخيّة التي لا تقبل الشكّ والتي تمنع قبول روايات المعاجز، هي من هذا القبيل:

(210)

1. روايات المعاجز ترجع كلّها إلىٰ مجتمعات بدائيّة بدويّة غير مثقّفة.

2. كلّ البشر، وخصوصًا الشعوب القديمة، لديهم ميول مفرطة نحو الإيمان بالأمور الباعثة للحياة والخارقة للعادة، وهم يبالغون في ميولهم هذه إلىٰ درجة أنّهم ينسجون حول كلّ خبر عن هذه الأمور زخارف وإضافات بشكل مستمرّ.

3. تعرض جميع الأديان علىٰ اختلافها روايات تاريخيّة دالّة علىٰ وقوع المعاجز، ويبني المتديّنون والمؤمنون بتلك الأديان إيمانهم علىٰ صحّة تلك الروايات، وبهذا يستخدمون معجزات دينهم كحِرابٍ وأسلحة ضدّ الأديان الأخرىٰ وضدّ معجزات الأديان الأخرىٰ، غافلين عن أنّهم معرّضون بدورهم لتهديدات معاجز الأديان الأخرىٰ.

ونلفت نظر القارئ إلىٰ أنّنا سنقدّم تقريرًا تحليليًّا تفصيليًّا لكلا القسمين من دراسة (حول المعاجز) في بحوث قادمة.

الاستدلال القبليّ ضدّ المعاجز

يعتبر هيوم المعجزة نقضًا لقانون الطبيعة. فالمعجزات المدّعاة في الدين المسيحيّ لا تقبل أيٌّ منها المشاهدة بحواسنا؛ لذلك لا يمكن الاعتقاد بها إلّا عن طريق دراسة الروايات التي تخبر عنها، فهل يمكن الاعتماد علىٰ أخبار المعاجز لإثبات أنّ قانون الطبيعة قد نُقض؟!

يجيب هيوم عن هذا السؤال عن طريق بيان وقوع تعارض بين الأدلّة، حيث يقول إنّ اعتقادنا بقوانين الطبيعة هو ثمرة مشاهدة اقتران دائم بين ظاهرتين نعتبر واحدة منهما علّةً والثانية معلولًا. تجاربنا الماضية حول هذه الظاهرة رتيبة ومتكرّرة إلىٰ درجة أنّها تمنحنا أعلىٰ درجات الثقة أن إحدىٰ هاتين الظاهرتين إن وُجدت في المستقبل ستتحقّق الثانية أيضًا. لكنّ روايات المعاجز تدّعي أنّه ثمّة حالة واحدة توفّرت فيها إحدىٰ هاتين الظاهرتين ولم تتحقّق الثانية. تقول لنا التجربة الرتيبة ـ علىٰ سبيل المثال ـ إنّه عندما يموت شخص فلن يعود إلىٰ الحياة، أي أنّ الموت وعدم العودة إلىٰ الحياة ظاهرتان متقارنتان دومًا. إذًا، قانون الطبيعة هو عدم العودة للحياة بعد الموت. لكن أخبار المعاجز تقول إنّه في مكانٍ ما نُقض هذا القانون وعاد شخص إلىٰ الحياة بعد موته، وهنا نسأل: أيّ هذين نصدّق؟ هل نصدّق مقتضىٰ التجارب الماضية التي تنكر وقوع مثل هذه المعجزة، أم نصدّق فحوىٰ أخبار المعاجز؟ من أجل أن

(211)

نستطيع تصديق أحد هذين الخبرين يجب أن ننظر إلىٰ مدىٰ قوّة أرصدة كلٍّ منهما. ورصيد قانون الطبيعة تجربة رتيبة لا استثناء لها، فماذا عن رصيد أخبار المعاجز؟

عمومًا، نصدّق الأخبار ونعتقد بمحتواها؛ لأنّنا وجدنا في الماضي أنّه متىٰ ما كان المخبرون عن الأحداث أناسًا موثوقين ولا توجد لديهم دوافع كذب، كانت أخبارهم صحيحة ومتطابقة مع الواقع. تكرار تجربة الاقتران بين الخبر وتطابقه مع الواقع يحضّنا علىٰ قبول الأخبار والروايات، ولكن هل الاقتران بين الخبر وصحّته هو اقتران دائميّ؟ لا شكّ أنّنا وجدنا في تجاربنا الماضية حالات لم تكن فيها الأخبار متطابقة مع الواقع؛ لذلك فإنّ ثقتنا بصحّة الخبر لا ترقىٰ أبدًا لصحّة قوانين الطبيعة، وبهذا نقول إنّ المنهج العقلانيّ في الانتخاب بين قانون الطبيعة وخبر المعجزة هو ترجيح الدليل الأقوىٰ علىٰ الدليل الأضعف. وفي هذه الحالة فإنّ الدليل المؤيِّد لقانون الطبيعة أقوىٰ، وبالتالي يقتضي العقل أن ننكر المعجزة ونرجِّح قانون الطبيعة علىٰ صحّة خبر المعجزة.

يمكن بيان هذا الاستدلال بالشكل الآتي: (غسكين، 1988م، ص 152 و 153):

1. الدليل الأضعف لا يبطل الدليل الأقوىٰ أبدًا.

2. الإنسان العاقل يلائم عقيدته مع الدليل.

3. بعض الأحداث تقع دائمًا بشكل رتيب متكرّر ونستطيع تجربتها، ومثال ذلك أنّ كلّ البشر يموتون. هذه التجارب الرتيبة للأمور الواقعيّة تؤسّس لمسلّمات تسمّىٰ قانون الطبيعة، والتجارب الثابتة تعضدها وتؤيّدها.

4. فئة أخرىٰ من الأحداث لا تقع بشكل رتيب ودائميّ. ووقوع هذه الأمور يفتح الباب أمام احتمالات مختلفة في مستوىٰ قوّتها، بعضها يمثّل احتمالات قويّة، وبعضها يمثّل احتمالات ضعيفة.

5. صحّة الأخبار والروايات والشهادات الإنسانيّة حسب ما لدينا من تجارب، هي علىٰ الغالب احتمال قويّ، إلىٰ أن تتحوّل إلىٰ دليل كامل علىٰ وقوع ما ترويه علىٰ أرض الواقع.

6. لكنّ صحّة الشهادة الإنسانيّة في بعض الأحيان قد تمثّل احتمالًا ضعيفًا، كما لو تعارضت الشهادات فيما بينها، أو إذا كان عددها قليلًا، أو إذا رُويت عن أشخاص غير موثوقين، أو

(212)

إذا كان الرواة محبّين لموضوع شهادتهم منتفعين منه، أو عندما يروي الرواة خبرهم بشكّ واضطراب، أو عندما يروون خبرهم بإصرار وحدّة وشدّة غير طبيعيّة.

نستنتج من المقدّمتين 3 و 4 أنّه عندما يتعارض خبر المعجزة مع التجربة الرتيبة، فإنّ التعارض في الواقع يقع بين احتمالٍ -ضعيف أو قويّ- هو احتمال صحّة الخبر، مع يقين.[1] وبناءً علىٰ المقدّمتين 1 و 2، فإنّ من الطبيعي أن يرجّح الإنسان العاقل جانب اليقين.

في خصوص أيّ معجزة يصدق القول إنّها تقف علىٰ الضدّ من قانون طبيعيّ، وإلّا لم تكن جديرة بأنّ تسمّىٰ معجزة. التجربة الرتيبة التي تؤيّد قانون الطبيعة تصل في الواقع إلىٰ متانة الدليل الكامل، وبالتالي فإنّ ماهيّة أيّ واقعة إعجازيّة تقتضي أن يكون مقابلها دليلًا كاملًا حاسمًا، بحيث يكون دليلًا لا يمكن الانتصار عليه إلّا بدليل أقوىٰ منه، والحال أنّ أيًّا من روايات المعاجز لا تتمتّع بمثل هذه القوّة التي تخوّلها التفوّق علىٰ دليل القوانين الطبيعيّة.

وبعد بيان المقصود من الاستدلال القبليّ لهيوم والذي يشكّل القسم الأوّل من دراسته، يجب أن ندرس العناصر المدرجة فيه واحدًا واحدًا، لنستطيع عبر تحليل كلّ واحد من تلك العناصر التوصل إلىٰ تقويم بشأن قوّة هذا الاستدلال.

تعريف المعجزة

يعرّف هيوم المعجزة في دراسته بطريقتين؛ يقول في بداية الدراسة: «المعجزة نقض لقوانين الطبيعة»[2]، ثم يعرض في أحد الهوامش تعريفًا آخر فيقول: «يمكن تعريف المعجزة علىٰ نحو دقيق بالآتي: مخالفة أحد قوانين الطبيعة بواسطة إرادة إلهيّة خاصّة أو بواسطة تدخّلِ عامل غير مرئيّ»[3]. ولقانون الطبيعة في كِلا التعريفين مكانة خاصّة، ولكن أُضيفَ إلىٰ التعريف الثاني عنصر آخر هو «تدخّل الإرادة الإلهيّة الخاصّة أو العامل اللاَّمرئيّ».

ويمكن ملاحظة كِلا العنصرين في التعاريف التي عرضها الفلاسفة والمتكلّمون الأوروبيّون

(213)

والمسيحيّون قبل هيوم، فتوما الأكوينيّ يعرّف المعجزة بالآتي: «تقال المعجزة لأمور تحدث بفاعليّة إلهيّة وفوق النظام المشهود عادةً في الطبيعة»[1]. وينقل لوين أنه قد ورد في «موسوعة چمبرز» أنّ: «المعجزة في الكلام المسيحيّ تدلّ علىٰ تدخّل واضح للقدرة الإلهيّة يقضي علىٰ الأداء الاعتياديّ لتيّار الطبيعة، أو يوقفه مؤقّتًا أو يغيّره» [2].

بإلقاء نظرة إلىٰ كِلا التعريفين الذين يطرحهما هيوم يتجلّىٰ أنّ عنصر مخالفة قانون الطبيعة يتمتّع عنده بأهمّيّة أكبر. إذن، لإدراك تعريف هيوم للمعجزة بشكل أصحّ، يجب أن نفهم مراده من (قانون الطبيعة).

قانون الطبيعة

ثمّة آراء ونظريّات متباينة في فلسفة العلم حول ماهيّة قانون الطبيعة، والخوض فيها يخرج عن نطاق بحثنا الحاليّ. نروم هنا معرفة ما يقصده هيوم من قانون الطبيعة، حيث يرىٰ هيوم أنّ قانون الطبيعة عبارة كلّيّة، وهو قانون ينبئ عن نظام دائميّ في الطبيعة. النظام الدائميّ نظام لا تُشاهد علىٰ الإطلاق أيّ حالة بخلافه. وبناءً عليه فإنّ كلّ قوانين الطبيعة تُعضد وتبرهن بتجارب رتيبة. بعبارة أخرىٰ، ثمّة دائمًا دليل كامل يؤيّد قانون الطبيعة؛ لذلك تصديقنا لقانون الطبيعة لا يرقىٰ له أيّ شكّ أو ارتياب، فإذا اعترفنا بعلاقة بين ظاهرتين علىٰ أساس أحد قوانين الطبيعة، نقوم في الواقع بالإخبار عن تداعٍ واقترانٍ في ذهننا لا يقاربه الشكّ، وبمجرّد أن يظهر فيه انطباع أو تصوّر لأحد طرفي هذه العلاقة يظهر تصوّر للطرف الآخر منها، وعندما نواجه أحد طرفي العلاقة نتوقّع وجود الطرف الآخر منها.

يعتقد هيوم أنّه لا توجد أيّ علاقة من علاقات العلّيّة بين الظواهر يمكن أن تعدّ علاقة ضروريّة أي (ضرورة منطقيّة)، ولا يمكن أن تتخلّف؛ لأنّه يمكن دومًا تصوّر خلاف تلك العلاقة. إذن يمكن منطقيًّا نفي أيّ علاقة منطقيّة، وإذا شاهدنا شيئين كنّا قد شاهدناهما في السابق مقترنين ببعضهما دائمًا، ثمّ وجدناهما منفصلين عن بعضهما، فلن يكون قد وقع بذلك أيّ محال منطقيّ. إذن، نقض الطبيعة يفترض مبدئيًّا أن يكون أمرًا ممكنًا، وبالنتيجة فالمعجزة حسب تعريف هيوم ليست أمرًا ممتنعًا؛ بل هي أمر ممكن منطقيًّا. من هنا يمكن الاستنتاج

(214)

أنّ هدف هيوم من استدلاله لا يمكن أن يكون القول بامتناع وقوع المعجزات. وبالتالي إذا استطاع شخص أن يثبت في ضوء تصريحات هيوم ولوازم كلامه، بأنّه يدّعي امتناع المعاجز، فعندها يكون قد استطاع الإشارة إلىٰ الإشكال في أفكار هيوم.

لقد صرّح بعض شرّاح فكر هيوم من منطلق قرينة آرائه حول إمكانيّة وقوع العلاقات العلّيّة وأنّها غير ضروريّة، بأنه لم يقصد إثبات استحالة المعجزة، إنّما أراد التحدّث حول روايات المعاجز ودرجة قابليّتها للتصديق فقط[1].

 ربما أمكن العثور علىٰ قرينة أخرىٰ في كلام هيوم تعضد هذا الرأي، علىٰ الرغم من أنّه قد يكون ثمّة اختلاف في وجهات النظر حول دلالة هذه القرينة. والقرينة هي أنّ هيوم -كما سبق أن قلنا- حرّر فصلَ «حول المعاجز» في قسمين، وخصّص القسم الأوّل للاستدلال القبليّ، وناقش في القسم الثاني الاستدلال البعديّ بالتفصيل، واستدلال هيوم البعديّ يفيد أنّ قوّة روايات المعاجز ليست بالدرجة التي تمكّنها من معارضة دليل قانون الطبيعة. وضعف روايات المعاجز ناتج عن طبيعة الظروف التي سادت شهود المعاجز ورواتها وزمانهم. الاستعانة بمثل هذا الاستدلال لمعارضة روايات المعاجز عمليّة مقبولة، وذلك إذا كان نقض قانون الطبيعة ممكنًا، وإلّا فإنه يمكن لأيّ شخص الجزم ببطلان أيّ رواية تخبر بشيء مستحيل دون أن يحتاج إلىٰ التشكيك في توثيق شهود الرواية ورواتها. مجرّد خوض هيوم في البحث حول شروط الثقة برواة أخبار المعاجز يمثّل قرينة بحدّ ذاته علىٰ أنّه لا يعتبر وقوعَ المعجزةِ مستحيلًا بنفسه.

طبعًا، قد يقال إنّ قضيّة القسم الثاني من «حول المعاجز» قضيّةٌ ترِد من باب التسامح، وفيها طابع جدليّ، بمعنىٰ أنّ هيوم يرىٰ المعاجز مستحيلة، لكنّه يريد القول في القسم الثاني من دراسته بأنّه حتىٰ لو لم نعتبر المعجزة مستحيلةً فالأخبار التي تروي لنا هذه المعاجز لا تتمتّع بالشروط اللازمة والاعتبار الكافي. ولكن من المستبعد أن يستمرّ النقاش الجدليّ التسامحيّ ليستغرق صفحات أكثر مما استغرقه النقاش الأصليّ أي القسم الأوّل من دراسة «حول المعاجز».

والخلاصة هي أننا إذا اعتبرنا المعجزة نقضًا لقانون الطبيعة واعتبرنا قانون الطبيعة قانونًا

(215)

ضروريًا لا يقبل التخلّف، عندئذ ستكون المعجزة عبارة عن: «التخلّف عن قانون لا يقبل التخلّف»، وهذه عبارة متناقضة، وبالتالي ستكون المعجزة مستحيلة، وهكذا لن تكون ثمّة حاجة للبحث والنقاش في سبيل رفض روايات المعاجز، ناهيك عن التشكيك في صلاحيّة الشهود ووثاقتهم، أو النقاش حول الظروف الفكريّة والثقافيّة في زمن وقوع المعجزة، وما إلىٰ ذلك. إذن، فإنّ مجرّد قد طرح مثل هذه البحوث والمسائل في القسم الثاني يعدّ بحدّ ذاته شاهدًا وقرينة علىٰ أنّ هيوم لم يفهم قانون الطبيعة كضرورة خارجيّة لا تقبل النقض.

ولا بدّ من الإشارة إلىٰ أنّ كون القوانين الطبيعيّة ضروريّة لا ينسجم أساسًا مع النزعة التجريبيّة. والواقع أن هناك فهمين اثنين لقوانين الطبيعة، الأوّل: فهم عقلانيّ والثاني فهم تجريبيّ؛ أما في الفهم العقلانيّ لقوانين الطبيعة فقد يضعف احتمال وقوع المعجزة إلىٰ الصفر، وبالتالي يضعف احتمال صحّة روايات المعاجز إلىٰ الصفر أيضًا. فوقوع المعجزة لا يعتبر غير معقول عند التجربيّين، فمنهج أصالة التجربة لا يقتضي مثل هذا الحكم بالاستحالة، لأنّ هذا المنهج لا يعصم من الشكّ والترديد حتىٰ في ما يتعلّق بأرقىٰ النظريّات العلميّة وأوثقها، وحدود الاطمئنان والوثوق في المناهج التجريبيّة أقلّ دومًا من اليقين المنطقيّ، وثقتنا بالعلم والنظريّات العلمية أدنىٰ دومًا من اليقين[1].

 لو كان فهم هيوم لقانون الطبيعة كفهم العقلانيّين، لكان حاله كحال اسبينوزا؛ حيث يعتقد هذا الأخير أنّ نظام العالم نظام ضروريّ ناتج برمّته عن الإرادة الإلهيّة، ولا يقبل أيّ نظام من نظمه التخلّفَ؛ لأنّ النقض والتخلّف في هذه الأنظمة هو بمثابة التخلّف عن إرادة الله وأوامره. هذا النظام الضروريّ لا يقبل التخلّف علىٰ أرض الواقع، وتسوده علاقات علّيّة ضروريّة، وينعكس في عقل الإنسان أيضًا علىٰ شكل علاقات ضروريّة لا تقبل التخلّف، وعليه فإنّ تصوّر أيّ تخلّف عن قوانينه يعدّ تصوّرًا مخالفًا للعقل. إذًا، فالمعجزة حدث مستحيل ويجب تفسيرها في إطار معتقدات الناس ليس إلّا، أي إنّ المعجزة حدث لا يمكن تبيين علّته الطبيعيّة بواسطة الأحداث الطبيعيّة المألوفة والدراجة، أو إنّنا وشهودها غير قادرين علىٰ تبيينها بما يوافق قوانين الطبيعة.

هذا التصوّر للمعجزة يمكن تسميته التصوّر الذهنيّ للمعجزة. وهو في الواقع تبيين طبيعيّ

(216)

لوجود اعتقاد بالمعجزة أو لوجود روايات تخبر عنها. أي إنّها تبيّن أنّ عدم إطلاع الناس علىٰ العلل الطبيعيّة لبعض الحوادث يمثّل علّة لنسبة تلك الحوادث إلىٰ علل فوق طبيعيّة.

حاول هيوم بدوره تفسير روايات المعجزة والاعتقاد بالمعاجز تفسيرًا طبيعيًّا، وخصّص القسم الثاني من دراسته لهذه المهمّة، بيد أنّه لم يكن يؤمن بحتميّة قوانين الطبيعة كما يؤمن بها اسبينوزا. إذن كيف يمكنه مثل اسبينوزا تقبّل التصوّر الذهنيّ للمعجزة؟ بكلمة ثانية: إذا لم تكن المعجزة مستحيلة، فلماذا يجب أن لا نمحّص روايات المعاجز، فإذا كان رواتها موثوقين صدّقنا وقوعها؟ لماذا يجب إنكار وقوع تلك الحوادث بنحو قبليّ؟ يجيب هيوم عن هذا السؤال المهمّ عن طريق دراسة متانة دليلين متعارضين ومقارنتهما. وحاصل الجواب أنّه حتىٰ لو لم يكن وقوع المعجزة مستحيلًا، فسيبقىٰ دليل قانون الطبيعة أقوىٰ دائمًا من دليل أخبار المعجزات؛ لذلك لا يستطيع دليل أخبار المعجزات أبدًا الوقوف بوجه دليل قانون الطبيعة.

ما هو دليل قوانين الطبيعة؟

ذكرنا سابقًا أنّ كلّ قانون طبيعيّ يعبّر عنه بعبارة كلّيّة هو حصيلة مشاهدة مكرّرة لا استثناء لها لاقتران وتعاقب ظاهرتين أو أكثر. بعبارة أخرىٰ إذا شاهدنا مرّات عديدة أنّ حروف (أ) هي (ب)، فإذا كان عدد المشاهدات كبيرًا جدًّا، فهذا يعني احتمال أن تكون كلّ حروف (أ) هي (ب) يساوي واحدًا.

السبب في أنّ هذا الاحتمال يساوي واحدًا هو أنّه لم تشاهد حتىٰ حالة واحدة لا يكون فيها (أ) هو نفسه (ب). يمكن التعبير عن هذه الفكرة نفسها بالقول إنّنا إذا شاهدنا في n مرّة من التجارب أنّ (أ) هو (ب) بـ m مرّة من المرّات، فإن احتمال أن تكون حروف (أ) هي (ب) يساوي m/n، وإذا كان m=n يمكن الاستنتاج بأن احتمال أن تكون كلّ حروف (أ) هي (ب) يساوي واحدًا، وتبعًا لذلك سيكون ثمّة احتمال أن نشاهد في المستقبل حرف (أ) ليس بـ (ب)، يساوي صفرًا[1].

يوصينا هيوم بأنّه إذا كان دليلكم الاستقرائي لقانون من قوانين الطبيعة دليلًا كاملًا، فلا تقبلوا نقض ذلك القانون، أي كذّبوا ولا تصدّقوا القضيّة التي تخبر بنقص ذلك القانون. يمكن الإشارة إلىٰ سقم هذه التوصية بمثال نقضيّ.

(217)

شاهد العلماء في فيزياء الذرات ملايين البروتونات (عدد كبير بالقدر الكافي)، ولا تظهر أيّ من هذه المشاهدات تفتّت[1] البروتون، لكن علماء الفيزياء لا يقولون بنحو قاطع إنّ البروتون الآتي سوف لن يتفتّت، أي إنّهم لا يعتبرون صحّة قضيّة (كلّ البروتونات لا تصاب بالتفتّت) تساوي واحدًا؛ لذلك ينفقون وقتًا وتكاليف كبيرة ليقوموا بتجارب واختبارات لاكتشاف تفتّت البروتون.[2] إنفاق كلّ هذه الأوقات والتكاليف لا يعدّ في نظر العلماء عملًا غير معقول، لأنّ منح احتمالٍ يساوي واحدًا لقضيّة إنكار تفتّت كلّ البروتونات، عمل غير معقول، وهم لا يكذّبون نقيضها أي (إمكان تفتّت البروتون) تكذيبًا حاسمًا.

و اللافت أنّ هيوم نفسه يستعين لتأييد الاصطفاف بمثال يساعدنا إلىٰ حدّ كبير علىٰ أن نتفهّم لاعقلانيّة منح الاحتمال (واحد) للاستدلالات الاستقرائيّة.

مثال «الأمير الهنديّ» مثال مشهور استعاره من أسلافه، ونحن نستخدم المثال نفسه باتجاه مغاير للهدف الذي يتوخاه هيوم، وفي الواقع سنستفيد منه في اتجاه يتوافق مع آراء توماس مور[3] في كتاب: (حوار حول البدع)[4] لنوضّح المخاطر التي تترتّب علىٰ منح الاحتمال واحد للاستدلالات الاستقرائيّة. يعارض توماس مور الرؤية القائلة إنّنا يجب أن نرفض أخبار المعجزات لأنّ المعجزات لا تنسجم مع الطبيعة، ويقول في المثال:

شخص هنديّ لم يخرج من بلاده أبدًا، ولم ير أبدًا رجلًا أو امرأة من البيض، وشاهد دومًا أناسًا سودًا كثرًا، ويعتقد أنّ البشرة البيضاء تخالف طبيعة الإنسان، ونظرًا إلىٰ أنّه وجد الطبيعة بهذا الشكل، فهو يعتقد أنّه حتىٰ لو قال العالم كلّه كلامًا بخلاف عقيدته، فإنّ العالم كلّه يكذب. فمن هو المخطئ؟ هل هذا الشخص الهنديّ الذي يتبنّىٰ دليله علىٰ طبيعة الإنسان، أم الشخص الذي لا يوافق هذا الدليل ويؤمن بالتالي أنّ هناك بشرًا بيضًا؟[5]

السبب في حكم ذلك الرجل الهنديّ ليس سوىٰ أنّه يفكّر مثل هيوم؛ لذلك فهو يحترم مشاهداته الماضية إلىٰ درجة أنّه يعتبر الأمر غير المستحيل في حدّ ذاته، أمرًا مستحيلًا، وبذلك يعارض الأخبار التي تروي وقوع ذلك الأمر معارضة عنيدة.

(218)

كان جون لوك قد ساق قبل هيوم مثالًا مشابهًا، وهو كان يحاول توظيف هذا المثال أيضًا، لكن بشكل يختلف عن طريقة تفكير هيوم؛ حيث نرىٰ أنّ جون لوك تعرّض في الفصل الخامس عشر من الكتاب الرابع من (بحث حول الفهم الإنسانيّ)، لقضيّة المعارف الاحتماليّة، وذلك في معرض بيان مراتب المعرفة البشريّة، ويذكر منشأين لمعارف الإنسان الاحتماليّة. أحد هذين المنشأين الشهادات والأخبار التي يدلي بها الأفراد للآخرين حول مشاهداتهم وتجاربهم. يعتقد لوك أنّه إذا كان عدد الشهود والرواة ووثاقتهم وصدقهم وقوة ضبطهم وإدراكهم بالمقدار الكافي، وكان الخبر الذي يروونه يتمتّع بالانسجام الداخليّ، ولا توجد شهادة معارضة تدحضه، وإذا لم يكن هناك سبب لكذب أحد الشهود أو الرواة أو تآمرهم، فيجب أن نوافق علىٰ خبرهم ونعتقد ونثق به، وتكون درجة ثقتنا تابعة لدرجة توفّر الشروط المذكورة. يتابع جون لوك قائلًا:

إذا شاهدت بنفسي شخصًا يمشي علىٰ الثلج، فإنّ اعتقادي بهذا الحدث أعلىٰ من حدّ الاحتمال. أنا هنا عندي علمٌ. إذا أخبرني شخص أنّ شخصًا في فصل الشتاء وفي بريطانيا مشىٰ علىٰ ماء متجمِّد نتيجة البرد، فلأنّ خبره هذا ينسجم مع تجاربي السابقة [وأنا أعيش في بريطانيا] سأكون راغبًا في تقبّل خبره هذا إذا لم يكن مصحوبًا بقرائن تشكيكيّة، ولكن إذا نقلوا هذا الخبر نفسه لشخص يسكن المناطق الاستوائيّة، فبما أنّه لم يشاهد أبدًا مثل هذا الحدث ولم يسمع به، ستكون درجة ثقته بهذا الخبر منوطةً بعدد الشهود والرواة وموثوقيّتهم، وبعدم وجود سبب أو دافع لكذبهم. طبعًا الشخص الذي تدلّ كلّ تجاربه الماضية علىٰ خلاف هذه الواقعة سوف لن يوافق حتىٰ روايات أوثق الناس إلّا بصعوبة بالغة، وسوف لن يصدّق فحوىٰ خبرهم إلّا بصعوبة. والأمر هنا يشبه قصّة سفير هولندا الذي كان يسلّي ملك سيام بقصص وحكايات من هولندا، ومن ذلك أنّه قال له إنّ الماء في شتاء هولندا يتجمّد ويتصلّب نتيجة البرد إلىٰ درجة أنّ البشر يمشون عليه، بل إنّ ذلك الثلج يتحمّل وزن الفيل: فقال له ملك سيام: لأنّني حسبتك إنسانًا رصينًا ومنصفًا كنتُ لحدّ الآن أصدّق الأشياء العجيبة التي ترويها، لكنّني الآن واثق من أنّك تكذب[1].

يذهب هيوم إلىٰ أنّ المنهج المعقول في مثل هذه الحالات هو فحص وثاقة اعتبار الرواية وشروطها، وليس رفضها بسبب تعارضها مع التجارب الماضية للمستمع. في هذه القصة لا

(219)

يريد لوك تأييد أداء ملك سيام، إنّما يروم الإشارة إلىٰ التأثيرات النفسيّة للمشاهدات الماضية علىٰ مستمع الخبر.

كيف ينبغي أن يكون موقف هيوم حيال مثل هذه الأمثلة؟ إذا أخذنا الميول الطبيعيّة لهيوم بعين الاعتبار، فيجب أن نتوقّع منه أن يعتبر ردّ فعل ملك سيام متّفقًا مع طبيعته؛ لذلك فإنّ إنكاره لتجمّد المياه موقف معقول. بيان ذلك أنّ هيوم يعتبر أنّ الاستدلالات العلّيّة لا تقبل التدبير ولا يوجد سبب لعقلانيّتها سوىٰ طبيعة الإنسان. يقول إنّنا عُجنّا وصُنعنا من قبل الطبيعة، بحيث ننظم أحكامنا حول الأمور الواقعيّة عن طريق الاستدلال العلّيّ. وما من أحد يتصرّف بإرادته في انتقاله من تصوّره لشيء إلىٰ تصوّر شيء آخر، إنّما هي طبيعتنا التي تفرض علينا مثل هذا الانتقال والتداعي. وعليه، إذا درسنا سلوك أشخاص مثل ملك سيام، ووجدنا أنّه طبقًا لطبيعته الإنسانيّة سوف ينكر بالتأكيد خبر تجمّد المياه، فيجب أن نؤيّد سلوكه هذا. لكن هيوم لا يتّخذ هذا الموقف، فمن وجهة نظره لا يمكن تأييد سلوك هذا الشخص الهنديّ، علىٰ الرغم من أنّه سلوك طبيعيّ، وما كان سلوكه ليكون معقولًا وقابلًا للتأييد إلّا إذا أنكر معجزةً، لا أن ينكر مجرّد فعلٍ خارق للعادة. يقول هيوم في هذا المضمار:

« أن الأمير الهنديّ الذي امتنع عن قبول الأخبار الأولىٰ للتجمّد كان علىٰ حقّ في استدلاله، ومن الطبيعيّ أنّه كان لا بدّ من شهادة متقنة جدًّا ليتقبّل وقوع حوادث ناتجة عن حالة في الطبيعة لم يكن قد تعرّف عليها، وشبهها قليل جدًّا بالأحداث التي كانت له عنها تجارب ثابتة ورتيبة. تلك الأخبار لم تكن متعارضة مع تجربته، لكنّها لم تكن متطابقة معها أيضًا.[1]

ثمّة في هذه العبارات نقطتان جديرتان بالتأمّل، الأولىٰ: أنّ هيوم يرىٰ سلوك الأمير الهنديّ طبيعيًّا، وهذا ما سبق لنا الكلام عنه؛ النقطة الثانية قوله إنّ هذه الأخبار لا تتعارض مع تجربته لكنّها لا تتطابق معها أيضًا، فما المراد من التعارض والتطابق؟ يظهر أنّ هيوم يريد القول إنّه علىٰ الرغم من عدم تطابق تجاربه مع أخبار التجمّد، إلا أنّه لا تتعارض معها. وعلىٰ الرغم من أنّه لم يشاهد التجمّد، لكن ما شهده في حياته لا يقول إنّ التجمّد عمليّة مستحيلة وغير ممكنة. المقصود هنا الإشارة إلىٰ الفرق بين المعجزات والحوادث الخارقة للعادة التي لا

(220)

يمكن تسميتها معجزات علىٰ الرغم من كونها غير عاديّة، يبيّن هيوم في فقرة أوردها علىٰ شكل هامش علىٰ النصّ الأصليّ هذا الفرق:

(من الواضح أنّه لا يوجد إنسان هنديّ يمكن أن تكون له تجربة عن تجمّد المياه في الجوّ البارد. يضع هذا الأمرُ الطبيعةَ في وضع غير معروف بالنسبة له بالمرّة، ومن المستحيل أن يستطيع الحكم بطريقة قبليّة ماذا سيكون تأثير الجوّ البارد. يُوجِد هذا الأمرُ تجربة جديدة نتائجها غير متعيّنة أبدًا. أحيانًا يمكن أن نحدس عن طريق التمثيل ماذا ستكون النتيجة، لكن هذا مجرّد حدس، ويجب الاعتراف أنّ الواقع في خصوص تجمّد الماء يسير بخلاف قواعد التمثيل والتشبيه، وهو غير متوقّع بالنسبة لهنديّ عاقل. تأثير البرد علىٰ الماء ليس تدريجيًّا وليس متطابقًا مع درجات البرودة، وإنّما بمجرّد أن تصل البرودة إلىٰ درجة التجمّد تُخرِج الماءَ في آن واحد من حالة سائلة تمامًا إلىٰ حالة جامدة تمامًا. إذًا، يمكن أن تسمّىٰ مثل هذه الحادثة بأنّها خارقة للعادة، ولأجل أن يصدقها الذين يعيشون في المناطق الحارّة، فلا بدّ من شهادة جدّ متقنة، لكنّها لم تصل بعد إلىٰ حدّ الإعجاز، ولا تتعارض مع التجربة المتكرّرة الرتيبة لسياق الطبيعة في الحالات التي تكون فيها كلّ الظروف متساوية. سكّان سوماطرة شاهدوا الماء سائلًا في مناخ بيئتهم، وينبغي اعتبار تجمّد مياه أنهارهم حالة مذهلة، لكنّهم لم يشاهدوا أبدًا المياه في شتاء موسكو؛ لذلك لا يمكنهم الوثوق علىٰ نحو معقول بالنتيجة التي سيأتي بها البرد.[1]

حاول هيوم في هذه الفقرة التي أضافها لاحقًا أن يفرّق بين الأمور الخارقة للعادة وبين المعجزات، فاعترف بخطأ سلوك الأمير الهنديّ دون أن يكون هذا السلوك نفسه ـأي الإنكارـ خاطئًا بخصوص الحوادث العجيبة.

التفاوت بين المعاجز والخوارق للعادة

هل ثمّة فرق بين الأمور الخارقة للعادة وبين المعجزات؟ وما هو هذا الفرق إذا كان ثمّة فرق؟ لا يعرض هيوم بيانًا واضحًا حول وجه الفرق بين هذين الأمرين، ولكن يمكن التخمين من عباراته أنّ احتمال صحّة قانون الطبيعة يعادل من وجهة نظره واحدًا، وبالتالي فكلّ ما يخالفه ـ أي المعجزة ـ له احتمال يعادل الصفر. بينما احتمال الأمور الخارقة للعادة ليس صفرًا. وبعبارة أخرىٰ، احتمال صحّة عبارةٍ كلّيّة تُخبر عن تجارب ماضية لأمثال الملك الهنديّ

(221)

حول المياه، أقلّ من واحد. في ضوء ما أسلفنا من قول، يجب أن لا يعمد هيوم بالنظر إلىٰ مرتكزاته إلىٰ طرح مثل هذا الادعاء بشأن التعميمات الاستقرائيّة المتعلّقة بقوانين الطبيعة، حتىٰ لو كانت جميع المشاهدات متساوية.

يرىٰ هيوم أنّ مثال الملك الهنديّ يرتبط بحادثة خارق للعادة، فإذا كان تجمّد الماء في فصل الشتاء حدثًا خارقًا للعادة حسب تعبير هيوم، فلن تكون التجربة المعارضة له قانونًا طبيعيًّا، ولكن بما أنّ إحياء الميّت معجزة حسب تعبيره ومصطلحاته، فالتجربة المعارضة لها قانون طبيعيّ. عبارة (الماء سائل دومًا) عبارة كلّيّة تُستنتج من التجارب الماضية التي لا استثناء فيها لسكان المناطق الحارّة. (الموتىٰ لا يعودون إلىٰ الحياة) عبارة كلّيّة أخرىٰ تنتج عن تجارب كلّ الناس في كلّ الأعصار والأمصار. ثمة فارقان بين هاتين العبارتين الكلّيّتين، يوضحان -حسب ادعاء هيوم- الفرق بين قانون الطبيعة وبين العبارات الكلّيّة التي هي دون قانون الطبيعة، وبالتالي يمكنهما تبيين الفرق بين معارضات ونواقض كلّ واحد من هذين، أي المعجزات والأمور الخارقة للعادة. فما هما هذان الفارقان؟

يصرّح هيوم بالفارق الأوّل كما نقلنا عنه سابقًا. فقانون الطبيعة حصيلة تجارب رتيبة في ظروف مختلفة، بمعنىٰ أنّنا إذا شاهدنا الرتابة في تجارب يزداد فيها تنوّع الظروف فعندها يمكننا اعتبار العبارة الكلّيّة الناتجة عن هذه التجارب الرتيبة في ظروف متنوعة قانونًا طبيعيًّا، ولكن إذا لم يكن ثمّة تنوّع في ظروف تجاربنا ومشاهداتنا، فلا يمكن اعتبار نتيجة هذه التجارب الرتيبة قانونًا طبيعيًّا. وبناء عليه فكل ما يتعارض مع هذه العبارة الكلّيّة ليس بمعجرة حسب مصطلحات هيوم، إنّما هو مجرّد شيء خارق للعادة. أمّا بالنسبة إلىٰ الملك الهنديّ، فبما أنّ تجاربه الدالّة علىٰ أنّ المياه سائلة دائمًا وبشكل رتيب ومتكرّر، لم تحصل إلّا في ظروف المناخ الحارّ؛ لذا فإنّ العبارة الكلّيّة (الماء سائل دومًا) لا يمكن أن تمثّل قانونًا طبيعيًّا.

ببيان آخر، يجب أن تكون التعميمات الاستقرائيّة مختصّة بظروف تشبه ظروف مشاهداتنا فقط، مثلًا لو قال الملك الهنديّ: (كلّ المياه في الظروف المناخيّة الاستوائيّة سائلة)، لكان تعميمه هذا صحيحًا، ولكن إذا قال: (كلّ المياه سائلة)، فتعميمه هذا غير صحيح؛ لأنّ مشاهداته السابقة ومشاهدات الناس الذين يعرفهم حصلت كلّها في ظروف مناخية استوائيّة. وبالنتيجة إذا عمّم حكم سيولة الماء علىٰ ظروف مناخيّة غير استوائيّة يكون قد فعل شيئًا غير

(222)

مقبول. إذن، يجب تغيير رؤية هيوم عن قانون الطبيعة بهذا الشكل: إذا فحصت n حالة من (أ) في الظروف (ج)، وكانت كلّ تلك الـ (أ) (ب)، ثم إذا كان n عددًا كبيرًا بما فيه الكفاية، فاحتمال أن تكون كلّ الـ (أ) (ب) في الظروف (ج) يساوي واحدًا.[1]

أمّا الفارق الثاني بين قانون الطبيعة وبين العبارات الكلّيّة الأدنىٰ مستوىٰ من القانون فنوضحه بسؤال، فحين نقول إنّ قانون الطبيعة هو حصيلة تجارب ومشاهدات رتيبة ودائميّة، فتجارب ومشاهدات مَن نقصد؟ إذا كان المِلاك هو التجارب والمشاهدات الشخصيّة، فيمكن أن تكون تجارب شخصين اثنين مختلفة إلىٰ درجة أنّها تكوّن قانونين متعارضين في ذهنيهما، أو حتّىٰ إذا كانت تجارب الناس في منطقة جغرافيّة معيّنة أو في فترة تاريخيّة معيّنة أساسًا لقانون الطبيعة، سيبقي ثمّة احتمال في انبثاق قوانين متعارضة من تجارب متفاوتة. إذن، الملاك في التجارب الصانعة لقانون طبيعيّ هي تجارب كلّ الناس في كلّ الأزمنة والأمكنة بلا استثناء. هنا يصرّح هيوم بأنّه يعتبر إحياء إنسان ميّت معجزةً؛ لأنها لم تشاهد في أيّ زمان أو مكان، أي لأنّ التجربة الدائميّة المتشابهة لكلّ البشر في كلّ الظروف وفي كلّ الأزمنة والأمكنة تفيد أنّ الموتىٰ لا يعودون إلىٰ الحياة، إذن هذه العبارة الكلّيّة قانون من قوانين الطبيعة، وإحياء ميّت يتعارض معها؛ لذا فهو معجزة.

يبدو أنّه يمكن بل يجب تغيير صياغة هيوم لقانون الطبيعة مرةً أخرىٰ، والتعبير عنه بما يأتي:

إذا فحصت n حالة من (أ) في ظروف (ج) من قبل (د) من الأفراد، وكانت جميع الـ (أ) (ب)، فإذا كان n عددًا كبيرًا بما فيه الكفاية، و كان (د) عبارة عن أفراد ينتمون لكلّ الأزمنة والأمكنة التي تسودها الظروف (ج)، فاحتمال أن تكون كلّ الـ (أ) (ب) في الظروف (ج) يساوي واحدًا.

ينبغي التفطّن إلىٰ أنّنا نعتبر احتمال العبارة الكلّيّة واحدًا بصرف النظر عن الإشكال الذي سبق أن ذكرناه. فبما أنّ هيوم يلتزم بأنّ العلاقات بين الأمور الواقعيّة ممكنة (غير ضروريّة)، فلا يمكنه أن يعتبر أنّ احتمال أيّ من التعميمات الاستقرائيّة يساوي واحدًا، كما لا يمكنه أن يقول إنّ نقيضه تبعًا لذلك يساوي صفرًا. إلّا أنّه في ضوء تعريفه للمعجزة وللفرق الذي يلتزم به بين المعجزة وبين الأمور الخارقة للعادة، يبدو أنّه عندما عرض استدلاله القبليّ كان يرتكز

(223)

في ذهنه أنّ احتمال صحّة القانون الطبيعيّ يساوي واحدًا، أي أنّ الدليل الذي يؤيده دليلٌ تامّ.

أمّا في ما يتعلّق بالفارق الأول وضرورة تشابه ظروف القانون الطبيعيّ مع ظروف كلّ المشاهدات السابقة، فثمّة صعوبة مشتركة بين كلّ حالات الاستقراء[1]. ثمّة في كلّ حكم كلّيّ استقرائيّ احتمال بأن تكون مشاهداتنا الماضية قد حصلت في ظروف خاصّة قد لا تتوفّر في المستقبل. من المحتمل دومًا في المشاهدات الماضية للظاهرة (أ)، أن تكون (أ) مقترنة دومًا بـ (ب)؛ لأنّ مشاهداتنا حصلت في ظروف خاصّة لا تتوفّر في المستقبل أو في أماكن ومواقع أخرىٰ؛ لذا فإنّ الحكم الكلّيّ بأن كلّ الظواهر (أ) هي (ب) تعميم للحكم علىٰ ظروف لا تشبه ظروف التجارب السابقة.

فعلىٰ الرغم من أنّ الملك الهنديّ قد أسند حكمه الكلّيّ «كلّ المياه سائلة» علىٰ مشاهدات تقتصر علىٰ المناطق الاستوائيّة، ولم يراع تنوع الظروف في مشاهداته وتجاربه، ولكن كيف يمكن له أن يعلم بوجود ظروف أخرىٰ غير التي عرفها؟ فعدم الاطلاع علىٰ كلّ الظروف المتنوّعة قائم في كلّ التعميمات الاستقرائيّة، وبالتالي فإنّنا عندما نقول إنّه يجب أن تكون الظروف متنوّعة بالقدر الكافي في التجارب التي يقوم عليها الحكم الكلّيّ الاستقرائيّ، فما هو الحد الكافي من التنوّع؟ هل يمكن الاكتفاء بالظروف المنظورة علىٰ نحو القطع، أم يوجد دومًا احتمال أن تكون هناك ظروف مختلفة لم نطلع عليها؟ يبدو أنّ هذا الاحتمال موجود دومًا، وقد اعترف فلاسفة العلم بوجوده.[2]

علىٰ هذا الأساس، لا يوجد من هذه الناحية فرق بين قانون الطبيعة وما يعتبره هيوم ما دون قانون الطبيعة؛ إذ في الحالتين سيتصور من يؤمن بالحكم الكلّيّ أنّ التجارب الماضية حصلت في كلّ الظروف المتنوّعة الممكنة؛ لذلك فإنّ من حقّه إذا شاهد حادثة معارضة لذلك الحكم الكلّيّ أن يعتبرها نقضًا لقانون كلّيّ طبيعيّ لا استثناء له.

أما الفارق الثاني، فهو أنّ قوانين الطبيعة حصيلة تجارب كلّ البشر في كلّ الأزمنة والأمكنة، أمّا ما دون القانون، فهو حصيلة تجارب محدودة من البشر. فمتىٰ نستطيع اعتبار حكمٍ كلّيّ حول الطبيعة ثمرة تجارب مشتركة لكلّ الناس أو تعميمًا لمشاهدات مشتركة لكلّ البشر؟

(224)

يقول جورج كمپل الناقد المعاصر لهيوم: لقد «استخدمتْ كلمة تجربة في دراسة هيوم مرارًا، ومن العجيب أنّه لا يعرّف لنا هذا المصطلح رغم الأهمّيّة التي يحظىٰ بها في استدلاله. وأنا أحاول أن أعوّض هذا النقص؛ إذ يبدو أنّ هذه المفردة مشترك لفظيّ، ويبدو أنّ الكاتب يستخدمها بمعنيين متفاوتين. المعنىٰ الأوّل والأنسب لهذه الكلمة هو التجربة الشخصيّة. تبتني التجربة الشخصيّة علىٰ الذاكرة، وتشمل فقط تلك القواعد الكلّيّة أو الاستنتاجات التي يصنعها كلّ شخص من مقارنة أمور خاصّة موجودة في ذاكرته؛ المعنىٰ الآخر للذاكرة والذي نسمّيه التجربة المشتقّة يبتني علىٰ الشهادة، وهو ثمرة مقارنة بين التجارب الشخصيّة للآخرين التي وصلتنا عبر الشهادات والأخبار وصنعنا منها قواعد واستنتاجات كلّيّة». من جهتنا نقول مستخدمين مصطلحات كمپل: (قانون الطبيعة من وجهة نظر هيوم حصيلة تجربة مشتقّة، والمعجزات تعارض التجارب المشتقّة). المعجزات بحدّ ذاتها تجارب مشتقة؛ لأنّها وصلتنا عن طريق شهادات الآخرين، لكن من أين تنشأ التعميمات ما دون القانون الطبيعيّ؟ بعبارة أخرىٰ، هل تعارض الأمورُ الخارقةُ للعادة التجاربَ الشخصيّة أم التجارب المشتقّة؟ إذا كان جواب هيوم أنّ الأمور الخارقة للعادة تعارض التجارب الشخصيّة فسيواجه إشكالًا مفاده أنّه في مثال الملك الهنديّ لم يكن تجمّد المياه في البرد متعارضًا مع التجارب الشخصيّة للملك الهنديّ فقط، بل كلّ الذين يعرفهم الملك أو الذين يتلقّىٰ أخبارًا منهم، لهم تجارب تشبه تجربته، أي إنّهم لم يشاهدوا تجمّد المياه نتيجة انخفاض درجة الحرارة. وهكذا يتبيّن أنّ الأمور الخارقة للعادة، من منظار هيوم، لا تتعارض مع التجارب الشخصيّة فقط، بل تخالف التجارب المشتقّة أيضًا.

فإذا كانت المعاجز والأمور الخارقة للعادة أيضًا تعارض التجارب المشتقّة، فما الفارق بينهما؟ ربما كان الفرق في شيء من قبيل عدد الشهود وأصحاب التجربة، أو تنوّع ظروفهم. ويبدو أنّ العدد في نفسه لا يشكّل فارقًا؛ لأنّه من المستبعد أن يكون عدد الذين كوّنت تجاربُهم العبارةَ الكلّيّة (كل المياه سائلة) في ذهن الملك الهنديّ، أقلّ من عدد الذين كوّنت تجاربهم العبارة الكلّيّة (ليست كلّ المياه سائلة) في ذهن شخص أوروبيّ. علىٰ هذا الأساس، ينبغي أن يقوم الفرق علىٰ أساس تنوّع ظروف الشهود وأصحاب التجارب، وإذا كان الأمر كذلك، فسيعود الفرق الذي أردنا أن نقول به بين قانون الطبيعة والعبارات الكلّيّة ما دون قانون الطبيعة عن طريق تباين تجارب الشهود وأصحاب التجربة إلىٰ التنوّع في ظروف التجارب، وهو الفارق الأول نفسه.

(225)

ذكرنا في مقام بيان الفرق الأوّل إنّه في كلّ التعميمات الاستقرائيّة يوجد احتمال أن نصادف في وقت لاحق ظروفًا جديدة، فلا نستطيع اعتبار أيّ عبارة كلّيّة ذات احتمال يساوي واحدًا، وبالتالي لن تكون أيّ عبارة كلّيّة «قانونًا طبيعيًّا» بالمعنىٰ الذي ذكرناه، وبالنتيجة فإنّه لا يمكن اعتبار أيّ واقعة معجزةً مهما كانت خارقة للعادة وغير متوقّعة. وهذا يعني أنّ كلّ الحوادث المعارضة للتجارب الماضية ستكون من قبيل تجمّد المياه الذي ربما كان إنكار خبره طبيعيًا، لكنّه ليس معقولًا.

إذًا، كيف يقول هيوم إنّه يجب رفض أيّ خبر معجزة وإنكاره من دون فحص وتمحيص لاعتباره وقيمته؟ لاحظنا بناءً علىٰ ما ذكرناه أنّه لو كان بوسع قانون الطبيعة -كما يصرّح هيوم في بعض مواقفه- في مستوىٰ دليل استقرائيّ تامّ، وإذا كان بوسعنا اعتبار أيّ تعميم استقرائيّ يرتكز علىٰ دليل تامّ، ذا احتمال يساوي واحدًا، لاستطعنا تقبّل الفارق بين قانون الطبيعة والتعميمات ما دون قانون الطبيعة، وبالتالي سنفرق بين المعجزة وسائر الحوادث الخارقة للعادة. وفي حال وجود مثل هذا الفرق، ستكون التوصية القائلة: (أنكروا بنحو قبليّ الحوادث العجيبة إلىٰ درجة المعجزة، أي الحوادث التي لا تنسجم مع القوانين الطبيعيّة) ذات معنىٰ محصّلٍ، ولكن كما لاحظنا لا يوجد مثل هذا الفرق.

عدم قابليّة المعجزة للتكرار

إذا اعتبرنا قانون الطبيعة عبارة كلّيّة يساوي احتمال صحّتها واحدًا، فكما سبق القول، سيكون احتمال وقوع المعجزة أي الحادثة المعارضة لقانون الطبيعة يساوي صفرًا. وبالعودة إلىٰ مثال رجوع الميّت إلىٰ الحياة، الذي يعتبر في نظر هيوم جديرًا باسم المعجزة في حال حدوثه يقول هيوم: إحياء الميّت معجزة؛ لأنّه لم يشاهد في أيّ زمان ولا في أيّ مكان، وعليه، فالمعجزة من وجهة نظره حادثة فريدة؛ لأنّه لو ثبتت قبل ذلك حالة منها -عودة ميّت إلىٰ الحياة مثلًا- وتكرّرت الآن مرّة أخرىٰ، فسيكون من واجبنا التشكيك في صحّة القانون الذي كنّا نؤمن به، وبالنتيجة ينبغي علينا تبيين حالات الاستثناء، وإعادة النظر في القانون الذي نعتقد به لنضيف له ـ ربما ـ قيدًا ليتّضح أنّ الميّت لا يعود إلىٰ الحياة إلّا في ظروف خاصّة مدرجة في القيد المذكور[1]. بهذا البيان فإنّ

(226)

قانون الطبيعة قانون لا يقبل النقض، ولم يُنقض لحدّ الآن علىٰ الأقل، والمعجزة حادثة لا تقبل التكرار.

ترد بعض الإشكالات علىٰ عدم قابليّة المعجزة للتكرار، من ذلك أنّه إذا كانت معجزة نبيّ إحياء الموتىٰ وقام بذلك مرّات متعدّدة، فهل يمكن إنكار عمله هذا؟[1]. إذا أحيا هذا النبيّ ميتًا في مكانٍ عام بحيث يعترف الجميع بإعجاز عمله هذا، ثم شكّك بعض الناس في صحّة ادّعائه وطلبوا منه تكرار هذا العمل، وقام بإحياء ميّت آخر، فإنّ فعله هذا سيؤدّي إلىٰ تكريس موقفه، أو سيقال إنّ تكرار هذا الفعل يخرجه عن عنوان المعجزة.

بالإضافة إلىٰ هذا المثال النقضيّ، يُطرح سؤال آخر يشكّك في أصل عدم قابليّة المعجزة للتكرار، فإذا كان عدم القابليّة للتكرار شرطًا في المعجزة، فإنّ وقوع أيّ حادثة بخلاف قانون الطبيعة لن يتمكّن من إقناع الشهود بوقوع معجزة؛ لأنّه سيكون من المحتمل دومًا في المستقبل أن تقع هذه الحادثة، وسينكر الشهود تكرّر تلك الحادثة باعتبار أنّها كانت معجزة في السابق، وسيقولون إنّ هذه الحادثة أمر يقبل التبيين الطبيعيّ، وقد كنّا علىٰ خطأ حين اعتبرناه في السابق معجزةً[2].

إعادة النظر في القوانين العلميّة والتقدّم العلميّ

هل تقدّمُ العلمِ مفهوم ممكن التصوّر؟ ألا يشهد تاريخ العلم بحقيقة اسمها تقدّم العلم؟ إذا كان تقدّم العلم ينطوي علىٰ زيادة الاطلاع علىٰ الطبيعة وإصلاح أخطاء الإنسان، وهذه التنمية والإصلاح حقيقة لا تقبل الإنكار، فكيف يمكن تسويغ التقدّم العلميّ إلىٰ جانب القول بلا معقوليّة نقض قوانين الطبيعة؟ يؤمن العلماء في فترة من فترات العلم بقانون حول الطبيعة، وشيئًا فشيئًا ونتيجة مشاهداتهم لحالات ناقضة لذلك القانون، يبدأون بالتشكيك في صحّة القانون الذي آمنوا به، وهذا الشكّ يدفعهم إلىٰ إعادة النظر في ذلك القانون، وأن يعرضوا قانونًا يمكن الاستفادة منه في إيضاح الحالات الناقضة أيضًا. فإذا فرضنا أنّ العلماء يفكّرون مثل هيوم، ويرون أنّ قوانين الطبيعة لا تقبل النقض إلىٰ درجة أنّهم عند مشاهدة أيّ حالة ناقضة، فسينكرون هذه الحالة الناقضة بدل التشكيك

(227)

في القانون، عندئذ لن تحصل أيّ إعادة نظر في أيٍّ من قوانين الطبيعة، ولن نشهد أيّ تقدّم في تاريخ العلم.

قد يقال إنّ هيوم لا يعارض قبول نقض قانون الطبيعة في حال مشاهدة حالة ناقضة له بشكل مباشر؛ لذلك إذا شاهد عالم بنفسه حالة ناقضة لقانون طبيعيّ، فمن واجبه أن يأخذ هذه الحالة مأخذ الجدّ ويدرسها ويحاول عرض قانون جديد قادر علىٰ إيضاح الحالات الاستثنائيّة.

يعتقد بعض شرّاح هيوم أنّ استدلال هيوم يتعلّق بشهادة الشهود والمؤرّخين، وأنّه لا علاقة له بالأشياء التي يشاهدها الفرد نفسه أو يدرسها في المختبر أو يستنبطها من آثار الحوادث الماضية وبقاياها.[1]

ولكن هل التفطّن أو التنبُّه إلىٰ وجود نواقض لقوانين الطبيعة المقبولة في مختلف فترات العلم، هي حصيلة المشاهدات المباشرة للعلماء فقط؟ يبدو أنّ الأمر ليس كذلك، بمعنىٰ أنّ كثيرًا من التشكيكات التي وردت علىٰ قوانين الطبيعة كانت نتيجة تقارير طرحها آخرون حول نواقض أحد قوانين الطبيعة، ثمّ اطمأنّ عالمٌ أو علماء عدّة لتلك التقارير؛ لذلك انبروا لدراستها وفحصها، وبعد دراستها حصلت لديهم هم أيضًا معرفة مباشرة بوجود الناقض أو النواقض الواردة في التقرير، وبذلك عمدوا إلىٰ إعادة النظر في القانون الطبيعيّ المزعوم.

إذا أخذنا استدلالات هيوم مأخذ الجدّ، فسوف نواجه مشكلة في خصوص الحالات التي لا يتصوّر فيها أحد أنّ معجزة قد حصلت. وكثير من العبارات عُدّت قوانين طبيعيّة؛ لأنّ ثمّة تجارب رتيبة أيّدتها، ولكن بعد مشاهدة حالات الاستثناء لم تعد تلك العبارات مقبولة كقوانين طبيعيّة. والاستثناء الأوّل للشخص الذي لم يشهدها بنفسه يشبه قصص المعاجز؛ لذلك فإنّ أوّل من يتلقّون تقارير هذا الاستثناء يجب [حسب رأي هيوم] أن ينكروه ويبقوا أوفياء للقانون المزعوم، ونظرًا إلىٰ أنّ رأيهم حول ذلك القانون المزعوم لا يتغيّر، ففي مقابل التقرير الثاني للاستثناء، سيبقىٰ الوضع علىٰ حاله، أي إنّ التقرير الثاني أيضًا لن يُحدث تغييرًا في ذلك القانون الطبيعيّ المزعوم. وبناءً علىٰ ذلك، فحين نرىٰ أن (أ)

(228)

و (ب) يتلو أحدهما الآخر دائمًا، فيجب ألّا نقبل أيّ تقرير يفيد افتراقهما، وفي النتيجة لن يكون ثمّة ما يحفّزنا علىٰ دراسة هذه التقارير والأخبار إذا لم تُحدث التقارير تغييرًا في رأينا حول القانون المزعوم، فلن يبقىٰ مجال للتفكير بأنّ هذه التقارير تحتاج إلىٰ دراسة أخرىٰ، فلو كان العلماء قد تصرّفوا علىٰ هذا النحو لما اكتشفت بعض القوانين البالغة الأهمّيّة؛ لأنّ الذين شاهدوا استثناءات القوانين المزعومة نادرًا لم يوضحوها بأنفسهم، فلو كان هيوم محقًّا في قوله [يجب عدم قبول التقارير حول نواقض قوانين الطبيعة واستثناءاتها]، فإنّ الذين يرون الاستثناءات لن يستطيعوا تبيينها وإيضاحها، والذين يستطيعون تبيينها لا يستطيعون الاقتناع بوقوع هذه الاستثناءات.[1]

محصّل الكلام أنّ هيوم يرىٰ أنّ تقارير نقض قوانين الطبيعة غير معقولة، والحال أنّنا إذا لم نوافق هذه التقارير لما علمنا أبدًا بكثير من الأمور التي نعلمها حول الطبيعة. وتكمن المشكلة في تصوّر هيوم للسلوك المعقول، ونظرًا إلىٰ أنّ تصوّر العلماء يختلف عن تصوّر هيوم لحسن الحظ، فقد توصّل العلم البشريّ اليوم إلىٰ اكتشافات كبيرة، ولو كان العلماء يفكّرون بطريقة هيوم لكنّا محرومين من كلّ هذه الاكتشافات.

فعندما تحصل معجزة [نقضٌ لقانون الطبيعة] تقوم ثورة في العلم. والمجتمع العلمي يسمح دومًا بدحض نظريّة متينة جدًّا عن طريق مشاهدة حوادث كان التصوّر السائد لها أنّها مستحيلة. وعندما شاهد وليام هارفي[2] أنّ القلب يضخّ الدم الذي ينتقل من الشرايين إلىٰ الأوردة، فقد كان ما شاهد يمثّل معجزة؛ لأنّ العلم في زمانه كان يعتبر هذا الضخّ والدوران مستحيلًا، وقد رفض كثير من زملاء هارفي شهادته، وتمرّدوا علىٰ قبولها؛ لأنّها لم تكن منسجمة مع الرؤية الكونيّة العلميّة في زمانهم، بيد أنّ آخرين نظروا إلىٰ شهادته علىٰ أنّها معتبرة وذات قيمة إلىٰ درجة رفضوا معها قيمة العلم في زمانهم[3].

(229)

هل نقض القانون الطبيعيّ من شروط المعجزة؟

يعتقد بعض فلاسفة الدين أنّ الحادثة التي لا تنقض أيّ قانون من قوانين الطبيعة، ويمكن تبيينها وإيضاح كلّ أجزائها بواسطة القوانين الطبيعيّة، يمكن أن تكون مدهشة وباعثة علىٰ ردّ فعل دينيّ خالص أصيل إلىٰ درجة يتسنّىٰ معها اعتبارها معجزة. فإذا كانت مثل هذه الحادثة جدّ مبهرة ومحيّرة ومقترنة بدعوة واضحة لأمر دينيّ تمامًا، فإنّها ستعتبر معجزة[1]، علىٰ الرغم من أنّها لا تنقض قانونًا من قوانين الطبيعة.

يمكن طرح مثال نقضيّ تأييدًا لهذه الفكرة، وهو مثال يدلّ علىٰ أنّ نقض قانون الطبيعة ليس شرطًا لازمًا لكي تكون الحادثة معجزة. نطرح هذا المثال النقضيّ مستلهمين أحد نقّاد هيوم وبقدر من التصرّف[2].

تصوّروا أن تجتمع غيوم في وقت واحد في سماء مناطق متعدّدة من الكرة الأرضيّة، وتُظهر هذه الغيوم كلمات ذات معنىٰ، وتدعو كلّ هذه الكلمات لشيء واحد وتتضمّن كلّها رسالة واحدة تدعوا الناس لاتباع شخص معيّن، ولنفترض أنّ هذه العبارة تظهر في غيوم كلّ منطقة بلغة سكّان تلك المنطقة. وافترضوا كذلك أن العلماء يقدرون علىٰ تبيين هذه الظواهر المتزامنة عن طريق قوانين الطبيعة، وأنهم قادرون علىٰ تحديد العوامل الجويّة التي أدّت إلىٰ اجتماع الغيوم بهذه الشكل المعيّن، وأنّ قوانين الضوء سمحت بمشاهدة تلك الغيوم من قبل سكان الأرض بهذا الشكل ذي المعنىٰ والرسالة المحدّدة، فهل سيتردّد شخص في إطلاق عنوان المعجزة علىٰ هذه الحادثة؟ وهل سيشكّ أحد في حقّانيّة الشخص الذي تدعو هذه الغيوم لاتّباعة؟ هذا في حال كانت هذه الظاهرة المفترضة لا تنقض أيّ قانون طبيعيّ.

تدخّل الله أو العامل اللاَّ مرئيّ

من عناصر التعريف الثاني الذي يعرضه هيوم للمعجزة تدخّل الله أو العامل اللاَّ مرئيّ في حادثة المعجزة. (يمكن علىٰ نحو الدقّة تعريف المعجزة بما يأتي: التخلّف عن أحد قوانين الطبيعة بواسطة إرادة إلهيّة خاصّة أو بواسطة تدخّل عاملٍ لا مرئيّ)[3].

(230)

يقول بعض الباحثين إنّ المعجزة مفهوم متناقض؛ لأنّها تنقض القانون الطبيعيّ، والحال أنّه لو نُقض الشيء فلن يكون قانونًا، وقد أجيب علىٰ هذا الإشكال بجواب جدير بالتأمّل، ومفاده أنّ القوانين المدنيّة تنظّم سلوك الشعب في البلد، ولكن قد تكون هناك استثناءات أحيانًا، مثل العفو الذي يطلقة رئيس الجمهوريّة، ويمكن مقارنة المعجزة بهذه الاستثناءات، ومصدر العفو في هذه الاستثناءات خارج السياق الدارج للقانون، وهو شيء لا يمكن التنبّؤ به. الإتيان بالمعاجز لا يندرج ضمن إطار نشاطات العلماء أيضًا. وعفو رئاسة الجمهوريّة لا يعدّ نقضًا للقانون، ولا يعتبر ممارسة غير قانونيّة، بل هو خارج النظام القانونيّ، والمعجزة كذلك ليست نقضًا لنظام قوانين الطبيعة، بل خارج سياقها.[1]

في هذا الردّ الذي عُرض بلغة استعاريّة وغير فنّيّة، ثمّة نقطتان تلفتان النظر:

الأولىٰ: تناقض مفهوم المعجزة إذا عرّفناها بأنّها نقض لقانون الطبيعة. وقد ذكرنا سابقًا أنّه إذا كان لدينا تصوّر عقلانيّ لقوانين الطبيعة، فإنّ التخلّف عن قانون الطبيعة سيكون بمعنىٰ التخلّف عن قانون لا يقبل التخلّف، وهذا تعبير متناقض.

الثانية: إذا كان عامل التخلّف عن القانون خارج نطاق الطبيعة، فإنّ الاستثناء من القانون لن يعود تخلّفًا، ولن يحصل أيّ تناقض. أمّا عندنا ننكر إمكانيّة العلل فوق الطبيعيّة أو نتجاهلها، فستكون استثناءات القوانين الطبيعيّة تخلّفًا عن القانون الطبيعيّ.[2]

هنا، نروم التحدث قليلًا عن عامل إلهي أو لا مرئي خارج نطاق الطبيعة.

يرىٰ هيوم أنّنا إذا قبلنا شهادة شاهد يخبر عن وقوع حدث تنكِر علومُنا وقوعَه، فلا شكّ أنّنا نكون قد قبلنا أن تكون علومنا خاطئة. فما الذي ينبغي فعله في هذه الحالة؟ السلوك العاديّ هو أن نعيد النظر في علومنا ونبحث عن علل يمكنها تبيين تلك الحادثة، وتشخيص قوانين تؤيّد مشاهداتنا الماضية وتعضد في الوقت ذاته المشاهدات الجديدة المتعارضة مع القوانين السابقة[3].

هذا في حال كان للحادثة الجديدة علّة طبيعيّة، أمّا إذا كانت علّة هذه الحادثة خارج

(231)

نطاق الطبيعة، فلا تعارض بين تلك الحادثة وبين العلم والقوانين الطبيعيّة، بحيث يمكن التحرّر من هذا التعارض عن طريق إعادة النظر في العلم؛ باعتبار أنّ التعارض وقع مع الطبيعة نفسها. الواقع أنّه لا يوجد أيّ قانون طبيعيّ يمكن اكتشافه لاحقًا يستطيع إدراج تلك الحادثة داخل نطاق علم الطبيعة.[1]

كيف يدّعي هيوم أنّه قادر علىٰ الحكم بشأن المعجزات عن طريق الاستدلال العلّيّ؟ قد يقال إنّ هيوم لم يدّع مثل هذا الادعاء أبدًا، وهو يحكم بشأن أخبار المعجزة فقط وليس بشأن المعجزة، ولكن إذا لم يستطع أحد الحكم بشأن وقوع المعجزة أو عدم وقوعها، فهل يصحّ توقّع أن يحكم بشأن صحّة أخبار المعاجز أو سقمها.

يعتقد هيوم -كما سبقت الإشارة- أنّ المنهج الصحيح الوحيد للحكم بشأن الأمور الواقعيّة، هو منهج الاستنتاج العلّيّ، وبناء عليه، فإذا أردنا الحكم حول المعجزات وأخبارها أيضًا، فيجب أن نقوم بذلك عن طريق الاستدلال العلّيّ. يستخدم هيوم في الحكم حول أخبار المعاجز منهج الاستدلال العلّيّ. ويمكن طرح السؤال بشكلين في مقام الحكم حول أخبار المعاجز؛ فنسأل أوّلًا أنّه هل خبر المعجزة الفلانيّ خبر صادق؟ وسؤالنا في هذه الحالة سؤال عن المعجزة نفسها، بمعنىٰ أنّنا نسأل هل المعجزة المدّعاة وقعت فعلًا؟ الشكل الثاني لطرح السؤال هو أنّه هل تصديق خبر وقوع المعجزة الفلانيّة أو العلانيّة عمليّة معقولة؟ في هذه الحالة لا يبدو أنّ لسؤالنا علاقة بوقوع المعجزة أو عدم وقوعها؛ بل نسأل أنّه بغض النظر عن وقوع مثل هذه المعجزة أو عدم وقوعها، فهل من المعقول إزاء خبر وقوعها أن نصدّق هذا الخبر؟ وإذا قلنا إنّه لا يوجد أحد يستطيع الاعتراف بوقوع معجزة في أيّ ظروف، أي حتّىٰ لو شهد وقوع المعجزة فلا يستطيع تصديقها، وبناءً علىٰ هذا الافتراض فإنّ من الطبيعيّ تعذّر قبول أيّ خبر من أخبار المعاجز؛ لأنّه لا يوجد أيّ خبر أقوىٰ من المشاهدة المباشرة. وإذا لم يتسنّ موافقة خبر يفيد وقوع معجزة ما، فلا يبقىٰ محلّ للسؤال عن معقوليّة قبول ذلك الخبر. فهل يمكن الاعتراف -والحال هذه- بوقوع معجزة علىٰ أساس الاستدلال العلّيّ؟

يرىٰ هيوم أنّ العلّيّة علاقة بين شيئين نستنبطها عبر مشاهدة هذين الشيئين، وهذا يعني أنّنا لا نرىٰ أبدًا العلاقة العلّيّة نفسها، إنّما نشاهد شيئين نسمّيهما بعد ذلك علّة ومعلولًا، ومن

(232)

مشاهدة الآصرة الدائميّة بينهما نستنتج علاقة باسم العلّيّة، أي أنّنا عندما نرىٰ ذلكم الشيئين يتعاقبان بشكل مستمر، بحيث يتداعىٰ إلىٰ أذهاننا تصوّر عن أحدهما بمجرّد حضور انطباع أو تصوّر عن الآخر، وبدون أيّ تأمّل أو تفكير، عندئذ نستنتج أنّ ثمّة بين هذين الشيئين علاقة علّيّة.

استنباط علاقة علّيّة بين هذين الشيئين إلىٰ جانب الاعتقاد بتشابه المستقبل مع الماضي يمكّننا من اللجوء إلىٰ الاستنتاجات العلّيّة، وأن نحكم علىٰ المستقبل من منطلق مشاهداتنا الماضية، بحيث نجعل مشاهداتنا سندًا للحكم حول شيء ليس مشهودًا بالنسبة لنا في الوقت الحاضر. ولكي يكون مثل هذا الاستدلال ممكنًا، فلا بدّ أن يكون ثمّة تشابه كافٍ بين الأمر المشهود بالنسبة لنا الآن وبين أحد الشيئين اللذين توجد بينهما علاقة علّيّة، بحيث يتداعىٰ في أذهاننا بمشاهدة هذا الأمر -وبشكل طبيعيّ- أمرٌ آخر يشبه الطرف الآخر من العلاقة العلّيّة.

علىٰ سبيل المثال، إذا حكمنا أنّ بين (أ) و (ب) علاقة علّيّة، واعتبرنا (أ) علّةً لـ (ب)، فمتىٰ ما شاهدنا شيئًا شبيهًا بـ (ب) يمكننا استنتاج شيئًا شبيهًا بـ (أ) كعلّة للشيء الشبيه بـ (ب). فإذا عرّفنا المعجزة بأنّها شيء علّته الله، فيجب أن يكون ثمّة تشابه بين الله غير المشهود وبين علّة أحداث مثل المعاجز المدّعاة، بمعنىٰ أن نكون قد شاهدنا سابقًا حوادث تنقض قانون الطبيعة، وتزامنًا مع مشاهدة تلك الحوادث نكون قد شاهدنا عللها أيضًا، لنستطيع بمشاهدة ناقض آخر لقانون الطبيعة أن نحكم بوجود علّته التي هي حقيقة لا تقبل المشاهدة حسب الافتراض.

ولكن هل شاهدنا في السابق أيّ معجزة؟ وإذا كنّا قد شاهدناها فهل نكون قد شاهدنا علّتها؟ ولا شكّ أن هذا غير صحيح؛ لأنّ علّة المعجزات حسب التعريف لا تقبل المشاهدة، من هنا فإنّنا لا يمكن أن نكون قد شاهدنا في السابق ولمرّات عديدة معجزات مع عللها، بحيث نحكم بأنّ علّته هي الله أو موجود آخر لا يقبل المشاهدة بمشاهدة ناقض آخر لأحد قوانين الطبيعة. وإذا لم نستطع صياغة مثل هذا الاستدلال، فلن نستطيع التأكّد من إعجاز أيّ حادثة. فنقول باختصار:

1. الحكم حول أيّ أمر من الأمور الواقعيّة يجب أن يكون بمنهج الاستنتاج العلّيّ.

2. المعجزة أمر من الأمور الواقعيّة.

(233)

3. الاستنتاج العلّيّ بشأن أيّ شيء مسبوقٌ بمشاهدة مكرّرة لعلل أو معلولات شبيهة بذلك الشيء.

4. المعجزة حادثة بخلاف قانون الطبيعة تتمّ بواسطة فاعل إلهيّ أو ما ورائيّ.

5. لا يمكن مشاهدة الله والحقائق فوق الطبيعيّة.

6. نستنتج من 1 و 2 أنّ الحكم علىٰ المعجزة يجب أن يتمّ بمنهج الاستنتاج العلّيّ.

7. نستنتج من 3 و 4 أنّ الاستنتاج العلّيّ بشأن المعجزة متفرّع علىٰ المشاهدة السابقة لعلّتها، أي الفاعل الإلهيّ أو الماورائيّ.

8. نستنج من 6 و 7 أنّ الحكم علىٰ المعجزة فرعٌ مشاهدة سابقة لعلّتها.

9. نستنج من 5 و 8 أنّ الحكم علىٰ المعجزة غير ممكن.

إذا كان الحكم علىٰ المعجزة غير ممكن، فلن يستطيع أيّ شخص الحكم علىٰ أيّ حادثة بأنّها معجزة حتىٰ لو شاهدها، وبناءً عليه فإنّه لا يمكن لأيّ شخص أن يشهد معجزةً باعتبارها معجزة، وبالنتيجة لا يستطيع أيّ شخص الإخبار عن وقوع معجزة؛ ولهذا كان فحص احتمال صدق أخبار المعجزة عمليّة عبثيّة فارغة.

قد نفكّر بحذف عنصر تدخل الفاعل الإلهيّ الطبيعيّ اللامرئيّ أو العامل ما فوق الطبيعيّ اللامرئيّ من تعريف المعجزة، ونحلّل استدلال هيوم ضدّ المعجزة علىٰ أساس تعريفه الأوّل، بمعنىٰ أن نعتبر المعجزة نقضًا لقانون الطبيعة، ولكن إذا عرّفنا المعجزة بهذا الشكل، فسوف تختلّ دلالة المعجزة. فالمعجزة تُستخدم أحيانًا كبرهان علىٰ وجود الله، وفي هذه الحالة ستدلّ علىٰ وجود الله في رأي أنصار هذا البرهان.

كما أنّ المعجزة تستخدم كدليل علىٰ حقّانيّة رسالة إلهيّة، وفي هذه الحالة أيضًا تدلّ المعجزة علىٰ حقّانيّة الرسالة لأنّها تدلّ علىٰ تدخّل قوّة فوق طبيعيّة أو علىٰ تدخّل الله. إذن، في كلا الحالتين يمتاز عنصر التدخّل الإلهيّ بطابع رمزيّ حتىٰ لو لم يرد بصراحة في تعريف المعجزة. علىٰ كلّ حال، فإنّ المعجزة حدث خارق للعادة وناقض لقانون الطبيعة بواسطة تدخّل فوق طبيعيّ.

(234)

أمّا نقد برهان المعجزة علىٰ وجود الله، فهو أنّنا إذا أردنا اعتبار المعجزة دليلًا علىٰ وجود الله أو علىٰ وجود فاعل فوق طبيعيّ عن طريق الاستدلال العلّيّ، فمن اللازم أن نكون قد جرّبنا سابقًا معجزات مع عللها، وهذا يعني أنّنا قبل الاستدلال العلّي علىٰ وجود الله أو علىٰ العوامل فوق الطبيعيّة، فلا بدّ أن نكون قد شاهدنا وجرّبنا الله أو العوامل الطبيعيّة، وبذلك نستنتج أنّنا لا نستطيع إثبات وجود الله عن طريق المعاجز بواسطة الاستدلال العلّيّ[1].

و قد ورد إشكال آخر علىٰ التعريف الثاني للمعجزة هو أننا إذا سلّمنا أنّ الله هو علّة المعجزات، فلن نستطيع القول بوجود بسياق ثابت ورتيب للطبيعة؛ إذ بتدخّل الله ـ الذي لا يمكن تخمينه بالنسبة لنا ـ سيكون تغيير سياق الطبيعة ممكنًا في أيّ لحظة. من جهة أخرىٰ، فإنّ الاستدلال العلّيّ الذي هو المنهج الوحيد للحكم علىٰ الأمور يكون ممكن التطبيق عندما نؤمن برتابة تيّار الطبيعة وثباته فقط. وعليه فإنّه بمجرّد قبول تدخّل الله في تحقيق المعجزات، فإن إمكانيّة الاستدلال العلّي علىٰ كلّ الأشياء بما في ذلك المعجزات ستنهار. وبانتفاء إمكانيّة الاستدلال العلّيّ علىٰ المعجزات، فلن يبقىٰ أساس للثقة بالحكم القائل إنّ الله هو علّة حادثة خارقة للعادة مشهودة من قبلنا[2].

إذا قلنا إنّ الاستدلال العلّي ممكن فقط في العلاقات بين الأعيان والظواهر المادية، واعتقدنا أنّ كلّ الأحكام المختصّة بالأمور الواقعيّة يجب أن تتمّ ع ان طريلاستدلال العلّيّ، فنكون قد التزمنا مسبقًا بتعذّر الحكم علىٰ أمر واقعيّ خارج عالم المادّة.

إذن، لقد أجهدنا أنفسنا دون طائل في فحص أمر واقعيّ هو خارج نطاق دراستنا وفحصنا العلّيّ حسب التعريف؛ ولهذا لم يجعل هيوم غايته في دراسة (حول المعاجز) دراسة المعجزة، بل جعل موضوعه الإخبار بالمعجزة وأنّه هل تتوفر روايات وقوع المعاجز علىٰ شروط التصديق والقبول أم لا تتوفر. يظن هيوم بأنّ الإخبار عن المعجزة يحصل داخل العالم المادّيّ لذلك يمكن دراسته عن طريق الاستدلال العلّيّ، ولكن كما تمّ الإيضاح فإنّ تعذّر الاستدلال العلّيّ بشأن المعجزة يؤدّي بالنتيجة إلىٰ تعذّر الحكم علىٰ الإخبار بالمعجزة أيضًا. طبعًا، لأنّ الاستنتاج العلّيّ ليس بالتأكيد منهجًا صحيحًا للحكم حول المعجزات.

(235)

دراسة تحليليّة للاستدلال القبليّ ضدّ المعجزة

ذكرنا في ما سبق الشكل الكلّيّ لاستدلال هيوم القبليّ، وأوضحنا العناصر المساهمة في هذا الاستدلال. أشرنا إلىٰ أنّ الاستدلال المذكور يعبّر عن تعارض استدلالين علّيّين يعتقد هيوم أنّ أحدهما أقوىٰ دائمًا من الثاني. الدليل أو الاستدلال العلّيّ الأقوىٰ دليل يؤيّد قانونًا من قوانين الطبيعة، والدليل أو الاستدلال العلّي الأضعف دليل يؤيّد تطابق الخبر مع الواقع. يتجسّد دليل تطابق الخبر مع الواقع في تجاربنا الماضية، حيث شاهدنا غالبًا أنّ روايات الرواة، علىٰ افتراض عدم وجود قرائن خاصّة، تتطابق مع الواقع، بيد أنّ هذه التجربة ليست دائميّة؛ لأنّنا جرّبنا حالات من عدم صحّة الأخبار والروايات.

وفي المقابل فإنّ الدليل علىٰ قانون طبيعيّ هو تجربة دائميّة ومتقنة إلىٰ درجة أنّ احتمال صحّة العبارة التي تعبّر عن ذلك القانون يساوي واحدًا أو أنّه احتمال قوي جدًّا، وهكذا فمقتضىٰ العقل أن نرجِّح دائمًا قانون الطبيعة وننكر روايات المعاجز عند التعارض بين هذه وتلك.

وقد ذكرنا في ما سبق تقرير البرهان القبليّ بأشكال متعدّدة، أوردنا هنا تقريرًا تمسّك به كثير من الأنصار منذ زمن هيوم إلىٰ يومنا هذا. والوجه المشترك لهذه التقارير هو أنّ قبول روايات المعاجز ترجيحٌ للدليل الضعيف علىٰ الدليل الأقوىٰ.[1]

يسرد پرايس، وهو معاصر لهيوم، دليل اعتبار الخبر ودليل قبول قوانين الطبيعة، ثم يقول: (من منظار هيوم، قبول أخبار المعجزات بحجّة شهادة البشر ليس سوىٰ ترجيح للدليل الضعيف علىٰ الدليل الأقوىٰ. إنّه تنكّر لمرشدٍ لم يخدعنا أبدًا، وإقبال علىٰ مرشدٍ غالبًا ما خدعنا. إنّه قبول بأمر معارض للتجربة الرتيبة المتكرّرة توكّؤًا علىٰ تجربة ضعيفة متغيرة).[2]

ويقصد پرايس بالمرشد الذي لم يخدعنا أبدًا التجربةَ الثابتة التي تؤيّد قانون الطبيعة، وأمّا المرشد الذي خدعنا فهو في الغالب الأخبار والروايات التي تنبئ عن أمور خارقة للعادة.

و يقرر جورج كمپل، معاصر آخر لهيوم، رأي هيوم بقوله:

(التجربة هي مرشدنا الوحيد في الاستدلالات المتعلّقة بالأمور الواقعيّة. التجربة في بعض

(236)

الأمور ثابتة ورتيبة، وفي بعض الأمور متغيّرة وغير رتيبة. التجارب غير الرتيبة تنتج محتملة ليس إلّا، أمّا التجارب الثابتة فهي دليل كامل علىٰ نتائجها [بمعنىٰ أنّها تنتج نتائج لا يحتمل خلافها]. ثمّة في الاحتمال دومًا مشاهدات متخالفة، حيث نجد أنّ فئة من المشاهدات تتغلّب علىٰ فئة أخرىٰ، ويتوفر دليل تكون قوّته متناسبة مع درجة تفوّقه علىٰ الطرف المغلوب. في مثل هذه الحالات يجب المقارنة بين التجارب والمشاهدات المتخالفة، وبين تمييز التجارب القليلة العدد عن التجارب الكثيرة العدد، حتىٰ نحصل علىٰ الدرجة الدقيقة لقوّة الدليل الغالب.[1]

و يتابع كمپل فيقول إنّ دليل قبول الشهادات والأخبار هو في رأي هيوم من قبيل الأدلّة الاحتماليّة، أمّا دليل القوانين الطبيعيّة فيمثّل تجربة قاطعة ثابتة، فهو دليل أكمل وأقوىٰ من دليل قبول الأخبار. فلو أنبأت أخبارٌ بوقوع نقضٍ لقانون الطبيعة، فسيشكّل ذلك دليلًا احتماليًّا مقابل دليل قاطع. وإذا أنقصنا درجة قوّة الدليل الضعيف واحتماليّته من درجة قوّة الدليل الأقوىٰ واحتماليّته، سيكون الباقي لصالح دليل قانون الطبيعة، ولا تبقىٰ أيّ قوّة لدليل المعجزة، (وعليه، مهما كان عدد الشهود الذين يشهدون لمعجزة من المعاجز، فلن يمكن التصديق بتلك المعجزة حتىٰ بأدنىٰ الدرجات).[2]

ننقل الشكل التفصيليّ لهذا التقرير عن لسان أحد الشرّاح المعاصرين لهيوم ويدعىٰ سي دي برود[3].

1. ما نعتقده حول كثير من الأشياء قائم علىٰ أساس شهادات الآخرين وإخباراتهم؛ لأنّ الآخرين يقولون إنّهم شهدوا الحادثة الفلانية، فإنّنا نؤمن بوقوعها.

2. إنّنا نثق بشهادة الآخرين؛ لأنّ التجارب الممتدّة تعلّمنا أنّ الناس الذين ليس لديهم دوافع للكذب، ولا يوجد سبب لخداعهم أو انخداعهم، حين يقولون إنهم شهدوا وقوع حادثة ما، فهم قد شهدوها حقًا. حقّقنا مرارًا في أخبار الآخرين، ووجدنا أنّها صحيحة في حالات كثيرة؛ لذلك إذا لم يكن لدينا دليل خاصّ علىٰ كذب رواة قصة معينة أو خطئهم سنعتبر تلك القصّة أو الخبر خبرًا معتبرًا.

(237)

يريد هيوم أن يقول إنّ عقيدتنا بشهادات الآخرين وأخبارهم هي بالضبط من نوع عقيدتنا بالقوانين العلّيّة. في القوانين العلّيّة أعتقد أنّ (ب) يأتي دائمًا بعد (أ)؛ لأنّني شاهدت (ب) يأتي دائمًا بعد (أ). ومن هنا فإنّه يمكن الاستناد إلىٰ إخبار إنسان عاقلٍ موثوقٍ يخبر بشيء شهده؛ لأنّه ثمّة حالات كثيرة توفّرت لنا فيها فرصة دراسة صدق المخبر واختباره، ووجدنا أنّ الرواة يروون لنا الواقع. وعليه يمكن اعتبار الاعتقاد بضرورة قبول الأخبار من قبيل الاعتقاد بأن («ب) يأتي دومًا وراء (أ).

3.ينبغي أن نزيد أو نقلّل من اعتقادنا بأيّ شيء بما يتناسب مع الأدلّة الموافقة والمعارضة لذلك الشيء، فإذا جاء (ب) تبعًا لـ (أ) في 99 حالة من مئة حالة شهدناها، ولم يأت وراءه في حالة واحدة، فسيكون توقّعنا كبيرًا في الحالة القادمة أن يأتي (ب) تبعًا لـ (أ)؛ أمّا إذا كان هذا التتابع قد حصل في نصف الحالات المشاهدة، فلن يكون التوقّع كبيرًا لجهة حصول التتابع المذكور في الحالة المقبلة. ويمكن تطبيق هذه القاعدة نفسها بشأن اعتبار الأخبار.

4. إذا كانت الأخبار المتعلّقة بحادثة ما متعارضة، وكانت ظروف كلا الخبرين متساوية، كأنْ يكون الشهود متساوين من حيث الوثاقة، فمن الطبيعي أن لا نستطيع منح اعتبار كبير لأيّ من الطرفين؛ لأنّ دليلنا علىٰ وقوع الحادثة يساوي دليلنا علىٰ عدم وقوعها.

ولكن إذا لم يكن هناك تعارض في الأخبار، أي إنّ جميع الشهود رووا وقوع الحادثة بالإجماع، فإنّ عقيدتنا ستتعزّز بسبب إجماع الشهود؛ لأنّنا نعلم أنّه عندما يكون الشهود الصادقون الشرفاء مجمعين علىٰ رواية حادثة معينة، فإنّ تلك الحادثة تكون قد وقعت.

5. تتعزّز عقيدتنا أو تضعف بما يتناسب مع وقوع الحادثة المرويّة من حيث احتمالها أو عدم احتمالها. إذا علمتُ أنّ حوادث من النوع الذي رواه الشهود قد وقعت في الغالب، فلن يكون هناك سبب لكي أشكّ في أخبارهم، ولكن إذا كانت الحادثة التي يروونها بخلاف الأشياء التي تقع غالبًا، أي إذا كانت خارقة للعادة، فلا يجب أن اعتقد بصحّة أخبارهم علىٰ نحو حاسم؛ لأنّه بما أنّ حالات صحّة الأخبار التي تروىٰ من قِبل أفراد صادقين أكثر من حالات سقمها، سأميل إلىٰ تصديق خبر وقوع الحادثة المذكورة المرويّة بالإجماع من قبل شهود صادقين، ولكن حيث إنّ خبرهم مخالف للمعتاد، فسأميل إلىٰ رفضه. يتعارضان

(238)

هذان الميلان القائمان علىٰ تجاربي السابقة، والتالي فإنّ الحكم النهائيّ سيكون حدًّا وسطًا بين هاتين الحالتين.

6. لنفترض أنّ الحادثة الخارقة للعادة التي تروىٰ هي معجزة، أي نقض [فريد] لقانون من قوانين الطبيعة، أي الأنظمة التي لم يشاهد أيّ نقض لها، في هذه الحالة وبالنظر للحادثة نفسها نمتلك أقوىٰ دليل ممكن علىٰ إنكار ذلك الخبر؛ لأنّنا نمتك أقوىٰ دليل ممكن علىٰ الاعتقاد بخلافه، أي إنّنا نمتلك دليلًا ـ وهو تجربة كاملة رتيبة ـ علىٰ قانون الطبيعة.

وبذلك، سيكون الاستدلال القبليّ لهيوم ضدّ المعجزة باختصار:

بناءً علىٰ تعريف المعجزة، فإنّ أيّ معجزة تدّعىٰ تتعارض تمامًا مع تجربة رتيبة، ولكي نعتقد بتلك المعجزة فلا نمتلك سوىٰ تجربة جواز الثقة بالأخبار والشهادات، والحال أنّ هذه التجربة حتىٰ علىٰ افتراض صدق الشهود وصلاحيّتهم التامّة، إلّا أنّها ليست تجربة رتيبة ودائميّة؛ لذلك لا يحقّ لنا أبدًا أن نعتقد بأيّ معجزة حتىٰ لو شهد بها أقوىٰ الشهود.

نروم فيما يلي تقويم بعض أجزاء هذا الاستدلال التفصيليّ في ضوء ما بيّناه.

تعارض الأدلّة

يقوم استدلال هيوم علىٰ أساس التّعارض بين دليلين. وهو يعتقد أنّه يمكن التوصّل إلىٰ نتيجة هذا التّعارض عن طريق حسابات كمّيّة. والمقصود من الحسابات الكمّيّة حساب قوّة كلّ واحد من الدليلين المتعارضين ثمّ مقارنتهما ببعضهما. هذه المقارنة ممكنة في حال إمكانيّة قياس اعتبار الرواية وقابليّة مضمون الرواية للتصديق بمعيار مشترك. فكما أنّ قابليّة تصديق مضمون الخبر أو عدم تصديقه، وهو حدث من الأحداث، تحصل عن طريق مستوىٰ الثقة أو الاحتمالات الأنفسيّة، فإنّ اعتبار الرواية أيضًا يجب أن يكون ممكن القياس والفحص بهذا المعيار نفسه[1].

يرفض بعض النقّاد إمكانيّة تطبيق مثل هذه المقارنة، فهم يعتقدون أنّ مثل هذه المقارنة ممكنة عندما تكون الأدلّة المتعارضة متجانسة، أمّا في حال عدم التجانس، فلن تقع المقارنة علىٰ أساس واحد ومعيار واحد. يقول ريتشارد پرايس في نقده لهيوم: «استخدام الأخبار والشهادات لإثبات المعجزة لا يستلزم عمليّة غير معقولة. هذه العمليّة ليست من قبيل

(239)

استخدام تجربة ضعيفة للتغلّب علىٰ تجربة أقوىٰ من النوع نفسه؛ بل هي استخدام استدلال لإثبات حادثة لها دليل مباشر وموجِب، ويمكن أن يؤدي إلىٰ التغلّب علىٰ أقوىٰ المعتقدات التي يمكن أن تبتني علىٰ أصول مختلفة. وتلك العقيدة الأخرىٰ المغلوبة ليست أكثر من وجود ظنٍ عالٍ ضدّ وقوع تلك الحادثة قبل إقامة الدليل الجديد عليها (أي خبر وقوع المعجزة)».

ويقول پرايس إنّه «لا يمكن اعتبار المعجزة حدثًا متعارضًا مع التجربة، والأنسب أن نسمّيها حدثًا مختلفًا عن التجربة وليس متعارضًا معها. إذا شاهدنا طوفانًا يهدأ فورًا بأمرٍ من إنسان، فإنّ كلّ تجاربي السابقة تبقىٰ علىٰ حالها، وإذا قلتُ إنّني شاهدتُ شيئًا متعارضًا مع تجاربي الماضية فقصدي هو أنّني شاهدتُ شيئًا لم تكن لي عنه أيّ تجربة. إذا اطمأننتُ بواسطة شهود عيان إلىٰ أنّ حادثةً مختلفةً عن سياق الطبيعة الدراج قد وقعت في ظرف خاصّ، أكون قد وجدتُ بواسطة أخبار الآخرين وشهاداتهم دليلًا صريحًا وقاطعًا علىٰ وقوع هذه الحادثة». لا شيء يعارض هذا الدليل القاطع الصريح، أي إنّه لا يدحضه.

التجربة تقول لي فقط ما الذي حدث في الظروف الأخرىٰ. التجربة لا تقيم دليلًا علىٰ عدم وقوع الحادثة المذكورة؛ لأنّ أحدًا لا يستطيع تجربة الرتابة الدائميّة لسياق الطبيعة. إذًا، ليس من الصحيح أن ندّعي كالسيّد هيوم أنّ كلّ المعجزات التي تؤيّدها شهادات الآخرين فيها نزاع بين تجربتين متعارضتين، والتجربة الأقوىٰ منهما هي التي ترسم حكمنا[1].

يذهب پرايس إلىٰ عدم وجود نزاع بين دليلين بمعنىٰ نفي أحدهما للآخر، حتىٰ يلزم أن نحكم بين ذلكم الدليلين بمعيار قوّة الاحتمال، ونرجّح أحدهما علىٰ الآخر. بعبارة أخرىٰ، يرىٰ پرايس أنّ موضوع كلا الدليلين ليس شيئًا واحدًا حتىٰ ينفيه أحدهما ويثبته الآخر. وموضوع أحد الدليلين يختلف عن موضوع الدليل الثاني. تخبر التجربة عن حوادث في الماضي، وشهادات المعجزة وأخبارها تخبر عن حادثة مختلفة في زمان ومكان خاصّين ومختلفين، ولا يوجد بين هذين الخبرين أيّ نوع من التكاذب حتىٰ تكون هناك حاجة لعرض منهجٍ لدراسة حالات التعادل والتراجيح بينهما. وهكذا فإنّ مراد پرايس من عدم تجانس الدليلين المتخالفين، هو عدم وحدة موضوعيهما.

(240)

التجربة والشهادة، اختزال إحداهما إلىٰ الأخرىٰ

تمّ التركيز في استدلال هيوم علىٰ تجانس الدليلين المتعارضين. وحاول هيوم أن يجعلهما من سنخ واحد عن طريق تحويل الدليل النقليّ إلىٰ دليل تجريبيّ، ويوفّر بذلك الأرضيّة لإمكانيّة مقارنة الاحتمالات والموازنة بينهما. وكما شاهدنا في متن الدليل في البند الثاني من تقرير برود التحليليّ التفصيليّ، فإنّ أساس اعتمادنا علىٰ أخبار الآخرين وشهاداتهم هو تجاربنا الماضية، وبالتالي فإنّ منشأ اعتبار الدليل النقليّ أيضًا هو التجربة كما في الأدلّة التجريبيّة. وهكذا يكتسب كلا الدليلين -قانون الطبيعة وخبر المعجزة- اعتبارهما من التجربة؛ ولهذا يمكن مقارنة احتمال صحّة كلّ واحد منهما بالآخر. سبق أن نقلنا عن جورج كمپل، ناقد هيوم المعاصر له، أنّه يقسّم التجربة إلىٰ تجربة شخصيّة وأخرىٰ مشتقّة، وبهذا التقسيم يجنح كمپل في الواقع إلىٰ القول إنّ التجارب غير الشخصيّة والمشتقّة لها جذورها في شهادات الآخرين وأخبارهم، وذلك بخلاف هيوم الذي يرىٰ أنّ التجربة هي أساس اعتبار الأخبار. ومن الواضح أنّه ما من تجربة شخصيّة يمكن أن تقوم بشكل مستقلّ عن شهادات أفراد مختلفين؛ لذلك فإنّ كلّ التجارب الصانعة لقوانين الطبيعة لا تكون معتبرة، إلّا إذا كانت الأخبار والشهادات الصانعة لتلك القوانين معتبرة. يقول برود:

(يبدو أنّ هيوم لم يكن متفطّنًا إلىٰ أنّ اعتقادنا بكثير من القوانين يعتمد علىٰ الشهادات في الغالب. كثير من قوانين الطبيعة التي نؤمن بها جميعًا ليست حصيلة مشاهدة مباشرة لمصاديقها من قبلنا. إنّنا لا نشاهد سوىٰ حالات ومصاديق قليلة منها، فاعتقادنا بأنّنا سنموت يعتمد غالبًا علىٰ شهادة الآخرين، ومعظمنا لم يشاهد سوىٰ حالات قليلة من الموت. إذًا، الدليل ضدّ وقوع المعجزة، أي قانون الطبيعة، والدليل علىٰ وقوع المعجزة، أي شهادة الآخرين، كلاهما من سنخ الشهادة والروايات. ما من أحد لديه تجربة شخصيّة عن الموت ليستطيع بنحو معقول بالاعتماد علىٰ نظامه المجرَّب أن يعتقد أنّ الإنسان الميّت لا يعود إلىٰ الحياة. عقيدتنا القاطعة بهذه الحقيقة منوطة بشكل كامل تقريبًا بشهادات الآخرين المتشابهة أو الواحدة، فإذا كان ثمّة شهادات معدودة تقول بعودة بعض الموتىٰ إلىٰ الحياة، فسيكون أمامنا فئتان من الروايات: الفئة الأولىٰ شهادات كثيرة علىٰ أنّ الميّت لا يعود للحياة، والفئة الثانية شهادات قليلة علىٰ أنّ عددًا من الموتىٰ عادوا إلىٰ الحياة.[1]

(241)

كان هيوم يقيم تعارضًا بين دليلين مستمدّين من التجربة، ويوصي بأن نهيّئ المجال لترجيح أحدهما علىٰ الآخر عن طريق مقارنة قوّة هذين الدليلين من خلال حساب احتمال صحّة نتيجة كلّ واحد منهما. وفي المقابل يرسم برود التعارض بين دليلين مستمدّين من الشهادات أو من شهادتين متعارضتين. سندرس هنا قضيّتين؛ الأولىٰ: هل استدلال هيوم استدلال دوريّ؟ والثانية: ما هو تأثير تحويل الدليل التجريبيّ إلىٰ شهادة علىٰ النتيجة؟

القضيّة الأولىٰ: يقول هيوم إنّه في أخبار المعاجز تقف تجربةٌ رتيبة دائمًا مقابل خبر أو شهادة أو رواية. وكما قال كمپل وأوضح برود، فإنّ هذه التجربة الرتيبة تقوم هي نفسها علىٰ شهادات الآخرين. وكان قد قال أيضًا إنّ قيمة الأخبار والشهادات تعتمد علىٰ التجربة. أفلا يقع دور لجهة كون التجربة مستندة علىٰ الشهادة والشهادة مستندة علىٰ التجربة؟ يعتقد بعض شرّاح هيوم أنّه هو نفسه قد أجاب عن هذا الإشكال، حيث بعث أحد أصدقاء هيوم، واسمه هيو بلير[1] نسخة خطّيّة لـ (رسالة المعجزات) من تأليف كمپل إلىٰ هيوم، وقد تعرّف هيوم علىٰ إشكاليّة الدور عن هذا الطريق. يجيب هيوم في رسالة بعثها إلىٰ بلير بما يأتي:

(ما من أحد يتوفّر علىٰ تجربة سوىٰ تجربته الشخصيّة. تجارب الآخرين لا تتحوّل إلىٰ تجربته هو، إلّا عن طريق القيمة التي يراها لشهادات الآخرين ورواياتهم. هذه القيمة التي تمنح لشهادات الآخرين نابعة من تجربته الشخصيّة عن الطبيعة).[2]

يمكن إعادة صياغة كلام هيوم هذا باستخدام مصطلحات كمپل علىٰ النحو الآتي: التجربة المشتقّة تتوكّأ علىٰ اعتبار شهادات الآخرين، واعتبار شهادات الآخرين يعتمد علىٰ التجارب الشخصيّة، وهكذا يزول الدور؛ لأنّ اعتبار الشهادات لا يعتمد علىٰ التجربة المشتقّة، حتىٰ يكون اعتماد التجربة المشتقّة علىٰ الشهادات نوعًا من أنواع الدور.

إذا أقمنا اعتبار الأخبار علىٰ التجارب الشخصيّة، فما الذي ينبغي أن يفعله الشخص إذا كانت تجربته الشخصيّة حول الأخبار والشهادات مختلفة عن تجربتنا الشخصيّة؟ فهو بخلافنا لا يرىٰ صحّة الخبر هي الأصل، بل يرىٰ عدم الصحّة هو الأصل، ثم يبادر إلىٰ تمحيص الخبر حتىٰ يستطيع في ضوء الشواهد والقرائن أن يتّخذ قراره في قبول الخبر أو رفضه. بالنسبة لمثل هذا

(242)

الشخص فإنّ خبر المعجزة لا يختلف عن خبر الظاهرة العاديّة؛ لأنّه سيعمد لدراسة الشواهد والقرائن في كلا الحالتين. طبعًا يمكن أن تكون غرابة المعجزة وبعدها عن المألوف بالنسبة له قرينة تدعوه إلىٰ رفض خبرها، بيد أنّ هذه الغرابة في رأية ليست إلّا من باب تعارضها مع تجاربه الشخصيّة. هذا الشخص نفسه يكون علىٰ وضع مماثل تمامًا حيال الأحداث الخارقة للعادة، التي هي حسب اصطلاحات هيوم ليست بمعاجز، أي أنّ من حقّه رفض أخبار الحوادث الخارقة للعادة لمجرّد تعارضها مع تجاربه الشخصيّة، ولا يكون في رفضه هذا قد قام بأيّ فعل غير معقول، والحال أنّ فعله هذا من وجهة نظر هيوم غير معقول، بمعنىٰ أنّ هيوم يميّز بين المعجزات والأحداث الخارقة للعادة، والحال أنّه علىٰ افتراض ابتناء اعتبار الأخبار علىٰ التجارب الشخصيّة، وبالنتيجة ابتناء اعتبار قوانين الطبيعة علىٰ التجارب الشخصيّة عند فرد تختلف تجاربه الشخصيّة عن تجاربنا الشخصيّة، فلن يكون ثمّة أيّ فرق بين المعجزات والخوارق. إذا كان ابتناء اعتبار الشهادات والأخبار علىٰ التجربة الشخصيّة للتحرّر من مشكلة الدور يستلزم أن يبقىٰ هناك فرق بين المعاجز والخوارق، فيكون هيوم قد ردّ علىٰ إشكاليّة الدور بالإضرار بجانب من نظرته.

وهناك لازمٌ غير صائب آخر يترتّب علىٰ هذه الطريقة في الإجابة عن إشكاليّة الدور، فلنفترض أنّ التجارب الشخصيّة لفرد ما حول فرد آخر أو أفراد آخرين تفيد أنّهم لا يكذبون أبدًا. وعند سماع هذا الفرد لخبر وقوع معجزة يرويه هؤلاء الصادقون بالمطلق، فينبغي عليه أن يصدّق خبرهم بحكم تجربته الشخصيّة من جهة، ويجب عليه برأي هيوم أن لا يقبل وقوع المعجزة من جهة ثانية، وذلك بحكم تجربة مشتقّة ـ وهي هنا قانون طبيعيّ يتعارض مع المعجزة المحدّدة. فأيّ هاتين التجربتين أقوىٰ: التجربة الشخصيّة أم التجربة المشتقّة؟ التجربة الشخصيّة تجربة مباشرة لا شكّ فيها، بينما التجارب المشتقّة تجارب غير مباشرة تُنقل عن طريق وسائط. وبالتالي فإنّ التجربة الشخصيّة هي الراجحة ويجب العمل بمقتضاها، أي ينبغي تصديق خبر المعجزة الذي يرويه أشخاص موثوقون. إذًا، يستلزم ابتناء اعتبار الأخبار علىٰ التجارب الشخصيّة أن يمكن، في حالات خاصّة علىٰ الأقل، تصديق أخبار المعاجز، والحال أنّ هيوم يعتقد أنّ خبر المعجزة لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتمتّع بالقوّة التي تؤهّله للصمود حيال قوانين الطبيعة.

يتبين علىٰ أساس الافتراضين المصطنعين المذكورين أنّ حلّ هيوم للتخلّص من إشكاليّة الدور، لها لوازم لا تنسجم مع آرائه.

(243)

القضيّة الثانية: إذا جارينا برود في اعتبار التعارض بين الدليلين تعارضًا بين شهادتين، ورفضنا رأي هيوم بتعارض التجربتين، فماذا سيكون الفرق في النتيجة؟ يبدو في ضوء ما سلف أنّه يجب اللجوء إلىٰ الشهود ورواة الأخبار ودرجة اعتبارهم ووثاقتهم أيضًا. ونظرًا إلىٰ أنّ عدد شهادات قانون الطبيعة أكبر بكثير وفي مصاف التواتر، فسيناط كلّ شيء بدرجة وثاقة شهود المعجزة، بحيث لو كان ثمّة شهود معتبرون قد رووا الحادثة المعجزة، ولم تكن ثمّة أيّ قرينة علىٰ سقم الخبر من حيث سوء فهمهم أو انخداعهم، فيجب قبول الخبر حتىٰ لو كان بخلاف الشهادات المؤيّدة لقانون الطبيعة. بعد أن سلّمنا أصل وقوع الحادثة المعجزة اعتمادًا علىٰ وثاقة الشهود، يجب أن نحقّق في مصدرها ومنشئها، لكن المهم هو أنّ تصديق وقوع تلك الحادثة فعلٌ معقول.

والخلاصة هي أنّه إذا كان الدليل علىٰ اعتبار قوانين الطبيعة هو اعتبار الشهادات، فهذا يعني أنّه عند مخالفة خبرٍ لقانونٍ طبيعيّ يكون أمام خبران متعارضان هما - كما قلنا في إيضاح كلام پرايس - غير متكاذبين علىٰ الإطلاق، ويمكن أن يكونا صادقين في آن واحد. وإذا اكتشفنا فيهما تكاذبًا أو تعارضًا وشعرنا بالحاجة لترجيح أحدهما علىٰ الآخر، فسيناط كلّ شيء بدرجة وثاقة وصدق رواة خبر المعجزة، بحيث لو كانت درجة وثاقتهم كافية وافقنا علىٰ وقوع حادثة مخالفة لقانون الطبيعة، ويبقىٰ فهمنا وتفسيرنا لتلك الحادثة.

تفسيران للحوادث المتعارضة مع قوانين الطبيعة

إذا صدّقنا وقوع الحادثة المعجزة، فسيكون هناك احتمالان لتفسيرنا لمصدر تلك الحادثة والغاية منها؛ الاحتمال الأوّل أن نعتقد أنّ قانون عدم عودة الموتىٰ للحياة ليس قانونًا كلّيًّا مطلقًا، بمعنىٰ أن نعتبر أنّ وقوع هذه الحادثة يدلّ علىٰ سقم القانون الذي كنّا نتصوّر أنّه قانون طبيعيّ. أمّا الاحتمال الثاني فأن نؤمن بذلك القانون، لكنّنا سنقتنع أنّه قد يُنقض أحيانًا بواسطة المعجزة. فكيف يمكن اختيار أحد هذين التفسيرين؟

يقول سوينبرن إنّه (إذا كان لدينا دليل كافٍ علىٰ وقوع حادثة تخالف قانون الطبيعة، وكان لدينا أيضًا دليل كافٍ علىٰ وقوع حوادث تشبه تلك الحادثة في الظروف المماثلة، فسيتوفّر لدينا الدليل الكافي للاستنتاج بأنّ ما كنّا نعتبره في السابق قانونًا طبيعيًّا لم يكن في الواقع قانونًا طبيعيًّا)[1].

(244)

رؤية سوينبرن هذه في الحقيقة ترجع إلىٰ التفسير الأوّل نفسه. يقول سي دي بورد: (إذا فحصنا كلّ الحالات المشابهة للحادثة المعجزة، ووجدنا أنّ لها جميعًا خصوصيّات مشتركة، عندئذ ينبغي إعادة النظر في القانون الكلّيّ لنقول مثلًا إنّ كلّ الذين يموتون لا يعودون إلىٰ الحياة باستثناء الذين يتوفّرون علىٰ الخصوصيّة. وهكذا سيكون لدينا قانون جديد بمقدوره تبيين عودة الموتىٰ المتوفّرين علىٰ الخصوصيّة إلىٰ الحياة، ويوضِّح طبعًا عدم عودة غيرهم من الموتىٰ إلىٰ الحياة)[1].

لا فرق بين رأي سوينبرن وبين رأي برود؛ لأنّ سوينبرن يقول أيضًا: (إذا توفّر لنا دليل كافٍ علىٰ وقوع حوادث شبيهة في ظروف شبيهةفيجب إعادة النظر في القانون السابق).

ويمكن أن يكون مراده من الظروف الشبيهة هي تلك الخصوصيّات المشتركة بين الاستثناءات.

ولكن السؤال المطروح هو أنّه ما هي الحالات التي يجب أن لا نعتبر وقوع الحدث فيها مبرِّرًا لإعادة النظر في قانون الطبيعة وذلك عندما نواجه حدثًا ينقض قانونًا من قوانين الطبيعة؟ وبذلك نمهّد الأرضية لفهمه علىٰ أنّه معجزة حقيقيّة. يقول سوينبرن: (متىٰ ما كان لدينا دليل كاف علىٰ وقوع حادثة معجزة، ودليلٌ كاف علىٰ الاعتقاد بأنّ حادثة شبيهة بها لن تقع حتىٰ في ظروف شبيهة بظروف تلك المعجزة، حينئذ لن نمتلك دليلًا كافيًا علىٰ أنّ القانون الذي نقضته هذه المعجزة ليس قانونًا طبيعيًّا حقيقيًّا.[2] فإذا أردنا الجمع بين عقيدتي وقوع الحدث المعجز وصحّة القانون الذي خرقه هذا الحدث المعجز، فيجب أن نعتقد بعدم قابليّة ذلك الحدث المعجز للتكرار، وينبغي أن ننظر في طبيعة الدليل الذي بوسعه إثبات هذا الاعتقاد.

يقول سوينبرن: (إذا لم نستطع تقديم قانون أو معادلة جديدة تستطيع أن تبيّن الحادثة الإعجازيّة، فضلًا عن تبيين الحالات الممكنة التبيين بالقانون السابق، بحيث يبقىٰ القانون السابق قادرًا علىٰ تبيين كلّ المشاهدات المستقبليّة، فسيتوفر لدينا الدليل الكافي علىٰ عدم قابليّة الحادثة المذكورة للتكرار. وفي هذه الحالة يتسنّىٰ اعتبار تلك الحادثة معجزةً، أي بعد

(245)

وقوع تلك الحادثة لن نعتبرها شاهدًا علىٰ سقم القانون السابق الذي خرقته ونقضته، بل نعتبرها ذات مصدر فوق طبيعيّ وماورائيّ، أي إنّها معجزة[1].

تلعب عدم قابليّة الحادثة المعجزة للتكرار دورًا أساسيًّا في المنهج الذي يختاره سوينبرن لفتح الباب أمام الاعتقاد بأنّ حدثًا متعارضًا مع قانون الطبيعة هو معجزة. ولبرود بيان آخر لا يستند بالضرورة علىٰ عدم القابليّة للتكرار، حيث يقول: (إذا لم نستطع بفحص حالات نقض قانون الطبيعة العثور علىٰ خصوصية مشتركة تبيّن سبب تخلّفها عن قانون الطبيعة، فمن سبل الحلّ أن نقول إنّه في مقام الثبوت لا توجد أيّ خصوصيّة مشتركة بينها أيضًا، ونعتقد بالنتيجة أنّ استثنائيّتها ثمرة تدخّل عامل ماورائيّ يمكن أن يكون تابعًا لقانون خاصّ لا علاقة له بالمسائل الطبيعيّة. في هذه الحالة سنكون قد اعتقدنا بأنّ المعجزة بمعناها المصطلح قد وقعت. طبعًا يمكن علىٰ افتراض عدم تشخيص خصوصيّة مشتركة أن نعتقد بأنّ مثل هذه الخصوصيّة المشتركة موجودة في متن الواقع، لكنّنا لم نستطع معرفتها.[2] في هذه الحالة، فإنّنا طالما لم نجد قانونًا جديدًا لتبيين الحالات الاستثنائيّة سنبقىٰ عاجزين عن تبيين الحادثة المعجزة، بينما إذا نسبناها إلىٰ عوامل ماورائيّة فسنكون قد توفّرنا علىٰ تبرير لتلك الاستثناءات.

نقد تقرير پرايس ـ برود للاستدلال القبليّ ضدّ المعجزة

يقول برود في الجزء الأخير من تقريره المفصل لاستدلال هيوم: (لا يحقّ لنا أبدًا أن نعتقد بأيّ معجزة حتّىٰ لو شهد بها أقوىٰ الشهود». ويعتقد برود أنّ هذه الجملة هي حصيلة استدلال هيوم القبليّ، وسببها هو أنّ أحد الدليلين المتعارضين قويّ في أكمل درجات القوّة، وهو دليل القوانين الطبيعيّة، والدليل الثاني، أي دليل اعتبار الأخبار والشهادات، لا يرقىٰ أبدًا إلىٰ درجة الدليل الكامل، والتجارب الرتيبة المتكرّرة التي لا استثناء فيها تدعم قوانين الطبيعة؛ أمّا بالنسبة لاعتبار الأخبار والشهادات، فلا توجد مثل هذه التجربة الرتيبة، فقد كانت الأخبار والروايات التي سمعناها بخلاف الواقع مرّات عديدة، لذلك لن يكون احتمال صحّة أيّ خبر، وخصوصًا أخبار المعاجز، في قوّة احتمال صحّة قوانين الطبيعة.

إذا صحّ هذا البيان، أي أنّ احتمال صدق أيّ خبر من أخبار المعاجز لا يرقىٰ لاحتمال صحّة

(246)

قانون الطبيعة، فكما سبق أن قلنا سيكون القسم الثاني من دراسة هيوم عبثيًّا لا ضرورة له، والحال أنّه لا يبدو كذلك. من ناحية أخرىٰ، يطرح هيوم في ختام القسم الأول من دراسته قاعدة أو شعارًا يقول فيه (ما من شهادة تكفي لإثبات المعجزة إلّا إذا كان خطؤها أكثر إعجازًا من الحادثة التي تريد إثباتها).[1] يمكن طرح هذا الشعار إذا كان احتمال صحّة خبر المعجزة أكبر من احتمال صحّة القانون المضادّ لها. بعبارة ثانية، يمكن رفع هذا الشعار إذا كان احتمال صحّة خبر المعجزة أكبر من احتمال صحة قانون الطبيعة. ومثل هذا الشيء مرفوض في تقرير پرايس ـ برود، أي طبقًا لتقريرهما لا يمكن إطلاقًا أن يكون احتمال صحّة خبر معجزة أكثر قوّة من إحتمال صحّة قانون من قوانين الطبيعة؛ لذا لا يمكن طرح الشعار المذكور.

نعم، من لوازم شعار هيوم أن يكون تفوّق احتمال صحّة المعجزة علىٰ احتمال صحّة قانون الطبيعة، ممكنًا. وقد صرّح هيوم نفسه بهذا الإمكان قبل طرح الشعار المشار إليه، حيث قال:

(بمقتضىٰ طبيعة الواقعة الإعجازيّة ثمّة دليل قاطع كامل ضدّ وقوع المعجزة، دليل لا يمحىٰ ولا يأفل، والمعجزة المذكورة لا تكون معتبرة إلّا بدليل مخالف [لدليل التجربة] وأقوىٰ منه).[2]

علىٰ الرغم من وجود مثل هذا اللازم لشعار هيوم ومثل هذا التصريح بإمكانيّة تفوّق دليل المعجزة، إلّا أنّه يمكن العثور في عبارات أخرىٰ علىٰ تصريحات تفيد تعذّر هذا التفوّ، حيث يقول هيوم: (ما من شهادة تؤيّد أيّ نوع من المعاجز يمكن أن ترتقي حتىٰ إلىٰ مرتبة الاحتمال، ناهيك عن أن تصل إلىٰ مرتبة الدليل الكامل)[3]. ويقول في فقرة أخرىٰ: (ما من شهادة إنسانيّة يمكنها أن تكون قويّة إلىٰ درجة تثبِت معها معجزةً)[4].

العبارتان الأخيرتان تأييدات مناسبة لقراءة پرايس ـ برود، ولكن ثمّة شواهد تؤيّد رفض هذه القراءة أيضًا. من ذلك أنّ هيوم أضاف قيدًا للجملة الأخيرة، ثم صرّح في طبعات وتنقيحات لاحقة بأهمّيّة ذلك القيد فقال: (ما من شهادة إنسانيّة يمكنها أن تكون قويّة إلىٰ درجة تثبِت معها معجزةً، وتجعلها أساسًا مناسبًا للأنظمة الدينيّة). القيد الذي يضيفه هيوم

(247)

معناه أنّه قد يمكن إثبات أصل وقوع حوادث إعجازيّة عن طريق الأخبار والشهادات، لكنّ هذه المعاجز لا يمكنها أن تمثّل دليلًا علىٰ حقّانيّة نظام دينيّ ما. ربما بسبب تعذّر أن نحرز عن طريق الأخبار أنّ عاملًا ماورائيًّا هو الذي قام بهذه المعجزة. يقول هيوم بعد أن يوافق علىٰ إمكانيّة إثبات وقوع حوادث اعجازيّة عن طريق الأخبار: (ربما كان مستحيلًا العثور علىٰ مثل هذا الدليل بين كلّ الوثائق التاريخيّة). المراد من هذه العبارة أنّه علىٰ الرغم من إمكانيّة العثور علىٰ دليل تاريخيّ علىٰ وقوع حادثة معجزة، فإنّ مثل هذا الدليل لم يعثر عليه فعليًّا. ويقوم هيوم بإجراء تغيير في صياغة الجملة الأولىٰ. كانت الجملة الأولىٰ في النسخة الأولىٰ كما يأتي: (ما من شهادة... يمكنها علىٰ الإطلاق أن تبلغ حتىٰ مرتبة الاحتمال...). [1]

يُشعِر هذا التغييرُ أيضًا بأنّ هيوم يرىٰ إمكانيّة تفوّق احتمال صحّة خبر المعجزة علىٰ احتمال صحّة قانون الطبيعة، مع أنّه لم يصل علىٰ أرض الواقع خبرٌ بهذا الاحتمال. إذا نظرنا بعين الجدّ لهذا التغيير في موقف هيوم، واعتبرناه ثمرة تفطّن هيوم لنواقص استدلاله، فيجب أن نقوم بتعديل في تقرير پرايس ـ برود، فلا نعتبر نتيجة استدلال هيوم أنّه لا يستطيع خبرُ أيّ معجزة علىٰ الإطلاق التفوّق علىٰ قانون من قوانين الطبيعة. بل نتقبّل إمكانيّة أن يكون خبر المعجزة قويًّا إلىٰ درجة أنّ احتمال سقمه أو احتمال كذب رواته والشهود ليس أكبر من احتمال سقم قانون الطبيعة.

يستشف أنّه توجد في كلام هيوم وكتاباته شواهد لصالح كلا القراءتين، وقد تعرّفنا علىٰ بعض منها. إذا أردنا مقارنة هذه الشواهد ببعضها، نشعر كأنّما يوجد في أذهاننا افتراض مسبق يقول إنّ دراسة هيوم تتمتّع بالانسجام الداخليّ، والحال أنّه يبدو أنّ الفكرة القائلة بأنّ دراسته تتحمّل كلا القراءتين ناجمة عن حالات التباس وغموض في ذهن هيوم نفسه، حيث تبدّت له مشكلات استدلاله ضدّ المعجزة بشكل تدريجيّ.

وجه آخر لطرفي التعارض

يقول بعض شرّاح هيوم إنّ الدليلين المتعارضين الذين وردا في استدلال هيوم هما: (دليل تجريبيّ عامّ يُعرف بدليل العلّيّة العامّ، ويفيد أنّ لكلّ حادثة علّة طبيعيّة تبيّن تلك الحادثة،

(248)

ومن ناحية ثانية لدينا حادثة تعتبر معجزة فهي تقول في الواقع: بعض الحوادث ليس لها علّة طبيعيّة)[1].

يلوح أنّ هذه الصورة للدليلين المتعارضين في استدلال هيوم، ليس لها ما يؤيّدها في دراسة (حول المعاجز) علىٰ الإطلاق، بل إنّ كتابات هيوم وآراءه تخالف هذه الصورة؛ لأنّه يحاول بصراحة رسم دليل اعتبار الخبر في قالب الاستدلال العلّيّ، والتأكيد علىٰ أنّ منشأه هو تجاربنا الماضية التي تفيد تطابق الخبر مع الواقع، وهذا ما يضع الاستدلال العلّيّ مقابل قانون خاصّ من قوانين الطبيعة. علىٰ هذا الأساس، الدليل المعارض لقانون الطبيعة هو هذا الاستدلال العلّيّ في الدفاع عن اعتبار الأخبار والشهادات، كما أنّ هيوم لم يقصد من قانون الطبيعة قانون العلّيّة العامّ، فمراده من قانون الطبيعة في مثال قيام المسيح من الأموات أو إحيائه للموتىٰ، عبارة من قبيل: (الموتىٰ لا يعودون إلىٰ الحياة).

(249)
(250)

نشأة الدين عند هيوم من التعدُّدية إلىٰ التوحيد

 نقد في تطوُّر الأديان

 

غيضان السيد علي[1]

   

تُعدُّ فلسفة ديفيد هيوم (1711-1776) -في الغالب- نتاجًا طبيعيًّا للفكر الانكليزيِّ السائد في عصره، الذي دَأَبَ علىٰ تحصيل المعارف بالحسِّ والتجريب، فكانت امتدادًا لفلسفة لوك[2]  (1632 - 1706) الذي رأىٰ أنَّ العقل صفحة بيضاء، والتَّجربة هي التي تخطُّ سطورها عليه، أي أنَّها هي التي تزوِّده بالمعارف والأفكار كافَّة. فقد كان بذلك يعترض علىٰ العقلانيِّين القائلين بتوفُّر العقل علىٰ أفكار فطريَّة مستقلَّة عن كلِّ تجربة، مؤكِّدًا علىٰ أنَّه لا يتوفَّر علىٰ شيء بعيدًا عن التجربة، ومن ثمَّ تَصوَّره  مجموعة من الإدراكات. كذلك تأثَّر بفلسفة جورج بركلي[3] (1685 -1733) الذي سار بالمذهب التجريبيِّ إلىٰ أبعد ممَّا وصل به لوك عن طريق رفض تصوُّر الأخير للجوهر الماديِّ واستخدام المذهب التجريبيِّ في خدمة فلسفة ميتافيزيقيَّة روحيَّة.

لقد دعا هيوم من خلال نسقه الفلسفيِّ التجريبيِّ إلىٰ نبذ كلِّ الحقائق التي لا تعضدها التجربة وتدعمها، ووصف الأفكار التي تأتي من غير طريق التجربة بأنَّها أفكار زائفة، “فأفكارنا

(251)

لا تصل أبعد من تجربتنا”[1]؛ أي أنَّه ينطلق في بناء موقفه من القضايا الدِّينيَّة من منطلقات معرفيَّة خالصة؛ حيث كان لديه شعور عميق باندفاع العقل في ما يقوم به من استدلالات في مجال التجربة، ولم يكن لديه أمل في الوصول إلىٰ معرفة ثابتة عن أيِّ شيء ما لم يتبع المنهج التجريبيِّ، ذلك المنهج الذي اتَّبعه من قبل في دراساته في الأخلاق والسياسة والتاريخ والاقتصاد، فتوسَّم فيه خيرًا في مجال الَّلاهوت والدِّين [2]. ولذلك لا يمكن التأصيل لفلسفة هيوم بعيدًا عن إبراز تأثُّره، وهو طالب في أدنبرة، بنظريَّات إسحاق نيوتن، وتأثُّره القويِّ أيضًا بالمدرسة التجريبيَّة البريطانيَّة من خلال فلسفة لوك، وشافتسبري، ومانديفل، وهاتشيسون، وجوزيف بطلر، الذين تتبَّع مناهجهم في الفلسفة والأخلاق؛ ليظلَّ أبرز الفلاسفة الذين تبنَّوا المذهب التجريبيَّ، وحاولوا أن يطوِّروا من خلاله فلسفة تجريبيَّة متِّسقة.

وإلىٰ جانب المذهب التجريبيِّ تأثَّر هيوم ببحوث صمويل كلارك[3] (1675 - 1729) في الدِّين وخاصَّة بحثه “برهان علىٰ وجود الله وصفاته” الذي انتهىٰ فيه صاحبه إلىٰ عكس ما كان يريد أن ينتهي هو. فكان هذا البحث مع ردِّ الفعل العدوانيِّ علىٰ الكالفينيَّة الأوَّليَّة، التي اعتنقها في شبابه، من أهم الأمور التي أبعدته عن أن يكون رجلًا متديِّنًا. كذلك تأثَّر بصراعات القرون السابقة، بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم بين أصحاب مذهب التوحيد والمُنكِرين للوحي. ولذلك، لم يكن غريبًا في دراسته للدِّين أن يثير شكوكًا أكثر من الإجابات التي اقترحها، ويعترف بأنَّه غير قادر علىٰ حلِّ بعض المشكلات التي رأىٰ أنَّها لا تخضع للحلِّ الإنسانيّْ.

في السياق عينه، انطلق هيوم في تناوله للقضايا الدِّينيَّة من منهجه التجريبيِّ الذي شكَّ -من خلاله- في بديهيَّات العقل، وهَدَمَ الميتافيزيقا، وَعَدَّ أنَّ كلَّ ما لا يمتثل لمعيار التجربة الحسِيَّة يجب أن يُقذف به في النار. ومن هنا أسَّس فلسفته في الدِّين علىٰ غرار تصوُّره للأخلاق؛ أي بناءً علىٰ الطبيعة البشريَّة للإنسان، وعلىٰ أهوائه وتفاعلاته الاجتماعيَّة. كما أنَّه تطرَّق إلىٰ المعتقد الدينيِّ لا من حيث صدقه وحقيقته، ولا من حيث استبعاد وجود إله أو

(252)

احتمال ذلك، بل من منظور الحاجة إلىٰ الاعتقاد أكثر من الحاجة إلىٰ ما يُصدَّق أو لا يُصدَّق[1]. وعليه، فقد كان من هؤلاء الباحثين الذين نظروا إلىٰ نشأة الدِّين نظرة تطوُّريَّة أي أنَّه نشأ علىٰ يقين أنَّ الأديان عمومًا من عمل الإنسان، وأنَّ فكرة الله وُجدت لدىٰ المجتمعات الأولىٰ بشكل عقائد انبثقت إمَّا من الأفراد أو من الجماعة. وهو بذلك يقف في الصف المقابل لهؤلاء الذين رأوا أنَّ فكرة الله أو الدِّين علىٰ العموم إنَّما هي فكرة فطريَّة، وجدت في عقل الإنسان، وأوجدها فينا موجود أعلىٰ، فللدِّين عندهم حقيقة خارجيَّة هي الله، وهو حقيقة منفصلة عن الجماعة بل عن الكون كلِّه ومُبايِنة له، وهو الذي غرس فينا فكرة الله. خلاصة القول، أنَّ فكرة هيوم عن «الله» وعن الأديان بشكل عامٍّ استندت إلىٰ فكرة التطوُّر في سُنَن البشريَّة وفي قوانينها الاجتماعيَّة. وفي هذا البحث تشريح لهذه الفكرة من أجل تقديم صورة نقديَّة لكلِّ حيثيَّاتها.

وتكمن أهميّة هذا البحث في أنَّه يقف موقفًا نقديًا من نظريَّة هيوم حول أصل ونشأة الأديان وتطوُّرها وارتقائها؛ ليبيِّن أوجُه القصور والنقص التي شابت معالجته للقضايا الدينيَّة، موضحًا لا موضوعيَّته وتحيُّزاته وتناقضاته في هذه القضايا التي انبرىٰ لها مُدَّعيًا استكناه حقيقتها وسبر أغوارها. ولأجل التناول الجيِّد لهذا الموضوع تم تقسيم البحث إلىٰ مقدِّمة وخمسة محاور وخاتمة؛ اهتمَّت المقدِّمة بإلقاء الضوء علىٰ المصادر التي استقىٰ منها هيوم فكره، كما بيَّنت أهميَّة الموضوع ومبرِّرات بحثه والمناهج البحثيَّة المستخدَمة في إنجازه، وعالج المحور الأول بطريقة نقديَّة رؤية هيوم حول «نشأة الأديان وتطوُّرها»، بينما جاء المحور الثاني ليتناول رأيه في أنَّ «الوثنيَّة هي الدِّين الأول للبشريَّة» تناولًا نقديًّا، أمَّا المحور الثالث فاتَّجه إلىٰ تفنيد دعاواه حول «انبثاق التوحيد من الوثنيَّة»، في حين جاء المحور الرابع ليناقش «جدليَّة التعصُّب والتسامح الدينيِّ بين التعدُّد والتوحيد»، بينما تناول المحور الخامس رؤية هيوم حول «التعدُّدية والتوحيد بين الشجاعة والذلّ». أمَّا الخاتمة فجاءت لترصد أهمَّ النتائج التي تمَّ التوصَّل إليها.

إلىٰ ذلك، اعتمد البحث علىٰ مجموعة من المناهج، كان من أهمَّها المنهج التحليليُّ الذي وقف علىٰ نصوص هيوم بغية تحليل مضامينها الحقيقيَّة. ثم المنهج النقديُّ الذي نقد رُؤاه،

(253)

وأظهر تحيُّزاته وتناقضاته. كذلك تم الاعتماد علىٰ المنهج المقارن الذي عَمَدَ إلىٰ مقارنة آرائه بآراء السابقين عليه واللّاحقين به.

أوَّلًا: نشأة الأديان وتطوُّرها:

نظر هيوم إلىٰ الأديان من منظور التطوُّريين الذين رأوا أنَّ الحياة الإنسانيَّة محكومة بالتطوُّر من الأدنىٰ إلىٰ الأسمىٰ، فكما أنَّه  يسود الحياة البيولوجيَّة للإنسان، كذلك يسود الحياة العقليَّة والنواحي الإنسانيَّة الفكريَّة، أمَّا الدّين عندهم فقد بدأ مع الإنسانيَّة في سذاجتها، وتطوَّر معها في درج الحياة حتىٰ وصل إلىٰ كماله الحاليّ. ومن ثم يضع هيوم قانونًا يحكم هذا التطوُّر تاريخيًّا مدَّعيًا أنَّه يفسِّر كلَّ الأديان الجزئيَّة الموجودة؛ فيرىٰ أنَّه في البدء كانت الوثنيَّة[1] الدِّين الأول والأقدم في تاريخ النوع الإنسانيِّ، وشهادة التاريخ علىٰ ذلك واضحة، وكلَّما عُدنا إلىٰ أعماق التاريخ في العصور القديمة وجدنا الإنسان غارقًا في الشِرك، وليس هناك من دليل يدلُّ علىٰ أنَّ البشريّة عرفت دينًا آخر يبدو أكثر كمالًا من الشِرك، ومعظم الوثائق القديمة لا تزال تؤكِّد علىٰ أنَّ الوثنيَّة كانت بمثابة العقيدة الشعبيَّة الراسخة[2]. ويعتقد هيوم أنَّه بناءً علىٰ هذه المعلومة يمكن دحض أيَّ دليل آخر يمكن أن يعارض هذه الوجهة من النظر؛ فناس الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب يقيمون أدلَّتهم الاجتماعيَّة عليها. وحتىٰ اليوم تشهد الخبرة الحياتيَّة -من وجهة نظره- علىٰ صحة هذا الدليل؛ فالقبائل البدائيَّة في أميركا وأفريقيا وآسيا كلُّها وثنيَّة بلا استثناء لهذه القاعدة[3]. كما أنَّه يؤكّد رأيه هذا في التطوُّر بطريقة يراها منطقيَّة أو بديهيَّة؛ إذ يرىٰ أنَّ النّاس سكنوا الأكواخ قبل القصور، وتعلَّموا الزراعة قبل علم الهندسة، فالتطوُّر يحكم كلَّ شيء، والعقل الإنسانيُّ ينمو تدريجيًّا من الأدنىٰ إلىٰ الأعلىٰ[4].

في هذا الإطار، يرىٰ هيوم أيضًا أنَّ الدِّين قد نشأ في البداية نتيجة لأسباب سيكولوجيَّة تتمثَّل في القلق والخوف الشديد الذي ينتاب الكائن البشريَّ إزاء أحداث الحياة والمستقبل[5]، ومن الأفكار الغامضة التي يضمرها عن القوىٰ المجهولة وغير المرئيَّة؛ فَتَقَلُب أحداث الحياة

(254)

بين صحّةٍ ومرض، ونجاحٍ وفشلٍ، وانتصارٍ وهزيمةٍ، وسعادةٍ وتعاسةٍ، وبين حظٍ مواتٍ وحظٍ معاكسٍ؛ وتعدُّد أحوال الظواهر الطبيعيَّة بين أحوال مفيدةٍ وأحوالٍ ضارةٍ، والحوادث الكونيَّة المفاجئة مثل العواصف والزلازل والبراكين والفيضانات والصواعق، كلُّ ذلك وما شابهه جعل الإنسان في حالة من القلق الدائم والخوف والأمل المستمرَّين، ونتج من هذه الحالة أن عزا كلَّ ظاهرة طبيعيَّة، وكلَّ شأن من شؤون الحياة إلىٰ قوىٰ خفيَّة عاقلة، وتعدَّدت هذه القوىٰ بتعدُّد الظواهر الطبيعيَّة وشؤون الحياة، ونسب لتلك القوىٰ الخفيَّة أو الآلهة اختصاصات محدَّدة، وقسَّم مناطق نفوذها؛ فجونو يُتَوسل إليها في الزواج، ولوسينا في الولادة، ونبتون يستقبل صلوات البحَّارة، ومارس يستقبل صلوات المحاربين... أي أنَّ الإنسان الأول قد قاس طبيعة الآلهة علىٰ طبيعته وإرادته التي تتغيَّر من خيرٍ إلىٰ شرٍّ، ومن شرٍّ إلىٰ خير، فظنَّ أنَّ كلَّ ظاهرة وراءها إله[1].

حريٌّ القول إنَّ الوثنيّة كانت البداية الأساسيَّة عند هيوم؛ فنتيجة لخوف الإنسان وقلقه المستمر أراد أن يلجأ إلىٰ قوىٰ عظمىٰ تحميه من الأخطار المرئيَّة وغير المرئيَّة، ولذلك تخيَّل آلهة ذات قدرة لا نهائيَّة، وإنْ تصوَّرها في أشكال وصفات بشريَّة مُضخَّمة من حيث درجة القوة واستمراريَّة البقاء، ومن ثم يمكن استرضاؤها بوسائل الاسترضاء الإنسانيِّ؛ رغبةً في اجتذاب خيرها واتِّقاء غضبها؛ فكان يعتقد أنَّ الأضاحي والنذور والقرابين يمكن أَنْ ترضيها. علىٰ أنَّ إرضاءها -كما يرىٰ- لم يكن هو الغاية المنشودة، بل كان وسيلة لغاية أكبر وهي تحقيق الحياة السعيدة الآمنة؛ لذلك لم يتصوَّر الإنسان البدائيُّ هذه الآلهة خالقة للعالم، وإنَّما تصوَّرها متحكِّمة فيه، فلم تشغله تلك الإشكاليَّة النظريَّة لخلق الكون، ولم يتوقَّع هيوم أبدًا أن يُشغل هذا الإنسان عقله في إشكاليَّات نظريَّة بعيدة عن الواقع، وغير مثيرة للاهتمام، وتتجاوز كثيرًا حدود قدراته[2]. وإنَّما شغلته مشكلة الخوف علىٰ حياته الراهنة والمستقبليَّة من كلِّ الكائنات المؤذية والشرِّيرة، شهوديَّة كانت أو غيبيَّة، بشريَّة أو طبيعيَّة حتىٰ حرَّكت هذه المخاوف المستمرَّة العقل البشريَّ إلىٰ افتراض كائنات عليا مشابهة للبشر أو ذات طابع إنسانيٍّ، ولكنَّها ذات قوَّة أعظم يمكنها أن تساعد الإنسان علىٰ الحياة السعيدة الآمنة.

في الإطار عينه، يرىٰ هيوم أنَّه إذا كانت كلُّ الأمم التي اعتنقت أديانًا، وعبدت آلهة

(255)

مختلفة ومتعدِّدة، وظهرت لديها أفكار دينيَّة، فإنَّ تلك الأفكار لم تنشأ من التأمُّل في أعمال الطبيعة، بل من الاهتمام بما يتعلَّق بالأحداث الحياتيَّة، والآمال والمخاوف المتتالية التي تشغل عقل الإنسان وتؤرِّقه. ووفقًا لذلك، نجد أنَّ كلَّ الوثنيِّين (Idolaters) الذين وزَّعوا دوائر سلطة آلهتهم اعتمادًا علىٰ تلك القوة الخفيَّة، وأخضعوا أنفسهم لسلطتها، وإلىٰ الدائرة التي تدبِّر ذلك المسار للأحداث، التي يشاركون فيها في أيِّ وقت[1]. ومن ثم تعدَّدت اختصاصات كلِّ إله؛ فكلُّ حدث طبيعيٍّ لا بدَّ وأن تكون وراءه قوَّة خفيَّة تتحكَّم فيه، فلا شيء يأتي هكذا، ولا يحدث أمر في هذه الحياة لا تؤثِّر فيه الصلوات أو الثناءات الخاصّة[2]. إذًا، يرىٰ هيوم أنَّه كانت لكلِّ أمَّة آلهتها الحارسة لها؛ حيث يخضع لها كلُّ شيء، وأنَّ لكلِّ إلهٍ دائرة نفوذ محدَّدة، وعمليَّاته ليست ثابتة، بل تتغيَّر بحسب النُّذور والصلوات والقرابين، وهي مصدر تفضيله أو عداوته، ومنبع نعمته أو نقمته.

 ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هيوم كفيلسوف من المفترض أن يبتعد عن إطلاق الأحكام الدوغماطيقيَّة الجازمة؛ فافتراض الخوف والقلق علىٰ أنَّهما- فقط- منبعا التديُّن عند الإنسان، يبدو لنا زعمٌ زائفٌ إلىٰ حدٍ بعيد؛ حيث كان تفكُّر الإنسان الدائم في خلق السماوات والأرض، ورغبته الجارفة في التعرُّف علىٰ سرِّ الكون، أحد البواعث القويَّة التي دفعته إلىٰ الاعتقاد بفكرة الخالق. كما يمكن القول إنَّ وجود فكرة العِليَّة في التفكير الإنسانيِّ هي التي تدفع الإنسان دائمًا إلىٰ الاعتقاد بأنَّ لكلِّ صنعة صانعًا، وأنَّ هذا الكون لا بدَّ له من صانع له قدرات أكبر من القدرات الإنسانيَّة المحدودة، ولكن رفض هيوم لمبدأ السببيَّة أو العِليَّة الموجودة في الكون هو ما  أدّىٰ إلىٰ زعمه هذا.

كما يتَّضح، من زاوية أخرىٰ، خطأ وزيف زعم هيوم بأنَّ الإنسان البدائيَّ لم يفكِّر أو يهتمَّ بمسألة التفسير النظريِّ لانتظام الظواهر الطبيعيَّة والكونيَّة، وإنَّما كان مهتمًّا بمحاولة التغلُّب علىٰ شعوره بالخوف علىٰ حاضره ومستقبله؛ لأنَّ أساطير العالم القديم والمجتمعات البدائيَّة مليئة بقصص الخلق، كما تشهد حفريَّات العصر الحجريِّ القديم علىٰ محاولات عديدة ومختلفة قام بها الأوَّلون للوقوف علىٰ تفسير مُرضٍ لخلق العالم.

من زاوية ثالثة، يرفض هيوم ما يسمِّيه البعض «غريزة التديُّن» في الإنسان لصالح الشعور

(256)

بالخوف علىٰ الحاضر والمستقبل، ويستدلُّ علىٰ ذلك بوجود أجناس بشريَّة في بقاع كثيرة من العالم لا تؤمن بوجود إله، فلو كان الإيمان فطريًّا في الإنسان لكان موجودًا في كلِّ الشعوب، وما وجد من ذلك استثناء[1]. وهو الأمر الذي يُخالف ما يثبته الاستقراء العلميُّ لحال الشعوب والجماعات. كما أنَّ فكرته عن أن «الإنسان كائن غير متديِّن بذاته» هي فكرة تحمل تناقضًا ذاتيًّا، وذلك حسب فهمه لها؛ حيث زعم أنَّ خوف الإنسان وقلقه هما اللذان دفعاه إلىٰ التديُّن، ولم يسأل نفسه لماذا دفع هذا الخوف الإنسان إلىٰ التديُّن بالذات ولم يدفعه إلىٰ سلوك آخر؟ ولماذا دفع كلَّ المجتمعات البشريَّة إلىٰ التديُّن من دون غيره؟! ألا يعكس ذلك تهافت رأي هيوم وتناقضه الذاتيٍّ؟!فالإنسان دائم البحث عن الإله طيلة حياته، ولا يمكنه إلَّا أن يوجد متديِّنًا بدين ما، فالإيمان خاصيَّة إنسانيَّة، ويمكن دعم هذا التصوُّر بما أكَّده هربرت سبنسر حول إيمان الملاحدة، وحديثه عن المعنىٰ المفارق للدِّين؛ والذي يتأسَّس علىٰ التسليم بوجود علَّة وراء هذا الكون، من دون الخوض في تحديد ماهيَّتها أو حقيقتها[2].

كذلك يبدو رأي هيوم في تطوُّر الأديان لا يقلُّ تهافتًا عن رأيه عن السبب في نشأتها؛ حيث أنَّه من المتعذِّر إيجاد قانون لتطوُّر الأديان تاريخيًّا يفسِّر كلَّ الحالات الجزئيَّة؛ فكلُّ قانون أو نظريَّة وُضعت، يمكن بسهولة دحضُها؛ لأنَّ ثمة حالات جزئيَّة تعارضها، ولأنَّ في كلِّ مرحلة تاريخيَّة وُجدت أديان تمثِّل نماذج لكلِّ الاتِّجاهات: توحيديَّة، شِركيَّة، وثنيَّة، عبادة مظاهر الطبيعة، عبادة أو تقديس الأرواح، الطوطميَّة... وفي العصور التاريخيَّة الأولىٰ نجد الديانات الطوطميَّة، والإحيائيَّة أو الحيويَّة، ونجد ديانة التوحيد، وديانة المانا، كما أنَّنا في ديانات العالم المعاصرة لا نزال نجد ديانات من كلِّ نوع من الأنواع السابقة، نجد الطوطميَّة والإحيائيَّة بين بعض قبائل أفريقيا وأستراليا وآسيا والأميركيَّتين. كذلك نجد عبادة الأرواح في اليابان وأستراليا، ولا تزال عبادة المانا في بعض قبائل أستراليا، كما لا تزال عبادة مظاهر الطبيعة في بعض ديانات أميركا الَّلاتينية بين الهنود الحمر في سلسلة جبال الأند. لذا، كان اختلاف واضعي نظريَّات نشأة الأديان، فكلُّ واحد منهم أخذ حالة دينيَّة وغفل عن الحالات الأخرىٰ[3]. كما يبدو تهافت نظريَّة هيوم في تطوُّر الأديان من الوثنيَّة التي اعتبرها الدين الأول والأكثر قِدمًا

(257)

للإنسانيّة، إلىٰ التوحيد المواكب لكلِّ تقدُّم إنسانيٍّ، وهو ما سيتَّضح بجلاء في المحور التالي من محاور هذا البحث.

ثانيًا: الوثنيَّة هي الدين الأوَّل للبشريَّة:

ساد عصر هيوم تفسيران لنشأة الدين: أولهما يقول بأنَّ الدّين الأول للإنسان كان هو التوحيد الإلهيَّ الذي عرفه من طريق الوحي، وليس من طريق التأمُّل النظريِّ، ثم حاد عن التوحيد وسقط نتيجة الخطيئة في الشِّرك والوثنيَّة. وثانيهما يقول بأنَّ تعدُّد الآلهة أو الشِّرك كان هو أول مظهر للدين، وقد عرفه الإنسان نتيجة التأمُّل في انتظام الكون والبحث عن علل ظواهر الطبيعة. وقد كان هيوم من المؤيِّدين للتفسير الثاني لأنّه استبعد أن يكون التأمُّلُ النظريُّ في انتظام علل الطبيعة من بين الاهتمامات التي شغلت تفكير الإنسان البدائيِّ بهمجيَّته وبربريَّته[1]. ومن ثم ذهب إلىٰ أنَّ «الدين الأَول ليس ألوهيًا، وإنما هو شِركيٌّ ووثنيٌّ، يُناسب حيوانًا بربريًّا ومعوزًا كما يناسب الفضوليَّة الضعيفة»[2].

يجزم هيوم في مفتتح كتابه «التاريخ الطبيعيُّ للدين»: «أنه منذ حوالي 1700 سنة كانت البشريَّة بأسْرِها وثنيَّة تعبد آلهة متعدِّدة، وأنَّ المبادئ الشكِّيَّة التي ارتابت بالوثنيَّة لدىٰ بعض الفلاسفة متَّجهة إلىٰ التوحيد لم تمثِّل توحيدًا نقيًّا كاملاً. وحتىٰ لو كان هناك تصوُّر أو تصوُّران خالصان للتوحيد فإنَّ ذلك لا يمثِّل نفيًا جديرًا بالاعتبار لحال الوثنيَّة المسيطرة علىٰ العصور القديمة. إذًا، فشهادة التاريخ واضحة، وكلَّما أوغلنا في أعماق العصور القديمة وجدنا البشريَّة غارقة في الشِّرك، وأنَّه ليس هناك وجود لآثار أو علامات تدلُّ علىٰ وجود دين آخر أكثر كمالًا من الشِّرك، وأنَّ السجلَّات القديمة ما زالت تؤكِّد لنا سيادة هذه المنظومة (عقيدة الشِّرك) بوصفها العقيدة الشائعة والراسخة»[3].

يرىٰ هيوم أنَّ كلَّ الأدلَّة تؤكِّد أنَّ الوثنيَّة هي الدين الأول للبشريَّة. فالدليل العقليُّ يكمن في حركة التطوُّر الحضاريِّ، فإذا كانت حركة الحضارة الإنسانيَّة عامة هي حركة تطوُّر وارتقاء، فإنَّ الدين بوصفه نشاطًا إنسانيًّا قد مرَّ بمختلف مراحل التطوُّر والارتقاء من أدنىٰ إلىٰ أعلىٰ،

(258)

بدءًا من النظرة التعدُّديَّة إلىٰ الآلهة، مرورًا بالنظر إليها نظرة هيراركيَّة أو هرميَّة، حتىٰ وصلت الإنسانيَّة إلىٰ الوحدانيَّة، بل يرىٰ أنَّه لا يستقيم القول بأنَّ الإنسانيَّة عندما كانت بربريَّة وجاهلة آمنت إيمانًا نقيًّا بوجود إله واحد، وعندما تقدَّمت وتعلَّمت وتهذَّبت وقعت في الخطأ وعبدت آلهة متعدِّدة!. والدليل التاريخيُّ هو ما يستمدُّه من السجلَّات والمدوَّنات التاريخيَّة المتعدِّدة التي تؤكِّد وثنيَّة الأمم البدائيَّة بلا استثناء. كما أنَّ الدليل الاستقرائيَّ التجريبيَّ الذي يسوقه هيوم هو أنَّ القبائل المتوحِّشة والشعوب البربريَّة في عصره، والمنتشرة في أميركا وأفريقيا وآسيا، كلُّها وثنيَّة، ولا يوجد استثناء لهذه القاعدة -كما يقول- وأنَّ الإنسان إذا ما سافر إلىٰ أيِّ منطقة غير معروفة ووجد سكَّانًا جاهلين وبربريِّين فبإمكانه أن يتوقَّع مُقدَّمًا أنهم وثنيون، وقلَّما توجد احتماليَّة خطأ توقُّعه[1]. ثمَّ يستطرد لتأكيد هذا المعنىٰ قائلًا:«فلنبحث عن شعب يفتقر بدرجة كاملة إلىٰ الدِّين، فإذا وجدناه علىٰ الإطلاق، فلنكن متأكِّدين أنه شعب بربريٌّ لم يتطوَّر عن رتبة الحيوانات إلَّا بدرجات قليلة»[2].

كذلك يرىٰ هيوم أنَّ هذه الأدلَّة لها من الكمال والقوَّة ما يجعلها تدحض أيَّة أدلَّة أخرىٰ؛ فإذا كان أصحاب النظريَّة المضادَّة يذهبون إلىٰ أنَّ البشريَّة بدأت أول ما بدأت بالتوحيد الذي تكشَّف لها بوحيٍ إلهيٍّ، والذي لم يكن الشِّرك إلَّا مظهرًا من مظاهر فساده، وأنَّ مرحلة التَّوحيد الخالص سابقة في العصور الأكثر قِدَمًا قبل معرفة العلوم المتقدِّمة والثقافات المختلفة، فإنَّ هذه النَّظرة تنطوي علىٰ تناقض ذاتيٍّ؛ إذ تعني أنَّ الإنسانيَّة عندما كانت في حالة جهل وبربريَّة اكتشفت الحقيقة، ولكنَّها وقعت في الخطأ بمجرَّد أن حصلت علىٰ التعليم والتهذيب[3]. وهو يتساءل مستنكرًا وجهة النّظر المضادَّة والتي ترىٰ أنَّ التوحيد سابق علىٰ الشِّرك، فيقول: «هل سكن الناس القصور قبل البيوت والأكواخ؟! أم تعلَّموا أصول الهندسة الزراعيَّة قبل الزراعة؟!»[4].

في هذا الإطار، نجد أنَّ هيوم يربط الشِّرك بنشأة الدِّين برباط وثيق؛ حيث يرىٰ أنَّ أفكار الدِّين الأول لم تنشأ من التفكير في أعمال الطبيعة، وإنَّما نشأت من الخوف والقلق اللّذين كانا

(259)

يعتريان الإنسان الأول ويقُضَّان مضجعه، فمن الآمال والمخاوف المستمرَّة تحرِّك العقل الإنسانيَّ تجاه التأليه. ولمَّا كان الإنسان البدائيُّ لا يملك من الوعي ما يجعله يفكِّر نظريًّا في الظواهر الكونيَّة، كما أنَّه لم يكن مشغولًا بتقديم تفسير عقلانيٍّ لأعمال الطبيعة لمعرفة العلل الحقيقيَّة التي تكمن وراءها، فضلًا عن أنَّه لم يكن ليرقىٰ بتفكيره إلىٰ درجة افتراض أنَّها تُردُّ في النهاية إلىٰ علَّة واحدة كبرىٰ. ويكمن المنبع الحقيقيُّ للشعور الدينيِّ القائم علىٰ الشِّرك، في مشاعر القلق والخوف والأمل التي كانت تسيطر علىٰ الإنسان البدائيِّ عن القوىٰ المجهولة وغير المرئيَّة.

 بيد أنَّ هذا التفسير من هيوم يعدُّ في الحقيقة تفسيرًا قاصرًا؛ لأنَّ تفسير انتظام العالم ووحدته كان ولا يزال همًّا إنسانيًّا، وقد دفع هذا الهمُّ المعرفيُّ بعض العقول إلىٰ الإيمان بإلهٍ واحدٍ عاقلٍ حكيمٍ كأساسٍ لانتظام العالم ووحدته[1].

وقد تخيَّل الإنسان البدائيُّ- في نظر هيوم- طبيعة الآلهة علىٰ طبيعته وإرادته التي تتغيَّر وتتبدَّل من حال الرضا إلىٰ حال الغضب، ومن الحالة الخيِّرة إلىٰ الحالة الشرِّيرة والعكس. أي أنَّ الإنسان الأول لم يدرك حقيقة الظَّواهر، وإنَّما فسَّرها تفسيرًا بدائيًّا بعيدًا كلَّ البُعد عن حقيقتها وماهيَّتها، وأسقط عليها صفاته البشريَّة ورغباته، وظنَّ أنَّ كلَّ ظاهرة وراءها إله. ولمَّا كان الإنسان يستشعر الخوف من تلك الآلهة، فقد حاول أن يسترضيها ويستعطفها مثلما يسترضي إنسانٌ إنسانًا ذا جاه أو منصب. وهذا الخوف هو الذي جعل خياله يجسِّد قوىٰ الطبيعة تجسيدات شخصيَّة علىٰ شكل آلهة، لكنَّها آلهة لها صفات بشريَّة مضخَّمة من حيث درجة القوة واستمراريَّة البقاء. فهي في الأصل صفات بشريَّة تم مدُّها وتعظيمها إلىٰ ما لا نهاية؛ ففكرة الله أصبحت تعني كائنًا لا نهائيَّ العقل والحكمة والخير والرحمة والجبروت وغير ذلك من صفات الكمال، وكمال الإله ما هو إلَّا الكمال الإنسانيُّ غير المتعيِّن في الواقع البشريِّ وإن كان متعيِّنًا في الوعي الإنسانيِّ كفكرة أنتجها الخيال، وصفات الله الكامل ما هي إلَّا امتداد للصفات الإنسانيَّة، فالإنسان خيِّر وحكيم وعادل وقادر وجبَّار ورحيم، لكنَّ هذه صفات متناهية في الحالة الإنسانيَّة ولا متناهية في الحالة الإلهيَّة. وتصوُّرها علىٰ هذا النحو لم يأت نتيجة معاينة الإنسان لها  بخبرته، وإنَّما يأتي كنتيجة لفعل الخيال الذي يوسِّع  مدىٰ صفات الإنسان لكي تصير لا متناهية، ثم يسقطها علىٰ مفهوم الإله[2].

(260)

لا شكَّ في أنَّ تفسير هيوم هذا لا يصلح لتفسير جميع العقائد ككلّ، وتقف صلاحيَّته عند تفسير عقائد المُشَبِّهة، أي عقائد الذين يشبهون الله بالبشر. لكنَّه لا يصلح لتفسير عقائد التنزيه التي تثبت الأسماء الإلهيَّة لكنَّها تنفي أيَّ مماثَلة ولو من أيِّ نوع مع الصفات البشريَّة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (سورة الشورىٰ، الآية11)، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰٰ عَمَّا يَصِفُونَ) (سورة الأنعام، الآية100)، مهما خطر علىٰ بالك فالله بخلاف ذلك»... كما لا يصلح تحليل هيوم لتفسير العقائد المجرَّدة، التي تجرِّد الذات الإلهيَّة من أيِّ نوع من الصفات المعروفة حرصًا علىٰ تميُّزها، مثلما تفعل بعض الديانات الوضعيَّة كالديانة البرهمانيَّة أو كما في بعض اعتقادات الفلاسفة[1].

ومع ذلك يرىٰ هيوم أنَّ الأديان البدائيَّة لم تكن متخلِّفة علىٰ نحو مطلق ولم تكن تخلو من نقاط إيجابيَّة؛ إذ يعتبر أنَّ لها إيجابيَّات تتمثَّل في أبعاد ثلاثة: فلسفيَّة، وعقائديَّة، وسياسيَّة. ويتجلَّىٰ البعد الفلسفيُّ في حالة الوفاق التي يكون عليها الوثنيُّ مع الطبيعة. وفي ما يتعلَّق بالبعد العقائديِّ، فإنَّه يغلب عليه التسامح تجاه الشعوب الأخرىٰ. وأخيرًا، تتجلَّىٰ إيجابيَّة البعد السياسيِّ لدين الشِّرك في كونه دينًا إيجابيًّا مع كونه متسامحًا[2].

لكنَّنا نتساءل: أيُّ وفاق ذاك الذي يتحدَّث عنها هيوم بين الإنسان القلق الخائف المذعور أمام الظواهر الطبيعيَّة التي تتكرَّر بصفة مستمرَّة؟! وأيُّ وفاق في حياة مضطربة وغير مطمئنة؟ كما أنَّ حالة التسامح التي يدَّعيها هيوم بين الشعوب الوثنيَّة فلا أعلم من أين أتىٰ بها وحوادث التاريخ تشهد بعكس ذلك! وهو الأمر الذي سنتوقَّف عنده كثيرًا في المحور الرابع من محاور هذه الدِّراسة.

ثالثًا: انبثاق التوحيد من الوثنيَّة:

يرىٰ هيوم أنَّ عقيدة التوحيد عقيدة قديمة جدًا نجح في أن يعتنقها أناس من كلِّ الطبقات والمراتب، لكنه لا يعزو هذا النجاح بوجه من الوجوه إلىٰ تلك القوة السائدة غير المرئيَّة التي تأسَّست عليها، ومن يعتقد أنَّ هذه القوة غير المرئيَّة هي التي سعت لنشر هذا الاعتناق الواسع لها بين الناس سيُظهر نفسه قليل المعرفة بجهل وحماقة الناس وتحيُّزهم - الذي لا مناص منه- لصالح معتقداتهم الخرافيَّة الخاصَّة. ويستطرد  لتأكيد فكرته هذه مُرتئيًا أنَّ عوامَّ

(261)

الناس في أوروبا، حتىٰ في العصر الحديث، لا يؤمنون بهذه القوة العليا مستندين إلىٰ النظام والغائيَّة الموجودَين بالكون والتي يجهلهما الناس تمامًا وينظرون إليهما بفتور ولامبالاة، ولكنَّ معظم الناس قد آمنوا بهذه القوة غير المرئيَّة نتيجة للخوف والقلق من الأخطار المحيطة بهم، مثل: الموت المفاجئ، والأمطار والأعاصير، والجفاف الشديد؛ إذ يعزو الإنسان إنقاذ البشريَّة من هذه الشرور إلىٰ العناية الإلهيَّة المباشرة،  وهذه هي البراهين الوحيدة لديه[1].  وينتهي من ذلك إلىٰ أنَّ عقيدة التوحيد التي وُجدت بين الناس بُنيت علىٰ مبادئ غير عقلانيَّة وخرافيَّة وبلا أيَّة رؤىٰ برهانيَّة، ووجدت خلال تسلسل تفكير محدود انتقل من الشِّرك إلىٰ التوحيد في مرحلة توازىٰ فيها ما هو دينيٍّ مع ما هو سياسيّْ.

إلىٰ ذلك، يرىٰ هيوم أنَّ الشِّرك هو الدِّين البدائيُّ للبشر غير المتعلِّمين، وهو بما ينطوي عليه من الإيمان بوجود آلهة متعدِّدة بتعدُّد الظواهر الطبيعيَّة يلائم سياسيًّا تعدُّد القبائل والجماعات الإنسانيَّة. حيث يرىٰ أنَّ الحياة البدائيَّة فرضت علىٰ الإنسان البدائيِّ العيش في جماعات متفرِّقة وقبائل مختلفة، وكان لكلِّ قبيلة معبودٌ خاصٌّ بها، ومن ثم ربط بين التطوُّر السياسيِّ والتطوُّر الدينيِّ حيث أنَّ القبائل المتعدِّدة التي تدين بآلهة مختلفة إذا ما تمَّ ضمُّها وتوحيدها تحت راية واحدة بخضوع تلك القبائل لقبيلة كبرىٰ واحدة نتيجة السيطرة والغلَبة السياسيَّة، فإنَّها تنتقل بهذا التوحيد القبليِّ السياسيِّ من الشِّرك إلىٰ التوحيد الدينيّْ.

هيوم يعتبر أيضًا أنَّ التوحيد الدينيَّ لا يحدث مباشرة عقب التوحيد السياسيِّ وإنَّما يظلُّ فترة يسود فيها الاعتقاد الهرميُّ التراتبيُّ في الآلهة؛ فآلهة القبائل الخاضعة أصبحت في رتبة أقلَّ من إله القبيلة المنتصرة، ولا تزال لها مكانة في الإيمان، لكنَّ إله القبيلة المنتصرة أصبح هو كبير الآلهة ورأسها مثلما أصبحت تلك القبيلة هي كبيرة القبائل ورأسها. وفي مرحلة سياسيَّة أخرىٰ عندما تتمُّ الوحدة السياسيَّة وتتلاشىٰ الفروق القبليَّة، وتخلص السيطرة للقبيلة المنتصرة خلوصًا يهيِّئ لها نفوذًا شاملًا علىٰ المستوىٰ الاجتماعيِّ والسياسيِّ والثقافيِّ... عند ذلك ينبثق التوحيد في العقيدة الإلهيَّة ويسود إله واحد لا شريك له.

في هذا المجال، ينبِّه هيوم إلىٰ خطورة هذا التصوُّر الدينيِّ علىٰ الإنسان نفسه، فالإنسان المحدود القدرات يشعر بالدونيَّة والخضوع أمام هذا الربِّ السيِّد الكامل، الأمرُ الذي ينتج منه

(262)

تحديد العلاقة بين الإنسان والإله في شكل علاقة خوف وخضوع، أي علاقة عبدٍ بسيِّد. وهنا يتبلور الخلاص في طاعة هذا السيِّد والالتزام الصُوَريِّ بالعبادات وهو ما يُنتج برودة وخمولًا للقلب، وشيوع عادة النِّفاق والرِّياء وسيادة مبادئ الغدر والزيف والتملُّق. ومن هذا المنظور ينتقد كلَّ الشعائر والطقوس.

لا شكَّ في أنَّ هيوم ينطلق هنا من أفق ضيِّقٍ ذي رؤية أحاديَّة لا ترىٰ إلَّا جزءًا من الحقيقة؛ إذ إنَّ هناك حالات تاريخيَّة تعارض ما ذهب إليه، أو أنَّ تفسيره هذا لا يصحُّ إلَّا في بعض الحالات التاريخيَّة التي تفرض فيها قبيلة ما تصوُّرها في الألوهيَّة علىٰ سائر القبائل، وإذا ما سلَّمنا بذلك فإنَّه هنا يتعرَّض لتناقض ذاتيٍّ في ما يتعلَّق بالتسامح الوثنيِّ؛ إذ كيف يستقيم الفرض القهريُّ لتغيير المعبود مع التسامح الوثنيِّ المزعوم من قِبَله؟!  كما يخبرنا التاريخ أنَّ هناك حالات كثيرة كانت تتمُّ فيها السيطرة لقبيلة ما لكنَّها لم تقُم بمحو آلهة القبائل الخاضعة، ومن ثم تستمرُّ التعدُّديَّة كما كان يحدث في مصر الفرعونيَّة باستثناء حالة أخناتون.

وينبغي القول إنَّ رؤية هيوم هذه تتعارض أيضًا مع حالات تاريخيَّة أخرىٰ؛ حيث يكون التوحيد هو البداية، أما الشِّرك والتعدُّد فيكون حالة فساد تحدث عندما ينحرف الناس عن التوحيد. وهو الأمر الذي برهن عليه العديد من الدراسات المتخصِّصة التي قام بها علماء الأجناس والأنثروبولوجيا، وأكَّدها الفلاسفة ببراهين ساطعة قويَّة؛ فقد أيَّد كثير من هؤلاء العلماء القول بأنَّ التوحيد هو دين البشريَّة الأول، مثل الألماني اينرايخ[1] في مقاله “الآلهة والمنقذون”[2]، والذي نشره عام 1906م، وهو بحث عن قبائل الهنود الحمر. كما أَكَّد عالم الأجناس والأنثروبولوجيا الألمانيُّ الأب شيمت[3] في العديد من أبحاثه أنَّ التوحيد كان الدين الغالب علىٰ القبائل البدائيَّة الموغِلة في التاريخ، وأوضح أنَّ القبائل الأستراليَّة الوسطىٰ التي زعم الباحثون (دوركايم وغيره) أنَّها تُعبِّر عن المرحلة البدائيَّة الأولىٰ للبشريَّة ما هي إلَّا قبائل حديثة تمثِّل الطَّور السادس من تطوُّر قبائل أستراليا، وتوجد قبائل أقدم منها عرفت الإله الواحد الأسمىٰ[4].

(263)

هذه الرؤية أكَّدها العديد من الفلاسفة؛ ومنهم الفيلسوف الألمانيُّ فردريك شلنج[1]
(1775 - 1884) الذي ذهب في كتابه “فلسفة الميثولوجيا” إلىٰ أنَّ فكرة عن التوحيد غامضة وغير واضحة كانت تسود الإنسانيَّة الأولىٰ، وكذلك ذهب أوتو بفيلدرر[2]، وهو الأمر نفسه الذي أكَّده الفيلسوف الاسكتلنديُّ أندرو لانج[3]  (1844 - 1912) في كتابه  “صنع البشريَّة[4]”، إذ رأىٰ فيه أنَّ الدين الأول هو دين السماء. واستند في ذلك إلىٰ الدراسات الأنثروبولوجيَّة واكتشافات هويت[5] وبحوث مان[6] عن الموجود الأسمىٰ في قبائل وسط أفريقيا مثل الزولو والبوشمن والهوتنتوت، وبعض القبائل البدائيَّة الأميركيَّة وبعض قبائل أستراليا الجنوبيَّة والشرقيَّة[7]. ويرىٰ»لانج» أنَّ المعتقدات الصحيحة تسبق المعتقدات الخاطئة، وأنَّ العقل يسبق المخيِّلة في العمل، فالديانات بدأت توحيديَّة نقيَّة، ثم تلتها معتقدات أسطوريَّة غير صحيحة نتيجة عمل المخيِّلة. وكذلك أكَّدت جميع الأديان السماويَّة أنَّ التوحيد كان هو الأصل والبداية. وهكذا يمكننا القول بأنَّ هيوم- في معالجته لتلك المسألة- قد افتقد منهجيَّات علم النقد التاريخيِّ، ولم يبذل المجهود الَّلازم في تقصِّي المعارف الاجتماعيَّة والأنثروبولوجيَّة المُتاحة في عصره، هذا فضلًا عن عدم ميلهِ إلىٰ تحليل النصوص المقدَّسة، وما ورد فيها بهذا الشأن، والذي كان سيفيده كثيرًا بلا شكّْ.

كما أنَّ موقف هيوم العدائيَّ من الدِّين المسيحيِّ قد أبعده تمامًا عن الأخذ بمعطيات الكتب السماويَّة في هذا الإطار؛ إذ تشير كلُّها إلىٰ أنَّ الحالة الأولىٰ للدِّين هي التوحيد، وأنَّ هذا التوحيد لم يكن باستنباط أو تأمُّل أو نتيجة للخوف من المجهول، أو لسبب من الأسباب النفسيَّة أو الاجتماعيَّة كما ذهب هو وغيره. وقد ظلَّ النَّاس علىٰ التوحيد الخالص فترة طويلة من الزمان ثمَّ أعقبتها حالة شِركيَّة وثنيَّة اختلفت فيها عقائد الناس ونتجت فيها ديانات باطلة بسبب انحراف في التفكير، أو السلوك، أو نتيجة تأويل خاطئ للكتب المقدَّسة اتِّباعًا للمصلحة أو الهوىٰ الشخصيّْ. ويبدو هذا التفسير هو الأقرب للصواب من وجهة نظر الباحث، وخصوصًا

(264)

أنَّه يتَّفق كثيرًا مع التسليم بوجود إله، خَلَقَ الناس علىٰ الفطرة السليمة، وهداهم إلىٰ صِراطه المستقيم، وما لبث الإنسان أن ضلَّ السبيل، فأرسل الله تعالىٰ الرُّسل لهداية الناس وإرشادهم إلىٰ الطريق الصحيح.

رابعًا: جدليَّة التعصُّب والتَّسامح الدينيُّ بين التعدُّد والتَّوحيد:

قد يتوقَّع القارئ ممَّا تقدَّم، ومن ربط هيوم التَّوحيد بتقدُّم البشريَّة والتعدُّد بالعصور البدائيَّة أنَّه يفضِّل التَّوحيد علىٰ الشِّرك، والعكس هو الصَّحيح؛ حيث يعتقد أنَّ مذهب التعدُّد لا يتميَّز بأنَّه أسبق أو سابق علىٰ التوحيد فقط، بل أسمىٰ من التَّوحيد وذلك لسببين:

الأوَّل: إنَّ مذهب الشِّرك أو التعدُّد أقلُّ ضغطًا علىٰ العقل البشريِّ، فمذهب الشِّرك ليس أكثر فهمًا، بل -علىٰ العكس- هو مزيج كامل من الأساطير المتناقضة والخرافات الباطلة، ولذلك فهو لا يعترف بأيِّ محاولة جادَّة للتعقُّل أو الفهم. أمَّا مذهب التَّوحيد فهو يحفِّز البشر علىٰ أن يتفهَّموا الدِّين أو يحثُّهم علىٰ جعله يبدو عقلانيًّا، ومحاولة خلق نسق فلسفيٍّ ولاهوتيٍّ، وهذا سيسبِّبُ ضغطًاعلىٰ العقل يؤدِّي بالإنسان إلىٰ السير في طريق لا نهاية له من التعقُّل المزيَّف الذي سيوصف بأنَّه الأسوأ؛ لأنَّه الأكثر فسادًا وخداعًا من الفوضىٰ البدائيَّة للشر[1].

الثاني: يرىٰ هيوم أنَّ الدِّيانات التعدُّدية أكثر تسامحًا من التوحيد؛ فالشعوب متعدِّدة الأديان يسود بينها التسامح وثقافة العيش سويًّا، في حين أنَّ هذا لا يحدث مع الدِّيانات التَّوحيديَّة التي ترىٰ أنَّها وحدها التي تحوز الحقَّ المطلق، وما عداها من أصحاب الديانات الأخرىٰ فهم علىٰ وهم وضلال. وأنَّ من واجب هؤلاء الموحِّدين إرشاد هؤلاء الضالِّين إلىٰ طريق الحقِّ وإجبارهم علىٰ اعتناق ما يؤمنون به، ومن ثمَّ يتكدَّر مناخ السلام العامِّ ليسود الصراع والحرب وسفك الدماء.

ويُسهب هيوم في تناول عرض جدليَّة التسامح والتعصُّب الدينيِّ بين التعدُّد والتوحُّد، فيقول: «إنّ روح التسامح لدىٰ الوثنيِّين في الأزمنة القديمة والحديثة، أمر واضح جدًا لأيِّ شخص لديه أدنىٰ اطِّلاع علىٰ كتابات المؤرِّخين أو الرَّحالة»[2]. وأنَّ الإغريق والرومان، علىٰ سبيل المثال، كانوا أكثر تسامحًا وأكثر ميلًا إلىٰ استيعاب آلهة الشعوب الأخرىٰ. وهو يبدو هنا مخالفًا

(265)

للحقائق التاريخيَّة بشكلٍ ملحوظ، فكيف - إذًا- يمكننا تفسير اضطِهاد الوثنيِّين الرومان للوثنيِّين المصريِّين؟! وإذا ما عدنا إلىٰ ديانات الإغريق والرُّومان الَّذين خصَّهم  بالذِّكر نجد أنَّ كلامه عار من الصحة؛ فقد اضطَّهد اليونان الفيلسوف السوفسطائيَّ أنكساجوراس (ت:480 ق.م)  الذي أعلن كفره بآلهة الأثينيِّين فتمَّ الحكم عليه بالإعدام جزاءً وفاقًا علىٰ كفره وتجديفه مما جعله يفرُّ من أثينا إلىٰ لمباكوس[1] بآسيا الصغرىٰ حيث عاش إلىٰ أن وافته المنيَّة[2]. كما اتُّهم بروتاجوراس بالإلحاد، وأُحرقت كتبه في ميادين أثينا، وحُكم عليه بالإعدام، إلَّا أنَّه تمكَّن من الفرار من براثنهم. كذلك اتُّهم سقراط بالكفر والمُروق عن الدِّين، وبأنَّه يُنكر الآلهة ويُفسد الشباب، وحُكم عليه بالإعدام بتجرُّع السمِّ، وقَبِلَ الحكم[3]. وقد تعرض أرسطوطاليس للاتهام نفسه عقب وفاة الإسكندر الأكبر إلَّا أنَّه تمكَّن من الهرب من أثينا إلىٰ «خلقيس» وطن أمه، قائلًا: «لن أسمح للأثينيِّين أن يخطئوا في حقِّ الفلسفة مرَّتين». يقصد حالة إعدام سقراط السالفة الذِّكر وما كان سيحدث له هو شخصيًّا لو تمكَّن منه الأثينيُّون. ولم يتغيَّر الأمر عند الرومان؛ بل زادت حدَّته سوءًا فقد كان الرومان في الغالب أقلَّ تسامُحًا من اليونانيِّين في كلِّ شيء، وفي ما يتعلَّق بالدِّين علىٰ وجه الخصوص، ومن ذلك ما يقوله طه حسين:»وكذلك قامت بحماية الدِّين في روما جماعة (الإكليروس) وهيئة الحكومة ومجلس الشيوخ الذي كان واجبه الأول حماية ما ترك الآباء. فلا تعجَب إذا رأيت الرومانيِّين يقاومون الجديد مهما يكن، ويتشدَّدون في مقاومته إذا مُسَّ الدِّين. ولا تعجَبْ إذا رأيت الرومان في عصورهم الأولىٰ يبغضون أشدَّ البغض ويناهضون أشدَّ المناهضة هذه الديانات الأجنبيَّة التي حاولت أن تنبت في روما بعدما  انبسط سلطان روما علىٰ الأرض»[4].

 ويواصل هيوم عرض فكرته الغريبة مرتأيًا أنه عندما يتمُّ الاتِّفاق حول معبود واحد لا شريك له تُعدُّ عبادة الآلهة الأخرىٰ تافهة وغير ورِعة، ليس هذا فحسب، بل يبدو طبيعيًّا أن وحدة الهدف تستوجب وحدة الإيمان ووحدة الطقوس والشعائر، ويبرز رجال دين مهيَّأون لمواجهة خصومهم من الوثنيِّين، ولهم أهداف مقدَّسة منها الانتقام من هؤلاء الوثنيِّين المارقين،

(266)

ومن ثم -كما يرىٰ هيوم- تقع الطوائف بشكل طبيعيٍّ في العداء، وتطلق كلُّ طائفة العنان لنفسها للكراهية والحقد المقدَّسين علىٰ الأخرىٰ[1].

كذلك يرىٰ هيوم أنَّ عدم تسامح كلِّ الأديان تقريبًا التي دافعت عن وحدانية الله هو أمر مثير للانتباه علىٰ العكس تمامًا من الأديان الوثنيَّة. فالوثنيُّون مسالمون -من وجهة نظره- ويسمحون بتعدُّد الديانات والتعايش معها في سلام[2]. أما الموحِّدون فهم أكثر تعصُّبًا ورفضًا للتعايش السلميِّ مع ديانات الآخر المختلف. ومن ثم يلجأ  لتأكيد فكرته الغريبة هذه بضرب بعض الأمثلة؛ فيقول: «إنَّ الروح الضيِّقة المتعصِّبة لدىٰ اليهود معروفة جيَّدًا. وانتشرت المحمَّديَّة (الإسلام) بطرق أكثر دمويَّة، وإلىٰ يومنا هذا ما زالت ترسل الَّلعنات وتتوعَّد الطوائف الأخرىٰ، مع أنَّ الأمر ليس  بالنَّار والحطب. أمَّا حين يعتنق الإنكليز والهولنديُّون مبادئ التسامح بين المسيحيِّين فإنَّهم يسلكون هذا المسلك الفرديَّ نتيجة للإرادة القويَّة للحكم المدنيِّ وبمعارضة مستمرَّة لمحاولات الرُّهبان والمتعصِّبين»[3]. وقد تأثَّر به كانط (I. Kant  1724 -1804) في هذه النقطة كثيرًا، والغريب أنَّه وافقه عليها ورأىٰ أنَّه نظرًا لتعدُّد الوحي التاريخيِّ اختلف أهل العقائد؛ لأنَّ ما هو معترَف به عند البعض يرفضه البعض الآخر، ومن يرفضه يسمَّىٰ غير مؤمن أو كافر، ويصبح مكروهًا من كلِّ قلب عند أهل العقيدة[4].

وتبدو فكرة هيوم عن «تسامح الوثنيَّة وتعصُّب أو عنف التوحيد» فكرة متهافتة منطقيًّا؛ لأنّه في حالة الوثنيَّة وتعدُّد الآلهة ترىٰ كلُّ طائفة أنَّ معبودها هو الأحقُّ والأجدر بالعبادة من دون غيره، وأنَّ باقي الآلهة لا قيمة لها ولا تستحقُّ أن تُعبَد، ومن ثمَّ يستوجب ذلك الصراع لأجل هداية الفريق الآخر الذي يعاني الوهم والضَّلال، وهذا ما يتحقَّق بالفعل عندما تتغلَّب القبيلة الأكثر قوَّة علىٰ القبائل المهزومة التي تخضع لسلطانها وتُرغمها علىٰ عبادة إلهها، وذلك بحسب أمثلة هيوم نفسه التي يستخدمها لتأكيد فكرته، والتي يمكن استخدامها في الآن نفسه لتفنيد فكرته وبيان تهافتها. ومن ناحية أخرىٰ، فإنَّ كلِّ الأديان التوحيديَّة وخصوصًا السماويَّة

(267)

منها -في صورتها النقيَّة- تدعو دائمًا إلىٰ السلام والمحبة والتوادِّ والتراحم والتسامح والرحمة.

من المفيد القول إنَّه إذا كان هيوم مُحقًّا -إلىٰ حدٍّ ما- في حديثه عن التعصُّب اليهوديِّ المقيت؛ حيث يعتبر اليهود أنفسهم شعب الله المختار، ويعتقدون بميثاق إلهيٍّ أبديٍّ ضمن لهم الأفضليَّة علىٰ العالمين، فإنَّ الأمر يختلف تمامًا في الإسلام؛ الذي رفع شعار الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[1]. كما أنَّ الإسلام لم يُنتشر بحدِّ السَّيف وبإراقة دماء المعارضين كما يزعم هيوم، ومقولته هذه حمَّالة أوجه، فإمّا أن يكون المقصود منها أنَّ المسلمين أجبروا سكَّان البلاد التي فتحوها علىٰ الدخول كرهًا في الإسلام، أو أن تكون دواعي الفتح في حدِّ ذاته شجَّعت هؤلاء السكَّان علىٰ التحوُّل إلىٰ الإسلام، سواء لأسباب ماديَّة أم اجتماعيَّة أم ثقافيَّة، أو أنَّها أدَّت في النهاية إلىٰ اعتناق الإسلام عن اقتناع. ومن ثم فإنَّ الاحتمال الأوّل مرفوض بنصِّ القرآن: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[2]. أمَّا في الاحتمالين الثاني والثالث؛ حيث يرىٰ كلٌّ منهما أنَّ دواعي الفتح قد شجَّعت الناس علىٰ الدخول في الإسلام، أو أنَّ الناس اعتنقوا الإسلام عن اقتناع، فلا يعني ذلك إكراههم علىٰ الدخول فيه، أو أنَّه انتشر بحدِّ السَّيف. كما أنَّ الواقع يشهد بأنَّ الإسلام انتشر في شرق آسيا ودخل الناس في دين الله أفواجًا نتيجة للأخلاق الكريمة التي تحلَّىٰ بها التُّجار المسلمون أثناء معاملاتهم مع أهل تلك البلاد.

خامسًا: التعدُّدية والتوحيد بين الشجاعة والذل:

في هذا المحور، يثير هيوم مسألة في غاية الغرابة، رغم أنَّها تتَّفق مع رؤيته العامَّة في تفضيل الشِّرك علىٰ التوحيد؛ فالإله في الديانات التوحيديَّة واحدٌ أحد، لا شريك له، ولا ندّ ولا شبيه ولا مثيل، قادر علىٰ كلِّ شيء، وبعبارة هيوم «متفوِّق علىٰ الإنسانيَّة إلىٰ ما لا نهاية». ومع إقراره بأنَّ هذا الاعتقاد في الله هو اعتقاد صحيح جملة وتفصيلًا، فهو يرىٰ أنَّه عندما يُضَمُّ إلىٰ مخاوف أسطوريَّة فإنَّه يهبط بالعقل البشريِّ إلىٰ أسفل دَرْك الخضوع والذلِّ بامتثاله للفضائل الرهبانيَّة التي تقتضي إماتة الشهوات والندم والتواضع والخضوع والمذلَّة في الحضرة

(268)

الإلهيَّة. ويبدو ذلك واضحًا في الديانات التوحيديَّة. وهذا ينتقص من قدر الإنسان ومكانته في نظر هيوم مقارنة بالأديان الشِّركيَّة، ففي الأديان التوحيديَّة يكون الجلد بالسِّياط والامتناع عن الملذَّات والجُبن والتواضع والخضوع والطاعة التامَّة هي الوسيلة المُثلىٰ لإحراز المكارم السماويَّة بين البشر[1].

حريٌّ القول إنَّ تقديس الآلهة والمبالغة في تنزيهها ووصفها بصفات خارقة، في مقابل الحطِّ من قيمة الإنسان وإظهاره ضعيفًا خسيسًا في حضرتها، كلُّها أمور -في نظر هيوم- تجعل التديُّن ملازمًا للخِسَّة والوضاعة والذلّ. بمعنىٰ أنَّ المرء إذا كان متديِّنًا فمعناه أن يصبح ذليلًا. وبهذا يتضاءل الإنسان أمام نفسه وأمام إلهه، فتغدو علاقته به كعلاقة العبد بالسيِّد، قائمة علىٰ الخوف والترهيب، وليس علىٰ الفضيلة والالتزام الخلقيّ. كما أنَّ هذا الضرب من العبادة والتديُّن -في نظره - يحطُّ من قيمة الإله نفسه؛ إذ يتمُّ تصويره علىٰ أنَّه في حاجة ماسَّة ومُلحَّة للثَّناء والمديح والحمد، وهي عبارة عن عاطفة من أدنىٰ العواطف البشريَّة، والتي تنتقص من قيمة الإله إذ نجعلها ملازمة له[2]. ومن ثمَّ يتمُّ تدنيس الإنسان في مقابل تقديس الإله وتعاليه.

وفي الأديان الشِّركية يُدرك الإنسان أنَّ الآلهة ليست متفوِّقة كثيرًا علىٰ الإنسان، وأنَّ الكثير منها قد تطوَّر من تلك المرتبة الدنيا إلىٰ مرتبته الإلهيَّة الحاليَّة! وفي هذه الحالة يصبح الإنسان أكثر أرْيَحيَّة في مخاطبتها والتعامل معها، بل يمكنه، ومن دون أن يتحوَّل إلىٰ مجدِّف، أن يطمح في بعض الأحايين إلىٰ منافستها ومحاكاتها، ويكون عندئذٍ ذا روح فعَّالة ولديه من الشجاعة والشهامة وحبِّ الحرِّية وكلِّ المزايا التي تليق بإنسان عظيم[3]. أي أنَّ فكرة عَظَمة الإله اللا متناهي وجلالته قد شجَّعت التأكيد علىٰ مواقف الانحطاط الإنسانيِّ بخلاف العقليَّة الوثنيَّة[4].

ويدلِّل هيوم علىٰ فكرته الغريبة بأنَّ الإسكندر ذلك الإمبراطور الوثنيَّ طمح إلىٰ منافسة هرقل وباخوس حين تظاهر بالتفوُّق عليهما تمامًا، وأنَّ هذا لم يكن يتسنَّىٰ لأحد في الديانات

(269)

التوحيديَّة. ومن ثمَّ يؤيِّد ملاحظة مكيافيللي الذي رأىٰ أنَّ عقائد المسيحيَّة زكَّت الشجاعة السلبيَّة والمعاناة، وأخضعت الروح الإنسانيَّة وهيَّأت الناس للعبوديَّة والخنوع. فالإنسان الموحِّد يفرط في كلِّ المعاني الإنسانيَّة الرفيعة، ويتحمَّل العذابات من أجل مكافأة السماء في العالم الآخر بينما يستمتع الوثنيُّ بحياته الراهنة[1].

وهنا تبدو مغالطات هيوم ظاهرة، فالأديان الشِّركيَّة تعتقد في الآخرة وتلتزم بالمبادئ الإنسانيَّة رغبة في النعيم وابتعادًا عن الجحيم أو الفناء والعدم. وتُعدُّ الديانة المصريَّة القديمة أبرز مثال علىٰ هذا، وهي الديانة التي ذكرها كثيرًا في كتابه «التاريخ الطبيعيُّ للدين» وذكرها بدرجة أقلَّ في سائر مؤلَّفاته، لكنَّه لم يلتزم الحياد والموضوعيَّة، فقد رسم لنفسه أهدافًا منذ البداية، وراح يختار من الشواهد ما يؤكِّدها ويدعمها ويتجاهل تمامًا ما يخالفها. فكيف يرتضي الإنسان لنفسه إلهًا يزعم أنَّ بإمكانه منافسته أو التفوُّق عليه؟! أليس مثل هذا الاعتقاد ينسف فكرة الألوهيَّة ذاتها من الأساس؟

أعتقد أنَّ موقف هيوم السلبيَّ من المسيحيَّة، التي ترىٰ أن يدير المسيحيُّ خدَّه الأيسر ليصفعه ذلك الظالم الذي لطم خدَّه الأيمن، من دون أن يبدي ذاك المظلوم أيَّة مقاومة طمعًا في رضا الإله الذي يأمره بذلك، هو السبب في ذلك الموقف. فهيوم- إذن- يرفض ذلك الخنوع الذي يأتي بأمر إلهيٍّ، ويرىٰ أنَّه لا يناسب الرجال أبدًا. ومن ثم يرىٰ أنَّ الدين يرتبط أكثر بالنساء، ذلك الجنس الذي يراه أكثر جبنًا وورعًا، فإنهنَّ من يحفِّزن الرجال علىٰ التقوىٰ والتضرُّع والخضوع للمناسبات الدينيَّة، ورأىٰ أنَّه ليس هناك رجل يعيش بمنأىٰ عن النساء ويقبل الخضوع لمثل هذه الممارسات[2].  ولكن ألا ينتفي هذا الخضوع في معاملة الإنسان للإنسان أو علاقة المظلوم بالظالم في الإسلام في ظلِّ قوله تعالىٰ: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[3]. أما فكرة الخضوع والاستسلام والانقياد بالطَّاعة للإله المعبود فهي فكرة لا يمكن تصوُّر الإله من دونها؛ لأنَّها من لوازم الألوهيَّة. أمَّا منافسة الإله ومحاولة التفوُّق عليه فهذه فكرة أسطوريَّة خالصة لم ترِدْ سوىٰ في الأساطير القديمة. ولذلك يرىٰ الباحث أنَّ هيوم قد اتَّبع هواه فنأىٰ عن الحقيقة الموضوعيَّة، وراح يقدِّم

(270)

وجهة نظر تخصُّه هو وحده من دون أن يكون لها أيَّة مرتكزات عقليَّة أو منطقيَّة أو تاريخيَّة من الممكن أن تستند إليها.

خاتمة:

 نستنتج ممَّا سبق عرضُه مجموعةً من النتائج المهمَّة التي توصَّل إليها هذا البحث عبر تناوله التحليليِّ النقديِّ لموضوع «نشأة الدين عند هيوم من التعدُّدية إلىٰ التوحيد» والتي يمكن رصد أهمُّها في ما يلي:

أولًا: إنَّ هيوم من خلال رؤيته لتطوُّر الأديان من التعدُّدية إلىٰ التوحيد قد رفض كلا الموقفين؛ أي الأديان الشِّركيَّة والتوحيديَّة، علىٰ مستوىٰ الإيمان الشخصيِّ، وأنَّه حتىٰ نهاية حياته لم يفكِّر في الاعتقاد بأيِّ إيمان بالدِّين -أيّ دين- وخصوصًا منذ أن بدأ في دراسة الدِّفاع العقليِّ عن اللاهوت الطبيعيّ؛ حيث تبيَّن له أنَّ الدِّين ينشأ من انفعالات مثل: الخوف من المصائب والأمل في مستقبل أفضل، أي عندما تتَّجه هذه الانفعالات نحو قوَّة عاقلة غير مرئيَّة، وأنَّ الناس قد حاولوا علىٰ مرِّ التاريخ أن يُعقلِنوا الأديان ويجدوا حججًا لصالح الإيمان، بيد أنَّ معظم هذه الحجج لم تصمد أمام التحليل النقديّ. فالدِّين عند هيوم ليس له تأثير مُجْدٍ؛ إذ إنَّه اعتقد -مثلًا- أنَّ الدِّين يفسد الأخلاق بتشجيع الناس علىٰ أن يعملوا من أجل البواعث بدلًا من حبِّ الفضيلة لذاتها، وأنَّ أنواعًا من التملُّق نُسبت إلىٰ آلهة الشِّرك الكثيرة التي أكسبها البشر صفات بشريَّة مضخَّمة، والتي أخذت كمالات تدريجيَّة عبر تطوُّر التصوُّر البشريِّ لها، حيث لم توجد صفة كماليَّة خطرت علىٰ بال البشر - كما يدَّعي هيوم- إلَّا وأسرع المتعصِّبون للدِّين إلىٰ إضافتها إلىٰ إلههم من دون تردُّد، حتىٰ نُسب اللاتناهي أخيرًا إلىٰ إله مذهب التَّوحيد. وهنا يبدو الخلط الشنيع بين الأديان الوضعيَّة والسماويَّة في ذهنه ممَّا يؤكِّد عدم إيمانه بأيِّ دين.

ثانيًا: إنَّ طرح فكرة تطوُّر الأديان عند هيوم، والبحث في تاريخه الطبيعيِّ جعله يُنزل الدِّين من عليائه المقدَّس ليبحث فيه كأيَّة ظاهرة طبيعيَّة أو بشريَّة ينبغىٰ الغوص في أعماقها، والبحث في تاريخها، واستجلاء أبرز معالمها ومصادرها من دون أن تتحكَّم في من يبحثها، أي بنزع القداسة عنها وتناولها تناولا طبيعيًّا. وقد كان ذلك نتيجة لمذهبه التجريبيِّ الذي يعتمد في المقام الأول علىٰ التجربة الحسِّيَّة، ويقدِّم شهادة الحواسِّ علىٰ شهادة الفكر والتاريخ، والذي

(271)

جعله يبتعد تمامًا عن الوقوف علىٰ الحقيقة الفعليَّة للدِّين بوصفه اعتقادات روحيَّة لا يمكن مقاربتها تجريبيًّا. وإذا كان هيوم قد زعم أنَّ قضايا الدِّين لا تخضع للمشاهدة والتجربة العلميَّة، ومن ثمَّ رفضه، فإنَّ موقفه هذا لن يستقيم أو يتَّسق ذاتيًّا إلَّا إذا توصَّل بالمشاهدة والتجربة إلىٰ أنَّه في قضاياه الأساسيَّة باطل.

ثالثًا: بيَّنت هذه الدراسة موقف هيوم الانتقائيَّ في عرضه لتطوُّر الأديان من التعدُّديَّة إلىٰ التَّوحيد؛ إذ بدا أنَّه ينتزع بعض الحالات من تاريخ الأديان لكي يرتِّب عليها نتائج عامَّة. وكيف أنَّه غيَّب بعض القضايا والوقائع التاريخيَّة التي تعطينا أفكارًا مهمَّة حول نشأة العقيدة الدينيَّة، كما تجاهل الحديث عن بعض الديانات البدائيَّة مثل «الزرادشتية» والتي كانت ستغيِّر الكثير من الأمور حول تصوُّره لتَأرجُح الإنسان بين التعدُّدية والتوحيد ولأيٍّ منهما كان السبق التاريخيُّ، ممَّا يعكس وجود موقف مسبق مُعدٍّ سلفًا لدىٰ هيوم يستهدف إثبات مقاصد ذاتيَّة، ممَّا ينأىٰ بموقفه من الدِّين عن الموضوعيَّة أو الدقَّة العلميَّة.

رابعًا: يبقىٰ زعم هيوم أنَّ الوثنيَّة هي نقطة البدء، وأن التعدُّد سابق علىٰ التوحيد معتمدًا في ذلك علىٰ نوع من التحليل الطبيعيِّ الذي ينطلق من فحص الطبيعة البشريَّة في تطوُّرها التاريخيِّ من زاويتين إحداهما نفسيَّة والأخرىٰ عقليَّة، منتهجًا في هذا طريقة الاستنباط، زعمًا زائفًا؛ لأنَّه انتهج نهجًا غير مناسب لدراسة الظاهرة الدينيَّة، فكان عليه ألَّا يعمِّم منهجه التجريبيَّ علىٰ دراسة ما لا يقبل التجريب. كما كان افتقاده منهجيَّات علم النقد التاريخيِّ، وتقصيره في بذل أيَّة جهود في تعقُّب وتقصِّي المعارف الاجتماعيَّة والأنثروبولوجيَّة المُتاحة في عصره عن المجتمعات البدائيَّة، فضلاً عن عدم ميله إلىٰ تحليل النصوص المقدَّسة، أسبابًا رئيسيَّة وراء قصور المقدِّمات التي انطلق منها في دراسته للدِّين.

خامسًا: بيَّن هذا البحث تهافُت زعم هيوم بأنَّ مذهب التعدُّد لا يتميَّز بأنَّه أسبق أو سابق علىٰ التوحيد فحسب، بل يُعدُّ أيضًا الموقف الأسمىٰ؛ لأنَّ التعدُّد- من وجهة نظره- أكثر تسامحًا من التَّوحيد، فالأخير لا يميل إلىٰ التسامح بل إلىٰ التعصُّب أو الدوغماطيقيَّة والتطرُّف الدينيِّ والمذهبيّ. وأنَّ التطوُّر من مذهب التعدُّد إلىٰ التأليه صاحَبَهُ تطوُّر التعصُّب،

(272)

والغطرسة، والتحمُّس المفرِط كما تبيَّن في سلوكيَّات اليهود والمسيحيِّين والمسلمين علىٰ حدٍّ سواء، وهو الرأي الذي بيَّنا فساده عقليًّا وتاريخيًّا.

سادسًا: بدت غريبةً جدًّا نظرة هيوم المريبة نحوعظَمَة الإله اللّا متناهي وجلاله وتعاليه وسموِّه والتي قد تؤدِّي إلىٰ الشعور بالانحطاط الإنسانيِّ الذي يتجلَّىٰ في ممارسات الزُّهد وقهر النفس والخضوع للإله. فدوافع التأليه- كما يراها- تقتضي تعالي الإله وقدرته اللّا متناهية من أجل أن تحمي المتألِّه من كلِّ الأخطار، وتحقِّق له آماله وطموحاته. فكيف -إذًا- يحتمي الإنسان في من يماثله أو يستطيع منافسته والتفوُّق عليه؟! إنَّ التناقض يغلب علىٰ مواقفه من الدِّين بشكل واضح لسبب بسيط جدًّا وهو استخدام المنهج التجريبيِّ في موضوعٍ روحيٍّ خالص.

(273)

المصادر

1.  محمد فتحي الشنيطي، مقدِّمة لكتاب “محاورات في الدين الطبيعيّْ” لهيوم،  مكتبة القاهرة الحديثة، الطبعة الأولىٰ.

2. حمادي أنوار، فلسفة الدين عند ديفيد هيوم، مجلَّة «التفاهم»، العدد(62) السنة السادسة عشرة، خريف 2018.

3. محمد عثمان الخشت، الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، دار قباء للنشر والتوزيع، القاهرة، 1997.

4. عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المجلَّد الثاني، المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولىٰ، 1984.

5. محمد عثمان الخشت، تطوُّر الأديان- نظريَّة جديدة في منطق التحوُّلات، نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية، 2017.

6. جاكلين لاغريه، الدين الطبيعيُّ، ترجمة منصور القاضي، المؤسَّسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولىٰ، 1993.

7. علي سامي النشار، نشأة الدين - النظريَّات التطوُّريَّة والمؤلَّهة، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، د.ت.

8. سامية عبدالرحمن، الدين والمعجزة في فكر هيوم التجريبيِّ، (من دون بيانات نشر).

9. توفيق الطويل، قصة النزاع بين الدِّين والفلسفة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،  2011.

10. مراد وهبة، ملاك الحقيقة المطلقة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،  1999.

11. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلَّد الخامس، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم إمام عبدالفتاح إمام، المجلس الأعلىٰ للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولىٰ،2003.

12. طه حسين، من بعيد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة،  2012.

13. Hume, Dialogues Concerning Natural Religion, in The English Philosophers from Bacon to Mill, edited. With an Introduction by Edwin A. Burtt, the Modern Philosophy, New York, 1939, p.701.

14. Hume, The Nature History of Religion, in: Philosophical Works of David Hume, Vol.IV, Boston: Little, Brown and Company, Edinburg: Adam and Charles Black.1825

15. Kant, Lectures on Philosophical Theology, translated by Allen W. Wood & Gertrude M. Clark, Cornell University Press, London, 1978,

(274)

الوصل المضطرب بين العقل والأخلاق،

 مقاربة نقدية لرؤية ديفيد هيوم[1]

 

حسين علي شيدان شيد[2]

   

تُعتَبر مكانة العقل في الأخلاق من أهمِّ المسائل برأي ديفيد هيوم، وكانت أوَّل موضوع ساقَهُ للبحث والتحليل في كتاب «مبحث في الأخلاق»[3]، ومحور البحث دار حول ما إذا كان العقل[4] هو المرتَكَز الأساسيَّ للأخلاق، أم هي العواطف، كما استهلَّ الجزء الثالث من كتاب «رسالة في الطبيعة البشريَّة»[5] وعنوانُهُ «بحث في مبادئ الأخلاق» بفصل تحت عنوان «الاختلاف في المبادئ الأخلاقيَّة ليس عقليَّ المنشأ». مع الإشارة أيضًا إلىٰ أنَّه سخَّر جلّ جهوده طوال مسيرته الفكريَّة لتحليل هذا الموضوع وتسليط الضوء علىٰ النقاشات المحتدمة حوله بين مختلف المفكِّرين، والرأي الذي تبنَّاه في هذا المضمار تجلَّىٰ في الكثير من المواضيع الأخرىٰ التي تطرَّق إلىٰ بيان تفاصيلها، بل أثَّر علىٰ مختلف آرائه ونظريَّاته.

(275)

في هذه المقالة سنشير إلىٰ وجهة نظر هيوم إزاء مختلف جوانب الموضوع المذكور بشكلٍ مقتضبٍ، ونوضح معالمه الأساسيَّة بمقدار ما يتيح لنا المجال، لكن قبل ذلك نرىٰ من الضروري بيان مُرادِه من «العقل» ضمن هذه النظريَّة.

في باكورة العصر الجديد للفلسفة الغربيَّة شاعت مصطلحات في الأوساط الفلسفيَّة بصفتها قابليَّات إبستيمولوجيَّة أساسيَّة، وهي عبارة عمّا يلي: الإدراك، الفكر، الحكم، الخيال، الذاكرة، الحواسّ[1].

القابليَّات الثلاث الأولىٰ (الإدراك والفكر والحكم) اعتُبرت الأفضل من غيرها لكونها تفي بدورٍ عمليٍّ مشهودٍ، وبيان ذلك كما يلي: الإدراك يتمحور حول مسألة نشأة المفاهيم، والحكم يدور حول معرفة طبيعة الارتباط والنسبة بين المفاهيم ومعرفة واقع شتَّىٰ القضايا، والعقل يتكفَّل بمسألة استنتاج حكم من حكم آخر، أي أنَّ وظيفته هي الاستدلال[2].

تجدر الإشارة هنا إلىٰ وجود اختلاف بين بعض المفكِّرين حول وظائف هذه القابليَّات، ومنهم من لم يستخدمها في دراساته وبحوثه مُطلَقًا، وأمَّا ديفيد هيوم فقد استخدم مصطلحَي العقل والإدراك في موارد عدَّة باعتبارهما يدلَّان علىٰ معنىٰ واحد[3]؛ وهو، فضلاً عن ذلك، لم يلتزم في بحوثه بالمعنىٰ الذي كان شائعاً في عهده؛ حيث لم يستعمل مصطلح «العقل» بالمعنىٰ ذاته فيها قاطبةً، بل نلمس من كلامه غموضاً علىٰ هذا الصعيد،[4] فتارةً قيَّد دلالته بالقابليَّة التي لها التقدُّم علىٰ التصوُّرات حينما تطرَّق إلىٰ الحديث عن الاستدلال البرهانيِّ[5]أو الانتزاعيِّ الذي يتمحور حول طبيعة العلاقة بين التصوُّرات؛ والعقل حسب هذه الوظيفة لا يُطلَق علىٰ تلك القابليَّة التي تتكفَّل بالاستدلال الظنِّيِّ[6] الذي هو في الواقع استدلال تجريبيٌّ أو علِّيّ؛ وتارةً أخرىٰ استخدمه بنحوٍ يجعله شاملاً للاستدلال الظنِّيِّ أيضاً.[7]

(276)

فضلًا عن ذلك، اعتبر هيوم العقل في بعض الأحيان دالًّا علىٰ كلا النشاطين الفكريَّين -الاستدلالين البرهانيِّ والظنِّيِّ- أي أطلقه علىٰ عمليَّة كشف صدق القضايا أو كذبها؛[1] وفي الكثير من الحالات أراد منه ذات النشاطين المذكورين لا ما يترتَّب عليهما؛ وفي بعض كتاباته نلاحظه يطرح موضوع البحث بشكلٍ يوحي بوجود اختلاف بين العقل والتجربة[2] رغم عدم تبنِّيه هذه الفكرة في معظم آثاره،[3] وهذا الاختلاف ظاهري برأيه في بعض الموارد؛[4] ومن جملة آرائه المطروحة في هذا السياق أنَّ العقل عبارة عن غريزة مذهلة كامنة في أنفسنا لكن لا يمكننا فهم كُنهِها، حيث يسوقُنا نحو سلسلة من التصوُّرات التي تمتاز بطابع معيَّن؛[5] وهذا المدلول في الواقع يعني الانتقال من الإدراك النفسي إلىٰ نمطٍ إدراكيٍّ آخر.

إذًا، يمكن القول إنَّ هيوم يعتقد بوجود اختلاف دلاليٍّ بين مفهومَي العقل والاستدلال[6] باعتبار أنَّهما يشيران إلىٰ معنيين مستقلَّين علىٰ أقلِّ تقدير، وحسب أحد المعاني يدلَّان علىٰ نمطٍ من النشاط الفكريِّ والتأمُّليِّ الانتزاعيِّ ينشأ ضمن مقارنة إدراكيَّة واختياريَّة بين التصوُّرات التي تكتنف ذهن الإنسان، وطبق التعبير الذي ساقَهُ هذا الفيلسوف فهما يتمحوران حول المداليل والنسب الفلسفيَّة؛ فهو حينما يتحدَّث عن الجانب المختصِّ بالتفكير والتأمُّل الذهنيِّ[7] الكامن في طبيعة الإنسان يقصد ذلك الجانب الحسَّاس[8] الكامن في باطنه،[9] وفي هذه الحالة لا يعتبر العقيدة[10] حصيلةً لمصدر التفكير أو العقل، بل هي نشاط لقوة التصوُّر برأيه. وحسب المعنىٰ الآخر الذي تبنَّاه، فهما - العقل والاستدلال - يشملان ذلك النمط من الانتقال غير

(277)

التأمُّليِّ، بل الانتقال الذي يحدث تلقائيًّا علىٰ صعيد المفاهيم والنسب الطبيعيَّة؛ حيث عزا هذا الأمر إلىٰ الغريزة[1] أو العادة[2] في بعض آثاره[3]. وعلىٰ الرغم من كلِّ هذا التنوُّع الدلاليِّ والغموض في معاني العقل ضمن شتَّىٰ مدوَّناته ونظريَّاته، إلَّا أنَّ مُراده بهذا الخصوص واضح إلىٰ حدٍّ ما في مجال المباحث الأخلاقيَّة لكونه استخدم مفهوم العقل كجهة مقابلة للعواطف أو ما يسمَّىٰ بالانفعالات النفسيَّة[4] لدىٰ الإنسان، وكما هو معلوم فالمساحة التي يشغلها العقل في مضمار هذه المباحث هي المساحة ذاتها التي يشغلها علىٰ الصعيد الإبستيمولوجيِّ باعتباره القابليَّة الإنسانيَّة التي تتمحور حول الحكم بصدق القضايا أو بطلانها، وحول كشف الحقيقة وتمييزها عن الخطأ بعد تشخيصه؛ لذا يمكن القول إنَّ هيوم في هذه الموارد لم يجعل العقل في مقابل التجربة، أي ليس بمعنىٰ الفكر المحض والاستدلال علىٰ ما تقدَّم[5]، بل بمعنىٰ أوسع نطاقاً يُراد منه قابليَّة الإنسان علىٰ اكتساب جميع أنواع المعرفة سواءً عن طريق الفكر المحض أم عن طريق التجربة والاستدلال العلِّيِّ، وأحيانًا نستشفُّ من كلامه أنَّه يعتبر المعرفة المتحصِّلة بواسطة الحواسِّ توحي بإدراكات غير استنتاجيَّة، وهذه الميزة تندرج ضمن ما ذكر أخيرًا[6]. استنادًا إلىٰ ما ذكر فقد جعل في هذه المباحث نوعين من التعابير والمصطلحات في مقابل بعضهما البعض، فهو من ناحية تحدَّث بأسلوب متناسق بنحوٍ ما عن بعض المفاهيم مثل العقل والإدراك والفكر والقدرة علىٰ إصدار الأحكام والتأمُّل في شتَّىٰ القضايا والعقل المحض والقابليَّات الفكريَّة والمعرفة والاحتجاج والاستدلال والحجِّيَّة والاستنباط والصدق والكذب[7]، وما شاكل ذلك؛ ومن ناحية أخرىٰ تحدَّث بأسلوب متناسق أيضًا عن مفاهيم أخرىٰ مثل العواطف والذوق والقلب والحسِّ والشعور والانفعال والعاطفة والرغبة والنزعة والشعور الباطني والجبلة، وحتَّىٰ الأخلاق والجمال والقبح[8]، وما شاكل ذلك.

(278)

خلاصة الكلام، إنَّ العقل من وجهة نظر هيوم عبارة عن قابليَّة الإنسان علىٰ الاستدلال والاستنتاج اللذين هما علىٰ نوعين: برهانيٌّ يوضّح لنا واقع الارتباط بين التصوُّرات، وعلِّيٌّ -تجريبيّ أو ظنِّيّ- تتَّضح لنا علىٰ أساسه القضايا الواقعيَّة والسلاسل العلِّيَّة لشتَّىٰ الوقائع والأحداث.

كيف يؤثِّر العقل بالأخلاق؟

في ما يلي نتطرَّق إلىٰ بيان مدىٰ تأثير العقل علىٰ مختلف جوانب الأخلاق:

أوّلاً: طبيعة التصوُّر في الأحكام الأخلاقيَّة

في بادئ الأمر نسلِّط الضوء علىٰ التصوُّرات التي تقابل التصديقات والأحكام، لذا حينما نأخذ بعين الاعتبار القضايا والأحكام الأخلاقيَّة بصفتها مسائل عمليَّة كالقضايا الثلاث التالية (الكرم فضيلة، السرقة قبيحة، سقراط كان فاضلاً)، فلا بدَّ لنا من الإذعان إلىٰ أنَّ موضوعها إمَّا أن يكون وصفيَّاً نفسانيَّاً مثل الكرم والشجاعة والحسد،[1] أو فعلاً خارجيَّاً مثل الصدق ومعرفة الحقِّ والسرقة[2]، أو فرديًّا مختصًّا بشخصٍ بالتحديد مثل سقراط وبقراط وجنكيز خان. والواقع أنَّ محمول هذه القضايا هو الآخر عبارة عن مفاهيم معيَّنة علىٰ غرار الفضيلة والرذيلة والحسن والقبح والصواب والخطأ والفعل الذي يستحقّ الإطراء أو التوبيخ، وما شاكل ذلك.

وهناك مسائل جديرة بالذكر في هذا المضمار هي كالتالي:

1. ما يستحقُّ الذكر بالنسبة إلىٰ رأي ديفيد هيوم بخصوص مواضيع القضايا الأخلاقيَّة، هو احتمال تأثُّره ببعض المفكِّرين من أمثال شافتسبري وفرنسيس هاتشيسون، حيث اكتفىٰ بتسليط الضوء علىٰ الأوصاف النفسانيَّة للإنسان فقط والتي يقصد منها الميزات الشخصيَّة والأخلاقيَّة والدوافع والأوصاف الروحيَّة الثابتة؛ كما تطرَّق إلىٰ الأفعال باعتبارها من دون غيرها المؤشِّر الوحيد علىٰ ما يجول في باطن الإنسان؛ وإذا تتبَّعنا بحوثه سنلاحظ فيها أنَّه حتَّىٰ وإن جعل الفرد أحياناً موضوعاً للمبادئ الأخلاقيَّة - كما هو ملحوظ في الأمثلة التي ذكرها - إلَّا أنَّه اعتبره ينتهج سلوكاً كهذا من منطلق خصاله النفسانيَّة الراسخة في ذاته.

(279)

إذًا، هيوم اعتبر الخصائص النفسانيَّة للإنسان موضوعاً حقيقيًّا للقضايا الأخلاقيَّة، وقد جرىٰ علىٰ هذا المنوال بشكلٍ ملحوظٍ، فهذه الخصائص برأيه عبارة عن فضائل ورذائل، حيث قسَّمها ضمن أربعة أنواع، ثمَّ تناولها بالبحث والتحليل بنحوٍ مفصَّلٍ، لكنَّه مع ذلك ساق ثلاثة أنواع منها ضمن المواضيع التي سلَّط الضوء عليها.

المسألة الأخرىٰ الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي أنَّ ديفيد هيوم لم يذكر أيَّ شيء عن كيفيَّة معرفة هذه الأنواع -المواضيع- الثلاثة، لكن نستشفُّ من بعض كلامه اعتقاده بكونها قضايا واقعيَّة[1]، لذا فموضوع القضايا الأخلاقيَّة علىٰ هذا الأساس من شأنه أن يندرج ضمن نطاق العقل والتجربة، أي أنَّ إدراكنا لهذه المواضيع الثلاثة يتحقَّق عن طريق الاستدلال العقليِّ، وهو ما أشار إليه بصريح العبارة. وكلامه في هذا السياق واضح علىٰ أقلِّ تقدير في مجال الخصائص والسجايا النفسانيَّة للإنسان من منطلق اعتقاده بعدم امتلاكنا أيَّة معرفة مباشرة بتلك الخصائص الذاتيَّة والنوايا التي تكتنف ذواتنا حينما نبادر إلىٰ القيام بكلِّ فعل أخلاقيٍّ، بل ندركها علىٰ ضوء تلك السلوكيَّات الخارجيَّة، أي عن طريق الاستدلال العلِّيِّ؛ وهذا هو السبب الذي دعاه إلىٰ أن يعتبر السلوكيَّات الظاهريَّة -الأفعال التي يقوم بها الإنسان في عالم الخارج- بكونها تندرج ضمن الآثار والخصائص النفسانيَّة. وأمّا بالنسبة إلىٰ فهم النوعين الآخرين -الموضوعين الآخرين- اللذين هما السلوكيَّات الظاهريَّة والشخصيَّات الإنسانيَّة، فقد أكَّد علىٰ ضرورة الُّلجوء فقط إلىٰ الحواسِّ الخارجيَّة علىٰ انفراد أو بانضمامها إلىٰ الاستدلال العقليّ.

نلفت هنا إلىٰ أنَّ موضوع بحثنا لا يشمل بيان ذلك الجانب من منظومة التصوُّر[2]، الذي تنضوي تحته هذه المواضيع الثلاثة؛ إذ من المهم بمكانٍ طبعاً توضيح أنَّ كلّ تصوُّر بسيط

(280)

ناشئ من انطباع بسيط ومناظر له، أو أنّه ناشئ من مصدر آخر، لكن لا يتَّسع المجال هنا لتسليط الضوء عليه بالبحث والتحليل.

2. رغم أنَّ هيوم لم يُعِر أهميَّةً تُذكر للقضايا الأخلاقيَّة ولم يوضح أيَّ نوعٍ من التصوُّرات هي وكيف تتحصَّل لدىٰ الإنسان، لكنَّه أعار أهميَّةً بالغةً لمحمولاتها، وفي هذا المضمار بذل جهوداً حثيثةً لإثبات كيفيَّة نشوء بعض التصوُّرات من قبيل الحُسن والقبح والفضيلة والرذيلة.

ولتلخيص رأيه في هذا المجال وذكر مثيل له، نقول: بعض المفاهيم من هذه الناحية مثل الفضيلة والرذيلة تتشابه بدقَّة مع مفهوم العلِّيَّة أو النسبة الارتباطيَّة الضروريَّة، وفي مجال العلِّيَّة تطرَّق إلىٰ بيان المنشأ الأساسيِّ لتصوُّر الضرورة العلِّيَّة، ووجهة نظره هنا طُرحت علىٰ ضوء ما تقتضيه التجربة، وحسب اعتقاده بضرورة الالتزام بنظريَّة التصوُّرات، ولـمَّا توصَّل إلىٰ نتيجة فحواها أنَّ الانطباع الحسِّيِّ هو المنشأ الذي كان يبحث عنه والذي يعني عدم امتلاك الإنسان حسَّاً يُعينه علىٰ معرفة طبيعة الارتباط الضروريِّ بين العلَّة والمعلول؛ أكَّد علىٰ ضرورة وجود انطباع تأمّلي وذاتي يكون منشئاً له، وهذا الانطباع عبارة عن تلك النزعة التي تعيِّن الوجهة الخاصَّة لقابليَّاتنا الذهنيَّة التصوُّريَّة وهو يعني أيضاً وجوب مرور هذه النزعة من بوابة الانطباع العلِّيِّ إلىٰ تصوُّر المعلول الذي يتَّسم بطابع أكثر قوَّة جرَّاء تكرُّر مشاهدة العلَّة والمعلول إلىٰ جانب بعضهما. وعندما ينشأ تصوُّر العلِّية من هذا الانطباع التأمُّلي - الشعور بالإلزام أو النزعة الذهنيَّة التصوُّريَّة - فهذا يعني حدوث تصوُّر هو نسخة شبيهة للشعور بالإلزام أو بالنزعة التي تكتنفنا نحو القيام بشيءٍ ما[1].

من المؤكّد أنّ هيوم بعدما استند في مباحثه إلىٰ قابليَّة التصوُّر أو العادة أو الغريزة، أناط الاعتقاد بالعلِّية إلىٰ طبيعة الإنسان، ثمّ شيئاً فشيئاً اقترب من تلك الرؤية الطبيعيَّة الكامنة في فكره الفلسفيِّ؛ وعلىٰ هذا الأساس عزا نشأة تصوُّر الفضائل والرذائل وما شاكلها إلىٰ مصدر آخر غير العقل والحواسّ، لذا فكلُّ سلوك يتَّسم بأنَّه فضيلة أو رذيلة حينما نأخذه بعين الاعتبار ونسلِّط الضوء عليه من نواحٍ عدَّة، ففي هذه الحالة لا يمكننا إدراك حقيقة كونه حسَناً أو قبيحاً، ما يعني أنَّ تصوُّر الفضائل لا يمكن أن ينشأ من انطباع حسِّيٍّ؛ لذا لا يتسنَّىٰ لنا

(281)

هذا الإدراك إلا إذا أدركنا حقيقة ذاواتنا واكتنفنا ذلك الشعور الجميل والمستحسن إزاء تلك لأفعال والأوصاف التي نقصدها، وهذا الشعور في الحقيقة عبارة عن لذَّة  فريدة من نوعها كامنة في أنفسنا، ومن ثمَّ يمكن وصف تصوُّر الفضيلة بكونه نسخة مشابهة لهذا الشعور الرائع الذي تستسيغه أنفسنا، أي أنَّه في الواقع شعور بالفضيلة،[1] وهذا الشعور الفريد كما هو واضح يندرج ضمن الانطباعات التأمُّلية التي توصف بكونها ثانويَّة.

ثانيًا: التأثير التحريكيُّ (التحفيزيّْ)

الجانب الآخر من الأخلاق والذي تقتضي الضرورة تقييم طبيعة ارتباطه بالعقل، يتمثَّل في مدىٰ تأثير العقل علىٰ سلوك الإنسان عندما يبادر إلىٰ القيام بفعل أخلاقيِّ، وهذا الأمر يمكن بيانه علىٰ ضوء الإجابة عن السؤال التالي: ما هو مدىٰ التأثير التحريكيِّ -الدافعيِّ- للعقل، أو ما هو تأثيره السيكولوجيِّ في مجال الأخلاق؟ ويمكن تقرير السؤال كما يلي: ما هو نصيب العقل من تحفيز سلوكيَّات الإنسان الأخلاقيَّة؟

عقلنا برأي ديفيد هيوم لا يتَّسم بخصائص تحريكيَّة ودافعيَّة لكون هذه الخصائص ذات ارتباط بانفعالاتنا وعواطفنا ومشاعرنا، فهو عاجز عن تحريكنا للقيام بفعل ما أو التخلِّي عن أحد السلوكيَّات؛[2] وهذا يعني أنَّه غير قادر علىٰ تحبيب بعض القضايا أو جعلها بغيضةً بالنسبة إلينا لمجرَّد اطّلاعنا عليها وإدراكنا لها بواسطته، بل غاية ما يسهم به هو تعريفنا بها فحسب ولا دور له في نزعتنا الباطنيَّة إزاءها.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ العواطف حتَّىٰ وإن لعبت دوراً بارزاً في تحفيز الإنسان علىٰ القيام بفعلٍ ما، أو الإعراض عنه لكون العقل لا شأن له في هذا الصعيد، لكن لا شكَّ في تأثيره هنا، وهذا التأثير طبعاً مجرَّد مقدِّمة بداعي أنَّ دور العقل في هذا المضمار فرعيٌّ وليس أصليَّاً، فالعواطف هي الأصليَّة، لذا يُعتبر من حيث مساهمته مجرَّد وسيلة لا غير؛ إذ من خلال قابليَّته لاستكشاف حقائق الأمور يتسنَّىٰ له غرس الرغبة أو الضغينة في كيان الإنسان حتَّىٰ وإن لم يكونا موجودَين لديه قبل ذلك، ومن ثمَّ يُرغمه علىٰ القيام بفعل ما أو الإعراض عنه. كذلك من خلال قدرة الإنسان علىٰ معرفة الآثار التي تتمخَّض عن سلوكيَّاته وأفعاله وكلِّ ما

(282)

يترتَّب عليها بفضل قابليَّاته العقليَّة، فهو يساعده علىٰ تغيير نهجه في الحياة من خلال تغيُّر رغباته وانفعالاته النفسانيَّة أو زوالها بالكامل، وبهذا المنوال يعينه علىٰ تغيير نمط سيرته العمليَّة في شتَّىٰ مجالات الحياة[1].

بناءً علىٰ ما ذُكر، يمكن القول إنَّ العقل قادر علىٰ احتواء أفعال الإنسان علىٰ ضوء منحه معلومات تسوق رغباته ونزعاته نحو وجهة أخرىٰ غير التي يسلكها، كذلك له القدرة علىٰ تعريفه بتلك الوسائل التي تساعده علىٰ تحقيق أهدافه التي يرنو إلىٰ تحقيقها من شتَّىٰ رغباته وانفعالاته؛ وخلاصة الكلام أنَّه يفي بدور ملحوظ ووظيفة أساسيَّة علىٰ صعيد تحريك الإنسان نحو تصرُّف معيَّن ينتهي إلىٰ سلوك أخلاقيٍّ، فهذا التصرُّف يدعوه إلىٰ أداء الفعل الأخلاقيِّ أو تركه، وذلك عن طريق تقديمه دعماً فكريَّاً للعواطف.

ثالثاً: المبادئ الإبستيمولوجيَّة

ثالث خصوصيَّة نسلِّط الضوء عليها ضمن بيان طبيعة ارتباط الأخلاق بالعقل، هي التأثير الإبستيمولوجيِّ العقليِّ عليها، وذلك في سياق الإجابة عن السؤال التالي: ما هو نصيب العقل في مجال معرفة المبادئ الأخلاقيَّة وإدراك حقيقتها؟

ديفيد هيوم في هذا الصعيد أناط الحظَّ الأوفر بالعواطف، وقيَّد العقل إلىٰ أقصىٰ حدٍّ بحيث اعتبره قاصراً عن معرفة الحكم الأخلاقيّ، ومن جملة ما تبنَّاه هنا أنَّ الأحكام الأخلاقيَّة ليس من شأنها أن تتَّصف بالصدق أو الكذب، أمَّا العقل فلا دور له سوىٰ معرفة صدق القضايا أو كذبها[2]، ما يعني أنَّ هذه الأحكام خارجة عن نطاق المعرفة العقليَّة، لذا يستحيل علىٰ العقل تشخيص الحسن والقبح والفضائل والرذائل عن طريق الاستنتاج والاستدلال.

فحوىٰ هذا الكلام أنَّ الإنسان غير قادر علىٰ تحصيل الأحكام الأخلاقيَّة اعتمادًا علىٰ قابليَّاته العقليَّة ما تقدَّم منها وما تأخَّر، كذلك لا يُعدُّ النهج العقليُّ ناجعًا ومعتمَدًا في مجال رفضها أو قبولها؛ لكنَّه تبنَّىٰ النهج الفكريَّ الذي أشرنا إليه سابقًا حينما اعتبر القابليَّات العقليَّة لا تخلو عن

(283)

تأثير في هذا المضمار، فهو يعتقد بوجود تناسق واشتراك عمليٍّ بنحوٍ ما بين العقل والعواطف في جميع الأحكام الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّ نصيب العقل في هذا المضمار مجرَّد تأثير فرعيٍّ بصفته وسيلةً لا غير، وبيان ذلك كما يلي: العقل يدرك أنَّه مكلَّف بتوفير المقدِّمات اللّازمة لسلوك الإنسان ومنحه الإدراكات والمعلومات التي تُعينه علىٰ الولوج في مضمار النشاطات العمليَّة، كما يقدِّم العون العواطف كي تفي بدور علىٰ صعيد إصدار الأحكام حول مختلف القضايا؛ إذ ما لم يمتلك الإنسان معرفة بمختلف الأوضاع والظروف فهو غير مخوَّل بإصدار أيِّ حكم أخلاقيّ، ناهيك بأنَّ المواضيع الهامَّة التي تبقىٰ ضمن هالة من الغموض أو الشكِّ لا يمكن البتُّ بها، وينبغي تعليق جميع القرارات وعدم تفعيل العواطف والمشاعر الأخلاقيَّة إلىٰ حين إصدار الحكم النهائيِّ من قبل العقل الذي يتصدَّىٰ للفكر، ويستكشف الحقائق، وذلك طبعاً لأجل عدم الوقوع في المحظور، والتمكُّن من جمع معلومات كافية حول جميع جوانب الموضوع؛ وبعد ذلك يأتي دور العواطف لكي تشخِّص طبيعة الحكم الأخلاقيِّ الذي كان مجهولاً[1].

وضمن بحوثه التي دوَّنها علىٰ صعيد موضوعنا، أشار هيوم إلىٰ الآثار والنتائج المفيدة لأفعال الإنسان وخصاله والدور الذي يفيه العقل في هذا المضمار، وبما أنَّ مبدأ الفائدة -المصلحة- يُعتبر واحداً من مرتكزَين أساسيَّين لحسن الخلق[2]، فمن الواضح بمكان أنَّ العقل في هذا الصعيد يفي بدور هامٍّ لا يقلُّ شأناً عن أهميَّة العواطف، وهذا الأمر يصدُق بشكلٍ عمليٍّ وملحوظٍ علىٰ بعض المبادئ الأخلاقيَّة ولا سيَّما العدل الذي يُعتبر واحداً من أكثر المبادئ الأخلاقيَّة تعقيداً، وهنا يتجلَّىٰ دورُه الحيويُّ وضرورة تدخُّله بوضوح[3]؛ ورغم كلِّ ذلك يبقىٰ نصيبه فرعيَّاً باعتباره مجرَّد وسيلة لا غير.

ذكرنا أنَّ العواطف ذات الحظِّ الأوفر في مجال معرفة الأحكام الأخلاقيَّة من منطلق رأي ديفيد هيوم الذي أكَّد علىٰ ذلك في مختلف دراساته وبحوثه، ورغم أنَّه في الفترة الَّلاحقة لتأليف كتابه الذي أشرنا إليه في بداية المقالة، بدأ تدريجيَّاً يتبنَّىٰ أفكاراً قوامها محوريَّة العقل علىٰ صعيد القضايا الأخلاقيَّة إلىٰ جانب إصراره علىٰ رأيه السابق، لكنَّ المسألة الجديرة بالذكر

(284)

في هذا الصعيد أنَّ الآراء التي أكَّد فيها علىٰ أهميَّة الأُسُس والمبادئ الأخلاقيَّة العامَّة وكيفيَّة تحصيلها، لا تتناغم بنحوٍ ما مع رأيه الذي تبنَّاه بشكلٍ رسميٍّ حول الموضوع، وفي معظم الأحيان تتعارض معه علىٰ نحو التضادِّ، لذا لا نبالغ لو قلنا إنَّه يترتّب عليها الإقرار بنصيب أوفر بكثير وأهمِّ من ذلك النصيب الذي أناطه للعقل.

علىٰ الرغم من أنَّ هيوم أكَّد علىٰ الدور الفريد للعواطف في مجال الأحكام الأخلاقيَّة والتي تعني التلاحم بالبرِّ والإحسان والرغبة في عمل الخير، لكنَّه حينما سعىٰ لطرح المبادئ والمعايير الأخلاقيَّة العامَّة، وتصحيح الرؤية التي كانت سائدة آنذاك، وترسيخ التلاحم الذاتيِّ بين شتَّىٰ أعضاء المجتمع، قلَّل من هذا الدور وكأنَّ العواطف ليس لها حظٌّ وافر كما أشار آنفاً، حيث اعتبر الانفعالات الباطنيَّة التي تكتنف الإنسان ومختلف مشاعره تجاه الفضائل أو الرذائل في شتَّىٰ المجالات ليست علىٰ حدٍّ سواء؛ مثلاً عادةً ما يشعر كلُّ إنسان بحماسة وتكتنفه مودَّة إزاء من يُسدي خدمات جليلة لبلده، وهذا الشعور طبعاً أسمىٰ وأكثر مودَّة ممَّا يشعر به إزاء شخص يقدَّم خدمات لبلد آخر أو أنَّه قدَّم خدمةً لنا منذ زمن بعيد بحيث يصعب تذكُّرها بسهولة، كذلك يتضاءل هذا الشعور إزاء تلك الحالات التي لا تعمُّنا منها سوىٰ فوائد محدودة من إرادة الخير والإنسانيَّة أو أنَّها لا تمتُّ لنا إلَّا بصلة محدودة، إذ في هذا المضمار لا ننال فوائد كثيرة، وعادةً ما يتضاءل شعورنا بالتعاضد مع أقراننا في المجتمع، في حين أنَّنا من الممكن أن نعترف بكون كليهما فضيلة وينضويان في مجال البرِّ والإحسان حتَّىٰ وإن كانت عواطفنا هنا غير متكافئة، أي أنَّ تلاحمنا وعواطفنا في مختلف الأحوال والظروف عرضة للتغيير والتحوُّل علىٰ الرغم من ثبوت حكمنا الأخلاقيِّ وعدم تغيُّره؛ بينما ديفيد هيوم يعتقد بعدم إمكانيَّة الاعتماد علىٰ هذا الأمر لاستنتاج أنَّ تقييمنا لشتَّىٰ الأوصاف والأفعال والفضائل والرذائل ليس ناشئاً من تلاحمنا الفكريِّ وتعاضدنا وعواطفنا، بل إنَّ منشأه هو العقل الذي يُعدُّ المرتَكَز الأساسيَّ لقدرتنا علىٰ إصدار الأحكام بمختلف أنماطها، وهذه التغييرات والتعارُضات تساهم في تصحيح عواطفنا وإدراكاتنا الباطنيَّة مثلما تصون حواسُّنا من الوقوع في خطأ؛ مثلاً إذا تضاعفت المسافة التي تفصلنا عن أحد الأشياء بحيث تجعله أكثر بُعداً عنَّا، فالصورة التي ترتسم في أعيُننا له تبلغ درجة النصف، لكنَّنا مع ذلك نتصوَّر أنَّها في كلتا الحالتين بحجم واحد؛ إذ نحن علىٰ علم بأنَّنا إذا اقتربنا منه فسوف تنشأ لدينا صورة أكبر له، كذلك نعلم بأنَّ هذا الشيء ليس هو السبب في كلِّ هذه الاختلافات، بل السبب يعود إلىٰ المسافة الفاصلة بيننا

(285)

وبينه من حيث القرب والبعد؛ فإذا لم يتمّ هذا التصحيح لوجهتنا علىٰ صعيد الأمور التي نلمسها والظواهر[1] التي تتجلَّىٰ لنا في مختلف مجالات الحياة - ولا فرق هنا في ما إذا كان هذا الإدراك باطنيَّاً أو خارجيَّاً - ففي هذه الحالة نصبح عاجزين عن التفكير أو حتَّىٰ الحديث بخصوص أحد المواضيع بنحوٍ ثابتٍ ومنظَّمٍ، لأنَّ الظروف غير الثابتة تسفر عن حدوث تنوُّع متواصل لا يتوقَّف مطلَقاً، ومن ثمَّ تقتضي الضرورة طرح آراء عديدة واتِّخاذ مواقف مختلفة.

حريٌّ القول إنَّ تعاضُدنا مع أقراننا البشر عادةً ما يكون أقلَّ مستوىٰ من رغبتنا في تلك الأمور التي تخصُّ شؤوننا الذاتيَّة، كما أنَّنا نتعاضد عاطفيَّاً ونفسيَّاً مع المقرَّبين لنا أكثر من تعاضُدنا مع غيرهم، ومن هذا المنطلق حينما نتطرَّق إلىٰ بيان الأحكام الأخلاقيَّة وذِكر الأوصاف الأخلاقيَّة للآخرين، غالباً ما نتجاهل هذه الاختلافات بحيث نجعل عواطفنا ومشاعرنا ذات طابع عامٍّ وشموليٍّ وذات صيغة أكثر اجتماعيَّةً، وبالتالي نُضفي إلىٰ عواطفنا المتباينة التي تكتنفنا حول شتَّىٰ القضايا ثباتاً واتِّساقاً موحَّداً؛ وفي غير هذه الحالة يصبح الحوار الأخلاقي بعيد المنال ويمسي الفكر الأخلاقي مستحيل من أساسه فنعجز عن إقامة علاقات ثابتة ومنظّمة مع الآخرين.

إذًا، تبادل العواطف والأفكار مع أقراننا البشر يضطرُّنا لأن نصوغ معياراً كلِّياً ثابتاً نتمكَّن علىٰ ضوئه من المبادرة إلىٰ استحسان أو تقبيح أو رفض أو تأييد مختلف السلوكيَّات التي تبدُر منَّا، وهذا الأمر طبعاً من وظائف العقل أو التأمُّل أو قوَّة الحكم؛ وعلىٰ الرغم من أنَّ الإنسان يرفض هذه المعايير الكلِّية ومن ثمَّ لا تتبلور كلُّ رغبة وضغينة لديه علىٰ أساس تلك الاختلافات الانتزاعيَّة الكلِّية الخاصَّة بالفضائل والرذائل، إلَّا أنَّ هذه المعايير والاختلافات الأخلاقيَّة ذات تأثير ملحوظ لا يمكن غضُّ النظر عنه بتاتاً، وعلىٰ أقلِّ تقدير فهي تساهم في تمهيد الأرضيَّة الَّلازمة لإجراء حوار مع الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم، لذا تتبلور فائدتها بشكلٍ أساسيٍّ في الأوساط الفكريَّة والمنابر ومختلف المراكز التعليميَّة بما فيها المدارس[2].

(286)

استناداً إلىٰ ما ذُكر، يحظىٰ العقل في منظومة هيوم الفكريَّة بمنزلة أعلىٰ وأكثر أهميَّة علىٰ صعيد ظهور الأحكام الأخلاقيَّة وتبلوُرها لدىٰ الإنسان، إذ علىٰ أساس ما استنتجنا من آرائه، إضافةً إلىٰ أنَّ العقل بحاجة إلىٰ أن يمنح الإنسان تلك المعلومات التي تحتاج إليها عواطفُه كي تكون قادرة علىٰ التمييز بين القضايا الأخلاقيَّة، فهو ذو تأثير بنيويٍّ في ترسيخ الأحكام الأخلاقيَّة وصياغة معايير ثابتة كلِّية لا يطرأ عليها أدنىٰ تغيير؛ لكن يرِدُ عليه الإشكال التالي: حسب هذا الرأي لا يمكننا اعتبار الأحكام الأخلاقيَّة  ثمرة مباشرة أو انطباعًا مباشرًا للعواطف أو التلاحُم بين الناس[1].

 لا شكَّ في أنَّ المعايير والأحكام الأخلاقيَّة هي في الواقع ناتجة من تناسق عواطف الإنسان مع أحكام العقل، ما يعني أنَّها أُسُس ومناهج عملية تيسِّر الحياة المشتركة، وتُفسح المجال للحوار ضمن حياة فكريَّة ذات طابع اجتماعيّ، وإلَّا فالعواطف المحضة والانفعالات التي تكتنف نفس الإنسان لا تمنحنا سوىٰ أحكام متباينة ومتنوِّعة لا ثبوت لها؛ وفي هذا السياق، نلفت إلىٰ أنَّه كلَّما ارتقت الإنسانيَّة وبلغت درجات أعلىٰ، وكلَّما تزايدت النزعة إلىٰ الخير والإحسان لدىٰ البشر، وترسَّخ ارتباطهم بتلك القضايا التي لها تأثير في شتَّىٰ مجالات حياتهم، ففي هذه الحالة، يُسلَّط الضوء بشكلٍ أساسيٍّ علىٰ الحالة أو السلوك الَّلذين يُعتبران أكثر شيوعاً في سيرتهم، وحتَّىٰ بعد أن تُسخَّر المعايير الكلِّية في خدمة التعقُّل والتأمُّل إلَّا أنَّ العواطف لا تخضع لها، بل تسلك نهجها الخاصِّ في منأىٰ عن أحكام العقل ويتمُّ اتِّخاذ القرار وفق ما تُمليه علىٰ الإنسان، لذا حتَّىٰ لو اعتبرنا الأحكام الاخلاقيَّة انعكاساً للعواطف، فهي في الحقيقة تحكي عن تلك المشاعر الكامنة في نفس الإنسان (أي كما ينبغي أن تكون)، ولا تحكي عن العواطف الموجودة بالفعل (أي كما هي موجودة علىٰ أرض الواقع).

الملاحظة الأخرىٰ الجديرة بالذكر في هذا المجال هي أنَّ هيوم قارن بين مسألة تصحيح أو تشذيب العواطف الباطنيَّة (العواطف الأخلاقيَّة) مع تصحيح أو تشذيب العواطف الخارجيَّة، ثمَّ استنتج أنَّهما متشابهان، في حين أنَّ هذه المقارنة كما يبدو تُعتبر ضرباً ممَّا يوصف في علم المنطق بأنَّه قياس مع الفارق، لأنَّنا، حسب تعبيره، نبادر إلىٰ تصحيح عواطفنا الخارجيَّة من منطلق اعتقادنا بوجود شيء في عالم الخارج يُعيننا علىٰ تصحيح مختلف القضايا المرتبطة بالحواسِّ علىٰ ضوء ثبوته ووحدته، ومن ثمَّ نُضيف إليها ثبوتاً ووحدةً أيضاً؛ لكنَّ هذا الأمر

(287)

غير ممكن بالنسبة إلىٰ العواطف الأخلاقيَّة علىٰ أساس ما تبنَّاه هيوم إزاءها، حيث يعتقد بعدم إمكانيَّة استنتاج مبادئ الحُسن والقُبح والفضائل والرذائل من عالم الواقع لكونها قضايا منبثقة بشكلٍ حصريٍّ من ذات الإنسان، وناشئة من شعوره الإيجابيِّ والسلبيِّ، أي من رغباته وعدمها، لذا فالسؤال الَّذي يطرح نفسه في هذا المضمار: ما هي البنية الارتكازيَّة التي يمكن أن نعتمد عليها لتصحيح مختلف المبادئ التي يجب العمل علىٰ أساسها؟ من الواضح أنَّ هيوم إذا أراد الإجابة عن هذا السؤال لا يمكنه التمسُّك بمسألة وحدة الانفعالات الأخلاقيَّة وثُبوتها لدىٰ جميع الناس، لأنَّ المحور الارتكازيَّ في بحثه وتحليله هنا هو بيان تنوُّع هذه الانفعالات واختلافها والاستدلال علىٰ السبيل الأمثل لتصحيحها أو تشذيبها؛ كما أنَّ الشأن الذي يُوكله إلىٰ العقل في هذا الصعيد أعلىٰ درجةً من كونه عاملاً مساعداً ومصدراً تمهيديَّاً أو وسيلةً معتمَدة تُعين الإنسان علىٰ تحقيق مبتغاه، حيث لم يعتبره مجرَّد مصدر معلوماتيٍّ وعنصر يمكن الُّلجوء إليه لتمهيد الأرضيَّة المناسبة للعواطف كي ترِدَ مضمار العمل، وتساهم في إصدار الحكم الأخلاقيِّ، بل بعد أن تفي العواطف بدورها من دون أن تتمكَّن من وضع معيار ثابت وكلِّيٍّ للقضايا الأخلاقيَّة، يأتي الدور للعقل كي يطرح مبادئه ويبادر إلىٰ تصحيح العواطف أو تشذيبها، ثمَّ يصوغ معياراً كلِّياً للفضائل والرذائل.

نستشفُّ من هذا الكلام أنَّ هيوم إمَّا أن يكون قد تبنَّىٰ رأياً لا يتناغم مع رؤيته المعهودة في مختلف آثاره ونظريَّاته والتي تتقوَّم علىٰ كون العقل مجرَّد «خادم» في هذا المضمار، أو أنَّه أعاد النظر برأيه وتبنَّىٰ رؤيةً أخرىٰ؛ وعلىٰ أيِّ حال فهو أناط بالعقل حظًّا وافرًا في مجال صياغة الأحكام الأخلاقيَّة.

إذًا، الرؤية الرسميَّة التي تبنَّاها هذا الفيلسوف الغربيُّ فحواها أنَّ العقل من الناحية الإبستيمولوجيَّة مجرَّد «خادم» للعواطف علىٰ صعيد تشخيص الأحكام الأخلاقيَّة، لذا إن أردنا تقييم هذه الرؤية علىٰ أساس مبادئ الحُسن والقُبح العقليَّين وغير العقليَّين، فالنتيجة المتحصِّلة هنا فحواها أنَّه لا يعتقد بالحُسن والقُبح العقليَّين المراد منهما قدرة العقل علىٰ إدراك المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل، كذلك -من الأولىٰ أنَّه- لا يعتقد بالحُسن والقُبح الشرعيَّين المراد منهما معرفة المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل عن طريق التعاليم الدينيَّة؛ بل نستشفُّ من مجمل آرائه ونظريَّاته أنَّه يعتقد بالحُسن والقُبح العاطفيَّين -إن صحَّ التعبير- بمعنىٰ أنَّ المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل تتبلور فقط في رحاب العواطف والمعرفة

(288)

وليس عن طريق العقل أو النقل، ناهيك بأنَّنا لو سلَّطنا الضوء علىٰ الموضوع في رحاب الحُسن والقُبح الذاتيَّين وغير الذاتيَّين، نستنتج عدم اعتقاده بالحُسن والقُبح الذاتيَّين،[1] لأنَّه لا يعتبر المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل -والمبادئ الأخلاقيَّة كافَّة- واقعيَّةً، ولا يرىٰ أنَّ سلوكيَّات الإنسان بجميع أشكالها تتَّسم بالحُسن والقُبح، بل كلُّ حُسن وقُبح إنَّما هو من صياغة عواطفه ومنبثق من مشاعره الذاتيَّة، التي تستسيغ بعض الأمور الطبيعيَّة، بحيث تساهم في صنع شيءٍ جديدٍ[2]. المقصود من هذا الكلام أنَّ المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل بجميع أنواعها لا تتَّسم بهذه الميزات ذاتيًّا، بحيث تستقرُّ بهذا الشكل في طبيعة الأشياء والأفعال علىٰ نحو الثبوت والدوام، بل ترتكز علىٰ العواطف بشكلٍ حصريٍّ، لذا لو افترضنا تجرُّد النفس الإنسانيَّة عن العاطفة ففي هذه الحالة لا موضوعيَّة لكلِّ حُسن وقُبح وفضيلة ورذيلة، بل لا موضوعيَّة أيضاً للصواب والخطأ؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنَّ هيوم لا يعتقد بالحُسن والقُبح الشرعيَّين المقصود منهما اتِّسام الأشياء والسلوكيَّات بهاتين الميزتين علىٰ أساس التعاليم الدينيَّة باعتبار أنَّ الشريعة هي التي تقرُّ للإنسان ما هو حسن وتنهاه عمَّا هو قبيح، حيث سعىٰ في هذا المضمار لتجريد الأخلاق من كلِّ ميزة دينيَّة باعتبارها شأناً متقوِّماً بذاته ولا دخل لأيِّ حكم شرعيٍّ فيه، لذا يمكن القول أنَّه يعتقد بالحُسن والقُبح العاطفيَّين فقط من منطلق تصوُّره أنَّ العواطف هي التي تجعل الحسن حسناً والقبيح قبيحاً، ومن ثمَّ فالأشياء والسلوكيَّات لا تتَّسم بذاتها بهاتين الميزتين، كما لا دخل للدين والأحكام والتعاليم الشرعيَّة في هذا الأمر، بل حتَّىٰ الاتِّفاق الجماعيَّ والأعراف الاجتماعيَّة لا دخل لها في ذلك.

إذًا، الحُسن والقُبح برأيه ليسا ثمرة للتعاليم الدينيَّة بشتَّىٰ أنماطها، وليسا نتيجةً للاتِّفاق الجماعيِّ أو العقد الاجتماعيِّ، كما أنَّهما ليسا من ذاتيَّات الأشياء والسلوكيَّات؛ وإنَّما هما مصنوعان من عواطف الإنسان.

رابعًا: دور العقل في البحوث الماوراء أخلاقيَّة

الموضوع الآخر الجدير بالشرح والتحليل علىٰ صعيد الدور الأخلاقيِّ للعقل في منظومة

(289)

ديفيد هيوم الفكريَّة، هو نتائج الدراسات والبحوث التي دوَّنها هو وأمثاله في هذا المجال بغضِّ النظر عن رأيه بدور العقل في معرفة الأُسُس والمبادئ الأخلاقيَّة أو مدىٰ تأثيره في تحفيز الإنسان علىٰ انتهاج سلوكيَّات أخلاقيَّة؛ لذا حينما نتساءل عن رأيه ونهجه المتَّبع في الدراسات والبحوث الخاصَّة بالمرتكزات الأخلاقيَّة سواءً لناحية تأثير العقل أم عدم تأثيره في هذا المضمار، نقول: بما أنَّ هيوم اعتبر الموضوع المذكور منوطاً بالواقع، فهو علىٰ هذا الأساس يعتقد بضرورة الاعتماد علىٰ التجربة العمليَّة والمشاهدة العينيَّة، لكون المنهج الذي اتَّبعه بالنسبة إلىٰ البحث والتحليل في مجال علم طبيعة الإنسان يتقوَّم من أساسه علىٰ أسلوب الاستنتاجات المختبريَّة، لذا فهو يعتبر هذا الأسلوب عقليًّا، ومن ثمَّ لا بدَّ من تسرِيَته في الدراسات والبحوث الأخلاقيَّة باعتبارها جزءًا من علم طبيعة الإنسان.

إذًا، العقل يفي بدور أساسيٍّ في الدراسات والبحوث المشار إليها والتي وصفها بأنَّها بحوث في مجال المبادئ الأخلاقيَّة، لكنَّ هذا الدور منوط بإحدىٰ وظائف العقل فحسب، وهي الاستدلال الظنِّي أو العلِّي، ما يعني أنَّ وظيفته الأخرىٰ المتمثِّلة بالبرهنة والاستدلال الانتزاعيِّ لا شأن لها بذلك؛ لكونها تقتصر علىٰ بعض العلوم الخاصَّة مثل الرياضيَّات. من المهمِّ الإشارة هنا إلىٰ أنَّ النتائج التي يتمُّ التوصُّل إليها في الدراسات الأخلاقيَّة علىٰ ضوء تطبيق الأسلوب التجريبيِّ - والمباحث المختصَّة بطبيعة الإنسان بشكل عامّْ - لا تقلُّ شأناً عن سائر العلوم البشريَّة من حيث بلوغها درجة اليقين، وإيجادها الطمأنينة لدىٰ الباحث بما توصَّل إليه في دراساته. لكن هل يتناغم هذا الأمر مع المبادئ الفلسفيَّة التي تبنَّاها هيوم؟ هل يمكن اعتبار بناء قصر عظيم مثلًا من جملة المبادئ الأخلاقيَّة وأصولها الكامنة في الطبيعة الإنسانيَّة، بحيث إنَّ الفضائل والرذائل بأسرها مصونةً من كلِّ طارئ خارجيٍّ يطالها وكلِّ شكٍّ يكتنفها؟ أي هل يمكن الاعتماد علىٰ نظريَّة هيوم في هذا الصعيد عبر الاعتقاد بكون الاستدلال العلِّيِّ الذي يفوق حواسَّ الإنسان وقابليَّته الفكريَّة مصدرًا وحيدًا لمعرفته بهذه المبادئ؟ من جملة ما قاله في هذا الصدد: إنَّ عادتنا وغريزتنا هما المرتَكَز الأساسيَّ في هذا الاستدلال، وبما أنَّ هذه الغريزة هي علىٰ غرار سائر الغرائز الكامنة في أنفسنا لذا لا يُستبعد أن تكون خاطئة[1]. وهنا يُطرح السؤال: ترىٰ لو تمسَّك هيوم بمواقفه الفكريَّة السابقة، أليس من الممكن في هذه الحالة التشكيك بكلِّ ما ذكره بالنسبة إلىٰ الأخلاق وسائر العلوم بحيث ينتقض كلُّ رأيٍ له وفق ما

(290)

ذكر أعلاه؟ وهذا المضمون أكَّد عليه بنفسه حينما قال: كلُّ كتاب لا يتضمَّن استدلالاً مبرهَناً أو عليًّا أدرجوا مضمونه في العادة والغريزة[1]. بناءً علىٰ ما ذكر، إمَّا أن تكون المنظومة الفلسفيَّة لهذا المفكِّر الغربيِّ متزعزعة وغير منسجمة من حيث مبادئها وتعاليمها، أو أن نقول بأنَّه تأثَّر في هذه المباحث بالإنجازات الفيزيائيَّة التي حقَّقها إسحاق نيوتن وغيره، بحيث سعىٰ فيها لتفنيد الآراء والمعتقدات التي تبنَّاها أسلافُه من أصحاب النزعة العقليَّة، لكونه غفل عن أنَّه بنفسه تبنَّىٰ أصولاً فكريَّةً ومبادئ ترِدُ عليها الإشكالات ذاتها التي أوردها عليهم؛ أو ربَّما هناك إجابة مضمرة في منظومته الفكريَّة فحواها أنَّنا بغضِّ النظر عن مدىٰ رسوخ قابليَّاتنا المعرفيَّة والعقليَّة، فإذا اعتمدنا علىٰ عقولنا وقابليَّاتنا الإدراكيَّة سوف نتوصَّل إلىٰ تلك النتائج، أو علىٰ أقلِّ تقدير سنحصل علىٰ إجابة تعمُّ كلَّ هذه الاحتمالات. هذا الموضوع في الحقيقة ما زال مطروحاً علىٰ طاولة البحث والتحليل بين مختلف الباحثين الذين يتطرَّقون إلىٰ بيان معالم مدرسة هيوم الفكريَّة.

خامساً: هيوم والعقل العمليّ

 هل يعتقد ديفيد هيوم بالعقل العمليّ؟ سؤالٌ الإجابة عنه منوطة بالمقصود من هذا العقل، فإذا كان مجرَّد قابليَّة الإنسان علىٰ القيام باستدلال واستنتاج عقليٍّ أو بأيِّ نشاط عقليٍّ له ارتباط علىٰ نحوٍ ما بأفعاله وسلوكيَّاته، ففي هذه الحالة يمكن ادِّعاء أنَّ هذا الفيلسوف يعتقد بالعقل العمليِّ، لأنَّه حتَّىٰ وإن كان معتقداً بكون العقل ليس ذا تأثير مباشر علىٰ أفعال الإنسان وسلوكيَّاته لكنَّه يقرُّ بقدرته غير المباشرة علىٰ إرشاده إلىٰ تلك القضايا الحقيقيَّة التي تُسفر عن تبلوُر رغباته وانفعالاته وصياغتها علىٰ نحو الفعليَّة؛ ومع ذلك فهو لم ينط به قدرةً في مجال الأخلاق، ما يعني اعتقاده بكون العقل العمليِّ مجرَّد وسيلة[2] لا أكثر، لذلك تبنَّىٰ هذه الوظيفة العقليَّة لكنَّه لم يُشر إلىٰ مصطلح «العقل العمليِّ» بالتصريح، بل أشار إلىٰ مفهوم العقل الاستدلاليِّ الذي يمنح الإنسان معلومات في مجالات معيَّنة باعتباره وسيلةً مسخَّرة في خدمة عواطفه ومشاعره لا غير.

الحقيقة أنَّ ما أكَّد عليه هيوم هو مجرَّد جانب من الوظائف التي تترتَّب علىٰ نشاطات العقل النظريِّ في مجال سلوك الإنسان وأفعاله، لكن إذا اعتبرنا العقل العمليَّ بكونه قابليَّة

(291)

معرفيَّة تستكشف القضايا العمليَّة والسلوكيَّات الَّلائقة وغير الَّلائقة، وبما في ذلك معرفة حُسن الأفعال وقُبحها، أي تلك الأحكام الأخلاقيَّة التي سواء أكانت تمثِّل القدرة علىٰ معرفة الأحكام الأخلاقيَّة الكلِّية في مجال إدراكات الإنسان وكذلك معرفة الأحكام الجزئيَّة[1]، أم كانت تمثِّل محض القدرة علىٰ معرفة الأحكام الجزئيَّة[2]، أو سواء اعتقدنا بأنَّ الدافع والرغبة أو عدم الرغبة والبغض هي أمور لا تكتنف ذهن الإنسان إلَّا بعد أن يدرك عقله الأحكام الأخلاقيَّة؛ فما يدركه في ذاته إزاء القيام بأحد الأفعال أو تركها هو في الواقع حصيلة لهذا العقل[3]- أي العقل العمليَّ - كذلك الأمر سواء إذا اعتقدنا بأنَّ الرغبة وعدمها ناشئة من قابليَّة أخرىٰ مثل القدرة الشوقيَّة والنزوعيَّة التي تعدُّ خادمةً للقدرة العقليَّة[4]. في جميع الأحوال، فالحصيلة النهائيَّة هي أنَّ هيوم لا يعتقد بالعقل العمليِّ؛ حيث نستشفُّ من شرحه وتحليله لمفهوم العقل، ونستنتج من جملة الوظائف التي أناطها به، أنَّه لا يرىٰ وجود عقل كهذا لكون الأحكام الأخلاقيَّة برأيه خارجة عن نطاق الصدق والكذب المختصِّ بالعقل فحسب؛ لذا لا يمكن ادِّعاء اعتقاده بتلك القابليَّة الإدراكيَّة والمعرفيَّة التي تستكشف الأحكام الأخلاقيَّة وتعيِّن نطاقها، ومن ثمَّ لا مَحِيص من القول بأنَّه أناط وظائف العقل العمليَّ - التي يُرادُ منها تشخيص الأحكام الأخلاقيَّة - بالعواطف والمشاعر- أي الانفعالات الباطنيَّة التي تكتنف الإنسان - وهذا يعني أنَّ هذا العقل ليس سوىٰ محرِّك أو دافع عمليِّ لا يحظىٰ بأيِّ جانب إدراكيِّ؛ بحيث إنَّ النفس هي التي تقوم بذلك الفعل اعتماداً عليه فتتصرَّف إثر ذلك بالقوىٰ البدنيَّة؛[5] وفي هذه الحالة أيضاً نتوصَّل إلىٰ نتيجة فحواها عدم اعتقاده بالعقل العمليّْ.[6]

الجدير بالذكر هنا أنَّ هيوم عزا الرغبة والبغض إلىٰ عاطفة الإنسان ومشاعره، ولم يعزوها

(292)

إلىٰ العقل، حيث يعتبر العقل مختلفاً بالكامل عن الدافع. وفي هذا السياق أكَّد علىٰ أنَّ الرغبة المنبثقة من الدافع لا يمكن أن تنشأ من العقل بتاتاً، ومن هذا المنطلق رفض كلَّ تأثير إبستيمولوجيٍّ للعقل في مجال الأحكام الأخلاقيَّة، فهذه الرؤية تُعدُّ مرتَكَزاً أساسيَّاً في إنكاره تأثير العقل علىٰ الأحكام والمبادئ الأخلاقيَّة.

نتيجة البحث

نستنتج من جملة ما ذُكر أنَّ ديفيد هيوم ابتدأ منظومته الفكريَّة علىٰ صعيد الأخلاق - بل منظومته الفكريَّة بأسرها - بتضييق نطاق العقل قدر المستطاع، لكن كلَّما تعمَّقنا في تفاصيل دراساته وبحوثه اللّاحقة نجده قد نأىٰ بنفسه عن انطلاقته الأولىٰ هذه من خلال اعتماده علىٰ أُسُس عقليَّة ضمن مجمل أفكاره التي تبنَّاها حول مختلف القضايا، فقد اتَّخذ العقل مرتَكَزاً أساسيًّا لطرح آراء ونظريَّات أكَّد علىٰ أنَّ مضمونها من حيث درجة اليقين يضاهي ما توصَّلت إليه سائر العلوم البشريَّة إن لم يكن أعلىٰ درجة منها.

أمَّا بالنسبة إلىٰ منظومته الفكريَّة الأخلاقيَّة بالتحديد، فعلىٰ الرغم من تأكيده علىٰ الدور الأساسيِّ للعواطف في مجال المبادئ والأحكام الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّه انحرف عن هذه الرؤية في بعض مباحثه بعدما اضطُرَّ إلىٰ أن يُنيط بالعقل دورًا عمليًّا علىٰ الصعيد الأخلاقي، وهذا الدور في الواقع إن لم يكن بالمستوىٰ الذي أناط العواطف به، فهو ليس أدنىٰ منه بكلِّ تأكيد.

لقد أغلق هذا الفيلسوف الغربيُّ الباب أمام العقل علىٰ الصعيد الأخلاقيِّ بعدما فنَّد كلَّ تأثير له علىٰ الأحكام والمبادئ الأخلاقيَّة، لكنَّه بعد ذلك حاد عن رؤيته هذه بشكلٍ غير معلنٍ، ولربَّما كان حيادُه عنها عن غير وعي، حيث جعل العقل مؤثِّراً علىٰ صعيد ما ذكر بعدما  انتشله من البؤرة التي طمسه فيها، ومن دون أن يذكر بصريح العبارة، فقد أثبت أنَّنا ما لم نتمسَّك بأحكام العقل فسوف لا يتسنَّىٰ لنا امتلاك أيِّ نظام أخلاقيّ.

(293)

المصادر

1- Stroud Barry, Hume, London and New York, Routledge, 1977.

2- Hume David, an enquiry concerning the principles of morals, in: Hume, 1989.

3- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978.

4- Owen, David Hume`s reason, Oxford University Press, 1999.

5- Norton David Fate, David Hume: Common - Sense moralist, Skeptical Metaphysician, New Jersey: Princeton University, 1982.

6- Biro John, Hume`s new science of the mind, in: Norton - 1998.

(294)

تحليل نقدي لنظريات ديفيد هيوم

علىٰ ضوء أربع مسائل فلسفيّة[1]

 

العلامة محمّد تقي جعفري

 

المقدمة

إنّ تاريخ الفلسفة شهد ظهور ثلاثة توجّهاتٍ فكريّةٍ -أساليب- فيما يخصّ الحقائق الموجودة في الكون، وهي كالتالي:

أوّلًا: النّزعة العقليّة

الفلاسفة الذين تبنّوا إيديولوجيات علىٰ أساس نزعةٍ عقليّةٍ، رفضوا الاستدلال علىٰ أساس القضايا المحسوسة لسببين رئيسين، هما:

1. المحسوسات مصيرها الفناء ولا تنفكّ عن التغيّر والتحوّل.

2. إقحام الحواس من قبل الفيلسوف حين تبنّي الآراء وتعيين الهدف والموقف المعرفي

(295)

الخاصّ، يحول دون تحقّق ارتباطٍ خالصٍ وصائبٍ بالحقائق؛ لذا يمكن اعتبار هذا العمل خطأً يبدر من الحواسّ المعرفية.

ثانيًا: النزعة الحسّية (التجريبية) 

نشأت هذه النزعة علىٰ أساس المقوّمات الأولىٰ للمعرفة والعلم والفلسفة، وهذه المقوّمات تندرج ضمن أصول عالم الحسّ والتجربة.

ثالثًا: أسلوب شامل لكسب المعرفة

الفلاسفة والباحثون الذين يلجؤون إلىٰ هذا الأسلوب، يعتمدون علىٰ كلّ أمرٍ تتحقّق من خلاله المعرفة، سواءً كان علميًا أو فلسفيًا، لذلك يمكن اعتباره أفضل من الأسلوبين الأوّل والثاني؛ إذ إنّ مضيَّ الزّمان وظهور معلوماتٍ جديدةٍ وانتشارها علىٰ نطاقٍ واسعٍ إلىٰ جانب تنوّع العلاقات البشريّة وارتباطها بالحقائق الباطنية والظاهريّة في الكون؛ كلّها أمورٌ أسفرت عن ترجيحه علىٰ نظيريه، لذا يمكن اعتباره سبيلًا لتلبية حاجة البشر المعرفية علىٰ صعيد العلم والصناعة والفلسفة والفنّ، وكلّ ما يتفرّع عن هذه الأمور من قضايا.

الجدير بالذكر هنا أنّ عجز النّزعة العقليّة البحتة عن بلوغ كُنه الحقائق، هو أمرٌ في غاية البداهة ولا يقتضي في إثباته اللجوء إلىٰ استدلالات محبكة ومسهبة؛ فلو أنّ الحقائق الكائنة في عالم الوجود بأشكالٍ وصورٍ متنوّعةٍ لم يكن من شأنها الورود إلىٰ المنظومة العقلية بشكلٍ مباشرٍ عن طريق الحواسّ أو التجارب المختبريّة أو مختلف النّشاطات العلميّة الأخرىٰ، ففي هذه الحالة سوف لن نتمكّن بتاتًا من امتلاك أيّ نمطٍ من المعارف العلميّة والصناعيّة والفلسفيّة والفنّية، وقد أشار الله تبارك وتعالىٰ في كتابه الكريم إلىٰ المرتكزات الأولىٰ لإمكانيّة معرفة الحقائق ضمن الآية المباركة التالية: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها) [1]. نستشفّ من هذه الآية أنّ التعليم يعدّ شأنًا إلهيًا، وهذا الأمر لا يتنافىٰ مع ما ذكرنا؛ لأنّ المرتكزات المعرفيّة الأولىٰ التي تكوّنت في أنفسنا تزامنًا مع الفيض الإلهي، هي ليست علومًا وإيديولوجيات ذات قابليةٍ فعليةٍ وتفاصيل متفرّعة؛ إذ لو كان الواقع علىٰ خلاف ذلك لما حدثت كلّ تلك الخلافات الفكرية بين العلماء والحكماء علىٰ مرّ التاريخ، فحقائق عالم الوجود ليست متضادّةً ولا متناقضةً، لكنّنا نجد خلافاتٍ فكريةً تبلغ درجة التّضادّ أو التناقض في كلّ آنٍ ومكانٍ بين أهل العلم والمعرفة.

(296)

لو تمعّنّا بدقّةٍ في ما ذكرنا من نقدٍ حول الأسلوب العقلي البحت الذي يتجاهل القضايا الحسّية التجريبية بالكامل، نستنتج أنّ الأسلوب الثالث لاستكشاف الحقيقة والذي يتقوّم بالتركيب بين الحسّ والعقل يعتبر أشمل أسلوبٍ، ولا بدّ من الاعتماد عليه.

وأمّا بالنسبة إلىٰ الأسلوب الثاني الذي يتمحور حول النّزعة التجريبيّة، فقد شاعت هذه النّزعة بين العلماء والمفكّرين في العصور الماضية وطُرحت الكثير من الرؤىٰ والنّظريات علىٰ أساسها، وقد بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر حينما طُرحت بشكلٍ مبالغٍ فيه من قبل الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (1711م - 1776م)، بحيث إنّ مفكّرين آخرين من أمثال جورج بيركلي وجون لوك لم يبالغوا في طرحها كما فعل هيوم.

الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل وصف هذا التطرّف في النزعة الحسّية قائلًا: «ديفيد هيوم[1] أحد أهمّ الفلاسفة (1711م - 1776م)، لأنّه وصل بفلسفة لوك وبيركلي التجريبية إلىٰ نتيجتها المنطقية، وإذ جعلها متّسقةً مع ذاتها، جعلها غير قابلةٍ للتصديق»[2]، المقصود من أنّه بلغ بفلسفة لوك وبيركلي إلىٰ نتيجتها المنطقية هو تفنيد كلّ أمرٍ فيما وراء الحسّ والتجربة تقريبًا باستثناء الله تعالىٰ.

بما أنّ نظريات ديفيد هيوم التي دافع فيها عن النزعة التجريبية وفنّد علىٰ أساسها الأمور الماورائية، قد بلغت درجة الشكوكية، لذا بادر الباحثون والمفكّرون الذين يتبنون الرؤيتين التجريبية والعقلية معًا إلىٰ نقدها وتفنيدها، كما كانت عرضةً للنقد أيضًا من قبل فلاسفة علم الطبيعة.

يمكن تقييم آراء ديفيد هيوم بشكلٍ عامٍّ كما يلي: تبنّىٰ رؤيةً انتقاديةً بحتةً، ومن هذا المنطلق تمخّضت نشاطاته الفكرية عن تحليلٍ نقدي لعددٍ من المسائل الفلسفية الهامّة بحيث لم تتجاوز هذا الحدّ؛ وعلىٰ هذا الأساس ليس من الصواب تصوّرُ أنّه أرسىٰ دعائم مدرسةٍ فلسفيةٍ ذات منهجيةٍ وإيديولوجيةٍ شموليةٍ؛ لأنّ تحليلًا نقديًا كهذا لا فائدة فيه سوىٰ التنبيه علىٰ ضرورة امتلاك وعي ودقّةٍ في عالم الفكر والتنظير، لذا ليس من شأنه منحنا معلومات صائبة عن الحقائق.

(297)

ورغبته في طلب العلم، لكنّ واقع الحال أنّ حالته النفسيّة هذه كانت تحول إلىٰ حدٍّ كبيرٍ دون نشاطه الفكري الخالص باعتباره مفكّرًا يسعىٰ إلىٰ امتلاك معرفةٍ حول العالم المحيط به لكونه سعىٰ إلىٰ إدراك ما يجري حوله، ومن ثمّ كانت سببًا في إيجاد شكوكٍ لدىٰ طلاب العلم الذين يحاولون كسب معارفهم من أرباب الفكر والتنظير، وهدفهم بكلّ تأكيدٍ هو تنقية نشاطاتهم العلمية من الشوائب وامتلاك إيديولوجيةٍ صائبةٍ وخالصةٍ؛ لذا نرىٰ من الأفضل بمكانٍ بيان جانبٍ من شخصيّته وتوجّهاته النّفسيّة:

1. المفكّر البريطاني الشهير برتراند راسل وصفه قائلًا: «وكتابه (تاريخ إنجلترا) الذي نشر سنة 1755م[1] وما أعقبها من سنواتٍ، كرّس لإثبات امتياز (التوري) علىٰ (الهويج) والأستكتلنديين علىٰ الإنجليز؛ وهو لم يعتبر التاريخ جديرًا بالاستقلال في الرأي والتجرّد الفلسفي»[2]. نستشفّ من هذه العبارة أنّ هيوم كان يرغب في بلوغ أعلىٰ درجات الشهرة وتثبيت شخصيته عن طريق إثبات أفضلية عرقه القومي؛ وهذه القضية ذات طابعٍ كلّي، فحينما لا يمتلك أحد المفكّرين ضميرًا معرفيًا ويعجز عن تزيين شخصيته بتقوىٰ علمية، من المؤكّد أنّه يمسي عاجزًا عن إثراء البشرية بأيّة معلوماتٍ قيّمةٍ من عالم الفكر والحكمة.

2. وصف ديفيد هيوم نفسه وذكر سجاياه ضمن مدوّنةٍ تحت عنوان (نعي ذاتي) أو (خطبة الجناز)، قائلًا: «كنت رجلًا دمث الطباع، مسيطرًا علىٰ أعصابي، ذا مزاجٍ منفتحٍ اجتماعي ومرحٍ، قادرًا علىٰ المودّة، تقلّ قابليتي للعداوة؛ وعلىٰ قدرٍ كبيرٍ من الاعتدال في جميع عواطفي»[3].

وفي كتابه (التاريخ الطبيعي للدين) اعتبر الشهرة الأدبية هدفًا متعاليًا في حياته، حيث قال: «وحتّىٰ حبّي للشهرة الأدبية -وهي عاطفتي المتحكّمة- لم تعكّر البتّة مزاجي بصرف النظر عن كثرة ما واجهت من خيبة أملٍ»، ثمّ أضاف: «أتمنىٰ أن يكون حظّي -لأجلي ولأجل أصدقائي جميعًا- أن أقف دون عتبة الشيخوخة فلا أوغل في ذلك الإقليم الكئيب

(298)

... في ربيع 1775م أُصبت باضطرابٍ في أمعائي لم يفزعني لأوّل وهلةٍ، ولكنّه أصبح بعد ذلك -كما خشيت- قتالًا لا شفاء منه»، إلىٰ أن قال: «وإنّي الآن أعلّق أملي علىٰ الانحلال السريع، لقد عانيت ألمًا طفيفًا جدًا من اضطرابي هذا، وأعجب من ذلك أنّني برغم التدهور الشديد الذي ألمّ ببدني، لم أعانِ قطّ ولو للحظةٍ واحدةٍ أيّ هبوطٍ في معنوياتي»[1].

يا ترىٰ أليس حبّ هيوم للشهرة التي تدمّر شخصية الإنسان، يتضادّ مع حبّه لمعرفة الحقيقة؟! الإجابة بكلّ تأكيدٍ نعم؛ لأنّ رغبة المفكّر في استقطاب أنظار الآخرين نحوه ونيل إعجابهم تكون عقبةً أمام تحقيق هدفه السامي الذي يطمح إليه والمتمثّل في معرفة الحقيقة، حيث تسوقه نحو مفاهيم ومسائل غاية ما تثمر عنه أنّها تتناغم مع أذواق الذين لا يمتلكون أيّة معلوماتٍ موثّقةٍ ونابعةٍ من مصادر معتبرة؛ فهذا الباحث وأمثاله ليس بإمكانهم إثبات صواب رغباتهم وأهدافهم ببراهين متقنة.

إذًا، لو قيّمنا ما ذُكر علىٰ ضوء مبادئ التاريخ التكاملي للبشرية وثقافتها العريقة، سوف ينشأ لدينا يقينٌ بأنّه لا يمكن بوجهٍ غضّ الطرف عن الأفق الضيّق لرؤية ديفيد هيوم وانحرافه عن الحقيقة؛ وتتزايد أهمية هذا الأمر حينما يطرح المفكّر نظرياته وآراءه بهدف نيل إعجاب الناس حتّىٰ وإن اقتضىٰ ذلك التشكيك بالأصول والقواعد البديهية الثابتة في نطاق العلم والمعرفة؛ وهنا يقع في الفخّ ويناقض نفسه لدرجة أنّه ينكر وجوده لكونه جعل هدفه من الحياة تحقيق لذّةٍ من الشهرة، لذا فهو يخفق في السير علىٰ نهج الأصول والقوانين الثابتة لتبدأ شخصيته بالاضمحلال شيئًا فشيئًا بحيث لا يجد ضيرًا في إنكار حقيقة وجوده...

3. كي نتعرّف أكثر علىٰ واقع شخصيّة ديفيد هيوم العلميّة وطبيعة النتائج التي توصّل إليها في بحوثه ونظرياته، نذكر ما قاله الفيلسوف البريطاني ألفريد نورث وايتهيد في هذا الصدد، ونظرًا لأهميّة هذا الكلام بالنسبة إلىٰ آراء ونظريات هيوم، فقد اقتبسناه كاملًا: «ظلّت الفلسفة والدين مدّة ألفي سنةٍ يمثّلان لغرب أوروبا المثل الأعلىٰ للإنسان ويضعان البشر في أسمىٰ المراتب، وبهذا الدافع ذهب الجزويت إلىٰ باقاكونيا وشجب جون وولمان العبودية، وثار توم بين علىٰ الاضطهاد الاجتماعي ونظرية الخطيئة الأولىٰ؛ وقد اختلف

(299)

هؤلاء الجزويت والكويكرز والأحرار فيما بينهم، ولكنّهم كانوا يدينون بعواطفهم نحو الإنسان -إنسانًا- للمشاعر العامّة التي أنتجها تأثير الفلسفة والدين المشترك.

لقد تقبّل جيريمي بنثام وأوغست كونت هذه العواطف العامّة باعتبارها بداهات أخلاقية تمثّل الذروة، وحقيقةً واضحةً لا تحتاج إلىٰ تبريرٍ أو إلىٰ تفهّمٍ نهائي لعلاقتها ببقية الأشياء. لقد نبذوا الميتافيزيكيات فأدوا بذلك خدمةً كبرىٰ للتحرّر لأنّهم قوّموا برنامجًا عمليًا للإصلاح ونماذج عمليةً للتعبير، وحدث البشر الذين كانت أفكارهم النهائية تختلف اختلافًا كبيرًا.

ولسوء الحظّ، وبالنظر لتقدّم النظرية العلمية، لم يعد من المستطاع إهمال علاقات التعاطف ببقية الأشياء. إنّ الطبيعة لا ترحم في عملية تطوّر الحياة، وهي تتحيّز، ومن هنا يتّضح أنّ «دين الإنسانية» يجب أن يستبدل بأساليب مجموعة متنوّعة مختارة من البشرية، وتستبدل عبارة «أعظم السعادة لأكبر عددٍ» بعبارة (القضاء الرحيم علىٰ الأنواع الدنيا).

وينكر هيوم أنّ هنالك أية «عاطفة ... مجرّدة لحبّ الإنسان للإنسان حبًّا مجرّدًا»، ويقدّم لنا العلم الحديث تفسيرًا مقبولًا لاعتبار مثل هذه العاطفة ضروريةً، بل إنّها تقف حجر عثرةٍ في طريق عملية التطوّر التي تقوم بإزالة الشوائب والحثالات؛ فإذا أُخضع قومٌ لهذه العاطفة فإنّهم لا بدّ متأثّرون بها في أعمالهم، ولكن ليس هنالك سببٌ يحملنا علىٰ أن نفرضها علىٰ أذهان الآخرين أو أن نغيّر تشريعاتنا لنخدم هذه العاطفة غير المقبولة، وأنا بالتأكيد أتّفق مع بنثام وكونت أكثر من اتّفاقي مع هذه الاستنتاجات التي اقتطفتها من هيوم وعلم الحيوان الحديث»[1].

كلام ألفريد وايتهيد هذا جديرٌ بالشرح والتحليل لسببين، هما:

أوّلًا: صراحة تقييمه بالنسبة إلىٰ ما توصّل إليه ديفيد هيوم حينما قال: «وينكر هيوم أنّ هنالك أية «عاطفة ... مجرّدة لحبّ الإنسان للإنسان حبًّا مجرّدًا»»، إذ إنّ نتيجة هذا

(300)

الكلام أنّه نزل بمستوىٰ الإنسان إلىٰ درجة الحيوانية المطلقة مما يعني أنّه حيوانٌ بكلّ ما للكلمة من معنىٰ.

ثانيًا: محور ما ذكره وايتهيد يمكن بيانه كما يلي:

1. ذكر في بادئ كلامه أنّ تأثير الفلسفة والدين دام لمدّة ألفي عامٍ باعتبارهما أساسًا للمثُل العليا في أوروبا الغربية، ثمّ تحدّث عن مرتبتهما العليا وثمرة السير علىٰ نهجهما.

2. بعد ذلك قال: «وقد اختلف هؤلاء الجزويت والكويكرز والأحرار فيما بينهم، ولكنّهم كانوا يدينون بعواطفهم نحو الإنسان -إنسانًا- للمشاعر العامّة التي أنتجها تأثير الفلسفة والدين المشترك»، أي إنّ الأوروبيين حتّىٰ وإن اختلفوا فيما بينهم، لكنّ نقطة اشتراكهم تكمن في أنّهم كانوا متأثّرين بالفلسفة والدين.

3. أكّد علىٰ أنّ جيريمي بنثام وأوغست كونت تقبّلا المشاعر العامّة المشار إليها أعلاه والناجمة من التأثير المشترك للفلسفة والدين، باعتبارها بداهاتٍ أخلاقيةً تبلغ الذروة وحقيقةً واضحةً لا تحتاج إلىٰ تبريرٍ أو إلىٰ فهمٍ كاملٍ وتامٍّ لعلاقتها ببقية الأشياء في إطارٍ ميتافيزيقي.

4. من المحتمل أنّ قوله: «لأنّهم قوّموا برنامجًا عمليًا للإصلاح ونماذج عملية للتعبير» يقصد منه بيان فحوىٰ نظريتي جيريمي بنثام وأوغست كونت باعتبار أنّهما قدّما خدمةً كبيرةً للإصلاح وحرّية التعبير من خلال البرنامج الذي أشار إليه؛ حيث قال بعد ذلك ما يلي: «وإذا لم تكن هذه الاستنتاجات تثبت شيئًا آخر، فإنّها تظهر أنّ بنثام وكونت كانا مخطئين في اعتقادهما بأنّهما عثرا علىٰ أساسٍ للأخلاق والدين والتشريعات يُخرج من الحساب كل المبادئ الكونية النهائية، فمن الناحية الظاهرية نجد أنّ عقائدهما التافهة معرّضةٌ للنقد والشكّ كتعرّض العقائد الميتافيزيكية لهما؛ ولم يكسبا شيئًا يمكن أن يقود إلىٰ الحقيقة حين أسقطا من حسابهما أفلاطون والدين»[1].

5. التطوّر العلمي لم يتمكّن من عزل العلاقات الأخلاقية والدينية عن جذورها الأصيلة مثل الميتافيزيقا؛ لأنّ العلم في بحوثه التي طُرحت حول حقيقة الحياة عجز عن إخضاع

(301)

الطبيعة لمساندة الضعفاء، فهناك اختلافٌ بين الأقوياء والضعفاء حسب القواعد الطبيعية، ومن ثمّ فالأقوياء فيها هم أصحاب القول الفصل في معترك الحياة بينما الضعفاء ليس لديهم سوىٰ نصيبٍ ضئيلٍ في هذا المضمار؛ لذلك فإنّ «دين الإنسانية» قد استبدل بـ«مجموعة متنوّعة مختارة من البشرية»، كما أنّ نظرية «أعظم السعادة لأكبر عددٍ» قد تغيّرت إلىٰ فكرة «القضاء الرحيم علىٰ الأنواع الدنيا».

نعم، الأفق الذي لاح من هذه النافذة للبشرية هو في الواقع منطق الغاب، وهنا بكلّ تأكيدٍ تصبح الحيوانات المفترسة وديعةً ومسالمةً.

6. ديفيد هيوم رفض فكرة كون كلّ عاطفةٍ حبًّا مجرّدًا للإنسان، وهذا الرأي المخرّب متقوّمٌ علىٰ رؤيته المتشائمة بالنسبة إلىٰ النفس والشخصية والأنا أو الروح الإنسانية، وهذا ما سنتطرّق إلىٰ بيانه في المباحث اللاحقة.

بناءً علىٰ ما ذكر لا يبقىٰ مجالٌ للاستغراب من تفنيد هيوم للعاطفة المجرّدة المكنونة في حبّ الإنسان للإنسان حبًّا مجرّدًا، بل الأمر يتجاوز هذا الحدّ بحيث يمكن القول بضرسٍ قاطعٍ إنّ أفكاره لها القابلية علىٰ تفنيد جميع القيم لكونه لا يعتقد بامتلاك الإنسان هويةً عنوانها «أنا»، لذا ليس من شأنه امتلاك حبٍّ أو أيّة ميزةٍ إنسانيةٍ ساميةٍ.

إذًا، لا ينبغي لديفيد هيوم بهذا النهج الفكري توقّع أنّنا نقبل نظريته ونعتبرها ذات قيمةٍ علميةٍ وفلسفيةٍ، سواءً علىٰ صعيد ما ذكرنا أو في أيّ مجالٍ آخر، إذ حينما ننكر دور الأنا أو الشخصية أو أيّ شأنٍ آخر يسهم في تعيين وجهة المنظومة العقلية ولا سيّما علىٰ صعيد المسائل العلمية والمنطقية والفلسفية، فما هو البديل المناسب هنا؟! ومن هذا المنطلق يثبت لنا عدم وجود أيّ أمرٍ يضمن صحّة آرائه.

7. وضّح هيوم معالم العلم الحديث بشكلٍ مموّهٍ، فيا ترىٰ ما السبب في عدم حاجة الإنسان لمثل هذه العاطفة حسب زعمه؟ المقصود هنا العاطفة المتعالية للمحبّة وارتباطها بالميتافيزيقا، فالعلم الحديث علىٰ ضوء ما يجري في عالم الطبيعة من تدنيسٍ لحقوق الضعفاء من قبل الأقوياء، لا يعير أهميةً للإنسانية التي تمنح الأصالة لحبّ الناس بعضهم بعضًا ولسائر القيم الأصيلة السامية؛ وعلىٰ هذا الأساس فهو يجرّد العاطفة المذكورة من أصالتها، ويتجلّىٰ تمويهه في أنّه يستعرض الظواهر الطبيعية ويتجاهل الإنسانية رغم أنّها

(302)

أكثر كمالًا وعظمةً من الطبيعة، وبهذا التوجّه فهو يمسخ التكامل ويجرّده من معناه ولا يتورّع من ادّعاء أنّ عاطفةً كهذه تحول دون تشذيب عملية التكامل الطبيعي الحيواني علىٰ أساس فكرة أنّ جميع أشكال العظمة والرقي الإنساني لها القابلية فقط علىٰ عرقلة مسيرة الحيوان الكبير وليس الإنسان العظيم.

8. غاية ما يضيفه كلٌّ من جيريمي بنثام وأوغست كونت للعاطفة المشار إليها أنّ من يمتلكها سوف يعمل بها، مما يعني أنّها ظاهرةٌ شخصيةٌ باطنيةٌ، لذا لا داعي لأن نحمّلها علىٰ أذهان الآخرين أو أن نغيّر تشريعاتنا خدمةً لها؛ فالقيام بذلك برأيه يعدّ أمرًا غير منطقي بمعنىٰ أنّه يختلف عن النهج الفكري العلمي الذي تبنّاه بنثام وكونت علىٰ أساس نزعتهما الطبيعية.

وعلىٰ الرغم من ذلك فقد قارن وايتهيد بين النظريتين واعتبر نظرية بنثام وكونت هي الأرجح لكونها تمنح الأصالة للأخلاق والقيم السامية بحدّ ذاتها بغضّ النظر عن العلل والمبادئ المتعالية، لذلك أكّد علىٰ أنّه يتّفق معهما أكثر من اتّفاقه مع استنتاجات هيوم وعلم الحيوان الحديث والتي تتجاهل القيم الأصيلة السامية بالكامل.

الأفكار والمفاهيم المجرّدة

قال برتراند راسل في كتابه تأريخ الفلسفة الغربية: «وثمّة قسمٌ (الكتاب الأوّل، الجزء الأوّل، القسم السابع) عن الأفكار المجرّدة، يبدأ بفقرةٍ تنمّ عن اتّفاقٍ مؤكّدٍ مع نظرية بيركلي عن كون جميع الأفكار العامّة ليست إلا أفكارًا جزئيةً ملحقةً بلفظٍ معينٍ يعطيها دلالةً أوسع ويجعلها تستدعي عند الاقتضاء أفرادًا أخرىٰ تشبهها»، ثمّ نقل عن هيوم قوله: «وليس صحيحًا أنّ الذهن لا يمكنه أن يصوغ أيّ تصوّرٍ عن الكمّ أو الكيف دون أن يصوغ تصوّرًا دقيقًا لدرجات كلٍّ منهما، هب أنّك رأيت إنسانًا طوله ستّة أقدامٍ وبوصة واحدة، فإنّك تحتفظ له بصورةٍ، ولكن يحتمل أن تصلح هذه الصورة لإنسانٍ أطول أو أقصر بمقدار بوصةٍ»[1].

أوّل إشكالٍ يُطرح علىٰ نظرية جورج بيركلي وهيوم هو أنّنا حينما نتصوّر المفهوم الكلّي لإنسانٍ ما علىٰ ضوء علمنا الحصولي بهيئة تصوّرٍ انعكاسي في الذهن، سوف تنعكس في ذهننا بعض خصوصيات المفهوم الجزئي للإنسان وليس كلّها.

(303)

الإشكال الثاني الذي يُطرح في هذا المضمار فحواه أنّ القضيتين المشار إليهما - الجزئية والكلّية - لم تؤخذ فيهما هوية أحد الأعداد بعين الاعتبار، مثل 2 أو 3 أو 10 أو 100، ولا شكّ في أنّ هوية الأعداد لا تتمثّل في كتابتها بالكلمات (اثنين أو ثلاثة أو عشرة أو مئة)، فهي لدىٰ البشرية جمعاء وفي جميع اللغات واحدةٌ حتّىٰ وإن اختلفت ألفاظها وطريقة كتابتها من لغةٍ إلىٰ أخرىٰ؛ ومن هذا المنطلق لا نجد أيّ أثرٍ أو ظهورٍ للمعدود في هوية العدد، كما ليس له أيّ مفهومٍ كلّي مجرّدٍ في هذه الهوية. هذا يعني أنّ المفاهيم المجرّدة تتضمّن مفهومًا معينًا علىٰ أقلّ تقديرٍ، مثل الإنسان الذي هو في واقعه ليس شجرةً وليس بحرًا ولا أيّ شيءٍ آخر سواه؛ حتّىٰ إنّه غير موجودٍ ضمن عدده. فضلًا عمّا ذكر، فالصفر (0) سواءً كان مستقلًا أو مدرجًا ضمن أعداد أخرىٰ، مثل (2001) ليس فيه أيّ تعيّنٍ للهوية العددية.

الإشكال الثالث المطروح هنا محوره أنّنا من خلال تغيير كلمة «كلّي» واستبدالها بمصطلحٍ أوسع نطاقًا في دلالته، سوف لا ينتج لدينا معنىٰ عام وكلّي يتجاوز إطار المصاديق الجزئية والمحدودة؛ لذا لا يمكننا إثبات صواب نظرية بيركلي وهيوم علىٰ أساس هذا التغيير، فقد أشارا إلىٰ أنّ الدلالة الأوسع للفظ تجعله يشمل أفرادًا أخرىٰ تشبهه، في حين أنّ جميع الأفراد المتشابهة لا توجد في الذهن بشكلٍ فعلي ولا سيّما إذا لم تكن محدودةً ومتناهيةً. إنّ تغيير الكلمة في هذا السياق يذكّرنا بتغييرٍ آخر للكلمة في الفلسفة التراثية حسب نظرية زينون الإيلي الذي غيّر كلمة «الحركة» إلىٰ «السكونات المتتالية»، حيث اتّبع هذه المغالطة لأجل نقض الحركة من أساسها.

وأمّا الإشكال الرابع فنوضّحه علىٰ ضوء المثال التالي: حينما نرىٰ شيئًا من مكانٍ بعيدٍ، ونظرًا لبعد المسافة بيننا وبينه نتصوّر شبحًا له في ذهننا دون أن نتعرّف عليه بهيئته الواقعية، لذلك نحتمل أن يكون حجرًا أو إنسانًا علىٰ سبيل المثال، وفي هذه الحالة نتردّد في تعيين ما إن كان حجرًا حقًّا أو أنّه إنسانٌ، لكنّنا علىٰ يقينٍ باستحالة وجود كائنٍ بهذا الشكل، أي إنّنا متأكّدون من عدم وجود هويةٍ مردّدةٍ بين الحجر والإنسان في عالم الواقع، وذلك أنّ كلّ شيءٍ في الخارج له هويته الخاصّة التي يتشخّص بها بحيث لا يمكن أن ينطبق علىٰ غيره. الشبح الذي يتبادر إلىٰ ذهننا من بعيدٍ في هذا المثال هو في حقيقة الحال إمّا أن يكون حجرًا وليس إنسانًا، أو إنسانًا وليس حجرًا، إذ لا يوجد كائنٌ في عالم الخارج يمكن أن يوصف بأنّه «حجر أو إنسان».

(304)

إذًا، بعد تقرير ما ذُكر نطرح السؤال التالي علىٰ بيركلي وهيوم: هل الموجود في عالم الخارج حسب الفرضية المذكورة، هو حجرٌ أو إنسانٌ أو شيءٌ آخر؟ لو قلتما ليس لما ذكر وجودٌ في عالم الخارج، فقد أنكرتما الحقائق القطعية الثابتة، لكون الذهن أدرك وجود شبحٍ لشيءٍ شاخصٍ من بعيدٍ عن طريق حاسّة البصر.

ولو قلتما إنّه موجودٌ في عالم الخارج، يرد عليكما الإشكال التالي: معرفتنا بتلك الحقيقة الخارجية لا تتجاوز كونها معرفةً بشبحٍ محضٍ لا يحكي شيئًا عن ماهيتها الحقيقية؛ لأنّ الشبح بحدّ ذاته لا يمكن اعتباره حقيقةً يقينيةً موجودةً علىٰ أرض الواقع. إذًا، ما هي تلك الحقيقة؟

لا يمكن لبيركلي وهيوم ادّعاء أنّ ما نرىٰ شبحه عن بعدٍ يجسّد حقيقةً واحدةً تحت عنوان «حجر أو إنسان»، إذ إنّ وجود كذا شيءٍ يعدّ مستحيلًا كما ذكرنا آنفًا؛ وبالتالي لا بدّ لهما من الاعتراف بإمكانية وجود إحدىٰ الحقائق التي لا ندرك سوىٰ تشخّصٍ جزئيّ منها، لكنّنا إن أردنا معرفة مفهومها الكلّي، يمكننا القول: صحيحٌ أنّنا غير قادرين علىٰ تصوّر مفهومٍ كلّي في ذهننا لشيءٍ ما دون مشاهدته وتصوّر شبحه، مثلًا لا يمكننا تصوّر المفهوم الكلّي للإنسان وانتزاع مفهومه في الذهن دون مشاهدة أحد البشر، وكما أنّ لنا القدرة علىٰ معرفة العدد الحقيقي حينما نلاحظ أشياء عدّة بحيث نستطيع تصوّر مليارات الأعداد دون أدنىٰ حاجةٍ إلىٰ تصوّر أقلّ معدودٍ في الذهن؛ كذلك هو الحال بالنسبة إلىٰ المفهوم الكلّي. من خلال مشاهدتنا أشخاصًا بالتحديد، تتنشّط قدرة التجريد الكلّية في ذهننا فنتمكّن عندئذٍ من تشخيص المفهوم الكلّي لها دون قيدٍ.

الواقع أنّ ذهن الإنسان خلال عملية إدراكه للكلّي يقوم بنشاطٍ سريعٍ للغاية، وهذه السرعة لا يمكن تصوّرها، ونتيجته هي معرفة مفهومٍ كلّي لأحد المواضيع؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ تحقّق هذا النشاط السريع يقتضي رشدًا ذهنيًا يتيح للعقل القدرة علىٰ بلوغ درجةٍ عليا من التجرّد، بحيث يتمكّن من معرفة المفهوم الكلّي للأشياء علىٰ غرار إدراكه لحقيقة العدد في معزلٍ عن أدنىٰ الخصوصيات الجزئية وحتّىٰ بدون امتلاك صورةٍ خاصّةٍ ومشخّصةٍ له؛ وهذا المعنىٰ بطبيعة الحال يمكن أن يصدق علىٰ الإدراك الكلّي لأنّ كلّ واحدٍ من المفاهيم الكلّية يُنتزع من ماهيةٍ معينةٍ، مثل الإنسان والماء والنجوم، وغير ذلك؛ لذا حينما يقوم الذهن بإدراك الكلّي عادةً ما يتكوّن لديه شبحٌ إجمالي من خصوصيات أفراد هذا الكلّي والتي هي

(305)

في غالب الأحيان قد شوهدت من قبله، ولكن لا يتولّد لديه أي إحساسٍ أو تصوّرٍ بالنسبة إلىٰ عدد هذه الأفراد التي تمثّلت له بهيئة أشباح.

ما يثير الدهشة أنّ ديفيد هيوم أقرّ بوجود الله تعالىٰ الذي هو أكثر الحقائق تجرّدًا، لكنّه لم يتمكّن من إدراك وجود المفاهيم الكلّية والأنا المجرّدة التي هي في الواقع متعيّنةٌ إلىٰ حدٍّ ما؛ حيث قال بخصوص الله تعالىٰ ما يلي: «معرفة الله وعبادته ... وجميع العبادات الأخرىٰ هي أفعال لا جدوىٰ منها حقًّا، فهي خرافاتٌ، حتّىٰ إنّها هتكٌ للحرمة»[1]. إلىٰ أن قال: «الألوهية بحرٌ زاخرٌ بالبركة والعظمة، والفكر البشري عبارةٌ عن أنهارٍ ضيّقةٍ نابعةٍ من هذا البحر، ولكنّها رغم جريانها وكأنّها تائهةٌ، تتمنّىٰ بأن تعود إلىٰ ذلك المنبع وتفني وجودها في وجوده اللامتناهي، وبما أنّها ترىٰ الطريق مسدودًا أمامها... فهي تتناثر بخشيةٍ ورجاءٍ في المساحات الرحبة المحيطة بها»[2].

فهم حقيقة الأنا أو «الشخصية»

نقل برتراند راسل عن هيوم أنّه قال: «فمن جانبي، عندما أدخل دخولًا حميمًا للغاية فيما أدعوه نفسي، فإنّني أتعثّر دائمًا عند هذا الإدراك الجزئي أو ذاك؛ الحرارة أو البرودة، الضوء أو الظلّ، الحبّ أو الكره، الألم أو اللّذة؛ فأنا لا أمسك بنفسي البتّة في أيّ وقتٍ بدون إدراكٍ، ولا يمكنني البتّة أن ألاحظ أيّ شيءٍ ما عدا الإدراك»[3]، ثمّ نقل عنه كلامًا لاذعًا بشأن ادّعاء الفلاسفة بالقدرة علىٰ فهم حقيقة النفس في إطارٍ ساخرٍ، حيث قال: «يمكنهم أن يدركوا أنفسهم، ولكن إذا طرحنا جانبًا بعض الميتافيزيقيين من هذا القبيل، يمكنني أن أجازف بالقول وأؤكّد بالنسبة لسائر أبناء البشر أنّ هذه النّفوس ليست إلا حزمةً أو مجموعةً من الإدراكات المختلفة التي يعقب كلٌّ منها الآخر بسرعةٍ لا يمكن تصوّرها، والتي تكون في تدفّقٍ دائمٍ وحركةٍ دائمةٍ»[4].

هناك مؤاخذاتٌ ترد علىٰ نظرية ديفيد هيوم التي تمّ تقرير مضمونها في العبارات أعلاه، وهي كالتالي:

(306)

الإشكال الأوّل: يرد علىٰ زعمه بكون جميع البشر غير قادرين علىٰ معرفة النفس، فهذا الكلام يعني تجريد جميع أفراد الجنس البشري من النفس (الأنا، الشخصية، الذات، الروح)، وهذا الكلام بطبيعة الحال يعتبر ادّعاءً عامًا، بينما البرهان الذي استند إليه في تفنيد قدرة الإنسان علىٰ معرفة نفسه المسقلّة الكامنة في باطنه هو برهانٌ خاصٌّ.

إذًا، إضافةً إلىٰ أنّ هيوم كما قال راسل: «لا يعتبر التأريخ ميدانًا نزيهًا من الأغراض والمقاصد»[1]، فهو لا يرىٰ ضرورةً لمراعاة انطباق الدليل علىٰ المدّعىٰ في التعميم والتخصيص في المباحث الفلسفية؛ وما يدعو للتعجّب أنّه بهذا الوضع النفسي الخاصّ (عدم إدراكه لنفسه في باطنه) بادر إلىٰ التنظير للبشرية جمعاء! حيث اعتبر بني آدم مجرّد حزمةٍ من الإدراكات، حيث قال: «... حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة التي يعقب كلٌّ منها الآخر بسرعةٍ لا يمكن تصوّرها، والتي تكون في تدفّقٍ دائمٍ وحركةٍ دائمةٍ»؛ وهنا يأتي كلام سيجموند فرويد حين قال: «يدّعي البعض أنّهم يمتلكون إدراكًا غيبيًا، لكنّني حينما تأمّلت في حقيقة نفسي لم أجد ذلك! ولكن مع ذلك لا يمكننا نفي هذا الأمر عن الآخرين». كما نلاحظ فإنّ فرويد يحتاط أكثر من هيوم ويؤكّد علىٰ أنّ عجزه عن فهم حقيقة ذاته لا يعدّ دليلًا علىٰ عجز سائر الناس عن ذلك.

الإشكال الثاني: الذي يرد علىٰ نظرية ديفيد هيوم المذكورة يكمن في أنّه لا ينكر حجّية القواعد المنطقية في العلوم والفلسفة، لذا لو تجرّأ وأنكرها مثلما أنكر النفس فسوف تنتفي جميع آرائه ونظرياته الفكرية والفلسفية ولا يبقىٰ لها أيّ اعتبارٍ، لذا من البديهي أنّه ما لم توجد لدىٰ الإنسان قدرةٌ باطنيةٌ مشرفةٌ تفوق التصورات والقضايا والمسائل التي يدركها، من المستحيل له امتلاك فكرٍ منطقي تامٍّ لا يكتنفه أيّ حذفٍ واختيارٍ شخصي في تنظيم أجزاء القضايا.

الإشكال الثالث: الذي يُطرح علىٰ هيوم يتمحور في السؤال التالي: ما هي تلك الحقيقة التي تعتبر عاملًا أساسيًا لتنظيم الباطن وتتولّىٰ بدقّةٍ تنظيم الأجزاء والحركات الباطنية والخارجية كي تحافظ علىٰ بقاء الحياة ودوامها في جميع جوانبها؟

للإجابة نقول: هذه الحقيقة -العامل- هي في الواقع النفس (الأنا، الشخصية، الذات)، فهي التي تتكفّل بصيانة الذات والحفاظ علىٰ بقائها ودوامها.

(307)

وأمّا الإشكال الرابع في هذا المضمار فهو يُطرح علىٰ ضوء السؤال التالي: يا ترىٰ تلك الشهرة الأدبية التي كانت حلمًا لديفيد هيوم طوال حياته، تتعلّق بأيّ إدراكٍ لم يكن هيوم يرىٰ سواه في نفسه؟!

فحوىٰ هذا الإشكال تتّضح أكثر فيما لو تمعّنا بكلام هيوم الذي ذكرناه في باكورة البحث، وهو: «يمكنني أن أجازف بالقول وأؤكّد بالنسبة لسائر أبناء البشر أنّ هذه النفوس ليست إلا حزمةً أو مجموعةً من الإدراكات المختلفة التي يعقب كلٌّ منها الآخر بسرعةٍ لا يمكن تصوّرها، والتي تكون في تدفّقٍ دائمٍ وحركةٍ دائمةٍ». وهنا يطرح السؤال التالي أيضًا: ما هو ذلك العامل الكامن في باطن هيوم بحيث يجعله محبًّا للشهرة؟ من المؤكّد أنّه ليس الجلد واللحم والعظام والشعر وسائر المكوّنات المادّية للبدن؛ لذا يجب البحث عن هذا الحبّ في باطنه، فقد أكّد بنفسه علىٰ أنّ باطنه وباطن البشرية جمعاء لا شيء فيه سوىٰ مجموعةٍ أو حزمةٍ من الإدراكات.

إذًا، هل يمكننا تصوّر أنّ سلسلة إدراكات هيوم -باعتبارها حقيقةً كلّيةً غير منتزعةٍ من أمرٍ واحدٍ- لها القدرة علىٰ حبّ شيءٍ، وهي التي أحبّت الشهرة؟!

كذلك لو قلنا: يمكن لمجموعةٍ من الإدراكات الباطنية أن تنشئ حقيقةً واحدةً لها القابلية علىٰ حبّ الشهرة، ففي هذه الحالة ينتقض رأي هيوم الذي زعم فيه أنّ باطنه ليس سوىٰ مجموعةٍ أو حزمةٍ من الإدراكات.

وأمّا الإشكال الخامس الذي يرد علىٰ ما ذُكر، فهو يترتّب علىٰ ادّعائه بكون الأديان الرائجة ذات تأثير سيّئ علىٰ الأخلاق، حيث قال: «... يضاف إلىٰ ذلك أنّ فعل كلّ جرمٍ يستتبع ندمًا وخشيةً خفيَّين يسلبان الطمأنينة من الروح...».[1]

ديفيد هيوم لم يوضّح في أطروحاته الفلسفية مراده من «الروح»، لكن من المؤكّد أنّه لا يقصد منها الإدراكات الباطنية كالشعور بالحرارة والبرودة، النور والظلام، الرأفة والحقد، اللذّة والعذاب؛ وسائر التصوّرات المكنونة في باطن الإنسان، لأنّ الطمأنينة بالنسبة إليها لا تعني شيئًا بتاتًا.

(308)

وهو في كلامه هذا يذكر بصريح العبارة أنّ «الروح» موجودةٌ، وبالتالي يثبت كونها حقيقةً باطنيةً مستقلّةً رغم أنّه نقضها بالكامل في نظرياته؛ فقد نقل عنه قوله: «... كلّ أمرٍ يُعجز ضمير الإنسان أو يجعله في اضطرابٍ يزيد من الميل نحو الخرافة؛ ولا شيء سوىٰ طبع الرجولة الفذّة يصوننا من الأحداث الأليمة والأحزان، ولا شيء مثله يعلّمنا الصبر والتحمّل؛ فهي التي تقضي علىٰ تلك الإرهاصات الباطنية التي تجعل الإنسان يشعر بالعجز والاضطراب. حينما تكون روح الإنسان مشرقةً ومطمئنّةً بهذا الشكل، سوف لا يبقىٰ مجالٌ لظهور أشباح الألوهية المزيّفة، ومن ناحيةٍ أخرىٰ فإنّنا عندما نلقّن أنفسنا تلقيناتٍ طبيعيةً ونجعل قلوبنا مضطربةً وخائفةً، سوف ننسب لها كلّ طبعٍ ينشأ في أرواحنا من تلك الخشية التي تؤرّقها وكلّ نزوةٍ نراها تشبع رغباتنا البدنية ...».

كلمة «روح» في هذه العبارات والعبارة السابقة، تكرّرت ثلاث مرّاتٍ، وكلمة «طبع» تكرّرت مرّتين، وكلمات «ضمير» و «قلب» و «نفس» ذكرت مرّةً واحدةً؛ ومن البديهي أنّ حقيقة هذه المفاهيم لا يمكن أن تكون موجودةً في باطن هيوم وسائر البشر، لأنّ هذا المفكّر الغربي ألقىٰ نظرةً علىٰ باطنه ولم يجد فيها سوىٰ مجموعةٍ من الإدراكات!

المسألة الهامّة الجديرة بالذكر في هذا المضمار تتمحور حول ما يلي: لو قيل إنّ ديفيد هيوم بذل جهودًا لا طائل منها بغية وضع معاني خاصّة لمفاهيم الروح والطبع والضمير بحيث اعتبرها -من باب فرض المحال - جزءًا من مجموعة الإدراكات، فهذه الجهود التصوّرية بالنسبة إلىٰ النفس ليست لها أيّة ثمرةٍ تذكر بكلّ تأكيدٍ، إذ ليس من شأن أيّ جزءٍ من أجزاء مجموعة الإدراكات أن يكون عرضةً للتلقينات الطبيعية ولا يمكن أن يتأثّر باضطراب القلوب الخائفة.

لتوضيح ما ذكر نقول: كما أنّ تصوّر القمر في الذهن لا يمكن أن يكون تلقينيًا، كذا هو الحال بالنسبة إلىٰ فهم مقدار العدد والأشكال الهندسية والقضايا الشخصية والكلّية، فهي ليست تلقينيةً.

وبعبارةٍ أخرىٰ: تلقيناتنا لا يمكنها أن تغيّر لون القمر ولا حجمه، فليس من شأنها أن تجعله صغيرًا أو كبيرًا، كما لا تأثير لها علىٰ المسافة الفاصلة بيننا وبينه حينما نتصوّره؛ كذلك فالمحبّة والبغض، والبهجة والحزن، هي أمورٌ لا يمكن أن تخضع للتلقين. الأمر الذي يتقبّل التلقين هو النفس أو الأنا، فالنّفس الإنسانيّة لها القابليّة في التأثير علىٰ الإدراكات والمعلومات التي تستقرّ في الباطن عن طريق التلقين.

(309)

إذًا، نفس الإنسان هي التي تتلقّىٰ التلقين فيما يخصّ الإدراكات والمعلومات.

والإشكال السادس الذي يرد علىٰ نظريّة ديفيد هيوم، فهو منبثقٌ من دليلٍ علمي بخصوص المقارنة بين أجزاء النّفس، وذلك كما يلي: كلّ إنسانٍ يمتلك نشاطًا عقليًا معتدلًا، فهو قادرٌ علىٰ تحليل جميع أجزاء شخصيّته المادّية الخارجيّة والنفسية الباطنية، كما أنّه يمتلك القابلية علىٰ المقارنة بين جميع هذه الأجزاء أو بعضها.

الإنسان حسب المعايير المتعارفة قادرٌ علىٰ تحليل طبيعة بنية يديه ورجليه وتركيب هيكله العظمي، كذلك بإمكانه تحليل طبيعة خشيته وطمأنينته ومشاعره ونمط تفكيره المنطقي وأهدافه وإرادته وقراراته التي يتّخذها وتداعي المعاني في ذهنه ومحبّته وبغضه، وما إلىٰ ذلك من قضايا أخرىٰ، حيث يمكنه المقارنة بين بعضها أيضًا، فيتأمّل في نفسه قائلًا علىٰ سبيل المثال: هل إنّ أفكاري المنطقية هي الأكثر في مسيرة حياتي أو أنّ تداعي المعاني أكثر منها؟ هل ينبغي لي أن أرجّح التعقّل في سلوكياتي أو عليّ أن أتّبع إحساساتي؟ هل يجب أن تتناغم إرادتي مع القرارات التي أتّخذها أو لا؟

وفي خضمّ هذه التساؤلات يُطرح الاستفسار التالي: ما هي تلك الحقيقة أو العامل الذي يوجد القدرة علىٰ المقارنة بين الأجزاء الباطنية في النفس؟ قد يقال إنّ العقل هو الذي يتولّىٰ هذه المهمّة، لكن هنا سرعان ما يتبادر التساؤل التالي في الذهن: لو أردت مقارنة نشاطاتك العقلية مع جزءٍ أو عددٍ من الأجزاء المكوّنة لقابلياتك الباطنية، فيا ترىٰ من هو الحكم الذي له صلاحية البتّ بالنتيجة النهائية هنا؟ لو قلت إنّ الحكم هنا عبارةٌ عن قابليةٍ مجهولةٍ موجودةٍ في العقل ولم تتمكّن البشرية من استكشافها حتّىٰ الآن، سوف يطرح عليك السؤال التالي أيضًا: إن أردنا البحث والتحليل بشأن المقارنات التي تقوم بها هذه القابلية المجهولة التي تمتلك القدرة علىٰ التحكيم لنتأكّد من مدىٰ صحّة أو سقم نتيجتها، فمن هو الحكم الذي يبتّ بالموضوع هنا؟! وهكذا تتوالىٰ الأسئلة واحدًا تلو الآخر، فلو أردنا معرفة مصداقية الحكم المذكور في السؤال الأخير، سوف يتبادر نفس السؤال حول من يمتلك الحق بالبتّ في ذلك.

إذًا، هذه الخلجات الباطنية ليست لها أيّة إجابةٍ شافيةٍ، لذا لا محيص لك من القول: نفسي أو «أناي» هي التي تتولّىٰ الحكم في كلّ مرحلةٍ من المراحل المذكورة، إذ إنّ أحد أبعادها

(310)

ينشط ويؤدّي مهمّته، وكلّما يبلغ هذا النشاط مراحل أعلىٰ، سوف يتجلّىٰ تجرّد نفسي «أناي» واستقلالها أكثر فأكثر؛ وحينها تجعل جميع الأجزاء والقابليات الباطنية لديك في بوتقة المقارنة والتقييم، وعندئذٍ يتّضح الاستقلال والتجرّد بشكلٍ أفضل.

قانون العلّية

مسألة العلّية تعتبر واحدةً من أشهر المسائل الفلسفية التي تمكّن ديفيد هيوم من خلالها أن يبلغ مقصده المنشود المتمثّل في نيل الشهرة بين الناس[1].

شكّك هذا المفكّر الغربي بقانون العلّية الذي كان ثابتًا لدىٰ عامّة الناس والمفكّرين والعلماء والفلاسفة منذ أقدم مراحل تأريخ المعرفة البشرية، حيث رام نقضه؛ وبالفعل فقد تمّ نقضه من قبله ومن قبل أشخاص آخرين.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ فحوىٰ قانون العلّية كما يلي: كلّ كائنٍ مسبوقٍ بعدمٍ أو بكيفيةٍ تختلف عن كيفيته الحالية لا يمكنه أن يلج ساحة الوجود دون علّةٍ؛ وعكس ذلك أنّ كلّ كائنٍ أو حدثٍ يبلغ مرحلة إنتاج المعلول أو أيّ تغييرٍ آخر عند اجتماع الشروط والمقتضيات وارتفاع الموانع، فهو يجب وأن يلج في ساحة الوجود.

هذا القانون ذُكرت عليه مؤاخذاتٌ في رحاب أربعة آراء، كالتالي:

1. تشكيك ديفيد هيوم بالحقائق الخارجة عن نطاق الحسّ.

2. اختيار الإنسان.

3. الحركات غير الجبرية العلّية في الجسيمات الأساسية.

4. حركة الخلقة المتواصلة من جانب الله عزّ وجلّ.

(311)

وفيما يلي نذكر تفاصيل هذه المؤاخذات:

الرأي الأوّل: تشكيك ديفيد هيوم بالحقائق الخارجة عن نطاق الحسّ

تحدّث هيوم عن قانون العلّية قائلًا: «قانون العلّية عبارةٌ عن قانونٍ ضروري يتجاوز نطاق الحسّ، وهو ليس تجريبيًا، وإنّما منتزعٌ من المشاهدات والتجريبيات ويتعلّق بالاستقراء، فكثرة هذه المشاهدات الباطنية المتواصلة تثبت قضيةً كلّيةً باعتبارها قانون علّيةٍ؛ وليس لهذا القانون منشأ سوىٰ المشاهدة، وأمّا من الناحية العقلية فلا ضرورة لوجود معلولٍ معينٍ وراء كلّ علّةٍ معينةٍ».

الباحث الغربي كارل بوبر طرح نظريةً علىٰ غرار ذلك، حيث قال: «قوانين العلم هي مجرّد فرضياتٍ متعلّقةٍ بما يحدث... يا ترىٰ هل هناك قوانين قطعية حاكمة علىٰ الكون أو لا؟ أنا أعتبر هذا السؤال ميتافيزيقيًا، فجميع القوانين التي نستكشفها هي في الحقيقة مجرّد فرضياتٍ لا أكثر، إذ يمكن نقضها في جميع الأحوال. أعتقد بأنّ العلّية ذات طابع ميتافيزيقي، ولا تجسّد سوىٰ صياغة فرضيةٍ ميتافيزيقيةٍ من القواعد المعتبرة في علم النفس»[1].

بما أنّ مبدأ الريبة (عدم الحتمية أو عدم التأكّد) قد طُرح علميًا في الفيزياء الحديثة من قبل العالم فيرنر هايزنبيرغ (المولود سنة 1901م)، في حين أنّ ديفيد هيوم ولد في القرن الثامن عشر؛ لذا ليس من الصواب أن يُنسب رأيه حول العلّية إلىٰ الطرح العلمي المذكور؛ حيث نستشفّ من مجمل آرائه الفلسفية أنّ نشاطه الفكري عبارةٌ عن نقدٍ فلسفي. ومهما يكن الأمر، ينبغي لنا في بادئ الأمر إجراء دراسةٍ نقديةٍ حول آراء هيوم النقدية كي نرىٰ ما الذي فعله بالنسبة إلىٰ العلّية إلىٰ جانب تأكيده علىٰ ضرورة التزام جانب الدقّة والتمحيص من قبل الفلاسفة الذين يأتون بعده.

الإشكال الذي يرد علىٰ هيوم يمكن تقريره كما يلي:

أوّلًا: خلال نقده الذي طرحه حول قانون العلّية، كان قادرًا علىٰ اتّخاذ خطوةٍ جديدةٍ حينما قال: لا بدّ وأن نأخذ بعين الاعتبار قدرتنا الفكرية المحدودة عندما نتحدّث عن قانون العلّية، كما لا ينبغي لنا الغفلة عن أنّنا نتعامل مع حقائق الكون الباطنية والخارجية في نطاق نظامٍ منفتحٍ  -غير مغلقٍ- لذا يجب علينا الإذعان إلىٰ حقيقةٍ فحواها أنّ ما نعتبره علّةً لإيجاد

(312)

معلولٍ ما في ظروفٍ معينةٍ، ربّما لا يكون علّةً لنفس هذا المعلول في ظروفٍ أخرىٰ، وهذا التغيير في الحالة ناشئ من عوامل عديدة مثل فقدان الشروط ووجود موانع.

علىٰ سبيل المثال نحن علىٰ علمٍ بأنّ تماس شعلة النار مع الجسم الجاف القابل للاشتعال يؤدّي دائمًا إلىٰ احتراقه؛ إلا أنّه لا يحترق عندما يكون رطبًا، إذ وجد مانعٌ هنا حال دون ظهور المعلول؛ وهذا بطبيعة الحال لا يعني خرق قانون العلّية.

كذلك لو كانت المسافة بين شعلة النار والجسم الجاف أكثر مما هو لازم لاشتعاله، من المؤكّد أنّنا في هذه الحالة لا نجد معلولًا باسم «احتراق»، وهنا أيضًا لا يمكن القدح بقانون العلّية، وإنّما فُقد أحد شروط ظهور المعلول والذي يتمثّل في المسافة المناسبة بين شعلة النار والجسم الجاف.

استنادًا إلىٰ ما ذكر، فالذين يعتبرون حقائق الكون تدور في نظامٍ مغلقٍ، لهم القدرة علىٰ إبداء آرائهم بحزمٍ في مجال تعيين قضايا العلّة والمعلول؛ فحينما نرىٰ الحقائق تجري في إطار نظامٍ غير مغلقٍ (مفتوح) سوف يتّسع أفق رؤيتنا حول العلّية، وإثر ذلك نعتقد بضرورة الأخذ بنظر الاعتبار تلك الظروف الخاصّة عندما نسعىٰ إلىٰ تعيين مجموعةٍ من الأجزاء بصفتها علّةً لمجموعةٍ أخرىٰ من الأجزاء التي نعتبرها معلولًا لها، وهنا لا ينبغي لنا بتاتًا اعتبار أنّ المجموعة الكذائية علّةٌ دائمةٌ أو مطلقةٌ لتلك المجموعة التي هي معلولةٌ؛ وعلىٰ هذا الأساس فإنّ ما يقتضيه العلم والفلسفة هو أن نقول: المجموعة المكوّنة من (أ، ب، جـ، د) في الحالة (ل) تكون علّةً لمجموعةٍ أخرىٰ من الأجزاء (هـ، و، ز، ح)، ولكن ليس علىٰ نحوٍ مطلقٍ.

أدلّ دليلٍ يمكن الاعتماد عليه لإثبات ما ذُكر، هو أنّ معلوماتنا حول أجزاء العلّة والأحداث المرتبطة بها والتغييرات التي تطرأ عليها مع مرور الزمان، كلّما ازدادت سوف يتزايد معها صواب توقّعاتنا بالنسبة إلىٰ المعلول؛ ولو أنّ ديفيد هيوم أخذ بنظر اعتباره حقيقة أنّ «العالم» يختلف عن مسألة «معرفة العالم» لكان نقده الفلسفي أكثر فائدةً.

ثانيًا: المسألة الأخرىٰ التي بقيت غامضةً في مجال التوجّهات الفكرية التي تبنّاها ديفيد هيوم، تتلخّص فيما يلي: لو لم تكن هناك أيّة علاقةٍ علّيةٍ ضروريةٍ بين العلل  والمعلولات، ولم يحدث في عالم الوجود سوىٰ توالٍ وتعاقبٍ للأحداث؛ فهذا يعني إمكانية صدور كلّ شيءٍ من أيّ شيءٍ كان! مثلًا يمكن لشجرة الجوز أن تثمر عن قطارٍ مكوّنٍ من قاطرةٍ ومئات العربات

(313)

المليئة بأعدادٍ كبيرةٍ من ديفيد هيوم وبروتاغوراس وسائر الشكوكيين، ثمّ من الممكن لهذا القطار أن يتحوّل إلىٰ عارضةٍ زجاجيةٍ مليئةٍ بالتماثيل الذهبية التي كانت قبل ذلك مسافرين!

ثالثًا: هناك حقيقةٌ لا يمكن التغاضي عنها بوجهٍ، وفحواها أنّ احتمال عدم التأثير الضروري لأجزاء العلّة علىٰ المعلول يتكافأ مع الاحتمال التالي: يمكن لـ (أ) أن يكون (ب) في الوقت نفسه، بل حتّىٰ يمكنه أن يكون عدم (أ) يعني نقيضه! لذا لو افترضنا أنّ (أ) هو أحد أجزاء العلّة التي افترضناها، فهو من شأنه أن يتغيّر إلىٰ (ب) حتّىٰ بدون حدوث أيّ تغييرٍ من قبل العوامل المؤثّرة؛ وهذا يعني أنّ حقيقته تتّصف بإمكانية التحوّل إلىٰ ضدٍّ أو نقيضٍ.

طبقًا لهذه الفرضيّة سوف لا يبقىٰ لدينا أيّ أمرٍ حقيقيّ ولا بروتاغوراس ولا هيوم، ومن ثمّ لا يمكنهما تحمّل عبء نقض الحقيقة التي اعتبراها مجرّد تصوّرٍ.

رابعًا: الإشكال الآخر الذي يرد علىٰ الوجهة الفكرية لديفيد هيوم نقرّره كما يلي: لنفترض أنّ تحقّق وجود معلولٍ ما، أو كما قال هيوم نفسه: علىٰ فرض وجود حادثةٍ سابقةٍ تسفر عن وجود حادثةٍ تاليةٍ «معلول» يؤدّي إلىٰ انعدامه فجأةً! فيا ترىٰ هل باستطاعة هيوم هضم هذا التناقض؟

الرأي الثاني: اختيار الإنسان أو إرادته

هناك العديد من الآراء التي طُرحت لبيان حقيقة مسألة التخيير في الشخصية الإنسانية، نذكر منها ما يلي:

أوّلًا: أمرٌ يتحقّق بواسطة الضمير العام للناس الذين يملكون قابليات عقلية ونفسية معتدلة.

بما أنّ فهم الاختيار يعدّ فهمًا أصيلًا بالكامل، لذا لا يمكن إنكاره أو التشكيك به عن طريق نقاشاتٍ خياليةٍ وتلاعبٍ بالألفاظ.

ثانيًا: شعورٌ باطني بالمسؤولية إزاء التكاليف بغضّ النظر عن العوامل والدوافع الجبرية الخارجية.

ثالثًا: شعورٌ بالندم بعد ارتكاب كلّ ما هو مذموم.

(314)

رابعًا: معيارٌ للقيم الشخصية، مثل الفضائل الأخلاقية والعدل والحرّية الحقيقية وسائر الخصال الشخصية الحميدة.

خامسًا: شعورٌ بالخجل عند القيام بأفعالٍ قبيحةٍ.

إذًا، استنادًا إلىٰ هذه الآراء وآراء أخرىٰ، يثبت لنا وجود فعلٍ يصدر من الإنسان ويوصف بأنّه اختياري مقابل بعض الأفعال الإنسانية الانفعالية والعادية والاضطرارية والإكراهية والإجبارية.

الفعل الاختياري عبارة عن سلوكٍ يصدر من الإنسان تحت إشراف شخصيته وسلطتها، وهو إمّا أن يكون سلبيًا أو إيجابيًا، وللردّ علىٰ من تمسّك بالفعل الاختياري لإنكار قانون العلّية، نقول: إنّ صدور أبسط الأفعال الاختيارية ليس ممكنًا دون علّةٍ ودافعٍ محرّكٍ للفاعل، فهو لا يصدر بمحض الصدفة لكونه حقيقةً كسائر الحقائق والأحداث في عالم الوجود، ومن هذا المنطلق لا بدّ وأن يكون مقرونًا بعلّةٍ؛ لكن غاية ما في الأمر أنّ الحركة العلّية في باطن الإنسان والمنبثقة من ميزات شخصيته الإنسانية لا تُعتبر كالحركة العلّية في عالم الطبيعة.

بيان ذلك أنّ الشخصية الإنسانية حينما تبذل كلّ ما بوسعها لإبراز قدراتها وقابلياتها لدىٰ مواجهة الدوافع الباطنية والعوامل المحرّكة الخارجية، فهي بكلّ تأكيدٍ تتأثّر بها وتصدر معلولًا يتناسب معها؛ ومن المؤكّد أنّ هذه الشخصية هي التي تجعل الإنسان يواجه الدوافع والعوامل المحرّكة بشكلٍ يختلف عمّا تفعله سائر الحيوانات.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ الإنسان يرفض جميع أشكال الإقرار والاعتراف، سواءً طُلب ذلك منه باحترامٍ ورجاءٍ أو بضغطٍ وتعذيبٍ، فهو بطبعه لا يرغب بذلك؛ وفي مثل هذه الحالات لو وجد في باطنه مقدارٌ ضئيلٌ للغاية من الدافع الباطني للمقاومة الطبيعية - ولنفرض أنّه بمقدار عشرين بالمئة - فالشخصية الإنسانية من شأنها أن تصدر النسبة المتبقية والتي تبلغ ثمانين بالمئة.

وأمّا بالنسبة إلىٰ الإرادة والإقدام علىٰ القيام بفعلٍ لا يستبطن أيّ هدفٍ طبيعي بصفته دافعًا وعاملًا محرّكًا، فالشخصية لها القابلية علىٰ القيام به لكونها تمتلك في ذاتها مسألة اتّخاذ القرار والإرادة للإقدام علىٰ الفعل؛ ومثال ذلك اتّخاذ الإنسان قرارًا بتسلّق جبلٍ لبلوغ قمّته الشاهقة دون أن يفكّر بتحقيق أيّ نفعٍ من وراء ذلك ودون أن يخشىٰ من الأضرار الناجمة عنه، حيث يروم من ذلك إثبات وجود شخصيته وقدرته وإرادته.

(315)

دور الشخصية في صدور الفعل الاختياري من قبل الإنسان لا يجعل هذا الفعل جبريًا، وإنّما الجانب الخارجي من العلّة والذي له تأثيرٌ بصدور المعلول (الفعل) خارج نطاق الشخصية يكون مستعدًّا لهذه العملية في حين الجانب العلّي الآخر يتمثّل بنشاط الشخصية الإنسانية التي إن كانت سالمةً ولم تنحرف عن مسارها الأصيل، فهي في هذه الحالة تدرك حقيقة جميع القيم والمسؤوليات، ولديها شوقٌ عارمٌ للخير والكمال وبلوغ الأهداف المتعالية طوال حياتها؛ وعلىٰ هذا الأساس يؤكّد المتخصّصون في العلوم الإنسانية الحقّة وأئمّة المذاهب وعلماء الأخلاق غاية التأكيد علىٰ أهمية التربية والتعليم وتقوية الشخصية الإنسانية بغية تفعيل القابليات التكاملية فيها بصفتها حقيقةً ساميةً.

قد يعترض معترضٌ قائلًا إنّ الفعل الاختياري غير موجودٍ من الأساس لكونه يصدر بتأثيرٍ من العلّة التامّة بشكلٍ جبري، وبعض أجزائه فقط لها ارتباطٌ بالشخصية الإنسانية.

ونحن بدورنا ندحض هذا الاعتراض قائلين: ذلك الجزء من العامل المتعلّق بشخصية الإنسان والموجد للفعل الاختياري هو في الحقيقة ليس جزءًا مكوّنًا لعلّة صدور الفعل، إذ لا يمكن لأيّ شرطٍ أو عاملٍ أو أيّ مقتضٍ خارجي أن يمتزج مع نشاط شخصية الإنسان حتّىٰ وإن كان جزءًا من علّة صدور الفعل. وبيان ذلك أنّ هذه الأمور تتّصف بحيثيةٍ محرّكةٍ لدىٰ الإنسان عندما تكون ذات ارتباطٍ بشخصيته، ولنفترض أنّ فعلنا الاختياري هو النشاط الزراعي، فهذا الفعل بطبيعة الحال يتقوّم علىٰ عامل - دافع - باطني يحفّزنا علىٰ السعي لتوفير متطلّبات المعيشة عن طريق الزراعة، كما يتقوّم علىٰ مقتضٍ يتمثّل في وجود أرضٍ صالحةٍ للزراعة، وعلىٰ شرطٍ أو عدّة شروطٍ من قبيل إصلاح التربة واستثمار الماء بشكلٍ صائبٍ، وإلخ؛ ولكن بما أنّنا علىٰ علم بكون الزراعة هي فعلنا الاختياري، لا نعتبر كلّ واحدٍ من هذه الأمور علّةً لازمةً وكافيةً لعملية الزراعة، كما لا نعتبرها كذلك وهي مجتمعةٌ؛ بل اللازم في استثمارها هو سلوك الشخصية بحدّ ذاتها والذي لا يعدّ جزءًا من العلّة، فهي بهذا العمل تتحمّل المسؤولية وحينما تخطئ سوف تندم علىٰ ما فعلت، وعندما تحقّق نتيجة إيجابية من مساعيها الخالصة، ففي هذه الحالة يصبح فعلها ذا قيمةٍ.

العنصر الأسمىٰ في الفعل الاختياري

مبادرة الشخصية إلىٰ القيام بالفعل تكشف في الواقع عن عدم تحقّق أيّ تأثيرٍ لسائر الأمور (المقتضي والشرط والعامل المحرّك نحو الهدف...)، وعلىٰ هذا الأساس تتجلّىٰ في الأفعال

(316)

الاختيارية ضرورة توفّر العوامل والدوافع وسائر الأمور المرتبطة بكلّ فعلٍ؛ ولكن عدم وجود هذه الأمور لا يجعل الفعل جبريًا، فالفعل الناشئ من ذات الشخصية الإنسانية كاشفٌ بحدّ ذاته عن عدم كونه جبريًا.

وقد تحدّث الباحث الغربي ماكس بلانك عمّا ذكر وأيّده في كتابه «إلىٰ أين يتّجه العلم؟»، وفيما يلي نشير إلىٰ جانبٍ ممّا قاله:

الأطروحة الأولىٰ: «الحقيقة الثابتة في هذا العالم الذي لا يمكن فيه تحديد حجم الفكر والمادّة، فحواها وجود نقطةٍ واحدةٍ فحسب لا غير، وهي أنّ العلم وما يترتّب عليه من أسلوبٍ عِلّي في البحث العلمي، لا يمكن تطبيقه من الناحيتين المنطقية والعلمية، وسوف يبقىٰ كذلك إلىٰ الأبد. وهذه النقطة هي عبارةٌ عن وجود الشخصية الفردية التي نعبّر عنها بالأنا، وهي صغيرةٌ في عالم الوجود، لكنّها بحدّ ذاتها تجسّد عالمًا رحبًا يعمّ حياتنا العاطفية وإرادتنا وفكرنا. بلدي هو مصدر لأشدّ معاناةٍ في حياتنا، وفي الحين ذاته يعتبر مصدرًا لأرفع درجات البهجة والسرور، والقدرة المصيرية لا تأثير لها علىٰ هذا البلد، وعندما نتمكّن من التخلّي عن الإشراف علىٰ أنفسنا والتجرّد من الشعور بالمسؤولية نكون قد أعرضنا عن الحياة باختيارنا»[1].

نستشفّ ممّا قاله بلانك أنّ الأنا ذات هويةٍ عظيمةٍ، لذلك جعلها في مرتبةٍ تفوق درجة العوامل الجبرية المرتبطة بالمصير.

الأطروحة الثانية: «غالبًا ما نتذكّر أنّنا في طفولتنا كنّا نبتعد عن بعض الناس، والسبب في ذلك يعود إلىٰ خلجاتٍ باطنيةٍ بعدم الأمن والطمأنينة حينما نكون علىٰ مقربةٍ منهم؛ ومن ناحيةٍ أخرىٰ أعتقد أنّ الكثير منّا لديه ذكرياتٌ من بعض الأقارب، لذلك نحاول أن نكون بقربهم بكلّ رغبةٍ وشوقٍ لأنّنا نكنّ لهم غاية الاحترام في ضمائرنا.

كلّ إنسانٍ لديه دواعٍ معينة تجعله يرغب في الابتعاد عن أولئك الذين شاع عنهم أنّهم لا يكتمون أسرار الآخرين، وجميع هذه الأفعال المباشرة تدلّ علىٰ اعترافٍ غريزي بكون حياتنا في نهاية المطاف خاضعةً للعلّية؛ وعلىٰ الرغم من أنّ «الأنا» من حيث مصيرها المباشر لا يمكن أن تكون تابعةً لهذا القانون، فالعلم في هذه الحالة هو الذي يسوقنا نحو دهليزها ويتركنا وشأننا هناك بحيث يجعلنا تحت إشراف قوىٰ أخرىٰ.

(317)

العلّية قلّما تعيننا في سلوكياتنا التي تبدر منّا ضمن حياتنا الشخصية، فهي تبقىٰ كذلك حتّىٰ وإن وضعنا قانونًا حديديًا متقوّمًا علىٰ أصولٍ منطقيةٍ بحيث تكون له القدرة علىٰ الحيلولة بيننا وبين وضع أُسسٍ عِلّيةٍ لمستقبلنا، كما أنّه يمكّننا من التنبّؤ بالمستقبل بنمطٍ يناظر حاضرنا»[1].

نستشفّ من كلام ماكس بلانك أنّه يؤكّد علىٰ عدم تبعية «الأنا» لقانون العلّية، لكنّه لم يكمل تحليله بحيث بقي كلامه ناقصًا.

الأطروحة الثالثة: نظرية الريبة «عدم الحتمية أو عدم التأكّد» في الفيزياء المعاصرة؛ منذ أوائل القرن العشرين شاعت بين بعض المفكّرين والباحثين في الفيزياء المعاصرة فكرة أنّ الجسيمات الدقيقة في عالم الطبيعة لا تخضع لقانون العلّية، وأوّل من طرحها هو العالم الغربي فيرنر هايزنبيرغ في عام 1927م.

ويمكن تقرير الاستدلالات علىٰ صعيد ما ذكر في إطار ثلاثة محاور أساسية كالتالي:

1. مبدأ عدم الحتمية حسب رؤية فيرنر هايزنبيرغ.

2. الطبيعة الاحتمالية لفرضيات ميكانيكا الكم فيما يخصّ حركة الجسيمات الدقيقة.

3. حركة الإلكترونات التناوبية في اختبارات الانحراف...

مبدأ عدم الحتمية الذي طُرح من قبل فيرنر هايزنبيرغ في عام 1927م يدلّ علىٰ قانونٍ ثابتٍ فحواه أنّ الجسيمات الدقيقة ليس لها القابلية علىٰ امتلاك إحداثياتٍ ومقدارٍ لحركةٍ معينةٍ في آنٍ واحدٍ...

فيرنر هايزنبيرغ ونيلز بور استنتجا من مبدأ عدم الحتمية -في فرضياتهما الأولىٰ علىٰ أقلّ تقديرٍ- أنّ التقييم التامّ للإحداثيات وسرعة الذرّة الدقيقة غير ممكنٍ في آنٍ واحدٍ، فكلّما تمكّنا من تحديد إحداثيات الذرّة بشكلٍ دقيقٍ، لا محيص حينها من فقدان الدقّة التامّة في تعيين سرعة حركتها؛ والعكس صحيحٌ، أي مهما دقّقنا في تحديد السرعة سوف يتضائل احتمال الدقّة في تحديد الإحداثيات؛ وعلىٰ أساس هذا التفسير لعدم الحتمية استنتج هايزنبيرغ أنّ المسائل الذرّية غير خاضعةٍ لقانون العلّية.

(318)

ويمكن تلخيص استدلالاته في إطار القياس المنطقي التالي:

المقدّمة الكبرىٰ: لو علمنا بوضعية نظامٍ ما في لحظةٍ معينةٍ تندرج ضمن زمانٍ محدّدٍ، ففي هذه الحالة سوف نعلم بوضعه المستقبلي.

المقدّمة الصغرىٰ: لا يمكن تحديد إحداثيات إحدىٰ الجسيمات الدقيقة وسرعتها بدقّةٍ وفي آنٍ واحدٍ، لذا ليس من الممكن تعيين وضعها الأوّل في هذا الإطار.

النتيجة: لا يمكن تحديد الوضع المستقبلي للذرّة.

وبكلامٍ آخر فإنّ قانون العلّية لا يشمل حركة الجسيمات الدقيقة[1].

هذه النظرية ترد عليها المؤاخذات الأساسية التالية:

الإشكال الأوّل: ينبغي لمن طرح هذه النظرية الالتفات إلىٰ أنّ «الكون» يختلف عن «معرفة الكون»، أي إنّنا في المضمار المعرفي ندرك بالبداهة مدىٰ الفرق بين مفهومَي «لا أرىٰ» و«لا أعلم» مع مفهوم «لا حقيقة له»، ولو أذعّنا بأنّ البشرية في بداية القرن العشرين قد اتّخذت خطواتها الأولىٰ - المحدودة نطاقًا - في عالم الجسيمات المكوّنة للطبيعة، فسوف نقرّ بأنّ معلوماتنا في هذا العالم المستكشف حاليًا محدودةٌ للغاية.

الإشكال الثاني: هذا الإشكال في الحقيقة يمكن اعتباره من جهةٍ علّةً للإشكال الأوّل، فالمحدودية والنسبية الضروريتان هما من جملة المعارف التي يطّلع عليها البشر عبر اطّلاعهم علىٰ الحقائق؛ وهما مرتبطتان بالعديد من العوامل وبما فيها تنوّع علاقات الإنسان الحسّية بعالم المادّة طبقًا لاختلاف موقعه الجغرافي؛ فنحن علىٰ سبيل المثال غير قادرين علىٰ مشاهدة قمّة جبلٍ من مسافةٍ بعيدةٍ فيما لو كنّا عاجزين عن رؤيتها من مسافةٍ قريبةٍ؛ كما أنّنا لا نمتلك القدرة علىٰ سماع أصواتٍ من جميع الأمواج الفيزيائية (الصوتية)، حيث يشترط في سماع كلّ صوتٍ بلوغه مقدارًا معينًا.

الميزات الذاتية والبنية العامّة لتجاربنا المختبرية، لها دخلٌ في مشاهداتنا وتجريبياتنا، فتوجّهاتنا الخاصّة في مجال معرفة الحقائق تحول دون ارتباطنا مع جميع أبعاد هذه الحقائق

(319)

ومستوياتها وإحداثياتها، كما أنّ مرتكزاتنا الفكرية لها تأثيرٌ بالغٌ علىٰ صعيد تعيين وجهة حواسّنا ونشاطاتنا الدماغية.

وبشكلٍ عامٍّ يمكن تلخيص ذلك فيما قاله الفيلسوف الصيني لاوتسي: «نحن في المسرحية الكبرىٰ للحياة ممثّلون ومشاهدون في آنٍ واحدٍ».

الإشكال الثالث: من البديهي أنّنا غير مخوّلين باعتبار أحد الكائنات أو الأحداث في عالم الوجود قد ولد عن طريق الصدفة، فهذا التصوّر يعتبر انعكاسًا لتصوّر إمكانية تحقّق التناقض الذي يعتبر أكثر الأصول بداهةً في العلوم والمعارف والمبادئ الفلسفية وحتّىٰ في التقنيات الحديثة ومختلف أنواع الفنّ.

وقد قيل حول هذا الموضوع ما يلي: الأمر الضروري هو الذي يتعيّن وجوده عن طريق طبيعة الشيء الباطنية، لذلك ليس من شأنه أن يكون غيرًا مباينًا لذاته الحقيقية؛ وما يحدث بالصدفة هو أمرٌ لم يتعيّن في الطبيعة الباطنية للشيء، وإنّما تعيّن بواسطة عاملٍ خارجي، لذا فمن شأنه أن يكون أو لا يكون.

الاختلاف بين ما هو ضروري وما حدث عن طريق الصدفة وضّحه أرسطو بشكلٍ دالٍّ حين قال: «الضرورة هي الموجودة في باطن الذاتي، بينما الصدفة ليست موجودةً فيه ولا ارتباط لها به، فالحالة التي تتقوّم علىٰ مؤثّرٍ خارجي هي التي تتبلور فيها الصدفة، ولكن بما أنّها بشكلٍ عامٍّ قد انتظمت في آنٍ واحدٍ بتأثيرٍ من قبل عوامل خارجية وعلىٰ أساس طبيعتها الباطنية، فهي من هذه الناحية تتّصف بالضرورة والصدفة معًا».

الضرورة هي في الحقيقة تبلورٌ لطبيعة الشيء الباطنية، بينما الصدفة ليست سوىٰ انعكاسٍ للتأثير الخارجي؛ والضرورة تتجلّىٰ عن طريق الصدفة، والصدفة بدورها تبيّن الضرورة. كلّما اقتربنا من عالم الجسيمات الدقيقة، يتغيّر واقع العلاقة بين الباطن والخارج في حركة الشيء، وإلىٰ جانب ذلك تتغيّر العلاقة بين الضرورة والصدفة؛ وبالتالي يتزايد دور عوامل الصدفة في تنظيم الحركة الميكانيكية للكائنات، ومن ناحيةٍ أخرىٰ يتزايد دور الضرورة في تنظيم الخواصّ الفيزيائية لها[1].

(320)

رغم أنّ هذا التبرير ذُكر في إطار رؤيةٍ تحليليةٍ علميةٍ، لكنّ أصل المسألة المطروحة للنقاش بقي علىٰ حاله دون حلٍّ، وذلك لما يلي:

1. نظرًا لكون باطن الشيء وخارجه أمرين نسبيَين، لذلك لا يمكن تحديد خطٍّ فارقٍ بدقةٍ متناهيةٍ للتمييز بينهما، ومثال ذلك أنّ الشخص الذي يلحظ الأجسام في إطار ظواهر فيزيائية فقط، كما لو شاهد تفاحةً، فهو يعتبرها في ذاتها (باطنها) تفاحةً، ومن حيثيتها الخارجية فهو يلاحظ الهواء المحيط بها ومدىٰ سلامة الغصن المتدلية منه أو هزالته، فهذه الأمور بطبيعة الحال لها ارتباطٌ بها؛ وهي حسب بنيتها يجب وأن تكون ذات أجزاء داخلية مثل الماء والسكّريات، وما إلىٰ ذلك من مكوّنات أخرىٰ.

إذًا، المكوّنات الظاهرية للتفاحة وما ناظرها هي تلك الأجزاء الخارجية، ولو واصلنا تفسيرنا وتحليلنا لواقعها سوف نلاحظ أنّ أجزاءها الداخلية تعتبر علىٰ غرار الأشياء الخارجية بالنسبة إلىٰ جسيماتها الدقيقة. هذا الإشكال (النسبية الباطنية والخارجية) واردٌ أيضًا بخصوص ما هو غير باطني، أي في المدرسة الفكرية القائلة إنّ جميع الأشياء تستبطن أضدادها في ذاتها؛ فأتباع هذه المدرسة لم يتمكّنوا حتّىٰ الآن من الإجابة عن إشكالية نسبية الباطن والخارج.

2. الضرورة التي توجب كون كلّ ما يرتبط بالذات متعينًا بشكلٍ جبري وضروري، تصدق علىٰ ذوات جميع الأشياء.

لنفترض أنّك بمقتضىٰ رغبتك الذاتية في طلب العلم تبادر إلىٰ كسبه، ولنتصوّر أنّ الظروف والعوامل المحيطة بك شاءت أن تختار علم الفيزياء، فأنت في هذه الحالة سوف تلتحق بجامعةٍ تمثّل كيانًا خارجيًا لذاتك، ثمّ تتلمذ علىٰ يد أستاذٍ هو في الواقع خارجٌ عن نطاق ذاتك، وبعد تخرّجك تعمل في مختبراتٍ هي الأخرىٰ خارجة عن ذاتك؛ فيا ترىٰ هل إنّ ارتباطك بهذه الأمور يمكن أن يكون محض صدفةٍ لكونها خارجةً عن نطاق ذاتك أو لا؟ من المؤكّد أنّ كلّ حالةٍ ذكرت في هذا المثال لا يمكن أن تُعدّ دليلًا علىٰ إمكانية حدوث الصدفة لمجرّد أنّها ارتبطت معك في كسب علم الفيزياء دون أن تمتزج مع الأجزاء المكوّنة لذاتك، ودون أن تمتزج ذاتك مع كلّ جانبٍ من جوانبها؛ فكلّ واحدةٍ من تلك الحالات قدر ارتبطت - وهي متّصفةٌ بميزاتها الضرورية - بنشاطك في كسب العلم، والشيء الذي لم يؤخذ بعين الاعتبار هو توليفها

(321)

بمجملها ضمن عملية كسب العلم، ومن البديهي أنّ عدم أخذ شيءٍ بعين الاعتبار من قبل أحد الناس، لا يسفر عن حدوث خللٍ فيه.

الأطروحة الرابعة: الإبداع الإلهي ودوامه في عالم الوجود:

بما أنّ إبداع الإله تبارك شأنه وتأثير فيضه علىٰ الكائنات يعتبران أمرَين ثابتَين لا زوال لهما، لذلك ليس من الممكن تصوّر أنّه تعالىٰ خلق الكائنات ووضع لها قوانين ومقرّرات ثمّ تركها وشأنها بحيث أصبحت في غنىٰ عن تأثيره وإرادته وفيضه، لأنّ المعيار (الحدوث أو الإمكان) في صدورها من قبله سبحانه لا يمكن أن يزول، فهو باقٍ علىٰ نحو الدوام والاستمرار، وهو في كلّ لحظةٍ في حدوثٍ دائمٍ؛ لذا ليست هناك أيّة ضرورةٍ ذاتيةٍ في وجود الكائنات المخلوقة بحيث تجعلها واجبةً وحتميةً في غنىٰ عن خالقها.

إذًا، كما أنّ المادّة المطلقة والحركة المطلقة والنظم المطلق هي أمورٌ لا وجود لها في العلم المادّي، كذلك ليست هناك أيّة ضرورةٍ عينيةٍ مطلقةٍ في عالم الطبيعة، بحيث تجعل عالم الوجود في غنىٰ عن إبداع الإله تبارك شأنه وفيضه المقدّس؛ وبيان ذلك أنّ الكائنات التي نتعامل معها في عالم الطبيعة هي عبارةٌ عن أشياء محسوسة ومحدودة ومرتبطة ببعضها، وليست هناك أيّة حقيقةٍ مطلقةٍ في الكون تجعل هذه الكائنات وغيرها مستغنيةً عن آثار الفيض الإلهي؛ لذلك قيل إنّ القوانين الحاكمة علىٰ الكون هي عبارةٌ عن قضايا كلّية تنتزع من حالاتٍ متشابهةٍ، وبما أنّ جميع الكائنات والحالات التي تطرأ عليها مرتبطةٌ بالله تعالىٰ، فقد وُصف سبحانه بأنّه المحافظ علىٰ القوانين.

نتيجة الرأي المتقوّم علىٰ استمرار إبداع الله تعالىٰ ودوام فيضه في عالم الوجود، هي عدم إمكانية إنكار قوانينه وضرورتها الثانوية في الكون، مما يعني أنّ جميع الكائنات في الوجود تجري بفضل مشيئة الله تعالىٰ وفيضه المتواصل، وخارطة هذا الجريان قد نُقشت علىٰ أساس قانون العلّية.

الوجود واللزوم

لا نبالغ لو قلنا إنّ تصنيف الحقائق إلىٰ وجودٍ ولزومٍ يضرب بجذوره في تاريخٍ سحيقٍ، حيث نلمسه في مباحث تقسيم الحكمة أو الفلسفة النظرية والعملية.

الجدير بالذكر هنا أنّ موضوع الحكمة النظرية هو الموجودات الواقعية بشكلٍ عامٍّ بغضّ

(322)

النظر عن الذهن وإدراك متطلّبات الإنسان التي حاول الفلاسفة فهم حقيقتها والتعرّف علىٰ جانبها الطبيعي في مرّ العصور.

وأمّا موضوع الحكمة العملية فهو تلك الأفعال التي نؤدّيها بمقضتىٰ قابلياتنا الذاتية، مثل التعقّل والأحاسيس والعواطف، أو التي نقوم بها بغية تحقيق أهداف حياتنا المادّية والمعنوية.

وبطبيعة الحال فقد طرحت العديد من النظريات والآراء علىٰ طاولة البحث حول تعريف الحكمتين النظرية والعملية وبيان إحداثياتهما، ولكن ما ذكرناه هو التعريف الجامع المشترك تقريبًا لجميع أجزائهما التي تقتضي الضرورة فهمها في مباحثنا الحالية.

بغضّ النّظر عن كثرة النقاشات واختلاف الآراء التي دارت حول تحديد مصاديق مواضيع الحكمة العملية، سوف نسلّط الضوء علىٰ القضية في إطارٍ جامعٍ مشتركٍ من منطلق كونها منشأً للازم والمناسب؛ وكما جاء في المبادئ الفلسفية الشرقية والغربية الأصيلة، فالحكمة النظرية -الفلسفة النظرية- عبارةٌ عمّا يلي: كسب العلم بأوضاع وإحداثيات الموجودات بحسب القابليات البشرية.

يُشار هنا إلىٰ أنّ بعض الحكماء لدىٰ تعريفهم ما ذكر، أضافوا مفهوم «الموجود كما هو» وقالوا: الفلسفة عبارةٌ عن العلم بحقائق الموجودات كما هي بحسب القابليات البشرية.

وكما هو معلومٌ، فالعلم بحقائق الموجودات كما هي إن لم يكن مستحيلًا، فهو صعبٌ للغاية وليس أقلّ شأنًا من المستحيل[1]؛ وعلىٰ هذا الأساس فالمفكّرون المطّلعون علىٰ حقيقة الموضوع اضطرّوا إلىٰ إضافة عبارة «بحسب القابليات البشرية».

(323)

الإنسان بارتباطاته الأربعة هو المحور الأساسي لمباحث الحكمة العملية التي تمكّننا من معرفة مختلف مواضيع الوجود واللزوم، وهذه الارتباطات عبارةٌ عمّا يلي:

1. ارتباط الإنسان بنفسه.

2. ارتباط الإنسان بالله تعالىٰ.

3. ارتباط الإنسان بعالم الوجود.

4. ارتباط الإنسان بأقرانه البشر.

وهي تبدأ من أدنىٰ ارتباطٍ أسري لتبلغ الأوسع نطاقًا والذي يعمّ العلاقات البشرية بشكلٍ عامٍّ علىٰ ضوء مفهومَي اللازم والمناسب.

ولا شكّ في أنّ الحكمة النظرية -الفلسفة النظرية- تتمحور مواضيع بحوثها حول حقائق عالم الوجود -الموجودات- بغضّ النظر عن مدىٰ إدراك الذهن البشري لها، ولم يدّع أحدٌ من الحكماء والفلاسفة الشرقيين والغربيين علىٰ مرّ التاريخ وإلىٰ يومنا هذا بأنّنا نبحث في رحابها عن مواضيع وهمية وقضايا اعتبارية لا حقيقة لها، وحتّىٰ أتباع المدرسة الفكرية المثالية Idealist الذين يزعمون عدم وجود عالمٍ خارج الذهن البشري ـ خارج نطاق الأنا الإنسانية ـ يقرّون أيضًا بوجود عالم الحقائق رغم قولهم بأنّ الحقيقة موجودةٌ في الذهن أو الأنا الإنسانية.

وبما أنّ موضوع الحكمة العملية يتمحور حول فعل الإنسان من حيث كونه خيرًا أو شرًّا، فهي تلج في مباحث اللزوم والنهي أو المناسب واللامناسب؛ وعلىٰ هذا الأساس توهّم البعض بأنّ المسائل المرتبطة بهذه الحكمة لا تدور في فلك الحقائق التي تتمحور حولها مسائل الحكمة النظرية، لذلك وصفوها بالاعتبارية أحيانًا، وفي أحيان أخرىٰ قالوا إنّها قيمٌ وأمورٌ عارضةٌ غير ثابتةٍ في الحياة؛ أضف إلىٰ ذلك فقد جرّد بعضهم هذه الحكمة من أصالة الحقيقة في نفسها.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ الغالبية العظمىٰ من الحكماء والمفكّرين الشرقيين والغربيين قد اتّفقوا علىٰ أصالة حقيقة الحكمة العملية ومختلف مسائلها باعتبارها متقوّمةً علىٰ العقل والضمير وضرورات الحياة المادّية والمعنوية؛ ونستشفّ من تقسيم الفلاسفة للحكمة أو الفلسفة إلىٰ نظريةٍ وعمليةٍ، أنّ كلا القسمين له القابلية علىٰ أن يُطرح للبحث والتحليل في رحاب القوانين العملية والفلسفية لأنّ كلّ واحدٍ منهما له مقسمٌ يتمثّل في الحكمة أو الفلسفة.

(324)

معارضة ديفيد هيوم الأسكتلندي لارتكاز مبدأ اللزومات والنواهي علىٰ الوجودات والأعدام

لقد رفض ديفيد هيوم فكرة أنّ اللزومات والنواهي ناشئةٌ من الوجودات والأعدام ولم يكن يرتضي بارتكازها علىٰ الحقائق المطروحة في رحاب القضايا التي ترتبط محمولاتها وموضوعاتها مع بعضها عن طريق الوجود والعدم.

الباحث الإيراني الدكتور مهدي حائري علّق علىٰ النصّ التالي من كتاب ديفيد هيوم «رسالة في الطبيعة البشرية[1]»:

«كما نلاحظ، فكاتب هذه السطور لم يغفل عن تلك الملاحظة الهامّة التي تعتبر بلا شكٍّ عاملًا مساعدًا لتوسيع نطاق سلسلة البحوث والتحليلات الفكرية حول النهج الفكري والتعقّل، ناهيك عن تأثيرها البالغ في فهم المبادئ الفلسفية».

كلّ نظامٍ أخلاقي اطّلعنا عليه حتّىٰ الآن، وجدناه يؤكّد غاية التأكيد علىٰ هذا الموضوع، ونبّهنا طلاب علم الفلسفة علىٰ أنّ علماء فلسفة الأخلاق حينما يطرحون مواضيع بحثهم ويتناولونها بالشرح والتحليل فإنّهم يبادرون في بدايتها إلىٰ اتّباع أسلوبٍ فلسفي متداولٍ ومتعارفٍ للبحث حول مسألة وجود الله تعالىٰ، وبهذا السبيل يطرحون نظرياتهم وآراءهم بالنسبة إلىٰ خصائص الإنسان وخصاله؛ ولكنّهم فور ولوجهم في عالم الفرضيات الأخلاقية سرعان ما يغيّرون هذا الأسلوب المتناغم مع المبادئ الفلسفية بشكلٍ يثير الدهشة، ومن ثمّ

(325)

لا نلفي أيّ أثرٍ للقضايا المنطقية واللا منطقيّة المعتمدة في صياغة المسائل الفلسفية؛ وفي هذا النهج الفكري لا توجد أيّة قضيةٍ أو مسألةٍ إلا وهي متقوّمةٌ علىٰ مفهومي اللّزوم والنّهي.

من المؤكّد أنّ هذا التحوّل الأساسي في فلسفة الأخلاق من حيطة الوجودات إلىٰ اللزومات، خارجٌ عن نطاق التبرير الحسّي، ولكن علىٰ أيّ حالٍ يجب الإذعان إلىٰ أنّه يعتبر آخر ثمرةٍ قطعيةٍ تُجنىٰ من البحوث الفلسفية في جميع المنظومات الفكرية الأخلاقية.

إذًا، يتّضح مما ذكر أنّ العلاقات الرابطة بين اللزومات والنواهي تحكي عن معنًىٰ سلبي أو إيجابي جديد من نوعه في عالم الفلسفة، ومن الضروري لنا بطبيعة الحال البحث والتحليل عن ماهيتها لمعرفة كيف تمّت صياغة تلك القضايا المتقوّمة علىٰ اللزوم أو النهي؛ وتزامنًا مع ذلك فلا محيص لنا من ذكر الأدلّة التي تتقوّم عليها نظرياتنا وآراؤنا لبيان كيف يمكننا وضع حلٍّ لمسألةٍ لا يمكن تصوّرها في ظاهر الحال، كما ينبغي لنا بيان كيفية حصول تلك العلاقات الجديدة مع اللزوم والنهي نظرًا لعدم وجود انسجامٍ بين العلاقات المنطقية للوجودات والأعدام، حيث يجب أن نعتمد علىٰ أسلوب القياس البرهاني.

كما ذكرنا آنفًا فإنّ الباحثين في علم الفلسفة بشكلٍ عام، لم يحذّروا من ازدواجية الأسلوب في البحث الفكري، ونحن هنا بصدد التأكيد علىٰ هذا الموضوع للقرّاء الكرام آملين بأن يكون تحذيرنا المقتضب وازعًا لتحقّق إدراكٍ بشأن الاختلاف الأساسي الحاصل بين الوجودات واللزومات، حيث نؤكّد علىٰ ضرورة تغيير المناهج العامّية في فلسفة الأخلاق لكونها لم تتمكّن حتّىٰ الآن من احتواء هذا الاختلاف، وذلك لكي يتسنّىٰ للباحثين بيان كيفيتها الواقعية علىٰ ضوء البحث والتحليل»[1].

فيما يلي نذكر أولًا إحدىٰ المسائل الهامّة في كلام ديفيد هيوم، ثمّ نتطرّق إلىٰ الحديث عن أصل الموضوع؛ لذلك نستهلّ البحث بأوّل عبارةٍ ذكرت في النصّ أعلاه، وهي: «كما نلاحظ، فكاتب هذه السطور لم يغفل عن تلك الملاحظة الهامّة التي تُعتبر بلا شكٍّ عاملًا مساعدًا لتوسيع نطاق سلسلة البحوث والتحليلات الفكرية حول النهج الفكري والتعقّل ...».

كان من المفترض بديفيد هيوم طرح رأيه وترك مسألة تقييمه للمفكّرين بحيث لا يؤكّد علىٰ وجود هكذا ملاحظةٍ ولا ينصح المفكّرين بأنّهم إن أرادوا الخوض في سلسلة هذه المباحث

(326)

الخاصّة بأسلوب التفكّر والتعقّل، يجب عليهم قبول رأيه. ظاهر كلام هيوم يدلّ علىٰ إضافة الملاحظة التي ذكرها إلىٰ سلسلة البحوث العلمية المذكورة؛ لأنّ هذه الملاحظة فضلًا عن إضافتها إلىٰ السلسلة المذكورة، فهي من الممكن أن تسفر عن تقييد الفكر الحرّ حينما يخوض المفكّر في مباحث العلاقات بين الوجودات والأعدام، وبين اللزومات والنواهي.

وقال بعد ذلك: «... ناهيك عن تأثيرها البالغ في فهم المبادئ الفلسفية»، ثمّ قال: «كلّ نظامٍ أخلاقي اطّلعنا عليه حتّىٰ الآن، وجدناه يؤكّد غاية التأكيد علىٰ هذا الموضوع، ونبّهنا طلاب علم الفلسفة علىٰ أنّ ...».

ديفيد هيوم كان قادرًا علىٰ بيان أصل الموضوع ولم يكن بحاجةٍ إلىٰ ذكر عبارة «ونبّهنا طلاب علم الفلسفة علىٰ أنّ ...»، فهذا الكلام ينمّ بحدّ ذاته عن شكلٍ من أشكال التحريك نحو الوجوب، إذ من المؤكّد أنّ الملاحظة التي ذكرها لا بدّ وأن تطرح للبحث والتحليل من قبل المفكّرين الذين يسعون إلىٰ فهم حقيقة الوجودات، لذا لم تكن هناك حاجةٌ لهذا التنبيه الذي يعدّ بدلالته نمطًا من أنماط الأمر.

اشتراك الوجودات واللزومات في مجرىٰ القوانين العلمية والفلسفية

الإنسان قادرٌ علىٰ استنتاج لزوم العدل وإحقاق الحقّ واحترام أقرانه البشر ليصبح عادلًا وداعيًا إلىٰ الحقّ ومحبًّا لأقرانه البشر من خلال لمسه النتائج العينية لهذه الحقائق الأكسيولوجية السامية؛ ولو أنّه اتّصف بها سيتمكّن من بسطها علىٰ أرض الواقع في رحاب مجتمعه، إذ إنّ جميع الحركات التكاملية في المجتمعات البشرية قد ارتكزت طبق هذه القاعدة علىٰ مرّ التاريخ؛ ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ اللزومات تنبثق من الوجودات، ومن ناحيةٍ أخرىٰ فالوجودات تنبثق من اللزومات.

العلم حسب النهج الفكري الذي تبنّاه ديفيد هيوم وأتباعه، هو الذي يتكفّل بالتطرّق إلىٰ القضايا التي توضّح الوجودات والأعدام، لذا فالمبادئ الأكسيولوجية خارجةٌ عن نطاقه؛ وقد دُوِّنت الكثير من الشروح وذُكرت العديد من الآراء لإثبات هذا الأمر، لذلك لا نرىٰ ضرورةً لتقريرها هنا ونكتفي بتسليط الضوء علىٰ الموضوع من زاويةٍ علميةٍ فلسفيةٍ.

في بادئ الأمر نرىٰ من الأنسب تعريف الموضوع العلمي، بعد ذلك المسألة العلمية والرأي

(327)

العلمي والقانون العلمي، ولكن نظرًا لكون هدفنا الأساسي من وراء طرح هذه المباحث هو تعميم الموضوع العلمي علىٰ جميع المواضيع التي يمكن للذهن البشري إدراكها باعتبارها حقائق معلومة، لذا سوف نترك تعريف الموضوع العلمي والمباحث المتعلّقة به بعد ذكر تعاريف وتفاصيل المسألة العلمية والرأي العلمي والقانون العلمي.

لا نقصد من التعريف هنا ذلك المعنىٰ الحقيقي المطروح في المنطق الكلاسيكي والذي يطلق عليه الحدّ التام[1]، وإنّما المراد منه ضربٌ من التوضيح والتفسير بغية فهم مباحث العلوم والقيم التي بادر بعض الغربيين خلال فترةٍ من الزمن إلىٰ الفصل بينهما، وما يدعو للأسف أنّ بعض الشرقيين قلّدوهم في ذلك.

قبل أن نطرح المباحث المتعلّقة بالتوضيح والتفسير -التعريف- نذكر المقدّمتين التاليتين:

المقدمة الأولىٰ:

للتعرّف علىٰ معنىٰ العلم، لا بدّ أوّلًا من معرفة حقيقةٍ ثابتةٍ فحواها أنّ الانعكاس الذهني والعلم يعتبران أقرب أمرين إلىٰ بعضهما بين مختلف النشاطات والأمور الذهنية، وفيما يلي نوضّح المراد منهما:

ـ الانعكاس الذهني: هو مطلق التصوير الذهني الشامل للإدراك الأوّلي والاستمراري[2]، حيث يشمل الإدراك العلمي والمدركات المحضة التي تمتاز بطابعٍ انعكاسي محضٍ؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ الإدراك العلمي يكون بطبيعته معلومًا من قبل النفس أو أنّه يشرف علىٰ الأنا في هكذا نمطٍ من الفهم[3].

(328)

ونتطرّق فيما يلي إلىٰ بيان معنىٰ العلم بحسب ما يقتضيه موضوع بحثنا:

- العلم: عبارةٌ عن فهم إحدىٰ الظواهر البارزة مثل إنسان أو شجرة أو طاولة أو قلم أو كتاب، إلخ؛ أو فهم حقيقةٍ غير بارزةٍ مثل العدل والجمال ومختلف القيم؛ أو فهم النسبة بين مواضيع ومحمولات القضايا الجزئية أو الكلّية، ولكن كما ذكرنا آنفًا، فهو ليس مطلق الانعكاس، وإنّما يتزامن مع ضربٍ من الإشراف علىٰ الموضوع الذي تدركه النفس أو الأنا أو أيّة قابليةٍ خاصّةٍ في الذهن لم نتمكّن من معرفتها حتّىٰ اليوم.

ننوّه هنا علىٰ أنّ ما ذُكر مشروطٌ بالتمييز بين العلم وبين انعكاس الأشياء في الذهن علىٰ نحو انعكاس الصور في المرآة، كذلك التمييز بينه وبين الإدراكات غير البارزة المحضة، مثل التأثّر الشعوري والعواطف وفهم حقيقة الجمال والقيم، في معزلٍ عن الإشراف الذي تحدّثنا عنه آنفًا.

النتيجة الهامّة التي نستحصلها من هذه المقدّمة فحواها ما يلي: لا يمكن اعتبار كلّ تصوّرٍ وفهمٍ علمًا، بل يشترط في اعتباره علمًا أن تشرف عليه النفس أو الأنا، لذا فالتصديق يعتبر علمًا حينما يتّمّ إدراك النسبة بين الموضوع والمحمول عن طريق الإشراف المشار إليه، وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ الحكم أو الإذعان الموجود في كلّ تصديقٍ لا يندرج ضمن مقولة العلم، بل هو حصيلة نشاط النفس أو الأنا، والذي يكشف عن العلم المصدّق لتحقّق أو عدم تحقّق النسبة بين الموضوع والمحمول.

جميع الإدراكات العلمية في الذهن تتضمّن مفهومًا مفردًا، لأنّ إشراف النفس ووعيها يعتبران شرطَين أساسيَين لأن يصبح المفهوم المدرَك علمًا، لذا لا يمكن لأيّ مفهومٍ مفردٍ أن يستقرّ في الذهن بصفته انعكاسًا محضًا، لأنّ كلّ مفهومٍ عبارةٌ عن تصوّرٍ شبيهٍ بإحدىٰ القضايا التصديقية، وهذا يعني أنّ كلّ تصوّرٍ علمي يمكن أن ينعكس في ماهية ذلك المفهوم، ومن ثمّ تتبلور هذه الماهية بشكلٍ عيني في رحاب الذهن الواعي. لنفترض أنّ الإنسان هو مفهومنا التصوّري، ففي هذه

(329)

الحالة نقول: بما أنّنا أدركنا هذه الموضوع فقد أدركنا في الواقع ماهيته ولو بشكلٍ إجمالي، ونظرًا لكوننا نمتلك وعيًا بأنّ هذا الموضوع قد تبلور في ذهننا؛ فهو يمسي معلومًا لدينا.

تعريف المسألة العلمية

المقصود من المسألة العلمية أنّها القضية التي تخبر عن حقيقةٍ في عالم الواقع، ويمكن إدراكها من قبل الحواسّ الطبيعية وسائر الوسائل المعرفية، حيث تتحصّل من قبل الذهن البشري بهدف توسيع نطاق المعرفة والتعمّق فيها؛ كما يمكن إدراكها بواسطة مدركات الذهن البشري بإشرافٍ ووعي من قبل النفس أو الأنا أو أيّة قابليةٍ ذهنيةٍ.

إذًا، يمكننا علىٰ أساس هذا التعريف للمسألة أو القضية العلمية أن نميّز بين طبيعة القضايا الوهمية والعلمية، إذ يمكن اعتباره أشمل وصفٍ وتفسيرٍ للمسألة العلمية من وجهة نظر العلماء القدماء والمعاصرين.

لو أنّ إحدىٰ القضايا العلمية تضمّنت موضوعًا جزئيًا، بمعنىٰ أنّه موضوعٌ شخصي متحقّق في عالم الحسّ، بحيث يمكن إدراكه بالحواسّ الطبيعية وسائر الوسائل المعرفية، فعندئذٍ يُطلَق علىٰ هذه المسألة أو القضية أنّها خارجيةٌ جزئيةٌ شخصيةٌ، مثل قضية غليان الماء عندما تبلغ حرارته مئة درجةٍ؛ وهنا يتّضح بأنّ كلّ علمٍ ينشأ في الذهن البشري هو عبارةٌ عن موضوعٍ معينٍ وليس انعكاسًا وتلقيًا محضًا، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأنّ العلم يندرج ضمن النشاطات الاكتشافية للنفس أو الأنا.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ الفلسفة التقليدية تتضمّن الكثير من المباحث المتنوّعة بخصوص معرفة الوجود الذهني بشكلٍ عام، وحقيقة العلم بشكلٍ خاص؛ كما تُطرح فيها مباحث حول شروط وخصائص نشوء العلم في الذهن البشري، لكن لا يسعنا المجال هنا لتسليط الضوء عليها.

المقدّمة الثانية: العلاقة بين العلم والعالـِم والمعلوم

كلّ واحدةٍ من هذه الحقائق الثلاثة لها ارتباطٌ بحقيقتين أخريين بحيث لا يمكن تصوّرها في منأىٰ عنهما؛ لأنّها تندرج ضمن المقولات الإضافية؛ وهذا يعني أنّنا غير قادرين علىٰ تصوّر علمٍ دون وجود عالِمٍ ومعلومٍ، ولا تصوّر عالِمٍ دون وجود علمٍ ومعلومٍ، ولا تصوّر معلومٍ دون وجود علمٍ وعالِمٍ.

(330)

ومن البديهي أنّ هذه الحقائق مكنونةٌ في باطن الإنسان علىٰ هيئة ثلاثة أشياء ليست منفصلةً عن بعضها، إذ ليس لكلّ واحدةٍ منها حدودها الخاصّة بها؛ فمن الواضح أنّ العلم والعالِم غير منفصلين عن بعضهما لكون العلم، كما ذكرنا في المباحث الآنفة، يعتبر نشاطًا اكتشافيًا للنفس أو الأنا في الذهن البشري، والواقع أنّ نسبة العلم إلىٰ ذات العالِم تعتبر كنسبة الأمواج إلىٰ البحر، لأنّ الأمواج لا تعكس وجودًا منفصلًا عن البحر، وذلك لكون العلم متقوّمًا بالعالِم الذي هو في الحقيقة انعكاسٌ للنفس أو الأنا أو أيّة قابليةٍ ذهنيةٍ أخرىٰ. وهذا المثال أشار إليه الشاعر جلال الدين الرومي (مولوي) في بعض أشعاره، حيث وصف الفكر بأنّه أمواجٌ من المعرفة، وذكر تشبيهًا حول الكلام والصورة الحاصلة منه لدىٰ العالم والمنعكسة في ذهن السامع، فقد شبّه هذه الصورة بأمواجٍ من الكلام، لذا يمكننا الاستدلال بهذا التشبيه علىٰ صعيد العلم والعالِم أيضًا؛ لأنّ العلم والعالِم والمعلوم هي أمورٌ متماثلةٌ حسب التحليل العلمي.

إضافةً إلىٰ ما ذُكر فالمعلوم بالذات الذي هو عبارةٌ عن ظهورٍ أو حقيقةٍ مكنونةٍ يدركها الذهن البشري، نسبته إلىٰ العلم كنسبة صورة الأمواج إلىٰ ذاتها، فهو واقعٌ في خارج الذهن الذي يتضمّن العلم، وهو متّحدٌ معه. وأمّا المعلوم بالعرض فهو يعكس تلك الحقيقة الموجودة لنفسها في خارج وعاء الذهن البشري، وقد علم الذهن بصورتها عن طريق النفس أو الأنا أو أيّة قابليةٍ ذهنيةٍ خاصّة؛ مثل الشجرة والإنسان والحجر وباقة الورد والمبنىٰ، وإلخ؛ وهو بطبيعة الحال لا يرتبط ماهويًا بالعلم والعالِم لكونه موجودًا في خارج نطاق الذهن وله مادّة وصورة وإحداثيات تترتّب علىٰ وجوده الخارجي فقط، فهذه الأمور التي تناظر النار والطعم والرائحة لا توجد ضمن نطاق الحقائق الذهنية لكونها من إحداثيات الوجود العيني - الخارجي- الذي لا يوجد في باطن الذهن.

بعد تقرير هاتين المقدّمتين، نتطرّق فيما يلي إلىٰ بيان المعنىٰ المقصود من المسألة والرأي والقانون العلمي.

ميزة المسألة العلمية

أهمّ ميزةٍ تتفرّد بها المسألة العلمية أنّ القانون الكلّي العلمي الخاصّ بها له القابلية علىٰ شمولها بالكامل، أو أنّها يمكن أن تكون واحدةً من موارده أو مصاديقه أو أفراده.

المسألة التي وضّحناها في مثال غليان الماء عند بلوغ حرارته مئة درجة، تنطبق مع القانون

(331)

الكلّي، ولكن هذا الانطباق لا يعني بطبيعة الحال أنّ كلّ ظاهرةٍ أو حادثةٍ تلاحظ في عالم الخارج يجب وأن تندرج بشكلٍ عملي ضمن قانونٍ محدّدٍ، إذ من الممكن أنّ القانون الخاصّ بهذه الظاهرة أو الحادثة ليس مكتشفًا حين طروئهما، ولكن هناك حقيقةٌ كلّيةٌ فحواها أنّ كلّ أمرٍ يحدث في عالم الخارج يكون خاضعًا لقانونٍ كلّي دون أدنىٰ شكٍّ فيما لو أمكن تكرار ما يشابهه أو أنّ الذهن البشري قد ارتبط معه إدراكيًا. وسوف نتطرّق إلىٰ بيان هذا الموضوع في المباحث اللاحقة.

تعريف الرأي العلمي وبيان ميزته

المقصود من الرأي العلمي هو طرح إحدىٰ القضايا الجزئية أو الكلّية في موضعٍ خاصٍّ ضمن ظروفٍ معينةٍ بحيث يمكن تحليله وبيان جوانبه علميًا، فحينما نطرح القضية التالية: «نحن الآن في فصل الربيع، وفيه تنمو الأشجار والأزهار، وتصبح النباتات خضراء قشيبة» فهذا يعني أنّنا طرحنا قضيةً يمكن تحليلها وبيان جوانبها علميًا، وكذا هو الحال حينما نتطرّق إلىٰ شرح وتحليل قضيةٍ كلّيةٍ في إطار هذا الوضع الخاص والظروف المعينة.

من البديهي أنّ إدراج كلّ قضيةٍ ضمن أحد الآراء العلمية لا يعني أنّها يمكن أن تُطرح فيه حقًّا، فنحن جميعًا نعلم بطرح المئات من القضايا - المسائل العلمية - النظرية والنظريات والفرضيات في مختلف المراكز والأوساط العلمية بزعم أنّها يمكن أن تطرح في إطارٍ علمي؛ لكنّها في واقع الحال غير مؤهّلةٍ لأن تُطرح علىٰ طاولة البحث والتحليل من حيثيةٍ علميةٍ بحتةٍ، ناهيك عن أنّ الكثير منها يتعارض مع ماهية العلم بأدلّةٍ تثبت ذلك، مثل نظرية الغريزة الجنسية التي طرحها سيجموند فرويد، ونظرية أوغست كونت التي أكّد فيها علىٰ اجتياز الإنسان ثلاث مراحل.

تعريف القانون العلمي وبيان ميزته

يا ترىٰ ما المقصود من القانون العلمي؟

العديد من النظريات طُرحت لبيان المعنىٰ المقصود من القانون العلمي، وكلّ منظّرٍ أو منظّرين عدّة تبنّىٰ واحدةً منها، ويبدو أنّ غالبيتها تتضمّن بُعدًا واحدًا أو أبعادٍ عدّة بخصوص تعريف القانون العلمي، مما يعني أنّها ليست متضادّةً ومتعارضةً مع بعضها؛ ونسوق مثالًا

(332)

كي يتّضح الموضوع بشكلٍ أفضل:

حينما يقول أحد المفكّرين: «القانون العلمي هو تلك القضية التي لها القابلية علىٰ التكرار في عالم الخارج»، فكلامه هذا لا يعني أنّه يعارض المفكّر الذي يقول: «القانون العلمي هو تلك القضية التي يمكن تطبيقها في العديد من الموارد، وتمتاز بكلّيةٍ شاملةٍ تعمّ أكثر من فردٍ ومصداقٍ».

الحقيقة أنّ مقصود كلا هذين المفكّرين هو أنّ إحدىٰ الظواهر أو الحوادث إن لم تنطبق علىٰ أكثر من مصداقٍ واحدٍ، فهي ليست ذات حيثيةٍ علميةٍ، إذ إنّ جميع المفكّرين والمنظّرين متّفقون علىٰ كون القضايا الجزئية المحدّدة والتي تحكي عن الحقائق الكامنة في الحوادث الجزئية المحدّدة، ليس فيها أيّ بعدٍ من أبعاد القانون العلمي حتّىٰ وإن استطعنا تحليلها وشرحها من وجهة نظرٍ علميةٍ باعتبارها مسائل علمية.

كما أنّ المفكّر الذي يقول: «كلّ قانونٍ علميٍ يثبت أنّ حدوث جميع الظواهر في عالم الخارج مشروطٌ بظروفٍ ومقتضياتٍ خاصّةٍ وعدم وجود موانع تسفر عن حدوث خللٍ في كلّ واحدةٍ منها»، فهو يطرح البُعد ذاته للقانون العلمي المطروح من قبل المفكّر الذي يقول: «لو انعدم النظم من عالم الوجود، سوف تنعدم جميع القوانين في المعرفة البشرية».

كما نلاحظ من النظريات المذكورة، فهي غير متعارضةٍ مع بعضها في مجال تعريف القانون العلمي، كما أنّها تؤيّد بعضها البعض من إحدىٰ الجهات، حيث تتضمّن تحليلًا وشرحًا مفيدين لواحدةٍ من الحقائق علىٰ ضوء آراء متنوّعة.

بعد هذه التوضيحات نذكر التعريف الخاصّ بالقانون العلمي والذي هو في غاية الأهمية:

القانون العلمي هو تلك القضية الكلّية التي تتبلور فيها ظاهرةٌ منتظمةٌ في عالم الوجود، وحدوث هذه الظاهرة منوطٌ بتحقّق شروطٍ ومقتضياتٍ خاصّةٍ بحيث يستحيل تحقّقها حتّىٰ مع انعدام شرطٍ أو مقتضٍ واحدٍ فقط؛ لأنّ هذا التحقّق يعتبر سببًا أساسيًا في حدوثها؛ ومن هنا تنشأ كلّية القانون، أي إنّ تلك الأمور ـ الشروط والمقتضيات ـ هي في حالة وجودٍ واستمرارٍ.

وكمثالٍ علىٰ ما ذكر نقول إنّ استنارة سطح الأرض المقابل للشمس يعتبر قاعدةً كلّيةً فيما لو استمرّت الظروف والمقتضيات الموجبة له، وبتعبيرٍ علمي فهذه الاستنارة تتّصف بالكلّية شريطة بقاء العلل والعوامل المسبّبة لوقوع سطح الكرة الأرضية في مقابل الشمس.

(333)

بناءً علىٰ ما ذُكر نستنتج ما يلي: الوجود المتواصل لعلل وعوامل وقوع سطح الأرض في مقابل الشمس يؤدّي بشكلٍ عام إلىٰ استنارته.

وفيما يلي نشير إلىٰ أربعة مواضيع هامّة تطرح في مبحثنا الحالي:

الموضوع الأوّل: السبب في واقعية القوانين العلمية 

الله سبحانه وتعالىٰ هو الذي أوجد النظم الحاكم علىٰ عالم الوجود وهو الذي يصونه ويحفظه من الخلل، لذا لو أنكرنا وجوده تعالىٰ ففي هذه الحالة لا يمكننا طرح أيّ تفسيرٍ معقولٍ لهذا النظم العظيم الذي يعتبر المصدر الوحيد للقوانين العلمية، إذ من البديهي أننا لا يمكننا نسبته إلىٰ أيّ أمرٍ آخر، فلا يوجد شيءٌ له القابلية علىٰ إيجاده سواءً في الماضي أو الحاضر. علىٰ سبيل المثال حينما نقول إنّك لا نمتلك أيّة خلفيةٍ علميةٍ أو تجربةٍ بالنسبة إلىٰ التفاحة الناضجة وهي في الشجرة، فسوف لن تتسنّىٰ لك معرفة أيّ قانونٍ بخصوص مراحل نضوجها في الماضي ولا بخصوص التحوّلات التي ستطرأ عليها فيما بعد؛ ومن المستحيل بمكانٍ معرفة ماهية هذه التفاحة سابقًا ولاحقًا عن طريق المشاهدة والتحليل التجريبي حتّىٰ وإن كانت استنتاجاتنا متناهيةً في الدقّة[1].

حتّىٰ لو افترضنا أنّك شاهدت في هذه الدنيا كائنًا واحدًا فقط دون أن تشاهد شبيهه، ففي هذه الحالة أيضًا لا يمكنك معرفة المراحل التي طواها في مسيرة وجوده ليبلغ هذه المرحلة التي هو فيها عند مشاهدته، كما أنّك غير قادرٍ علىٰ معرفة ما ستؤول إليه أوضاعه وأحواله مستقبلًا.

الموضوع الثاني: السبُل المتنوّعة لاستكشاف القوانين العلمية والعوامل المساعدة علىٰ ذلك

أوّل عاملٍ يساعدنا علىٰ استكشاف القوانين العلمية يتمثّل في ذلك الفهم الفطري الأصيل

(334)

أو الإدراك العقلي اليقيني، وقد ثبت لنا جميعًا كبشرٍ أن لا وجود لأيّة حقيقةٍ أو ظاهرةٍ في عالم الوجود في خارج نطاق القانون.

قد يتوّهم البعض قائلين: الإنسان لم يكن يرىٰ في هذا الكون سوىٰ الأجسام المحسوسة دون أن يدرك أيّة قضيةٍ كلّيةٍ يمكن أن يطلق عليها عنوان «قانون»، إذ إنّ إدراك هذا النمط من القضايا قد حدث بشكلٍ تدريجي ثمّ أصبح مثيلًا للإدراك الفطري الأصيل أو العقلي اليقيني.

ونردّ علىٰ هذا التوهّم بالقول: لو اعتبرنا هذا الادّعاء صائبًا، فهو لا يعني اعتبار الإدراك المنهجي -القانوني- لجميع أجزاء الوجود وارتباطاتها بأنّه ظاهرةٌ جديدةٌ وثانويةٌ، لأنّ منظومة الإنسان النفسية وقابلياته الذهنية التي ظهرت في تاريخ تكوينه، حتّىٰ وإن لم تتمكّن في باكورة حياته علىٰ الكرة الأرضية من معرفة ذلك الإدراك الأصيل والمنهجي لعالم الوجود بشكلٍ واضحٍ ومفصّلٍ، لكنّه بمرور الزمان ومن خلال ارتباطه تدريجيًا بالجوانب الظاهرية للكائنات، امتلك القابلية التي تؤهّله لإدراك حقيقة كائنات عالم الوجود بشكلٍ منهجي.

الإنسان منذ لحظة ارتباطه بسائر الكائنات علىٰ أساس رؤيةٍ علميةٍ كان دافعه الأوّل والأساسي في استكشاف قوانين الوجود هو امتلاك إدراكٍ أصيلٍ، ولربّما يستهين البعض بالسؤال عن علّة هذا الإدراك الأصيل في عصرنا الراهن.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ وجود العديد من الأساليب المعتمدة في استكشاف القوانين العلمية، وبعضها ذات مراحل ينبغي لذهن الإنسان اجتيازها كي يطّلع علىٰ طبيعتها ودلالاتها.

أساليب متنوّعة لاستكشاف القوانين العلمية

يمكن تقرير المراحل التي يطويها الذهن البشري في عملية استكشاف القوانين العلمية، كما يلي:

1. إيجاد ارتباطٍ بين الحواسّ أو أيّة جهةٍ ووسيلةٍ مستودعةٍ في باطن الإنسان يعتمد عليها في توسيع نطاق إدراك الموضوع وتحديده بدقّةٍ، كذلك إيجاد ارتباطٍ بين مختلف وسائل وعوامل الإدراك الباطني التي يطلق عليها عنوان الحواسّ الباطنية.

2. العمل بالتجربة وإكمال المشاهدة بواسطة الحواسّ أو أيّة جهةٍ أو وسيلةٍ مستودعةٍ في باطن الإنسان يعتمد عليها في توسيع نطاق الارتباط بالموضوع وتحديده بدقّةٍ، وفي هذه

(335)

المرحلة يجري الاستقراء والمتابعات الفكرية الضرورية، حيث يتمّ فيها وضع الأسس اللازمة لكلّية القضية بعد طي المراحل اللازمة لمعرفة القانون العلمي.

3. إزالة مَواطنِ إثارةِ الغموض وسائر القضايا الاستثنائية تزامنًا مع البحث والتحليل حول ما يلي: هل يمكن لمَواطنِ إثارةِ الغموض أن تنطبق علىٰ القانون الذي نسعىٰ إلىٰ استكشافه أو أنّ الأمر ليس كذلك؟ وهل إنّ عدم انطباق المَواطن المشار إليها علىٰ القانون المقصود يؤثّر سلبيًا علىٰ كلّيته أو أنّه يؤدّي إلىٰ تضييق نطاقه فقط؟

4. تحقّق قضيةٍ كلّيةٍ في ذهن الباحث علىٰ هيئة قانونٍ منتزعٍ من نطاق الموجودات المحدّدة والجزئية.

بعد هذه المرحلة فالقانون الكلّي بالنسبة لمن استكشفه ومن علم به عن طريق الدراسة أو الاختبار أو البحث العلمي، أو أيّ سبيلٍ آخر، سوف يصبح قضيةً كلّيةً في ذهن المطّلعين عليه بحيث يتمّ الإشراف عليه من قبل النفس أو الأنا أو أيّة قابليةٍ ذهنيةٍ يعتبرها الشخص العالِم حجّةً.

من البديهي أنّ العالِم خلال مسيرته لبلوغ هذه المرحلة يزاول نشاطات تطبيقية وقياسية وغيرها، لكن لا يسعنا المجال لتسليط الضوء عليها بالشرح والتحليل في مبحثنا هذا.

الموضوع الثالث: كلّية القانون العلمي ومنشؤه

لا يمكن لأيّة قضيةٍ أن تتّصف بحيثيةٍ قانونيةٍ ما لم تكن كلّيةً، والمقصود من الكلّية هنا أنّ موضوع القضية بشكلٍ كلّي يتقبّل صدق المحمول في جميع أفراده ومصاديقه، ومثال ذلك القضية التالية: «كلّ إنسانٍ يحبّ الحرّية»، فموضوعها الإنسان بكلّ أفراده ومصاديقه، ومحبّة الحرّية هي المحمول.

إنّ النظم الجاري في حقائق عالم الوجود يبقىٰ متّصفًا بالكلّية ما دامت الظروف والمقتضيات اللازمة لتكراره موجودةً، فهي التي تضمن استمرار الحركة المنتظمة في الكون والتي توجِد معلولات ونتائج متشابهةً ومتجانسة.

(336)

منشأ كلّية القوانين

منشأ كلّية القوانين يمكن تلخيصه في أمرين أساسيين كما يلي:

الأوّل: عمومية وشمول النظام الجاري لجميع الكائنات الموجودة في عالم الخارج، مثل قانون «صيانة الذات» الموجود لدىٰ كلّ كائنٍ حيٍّ بحيث لا يتخلّف عنه أيّ واحدٍ منها ما دام يطوي مسيرة حياته بسلامةٍ واعتدالٍ، وكما أشرنا أعلاه فإنّ تشابه وتكرار الظروف والمقتضيات الجارية في عالم الوجود والتي تتمخّض عنها معلولات ونتائج متشابهة ومتجانسة، هي منشأ كلّية القوانين التي توجد العلوم.

الثاني: لأجل أن نحرز الكلّية الناشئة من إدراك ذات القضية وأجزائها التي هي مفاهيم تجريدية، ككلّية قوانين المسائل الرياضية والتي توصف بأنّها إنشائيةٌ؛ لا حاجة لنا لإجراء أيّ استقراءٍ وتتبّعٍ لمختلف موارد ومصاديق الوجود، بل يكفي في ذلك امتلاك الذهن قدرةً علىٰ تجريد العدد والعلامة ومعرفة نسبة الارتباط فيما بينهما.

مثلًا حينما تطرح القضية التالية: 2 x 2 = 4 فهذا يعني بكلّ تأكيدٍ طرح قضيةٍ كلّيةٍ - قانون كلّي- ولسنا بحاجةٍ هنا إلىٰ استقراء جميع مواردها ومصاديقها، حيث إنّ كلّيتها وصدقها معلولان لتجريدٍ ألغىٰ من العدد مشخّصاته وأجزاءه العينية، فنحن في هكذا قضايا كأنّنا نحمل ماهية إحدىٰ الحقائق حملًا ذاتيًا علىٰ نفسها «Identity»، مثل قولنا إنّ المثلث ثلاثي الشكل، أو المثلث له ثلاثة أضلاعٍ[1].

(337)

المقدّمة الرابعة: تعيين معيار الموضوع العلمي وأبعاده

فحوىٰ موضوع البحث في هذه المقدّمة تتلخّص بما يلي: استنادًا إلىٰ ما ذُكر في المباحث الآنفة، متىٰ يمكننا اعتبار كذا موضوعٍ بأنّه علمي، والموضوع الكذائي ليس بعلمي؟ 

للإجابة عن هذا السؤال نقول بصريح العبارة: مضمون السؤال يعتبر بنيةً أساسيةً يتمّ علىٰ أساسها تعيين مصير القيم والعلوم، حيث نروم من خلاله معرفة طبيعة ذلك الموضوع الذي يمكن وصفه بالعلمي.

(338)

علىٰ ضوء المباحث التي سيقت آنفًا، يمكن القول إنّ كلّ حقيقةٍ بحدّ ذاتها يمكن أن تطرح بصفتها موضوعًا علميًا لـمّا يتاح لنا معرفة مختلف جوانبها علىٰ أساس الأبعاد التالية:

1. تعيين ماهية هذه الحقائق وإحداثياتها.

2. القدرة علىٰ معرفة وتقييم العوامل والظروف والمقتضيات التي لها دورٌ في ظهور هذه الحقائق للوجود، وإمكانية تشخيص العقبات التي تحول دون ذلك.

3. إمكانية معرفة طبيعة المعلولات والنتائج التي تترتّب علىٰ هذه الحقائق، والقدرة علىٰ تقييمها قانونيًا.

4. الفصل بين الظواهر التي تحدث بشكلٍ متعاقبٍ، مثل الفصول الأربعة التي تلي بعضها البعض بشكلٍ منتظمٍ ومتوالٍ لتترتّب عليها حقائق محدّدة، وبين الظواهر التي ترتبط فيما بينها بعلاقاتٍ علّيةٍ.

5. معرفة الحقيقة التي من شأنها أن تتجلّىٰ في عمليات المقارنة بين القضايا المتشابهة والمختلفة، والتي يمكن الاعتماد عليها في تشخيص الظواهر التي تحدث بشكلٍ متزامنٍ.

6. أن تكون هذه الحقائق مؤهّلةً لأن تُدرج ضمن الأصول والقوانين الحاكمة علىٰ المسائل العلمية، مثل استحالة اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، والنِّسبيات وعلاقاتها النسبية بالحقائق المستقلّة، وما شاكل ذلك؛ إذ من البديهي استحالة اجتماع خطٍّ مستقيمٍ مع خطٍّ غير مستقيمٍ في ذات المكان والزمان، كذلك من المستحيل بمكانٍ اجتماع سائر القضايا التي اشتُرط في اجتماعها عدم حدوث تناقضٍ، كاجتماع العدل مع الظلم، والحسن مع القبح، والقيم السامية مع الرذائل؛ وبما أنّ الصفات الإنسانية السامية باعتبارها حقائق أكسيولوجية منبثقة من حقائق ثابتة ولا تجتمع مع الرذائل والأفعال القبيحة، يمكن أن تُطرح للبحث والتحليل علىٰ ضوء الأبعاد المذكورة، لذا لا بدّ من الإذعان إلىٰ أنّ القيم المشار إليها هي الأخرىٰ من شأنها أن تكون مناطًا للبحث والتحليل وفق المعايير التي ذكرناها، فحالها حال سائر المواضيع العلمية التي تُطرح في مختلف العلوم علىٰ طاولة البحث والتحليل. بيان ذلك أنّ كلّ حقيقةٍ تتّسم بواقعيتها لأجل ذاتها ولها القابلية علىٰ الاتّصاف بالكلّية الشاملة بحسب المعايير المذكورة، فهي تُعدّ موضوعًا علميًا.

(339)

اشتراك المواضيع الطبيعية والأكسيولوجية علميًا

كما أنّ الماء له القابلية علىٰ أن يكون موضوعًا علميًا وفق المعايير التي ذُكرت في المبحث السابق، كذا هو الحال بالنسبة إلىٰ المعادن والأشجار والمزارع والكائنات البحرية والنور والصوت والفلزات، ومختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية والنفسية، وما إلىٰ ذلك؛ لأنّ كلّ واحدٍ من هذه المواضيع له حقائقه الخاصّة التي يمكن أن تندرج في ضمن المسار الذي وضّحناه لكونها ذات بُعدٍ علمي؛ كما أنّ جميع الحقائق الأكسيولوجية مثل العدل والشرف والتكليف، كذلك الدوافع الجبرية التي تترتّب عليها مصلحةٌ أو ضررٌ، هي الأخرىٰ يمكن أن تصبح موضوعًا علميًا يُطرح للبحث والتحليل بدقّةٍ وتفصيلٍ.

وفيما يلي نتطرّق إلىٰ بيان هذه المسألة وتكافؤ المواضيع العلمية والأكسيولوجية في البحوث العلمية وإدراجها ضمن المواضيع العلمية:

لو أخذنا العدل كمثالٍ علىٰ الموضوع نجده مطروحًا في جميع الأديان الحقّة وفي نظريات علماء الأخلاق كافّةً بصفته موضوعًا أكسيولوجيًا، وتوضيح ذلك كما يلي:

1. هل إنّ موضوع العدل يفتقر إلىٰ ماهيةٍ محدّدةٍ يمكن علىٰ أساسها تعريفه وبيان تفاصيله؟ من المؤكّد أنّ العدل عبارةٌ عن حقيقةٍ ذات ماهيةٍ قابلةٍ للوصف والتعريف، فهو سلوكٌ ينسجم مع القانون، أو أنّه ميزةٌ نفسيةٌ فريدةٌ تصون الإنسان العادل من الانحراف عن القوانين حتّىٰ وإن كانت له القدرة علىٰ تجاهلها وتحقيق منافع شخصية.

2. هل إنّ العدل يخرج عن نطاق قانون العلّية الذي يعتبر واحدًا من أكثر القوانين شموليةً في عالم الوجود؟ ونقرّر السؤال بصيغةٍ أخرىٰ: رغم أنّ العدل لا يترسّخ في نفس الإنسان إلا باشتراط وجود علّةٍ، لكنّه مع ذلك لا يترسّخ، فما السبب في ذلك؟ فيا ترىٰ لو لم تكن هناك علّةٌ لترسيخه في النفس، أو حينما يوجد مانعٌ يحول دون تحقّقه، فهل يمكن أن يترسّخ فيها؟

من المؤكّد أنّ العدل لا يمكن أن يخرج عن نطاق قانون العلّية الذي يعتبر واحدًا من أكثر القوانين شموليةً في عالم الوجود، إذ ورغم أنّ نفس الإنسان مجرّدةٌ وروحه لطيفةٌ، إلا أنّ جريان قانون العلّية في مجال العدل وسائر النشاطات النفسية يعتبر أكثر تجرّدًا ولطافةً؛

(340)

كما أنّ تنامي شخصية الإنسان يقتضي منه أن يكون عادلًا، فالعدل في الواقع كاشفٌ عن هذا التنامي.

3. كما هو معلومٌ فالعدل بحدّ ذاته يصون الإنسان من ارتكاب الأعمال القبيحة ويحفظه من الانحرافات النفسية بشكلٍ عامٍّ، وفي رحابه يتبلور اختيار الإنسان في انتقاء الأعمال الحسنة وأداء التكاليف وإيفاء حقوق الغير، لكن هل يمكن تصوّر أنّه ينقلب رأسًا علىٰ عقبٍ في أحد الأيام ليحرّض الإنسان علىٰ ارتكاب المساوئ ويسخّر إرادته واختياره للتمرّد علىٰ التكاليف والتجاوز علىٰ حقوق الآخرين؟ كلا بكلّ تأكيدٍ، إذ لا يمكن لهذا التصوّر أن يتحقّق علىٰ أرض الواقع إلا إذا انقلبت الحقائق بالكامل وتغيّر واقع الحسن والقبح والتكليف والحقّ.

4. هل يمكن أن يتحقّق العدل بمعناه الحقيقي لكنّه في الحين ذاته يحول دون تحقّق معلولاته الطبيعية أو يقع عقبةً في معرفتها؟ من المؤكّد أنّ هذا الأمر لا يمكن أن يحدث، لأنّ العدل عبارةٌ عن أمرٍ تتحقّق بوجوده جميع معلولاته ومستلزماته ونتائجه، وكما أنّه يجسّد حقيقةً يمكن التعرّف عليها، فجميع الأمور المذكورة التي تترتّب عليه هي الأخرىٰ تصبح حقائق يمكن التعرّف عليها.

نسوق المثال التالي لبيان الموضوع بشكلٍ أفضل: الإنسان العادل لديه طمأنينةٌ نفسيةٌ، والناس يحترمونه ويثقون به، كما أنّه يمتلك شوقًا عارمًا كي يرتقي بنفسه في سلوكه العقلائي وفي مجتمعه الذي يعيش بكنفه.

5. لنفترض حدوث حالاتٍ متعاقبةٍ تترتّب علىٰ العدل، لكنّها لا تحدث حين تحقّقه، ومثال ذلك تعاقب الفصول الأربعة.

بما أنّ تعاقب عددٍ من الحالات حين حدوثها بشكلٍ متواصلٍ سببه كون العلّة أو العلل موجودةً في إطارٍ يفوق إطار معلولاتها بحيث تجعلها تحدث دائمًا بشكلٍ متعاقبٍ، لذا يمكن القول حتّىٰ إن وجدت أحداث متعاقبة تترتّب علىٰ العدل، وحتّىٰ لو كان هذا التعاقب دائمًا ومتواصلًا، ففي هذه الحالة يصبح مشمولًا لقانون العلّية الذي أشرنا إليه في النقطة الثانية من هذا المبحث.

(341)

6. العدل هو في الواقع كسائر المواضيع العلمية، أي يمكن مقارنته في أطرٍ عديدةٍ مع القضايا التي تُطرح للمقارنة من حيث الكمّ والنوع، مثل الاختلاف بين العدل والترحّم من حيث الماهية والقيمة، وما إلىٰ ذلك.

7. بشكلٍ عامٍّ هناك العديد من العوامل والشروط والمقتضيات لتحقّق العدل، فهو علىٰ غرار سائر القضايا من حيث الإمكانية كموضوعٍ للبحث والتحليل العلمي، لذا لا يمكننا اعتبار أيّ أمرٍ كان كعاملٍ أو شرطٍ أو مقتضي لتحقّقه علىٰ أرض الواقع مثلما هو الحال بالنسبة إلىٰ سائر القضايا العلمية التي لا يمكن أن تتحقّق كيفما كان، وكما هو الحال بالنسبة إلىٰ تلك الحقائق الخاصّة التي تحول دون حدوث بعض الأمور التي يهدف العلم إلىٰ معرفة طبيعتها.

فضلًا عمّا ذُكر، هناك عقباتٌ خاصّةٌ تحول دون تحقّق العدالة أو تقضي عليها بالكامل في نفس أحد الناس، وبالطبع هذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق من أيّ شيءٍ كان؛ ومثال ذلك أنّ الحرارة التي هي سببٌ في تبخير الماء وزواله من مكانٍ ما، ليس من شأنها أن تفي بذات الدور وتزيل العدالة من نفس إنسانٍ ما، بل إنّ السبب الأساسي في حرمان الإنسان نفسه من هذه الميزة السامية يكمن في نزواته وشهواته وأنانيته واستبداده؛ ومن هذا المنطلق لو تتبّعنا فعّالية أحد الأشخاص ولاحظنا أنّه في صدد معرفة معنىٰ العدل ويسعىٰ إلىٰ تشذيب شخصيته بغية تحقيق هذا الهدف، فهو حقًّا يحثّ الخطىٰ في هذا المضمار اعتمادًا علىٰ المعرفة التامّة لهذه الملكة السامية وعبر صيانة نفسه من الرذائل والانحرافات التي تعرقل مسيرته هذه. وبهذا الشكل يعمل علىٰ ترسيخ العدل في نفسه، ونحن بدورنا قادرون علىٰ مشاهدة تنامي شخصية هذا الإنسان لحظةً بلحظةٍ مثلما نشاهد عملية نمو أزهار الأشجار لتصبح ثمارًا فيما بعد؛ وفي الحين ذاته فهو حينما يبلغ هذا المقام السامي قد يهوي منه ساق فيما لو لم يلتزم بمبادئه الأساسية، وهنا أيضًا يمكننا مشاهدته وهو يسقط إلىٰ الحضيض.

وكما هو معلومٌ فالنزعة النفعية المفرطة والنزوات الشهوانية المتطرّفة تعتبر سببًا أساسيًا في محو الأخلاق المتعالية وإزالة الرغبة في نيل الفضائل، ونتيجة ذلك يزول العدل ولا يبقىٰ مكانٌ له في نفس الإنسان، والشاعر جلال الدين الرومي (مولوي) وضّح في أشعارٍ معبّرةٍ هذا السقوط بشكلٍ علمي وفي إطارٍ أدبي، ففي بادئ الأمر أشار إلىٰ كيفية حدوث هذا الأمر بشكلٍ

(342)

تدريجي، حيث أكّد علىٰ أنّه لا يحدث فجأةً ودفعةً واحدةً، إذ إنّ الصفات الحميدة الراسخة في نفس الإنسان مثل العدل والشرف، وكذلك الصفات الرذيلة والطباع السيّئة، تزول وتندثر بشكلٍ تدريجي حسب القانون النفساني للبشرية[1].

عندما تزول المحبّة السامية لبلوغ الكمال والتي توصف بأنّها العشق الحقيقي، فهذا يعني ما يلي: لعلّ هذه المحبّة تشبه الجذور التي تجفّ تدريجيًا فتؤول إلىٰ الزوال، والحقيقة أنّ اضمحلال الفضائل يعني زوال عللها، لذا لو اعتبرنا المحبّة السامية لبلوغ الكمال معلولةً لإحدىٰ الفضائل البشرية المتعالية، فمن البديهي أنّ زوال هذه الفضيلة سيؤدّي إلىٰ زوال المحبّة التي هي علّةٌ لها؛ وعلىٰ هذا الأساس يمكننا تفسير ما أشرنا إليه في شعر جلال الدين الرومي.

لا شكّ في أنّنا لو استطعنا طرح تفسيرٍ علمي للعدل الذي يعتبر واحدًا من المبادئ العليا، سوف نتمكّن أيضًا من تفسير جميع الفضائل الأخلاقية الأخرىٰ علميًا؛ ونشتهد بمثالين هنا كي يتّضح الموضوع بشكلٍ أفضل:

المثال الأوّل: الشعور بالمسؤولية والتكليف، يفوق العلل الجبرية والدوافع إلىٰ تحقيق المنفعة أو الضرر؛ فهو يعني الرغبة في أداء التكليف.

من الطبيعي أنّ هذا الشعور الذي ينبثق من دوافع الضمير الإنساني السامي يتضمّن بين طياته أعظم القيم؛ ومع ذلك فكما أشرنا في بحثنا الذي طرحناه حول قيمة العدل، نحن قادرون علىٰ إجراء بحثٍ علمي حول ماهية الشعور بالتكليف وأدائه؛ ولتعريف ماهية تكليف الإنسان نقول: هو عبارةٌ عن التحريك الجادّ للإنسان بغية فعلٍ أو ترك عملٍ توجبه المصلحة.

كذلك نحن قادرون علىٰ بيان معنىٰ ذات التكليف في إطار تعريفٍ علمي، حيث نقول: التكليف يعني وقوع تكليفٍ في ذمّة شخصٍ معينٍ.

والشعور بالتكليف فهو عبارةٌ عن إدراك وقوع تكليفٍ في ذمّة شخصٍ معيّنٍ.

وأمّا أداء التكليف فيما وراء العوامل الجبرية والطبيعية والدوافع الشخصية في النفع والضرر، فهو يعني الامتثال إلىٰ الشعور بالتكليف ومن ثمّ العمل به من منطلق دوافع الضمير أو أوامر العقل العملي التي تصدر فيما وراء العوامل الطبيعية الخاصّة بالنفع والضرر الشخصي.

(343)

ومن هذا المنطلق نحن قادرون علىٰ البحث والتحليل بخصوص نشوء شعورٍ كهذا والرغبة في أداء التكليف، ولنا القابلية علىٰ فهم حقيقة الضمير وتحليل طبيعته بشكلٍ علمي كتحليل علل سائر حقائق الوجود؛ وبعبارةٍ أخرىٰ نقول: من منطلق علمنا بأنّ الشعور النبيل بالمسؤولية والتكليف، وعلىٰ أساس قدرتنا في أداء التكاليف فيما وراء العوامل والدوافع الجبرية وشبه الجبرية التي لا يمكن أن توجد دون علّةٍ ودافعٍ؛ فنحن قادرون علىٰ إجراء مقارناتٍ علمية بالكامل وكسب نتائج لدىٰ متابعتنا وتحليلنا تلك العلل التي توجد الشعور المذكور في نفس الإنسان.

وكمثالٍ علىٰ ذلك نقول: عن طريق البحث العلمي يمكن أن نتوصّل إلىٰ نتيجةٍ علميةٍ فحواها أنّ الإنسان الذي يحدوه شوقٌ لبلوغ الكمال سوف يدرك في جميع الأحوال أنّ الشعور بالمسؤولية في أداء التكليف في مجرىٰ العوامل الطبيعية علىٰ ضوء دوافع النفع والضرر الشخصي، يتعارض مع ذلك الكمال الذي يوجب علىٰ الإنسان في أحد جوانبه نبذ الأنانية؛ وعلىٰ هذا الأساس يصبح التكليف بحدّ ذاته مهمًا وضروريًا بالنسبة له فيمتثل له ملبيًا دعوة الضمير والعقل السليم.

استنادًا إلىٰ ما ذُكر فنحن قادرون علىٰ القيام ببحوثٍ علميةٍ بخصوص سائر الجوانب العلمية لهذا الموضوع، كالبحث والتحليل حول معلولات الأحداث المتزامنة المتوالية ومختلف مستلزماتها ونتائجها من حيث كونها ذات ارتباطٍ بمسألة الشعور وأداء التكليف من داعي نداء الضمير.

نحن من خلال هذه البحوث العلمية نستطيع أن نفهم حقيقة واحدٍ من أهمّ معلولات الشعور بالمسؤولية والتكليف، ألا وهو تفعيل القابليات البنّاءة المقتدرة في الذهن بغية نيل درجة الكمال المادّي والمعنوي علىٰ مرّ التاريخ؛ وما يدعو للأسف أنّنا لو تمعّنا في جميع البحوث العلمية التي دوّنت علىٰ صعيد التطوّر البشري، سنجدها تشترك بما يلي: «العقول البشرية المقتدرة هي التي مكّنت الإنسان من تحقيق هذا التطوّر المذهل في العلم والصناعة»، وقلّما نجد من يقول: «ما أعظم الشعور النبيل بالمسؤولية والتكليف! فهو الذي دعا العقول البشرية الكبيرة لأن تنشط وتسعىٰ لتحقيق التطوّر».

المثال الثاني: الإيثار علىٰ النفس يُعتبر واحدًا من أسمىٰ القيم الأخلاقية، ومن المؤكّد أنّ ماهيته العلمية واضحةٌ غاية الوضوح بشكلٍ يجعلنا في غنىٰ عن ذكر تفاصيل حوله.

(344)

كلّ إنسانٍ يرجّح مصالح الآخر أو الآخرين علىٰ مصالحه الشخصية، فهو صاحب إيثارٍ «مؤثِر». هذا هو التعريف الكلّي الذي يكفينا في التعرّف علىٰ ماهية الإيثار علميًا، وعلىٰ أقلّ تقديرٍ فهو لا يقلّ شأنًا عن سائر التعاريف التي طُرحت حوله باعتباره موضوعًا علميًا.

بناءً علىٰ ما ذُكر يمكننا دراسة وتحليل العلل التي تؤدّي إلىٰ رسوخ هكذا خصلة في النفس الإنسانية، وذلك من زاويةٍ علميةٍ؛ فهي تتجذّر لدىٰ الإنسان حينما يدرك بشكلٍ جيّدٍ القيمة الحقيقية للروح البشرية ويدرك عظمة حبّ النوع وسمو خلقة بني آدم، وذلك إلىٰ جانب يدرك حقّ الإدراك أنّ الإيثار فيه سرورٌ أسمىٰ من الملذّات المادّية المتعارفة؛ وهذه العوامل يمكن اعتبارها كالعلّة الطبيعية التي تُسفر عن امتلاك الإنسان هذه الخصلة النبيلة، لذا لو زالت فلا يمكن للإنسان أن يؤثر الآخرين علىٰ نفسه، فهذه الحالة علىٰ غرار تلك العوامل التي هي سببٌ في نشأة أحد الكائنات، إذ لولاها لا يمكن لهذا الكائن أن يرىٰ الوجود.

إذًا، جميع تلك المجاري العلمية التي تعمّ جميع المواضيع العلمية تعمّ أيضًا جميع الحقائق الأكسيولوجية، ومن ثمّ بإمكاننا معرفة طبيعتها في هذا المضمار.

الجدير بالذكر هنا أنّ هذا التحليل العلمي يمكن أن يُطبَّق أيضًا علىٰ صعيد المسائل التي تتعارض مع المبادئ الأكسيولوجية، مثل الكذب والخيانة والجريمة والنوايا السيّئة والسير علىٰ نهج مكيافيللي والأنانية والنزوات الشهوانية والنفعية؛ وهذا يعني أنّنا قادرون علىٰ طرح تعريفٍ علميٍ متكاملٍ للكذب والخيانة والجريمة وسائر الأمور الذميمة، كما يمكننا إجراء بحوثٍ علميةٍ بخصوص العوامل والشروط والمقتضيات التي توجب بروز هذه الخصال الذميمة، وتلك التي تحول دون بروزها؛ ومن المؤكّد أنّ أفضل شاهدٍ يدلّ علىٰ إمكانية إجراء دراساتٍ وبحوثٍ علميةٍ حول هذه المسائل وما شاكلها، هو ما يقوم به المفكّرون من بحثٍ وتحليلٍ مسهبٍ بخصوص وقوع الجريمة من حيث أسبابها وظروفها ومقتضياتها والأمور التي تحول دون وقوعها، وهذا الأمر متعارفٌ اليوم في جميع المجتمعات البشرية.

الذين يعتبرون الحقائق الأكسيولوجية علميةً يؤكّدون علىٰ أنّنا غير قادرين علىٰ الولوج في ميدانها ما لم نتبنّىٰ مبدأ الاختيار في الأفعال كأساسٍ لأداء كلّ تكليفٍ، أي إنّ هذا الأمر غير ممكنٍ بغضّ النظر عن تدخّل الشخصية الإنسانية وإشرافها علىٰ أفعالها الاختيارية؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ معارضي هذا الرأي لم يذكروا تفاصيل كافيةً في هذا المضمار.

(345)

لا ريب في أنّ الضمير العلمي يقتضي تحليل حقيقة هذا الموضوع كما هي عليه في واقع الحال، لذا سنسلّط الضوء عليه فيما يلي كي تتّضح تفاصيله.

ساق العلماء والباحثون الكثير من التفاصيل حول بيان طبيعة الفعل الاختياري، ونعتقد أنّ أشملها وأكثرها دقّةً هو التعريف التالي: هو كلّ فعلٍ يصدر بإشراف وسلطة الشخصية الإنسانية علىٰ نحوين أحدهما إيجابي والآخر سلبي، حيث يتقوّم صدوره علىٰ أساس إرادة الإنسان الحرّة؛ ولو تمحور هدفه حول الخير والصلاح في رحاب إشراف وسلطة النفس علىٰ جميع الحقائق الإيجابية والسلبية، فهو يعتبر فعلًا اختياريًا متزامنًا مع الشعور بالمسؤولية، وفي الحين ذاته يدرج ضمن الأفعال الأكسيولوجية. وعلىٰ هذا الأساس كلّما تسامىٰ إشراف النفس وتعالت سلطتها علىٰ الأفعال الإيجابية والسلبية فسوف يتّسم الفعل بحريةٍ أكثر[1].

فضلًا عمّا ذُكر، لو كان الهدف من الخير والصلاح في الفعل الاختياري أسمىٰ وأرقىٰ، ففي هذه الحالة يصبح الاختيار أكثر سموًا ورقيًا.

وفيما يلي نتطرّق إلىٰ بيان استدلال الذين قالوا: بما أنّ الفعل الذي يصدر بإرادة الإنسان له ارتباطٌ بشخصيته، ولكوننا لا نمتلك علمًا بالعوامل والدوافع التي تجعل هذه الشخصية تنزع إلىٰ القيام بالعمل الإيجابي أو السلبي، لذا لا يمكننا معرفة ماهية الفعل الاختياري علىٰ أساس حساباتٍ قانونيةٍ من قبيل تقييمه وفق قانون العلّية، كما ليس من الممكن لنا إجراء تحليلٍ علمي لكلّ أمرٍ نجهل شروط حدوثه وسائر مقتضيات صدوره.

الردّ علىٰ هذا الاستدلال نقرّره ضمن نقاطٍ عدّة كما يلي:

هناك قاعدةٌ علميةٌ فحواها إمكانية الاعتماد علىٰ الاحتمالات لمعرفة العلّة حينما يكون عامل إيجاد الشيء -المعلول- مردّدًا بين عللٍ عدّة، حيث نستكشفها عن طريق قوّة أو ضعف الاحتمال. لنفرض أنّنا وجدنا شجرةً وسط صحراء، فهي بطبيعة الحال ذات جذغٍ وأغصانٍ متشابكةٍ، وهنا يدرك ذهننا بشكلٍ سريعٍ شعوري أو لا شعوري ضرورة قانون العلّية، ومن هذا المنطلق يتفعّل نشاطه لمعرفة علّة نمو هذه الشجرة في هذا المكان، لذا يحتمل أوّلًا أنّها

(346)

نبتةٌ أو بذرةٌ نمت دون وجود مادّةٍ مناسبةٍ؛ أو أنّها سقطت من السماء وأدّت إلىٰ نمو هذه الشجرة. هذا الاحتمال ينقضه الحكم البديهي الذي يُصدره العقل، لكن بعد حدوث نشاطٍ فكري مناسبٍ ندرك أنّ إنسانًا غرس نبتةً أو بذرةً في هذا المكان لتنمو منها هذه الشجرة؛ ومن ثمّ تصل النوبة إلىٰ معرفة الهدف من غرس هذه الشجرة، لذا نتساءل قائلين: هل أنّها غُرست لأجل ثمارها؟ هل أنّها غُرست لكي يُستظلّ بها من أشعة الشمس المحرقة في هذه الصحراء؟ هل أنّها غرست لكي تنمو ونستفيد من خشبها؟

كلّ هذه الاحتمالات واردةٌ بطبيعة الحال، ولنتصوّر احتمالات أخرىٰ أيضًا ليصل عددها إلىٰ عشرة؛ وسواءً كان الاحتمال واحدًا أو متعدّدًا بالنسبة إلىٰ معرفة حقيقة الأمر في هكذا حالات، هناك ثلاثة أنواعٍ من العلم نشير إليها فيما يلي:

العلم الأوّل: استنتاجنا الذهني بخصوص كلّ واحدٍ من الاحتمالات يبقىٰ بمستوىٰ الاحتمال فقط، حيث لا يبلغ درجة الشكّ أو الظنّ أو الاطمئنان أو اليقين، ومن ثمّ فكلّ حكمٍ وخصوصيةٍ لهذا الاحتمال يرد في جميع الاحتمالات الأخرىٰ علىٰ حدٍّ سواء.

ونسوق المثال التالي لبيان الموضوع: لو أنّ كلّ واحدٍ من الاحتمالات المفترضة حول كلّ موضوعٍ يتّصف بما ذُكر أعلاه من جهة أنّه يستقطب ذهننا بمقدار نسبته الاحتمالية، ونحن بدورنا نعتمد عليه بمقدار أهمية الموضوع في حياتنا المادّية والمعنوية؛ من المؤكّد أنّ حكمنا بالنسبة إلىٰ الهدف من غرس الشجرة وسط الصحراء في جميع الاحتمالات المفترضة سوف يكون معلومًا لدينا، مما يعني اتّصف الاحتمال بالعلمية.

العلم الثاني: الهدف الحقيقي من وراء غرس الشجرة في تلك الصحراء يتراوح بين موضوعٍ واحدٍ أو عدّة مواضيع محتملة ضمن الاحتمالات العشرة المشار إليها، وهو ما يطلق عليه عنوان «العلم الإجمالي».

العلم الثالث: الاحتمال الأقوىٰ هو الذي يستقطب ذهننا نحوه أكثر من غيره، لذا غالبًا ما نرتّب أثرًا علىٰ الموضوع في رحاب هذا الاحتمال؛ وهنا لا يتلكّأ ذهننا في غموض مطلقٍ لا مخرج منه.

 

(347)

الاحتمال

مسألة الاحتمال مطروحةٌ في جميع المحتملات التي تكتنف ذهننا بخصوص الهدف من غرس الشجرة في تلك الصحراء، ولو اعتبرنا العلم بكونه انكشافًا تامًّا ومطابقًا بالكامل للأمر الموجود في الذهن، فالانكشاف من درجة 1 بالمئة إلىٰ 49 بالمئة يعتبر احتمالًا، وفي مقابل ذلك يكون الانكشاف من درجة 51 بالمئة إلىٰ 69 بالمئة ظنًّا، وما يقارب 70 بالمئة إلىٰ 99 بالمئة يصبح اطمئنانًا؛ وعلىٰ هذا الأساس يحدث لدينا شكٌّ بدرجة الانكشاف التي تبلغ 50 بالمئة.

ويبدو أنّ النقص في الانكشاف هو الذي يجعل الأعمال الاختيارية غير علميةٍ، وهو بطبيعة الحال موجودٌ في كلّ احتمالٍ، فلا أحد يعلم بذات الموضوع أو بطريقة اختياره من قبل الشخصية الإنسانية في فعلها الاختياري، ومن هذا المنطلق يكون الفعل المتوقّع ـ المحتمل ـ ليس علميًا. أضف إلىٰ ذلك هناك عاملٌ آخر يجعل اختيار صاحب الفعل مجهولًا لدينا، وهو عدم معرفتنا بكمّية وكيفية العوامل المحفّزة التي تدفع الإنسان نحو أداء فعله الاختياري.

حينما نواجه حالات كهذه في مجرىٰ حياتنا الطبيعي، علينا الإذعان بأنّ هذا الوضع الاحتمالي لا يمكنه أن يكون عقبةً تحول دون تحليل الأمر في إطارٍ علمي؛ وعلىٰ سبيل المثال لو أنّنا جهلنا بمقدار درجة الحرارة التي يجب تحقّقها لصهر أحد المعادن، فهل نحن قادرون في هذه الحالة بلوغ هذه الدرجة أو لا؟ من المؤكّد أنّ الجهل بدرجة الحرارة هنا لا يؤثّر مطلقًا علىٰ القانون العلمي الثابت الذي يقول: «هذا المعدن ينصهر في درجة حرارةٍ مقدارها كذا...». كذلك حتّىٰ لو افترضنا عدم طرح الحرارة من الأساس أو المقدار اللازم منها لصهر المعدن المذكور في التحليل العلمي؛ ففي هذه الحالة أيضًا لا يوجد مانعٌ يحول دون تقييمنا الموضوع في إطارٍ علمي.

إن افترضنا أنّنا غير قادرين علىٰ إيجاد حرارةٍ، فنحن في هذه الحالة علىٰ علمٍ بعجزنا عن إخضاع المعدن لأيّة درجةٍ منها، وبالتالي يبقىٰ علىٰ وضعه الطبيعي من حيث درجة حرارته. كذلك لو تمكّنا من إخضاع المعدن لدرجة حرارةٍ معينةٍ، ففي هذه الحالة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير درجات الحرارة التي طرأت عليه حتّىٰ بلغ تلك الدرجة المعيّنة، ومن ثمّ نقول برؤيةٍ علميةٍ صريحةٍ: المعدن الذي جعلناه عرضةً للحرارة، قد اكتسب كذا مقدارًا منها، ونتيجة ذلك تأثّر بهذا المقدار من الحرارة.

(348)

إذًا، لو تمعّنا بالأفعال الاختيارية التي تصدر من الإنسان، سنجد أنّها تخضع لنفس الملاحظات العلمية التي سقناها في المثال، وهذه الملاحظات تندرج في محورين أساسيين، هما:

أوّلًا: العوامل والدوافع

الملاحظات العلمية التي تندرج ضمن نطاق العوامل والدوافع تتلخّص بما يلي:

1. كلّ عملٍ اختياري لا بدّ وأن يصدر من قبل الإنسان بتأثير عاملٍ ودافعٍ.

2. كلّما كان العامل المحفّز للفعل الاختياري أقوىٰ، يتزايد احتمال صدوره.

3. كلّما كان نطاق دوافع الفعل أكثر سعةً - بمعنىٰ تزايد موجبات صدوره - يتزايد احتمال صدوره ويعمّ هذا الاحتمال نطاقًا أوسع.

4. كلّما تضاءلت معلومات الإنسان بالنسبة إلىٰ المواضيع المرتبطة بالحرّية، سوف يضيق نطاق اختياره ويتزايد احتمال معرفة الفعل الذي يريد القيام به، وقد تبلغ هذه المعرفة أحيانًا درجة اليقين.

ثانيًا: الشخصية الإنسانية

لو أردنا الحديث عن الشخصية الإنسانية في هذا المضمار، نقول: من المؤسف أنّ الأفعال الاختيارية للإنسان وحرّية إرادته لم تحظ باهتمامٍ كما يليق بها من قبل المختصّين بعلم النفس والعلوم الإنسانية الأخرىٰ، ناهيك عن أنّهم لم يدوّنوا بحوثًا ودراسات علمية جديرة بالاهتمام حول الارتباط المباشر بين القدرة والوعي والشخصية والحرّية؛ وبما أنّ بحثنا الحالي يتمحور حول الأفعال الاختيارية للإنسان من حيث ماهيتها والعوامل المسبّبة لها والنتائج التي تتمخّض عنها، لذا لا يسعنا المجال لتسليط الضوء علىٰ تلك المباحث.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ المواضيع التي سوف نتطرّق لبيانها تتلخّص بما يلي:

1. العلاقة المباشرة بين قدرة أو ضعف الشخصية الإنسانية وبين أفعالها الاختيارية، وفحوىٰ ذلك أنّ الشخصية كلّما امتلكت قدرةً ووعيًا أكثر بأساسيات الحياة وأهدافها ومصالحها ومفاسدها، سوف يتزايد صدور أفعالها الاختيارية.

وبيان ذلك كالتالي: الشخصية الإنسانية بمقدار قدرتها علىٰ صيانة نفسها مقابل الدوافع

(349)

وعدم ضعفها أمام تأثيراتها، تتزايد قدرتها في السيطرة علىٰ رغباتها وتحفيزات دوافعها، ومن ثمّ سوف تصدر أفعالها باختيارها. الحقيقة أنّ الاختيار يعتبر قانونًا علميًا لا مجال للتشكيك به، فعلىٰ أساسه حظيت الشخصية الإنسانية وجميع جوانبها باهتمامٍ كبيرٍ من قبل جميع الأديان السماوية وكتب الأخلاق والعلوم الإنسانية وجميع روّاد الدعوة إلىٰ تكامل الإنسان، لذا يمكن القول: «أولئك المفكّرون والكتّاب الذين لا يعيرون أهميةً للشخصية الإنسانية بحيث يتطرّقون إليها في مباحثهم وكأنّها موضوعٌ بسيطٌ ويقارنون نهج حياتها مع سائر الحيوانات؛ هم في الحقيقة لم يتحفوا البشرية بأيّة آراء علمية علىٰ صعيد العلوم الإنسانية، ناهيك عن أنّهم يحرمون الإنسان من ميزةٍ ساميةٍ تتمثّل بإرادته الحرّة التي تحفّزه علىٰ القيام بأفعاله؛ ومن هذا المنطلق يجعلونه خاضعًا بالكامل للعوامل الطبيعية والقوىٰ النفعية التي تعتبر الإنسان مجرّد وسيلةٍ لا غير».

2. بمقدار ما تناله الشخصية الإنسانية من مزايا أخلاقية وإنسانية سامية تدعو إليها الأديان السماوية، فهي بهذا المستوىٰ تسير بإرادةٍ واختيارٍ لتقيّم الفعلين الإيجابي والسلبي علىٰ ضوء هذه المزايا المتعالية؛ والعكس صحيحٌ، أي إنّها بمقدار ما تتلوّث به من خصال ذميمة ونزعات أنانية، فهي بهذا المستوىٰ تقيّم الفعلين الإيجابي والسلبي علىٰ ضوء هذه الخصال القبيحة.

3. الشخصية الإنسانية لديها قابليةٌ دائمةٌ علىٰ التجدّد والتحوّل بحيث تدخل إلىٰ حيّز الفعلية حين توفّر الظروف المناسبة، وهذا النشاط يمكن أن يتحقّق علىٰ ضوء عوامل مؤثّرة جديدة؛ وهو ما يطلق عليه في علم النفس «ثورة نفسية».

هذه الثورة في الواقع ليست أمرًا استثنائيًا، فالتاريخ البشري حافلٌ بتلك الشخصيات التي قامت بأعمالٍ عظيمةٍ جرّاء الثورات النفسية التي طرأت عليها، وقد تمكّن بعضها من تغيير واقع المجتمع بأسره. ومن المؤكّد أنّ إثبات هذه الحقيقة العلمية ليس بحاجةٍ إلىٰ البحث والتحليل بالاعتماد علىٰ مصطلحاتٍ تقنيةٍ وتخصّصيةٍ، إذ إنّ كلّ إنسانٍ يدركها في باطنه بوضوحٍ، ولو شاء الإنسان تعطيلها في نفسه خشيةً من اتّباع الأهواء التي تجعل حياته فارغةً من المبادئ السامية، فهو في هذه الحالة له القدرة علىٰ اللجوء إلىٰ حرّية الاختيار المكنونة في شخصيته كي يبسط نفوذه علىٰ جميع الأفعال الإيجابية والسلبية.

(350)

إذًا، هذا أيضًا يتبلور فيه أصلٌ علمي لا شائبة عليه وفي غاية البداهة بالنسبة إلىٰ المفكّرين المختصّين بدراسة الشخصية الإنسانية والقابليات التي تتمتّع بها.

بناءً علىٰ الأصول العلمية المذكورة أعلاه، فالأفعال الإنسانية التي هي معيارٌ للقيم الأصيلة يمكن إدراجها ضمن القوانين العلمية.

بعد التفاصيل التي ذكرت في المباحث أعلاه، تبقىٰ مسألةٌ واحدةٌ تجدر الإشارة إليها في هذا المضمار، وهي كالتالي: لا قدرة لنا في جميع الأحيان علىٰ كسب علمٍ يقيني بمستوىٰ تأثّر شخصية أحد الناس بعوامل ودوافع معيّنة جعلتها تقوم بالفعل الذي صدر منها، ولكن كما لاحظنا في مثال صهر أحد المعادن بدرجة حرارةٍ معينةٍ وفق الظروف الطبيعية، فإنّ جهلنا بمدىٰ قدرتنا علىٰ إيجاد هذه الدرجة كي نصهر المعدن لا يعتبر سببًا لخروج الموضوع عن علميته؛ أضف إلىٰ ذلك فإنّ جهلنا بردّة الفعل التي تبدر من أحد الناس أو من أنفسنا تلقاء أحد العوامل أو الدوافع لا يعدّ وازعًا لنقض علمية أفعال الشخصية الإنسانية في هذا المضمار.

السبب في صدور الفعل الاختياري من زاويةٍ علميّةٍ بحتةٍ

قبل أن نتطرّق إلىٰ بيان الحقيقة العلمية التالية: «لو أنّ الفعل الاختياري كان خارجًا من حيطة البحث والتحليل العلمي، للزم عن ذلك خروجه عن هذه الحيطة حتّىٰ بعد حدوثه»، وفيما يلي نذكر مثالًا في غاية البساطة بخصوص المسألة العلمية: الفيزياء النظرية الحديثة أثبتت أنّ معرفتنا بطبيعة الجسيمات الأساسية المكوّنة لعالم الطبيعة في الوقت الراهن لا تعني أنّنا قادرون علىٰ تعيين طبيعتها مستقبلًا بشكلٍ دقيقٍ، وقد وصف ذلك بالقول: «هذا العجز ناشئ من مبدأ الريبة - عدم الحتمية - والذي تبنّته الفيزياء الحديثة»، وعلىٰ هذا الأساس ذهب بعض علماء الفيزياء وعددٌ من المختصّين بالعلوم الفلسفية إلىٰ تبنّي الرأي التالي: «قانون العلّية الشهير قد فشل في مجال الجسيمات الأساسية المكوّنة لعالم الطبيعة، وسوف لا ينهض من جديدٍ إزاء هذا الفشل الذي قصم ظهره!».

والطريف أنّ علماء الفيزياء بعد أن أيقنوا عدم القدرة علىٰ تعيين طبيعة مستقبل الجسيمات الأساسية، طرحوا الموضوع في رحاب مبدأ حرّية اختيار الإنسان، والأمثلة علىٰ هذه المواقف كثيرةٌ نذكر منها ما يلي:

(351)

- «إنّهم من خلال اعتقادهم بمبدأ الريبة - عدم الحتمية - يريدون إيجاد قاعدةٍ أبديةٍ مصونةٍ من الخطأ والنقض، حيث ادّعوا أنّها تؤيّد فكرة كون الإنسان مخيّرًا»[1].

- «يوردان حاول إثبات كون الإنسان مخيّرًا استنادًا إلىٰ مبدأ الريبة (عدم الحتمية)»[2].

استنادًا إلىٰ ما ذُكر ينبغي لعلماء الفيزياء تبنّي الرأي التالي: بما أنّ حقيقة الأمر بهذا الشكل، فلا يبقىٰ مجال لادّعاء أنّ البحث حول الجسيمات الأساسية يدرج ضمن البحوث العلمية، إذ حينما تنقطع علاقة العلّية في الأحداث التي تتضمّن علّةً ومعلولًا، فلا مجال لطرح الموضوع في إطارٍ علمي.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ وجود علماء ومفكّرين كبار عارضوا ما تبنّاه هؤلاء وأكّدوا علىٰ خطئهم بهذه العبارة العلمية: «العالم يختلف عن مسألة معرفة العالم».

الإجابة التي يمكن ذكرها بخصوص أفعال الإنسان الاختيارية والجسيمات الأساسية في الطبيعة، يمكن تقريرها في إطار محورين أساسيين، أحدهما قبل حدوث الفعل الاختياري والآخر بعد حدوثه؛ وبيان ذلك كما يلي:

1. البحث العلمي حول عوامل صدور الفعل الاختياري قبل حدوثه

كلّما زادت الفاصلة بين الإنسان والفعل الاختياري الذي سيصدر منه مستقبلًا، سوف يتزايد احتمال تأثير العوامل التي تسهم في تحقّق هذا الفعل أو عدم تحقّقه؛ وبطبيعة الحال فالضرورة تقتضي هنا اتّباع الأسلوب العلمي الذي يتقوّم علىٰ حساب الاحتمالات، مما يعني أنّ السبيل الوحيد المعتمد في كذا حالة هو حساب الاحتمالات بالنسبة إلىٰ العوامل التي نتوقّع وجودها حتّىٰ لحظة صدور الفعل الاختياري، وعلىٰ ضوئها نبادر إلىٰ تفعيل نشاطنا الذهني، ومهما اقتربنا من زمان صدور الفعل تتّضح لنا نتيجة هذا الفعل مع اتّضاح نتيجة تأثير العوامل المذكورة.

نودّ التنويه هنا علىٰ أنّنا حينما نشير إلىٰ أنفسنا في ما ذُكر أعلاه، لا نقصد اقتصار صدور الفعل الاختياري علينا فحسب، بل هذا الكلام يشمل حتّىٰ أولئك الذين يتابعون أوضاعنا علىٰ

(352)

ضوء أفعالنا الاختيارية؛ وعلىٰ هذا الأساس سوف يتسنّىٰ لنا إجراء بحثٍ علمي لدراسة واقع هذه الأفعال وتحليلها.

من البديهي أنّ العلم الذي نحصل عليه قبل صدور الفعل الاختياري بالأسلوب الذي أشرنا إليه عادةً ما يكون ناقصًا ويعادل مقدار جهلنا بمدىٰ ارتباط الشخصية الإنسانية بعوامل صدوره، مما يعني عدم قدرتنا علىٰ امتلاك علمٍ تامٍّ بالنسبة إلىٰ حدوث أو عدم حدوث هذا الفعل، ولكن كما ذكرنا في مثال درجة الحرارة اللازمة لصهر أحد المعادن، فالترديد الحاصل هنا لا يعتبر مانعًا يحول دون كون الأصول والقوانين الخاصّة بعملية صهر المعدن علميةً؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلىٰ الفعل الاختياري؛ إذ إنّ الجهل بالعامل الشخصي الذي يوجب صدور الفعل أو عدم صدوره، لا يعتبر عقبةً تحول دون معرفة الفعل الاختياري، كما أنّ طرح فكرة الريبة -عدم الحتمية- بخصوص الجسيمات الأساسية، لا يمكن اعتبارها مانعًا أمام إجراء بحوثٍ علميةٍ حولها، ومن المحتمل أنّ عدم تبعية الجسيمات الأساسية في الطبيعة لقانون العلّية يندرج ضمن ما ذكر هنا، فربّما هناك حوادث أخرىٰ تقع في المدّة الزمنية الفاصلة بين تحقّق العلّة والمعلول، والتي قد تبلغ واحدًا بالمليون من الثانية، لها دخلٌ في ذلك.

2. البحث العلمي حول عوامل صدور الفعل الاختياري بعد حدوثه

لو أنّ الأمر كما ذكرنا في المبحث أعلاه، فالسبيل الذي نسلكه لاستكشاف حقيقة الفعل الاختياري قبل حدوثه لا يعدّ تامًّا، وهذا النقص بكلّ تأكيدٍ ليس دليلًا علىٰ عدم علمية الفعل الاختياري، فنحن بعد صدوره نصبح قادرين علىٰ إجراء دراساتٍ وبحوثٍ علميةٍ متكاملةٍ حول جميع الحوادث والعوامل والدوافع التي تحقّقت حتّىٰ لحظة صدوره وكانت دخيلةً في ذلك؛ وكذا لو أنّ إحدىٰ الجسيمات الأساسية انتقلت إلىٰ مرحلةٍ لاحقةٍ من وضعها، فهنا نستطيع إجراء بحثٍ علمي حول حالتها السابقة أو الحالية علىٰ ضوء العوامل التي اجتازتها.

ما ذُكر أعلاه يعتبر أفضل دليلٍ علىٰ أنّ كلّ ظاهرةٍ في عالم الوجود لا يمكن أن تستقرّ في وضعها الوجودي الخاصّ بها دون قانونٍ علمي، والقاعدة التي أشرنا إليها: «العالم يختلف عن مسألة معرفة العالم» تنمّ بوضوحٍ عن عدم وجود أيّ اختلافٍ بين الحقائق الطبيعية وأفعال الإنسان الحرّة الاختيارية.

(353)

طريقة علمية لمعرفة قيمة الفعل الاختياري وعوامل صدوره

هناك طريقةٌ علميّةٌ يمكن الاعتماد عليها لمعرفة قيمة فعل الإنسان الاختياري والعوامل التي تساعد علىٰ صدوره، وهي تتلخّص في معرفة الأهداف والدوافع الكامنة في العوامل التي لها دورٌ في صدور الفعل الاختياري.

وعلىٰ ضوء المباحث التي ذكرت آنفًا، فبمقدار معرفتنا بنوعية نشاط إحدىٰ الشخصيات الإنسانية وأهدافها ومدىٰ خضوعها لتأثير العوامل والدوافع التي تحفّز الإنسان علىٰ القيام بفعله الإرادي، نتمكّن من معرفة النتيجة الحتمية لهذا الفعل من حيث ماهيته ونوعيته وكمّيته، وكذلك معرفة مدىٰ تأثير طباع الإنسان الخاصّة علىٰ صدور الفعل. وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ رجال المباحث المختصّين باستكشاف الجرائم والمحقّقين والقضاة، عادةً ما يستندون إلىٰ هذه القاعدة العلمية لمعرفة حقيقة الأفعال الصادرة من المتّهمين من حيث كونهم ارتكبوا الجريمة لأسبابٍ عاديةٍ أو لاضطرارٍ أو لإكراه أو لإجبارٍ، أو أنّهم ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم.

لو أنّ الفعل الاختياري بلغ درجةً من الغموض بحيث عجزنا عن معرفة العوامل والمقدّمات التي أدّت إلىٰ صدوره، ولو أنّ الشخصية الإنسانية تبادر إلىٰ القيام بأفعالها الاختيارية بشكلٍ مكنونٍ لدرجةٍ يستحيل معها معرفة كونها اختياريةً حقًّا أو إجباريةً أو اضطراريةً أو إكراهيةً أو عاديةً؛ ففي هذه الحالة لا تبقىٰ أيّة جدوىٰ من جميع المحاكمات القضائية والنشاطات العلمية التي تُبذل بغية معرفة حقيقة التّهم الموجّهة للمتّهمين، إلا أنّ الواقع علىٰ خلاف ذلك تمامًا، فالمحقّقون ورجال المباحث المختصّون باستكشاف الجرائم والقضاة، غالبًا ما يستحصلون علىٰ معلوماتٍ توجِد لديهم طمأنينةً شبه يقينيةٍ حول القضية الجنائية التي يتعاملون معها، وعلىٰ هذا الأساس يُصدرون أحكامهم القضائية.

لقد اعتمدت الغالبية العظمىٰ من العلماء والمفكّرين علىٰ الأسلوب الذي طرحناه في هذا المبحث لأجل استكشاف علمية الأفعال الاختيارية، وهذا الأمر ما زال مشهودًا علىٰ نطاقٍ واسعٍ في عصرنا الراهن، وسوف يبقىٰ الوضع علىٰ هذا المنوال ما دامت الشخصية الإنسانية تتأثّر بالطباع والأهداف والعوامل المحفّزة علىٰ صدور الفعل الاختياري؛ وإزاء ذلك تتواصل نفس هذه العملية الاستكشافية.

هناك قاعدةٌ فحواها أنّ الإنسان الذي يمتلك شخصيةً متّزنةً عقليًا ونفسيًا، حينما لا يصرّ

(354)

بشدّةٍ وبشكلٍ غير متعارفٍ علىٰ كتمان واقع مسيرته الشخصية من حيث أهدافها ومدىٰ تأثّرها بالدوافع، فهو يعرف حقيقة أفعاله الاختيارية التي يقوم بها علىٰ ضوء علمه بالمسير الذي وجب عليه قطعه في هذا المضمار، كما أنّ الذين يحاولون معرفة حالته النفسية بغية استكشاف واقع فعله الصادر منه ستتولّد لديهم قدرة علىٰ معرفة ذلك.

إذًا، نستشفّ من جملة المباحث التي طرحناها حتّىٰ الآن أنّ الفصل بين الحقائق الأكسيولوجية وبين العلوم يعتبر وازعًا للتقليل من شأن العلوم وتحقيرها بشكلٍ لا يمكن التسامح معه، ولا يعدّ تمييزًا بين القيم والعلوم وتحقيرها.

تعريف المبدأ الأكسيولوجي وتقسيمه إلىٰ متّفَقٍ عليه وحقيقي

القيم أو المبادئ الأكسيولوجية علىٰ أساس الفوائد المكنونة في ماهيتها، يمكن أن تقسم إلىٰ عدّة أنواعٍ ضمن المحورين التاليين:

النوع الأوّل: القيم المتّفَق عليها

النوع الثاني: القيم الحقيقية

الجدير بالذكر هنا أنّ المبدأ الأكسيولوجي ينمّ عن معنًىٰ انتزاعي بخصوص فائدة إحدىٰ الحقائق، لذا فالأمر الذي لا فائدة منه لا قيمة له؛ وهذا يعني أنّ القيم ضروريةٌ للبشر لكونها ذات فائدةٍ في حياتهم المادّية والمعنوية، وقد طرحت لها تعاريف عديدة في العصر الحاضر، لكن يمكن القول بأنّ ما ذكرناه أعلاه يعتبر أشمل تعريفٍ لها.

بعض المفكّرين اعتبروا المبدأ الأكسيولوجي كامنًا في القضايا النوعية فحسب ولا يمكن مقارنته مع القضايا الكمّية، أي إنّهم يعتبرونه علىٰ غرار الجمال. لو أنّ هذا المعنىٰ اعتبر توافقًا اصطلاحيًا فلا توجد أيّة مشكلةٍ، لأنّ المصادقة علىٰ الاصطلاحات المتّفَق عليها يراد منها تيسير مسألة التفاهم بين البشر، وهي موجودةٌ علىٰ مرّ التاريخ، لكن لا ينبغي المزج بين المفاهيم الكامنة في المصطلحات العامّة مراعاةً للمصلحة المرتقبة من وراء التفاهم؛ وفي بحثنا الحالي لـمّا نذكر المبدأ الأكسيولوجي دون أن نوضّح مرادنا من حيث كونه مفيدًا أو أنّه من الأمور النوعية، فلا شكّ في هذه الحالة يحدث مزج بين المعنيين وسوف نقع في خطأ.

(355)

وفيما يلي نتطرّق إلىٰ بيان النوعين من القيم بتفصيلٍ أكثر:

أوّلًا: القيم المتّفَق عليها

المبادئ الأكسيولوجية المتّفَق عليها هي قيمٌ منشؤها اعتباراتٌ أقرّتها الشعوب والأمم لنفسها، وهي تقسم في صنفين أساسيَين كما يلي:

الصنف الأوّل: ما يطلق عليه الأخلاق المحرّمة أو المحظورة، وسائر الأقوال والأفعال والأهداف التي تترتّب علىٰ هذه الأخلاق - القيم - ومنشؤها في الحقيقة استنتاجاتٌ غير عقلانيةٍ لبعض القضايا.

وكمثالٍ علىٰ هذا الصنف نقول: قيل إنّ بعض البلدان التي لم تتمكّن من تحقيق تطوّرٍ علمي وثقافي ما زال زعيم القبيلة فيها صاحب مكانةٍ خاصّةٍ بحيث لا يحقّ لأحدٍ مدّ يده في إناء الطعام الذي يأكل منه[1]؛ وهنا حدث أمران متزامنان، أحدهما قيام شخصٍ من عامّة الناس بتناول الطعام من الإناء الخاص لزعيم القبيلة والآخر جريان السيل دون أيّة علاقةٍ علّيةٍ بينهما.

الجدير بالذكر هنا أنّ جميع مصاديق هذا الصنف من القيم ليس لها أيّ منشأ أو معيارٍ واقعي مادّيًا ومعنويًا، وهي ذات أنواع وصيغ عديدة، كذلك لها عللٌ متنوّعةٌ وتختلف من حيث الكمّ لدىٰ كلّ شعبٍ وأمّةٍ رغم أنّ علماء ومفكّري كلّ منطقةٍ يحاولون صياغة علل ومعايير معقولة لها كي تدرج ضمن المبادئ الأكسيولوجية.

الصنف الثاني: القيم الثقافية للشعوب والأمم التي هي علىٰ مستوىٰ معيّن من العلم والتوجّهات الفكرية والثقافة والثروة والسياسة والقانون والصناعة.

بما أنّ هذه المجتمعات تظهر فيها ثقافات ناشئة من عوامل علمية وتوجّهات فكرية خاصّة، لذلك لا تشيع فيها الأخلاقيات والقيم المحظورة، بل تشيع فيها الأخلاق والقيم المتقوّمة علىٰ حقائق أصيلة، ومثالها مناسبة عيد النيروز في إيران، فالمواطنون الإيرانيون في باكورة أوّل شهرٍ في السنة الشمسية - شهر فروردين - يتزاورون فيما بينهم والبهجة والأفراح

(356)

تعمّ مجالسهم ويبسطون مائدةً فيها سبعة أنواعٍ من الطعام يبدأ اسم كلّ واحدٍ منها بحرف السين، حيث تعتبر هذه المناسبة السنوية عيدًا لديهم.

عيد النيروز تُراعىٰ فيه بعض الأعراف والتقاليد مثل الأخلاق المحرّمة، وهذه الآداب ليست عبثيةً بطبيعة الحال، إذ عند حلول الشهر الأوّل من السنة الشمسية يحلّ فصل الربيع، حيث تخضرّ الحقول والأشجار وتنمو الأعشاب فتضفي للطبيعة والحياة طلاوةً خاصّةً تُبهج النفوس، لذا تستعيد الحياة جمالها من جديدٍ؛ وبما أنّ هذه العلّة ذات ميزةٍ حيويةٍ لهذا المجتمع، فقد اعتُبرت الأيام الأولىٰ من الشهر المذكور عيدًا لدىٰ أهله، وهذا العيد بكلّ تأكيدٍ منبثقٌ من إحدىٰ الحقائق.

طبعًا قد لا يحدث أحيانًا تطابقٌ تامٌّ بين كيفية الاحتفاء بهذه المناسبة وبين التقاليد المتعارفة بين الناس فيه، إلا أنّ أصل هذا المبدأ الأكسيولوجي في أوائل شهر فروردين، هو علىٰ غرار الأخلاق المحرّمة لكونه مستندًا إلىٰ علّةٍ، إذ إنّ علّة اتّصافه بأخلاقياتٍ وقيمٍ متقوّمةٍ علىٰ حقائق تكمن في كونه وازعًا لظهور وشيوع أنواعٍ عديدةٍ من العناصر الثقافية التي تزيح الأخلاقيات والقيم العبثية بشكلٍ تلقائي علىٰ ضوء تفاعلها مع بعضها بشكلٍ متناغمٍ، ومن ثمّ تمهّد الأرضية المناسبة لكلّ أمرٍ أصيلٍ كبديلٍ عن كلّ أمرٍ لا أساس له؛ لكن في بعض الأحيان تكون إزاحة تلك الطباع غير الأصيلة سببًا لظهور قضايا غير أصيلةٍ وإشاعة النزوات والاستبداد.

ثانيًا: القيم الحقيقية ومعيار كونها أصيلةً 

المعيار في ارتكاز القيم علىٰ الحقائق الأصيلة هو ارتباطها بذات الإنسان - روحه ونفسه وشخصيته - مما يعني أنّ المبدأ الأكسيولوجي مهما كان ارتباطه بالذات الإنسانية أكثر وأوثق، يصبح وجوده فيها أشدّ ضرورةً، ومن ثمّ فهو أنسب لأن يُطرح في إطار البحث والتحليل العلمي، إذ له القابلية علىٰ أن يعتبر موضوعًا علميًا مشمولًا لقانونٍ علمي كلّي.

ومثال ذلك القضية التالية: «لا يجوز لأحدٍ التعدّي علىٰ حقوق الآخرين»، فهي قضيةٌ أكسيولوجيةٌ رغم أنّ ضرورتها ليست علىٰ غرار الضرورة الجبرية الموجودة بشكلٍ مباشرٍ في القوانين الجبرية للطبيعة، ولكن نظرًا لكون وجودها أو عدمها مرتبطَين بذات الإنسان، لذا بالإمكان طرحها في نطاق العلم.

القضية المذكورة أعلاه لها ارتباطٌ بالذات الإنسانية علىٰ ضوء علّتين، وأحيانًا يكون هذا الارتباط منبثقٌ من إحدىٰ هاتين العلّتين؛ وهما كما يلي:

(357)

1. التعدّي علىٰ حياة الآخرين يؤدّي إلىٰ الشعور بضرورة الانتقام من قبلهم، أو أنّه سببٌ في الملاحقات القانونية والقضائية، الأمر الذي يزعزع أوضاع الحياة الاجتماعية.

2. الشعور العميق بالحزن وتأنيب الضمير، وهذا الأمر بطبيعة الحال يتولّد لدىٰ أصحاب الشخصيات الرشيدة الناضجة شعوريًا لكونها تمتلك ضميرًا حيًا متكاملًا.

قد يعترض البعض قائلين: هاتان العلّتان لا يمكن اعتبارهما وازعًا للقول بأنّ وجوب مراعاة كرامة الإنسان وشرفه هو علىٰ نحو الضرورة العلمية البحتة، لأنّنا نلاحظهما في الكثير من الحالات تفقدان أثرهما مقابل إرادة الإنسان التي ترفض مراعاة هذه الحقوق.

للردّ علىٰ هذا الاعتراض نقول: الأمر الذي يترتّب علىٰ عدم مراعاة العلّتين المذكورتين لا يجعل أثر التعدّي علىٰ حقوق الآخرين منطبقًا مع عدمه، مما يعني أنّنا لا نشعر بالحرن والأسىٰ حينما يتعرّض الشخص الذي تعدّىٰ علىٰ حقّ غيره لانتقامٍ شخصي من قبل صاحب هذا الحقّ أو أنّه يعاقب من قبل القانون؛ لكن غاية ما في الأمر أنّ الشخص المعتدي يتحمّل الانتقام وعقوبة القانون ويصبر علىٰ ذلك، ولو افترضنا أنّه لم يكترث لذلك بحيث يتصوّر أنّ انتقام صاحب الحقّ والعقوبة القانونية لا يلحق به أيّ أذىٰ أو ضررٍ، فهنا أيضًا لا يمكن ادّعاء تكافؤ الآثار المترتّبة علىٰ تحقّق ذلك أو عدم تحقّقه، لأنّ تحمّل الأذىٰ والصبر عليه عبر السيطرة علىٰ الأعصاب إلىٰ أقصىٰ حدٍّ ممكنٍ عن طريق السيطرة علىٰ القوىٰ النفسية وعدم الاهتمام بأعتىٰ أنواع العذاب، هو في الواقع علىٰ خلاف التأثير الناجم عن الانتقام والعقوبة في نفسه.

فضلًا عمّا ذُكر، بإمكاننا بيان مقدار الطاقة التي استهلكها هذا الشخص في صبره وتحمّله من زاويةٍ علميةٍ وذلك وفق معايير مناسبة، كما لدينا القدرة علىٰ القيام ببحثٍ مختبريٍ حوله حين تحمُّله النفسي للانتقام والعقاب، وفي هذا الحال يمكننا إيجاد بعض العوامل التي تقلّل من تمركزه الذهني كي نقلّل من مدىٰ مقاومته وصبره؛ ومن ثمّ نقول علىٰ ضوء هذا الاختبار العلمي: القضية الأكسيولوجية القائلة «لا يجوز لأحدٍ التعدّي علىٰ حقوق الآخرين» توجد معلولًا يُسفر عن إلحاق ضررٍ بروح أو نفس الشخص المعتدي حتّىٰ وإن تمكّن من خلال تحمّله وصبره وسائر قابلياته النفسية من إبطال مفعول الأذىٰ الناجم عن الانتقام أو العقاب القانوني.

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ أحد أسباب تحقّق أثر الانتقام الشخصي أو العقاب القانوني في نفس المعتدي أو بدنه، وشخصيته بشكلٍ عام، هو أنّ الانتقام أو العقاب حينما يكون أكثر

(358)

شدّةً، فهو يؤدّي إلىٰ حرمان المعتدي من القدرة علىٰ التحمّل والصبر إزاءه بحيث يتذوّق مرارة الأذىٰ والضرر في نفسه وشخصيته؛ فهذا الأمر بحدّ ذاته يعتبر دليلًا علىٰ أنّ التحمّل مهما كان شديدًا فهو في نهاية المطاف ليس متناهيًا، بل لا بدّ وأن يكون محدودًا بمستوىٰ معينٍ، وحتّىٰ لو أنّ المعتدي قاوم وصبر لدرجة الموت فهذا لا يعني أنّه كان يمتلك قدرةً لا متناهيةً في التحمّل؛ فخروج المقاومة عن مستواها الطبيعي المتعارف يدلّ علىٰ كون تحمّل الشخص المقاوم ناشئًا من فقدانه للشعور الطبيعي وكونه دافع عن موقفه من منطلق اللاشعور الذي لا يستند إلىٰ أيّة رؤيةٍ معينةٍ. هذا الكلام يرد أيضًا بخصوص العلّة الثانية التي هي الشعور العميق بالحزن وتأنيب الضمير، ولكن غاية ما في الأمر أنّ الحزن وتأنيب الضمير يختصّان بأولئك الذين لم يسقطوا في حضيض المساوئ التي تجعلهم لا يكترثون بالجمال والقبح، ولا بالخير والشر، ولا بالوجود والعدم، جرّاء تلوّثهم بالرذائل والأدران النفسية التي تميت الضمير.

ونقرّر ما ذُكر بصياغةٍ أخرىٰ: الألم والعذاب النفسي يشعر بهما صاحب الضمير الحي، وهذه الحالة تناظِر قولنا إنّ ضعف البصر صفةٌ مختصّةٌ بمن هو مبصر ولا معنىٰ لها بالنسبة من هو أعمىٰ من الأساس.

قد يتوهّم البعض أنّ الشعور العميق بالألم والعذب النفسي، وكذلك سوء الانتقام من المعتدي علىٰ حقوق الآخرين أو سوء عقابه قانونيًا، هي أمورٌ لا يمكنها أن تجعل تأثّر القضية الأكسيولوجية القائلة «لا يجوز لأحدٍ التعدّي علىٰ حياة الآخرين» يبلغ درجة التأثير الجبري لأحد القوانين الطبيعية؛ حيث ارتكزوا في ادّعائهم هذا إلىٰ ظاهرة عدم اكتراث الكثير من المجرمين بالعوامل الثلاثة المشار إليها، أي الألم الناجم من الانتقام الشخصي، والعقاب القانوني، والشعور بتأنيب الضمير.

وهنا نسوق المبحث التالي للردّ علىٰ هذا الادّعاء:

ـ تحمّل نتائج مخالفة القيم لا يعتبر دليلًا علىٰ عدم علميتها بحيث يدّعىٰ أنّها لا تندرج ضمن المسائل العلمية

من السذاجة بمكانٍ تصوّر البعض أنّ قدرة الإنسان علىٰ تحمّل النتائج التي تتمخّض عن أفعاله المنافية للقيم تسوّغ له ارتكاب أقبح الأفعال دون أن يردعه أيّ رادعٍ باطني، بل تسمح له بالاستهانة بجميع القوانين الحقوقية والمقرّرات الاجتماعية حتّىٰ وإن كانت شبه جبريةٍ في طبيعتها، فهي من وجهة نظره أهون من بيت العنكبوت.

(359)

نقول لهؤلاء إنّ الإصرار علىٰ مخالفة القيم والقوانين والحقوق الاجتماعية يعتبر نظيرًا لتجريد العقل والضمير الإدراك والمشاعر الإنسانية النبيلة، ومن ثمّ استبدالها بعناصر قاسية مثل الفولاذ والحديد وسائر الأجسام الصلدة التي لا فهم لها ولا شعور يجعلها تتأثّر بما يجري حولها؛ لذا لو ادّعىٰ أحدٌ أنّ تشابه الناس بهيئتهم الظاهرية هو السبب في امتلاكهم حقوقًا متكافئةً في الروح والكرامة والحياة، فلا يمكننا التفاهم معه بأيّ منطقٍ كان.

من يدّعي أنّ الأفذاذ الذين تمكّنوا بمكانتهم السامية وقوّة إرادتهم وقراراتهم الصائبة من إيجاد تغييراتٍ في مجتمعاتهم والرقي بواقعها نحو التكامل، ولم يتوانوا عن التضحية والإيثار لأجل تحقيق طموحات بني جلدتهم وأهدافهم النبيلة؛ علىٰ غرار أولئك المخرّبين الذين يزعمون أنّهم هم الهدف وغيرهم مجرّد وسيلةٍ، ويعملون علىٰ تحقيق رغباتهم حتّىٰ وإن أدّىٰ ذلك إلىٰ هلاك الملايين من البشر؛ فهو في الواقع يعتبر كلا الصنفين نمطًا واحدًا ويزعم أنّهم متكافؤون من حيث الروح والنفس والشخصية والضمير! لا ريب في أنّ هذا الادّعاء الواهي لا يراود ذهن أيّ إنسانٍ عاقلٍ يمتلك أدنىٰ مستويات المعرفة بواقع الشخصية البشرية، ومن يتبنّاه فهو في الواقع يرتكب خيانةً بحقّ الروح الإنسانية وشخصيتها، وهو أسوأ من جنكيز خان وأمثاله من طواغيت أزهقوا أرواح البشر، فهؤلاء الجبابرة قضوا علىٰ الأبدان فقط.

من المؤكّد أنّ كلّ جريمةٍ لا بدّ وأن يترتّب عليها أثرٌ معينٌ في روح الإنسان وشخصيته حتّىٰ وإن لم يظهر ذلك في إطار العلل والمعلولات الجسمانية، فهل يمكن للإنسان التشكيك بحقيقة الأمراض النفسية التي لا تظهر في علل ومعلولات الأعضاء البدنية الظاهرية؟! وهل يمكن لأحدٍ إنكار وجود مشافي الأمراض النفسية والمراكز الدراسية المختصّة بعلم النفس لكون موضوعها - الأمراض والحالات النفسية - لا تظهر بشكلٍ مادّي ولا تخضع لحسابات علم الفيزياء؟! ومن ثمّ لو أنكر شخصٌ هذه الأمور الثابتة، فهو بزعمه قد أخرج موضوعًا غير علمي من ميدان العلم والمعرفة، فيشعر بالسرور إزاء ذلك ويرقد في مضجعه منتعشًا راجيًا أن يدوّن اسمه في تاريخ مجتمعه وثقافته التي ترعرع في رحابها كشخصيةٍ فلسفيةٍ عظمىٰ أبدعت في المجال العلمي!

كلّ مخالفةٍ للقيم الحقيقية لا تخلو من تأثيرٍ عليها

ننوّه هنا علىٰ أنّ قدرة الإنسان علىٰ المقاومة بإرادته أمام الحقائق ومختلف الآثار التي تترتّب عليها لا يعتبر دلالةً علىٰ كون هذه الحقائق والآثار ليست علميةً، فمن يقدم علىٰ

(360)

الانتحار مثلًا، هو في الواقع يخالف إحدىٰ الحقائق علىٰ ضوء حقيقةٍ أخرىٰ؛ لأنّ الانتحار لا يعني إزالة أحد الأمور الاعتبارية بأمرٍ اعتباري آخر، وإنّما هناك حالةٌ نفسيةٌ شاذّةٌ وإرادةٌ تقضيان علىٰ الحياة التي تعدّ أكثر الحقائق أصالةً.

إذًا، بما أنّ الإنسان يستطيع القضاء علىٰ أكثر الحقائق أصالةً عن طريق تفعيل إرادته الشخصية، لذا لا يمكن ادّعاء ما يلي: «نستنتج من ذلك أنّ الحياة أمرٌ اعتباري -افتراضي- ومتّفقٌ عليه، وأنّ الحفاظ عليها كذلك أيضًا». هذا الكلام ليس صائبًا بكلّ تأكيدٍ، ومن المؤسف أنّ بعض الكتّاب يرغبون بإحياء الفكر السوفسطائي الذي شاع قبل ميلاد المسيح، ومن هذا المنطلق نجدهم لا يتورّعون عن وصف الحقائق قائلين: «إنّ صيانة الذات -الرغبة في البقاء واستمرار الحياة- هي أمرٌ أكسيولوجي لكونها تفتقر إلىٰ الجبر والضرورة الموجودين في القوانين الطبيعية».

الردّ علىٰ هذا الرأي السوفطائي اتّضح فيما ذُكر أعلاه، ونضيف إليه ما يلي: كلّ إنسانٍ يعيش في كنف حياةٍ طبيعيةٍ سليمةٍ لا يشوبها أيّ مرضٍ نفسي، حينما يواجه حادثًا مميتًا فهو يبادر فورًا إلىٰ الخلاص منه أو يحاول تحصيل كلّ أمرٍ يعينه علىٰ ذلك دون أن يتأنّىٰ ويغور في الفكر والاستنتاجات وتصوير قضايا منطقية في ذهنه؛ لأنّه يحاول إنقاذ نفسه برغبته وإرادته.

استنادًا إلىٰ ما ذُكر يمكن القول إنّ ردّة الفعل المفاجئة هذه إزاء حلول عامل الموت تعتبر أفضل دليلٍ لإثبات علمية القيم الخاصّة بصيانة الذات والحفاظ علىٰ الحياة.

إذًا، الإنسان يتسبّب بحدوث خللٍ في حقيقة وجوده من منطلق عدم اكتراثه بكونها تجسّد حقيقةً أكسيولوجيةً منبثقةً من روحه ونفسه وشخصيته التي تعدّ أكثر الحقائق أصالةً.

من يتجاهل العدل ويرتكب ظلمًا علىٰ سبيل المثال، هو في الواقع يُلحق ضررًا بحقيقة وجوده الأصيلة بمقدار ما قضىٰ عليه من هذا المبدأ الأكسيولوجي - العدل - كمًّا وكيفًا؛ أضف إلىٰ ذلك فالكذب سواءً علم به الكاذب أو لم يعلم، لا بدّ وأن يوجِد خللًا محتومًا في روح الإنسان ونفسه.

ولربّما يتذرّع شخصٌ بالنزعة العلمية والدفاع عن المفاهيم المتّفق عليها في مجال البحث العلمي ويقول: «لقد كذبت حتّىٰ الآن مئات المرّات، لكن لم ينقص منّي أيّ شيءٍ، ولم يحدث أيّ معلولٍ دون علّةٍ، ولم يحدث خللٌ في الحسابات الرياضية لتصبح المعادلة

(361)

التالية بهذه النتيجة: 2 * 2 = 13,175»! إنّ هذه الرؤية التي تُطرح في نطاق العلم والقيم، هي في الواقع رؤيةٌ ساذجةٌ للغاية، ومن يعتبر نفسه سالكًا في طريق العلم والقيم لا ينبغي له الدفاع عنها، فالكذب بحدّ ذاته اعتبره البعض خارجًا عن نطاق العلم وقيّدوه بالجانب الأخلاقي فحسب، حيث زعموا عدم جواز بسطه للشرح والتحليل علىٰ ضوء القوانين العلمية، وما يدعو للأسف أنّ هذه الفكرة قد تبنّاها بعض السذّج الذين يُعتبرون من مشاهير علم الفيزياء في عصرنا الراهن؛ فهم بهذا الموقف يتهرّبون في الحقيقة عن البحث العلمي[1].

وفيما يلي نتطرّق إلىٰ بيان الموضوع في النقاط التالية:

1. يتلخّص معنىٰ الكذب بما يلي: الشخص الكاذب يذكر أمرًا كاذبًا في كلامه ويعتبره حقيقيًا، ومثال ذلك أنّ هذا الشخص لو علم أنّ صديقًا له قد ارتكب جريمةً، فهو يدّعي كذبًا أنّ شخصًا آخر قد ارتكبها.

2. طبقًا للمثال الذي ذكر في النقطة الأولىٰ، فالأمر الذي ينعكس في ذهن الكاذب من حقائق عالم الخارج، أو مما أدركه منها؛ هو ارتكاب الجريمة بواسطة صديقه، وهذا الانعكاس قد تحقّق في منظومته الإدراكية، وهو ثابتٌ وراسخٌ فيه؛ ولو أنّنا استطعنا إحصاء وتحليل جميع العوامل والنشاطات والآثار المرتبطة بشخصيته في عالم الخارج وفيما يخصّ أقرانه البشر، لوجدنا القضية التالية قد تبلورت في ذهنه: «صديقي قد ارتكب جريمةً». وحتّىٰ لو أمكننا دراسة وتحليل طبيعة جميع الأحداث والظروف التي وقعت في عالم الطبيعة الرحب حين مبادرة هذا الشخص إلىٰ قول الكذب، لوجدنا القضية ذاتها المشار إليها أعلاه موجودةً وهي راسخةٌ في ذهن هذا الكاذب.

3. لو افترضنا أنّ الكاذب كان بحاجةٍ إلىٰ مقدارٍ من الطاقة كي تنعكس القضية المذكورة في ذهنه، فهذه الطاقة بكلّ تأكيدٍ قد استهلكت في ذهنه دون زيادةٍ أو نقيصةٍ.

(362)

4. الكاذب يتجاهل الحقيقة التي فحواها أنّ صديقه هو الذي ارتكب الجريمة لكي يُظهر خلاف ما هو مكنون في باطنه، وبهذه الطريقة يتمكّن من إظهار أمرٍ يخالف الواقع؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ هذه الإرهاصات غير موجودةٍ لدىٰ بعض الساسة من أمثال مكيافيللي لكونهم لا يعانون من صراعٍ باطني لدىٰ إظهارهم أمرًا يتعارض مع الواقع، إذ إنّ هؤلاء يعتبرون الحقائق منسجمةً مع الظروف والأهداف التي يطمحون إلىٰ تحقيقها، فهي برأيهم متغيّرةٌ، أي لا يعتقدون بوجود حقيقةٍ ثابتةٍ سوىٰ تلك الحقيقة التي تجعلهم يحقّقون هدفهم!

5. حينما يتمّ القضاء علىٰ كائنٍ من قبل كائنٍ آخر أقوىٰ منه، فهذا لا يعني أنّ هذا الكائن الضعيف لم يكن موجودًا حقيقةً بحيث كان وجوده مجرّد افتراضٍ لا غير، أي إنّه اعتباري فحسب! فكما أنّ العامل الذي أدّىٰ إلىٰ هلاك هذا الكائن الضعيف - حتّىٰ وإن كان نملةً - والمتمثّل بالقدرة والإرادة والقرار، موجودٌ علىٰ أرض الواقع ولا يعدّ اعتباريًا، كذا هو الحال بالنسبة إليه، فهو موجودٌ علىٰ أرض الواقع وليس اعتباريًا.

لو أنّك دعست نملةً بقدمك وسوّيتها مع الأرض بحيث لا يمكنك مشاهدة أيّ جزءٍ سليمٍ من بدنها، فهذا بكلّ تأكيدٍ لا يعني أنّها لم تكن موجودةً سابقًا بشكلٍ حقيقي وكان وجودها اعتباريًا فقط، ومن ثمّ حين تموت لا يمكن طرح أيّ موضوعٍ علمي حولها! ومن هذا المنطلق نقول لأصحاب ذلك الرأي: إنّكم قادرون علىٰ الكذب وإظهار ما يخالف تلك الحقائق المرتكزة في أذهانكم، فأنتم مثل الإنسان القادر علىٰ دعس نملةٍ بقدمه والقضاء عليها، لأنّكم تدّعون أنّ الجريمة قبيحةٌ، ونحن نقول لكم نعم إنّها قبيحةٌ، ولو أنّها ارتُكبت آلاف المرّات فهي تبقىٰ علىٰ هذا الحال دون أن تتغيّر حقيقتها الثابتة، إذ إنّ قبحها حقيقي وليس اعتباريًا.

إمكانية تحليل الحقائق الأكسيولوجية من زاويةٍ علميةٍ وفلسفيةٍ

كلّ شيءٍ يمكن أن يُطرح للبحث والتحليل علىٰ ضوء السؤال عن حقيقته وعلل وجوده، فهو من الناحية العلمية يمكن أن يكون موضوعًا للبحث والتحليل والاستدلال العلمي، ولا شكّ في أنّنا قادرون علىٰ طرح ماهيات القيم بشكلٍ عامٍّ والشؤون المعنوية بشكلٍ خاصٍّ كمواضيع للسؤال والاستفسار بغية كسب معرفةٍ حولها؛ فعلىٰ سبيل المثال يمكننا أن نتسائل

(363)

قائلين: ما هي ماهية العدل والإيثار والعفو والشعور بالمسؤولية فيما وراء الدوافع الشخصية؟ الأجوبة التي يمكن أن تُذكر للإجابة عن هذا السؤال هي بطبيعة الحال تُجسّد حقائق تصدق بشكلٍ عام علىٰ كلّ ما يتفرّع عن هذه القيم الأخلاقية السامية. فضلًا عن ذلك باستطاعتنا اتّباع هذا الأسلوب في السؤال عن العلل الموجدة لتلك القيم ومختلف معلولاتها، ومن ثمّ نستحصل علىٰ أساسه إجابات كلّية[1].

وفيما يلي نتطرّق إلىٰ بيان ما إن كنّا قادرين علىٰ دراسة وتحليل القيم من زاويةٍ فلسفيةٍ أو غير قادرين علىٰ ذلك، وهذا الموضوع واضحٌ بطبيعة الحال، فحسب التعريف الفلسفي لحقائق عالم الوجود، والذي يؤكّد في أحد جوانبه علىٰ إمكانية طرح إجابةٍ نهائيةٍ عن العلل والماهيات، لا يوجد أدنىٰ شكٍّ في قدرتنا علىٰ شرح وتحليل جميع القيم والمسائل المعنوية؛ وفي غير هذه الحالة لا محيص لنا من الإذعان لقول من قال: «الفلسفة هي تلك المكبّرة التي يحاول كلّ شيءٍ الفرار منها، لكنّه غير قادرٍ علىٰ ذلك لأنّها تسع عالم الوجود قاطبةً، فهي تعمّ جميع أجزاء هذا العالم ولا تستثني شيئًا منه».

مجمل الرؤىٰ العلمية والفلسفية الخاصّة بالقيم يمكن تلخيصها ضمن المحاور التالية التي جعلنا الأخلاق الفاضلة أنموذجًا لها:

1. الرؤية العلمية

الأخلاق الإنسانية الفاضلة كما ذكرنا في المباحث الآنفة، تُطرح فيها مسائل عن ماهيتها والعلل الموجدة لها والعقبات التي تحول دون تحقّقها ومقدارها ونوعيتها وميزاتها، كما تخضع للمقارنة والتطبيق، وإلخ؛ ونقول في تعريفها: «هي الأخلاق التي تشمل الصفات والملكات الإنسانية الحميدة التي تنشأ إثر صيانة النفس في مسيرة تكامل نفسه، لذا كلّما بلغت النفس درجات أعلىٰ من الكمال في هذه المسيرة سوف تتعالىٰ معها الأخلاق الفاضلة؛ وكلّ إنسانٍ يمتلك أكبر مقدارٍ منها فهو ينعم بطمأنينةٍ نفسيةٍ أكثر من غيره وتتزايد مع ذلك فائدته لمجتمعه مقارنةً مع الآخرين».

الأخلاق الفاضلة تنشأ لدىٰ الإنسان في إطار مراحل عديدة، وكلّ مرحلةٍ لها مقتضيات وشروط وعقبات خاصّة بها بحيث تؤثّر علىٰ سلوك الإنسان بحسب مقدارها ومستواها.

(364)

2. الرؤية الفلسفية

الرؤية الفلسفية التي تُطرح علىٰ صعيد الأخلاق الفاضلة هي عبارةٌ عن تيارٍ فكري دقيقٍ وواسع النطاق تُطرح علىٰ ضوئها إجابات عن التساؤلات حول الحقائق، وهي بطبيعة الحال تفوق تلك الإجابات التي تُطرح في رحاب الرؤية العلمية، فالإجابات التي تطرحها الرؤية الفلسفية أعلىٰ درجةً وأكثر تفصيلًا من تلك التي تطرحها الرؤية العلمية، حيث نستشفّ منها النتيجة النهائية لكلّ استفسارٍ.

ومن خلال مثال الأخلاق الإنسانية الفاضلة تتّضح هذه الخصوصية الكائنة في الرؤية الفلسفية، لذا بعد البحث والتحليل العلمي الذي نثبت علىٰ ضوئه أنّ هذه الأخلاق تعني امتلاك الإنسان صفات وملكات إنسانيةً حميدةً تنشأ لديه عبر صيانة نفسه في مسيرة تكامل ذاته؛ يُطرح السؤال التالي: هل أنّ كينونة الإنسان في مسيرة تكامل ذاته ضمن سعيه لصيانة نفسه تعتبر من مقتضيات ذاته وشخصيته الإنسانية أو أنّها من الأمور العارضة عليها؟ بعد أن نجيب عن هذا السؤال بـ «نعم»، ونقول علىٰ سبيل المثال إنّ صيانة النفس في المسيرة التكاملية تعتبر من مقتضيات الذات الإنسانية، يُطرح هنا سؤالٌ آخر، وهو: ما هي العوامل الأكثر تأثيرًا في إزالة هذا المقتضي؟ ولكن لو كانت الإجابة كالتالي: صيانة النفس في المسيرة التكاملية لا تعتبر من مقتضيات الذات الإنسانية، ففي هذه الحالة يتبادر السؤال الآتي إلىٰ الذهن: ما هو سبب ظهور هذه الحالة الهامّة في النفس الإنسانية والتي ينالها الكثير من صلحاء بني آدم؟

من البديهي أنّ هذا النمط من الأسئلة التي تتمحور مواضيعها حول أصولٍ علميةٍ وفلسفيةٍ قد خُصّصت لها إجاباتٌ محدّدةٌ، ومن المؤكّد أنّ هذه الإجابات ذات جانبٍ علمي فلسفي أيضًا.

ونلخّص مجمل ما ذُكر كالتالي: كلّ حقيقةٍ معقولةٍ تتّسم بالواقعية علىٰ نحوٍ ما، فهي يمكن أن تُطرح ضمن نطاق القانون الذي يعمّها، ومن المؤكّد أنّ هذه الحقيقة لها القابلية علىٰ أن تُطرح للبحث والتحليل في رحاب العلم والفلسفة علىٰ حدٍّ سواء؛ وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّنا أثبتنا أصالة القيم علميًا وفلسفيًا في المباحث الآنفة.

في المبحث التالي سوف نسوق البحث والتحليل حول الدين الذي هو في الواقع أعلىٰ القيم

(365)

قاطبةً والبنية الأساسية لها لنرىٰ القاعدة العلمية أو الفلسفية التي يتمّ علىٰ أساسها فصله عن العلم.

هل الدين منفكٌّ عن العلم والفلسفة؟

مقصودنا من العلم والفلسفة في هذا المبحث هو المعنىٰ الشامل لهما، وهو عبارةٌ عن: «المعرفة المتقوّمة علىٰ تفاصيل» و«الاستدلالات المرتكزة علىٰ الحقائق العينية الملموسة، والتعقّل البحت».

الجدير بالذكر هنا أنّ مسألة فصل الدين عن العلم قد شاعت علىٰ نطاقٍ واسعٍ بين السُذّج في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بحيث تصوّر بعضهم أنّهما مقولتان متضادّتان ولا يمكن أن يتناغما مع بعضهما بتاتًا؛ فضلًا عن ذلك فخلال الفترة الماضية طرح آخرون فكرة فصل الدين عن السياسة والثقافة والاقتصاد والقانون والفنّ وسائر المجالات المرتبطة بحياة الإنسان، والأشدّ من ذلك أنّهم دعوا إلىٰ فصله عن الأخلاق التي هي في الواقع أكثر ارتباطًا به من أيّ أمرٍ آخر، كما هو مروي عن خاتم الأنبياء محمّد (صلىٰ الله عليه وآله)، حيث قال: «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق».

ويمكن القول إنّ هذا الفصل لا يستند إلىٰ أصول وضوابط علمية صائبة، بل هو مجرّد موضةٍ معاصرةٍ تزيّنت بها مدوّنات بعض الكتّاب ومجرّد شعارٍ روّج له عددٌ من المؤسّسات والأوساط الفكرية؛ وما يحدث اليوم هو خير دليلٍ علىٰ ذلك، إذ بعد أن بانت نتائجه السيّئة بصفته مصداقًا لتنويرٍ فكريٍ عبثي، شاعت في المجتمعات البشرية ظاهرة الدفاع عن الأمور المعنوية ولا سيّما الدفاع عن الدين؛ وكما هو معلومٌ فالمفكّرون الملمّون حقًّا بمبادئ العلوم الإنسانية الأصيلة ليس من شأنهم أن يتأثّروا بموضة الأمس أو اليوم.

بناءً علىٰ ما ذُكر نقول: أهمّ ذريعةٍ يمكن التشبّث بها لإقناع السذّج من الناس بفكرة الفصل بين الدين وسائر شؤون الحياة، هي كتمان الصورة الحقيقية له، إذ من الممكن التمويه علىٰ الجهلة من خلال جملةٍ أو جمليتن بسيطتين وإقناعهم بعدم وجود ارتباطٍ بين الدين والعلم وسائر القضايا الحياتية، ومن ثمّ فهو لا ينسجم معها بأيّ شكلٍ كان.

الحقيقة أنّ هذه الصورة المشوّهة للدين والتي كانت وما زالت مطروحةً من قبل البعض،

(366)

لا تتقوّم علىٰ أيّة مرتكزاتٍ علمية أو سياسية أو اقتصادية أو قانونية أو ثقافية أو فنّية، بل إنّها لا تمتّ إلىٰ هذه القضايا بأدنىٰ صلةٍ، فهذه القضايا بحدّ ذاتها لا تقارَن مع بعضها تحت أيّة قواعد منطقية نظرًا للاختلافات الموجودة فيما بينها.

المباحث التي تطرّقنا إليها حتّىٰ الآن بخصوص العلوم والقيم، عبارةٌ عن شروح وتحليلات واستدلالات تقتضي الضرورةُ القيامَ بها في نطاق العلم والمعرفة، وفي المبحث التالي سوف نتطرّق إلىٰ شرح وتحليل آراء اثنين من المفكّرين والباحثين الذين اعتبروا العلوم الأساسية المعاصرة منطلقًا لآرائهم ونظرياتهم التي جعلها بعض الكتّاب مرتكزًا لهم في مدوّناتهم، لذا فهدفنا الأساسي من وراء ذلك هو تنبيه أمثال هؤلاء الكتّاب علىٰ أنّهم اعتمدوا في تدوين كتاباتهم علىٰ أفكارٍ لا تمتّ إلىٰ الواقع العلمي بأدنىٰ صلةٍ رغم كون هذه الأفكار شاعت واشتهرت في الأوساط الفكرية علىٰ ضوء طرح بعض المسائل التي تبدو في ظاهرها وكأنّها علميةٌ، في حين أنّ أصحاب هذه الأفكار الذين سنذكر كلامهم كانوا علىٰ رأس من يحاول استكشاف الحقائق العلمية بكلّ جدٍّ وجهدٍ، أي إنّهم لم يحقّقوا نتائج علمية قطعية في نشاطهم الفكري.

في بادئ الأمر سوف نتطرّق إلىٰ شرح وتحليل نظرية أحد أشهر العلماء في العصر الحديث، حيث كان من جملة أساطين علم الفيزياء في عصرنا الراهن، لأنّه ترك بصماته علىٰ هذا العلم وساهم في تكامل قواعده وقوانينه؛ ومن خلال ذلك سيتّضح للقارئ الكريم المعنىٰ المقصود من كون إحدىٰ الشخصيات تندرج ضمن قائمّة أساطين التنظير في علوم الطبيعة وفي ميدان العلم البحث.

ماكس بلانك[1] هو أوّل عالمٍ سنسلّط الضوء علىٰ نظرياته، حيث جمعت شخصيته بين

(367)

العلم والقيم الإنسانية العليا، ومن جملة ما قال: «كلّ إنكارٍ لقيمة الحياة هو إنكارٌ لقيمة الفكر البشري، فهو لا يعني فقط إنكار العلم من أساسه، وإنّما في الحقيقة إنكارٌ للدين أيضًا؛ وغالبية العلماء - حسب اعتقادي - يتّفقون معي في هذا الرأي، ومن هذا المنطلق فقد اعتبروا الإنكارية الدينية ذات أثرٍ سلبي علىٰ العلم.

ليس هناك تعارضٌ حقيقي بين العلم والدين، بل إنّ أحدهما يُحيي الآخر ويؤيّده، وكلّ إنسانٍ مفكّر جادٍّ يرىٰ أنّ عنصر الدين مغروسٌ في طبعه، ويجب أن يتعهّد ويُنمّىٰ ويُرقّىٰ كما تُرقّىٰ وتُتعهد عناصر الإنسان الأخرىٰ لتتوازن العناصر وتتناغم؛ وليس من باب المصادفة أنّ عظماء المفكّرين في كلّ عصرٍ كان الدين متغلغلًا في أعماق نفوسهم حتّىٰ ولو لم يُظهروا أمام الناس قوّة شعورهم بدينهم، ومن التعاون بين العقل والدين ظهرت أجمل ثمرةٍ للفلسفة، وأقصد من ذلك ثمرة الأخلاق، والعلم رفع القيمة الأخلاقية للحياة، لأنّه عضد حبّه للحقيقة واحترامها. أمّا حبّه للحقيقة فيما أظهره من حبٍّ متواصلٍ في عالم المادّة وعالم العقل الذي حولنا، وأمّا احترامه للحقيقة فلأنّ كلّ تقدّمٍ في العلم والمعرفة يجعلنا نواجه وجودنا الغامض»[1].

العالِم الغربي ألبرت أينشتاين سار في ركب ماكس بلانك وترك بصماته في العلوم المعاصرة، لذلك نجد له كلامًا في هذا المضمار أيضًا، حيث قال: «إنّ أشرف وأنبل انفعالٍ يمكن للبشر إدراكه يتمثّل في الانفعال الديني، فنواة جميع الفنون والعلوم الحقيقية مكنونةٌ فيه، والإنسان الذي يُحرم من هذا الشعور بحيث لا يغور في الحيرة والإعجاب لدىٰ مشاهدته عظمة الوجود وسموّه، فهو يمضي حياته خائفًا[2]، وشخصٌ كهذا ميّتٌ في واقع الحال.

والجدير بالذكر هنا أنّ الأمر الخارج عن نطاق إدراكنا يعتبر موجودًا في الحقيقة، وبين الفينة والأخرىٰ تتجلّىٰ لنا مظاهر من هذا العلم العظيم والجميل (فما كان خارجًا عن نطاق قدرتنا الإدراكية، يتجلّىٰ لنا عن طريق علومنا)، في حين أنّ إدراكنا الضعيف قادرٌ فقط علىٰ فهم أقسىٰ صوره؛ وأعتقد أنّ هذا الفهم وهذا الإحساس هو مركز الشعور الديني الحقيقي.

(368)

لو أخذنا مفهوم الدين من هذه الناحية فقط بعين الاعتبار، سأكون من أولئك الذين يمتلكون أعمق شعورٍ بالتدين»[1].

نستشفّ من العبارة أعلاه أنّ ألبرت أينشتاين يعتبر العلماء الذين يخوضون في مباحث علم الطبيعة أكثر قدرةً من غيرهم، ولا سيما علماء الفيزياء والرياضيات، علىٰ فهم الانفعالات الدينية؛ واصطلاح «الدين العالمي» الذي طرحه فهو يضرب بجذوره في دراساتٍ كهذه...[2]

وأضاف قائلًا: «الاعتقاد بكون جميع المعايير السامية في عالم الوجود منطقيةً، ينمّ عن أنّ العقل قادرٌ علىٰ إدراكها؛ والحقيقة أنّه يندرج ضمن نطاق الدين، وأنا اليوم لا أستطبع تصوّر أنّ عالمًا حقيقيًا لا يمتلك هذا الإيمان، ولربّما المثال المقتضب التالي يوضّح هذا الموقف بشكلٍ أفضل: العلم بلا دينٍ أعرج، والدين بلا علمٍ أعمىٰ»[3].

كما قال في السياق ذاته: «التجربة الدينية العالمية تعتبر أنبل وأقوىٰ التجارب والمشاعر التي يمكن أن تنبثق من البحوث والدراسات العلمية الدقيقة»[4].

من المؤكّد أنّ بيان هذه العبارات ليس بحاجةٍ إلىٰ شرحٍ مسهبٍ وتفصيلٍ موسّعٍ؛ لأنّ الكلام المدوّن يعتبر أفضل سبيلٍ لبيان مقاصد العلم والعالم؛ ولكن مع ذلك لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّ البعض لا يرغبون في اعتبار العلم والدين أو العلم وجميع القيم السامية أمرين متعاليين ولا يذعنون بالانسجام الكبير الحاصل بينهما، ومن جملتهم مؤلّف كتاب سيرة أينشتاين -فيليب فرانك- حيث بذل جهودًا حثيثةً بغية تأويل كلام أينشتاين وحرفه عن مساره الحقيقي بأيّ نحوٍ كان، رغم أنّه صريحٌ في دلالته علىٰ أهمية الدين وانسجامه الكامل مع العلوم. هناك قاعدةٌ ثابتةٌ فحواها أنّ الضمير العلمي النزيه حينما ينتقد أمرًا لا يستسيغه فهو عادةً ما يجعل الرأي الذي يؤوّله أكثر رجحانًا واعتبارًا، لكنّ السيّد فيليب فرانك قد أوّل عبثًا كلام أينشتاين رغم صراحته بالدلالة علىٰ المعنىٰ المراد منه.

(369)

القيم ليست اعتباريةً

لو تنزّلنا وافترضنا -خلافًا للواقع- أنّنا غير قادرين علىٰ دراسة وتحليل القيم في إطارٍ علمي بالمعنىٰ المتعارف في عصرنا الراهن، فهذا لا يعني بكلّ تأكيدٍ كون القيم والقضایا المعنوية المتعالية اعتباريةً لا تتقوّم علىٰ بنيةٍ مستحكمةٍ؛ ولا شكّ في أنّ فصل القيم والضرورات والاحتمالات عن الحقائق من حيث كونها حقائق ليس من شأنه بتاتًا إثبات زعم من يدّعي كون القيم والقضایا المعنوية بأسرها ليست سوىٰ مسائل واحتمالات اعتبارية لا أساس لها من الصحّة، ولأجل إثبات سقم هذا المدّعىٰ سنشير فيما يلي إلىٰ نقاطٍ فيها دلالاتٌ صريحةٌ تنمّ بوضوحٍ عن كون الحقائق ثابتةً وليست بحاجةٍ إلىٰ إجراء بحوثٍ علميةٍ لإثبات ذلك، وبالتالي لا يمكن لأيّ أحدٍ كان التشكيك بها:

1. جميع قوانين عالم الوجود تجري علىٰ أساس روابط حتمية، فحقيقة النار علىٰ سبيل المثال هي الإحراق لا محالة، إلا إذا انعدم أحد شروط الاشتعال في الجسم الذي تعرض عليه أو عند وجود مانعٍ يحول دون تأثيرها كما لو كان الجسم رطبًا.

لو تمعّنا بصوابٍ بعض الشيء، لوجدنا أنّ الضرورات المستبطنة في الحقائق السامية لا يمكن إثباتها بأسلوبٍ علمي، ولربّما يكون أوّل سؤالٍ نطرحه علىٰ هذا الصعيد هو: ما السبب في وجود ارتباطٍ ضروري بين النار والاحتراق؟ وفي الإجابة نقول: ماهية النار أنّها تحرق حينما تتوفّر الظروف الملائمة لإحراقها عند عروضها علىٰ جسمٍ مناسبٍ قابلٍ للاشتعال.

لنفترض أنّ هذه الإجابة قد أزالت الغموض بالتمام والكمال عن الموضوع المطروح في السؤال، ففي هذه الحالة لا بدّ وأن يُطرح سؤالٌ آخر لا يقلّ أهميةً عنه، وهو كالتالي: ما السبب في كون النار حسب شروطها الخاصّة تؤثّر علىٰ الجسم الذي تعرض عليه كما لو أنّها تجعل بعض أجزائه تتمدّد أو تحترق؟ ويمكن تقرير هذا السؤال في إطارٍ آخر كما يلي: ما هي العلّة التي تنشأ علىٰ أساسها العلاقة الضرورية التي تربط بين الشهوة والعمل الجنسي؟

للإجابة عن السؤال الأخير نؤكّد علىٰ أنّ العمل الجنسي معلولٌ ذاتي لإثارة الغريزة الجنسية، وهذه الإجابة يمكن أن تطرح علىٰ ضوء السؤال التالي أيضًا: ما السبب في حتمية إثارة الغريزة الجنسية؟ من المؤكّد أنّنا لو أجبنا بكون الإثارة هي ميزة الغريزة الجنسية ومكنونة في باطنها، فهذا الكلام في الواقع تكرارٌ لما هو مطروحٌ في المنطق تحت عنوان

(370)

«مصادرة علىٰ المطلوب» بحيث لا يمكن إثبات المدّعىٰ بنحوٍ علمي. هذا السؤال في الواقع هو السبب في طرح مبحث الثوابت والمتغيرات منذ أقدم عهدٍ في حياة العلم والفلسفة، ولحدّ الآن لم تطرح حوله أيّة إجابةٍ مقنعةٍ، إلا إذا اعتقدنا بقانون جريان فيض الوجود فيما وراء الطبيعة؛ وهذا القانون تبنّاه الكثير من العلماء والفلاسفة الذين أكّدوا علىٰ أنّه البنية الأساسية لعالم الوجود، لذا يمكن القول إنّ الغالبية العظمىٰ من العلماء والفلاسفة يتوصّلون في نهاية بحوثهم العلمية إلىٰ هذا القانون ليطرحونه كنظريةٍ، وهذا الأمر بطبيعة الحال منوطٌ بتحرّرهم من القيود الفكرية والأهداف غير المعرفية التي قد تتدخّل في الموضوع بنحوٍ أو بآخر، وأن يتخلّوا عن الاستبداد الفكري في الأمور النسبية.

2. إحدىٰ المسائل الضرورية في العلم والفلسفة هي إثبات أنّ جميع المسائل النظرية ترتكز علىٰ الأصول البديهية أو القضايا التي هي صادقةٌ بالضرورة، إذ لو انعدمت هذه الأصول والقضايا لأمكن تشبيه إثبات المسائل النظرية بجلوسنا في مكانٍ مظلمٍ ومشاهدتنا كلّ ما حولنا دون الحاجة إلىٰ النور!

والأصول المشار إليها في هذه النقطة إمّا أن تكون نسبيةً أو مطلقةً، كما يلي:

أ- الأصول البديهية النسبية: هي علىٰ غرار الأصول الثابتة في كلّ علمٍ وفنٍّ والتي يجب وأن يتمّ إثباتها في العلوم الأخرىٰ أو الفلسفة، مثل قدرة العقل الإنساني علىٰ صياغة العدد بواسطة قدرته التجريدية، وهذا الأمر في علم الرياضيات يطرح كأصلٍ موضوعي، إلا أنّ علمًا آخر غير الرياضيات هو الذي يتكفّل ببيان حقيقة العدد وإثباته، مثل الإبستمولوجيا أو العلوم المتعلّقة بالوجود الذهني التي تحظىٰ بأهميةٍ بالغةٍ في الفلسفة الإسلامية، حيث دوّنت حولها العديد من الكتب.

ب- الأصول البديهية المطلقة: هذه الأصول إمّا أن تكون في غنىٰ عن الإثبات أو أنّها غير قابلةٍ للإثبات من الأساس، مثل أصل الهوهوية «Identity» من وجهة نظرٍ منطقيةٍ[1].

هناك قضيةٌ متّفقٌ عليها، فحواها أنّ الحواسّ والعقل والضمير هي أمورٌ لا قابلية لها في

(371)

إثبات كيفية ومستوىٰ ارتباطها بحقائق عالم الوجود علميًا، وهذا يعني أنّنا لو سألنا الحواسّ قائلين: ما هو الدليل العلمي الذي يُثبت أنّ ما تتلقينه أيّتها الحواسّ هو ذات الواقع الذي نبحث عنه؟ إذا أجابتنا بهذا الشكل: «أنا بنفسي أنسب هذا الاعتبار إلىٰ نفسي لكي يصبح ما أدركه أو ما يدركه الذهن البشري بواسطتي، ذات الحقيقة والواقع»، فنحن بدورنا نطرح عليها السؤال التالي: ألست حواسًّا تضفين صورًا متنوّعةً إلىٰ الذهن البشري من خلال مواقف متنوّعة حول إحدىٰ الحقائق؟ مثلًا تشاهدين الأجسام صغيرةً عن بعدٍ، وكبيرةً عن قربٍ؛ وبشكلٍ عام، أنت تتصرّفين بالمعرفة الناشئة لديك من خلال كلّ إدراكٍ يحصل لديك. 

بعد ذلك لنفترض أنّ هذا الاعتراض لا صواب له بحيث نشاهد المحسوسات علىٰ نسقٍ واحدٍ في جميع المواقف والأحوال، وهنا أيضًا لا يمكن اعتبار ما تدركه الحواسّ حجّةً، فقد أُثبت أنّه لا يوجد أمرٌ له قابلية إثبات القضايا التالية: «أنا موجود» أو «أنا لي اعتباري» أو «أنا حجّةٌ» من خلال تكرارها؛ وهذا الإشكال نفسه يُطرح حول العقل البشري، ولم تُطرح له إجابةٌ مقنعةٌ حتّىٰ الآن.

لا بدّ للبشرية من تقييم عقلها ولو للحظةٍ واحدةٍ، وتسأله: لقد جعلت عنوان «العقل» العظيم اسمًا لك، والآن أخبرنا ما هو دليلك المقنع علىٰ كون كلّ ما تقوله يمثّل الحقيقة بذاتها؟ ألا تعلم أنّ البشرية وقعت في أخطاء معرفية بسببك بالنسبة إلىٰ معرفة الحقائق كما هي علىٰ حقيقتها؟ يا ترىٰ ألم تظهر مدارس فكرية متنوّعة ومتضادّة الآراء والنظريات بسببك لدرجة أنّها أسفرت أحيانًا عن حدوث نزاعاتٍ محتدمةٍ علىٰ مرّ التاريخ؟

وفي المرحلة التالية نتوجّه إلىٰ الضمير الإنساني الذي هو أكثر أصالةً ونورانيةً ومعرفةً بالوجهة الصائبة من نظيريه العقل والحواسّ، ونطرح عليه نفس السؤال الذي طرحناه علىٰ العقل، قائلين: ما الدليل علىٰ كون أحكامك معتبرةً؟ فعلىٰ الرغم من أنّ خيرة البشر يكنّون لك محبّةً فائقةً والرجاء يحدوهم في أن ترشدهم إلىٰ الصواب، ولحدّ الآن لم يعرض عنك أيّ إنسانٍ مخلصٍ، كما أنّك لم تتسبّب في انحرافٍ أيّ بشرٍ مطلقًا؛ لكن مع ذلك أيّها الضمير العزيز، نحن نطلب منك أن تخبرنا بالدليل أو الأصل العلمي الذي يثبت حجّيتك؟

نؤكّد هنا علىٰ أنّ الحواسّ والعقل والضمير لا قابلية لها علىٰ إثبات حجّيتها عن طريق أدلّةٍ علميةٍ رغم أنّها الوسائل المعرفية الوحيدة التي اعتمد عليها البشر منذ باكورة التاريخ حتّىٰ عصرنا الراهن بغية معرفة حقيقة العلاقات الأربعة الأساسية في حياتنا، وهي علاقة الإنسان

(372)

بنفسه، وعلاقته بالله تعالىٰ، وعلاقته بعالم الوجود، وعلاقته بأقرانه البشر؛ فهي الركائز الفكرية الوحيدة والأساسية في تاريخ بني آدم، وبالفعل فقد أعانتهم علىٰ السير قُدُمًا لمعرفة الحقائق فيما لو لم يكن هناك أيّ تحريفٍ أو عراقيل.

الجذور الأساسية للانسجام بين الوجودات واللزومات

هناك حقيقةٌ فحواها أنّ الإنسان لديه قابلياتٌ لأن يعيش في رحاب القيم والمعنويات، لذا فهي تعتبر أحد أبرز الأسباب لانسجام الوجودات مع اللزومات والاحتمالات، ومن ثمّ استنتاج اللزومات والاحتمالات من الوجودات.

الذين يسخّرون منظومتهم الفكرية للتأمّل في مسائل الوجودات واللزومات، يبغي لهم الالتفات إلىٰ أنّ الإنسان له القدرة علىٰ امتلاك الكثير من الميزات الشخصية العظيمة بفضل امتلاكه قابليات عديدة تجعله يعيش في رحاب القيم المعنوية والأخلاقية السامية؛ وما يدعو للأسف أنّ الغالبية العظمىٰ من البشر تعيش في إطار حياةٍ طبيعيةٍ متعارفةٍ، والقليل منهم فقط يفعّلون قابلبياتهم للعيش في رحاب القيم والمعنويات والأخلاق السامية، وهؤلاء في الواقع هم الدعامة الأساسية للطموحات المثالية والكمالات البشرية؛ ورغم أنّهم يتورّعون من الرياء، إلا أنّ الثقافة البشرية علىٰ مرّ العصور تكتسب فيضها من جهودهم العظيمة، ومن اللطف الإلهي العظيم أنّ الألحان العذبة لإنجازاتهم البنّاءة تداعب أسماع البشرية في جميع مراحل التاريخ.

لا يخفىٰ علىٰ أحدٍ تلك الجهود والمساعي الرامية لإطفاء السراج المنير الذي أضاء نوره الرسل والأنبياء عليهم‌السلام بهدف هداية بني آدم، ولإخماد نور أوصيائهم وسائر الأولياء والحكماء الصلحاء؛ وقد تجسّدت هذه الحركات المناهضة للحقّ في أشكالٍ وصورٍ متنوّعةٍ لتصبح عقبةً في طريق طلاب الخير والكمال، ولكن مع كلّ ذلك لم يتمكّن هؤلاء وأمثالهم من محو ذكر النبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام والنبي موسىٰ عليه‌السلام والنبي عيسىٰ عليه‌السلام والنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام، لذلك عجزوا عن استبدال هذه الصفوة بأراذل الخلق من أمثال الإمبراطور نيرون وكاليغولا وجنكيز خان وتيمور لنك.

بعد النخبة الصالحة التي أشرنا إليها، انتقلت راية الهدىٰ إلىٰ أساطين الرشد والكمال الذين ما زالت أذكارهم باقيةً في قلوب أهل الشرق والغرب لكونهم الأنموذج الحقيقي للحياة البشرية المثلىٰ.

(373)

يا ترىٰ لولا وجود الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأمثاله من أتقياء صلحاء في تاريخ البشرية، فهل يمكن لأحدٍ من الناس الخلاص من عبثية الحياة التي تتخفّىٰ وراء ضحكاتٍ مزيّفةٍ لا تجلب لبني آدم سوىٰ أعتىٰ الأمراض النفسية فتكًا؟ فهل هناك من يستطيع التشكيك بهذه الحقيقة المؤكّدة؟

نحن في غنىٰ عن أيّ دليلٍ نستند إليه لإثبات سقم تلك النظرية المتشائمة التي تجرّد جميع بني آدم من قابليات نيل القيم السامية وتعتبرهم حيوانات أكثر تعقيدًا من الحيوانات وتزعم أنّهم ذئاب يفترس بعضُها البعض! إذا بادر شخصٌ لطرح هذه النظرية، فهو بكلّ تأكيدٍ نفس ذلك السوفسطائي الأعمىٰ الذي امتنع عن الإمساك بعصاه وأنكر وجوده، فهو بهذه الأوهام التي يعتقد بها كيف يمكنه إثبات أو نفي حقيقةٍ أصيلةٍ؟!

لحدّ الآن لم نشاهد أيّ إنسانٍ يخاطب التراب أو الحجر أو الشجر أو الحيوانات قائلًا: كن عادلًا أيّها الكائن الموجود، وتمتّع بالجمال، وعليك التضحية فداءً لأقرانك، ولا تدنّس حقوقهم، واعفُ عنهم! أيّها الكائن الموجود، لا تتعدّىٰ علىٰ حقوق الآخرين، وفكّر كي تطرح إجابةً مقنعةً عن هذه الأسئلة الثلاثة الهامّة: من أين أتيت؟ إلىٰ أين تذهب؟ لماذا أتيت؟ أيّها الكائن الموجود مهما كنت، أعرض عن الأنانية والنزعة الشخصية والاستبداد!

نعم، من المؤكّد أنّ هذه الأوامر والوصايا لم توجّه لأيّ كائنٍ سوىٰ البشر، فهي مقتصرةٌ بشكلٍ حصري علىٰ الإنسان فحسب، وجميع البشر يعرفون حقّ المعرفة بأنّها لا يمكن أن توجّه إلىٰ أيّ كائنٍ آخر بمقتضىٰ أصول المنطق العلمي الصحيح؛ فيا ترىٰ هل سمعت يومًا إنسانًا يخاطب قطّته قائلًا: ينبغي لك أن تصبحي «هيجل»! ينبغي لك أن تصبحي «جلال الدين الرومي»! وهل سمعت شخصًا يوجّه الخطاب للصحارىٰ والجبال والصخور والعقارب والأفاعي قائلًا: ينبغي لكم جميعًا بناء تلك المدينة الفاضلة التي طمح إليها أمثال أفلاطون والفارابي!

لا شكّ في أنّ كلّ عاقلٍ يدرك جيدًا أنّ هذه الأوامر والوصايا -سواءً كانت أسئلةً أو خطابات- لا يمكن أن توجّه إلا إلىٰ الإنسان فحسب لكونه يمتلك قابليات ذاتية تؤهّله لذلك، فهو الذي يوجد الثقافات ويسخّر قواه العقلية لسلوك مسيرة التكامل في غمار مختلف العلوم والإيديولوجيات، ومن خلال تطبيقه للأخلاق النبيلة واعتناقه الدين الحقّ الذي يتناغم مع فطرته السليمة، فهو يفلح في مسيرته العقلية المتقوّمة علىٰ أساس: (إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [1].

(374)

إنّنا كبشرٍ قادرون علىٰ تفعيل جميع الأوامر والاحتمالات في ذواتنا، بل لا بدّ لنا بعد ذلك من الإقرار بعظمتها، وفي هذا السياق لا محيص لنا عن بذل كلّ ما بوسعنا بغية انتشال أنفسنا من حبائل الحياة الجبرية أو شبه الجبرية الحيوانية لنحيا في رحاب حياةٍ طبيعيةٍ محضةٍ تتقوّم علىٰ مبادئ اختياريةٍ.

نستنتج ما يلي من جملة ما ذُكر: لو أخذنا بعين الاعتبار أنّ الذات الإنسانية تمتلك الكثير من القابليات الهامّة التي تؤهّلها لحياةٍ مرتكزةٍ علىٰ القيم والمفاهيم السامية، سوف ندرك بضرسٍ قاطعٍ ذلك التناغم الثابت بين «الموجود كما هو موجود» و«الموجود كما يجب أن يكون موجودًا»؛ وهذه الحقيقة لا يمكن استنتاجها من الأوضاع السياسية والثقافات المزيّفة والنزعات النفعية لأصحاب المصالح واستبداد أصحاب المناصب المتعطّشين للسلطة، فالإنسان في هذا المضمار ليس سوىٰ آلةٍ لا وعي لها ولا إدراك علىٰ غرار ذلك الوصف الذي نقل عن أصحاب الضمير الحي من العلماء حين قالوا: «لقد جعلتنا حياتنا المعاصرة كأسنان العجلة المسنّنة التي لا تدرك شيئًا»؛ لذا لا يمكن لنا كبشرٍ في هذه الحالة التمييز بين قضية «الإنسان بما هو إنسان» عن قضية «الإنسان كما يجب أن يكون إنسانًا»، ومن ثمّ نكون عاجزين عن معرفة الأوامر والاحتمالات علىٰ ضوء الوجود الإنساني.

يا ترىٰ هل يمكن لأحدٍ إنكار أنّ التلقينات التي تبدر من البعض وتغييرهم البارع للظروف وغسلهم الأدمغة بكلّ مهارةٍ، هي أمورٌ لها القابلية علىٰ تحويل إنسانٍ عادلٍ إلىٰ جلادٍ سفّاكٍ للدماء خلال فترةٍ وجيزةٍ؟! والعكس صحيحٌ، أي ألا يمكن لهذه الأمور أن تحوّل إنسانًا جلادًا سفّاكًا للدماء إلىٰ عادلٍ خلال فترةٍ وجيزةٍ؟!

الحكمة الإلهية هي البنية الأساسية للزومات والوجودات

أصحاب النظرية القائلة بأنّ اللزومات والاحتمالات لا يمكن أن تنبثق من الوجودات، ينظرون إلىٰ حقائق عالم الوجود وكأنّها مجرّد أمور عبثية لا حكمة من وجودها.

لو تأملنا بدقّةٍ في مسألة الوجودات واللزومات والاحتمالات، فنحن غير قادرين علىٰ إصدار حكمٍ فحواه أنّ الوجودات ليس من شأنها أن تكون منشأً للزومات والاحتمالات عند الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن للزومات والاحتمالات أن تنشأ من الوجودات؟

(375)

بعض المفكّرين والكتّاب الذين يتبنّون فكرة أنّ الكائنات في عالم الوجود عبارةٌ عن أمورٍ لا تستبطن في ذواتها أيّة حقيقةٍ أو سرٍّ أو عظمةٍ توجّهها وتحذّرها؛ وهذا يعني أنّهم يرفضون تلك الأمور التي أكّد عليها رجال الدين والحكماء والمفكّرون المتمعّنون في الحقائق، ويقولون: حقائق عالم الوجود ليس فيها أيّ مؤشّرٍ يدل علىٰ ارتباطها بما وراء الطبيعة.

الجدير بالذكر هنا أنّنا حينما نذكر أولئك المفكّرين والكتّاب ونعتبرهم تبنّوا الفكرة المشار إليها، فهذا لا يعني أنّنا نؤمن بامتلاكهم فكرًا منطقيًا يؤهّلهم لطرح هكذا فكرة، بل نقصد أنّ أشخاصًا كهؤلاء لا يمتلكون أيّة دقةٍ وبراعةٍ تمكّنهم من طرح نظريةٍ في هذا المضمار لمعرفة حقيقة كائنات عالم الوجود، فقد حرموا أنفسهم من الفكر الصائب السديد ومن ثمّ لا قابلية لهم علىٰ هضم فكرة أنّ هذه الكائنات وراءها أسرارٌ وعظمةٌ تدلّ علىٰ وجودها بشكلٍ حتمي، لذلك سوّغوا لأنفسهم زعم أنّ اللزومات لا يمكن أن تنشأ من الوجودات.

علىٰ أيّ حالٍ، لو أردنا فهم النظم المتقن والقانون المذهل في عالم الوجود بكلّ ذلك التألّق العظيم الذي وصفه أساطين العلماء في جميع العصور بأنّه كامنٌ فيما وراء هذا الكون الرحب، فنحن لسنا بحاجةٍ إلىٰ التمعّن بدقّةٍ ولسنواتٍ مديدةٍ، كما لا ضرورة لمطالعة كلّ صفحات كتاب الوجود؛ ولو كان المجال متاحًا لنا هنا لبيان تفاصيل هذا الموضوع، لذكرنا مئات الجمل علىٰ لسان علماء الكوسمولوجيا الشرقيين والغربيين تثبت عظمة سرّ هذا الكون، ومن ثمّ تطرّقنا إلىٰ شرحها وتحليلها.

وأنّا بدوري أدعو المفكّرين والباحثين إلىٰ أن يراجعوا المبحث الذي طرحناه آنفًا في الإجابة عن السؤال «هل إنّ الدين منفصلٌ عن العلم والفلسفة؟» كمثالٍ علىٰ ما ذكر.

لا يوجد أيّ مفكّرٍ مسلمٍ يحذو حذو أصحاب الرؤية السطحية ويعتبر حقائق عالم الوجود مجرّد أمورٍ محدودةٍ في نطاق ذواتها وجوانبها السطحية بحيث لا يمكن إدراك حقيقتها إلا من خلال الحسّ دون القدرة علىٰ معرفة جوانبها الماورائية التي يعجز الحسّ عن فهم كُنهها.

وبغضّ النظر عن أنّ التمعّن والتأمّل الدقيق في كائنات عالم الوجود يدلّ بوضوحٍ علىٰ كونها آياتٍ بحيث تجعل الإنسان الواعي يشعر بوجود سرٍّ في هذا الكون العظيم، فالمصادر الإسلامية الأصيلة تؤكّد علىٰ أنّ هذه الكائنات تستبطن آيات تتبلور في رحابها المشيئة الإلهية والحكمة الربوبية؛ ومن البديهي أنّ هذه الآيات التي هي من جملة أبعاد كلّ كائنٍ تجعل

(376)

اللزومات والاحتمالات تكليفًا علىٰ عاتق العقلاء، فحينما يقرّ الإنسان بأنّ حقيقة وجوده علىٰ غرار حقيقة سائر الكائنات من منطلق كونها انعكاسًا للحكمة والمشيئة الإلهية البالغة.

لا ريب في أنّ الحكمة الإلهية -المشيئة الربّانية- هي الكائنة في النفس الإنسانية، بينما تلك الأعضاء المادّية والمكوّنات الطبيعية في بدن الإنسان ليست سوىٰ أمرٍ عابرٍ يتنامىٰ في الحياة الدنيا ثمّ يضمحلٍ ليصبح غذاءً للحيوانات أو الحشرات، ولا بقاء بطبيعة الحال إلا للأوامر والاحتمالات التكاملية؛ وفي هذا السياق نطرح السؤال التالي: هل من الحكمة أنّ كلّ تلك الأصول التكاملية المكنونة في نفس الإنسان تتعرّض للفناء والزوال أو أنّها تتحوّل وسائل قوامها الأنانية والاستبداد الذميم؟

إذًا، الحكمة الإلهية تقتضي وجود الإنسان كآيةٍ من آيات الله تعالىٰ، حيث خُلق مزوّدًا بمنظومةٍ عقليةٍ مذهلةٍ وقابلياتٍ نفسيةٍ تؤهّله لكسب العلم والعمل بجميع تكاليفه والامتثال للأوامر البنّاءة التي يتلقّاها من الأنبياء والضمير والعقل السليم، لذا حتّىٰ وإن لم تصرّح الآيات القرآنية بهذا الأمر، إلا أنّ الوجود الإنساني بحدّ ذاته يقتضي العمل باللزومات والاحتمالات بهدف رشده وتكامله؛ وأمّا المراد من قولنا إنّ الحكمة الإلهية -المشيئة الربوبية- كامنةٌ في ذات الإنسان، فهو إثبات كون الوجود الإنساني آيةً من آيات الله عزّ وجلّ وأنّ بني آدم مكلّفون في هذه الحياة بالعيش في رحاب المبادئ العقلية الأصيلة، وذلك كما أثبتنا كون جميع حقائق الوجود دليلًا علىٰ تكليف الإنسان في الحياة الدنيا قبال كلّ حسنٍ وقبحٍ. وأمّا الآية القرآنية التي تدلّ بوضوحٍ علىٰ أنّ الكون والإنسان آيتان من آيات الله العزيز الحكيم، وتؤكّد علىٰ أنّ الإنسان من خلال إدراكه لهذا البُعد من الوجود يمسي قادرًا علىٰ معرفة الحقّ، فهي الآية الثالثة والخمسون من سورة فصّلت: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد)[1]. هذه الآية تؤكّد بصريح العبارة علىٰ أنّ لدىٰ البشر القابلية علىٰ الإيمان بكون الله تعالىٰ حقًّا فيما لو تأمّلوا بآيات الخلقة الكامنة في بواطنهم وفي العالم المحيط بهم وفهموها بشكلٍ صائبٍ.

من البديهي أنّ النتبجة العقلية والوجدانية التي تترتّب علىٰ معرفة آيات الله سبحانه وتعالىٰ في عالمي النفس والآفاق، هي الشعور بوجوب إيجاد تلاحمٍ بين الحياة وبين أوامر الحقّ

(377)

بشكلٍ كلّي وإجمالي، لكون بلوغ الكمال دون هذا الشعور يعدّ ضربًا من المحال، فهذا الكمال هو الهدف من الحياة. لا شكّ في أنّ معرفة الحقّ دون التنسيق بين الحياة ومبادئ الحكمة الإلهية، لا تحظىٰ بأيّة قيمةٍ كانت.

الآية المباركة لم تشر إلىٰ أنّ عدم عمل الإنسان بمقتضىٰ معرفة الحقّ الذي يدركه، حتّىٰ وإن لم يكن وبالًا عليه، فهو علىٰ أقلّ تقديرٍ لا يستتبع أيّة فائدةٍ تذكر؛ لذلك لا يمكن اعتبار هذه المعرفة هدفًا لله تعالىٰ من وراء رؤية الإنسان لآيات الأنفس والآفاق نظرًا لبداهة النتيجة التي يتوصّل إليها العقلاء - أولو الألباب - علىٰ ضوء معرفة الحقّ من الآيات. وهذه النتيجة في الواقع يتبلور فيها الإدراك اليقيني لحقيقة أنّ الله تعالىٰ هو الحقّ المطلق، وأنه لم يخلق عالم الجمادات والنباتات والحيوانات عبثًا، كما خلق بني آدم في أحسن تقويمٍ ومنحهم قابليات تؤهّلهم للحركة في طريق التكامل، أي أنّه لم يخلقهم عبثًا بكلّ تأكيدٍ.

بعض الكتّاب يعتقدون بعظمة آيات الله سبحانه وتعالىٰ في عالم الوجود، لكنّهم لا يستطيعون، أو لا يرغبون في أن يذعنوا للشعور بالتكليف أمام هذه العظمة الملكوتية والآيات المذهلة، ومن هذا المنطلق يطلبون منّا الاكتفاء بالنظر إلىٰ الأشجار الجميلة الباسقة والتلذّذ بروعتها وفق مبادئ المذهب الأبيقوري وغضّ الطرف عن هذا الملكوت العظيم والآيات الأنفسية والآفاقية المذهلة. ونحن بدورنا نرفض هذا الكلام جملةً وتفصيلًا، لذلك لا يجدر بنا الاكتفاء بالنظر إلىٰ روعة الشجر ونظائرها من بدائع الخلقة الإلهية لكوننا بشرًا مكلّفين - إضافةً إلىٰ ذلك - بالنظر إلىٰ عظمة وروعة الوجود.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ أيّ عاقلٍ راشدٍ علىٰ مرّ التاريخ وإلىٰ عصرنا الراهن، لم يدّعِ أنّ التكاليف الدينية واللزومات القانونية والأخلاقية الخاصّة ثمرةٌ للتأمّل في نظم الكون وعظمته الفائقة، فإلىٰ حدّ الآن لم يزعم أحدٌ أنّنا نستنتج وجوب صلاة الصبح من مشاهدتنا للحكمة والعظمة الموجودتين في عالم الوجود.

ومن البديهي بمكانٍ أنّ ذهن الإنسان العاقل لا تخطر فيه فكرة إمكانية استنتاج التكاليف القانونية والأخلاقية والدينية من آيات الله تعالىٰ الكائنة في عالم الوجود، إذ من المعلوم أنّ جميع الشعوب والأمم طوال تاريخ البشرية لديها تكاليف قانونية وأخلاقية ودينية مختصّة بها، لكنّها لم تدّعِ أنّها تبنّت هذه المبادئ عن طريق الرجوع إلىٰ اللزومات والاحتماالات

(378)

الخاصّة بالتقنين والتشريع والآيات الكونية؛ فغاية ما في الأمر أنّ النّظم المذهل والترتيب المتّسق والعظمة الفذّة في عالم الوجود، هي أمورٌ يدرك منها كلّ إنسانٍ عاقلٍ أن لا شيء قد خلق عبثًا مهما كان صغيرًا.

الإنسان العاقل الواعي يدرك جيدًا أنّ أتفه المخلوقات وأصغرها وكذلك المجرّات السماوية بعظمتها، تجري بحكمةٍ وفي إطار برنامجٍ منتظمٍ تحتار في وصف عظمته العقول، وحينها فهو بكلّ تأكيدٍ يدرك جيدًا ضرورة أن يعيش في رحاب حياةٍ منتظمةٍ وغير عبثيةٍ ضمن هذه المنظومة الكونية المحبكة والمتّسقة؛ وبالطبع فهو لا يدرك ضرورة النَّظم فقط لكونه يعتبر نفسه أرفع شأنًا من الكائنات التافهة الصغيرة التي تتحرّك في مجرىٰ الخلقة العظيم، بل يتسائل مع نفسه قائلًا: هل إنّ هذه الحكمة العظيمة التي تعمّ الوجود بأسره قد استثنت وجودنا؟

هذا الشعور النبيل منبثقٌ من الاهتمام البالغ -وليس السطحي- بعالم الوجود، والأسمىٰ من ذلك أنّنا لو أردنا تحليل حقيقة وجودنا كي نمتلك في باطننا رؤيةً واعيةً واستطلاعيةً عنه، فلا محالة في أنّنا سنتوصّل إلىٰ النتيجة التالية: «رغم كوننا قادرين علىٰ عدم التأثّر بالإحسان أو الإساءة، إلا أنّنا نشعر أحيانًا بوجود آلةٍ موسيقيةٍ - أورغ - في أعماقنا علىٰ استعدادٍ دائمٍ لأن تثار وتعزف نغماتها في عالم الروح النقي، ومن ثمّ تعزف ألحان رفض العبثية والإنكارية»[1].

ولو أردنا تطعيم هذه العبارات بأصولٍ علميةٍ وفلسفية، نضيف قائلين: «النغمات الواضحة لهذه الآلة الموسيقية المكنونة في باطننا -والتي يمكن تشبيهها بالأورغ- تدحض العبثية والإنكارية، وتهمس لنا بصريح العبارة: «أيّها الإنسان، لا يمكنك ادّعاء أنّك غير موجودٍ»؛ وعلىٰ ضوء هذا الاعتراف تبادر إلىٰ الاعتراف التالي فتقول: «لا أستطيع ادّعاء أنّي غير موجودةٍ، ولا أستطيع زعم أنّي عبثيةٌ؛ فأنا مكلّفةٌ»». فهي تقرّ بصراحةٍ في باطن الإنسان وتخاطبه بالقول: «إنّك موجودٌ ولا يمكنك زعم غير ذلك جرّاء مرضٍ نفسي يطرأ علىٰ روحك»، وتخبره بعبارةٍ واضحةٍ غاية الوضوح أيضًا، فتقول: «بما أنّك موجود، فلستَ كائنًا عبثيًا، بل أنت مكلّفٌ».

تجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ بعض الكتّاب الغربيين من أصحاب الفكر السطحي لأجل أن يثبتوا عدم إمكانيّة الاستدلال علىٰ اللزومات من باطن الوجودات، رفضوا الاستدلال الذي ذكرناه أعلاه بزعم ما يلي: «لو أنّ هذه النغمات الباطنية -نداء الضمير البشري- أصيلةٌ حقًّا،

(379)

لوجب وجودها في الناس قاطبةً ولما صحّ زوالها من بعضهم؛ فنحن نلاحظ بكلّ وضوحٍ أنّ غالبية عوام الناس والعديد ممن لديهم قدرةٌ علميةٌ، ينكرون هذا النداء الباطني الذي يحذّر الإنسان بصوتٍ مسموعٍ وينبّهه كي يلتفت إلىٰ اللزومات والاحتمالات».

إذًا، استدلّ هؤلاء علىٰ رأيهم هكذا: لو كان هذا النداء الباطني موجودًا بالفعل، لوجب تحقّقه لدىٰ جميع الناس باعتباره أمرًا ملكوتيًا؛ لكنّ الأمر في أرض الواقع ليس كذلك.

لا شكّ في بطلان هذا الادّعاء بكلّ وضوحٍ، حيث نخاطب من طرحه قائلين: لا يختلف اثنان في أنّ جميع الناس لديهم قوىٰ باطنية تجعلهم قادرين علىٰ نبذ الأنانية الكامنة في ذواتهم رغم أنّ الشعور بحبّ الأنا موجودٌ لديهم في جميع مراحل تاريخهم، فهم من خلال تفعيل هذه القابلية المكنونة في أنفسهم يتسنّىٰ لهم محو تلك الحالة السيّئة وتشذيب أنفسهم ليواصلوا مسيرتهم التكاملية لكي ينعموا بحياةٍ معقولةٍ مع أقرانهم.

استنادًا إلىٰ ما ذكرنا أعلاه، نطرح السؤال التالي: هل إنّ غفلة الإنسان عن امتلاكه هذه القابلية المقدّسة التي تعينه علىٰ تشذيب نفسه وصيانتها من الأنانية أو اجتثاث هذه الأنانية منها، يمكن اعتبارها دليلًا علىٰ نقض هذه القابلية من الأساس؟! من المؤكّد أنّ الأمر ليس كذلك، فالغفلة ليس من شأنها بتاتًا أن تعتبر دليلًا لنقض هذه القابلية المقدّسة، ناهيك عن أنّنا نعرف حقّ المعرفة عدم إقدام معظم الناس علىٰ تطبيق الأصول والقواعد العقلية الصائبة في جميع جوانب حياتهم لدرجة أنّهم غالبًا لا يكترثون بتلك المزايا العظيمة للحياة العقلية وأوامر الضمير الحي؛ وعدم الاكتراث هذا قيّد تاريخ البشرية بذلك التاريخ الطبيعي فحسب، وحال دون سيرها قُدُمًا في رحاب تاريخها الإنساني، لذا ليس من الصواب اعتباره دليلًا مستندًا لنفي القابليات الباطنية المقدّسة المتمثّلة بالعقل والضمير والتي تشذّب النفس وتصونها من الأنانية أو تجتثها منها.

أضف إلىٰ ذلك، حتّىٰ لو رجّح الكثير من الناس تجاهل نداء الذات الباطني الذي إن لم نعبأ به سوف لا يبقىٰ في أنفسنا أيّ نداءٍ مقدّسٍ، فالتجاهل هنا لا يدلّ بطبيعة الحال علىٰ عدم أصالة هذا النداء، كما أنّه لا ينمّ عن كونه نداءً وهميًا لا حقيقة له.

وللشعراء الحاذقين في هذا المضمار أشعارٌ معبّرةٌ وحكيمةٌ تنمّ عن مشاعر باطنية جيّاشة تثبت صواب ما ذكرنا بتعابير وكلمات دالّة، وعلىٰ رأسهم جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي،

(380)

ولا سيّما بيتٌ من الشعر[1] للأخير تضمّن دلالات واضحة علىٰ ما أردنا إثباته، إذ فيما وراء تلك الأوهام الباطلة التي تجعل الذهن البشري يغور في أفكارٍ موهومةٍ لا أساس لها من الصحّة، وفي هذا السياق نقول بكلّ جرأةٍ وصراحةٍ: مضمون هذا البيت المصاغ في إطار شعرٍ منظومٍ، يعتبر في الواقع ردًّا علىٰ الكثير من إشكالاتنا العلمية والفلسفية والعرفانية والأخلاقية.

من المؤكّد أنّ من يتتبّع جذور تلك الخطوات العظيمة والقيّمة التي اتّخذتها البشرية حتّىٰ الآن، ولم يتمكّن من إدراك السرّ في ارتكازها علىٰ نداء النفس الباطني وتلك النغمة المقدّسة التي تقول: «لا بدّ من فعل شيءٍ في هذا العالم»؛ فهذا الشخص في الواقع عاجزٌ عن طرح تحليلٍ معقولٍ لبيان السبب في اتّخاذ تلك الخطوات العظيمة والقيّمة.

فيا ترىٰ، هل هناك علّةٌ للزومات والاحتمالات التي جعلت روّاد المعرفة والسير التكاملي للإنسان والإنسانية يتّخذون خطوات في خدمة بني جلدتهم وللتقليل من مشاكلهم وتسكين آلامهم وتوفير سبُل رفاهية العيش والطمأنينة لهم، غير تلك العلّة المتمثّلة بالنداء الباطني؟! وما أتفه رؤية أصحاب النزعة النفعية وعشّاق الشهوات والمستبدّين الذين يقيّمون كلّ شيءٍ في الكون إبّان العصر الحديث بمعيار المنفعة الشخصية واللذّة والمال والتكبّر، وجرّاء ذلك تنزّلوا ببني آدم إلىٰ مستوىٰ أسنان العجلات المسنّنة التي لا وعي لها ولا إدراك!.

لا يخفىٰ علينا أنّ أحداث التاريخ البشري والمزايا والقيم البشرية السامية ليست محدودةً بهذا العصر الزاخر بالتضادّ والتناقض والذي عُرف بكلّ صراحةٍ بأنّه عصر غربة الإنسان عن نفسه وعن أقرانه البشر، ومن المؤكّد أنّ جميع التكاليف الهادفة إلىٰ صيانة الذات الإنسانية ناشئةٌ من اللزومات التي تنبثق من أعماق الذات، مثل حرمة قتل النفس ونقض الحقوق الثابتة.

لو أقرّ شخصٌ قائلًا: «لا أرىٰ في قرارة نفسي ما يردعني عن قتل النفس»، فهو غير مؤهّلٍ لأن ينظّر في العلوم الإنسانية أو أن يناقش في حقائقها لكونه ينكر ذاته وليس لديه أيّ مقوّمٍ يعينه علىٰ فهم حقيقتها؛ فهو حينما ينكر وجوده كيف يمكنه الاعتراف بوجود الآخرين والإقرار بسموّه الإنساني؟!

(381)

ولو ألقينا نظرةً إجماليةً علىٰ آي الذكر الحكيم، لوجدناها تصف كائنات عالم الوجود علىٰ ضوء المسيرة المنتظمة لآيات وعلامات الخلقة؛ وفيما يلي نذكر عددًا منها:

الكائنات آياتٌ في عالم الوجود

الآيات المباركة التي تؤكّد علىٰ كون الكائنات آياتٍ في عالم الوجود، يمكن تصنيفها في أصنافٍ عدّة كما يلي:

الصنف الأوّل: الآيات التي تؤكّد بصريح العبارة علىٰ أنّ حقائق عالم الوجود تعتبر عوامل أساسية للإيمان والتوحيد والتقوىٰ وعدم الكفر والاعتقاد بالمعاد في الحياة الآخرة وغرس روح الخشية من مقام الربوبية في نفس العبد، ومنها ما يلي:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [1].

البارئ الحكيم دعا الناس في هاتين الآيتين إلىٰ عبادته والتزام جانب التقوىٰ وحذّرهم من الشرك، وطلب منهم التأمّل في آيات عالم الوجود الذي يعيشون في كنفه من خلال النظر إلىٰ خلقة الأرض التي وضعت ممهّدةً لهم، وإلىٰ عظمة خلقة السماء وكيفية هطول الأمطار التي تنبت منها الأشجار والنباتات المثمرة التي يقتاتون منها.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون) [2].

نهىٰ الله عزّ وجلّ عباده في هذه الآية المباركة عن الكفر، وطرح علىٰ المعاندين السؤال التالي في إطارٍ توبيخي: كيف تكفرون وأنتم تشاهدون ظاهرتَي الحياة والموت في عالم الوجود؟

الهدف الذي نستشفّه من مضمون الآية هو ضرورة الإيمان بالله تعالىٰ والحذر من الكفر علىٰ ضوء مشاهدة حقائق الوجود.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُون) [3].

(382)

هذه الآية تثبت ضرورة التقوىٰ علىٰ ضوء التأمّل في عالم الوجود وإدراك حقائقه، وهي بطبيعة الحال تعني الصيانة التكاملية للذات عن طريق العمل باللزومات والاحتمالات.

والآيات التالية نشير إلىٰ مضامينها ودلالاتها فقط:

- الآية 30 من سورة الأنبياء: تؤكّد علىٰ ضرورة الإيمان من خلال التأمّل بسعة نطاق الكون الرحب وكيف أنّه متقوّمٌ علىٰ مادّةٍ كانت متّحدةً سابقًا، والتأكيد علىٰ أنّ الماء هو البنية الأساسية لحياة جميع الكائنات الحية.

- الآيات 45 إلىٰ 50 من سورة الفرقان: بعد أن وضّحت مقدارًا من النَّظم وآيات الله سبحانه وتعالىٰ في عالم الوجود، نوّهت علىٰ أنّ المنحرفين - الذين هم غالبية بني آدم - يبادرون إلىٰ الكفر بدل أن يشكروا رغم مشاهدتهم آيات الكون والنَّظم المحبك فيه.

- الآيتان 7 و 8 من سورة الشعراء: تنبّه الناس علىٰ كون كلّ ما ينبت في الأرض يجري في إطارٍ منتظمٍ لتتبلور علىٰ أساسه آيات الله تعالىٰ، لذا ينبغي لهم الإيمان حينما يشاهدونه؛ ولكنّهم بسبب أهوائهم واستكبارهم يحرمون أنفسهم من نعمة الإيمان.

- الآية 25 من سورة النمل: توبّخ الذين يسجدون للشمس، فهؤلاء قد انبهروا بنورها وعظمتها، لذلك أنّبتهم متسائلةً: لماذا لا تسجدون لله الذي أوجد كلّ شيءٍ من العدم وخلق الشمس وما سواها؟

من المؤكّد أنّ الله عزّ وجلّ لم يكن ليستدلّ بالحقائق الكونية الجارية في مجراها الأصيل فيما لو لم تكن فيها قابليةٌ علىٰ إثبات عظمة خلقته.

- الآيات 60 إلىٰ 63 من سورة النمل: تشير إلىٰ النَّظم والآيات الكونية، وتؤكّد علىٰ أنّ المجرمين ينبغي لهم توحيد الله تعالىٰ عند مشاهدة هذه الآيات، لكنّهم رغم ذلك يرجّحون الشرك به.

- الآيتان 27 و 28 من سورة فاطر: تؤكّدان علىٰ تحقّق الخشية وتعظيم مقام الربوبية لدىٰ بني آدم متىٰ ما امتلكوا معرفةً وعلمًا بآيات الله سبحانه وتعالىٰ.

وهناك العديد من الآيات المباركة التي أكّدت علىٰ ضرورة الاعتقاد بالمعاد في الحياة الآخرة

(383)

عند مشاهدة النَّظم الذي يجعل الوجود عدمًا أو العدم وجودًا، ومنها قوله تعالىٰ: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [1].

الصنف الثاني: الآيات التي تدعو الإنسان إلىٰ التعقّل من خلال التأمّل في الآيات التي تتجلّىٰ في عالم الوجود، وقد وصفت أصحاب العقول السليمة التي تدرك عظمة هذه الآيات بـ«أولو الألباب»؛ وهي كثيرةٌ نشير إلىٰ عددٍ منها فيما يلي علىٰ سبيل المثال لا الحصر:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [2].

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) [3].

هذا الصنف من الآيات يدلّ بوضوحٍ علىٰ أنّ التأمّل بدقّةٍ وإمعانٍ في هذا العالم الرحب يحفّز الإنسان علىٰ التفكّر والتعقّل والذكر، والواقع الثابت أنّ التعقّل لوحده لا يمكن أن يعتبر نتيجةً للتمعّن في آيات الله تعالىٰ في هذا الكون العظيم، بل النتيجة الهامّة التي تترتّب علىٰ التأمّل والتعقّل يجب وأن تكون كما يلي: إدراك أنّ هذا العالم لم يُخلق عبثًا والشعور الراخ بوجود حكمةٍ خالدةٍ فيه، ومن ثمّ أداء التكاليف التي تثبت ضرورتها من خلال إدراك الحكمة في وجود الإنسان والكون، فهذه التكاليف تصون الإنسان من عذاب النار التي هي نتيجةٌ للغفلة عن آيات الله تعالىٰ وعدم الاكتراث بها.

الصنف الثالث: الآيات التي تصرّح بكون خلقة السماوات والأرض حقًّا، ومن الواضح أنّ كلمة «حق» رغم دلالتها علىٰ مفاهيم عديدة، لكنّ معناها علىٰ ضوء الأهداف والمضامين القرآنية التي تتمحور حول خلقة السماوات والأرض يدلّ علىٰ ذلك الأمر الجدير بالتحقّق والحدوث، فهي في هذه الآيات تثبت أنّ منظومة الخلقة العظيمة عبارةٌ عن حقيقةٍ جديرةٍ بأن تكون موجودةً في عالم الوجود.

(384)

في الآيات اللاحقة سوف نلاحظ أنّ الله عزّ وجلّ يهدف إلىٰ تيسير مسألة فهم عباده لكون السماوات والأرض حقًّا، ومن المؤكّد أنّ التكليف حين تحقّق هذا الفهم لو انعدم لما بقي سببٌ وجيهٌ لكلّ هذا التأكيد والإصرار علىٰ ضرورة امتلاكه؛ وإحدىٰ الآيات تؤكّد علىٰ أنّ الإنسان من خلال التأمّل بآيات الخلقة يثبت له أنّ الله تعالىٰ حقٌّ، وهي: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [1]. يمكن القول إنّ هذه الآية المباركة تؤكّد علىٰ كون الهدف النهائي من إثبات حقّانية منظومة الخلقة، هو إثبات كون الله تعالىٰ حقًّا، وأنّه صاحب السلطة المطلقة علىٰ الوجود بأسره، وهذا الأمر يثبت تكليف بني آدم نحوه.

وكما ذكرنا آنفًا، هناك العديد من الآيات الكريمة التي تؤكّد علىٰ كون عالم الوجود حقًّا، ومن جملتها ما يلي:

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَق) [2].

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُون) [3].

الصنف الرابع: الآيات التي تعتبر معرفة آيات الله تعالىٰ حافزًا لشكره والرجوع إليه، ومنها الآيتان التاليتان:

(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [4].

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [5].

إذًا، من يسعىٰ إلىٰ السير في طريق الحقّ والحقيقة في الحياة الدنيا، لا بدّ له من التمعّن في هاتين الآيتين.

الصنف الخامس: الآيات التي تعتبر مشاهدة المعجزات مرآةً لمشاهدة الوجودات الكامنة فيما وراء هذه الوجودات الظاهرية، وأنّها توجِد الدافع لدىٰ الإنسان للاعتقاد بالأصول الدينية

(385)

الأساسية والإيمان والعمل بالواجبات والاحتمالات البنّاءة لشخصيته؛ وهذه الحقيقة نلمسها علىٰ سبيل المثال في الأسباب التي جعلت النبي موسىٰ عليه‌السلام يأتي بمعجزاتٍ، حيث أشارت الآيات التي ذكرتها إلىٰ النتائج التي ترتّبت علىٰ هذه المعجزات العظيمة[1].

وفيما يلي نشير إلىٰ موردين من قصّة النبي موسىٰ عليه‌السلام في القرآن الكريم لكي يتّضح لنا أنّ مشاهدة الوجودات عاملٌ يعيننا علىٰ مشاهدة تلك الحقائق الكامنة فيما وراءها، والتي لها ارتباطٌ مباشرٌ مع وجودنا؛ كما يتّضح لنا أنّ الإيمان هو المصدر الأساسي لجميع اللزومات والاحتمالات والدافع الذي يحفّزنا لعبادة الله تعالىٰ والسجود له:

(وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ) [2]. هذه الآيات تؤكّد بصريح العبارة علىٰ أنّ مشاهدة معجزة النبي موسىٰ عليه‌السلام قد جعلت السحرة يؤمنون به ويخرّون ساجدين، وهذه الحالة انعكاسٌ واضحٌ للعمل باللزومات والاحتمالات.

(قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [3].

(386)

نستشفّ من هذه الآيات المباركة أنّ مشاهدة المعجزات سببٌ لتحقّق الإيمان في نفس الإنسان، وعاملٌ يحفّزه علىٰ السجود لله تعالىٰ، ولأجلها ترسّخت العقيدة في أنفس سحرة فرعون فاستعدّوا بطمأنينةٍ ورحابة صدرٍ لأبشع أشكال التنكيل والقتل، مما يعني أنّها أساسٌ لأرفع درجات اليقين.

وتجدر الإشارة هنا إلىٰ ملاحظةٍ هامّةٍ للغاية كي يكتمل موضوع البحث، ألا وهي الوعي التامّ والإيمان والاعتقاد بضرورة الامتثال للتكاليف الدينية، فالإنسان من خلال مشاهدته المعجزات الخارقة للعادة والتي تفوق الوجودات التي يدركها في حياته الدنيوية، يتزايد وعيه وتثار مشاعره ويتنامىٰ مستوىٰ إدراكه العقلي، فمن خلالها تتجلّىٰ الآيات الربّانية العظيمة؛ وقد وصف الشاعر جلال الدين الرومي هذه الظاهرة الفذّة قائلًا بأنّ المعجزات لها القدرة علىٰ قهر الأعداء أمام أعين الأنبياء وكسر شوكتهم، إلا أنّ الرغبة في معرفة الحقيقة والسير نحوها يقتضي وجود شهودٍ وإحساسٍ خاصٍّ[1]، وفي هذا السياق ذكر مسائل جديرةً بالتأمّل، وكما لاحظنا في الآيات القرآنية المباركة التي تحدّثت عن قصّة النبي موسىٰ عليه‌السلام، فالسحرة لـمّا شاهدوا معجزته آمنوا بنبوّته وخرّوا ساجدين، وقد ترسّخ اعتقادهم لدرجة أنّهم تحمّلوا العذاب وتجرّعوا كأس الشهادة صابرين محتسبين. فما أعظم انبهار الإنسان بالحقّ حينما يدركه بحيث يكون مستعدًّا للتضحية بحياته في سبيله!

ومن ناحيةٍ أخرىٰ، لو تأمّلنا أشعار جلال الدين الرومي - والتي تجسّد نظريته الفكرية - نستلهم منها أنّه تطرّق إلىٰ بيان كيفية انجذاب الإنسان إلىٰ الله تعالىٰ وامتلاكه إيمانًا راسخًا به عندما يشاهد حقائق عالم الوجود بعين الشهود العرفاني، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بـ «لُب»؛ حيث أكّد في أشعاره علىٰ ما يلي: لقد أدرك بلال الحقيقة بهذا المنظار وشاهد علامات الحقيقة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانجذب نحوه وآمن برسالته. ومن هذا الرأي نستنتج أنّه يقصد ما يلي: لـمّا شاهد سحرة فرعون المعجزات، تأمّلوا بمحيّا النبي موسىٰ عليه‌السلام، فشاهدوا فيه أعظم الآيات الإلهية وأدركوا أنّه إنسانٌ كامل، لذلك آمنوا برسالته.

(387)

مصادر البحث:

1. القرآن الكريم.

2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء الأوّل، من عصر النهضة حتّىٰ هيوم، الكتاب الثالث (الفلسفة الحديثة)، ترجمة الدكتور محمّد فتحي الشنيطي، مصر، القاهرة، منشورات الهيئة المصرية العامّة للكتاب، الطبعة الأولىٰ، 1977م.

3. ديفيد هيوم، التاريخ الطبيعي للدين، ترجمة وتحقيق حسام الدين خطور، منشورات دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، دمشق، الطعبة الأولىٰ.

4. ديفيد هيوم، تاريخ طبيعي دين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلىٰ الفارسية حميد عنايت، نقلًا عن Dialogues.

5. ألفريد نورث وايتهيد، مغامرات الأفكار: عرض فلسفي رائع للأفكار والحضارات، ترجمة أنيس زكي حسن، تقديم الدكتور عبد الرحمن خالد القيسي، مراجعة الدكتور محمود الأمين، منشورات دار مكتبة الحياة ومكتبة النهضة في بغداد، نشر بالاشتراك مع مؤسّسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر، بغداد، القاهرة، بيروت، نيويورك، الطبعة الأولىٰ، 1960م.

6. جي. إسوتشنيكو، مسئلة عليت ورابطه حالت ها در فيزيك (باللغة الفارسية)، ترجمه إلىٰ الفارسية م. شريف زاده.

7. ماكس بلانك، علم به كجا مي رود؟ (باللغة الفارسية)، بمقدّمة ألبرت أينشتاين، ترجمه إلىٰ الفارسية أحمد آرام.

8. مهدي حائري، كاوش هاي عقل عملي فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية)، الطبعة الأولىٰ.

9. سيرغي فافيلوف، لينين وفيزيك (باللغة الفارسية).

10. فيليب فرانك، زندگي نامه آلبرت اينشتين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلىٰ الفارسية حسن صفاري. 

11. أونوريه دي بلزاك، زنبق دره (باللغة الفارسية).

12. جلال الدين الرومي، ديوانه المعروف بـ «مثنوي معنوي» (ديوان شعر باللغة الفارسية تحت عنوان ديوان شمس).

13. ديوان حافظ الشيرازي.

14. Hume, David, A treatise of Human nature.

(388)

المحتويات 

مقدمة المركز 5 

القسم الأول : هيوم والفلسفة 

ديفيد هيوم ، خصيم العقل منكر الميتافيزيقا 9 

محمود حيدر 

ديفيد هيوم كمثال لمعضلة التنوير حضارة الشكّ 15 

بهاء درويش 

هل يمكن للشكاك ان يعيش شكّه؟

بحث في أثر الفكرة على نفس صاحبها 37

مايلز فريدريك بورنيت

نقد ريبية هيوم معضلة التعرف على حقائق الوجود 73 

نور الدين السافي 

السببية الناقصة نقد العقل القاصر عند ديفيد هيوم 93 

سارة دبوسي 

ديفيد هيوم وقانون العلية لعبة التناقض المريب113

مازن المطوري 

ديفيد هيوم وتطبيقه للمنهج التجربي على

الفلسفة دراسة مبدأ السببيّة نموذجا 127 

شهاب الدين مهدي 

نظرية العدل عند هيوم مسعى إلى نقد فلسفته السياسية 139 

أحمد واعظي

القدماء ،الوعي البسيط،وشكوكيّة هيوم الهويّة والريبية المفرطة 171 

ماريا ماغولا أداموس  

(389)

القسم الثاني : هيوم والدين 

جدل العلاقة بين الذهن والعين ،

نقد العلامة مطهري لأطروحات هيوم 185

علي دجاكام 

المعجزة في فلسفة الدين عند هيوم ، الدليل المتهافت على نقضها 205

محمد فتح علي خاني 

نشأة الدين عند هيوم من التعددية إلى

التوحيد نقد في تطور الأديان 251

غيضان السيد علي 

الوصل المضطرب بين العقل والأخلاق ،

مقاربة نقدية لرؤية ديفيد هيوم 275 

حسين علي شيدان شيد 

تحليل نقدي لنظريات ديفيد هيوم على ضوء أربع مسائل فلسفية 295

العلامة محمد تقي جعفري  

(390)
دراسات نقدية في أعلام الغرب 4 ديفيد هيوم مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي هذا الكتاب تتمحور سلسلة دراسات نقدية في أعلام الغرب . ضمن هدفها الأساسي حول الدراسات النقدية للفكر الغربي في إطار بحوث تحليلية نقدية للمنظومات الفكرية لفطاحل الفكر الغربي ورواده الذين انشؤوه بفضل جهودهم الفكرية ، تتمحور مواضيعها حول بيان الهواجس والتساؤلات المطروحة بخصوص ما ذكر . في هذا الجزء من السلسلة سنقرأ متاخمات تحليلية نقدية للفيلسوف الانكليزي ديفيد هيوم (مقاربات نقدية لنظامه الفلسفي) ووزعت بحوث هذا الكتاب على قسمين : القسم الأول هيوم والفلسفة والقسم الثاني : هيوم والدين وفيه بحوث نقدية وتحليلية لآرائه ومواقفه من الدين واللاهوت المسيحي على وجه الخصوص ، وبيان لأبرز أطروحاته في هذا الصدد
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف