تبيين الدين الحق بالعلل الأربعة | 23
تبيين الدين الباطل بالعلل الأربعة | 26
الدين الحق واحد والباطل متعدّد | 27
أ ــ المعنى الأول لمنشأ الدين (ظهور الدين) | 29
الضرورة في كون الدين إلهيًّا | 31
ب - المعنى الثاني لمنشأ الدين (علة التدين) | 38
العلّة الأساسيّة للتمسّك بالدين | 39
العلل الفرعية للتمسّك بالدين | 40
1. عدم معرفة الكون، الإنسان والدين | 44
ج - المعنى الثالث لمنشأ الدين (ضرورة التديّن) | 46
الفصل الثالث: جوهر الدين وصَدَفه | 47
التّفسير الأوّل لجوهر الدين وصدفه | 47
التفسير الثاني لجوهر الدين وصدفه | 50
التفسير الثالث لجوهر الدين وصدفه | 51
التفسير الرابع لجوهر الدين وصدفه | 53
التّفسير الصحيح للّب والقشر | 55
الآيات الدّالة على عموميّة فهم القرآن | 62
طرق تبيين المعارف في القرآن | 66
نماذج من استخدام القرآن للبرهان والتمثيل | 68
استخدام الأمثال في القرآن | 74
فوارق القرآن مع سائر الكتب العلميّة | 79
المعناوية والتحقّقيّة في القضايا الدينيّة | 87
لغة الدين والقضايا العقديّة | 90
الفصل الخامس: العقل والدين | 95
موقعيّة العقل عند علماء الغرب | 95
دور العقل في النظام العقدي عند الغربيين | 98
التّعبير عن العقل والنّقل بدل العقل والدين | 100
نقاط حول علاقة العقل بالنقل | 100
العقل النّظري والعقل العملي في الحكمة والفلسفة | 106
أسس ومواد الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة | 108
حجيّة إدراك العقل في الحكمة العمليّة | 110
الفرق بين البرهان العقلي والقياس الفقهي | 110
الفرق بين العقل وبناء العقلاء | 113
مراحل البحث في الحُسن والقبح | 115
الأشاعرة ومبحث الحُسن والقبح | 115
نتائج إنكار الحُسن والقبح | 116
كلام آخر عن الحُسن والقبح | 118
عقل الإنسان الكامل وعلاقته بالتكوين و التشريع | 120
المراد من الذاتي في الحُسن والقبح الذاتيين | 122
مناقشة استدلال منكري الحُسن والقبح العقليين | 123
أدلّة القائلين بالحُسن والقبح العقليين | 124
دخول العقل في ميدان الاجتهاد | 125
الدليل العقلي في علم الأصول | 128
العقل الديني والعقل الفلسفي | 129
استعمال العقل في متون الدين النّقليّة | 130
احتجاج الأنبياء والأولياء | 133
احتجاج إبراهيم الخليل عليهالسلام العقلي في القرآن | 134
الاستدلال العقلي في الروايات | 135
توهّم منع مطلق السؤال في القرآن | 136
وفيما يلي نشير إلى بعض أقسام السؤال | 138
السّؤال من النبي حول الله | 139
دعوة القرآن إلى العقل والاستدلال | 141
الجواب الأول: عدم إدراك العقل لجزئيات الدين | 142
الجواب الثاني: الفرق بين الوهم والعقل | 144
الدّفاع العقلاني عن الدين | 146
تأكيد القرآن على الإيمان والعمل الصالح | 149
الفصل السادس: التعدّديّة الدِّينيّة | 155
تعدّدية المذاهب وتعدّدية الأديان | 157
التعدّدية الدينية في رحاب علم الكلام | 157
وحدة المتعدّد وتعدّد الواحد | 162
إمكانية التعايش السلمي بين أتباع مختلف الأديان | 167
الدعوة الإسلامية لحياة سلمية | 170
التعدّدية التشكيكية أو نسبية الأديان | 176
نقد القول بتأثّر الحقيقة بفهم الإنسان | 181
التعدّدية وليدة النزعة الشكّية والفكر السوفسطائي | 184
معرفة الإنسان الكامل بعالم الوجود | 185
العلاقة بين التعدّدية والمناهج المعتمدة لمعرفة الدين الحقّ | 186
البرهان العقلي هو السبيل الصائب لمعرفة الدين الحقّ | 188
عجز التجربة عن إثبات الدين الحقّ | 190
السبيل الأمثل لمعرفة الحقّ | 192
الشاعر جلال الدين الرومي والتعدّدية الدينية | 195
التعدّدية الدينية من زاوية قرآنية | 197
تفنيد دلالة الآية 62 من سورة البقرة على التعدّدية الدينية | 199
ثلاثة تفاسير للآية 62 من سورة البقرة | 201
حقّانية الأديان والشرائع السالفة | 203
التعدّدية في باطن الدين (تعدّدية مذهبية) | 205
جواز التعدّدية في المذاهب والعلوم | 209
ضرورة مراعاة جانب الاحتياط | 209
الفقه العبوس والعرفان الجميل | 212
نتائج نظرية التعدّدية الدينية | 214
ارتباط الوحي والتجربة الدينية بنظرية التعدّدية الدينية | 215
الفرق بين الوحي والتجربة العرفانية (الشهودية) | 224
الفرق بين العرفان والأخلاق | 226
معرفة الدين
(1)بسم الله الرحمن الرحيم
(2)دراسات دينية معاصرة 1
معرفة الدين
المرجع الديني
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
تعريب هاشم ميلاني
العتبة العباسية المقدسة
المركز السلامي للدراسات الاستراتيجية
(3)
الجوادي الآملي ، عبد الله ، 1352 هجري - مؤلف .
معرفة الدين / المرجع الديني سماحة الشيخ عبد الله جوادي الآملي ، تعريب هاشم ميلاني .- الطبعة الاولى .- النجف ، العراق .- العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية 1443 ه. =2021
196 صفحة ، 24 سم .-(سلسلة دراسات دينية معاصرة ، 1)
ردمك : 9789922625690
يتضمن ارجاعات ببليوجرافية : صفحة 194 - 196
النص باللغة العربية مترجم من اللغة الفارسية
1. الاسلام . أ. الميلاني ، هاشم ، مترجم ب. العنوان
LCC:BP161.3 J39 2021
مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة فهرسة اثناء النشر
(4)
المحتويات5
مقدمة المركز 11
تمهيد13
الفصل الأول: تعريف الدين19
تعريف الدين 19
الدين الحق والدين الباطل22
تبيين الدين الحق بالعلل الأربعة 23
تبيين الدين الباطل بالعلل الأربعة26
الدين الحق واحد والباطل متعدّد27
الفصل الثاني: منشأ الدين29
أ ــ المعنى الأول لمنشأ الدين (ظهور الدين)29
الضرورة في كون الدين إلهيًّا31
طرق إثبات ضرورة النبوة32
ب - المعنى الثاني لمنشأ الدين (علة التدين)38
العلّة الأساسيّة للتمسّك بالدين39
العلل الفرعية للتمسّك بالدين40
أسباب النفور من الدين44
1. عدم معرفة الكون، الإنسان والدين44
2. تفسير الدين بشكل خاطئ 45
ج - المعنى الثالث لمنشأ الدين (ضرورة التديّن) 46
الفصل الثالث: جوهر الدين وصَدَفه47
التّفسير الأوّل لجوهر الدين وصدفه 47
التفسير الثاني لجوهر الدين وصدفه 50
التفسير الثالث لجوهر الدين وصدفه 51
التفسير الرابع لجوهر الدين وصدفه 53
التّفسير الصحيح للّب والقشر 55
وحدة جوهر جميع الأديان 58
الفصل الرابع: لغة الدين 59
خصائص لغة الدين العامة 59
لغة القرآن 60
الآيات الدّالة على عموميّة فهم القرآن 62
نقاط حول فهم القرآن 64
طرق تبيين المعارف في القرآن 66
نماذج من استخدام القرآن للبرهان والتمثيل 68
القضايا الدينية 70
أنواع القضايا القرآنيّة 70
استخدام الأمثال في القرآن 74
لغة العلم ولغة الدين 76
الأصل الأول: 77
الأصل الثاني: 78
الأصل الثالث: 78
فوارق القرآن مع سائر الكتب العلميّة 79
طرق القرآن الكريم 80
المعناوية والتحقّقيّة في القضايا الدينيّة 87
لغة الدين والقضايا العقديّة 90
ملاحظة: 93
الفصل الخامس: العقل والدين 95
موقعيّة العقل عند علماء الغرب 95
دور العقل في النظام العقدي عند الغربيين 98
العقل والدين في الإسلام 99
التّعبير عن العقل والنّقل بدل العقل والدين 100
نقاط حول علاقة العقل بالنقل 100
معرفة العقل 101
موقعيّة العقل 105
العقل النّظري والعقل العملي في الحكمة والفلسفة 106
أسس ومواد الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة 108
حجيّة إدراك العقل في الحكمة العمليّة 110
الفرق بين البرهان العقلي والقياس الفقهي 110
الفرق بين العقل وبناء العقلاء 113
العقل في علم الكلام 114
مراحل البحث في الحُسن والقبح 115
الأشاعرة ومبحث الحُسن والقبح 115
نتائج إنكار الحُسن والقبح 116
كلام آخر عن الحُسن والقبح 118
عقل الإنسان الكامل وعلاقته بالتكوين و التشريع 120
المراد من الذاتي في الحُسن والقبح الذاتيين 122
مناقشة استدلال منكري الحُسن والقبح العقليين 123
أدلّة القائلين بالحُسن والقبح العقليين 124
دخول العقل في ميدان الاجتهاد 125
الدليل العقلي في علم الأصول 128
العقل الديني والعقل الفلسفي 129
استعمال العقل في متون الدين النّقليّة 130
احتجاج الأنبياء والأولياء 133
احتجاج إبراهيم الخليل عليهالسلام العقلي في القرآن 134
الاستدلال العقلي في الروايات 135
توهّم منع مطلق السؤال في القرآن 136
مناقشة منع مطلق السؤال 137
وفيما يلي نشير إلى بعض أقسام السؤال 138
السّؤال من النبي حول الله 139
دعوة القرآن إلى العقل والاستدلال 141
شبهة تعارض العقل والدين 142
الجواب الأول: عدم إدراك العقل لجزئيات الدين: 142
الجواب الثاني: الفرق بين الوهم والعقل 144
عدم كفاية العقل 145
الدّفاع العقلاني عن الدين 146
والخلاصة 147
تأكيد القرآن على الإيمان والعمل الصالح 149
تذكرة 150
عقلانيّة الإيمان 151
والخلاصة 152
الفصل السادس: التعدّديّة الدِّينيّة 155
مقدّمة 155
تعدّدية المذاهب وتعدّدية الأديان 157
التعدّدية الدينية في رحاب علم الكلام 157
استحالة تنوّع الأديان 159
الحكمة من تعدّد الشرائع 161
وحدة المتعدّد وتعدّد الواحد 162
أنواع التعدّدية 163
إمكانية التعايش السلمي بين أتباع مختلف الأديان 167
معيار الحياة السلمية 168
الدعوة الإسلامية لحياة سلمية 170
رفض التسامح في الدين 172
التسامح في أدلّة السنن 175
احترام آراء الآخرين: 175
التعدّدية التشكيكية أو نسبية الأديان 176
أسس التعدّدية 179
نقد نسبية الفهم 180
نقد القول بتأثّر الحقيقة بفهم الإنسان 181
التعدّدية وليدة النزعة الشكّية والفكر السوفسطائي 184
معرفة الإنسان الكامل بعالم الوجود 185
العلاقة بين التعدّدية والمناهج المعتمدة لمعرفة الدين الحقّ 186
البرهان العقلي هو السبيل الصائب لمعرفة الدين الحقّ 188
عجز التجربة عن إثبات الدين الحقّ 190
السبيل الأمثل لمعرفة الحقّ 192
الشاعر جلال الدين الرومي والتعدّدية الدينية 195
التعدّدية الدينية من زاوية قرآنية 197
تفنيد دلالة الآية 62 من سورة البقرة على التعدّدية الدينية 199
ثلاثة تفاسير للآية 62 من سورة البقرة 201
الاحتمال الأوّل: 201
الاحتمال الثاني: 202
الاحتمال الثالث: 203
حقّانية الأديان والشرائع السالفة 203
التعدّدية في باطن الدين (تعدّدية مذهبية) 205
جواز التعدّدية في المذاهب والعلوم 209
ضرورة مراعاة جانب الاحتياط 209
العرفان والتعدّدية 211
الفقه العبوس والعرفان الجميل 212
نتائج نظرية التعدّدية الدينية 214
ارتباط الوحي والتجربة الدينية بنظرية التعدّدية الدينية 215
الفرق بين الوحي والتجربة العرفانية (الشهودية) 224
الفرق بين العرفان والأخلاق 226
التفكيك بين الشريعة والفقه لحلّ معضلة التعدّدية 227
المراجع 231
باتت مباحث الدين محور النقاش المحتدم طيلة القرون الماضية، سواء في الغرب أو الشرق، وقد اشتدّت هذه المباحث في فترة النهضة الاوروبية، والانقلاب على القراءة الدينية الرسمية، وظهور تيار الإصلاح الديني، وما تبعه من ظهور تيارات ومدارس فكرية: سياسية واجتماعية وثقافية حيث كان الدين دوماً طرفا في النقاش هذا.
والعالم الإسلامي لم يكن بمعزل عن هذا الجدل المستمر، وإن بنحو آخر، وما نزاع الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء وأهل الحديث، إلا من نتائج هذا الجدل، غير ان العالم الإسلامي بعد احتكاكه بالغرب الحديث، واجه نوعاً آخر من التحديات الدينية، ربما لم تكن من ذي قبل، بل ولدت جراء النهضة العلمية والعقلية الحديثة، وتغيير وجهة الإنسان من السماء إلى الأرض والسعي نحو تحقيق أكبر قدر من السعادة الدنيوية المحضة، وتغيرّت ميتافيزيقا الغيب الى فيزيقا الطبيعة، فانولدت جراءه لاهوت الطبيعة والدين الطبيعي والإنسان الطبيعي محور الكون.
التحديات هذه، تفرض على الخطاب الإسلامي، الخوض في هذا المضمار، لتقديم قراءات تأسيسية حول مباحث الدين وما يتعلّق به سعة وضيقا، مع لحظ المباحث الجديدة والإجابة على التحديات الحديثة، بغية الوصول الى الحقيقة.
هذا الكتاب الذي نضع ترجمته العربية بين يدي القارئ الكريم، من
(11)مؤلفات المرجع الديني سماحة الشيخ عبد الله الجوادي الآملي يقدّم بين دفتيه أهم المباحث النظرية المتعلّقة بالدين، والتي كانت وما تزال مثار الجدل في الوسط الفكري في العالمين الغربي والإسلامي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين.
(12)الدِّينُ، قرينُ الإنسان، والإنسانُ منذ خلقته يحسّ في باطنه بالحاجة إلى الدِّين، وبهذا الظمأ الفطريّ كان يبحث عن الدِّين؛ كي يروي ظمأه بالوصول إليه. ولذا، بعد أن أطلق علماء الاجتماع والأناسة على الإنسان في القرون الماضية لقب الموجود المستوي القامة، والفاعل في صناعة الآلات والسياسي، أصبحوا اليوم يتحدّثون عنه تحت عنوان الموجود المتديّن؛ وذلك أنّ المحقّقين أثبتوا ببحوثهم التّاريخيّة عدم خلوّ أيّ قوم من أقوام البشريّة من نوعٍ من أنواع الدِّين. كما أنّ أحدث الأبحاث الاجتماعيّة تثبت اعتقاد 95٪ من الناس بالله وبتديّنها بدينٍ من الأديان، وهذه الحقيقة تُبطل النّظريّة القائلة بانحطاط الدّين جرّاء تطوّر المجتمع وازدياد الرّفاه الماديّ. والسرّ في ذلك أنّ الإنسان مفطورٌ على الدّين، وأنّ هويّته الوجوديّة في الخلقة مجبولةٌ على الدّين.
وبما أنّ الإنسان مجبولٌ على التّديّن في أصل خلقته، يقول بيتر برغر أحد أهم علماء الاجتماع في بحثه عن مناهضة العلمانيّة في العالم:
«لا بدّ من الإذعان بأنّه لا يمكن القول بأنّنا نعيش في عالمٍ علمانيٍّ، وعدا بعض الاستثناءات؛ فإنّ العالم الذي نعيش فيه - كما هو في السابق - مليءٌ بالإحساس الدّينيّ، وهذه الأحاسيس تفوق في بعض الأماكن عمّا كانت في الماضي».
كما أنّه، وفي مقطع آخر يردّ استشراف أُفول الدين في العقد السادس من القرن العشرين، ويقول:
«مع أنّ مصطلح نظريّة العلمنة بإمكانها أن تنضوي على آراء وأفكار وأمور تم نشرها خلال 1950 - 1960، ولكن يمكن البحث عن الجذور الأساسيّة لهذه النّظريّة في عصر التنوير. النظريّة البسيطة التي تقارن بين التّحديث وأفول الدين لدى المجتمع والفرد على السواء، ولكن هذه النظرية البسيطة جداً تبيّن خطؤها».
ثم إنّه في مقطع آخر من بحثه هذا يُشير إلى النّهضة الإسلاميّة قائلاً:
«إنّ هذه النّهضة تعدّ في الواقع إحياء التمهيدات الدينيّة بشكلٍ مؤثّر ومؤكدّ في رقعةٍ جغرافيّةٍ وسيعةٍ، وفي كلّ نقطة تجذّر فيها التيّار الإسلامي، فإنّه لم يكتفِ بإحياء العقائد الإسلاميّة وتجديدها، بل يدافع عن نمط الحياة الإسلاميّة الذي يتقاطع مع الفكر الجديد في كثير من الموارد... هذا التّيّار أماط عن نفسه في المجاميع الإسلاميّة القاطنة في أوروبا بشكلٍ أكثر، وبأقلّ منه في أمريكا الشماليّة.
إنّ تجديد الحياة الإسلاميّة لم يقتصر على مناطق متخلّفة اجتماعياً وبعيدة عن ظاهرة التحديث، كما يزعم بعض الحداثويين، بل على العكس من ذلك، فإنّ هذا التيّار أصبح منتشراً في مجتمعات ترسّخت فيها ظاهرة الحداثة بشكلٍ ملفتٍ».
فهذا العالم الاجتماعي، بعد أن يطرح موضوع تجديد حياة الدين في العالم، يجيب على سؤال منطلق النهوض الديني في العالم بجوابين:
1. بلحاظ أنّ التّحديث يسعى إلى التّشكيك في القطعيّات التي ألِف النّاس عليها طول التّاريخ، وأنّ التّشكيك في هذه القطعيّات يُوجب تذمّر
النّاس، فإنّ الحركات الدينيّة المدّعية التي تبلّغ القطعيات للناس تحظى بإقبالٍ عامٍ عند الناس.
2. إنّ التّيّارات الإسلاميّة، تُعدّ بمثابة الصدّ أمام النّخب العلمانيّة، وبما أنّ الآراء العلمانيّة البحتة تقطن في النّخب الثّقافيّة من المجتمع، فإنّ كثيراً من الناس يرفضون هذه الأفكار، وجرّاء هذا يتمّ الإقبال على التّيّارات الإسلاميّة.
ويظهر أنّ هذا العالم الاجتماعي لم يرضَ بهذين الجوابين في دليل مقبوليّة التيّارات الدينيّة عند الناس، بل يرى سرّ ذلك في اتّجاه الإنسان الدائم نحو الدين، ويرى ذلك من الأمور البديهيّة. لذا يقول:
«فنحن نواجه أمرًا بديهيًّا من جهة، الإحساس الديني الهائج موجود دائماً، وما يحتاج إلى توضيح أو إثبات فقدان الدين لا حضوره».
بناء على هذا، فإنّ الدين حاجة الإنسان الطبيعيّة، والدين وإن أمكن حذفه بشكلٍ مؤقّتٍ من حياة الإنسان، لكنّه سرعان ما يرجع، وسرعان ما يقوم الإنسان بتطبيق حياته على ضوئه.
الإنسان يميل إلى الدين فطريًّا، غير أنّه لأجل الوصول إلى الدين الحقّ في بعده النّظريّ والعمليّ، لا بدّ وأن يقوم بالبحث والتّحقيق ليقبله عن اعتقادٍ جازمٍ، ويلتزم ببرامجه العلميّة.
إنّ «علم الدين» وإن كانت له سابقة في تاريخ البشريّة منذ بزوغ الدين، لأنّ الإنسان إذا لم يعرف شيئاً لم يلتزم به ولم يتّجه إليه، ولكن الدراسة المنتظمة للدين، ومعرفته طبقًا لأصول التّحقيق ومبانيه، بات ذا أهميّة في العالم الحديث وضروريًّا للجميع. فإنّ «علم الدين» في المجاميع
الفكريّة والدّينيّة المعاصرة، بات مورد عناية مجالاتٍ علميّةٍ مختلفةٍ ومتنوّعةٍ، وكلّ مجموعة من هذه المجالات العلميّة، تهتم بالفحص والتّحقيق في أبعاد الدين المختلفة، كما هو الحال - ومنذ القدم إلى يومنا الحاضر - بخصوص المسلمين ومراجعتهم لمعرفة الدين من خلال النّصوص الدّينيّة، ومسارب فلسفيّة وكلاميّة وعرفانيّة.
وفي الغرب أيضًا يتّجهون نحو معرفة الدين بوجهاتٍ مختلفةٍ، فتارة بصبغة فلسفيّة، وأخرى عرفانيّة، وثالثة بصبغة سوسيولوجيّة وهكذا... وجرّاء ذلك ظهرت فروع مختلفة في «علم الدين» ومن ضمنها فلسفة الدين.
ففلسفة الدين تعدّ بمعنًى من المعاني استمرارًا للميل الفطريّ لدى الإنسان نحو المواضيع الدينيّة الهامّة والمؤدّية إلى التفكير الفلسفي في الدين
وفي مقام تعريف فلسفة الدين، توجد آراءٌ مختلفةٌ؛ إذ يقول البعض إنّ فلسفة الدين بما أنّها من الفلسفات المضافة، وكما أنّ فلسفة العلم وفلسفة التاريخ وفلسفة الحقوق وغيرها، تشكو من إبهام نوعًا ما، وهذا الإبهام ناشئ من التلقيات المختلفة عن ماهيّة الفلسفة وأيضاً ماهيّة المجال المبحوث عنه - أي العلم، التاريخ، الحقوق والدين
. فمن الصّعب أيضاً تعريف فلسفة الدين، ولكن مع هذا يمكن القول بأنّ فلسفة الدين جهد للتحليل والبحث النّقدي تجاه المعتقدات الدينيّة . وهناك من يقول: إنّ فلسفة الدين عُدّت بمعنى التفكير الفلسفي في الدين لأجل الدفاع عن المعتقدات الدينية «حينما كانت» غايتها إثبات وجود الله تعالى بالبراهين العقليّة . ويقول هؤلاء أيضًا: إنّ فلسفة الدين تبحث في المفاهيموالأنظمة العقديّة الدينيّة وأيضًا الظواهر الأصليّة للتجربة الدينيّة والطقوس العبادية، وكذلك الأفكار التي تبتني هذه المنظومة العقديّة عليها
.وهناك من يعتقد أنّ اكثر الفلاسفة يرون حاليًا إمكان البحث الفلسفي في أيّ جانب من جوانب الدين، ومنها التّعاليم أو الطقوس الخاصّة بالأديان. فالبحث الفلسفيّ في هذه التعاليم والأعمال؛ لم يكن ذا قيمة فحسب، بل غالبًا ما يطرح مسائل أخرى تنفع في باقي الفلسفات، كما أنّ التأمّل حول مفهوم التّطهير لدى المسيحيّة، يلقي ضوءه على بعض المباحث المعاصرة حول ماهيّة حريّة الإرادة .وبعبارةٍ أخرى، فإنّ فلسفة الدين تدقّق في مواضيع ومسائل تتعلّق بالمعتقدات الدينيّة وماهيتها وصدقها، من قبيل الله وخلود الإنسان. وكذلك الأعمال الدينيّة ومعناها.إنّ فلسفة الدين ومن خلال بحثها عن الإيمان بالله، تطرح مسائل متنوّعة حول الله تعالى. كما يُبحث فيها مسألة خلود الإنسان وأبديّته، وعدم انعدامه بالموت واستمرار حياته في عالم آخر التي تُعد من التّعاليم المشتركة في الأديان.
وأيضًا بالنّظر إلى معتقد المؤمنين حول ضرورة بعض الأمور الخاصّة للحياة الدينيّة، وإنّ الله تعالى أوحى بها، وهذا الوحي تمّ ضبطه في كتبٍ مقدّسةٍ، كالقرآن عند المسلمين، والعهد العتيق والجديد لدى المسيحيين، فإنّ كيفيّة مفاهيم هذه المتون المقدّسة، ومنهج تفسيرها، أدّت إلى ظهور مسائل فلسفيّة كثيرة، وعليه فإنّ نطاق فلسفة الدين واسعٌ جدًا ويبحث فيها مواضيع دينيّة كثيرة.
هذا الكتاب يتطرّق إلى بعض مباحث فلسفة الدين ضمن ستة فصول،
ويضعها بين يدي القارئين والباحثين. يهتمّ الفصل الأوّل بتعريفٍ جامع للدين؛ إذ توجد تعاريف متنوّعة ومختلفة عن الدين ناتجة جرّاء التّلقيات المختلفة للدين. والفصل الثاني يُبيّن منشأ الدين ومعانيه المختلفة. أمّا الفصل الثالث فيتطرّق إلى مسألة تفكيك وتقسيم بعض تعاليم الدين إلى الجوهر والصدف (اللب والقشور) وفحص صحّة هذا التقسيم عن عدمه. والفصل الرابع يتابع لغة الدين وبيان اختلافها مع لغة العلم والعرف، سيما لغة القرآن وخصائصه. والفصل الخامس يبحث في تطابق العقل والدين، وبيان النسبة بينهما، وفي الأخير يتطرّق الفصل السادس إلى مسألة التعدّديّة الدينيّة: البلوراليزم.
(18)يُعدّ موضوع الإنسان والدين ونوع العلاقة بينهما، من أهم مباحث فلسفة الدين. إنّ علاقة الإنسان والدين تُعرف بشكلٍ صحيحٍ حينما يتمّ الوقوف على حقيقة الدين والإنسان بشكلٍ واضحٍ، وحينئذٍ تنجلي علاقة الإنسان بالدين.
لذا، لا بدّ في البدء من بيان حقيقة الدين وحقيقة الإنسان؛ إذ إنّ معرفة أيّ مركّب متفرّع على معرفة أجزائه. وثانيًا، بعد التعرّف التام على كلا الطرفين، تتبيّن قدرة الدين على تنظيم العلاقة الرباعيّة لدى الإنسان: علاقة الإنسان بالله، علاقة الإنسان مع بني نوعه، وعلاقته مع الطبيعة ومع الكون المخلوق.
إنّ الدين - اليوم - جامعٌ لأقسامٍ كثيرةٍ، والاشتراك فيها أشبه بالاشتراك اللّفظي من المعنوي؛ إذ إنّ بعض تلك الأقسام إلهيّة وبعضها الآخر إلحاديّة، كالاعتقاد بالتّوحيد، والاعتقاد بالسحر، والاعتقاد بقدسيّة بعض الحيوانات والأشياء وغيرها من مظاهر الوثنيّة، حتى إنّ البعض يعدّ المذاهب الفلسفيّة كالماركسية والنزعة الإنسانيّة دينًا.
هذه الأديان تبحث في فروعٍ علميّةٍ عدّة، كفلسفة الدين، سوسيولوجيا
(19)الدين، وعلم نفس الدين، ونظرًا لسعتها وتنوّعها أنكر البعض إمكان إعطاء تعريف واحد للدين، تعريف يجمع الأفراد ويمنع الأغيار.
وهنا تجدر الإشارة إلى بعض النّقاط:
1. في تصنيف عام وكلّي، يتمّ تقسيم الدين إلى الإلهيّ (الوحياني) والبشريّ، الأديان البشريّة (أو الوضعيّة) صنيعة الإنسان سيق إليها وإلى عقائدها وآدابها بعض الأزمات النّفسيّة والاجتماعيّة، كعبادة الأصنام، أو الاعتقاد بالسحر، وغيرها من الأمور التي تعدّ ضمن الأديان البشريّة.
أمّا الأديان الإلهيّة والوحيانيّة، فإنّها متجذّرة في الغيب، ومتأسّسة على أساس الوحي والرسالة الإلهيّة. الإنسان لا يصنع الدين الإلهي، بل يتلقّى الرّسالة الإلهيّة التي لا بدّ أن يعتقد بها، ويلتزم بمحتوى الوحي، ويطبق سلوكه الفردي والجمعي على ضوئه. فالمراد من الدين في بحثنا هذا، هو الدين الإلهيّ والوحياني فقط، لا الدين البشريّ أو الأعم منهما.
2. في مقام تعريف الدين، لا بد من تجنّب الخلط بين الدين والتّديّن، والدين والإيمان؛ إذ البعض يعرّف الدين بالاعتقاد، ويقول: «الدين، هو الاعتقاد بالوجودات الروحانيّة»
. أو يقال: «الدين، منظومة واحدة متكوّنة من معتقدات وأعمال مرتبطة بالمقدّس، ويعترف عن طريقها بعض الناس بالمسائل الغائيّة المتعلّقة بحياة البشر» . وقال البعض أيضًا: «الدين، هو الاعتقاد بالإله السرمديّ أي الاعتقاد بحاكميّة إرادة الله وحكمته على العالم، الإله الذي له مناسبات خلقيةمع البشر»
. ويقول البعض الآخر: إنّ جوهر الدين هو إحساس التعلّق بالمطلق».من الواضح أنّ هذه التّعاريف، تخلط بين الدين والإيمان والتديّن، والحال أنّ الإيمان والتديّن يختلفان عن الدين؛ لأنّ الإيمان والتّديّن وصفٌ للإنسان، أمّا الدين فهو حقيقةٌ رساليّةٌ أتاحها الله تعالى للإنسان.
3. لا يمكن إعطاء تعريفٍ ماهويٍّ للدين، غير أنّه يمكن تعريفه مفهوميًّا؛ إذ إنّ التّعريف الماهويّ للأشياء يتضّمن بيان الماهيات والذاتيات. فالتعريف الماهويّ هو تعريف الأشياء بالجنس والفصل، أو الجنس والرسم، أو بالحد التام أو الناقص، ولا يمكن تعريف الدين من خلال هذه الأمور؛ لأنّ الدين - الذي هو مجموعة قواعد عقديّة أخلاقيّة، فقهيّة وحقوقيّة - ليس له وحدة حقيقيّة، وما لا وحدة حقيقيّة له، لا وجود حقيقيّ له، وما يفقد الوجود الحقيقيّ لا ماهيّة له، وفاقد الماهيّة لا جنس له ولا فصل. لذا لا يمكن تعريف الدين بالحدّ التّام أو النّاقص، وبعبارةٍ أخرى ليس للدين تعريف منطقيّ مركّب من الجنس والفصل.
نعم، التعريف المفهومي للدين ممكن، ويمكن انتزاع هذا التعريف من الرسالة الإلهيّة.
لذا في مقام تعريف الدين يمكن القول بأنّ الدين مجموعة عقائد وقوانين ومقرّرات ناظرة إلى الأصول النظريّة للبشر، وكذلك الأصول العمليّة، كما أنّها تشتمل على الأخلاق وتغطّي جميع شؤون حياة البشر. وبعبارةٍ أخرى، الدين مجموعة عقائد وأخلاق وقوانين ومقرّرات أنزلت
لإدارة الفرد والمجتمع وتربية الإنسان عن طريق الوحي والعقل.
يتكوّن الدين المبتني على الوحي من أقسام عدّة؛ قسم يشتمل على العقائد أي الاعتقاد بحقائق الكون على أساس التوحيد، كالاعتقاد بوجود الله، الوحي والنبوة، القيامة والمعاد، الجنة والنار وأمثالها. وقسم منه يشتمل على الأخلاقيات، أي التعاليم التي تعرّف الإنسان على الفضائل الأخلاقيّة ورذائلها، وتهديه إلى طرق تهذيب النّفس من تلك الرذائل والتخلّق بالفضائل. وقسم آخر منه يشتمل على الشرائع والمناسك والأحكام التي تقرّر علاقة الفرد مع نفسه ومع خالقه ومع الآخرين، فالعلاقات الاجتماعيّة والحقوقيّة والمدنيّة والسّلوك الاجتماعي، وكيفيّة الروابط الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة؛ كلّها تقع ضمن هذا القسم.
يُوصف الدّين تارة بالحقّ، وتارة أخرى بالباطل؛ لأنّ مجموعة العقائد والأوصاف الأخلاقيّة والأحكام الفقهيّة والحقوقيّة؛ إمّا أن تكون حقًّا، أو باطلًا، أو مزيجًا من الحقّ والباطل. فالدين الحقّ، هو مجموعة العقائد والأخلاق والمقرّرات الحقّة، وعلى العكس يكون باطلًا، سواء أكان باطلًا محضًا أم ممزوجًا بالحقّ؛ إذ إنّ الجامع بين الحق والباطل يلحق بالباطل دون الحقّ.
يصف القرآن الكريم تعاليم الأنبياء عليهمالسلام بالحق؛ لأنّ العقائد والمقرّرات والأخلاق فيها تتطابق مع الواقع، وكلّما كان مطابقًا مع نظام الكون، ومنزلًا من الله سبحانه فهو حقّ. إنّ الله تعالى يقول لنبيّ الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ [آل عِمرَان: 60]، وفي آية أخرى: ﴿وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ [التّوبَة: 29].
والإسلام هو دين الله الذي جاء به الأنبياء، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ
عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عِمرَان: 19]، فالإسلام هو الدين الحقّ الذي لا يقبل الله من أحد غير انتخابه: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عِمرَان: 85].
والدين الباطل هو ما جاء به الطواغيت، والله تعالى يتكلّم عن كلام فرعون الباطل بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غَافر: 26]، أيّ إنّ موسى يريد أن يغيّر الدين الذي يحكم مصر ويخيّم على أفكار الناس، فما كان يحكم الناس في مصر، هو مجموعة عقائد وأخلاق وقواعد ومقرّرات اجتماعيّة وعسكريّة وسياسيّة غير ربانيّة، وحصيلة أفكار الإنسان الطاغي التي لا تكون إلّا باطلًا، يصفها القرآن بالدين: دِينَكُمْ.
إنّ أفضل تبيينٍ أو تحريرٍ لأيّ موضوع يكون من خلال بيان علله الأربعة. ولذا نحلّل العلل الأربعة للدين، ولا يخفى أنّ هذا التعليل يكون على نحو التّقريب دون التّحقيق؛ لأنّ العلل الحقيقيّة ترجع إلى المعلول الواقعي، والدين بما أنّه لا يملك وحدةً حقيقيّةً لا يكون معلولًا حقيقيًّا.
والمراد من العلل الأربعة؛ هي العلل الفاعليّة، والغائيّة، والصوريّة، والماديّة. وكلّ تحليل لحقيقة أيّ شيءٍ يرجع إلى إحدى هذه العلل الأربعة، وإن لم يرد ذكرها.
ويمكن القول في بيان علل الدين الأربعة الذي يوجد في الخارج: إنّ العلّة والمبدأ الفاعلي للدين هو الله، بمعنى أنّه سبحانه ينظّم أصول الدين العقديّة والأخلاقيّة والعمليّة. أمّا العلّة والمبدأ الغائي ينقسم إلى الغاية الوسطى والغاية القصوى، والجامع بينهما يحقّق سعادة الدنيا والآخرة. والغاية الوسطى للدين هي قيام النّاس بالقسط والعدل، والغاية القصوى أن
يتنوّر الإنسان بالنور الإلهيّ. أمّا العلّة والمبدأ الصوري للدين يتجلّى على نحو الكتاب والسنّة والمباني العقليّة، وأخيرًا فالعلّة الماديّة أي موضوع الدين ومادته ومحلّه، هي حقيقة الإنسانيّة؛ إذ تطرح بخصوص الإنسان مواضيع عدّة، كالعقيدة، والتخلّق، والاتّصاف، والعمل، والتي هي موضوع الأحكام الدينيّة، ويعدّ الموضوع بمثابة المحلّ والمادة.
بيان ذلك:
1. إنّ الله تعالى هو علّة الدين ومبدأه الفاعلي، ويتنزّل مجموع الدين إلى الإنسان بإرادة الله تعالى، ويتمكّن الإنسان من الوصول إليه عن طريق الوحي والعقل.
2. إنّ الله تعالى بيّن هدف الدين وغايته على نحو الغاية الوسطى والقصوى، كي تحصل سعادة الدنيا والآخرة بعد تحقّقهما. يقول الله تعالى بخصوص الغاية الوسطى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحَديد: 25]، فينبغي أن يقوم جميع الناس بالقسط والعدل، وأن يكون قيامهم وقعودهم وجميع أعمالهم الفرديّة والاجتماعيّة على أساس القسط والعدل؛ بمعنى أنّه لا تكون أفكار الفرد وأعماله على أساس القسط فحسب، بل يلزم للمجتمع أيضًا أن يفكّر ويتحرّك وفقًا للقسط والعدل.
أمّا بخصوص الغاية القصوى للدين، يقول الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1]، فالآية تشير إلى أنّه لا يكفي أن يكون الإنسان في مقام الفعل من أهل القسط والعدل، بل يلزم أن يكون في مقام المواجيد القلبيّة والعقليّة من أهل المعرفة والشهود كي يتنوّر.
تتجلّى نورانيّة الإنسان في مقام الفعل بالقسط والعدل، وفي مقام
القلب بالشهود الكامل والمعرفة الصّحيحة، فمن شاهد الحقّ بنحوٍ صحيحٍ وأدركه وقبله، ولم تكن حياته غير حضور النور الإلهي وظهوره، فهكذا شخص يكون ومن وجهة نظرٍ قرآنيّة نورًا في المجتمع ويمشي في الناس بهذا النور: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ﴾ [الأنعَام: 122]، فالنور ظاهرٌ لنفسه ومُظهرٌ لغيره، والحقّ ظاهرٌ للإنسان النّورانيّ، وهو يُظهره لغيره.
بناء على هذا، فإنّ نورانيّة الإنسان هي الهدف الغائي للدين الإلهي، والإنسان الذي يرى نور السّماوات والأرض: ﴿نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النُّور: 35]، يكون مظهرًا لهذا النور بحسب سعة وجوده، بحيث لو كان استعداده واسعًا لأصبح مظهرًا للاسم الأعظم، وإلّا سيكون مظهرًا لسائر الأسماء والصفات الإلهيّة. والإنسان النّورانيّ سعيدٌ في الدنيا والآخرة بشكلٍ كاملٍ وتام.
3. أمّا العلّة والمبدأ الصوري للدين، فهي مجموعة الأصول والفروع التي تُستنبط من المنابع الأصيلة بمساعدة الأدلّة المعتبرة، وهذه الأدلّة هي مجموع النّقل والعقل، بمعنى أنّ صورة الدين تُعرف بالنقل والوحي كما تُعرف بالعقل، سيما في مقام بيان العقائد من قبيل وجود الله، والنبوة وضرورة المعاد وغيرها. فالعقل البرهانيّ كاشفٌ للدين ومن أوضح الأدلّة وأهمّها. وما يتم استنباطه من مجموع أدلّة الدين يغطّي جميع شؤونات الفرد والمجتمع.
4. أمّا العلّة الماديّة ومحلّ الدين وموضوعه لم تكن سوى الإنسان؛ إذ الإنسان بما يمتلك من قدرة التفكّر والمعرفة والاختيار والانتخاب، يكون ظرفًا لتحقّق الدين الإلهيّ، بحيث تكون شؤونه العلميّة والعمليّة، ومراحل الجزم العلميّ والعزم العمليّ، ومراتب اتّصافه واستعماله لها، تكون كلّها موضوعًا لقواعد الدين وأحكامه.
وبناءً على هذا، فإنّ في الدين الحقّ، على غرار الانشغال بالمبدأ الفاعلي، يلزم الالتفات أيضًا للمبدأ الغائي، الذي هو تأمين سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ويتمّ تنظيم صورة الدين بحيث يتمكّن من تأمين ذلك الهدف. ولا يخفى إغفال الغاية القصوى - أي أبديّة الإنسان - في التعاريف الواردة من قبل بعض مفكري الغرب
.على غرار الدين الحق، يمكننا تبيين الدين الباطل وفقًا للعلل الأربعة أيضًا؛ لأنّ الموجود الباطل، له وجود عرضيّ وظهور وحضور بالعرض وزائل في الوجود، وإذا كان ظاهرًا فظهوره في ظلّ الحق، فالدين الباطل يتواجد بالعرض، ولذا فإنّ تبيين الدين الباطل يكون باعتبار وجوده العرضي، كما أنّ تعليله بالعلل يكون بالعرض أيضًا.
والعلل الأربعة للدين الباطل هي:
1. المبدأ الفاعلي هو الهوى في الإنسان: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجَاثيَة: 23].
2. المبدأ الصوري هو العقائد والأخلاق والأحكام الوهميّة والخياليّة، دون الحقائق والأحكام العقليّة؛ لأنّ الهوى لا علاقة له بالعقل والقلب، حتى إنّه حاجبٌ للعين والأذن أمام شهود الحق. وبعبارة أخرى، فإنّ الدين الباطل متّكلٌ في مقام النّظر على الوهم والخيال، وفي مقام العمل على الشهوة والغضب.
3. إنّ موضوع الدين الباطل ومحلّه، هو الإنسان الذي يقبل الظلال.
4. والهدف الغائي للدين الباطل هو السقوط في الجحيم، وبعبارة أخرى، إنّ حاصل الدين الباطل سقوط الإنسان في الجحيم والخلود فيها: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ﴾ [الأعرَاف: 179].
إنّ غاية الدّين الباطل التي هي السّقوط في الجحيم، إنّما هي غاية عرضيّة للإنسان، وإلّا فالله تعالى جعل العبادة غاية خلقة الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذّاريَات: 56]، كما جعل العلم غايته العلميّة والعقليّة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطّلَاق: 12]، فهدف خلق الكون التعرّف على قدرة الله المطلقة وعلمه، ومن عرف الله بالعلم والقدرة، عرفه أيضًا بالحياة؛ لأنّ كل عليم وقدير حيّ، وإذا عُرف الله بالحياة، عُرف بسائر أسمائه الحسنى.
ولا يخفى أنّنا لم نرد من هدف الخلق هدف الخالق، بل المقصود هو هدف المخلوق؛ لأنّ الله كمال مطلق وغنيّ بالذات، والكمال المطلق لا يفقد شيئًا كي يصل إلى الكمال المفروض من خلال بعض الأعمال.
وبناء على هذا، لا يوجد هدف لذات الباري تعالى، ولكن بما أنّه حكيمٌ، تقتضي حكمته هذه أن يكون للخلق هدف، ويُعد هذا الهدف هدف المخلوق، وهذا الهدف هو الوصول إلى العلم الصائب، والإيمان الكامل، والعمل الصالح، وفي الختام نيل السعادة.
إنّ الدين الحقّ واحدٌ؛ لأنّ مبدأه الفاعليّ هو الله الذي ذاته غير متناهية، وقدرته غير محدودة، مضافًا إلى أنّ الحقّ في نظام الكون واحد وثابت دائمًا.
أمّا الدين الباطل متعدّد؛ لأنّ مبدأه الفاعلي أهواء الإنسان وميوله،
والأهواء متفرّقه ولم تكن محصورة ولا مختصرة؛ لأنّ هوى الإنسان غير محصور، لذا يضع الله في القرآن أمام الصراط المستقيم السبل المتعدّدة: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعَام: 153]، فالإنسان الذي يبتعد عن صراط الله ودين الحقّ، يقع في السّبل المتفرّقة الباطلة. (سنبحث عن التعدّديّة الدينيّة في الفصل السادس).
وقد ذكرنا في كتاب سيرة الإنسان وصورته (هو المجلد الرابع عشر من التفسير الموضوعي للمؤلف) ما يتعلّق بمباحث الإنسان بالتفصيل، ومن أراد التفصيل فعليه مراجعته، وعليه سنستمر في الفصل القادم بالمباحث المتعلّقة بالدين.
(28)تُعدّ مباحث منشأ الدين من الأمور التي تُطرح في فلسفة الدين ومسائل الدّراسات الدينيّة، ففي الدّراسات الدينيّة يُسأل عن منشأ الدين: هل الله هو منشأ الدين أم الإنسان؟ هل مبدأ ظهور الدين هو الأمور الاقتصاديّة - الاجتماعيّة، أو أنّه ناتج من العوامل النفسيّة؟
طُرحت لتفسير منشأ الدين آراءٌ مختلفةٌ نشير إلى ثلاثة منها:
السّؤال عن منشأ الدين ينخرط في السّؤال عن علّة ظهور الدين. الدين ظاهرة خارجيّة توجد في الواقع مستقلّة عن الإنسان ومع قطع النّظر عن قبوله. لذا يمكن البحث عن علّة ظهوره. وبعبارة أخرى، فإنّ للدين والمقولات الدينيّة وجودًا واقعيًّا. لذا يُسأل عن منشأ ظهوره، وفي مقام الجواب يقول البعض إنّ منشأ الدين هو الله والوحي الالهي، ويقول البعض إنّه السحر أو الشيطان، ويدّعي البعض الآخر أنّه صنيعة الأقوياء، كما تقول الماركسيّة إنّ الدين صناعة الأقوياء لتحميق المحرومين واستغلالهم.
هذه الأجوبة تبتني على نوعٍ من النّظرة الكونيّة. فالنّظرة الكونيّة الإلهيّة ترى أنّ عالم الإمكان مخلوقٌ من قبل الله أوّلاً. وثانيًا، إنّ لله سبحانه أسماءً وصفاتٍ يدير بها الكون، بمعنى أنّ الإنسان يعتقد أنّ الله ينظّم نظام
(29)الكون بحكمته وولايته وعدله وتدبيره وربوبيّته. وثالثًا، إنّ الإنسان - كسائر المخلوقات في هذا الكون - بحاجة إلى الهداية الإلهيّة لتكامله، ولا تتحقّق هذه الهداية من دون إرشاده سبحانه؛ خالق الكون بدءًا وختامًا. لذا من الضروري نزول الوحي. ورابعًا، إنّ الإنسان يتمكّن من الوصول إلى مرتبة تلقّي هذه الهداية.
بناءً على هذه الأصول والمقدّمات تكون النتيجة أنّ الله هو منشأ الدين، أيّ أنّه المبدأ الفاعلي للدين، وأنّ الإنسان هو مبدأ القبول، والمبدأ الغائي هو لقاء الله، كما أنّ البنية الداخليّة للدين معصومة كي يتمكّن الإنسان على ضوئها من الوصول إلى لقاء الله.
أمّا إذا لم يذعن الإنسان بوجود الله، أو أنّه قَبِل بالله وبكونه واجب الوجود ومبدأ الخلقة، ولكن بسبب النّزعة العقليّة المحضة يرى استغناء الإنسان من الوحي في تكامله، (كالبراهمة الذين يقولون بأنّ كلام الأنبياء إمّا مطابق للعقل أو مخالف له، فإذا كان مطابقًا للعقل فالعقل يكفي، واذا كان مخالفًا فهو مردود) أو أنّه يقبل وجود الله وأنّه يدير العالم بأسمائه وصفاته، لكن يعتقد عجز الإنسان عن تلقي الوحي، (ذهب الوثنيون في الحجاز إلى أنّ الرسول لا بدّ أن يكون ملكًا وبما أنّ الملائكة لم تأتِ بالدين، فالدين الذي يدّعيه الرسول ليس من الله)، فعند هؤلاء يكون الدين بشريًّا أتى به الإنسان بنبوغه وحُسن استعداده، حيث يتلقّى التعاليم بنبوغه ويدلي بها للمجتمع. وهناك صنف آخر كوثنيي الحجاز يرون أنّ محتوى الدين سحر أو شعر، أو ذهب البعض إلى أنّه كهانة أو من فنّ القيافة، أو شعبذة وأساطير.
وترى الماركسيّة أنّ الأقوياء هم منشأ الدين جاؤوا به لاستغلال الناس. وهناك من يجعل الأمور النفسيّة، كالخوف، أو الجهل، ويقول: إنّ خوف الإنسان من الطبيعة أو جهله بالقوانين الحاكمة على الكون، ألجأته إلى اختراع الدين كي ينظّم حياته على ضوئه.
(30)إنّ قبول التّدخّل البشريّ في منشأ الدين، وإنّ كلّ شيء ينشأ من البشر ربما تطرّق إليه الزوال، أدّى إلى ما ذهب إليه بعض علماء الاجتماع من القول بأفول مرحلة الدين، كما ذهب إليه أغوست كنت الفرنسي في تقسيم مراحل الفكر البشري إلى ثلاثة: المرحلة الربانيّة، الفلسفية، والعلميّة. إنّه يدّعي وصول البشريّة إلى مرحلة العلم، والمرحلة الربانيّة تتعلّق بالإلهيات والكلام عن التوحيد، أما مع بلوغ البشريّة إلى المرحلة الثانية والثالثة، فلا يصح الكلام عن الله وعن الدين
.إنّ صناعة الإنسان للدين؛ إمّا أن تكون بدواعي الجاه والاستبداد ودسائس الساسة والاستعمار، أو بدواعي اقتصاديّة لاستغلال الناس، أو قد تكون بمجموع هذه العوامل، كما أنّ فرعون كان يتذرّع بالدين والدفاع عنه لاستغلال بني إسرائيل واستعبادهم، ويقول إنّي أخاف أن يكون موسى ساحرًا يريد أن يخرجكم عن الدين الحق: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ﴾ [طٰه: 63] أو: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ [غَافر: 26]، ومن الواضح أنّ الدين الذي يدافع عنه فرعون، هو الدين الذي استعمله لتحميق الناس واستعبادهم، ووسيلة لتقديس سلطته الجائرة.
بناء على النّظرة الكونيّة الإلهيّة القائلة بتدخّل الإرادة الالهيّة في إظهار الدين للإنسان عن طريق الوحي، وردت طرق عدّة في كتب الحكماء والمتكلّمين لإثبات ضرورة الوحي والنبوّة، لإثبات مجيء الدين من قبل الله لهداية الإنسان.
ذكر المرحوم الملا عبد الرازق اللاهيجي في كتابه «كوهرمراد» خمسة طرق لتبيين ضروة الوحي والنبوة:
قال الامام الصادق عليهالسلام في الإجابة عن مسألة إثبات النبوة:
«إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقًا صانعًا متعاليًا عنّا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيمًا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسهم ولا يلامسوه ولا يباشرهم ولا يباشروه ولا يحاجهم ولا يحاجوه، فثبت أنّ له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه وثبت عند ذلك أنّ له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الله الحكيم العليم بالحكمة...».
المبادئ والمقدمات في استدال الإمام الصادق عليهالسلام هي:
1. الله خالق حكيم، أي عالم بما هو خير ونافع لنظام الكون، وعليم بصلاح الناس في حياتهم الدنيويّة والأخرويّة.
2. الله الحكيم لا يفعل العبث.
3. الإنسان يحتاج في معاشه ومعاده إلى مدبّر يدير اعماله ويدلّه على طريقة الحياة والنجاة من العذاب، لذا نحتاج إلى سفير ورسول يتكفّل هداية الناس في مصالحهم ومفاسدهم.
4. لا بدّ أن يكون هذا السفير من جنس البشر، وحتى لو كانت الملائكة هي السفراء لزم أن يظهروا بلباس البشر.
5. يلزم أن يمتاز السفير الإلهي عن غيره، كي يجلب اعتماد الناس، أي يخلو من رذائل الأخلاق والصفات السيّئة، وتغلب فيه الفضائل والجوانب المعنويّة ويمتاز بالعصمة، وأن يأتي بالمعجزة لإثبات صدق مدّعاه وحجيّة كلامه.
يقول المرحوم الملّا عبد الرازق اللاهيجي: هذا الكلام الشريف مع اختصاره يشتمل على خلاصة أفكار وآراء الحكماء السابقين والعلماء اللاحقين، بل إشارة إلى الحقائق التي لم يبلغها أكثر المتكلّمين.
1. يرى الأشاعرة أنّ بعثة الأنبياء موهبةٌ ورحمةٌ إلهيّةٌ، ويقولون إنّ مشيئة الله لو تعلّقت بأيّ شخص سيُبعث هذا الشخص؛ لأنّ الله فاعلٌ مختارٌ يفعل ما يشاء
. فالأشاعرة لا يعترفون بالحسن والقبح أوّلًا، وثانيًا لا يوجبون على الله شيئًا كي يلزم عباده به . لذا يعتقدون بعدم وجوب بعثة الأنبياء على الله، بل يرون جوازها .2. يذهب المعتزلة إلى وجوب بعثة الأنبياء على الله؛ لأنّهم يقولون بالحسن والقبح العقليين، ويوجبون اموراً على الله، وانّ الله كي يكلّف عباده بما يحفظ مصالحهم، يرسل أشخاصًا تتوفر فيهم شرائط خاصّة بالبعثة
.3. ترى الإماميّة - كالمعتزلة - وجوب بعثة الأنبياء على الله من باب اللطف واقتضاء الحكمة الإلهيّة، ويقولون بحسن البعثة لاشتمالها على
فوائد، ويقولون بحسن التكليف
، وبوجوب اللطف على الله . وبناء على هذا فإنّ بعثة الأنبياء واجبةٌ على الله بمقتضى لطفه وحُسن تكليفه.يقول المرحوم اللاهيجي بعد هذا: يلزم - بهذا الاستدلال - أن يكون للنبي قابليّة هذه الأمور، وأن يمتاز بجهتين: يلتقّى الوحي من جهة، ويبلّغ الأوامر والنواهي للمكلفين من جهة ثانية
.يبرهن الحكماء على ضرورة بعثة الأنبياء، بهذه الأصول والمقدّمات:
1. الإنسان للوصول إلى كماله الوجودي، واتّصافه بحسن المعاش والوصول إلى صلاح المعاد، بحاجة إلى المشاركة والتّعاون في حياته الاجتماعيّة، كي يقضي حوائجه في ظلّ هذا التّعاون الجمعي، وهذا ما يُطلق عليه: «إنّ الانسان مدنيّ بالطبع».
2. إنّ الإنسان رغم حاجته إلى التعاون أنانيّ، أي جُبل على أن يحب نفسه وأن يطلب سائر الأمور بتبع هذا الحب، بمعنى أنّه يريد جميع الأمور لنفسه، هذا الأصل - بمعناه السيّء - يرجع إلى طبع الإنسان لفطرته، ولكن بمعناه الحسن يرجع إلى الفطرة.
3. إنّ أنانيّة الإنسان تقتضي تعدّيه على حقوق الآخرين، ولذا يتولّد النّزاع والاختلاف جرّاء ذلك، ويعقب الهرج والمرج واختلال النّظم والأواصر الاجتماعيّة، وهذا الاختلال والتشاجر والاختلاف، ينتج عدم بلوغ الإنسان إلى الكمال وإلى ما فيه صلاحه في المعاش
والمعاد؛ لأنّ الأنانيّة توجد في الجميع ويطلبون الآخرين على ضوء مصالحهم، أي يريدونهم لأنفسهم.
4. يمكن للإنسان تعديل هذه الأنانيّة على ضوء قوانين الوحي وبرامجه، وهذا لا يحصل إلّا عن طريق القانون الإلهي؛ لأنّ تدوين القانون من قبل الإنسان الأناني، لا ينتج سوى قانونًا أنانيًّا.
5. تقتضي حكمة الله وعلمه تأمين حوائج الإنسان، وأن يُنزل القوانين الجامعة التابعة للحق على الأنبياء كي يبلّغون الناس بها؛ لأنّ إغفال حوائج الناس وعدم إنزال القوانين الوحيانيّة وبرامج تكامل الإنسان، تناقض الحكمة الإلهيّة، وتستلزم نقض الغرض، وهذا مستحيل
.ليعلم أنّ هذا التحرير ورد عن كثير من الحكماء المتقدّمين والمتأخّرين، كأبي علي سينا في إلهيات الشفاء، وصدر المتألّهين في المبدأ والمعاد، وأنّ علم الكلام الشيعي يتطابق مع الأصول الفلسفيّة لدى حكماء الإسلام، وانعكس هذا في كلام المحقّق اللاهيجي أيضًا.
يعتمد العرفاء على أصول لاستنتاج إثبات ضرورة النبوّة العامّة، يقولون: إنّ لقاء الله هو غاية وجود الإنسان، ويحصل ذلك عن طريق السير والسلوك. وسير السالك ينضوي على أربع مراحل:
1. السير من الخلق إلى الحق ومن الكثرة إلى الوحدة: في هذه المرحلة يسير السالك من الخلق إلى الحق، وينفي عن نفسه ما سوى الله، بل ينفي نفسه أيضًا، ويشاهد الذات الأحديّة المطلقة من دون التعيّنات والشؤونات والاعتباريات، وهذا هو القوس الصعودي.
2. السير من الحق إلى الحق، وهذا السير يحصل بمشاهدة الأسماء الحسنى والصفات العليا واحدة تلو الأخرى، ويُشاهد اسما «الأعظم» و«العظيم» في هذه المرحلة. وبعبارة أخرى يُشاهد في هذه المرحلة أو يبحث فيها وفي مقاماتها المختلفة عن الوحدة، والإطلاق الذاتي للواجب، والصفات الحسنى والأسماء العليا، ووحدة هذه الأسماء والصفات وعدم بينونتها وانفصالها عن ذات الباري تعالى.
3. السير من الحق إلى الخلق بالحق، وهذا السير يرافقه شهود التجليات الإلهيّة وإفاضاته، وكيفيّة صدور أو ظهور الأشياء أو الأشخاص من قبله سبحانه، من أوّل صادر أو ظاهر إلى آخر صادر أو ظاهر. وهذا السير هو قوس نزول السالك يصاحب حمل الولاية الإلهيّة.
4. السير من الخلق إلى الخلق بالحق، وإبلاغ رسالة الله الظاهر بمظاهر الوحي الإمكاني، وإجراء أحكامه وحكمه في مجاليه، وفي هذه المرحلة يقوم بهداية عطاشى وادي الإمكان إلى كوثر الخلود، ويوصل اختلافات وادي الكثرة الاعتبارية إلى الوحدة الحقيقية.
ويرى السالك في هذا السفر عدم عبثيّة العالم والإنسان، بل لها مقصد وغاية. كما يشاهد السالك في هذه المرحلة مسألة البرزخ والقيامة وحقيقة الجنة والنار والدرجات والدركات فيهما، وبما أنّ هذا السفر يبدأ من الخلق وينتهي إلى الخلق أيضًا، يمتاز السالك فيه بهداية الله ومصاحبته ودفاعه عنه في جميع المقامات والمواقف، ولا يتطرّق إليه أيّ تعب ناشئٍ من خوف الطريق ووحشته.
هذا المقام يخصّ أنبياء الله، الذين يرجعون إلى الخلق بعد شهود هذه الحقائق وبمعيّة الله تعالى كي يعرّفونهم عالم الوحدة. إنّ الغاية الأساسيّة لبعثة الأنبياء هي الهداية إلى عين الخلود وإرجاع الكثرة والتفرّق إلى الوحدة
(36)الحقيقيّة. فمن أراد الوصول إلى مقام النبوّة، لا بدّ أن يقطع هذه الأسفار الأربعة، ويصل إلى المقام الرابع كي يتمكّن من ريادة قافلة السالكين من عالم الإمكان إلى عالم الوجوب.
ولا يخفى أنّ ما يُطرح في العرفان أفضل ممّا يطرح في الحكمة وعلم الكلام؛ لأنّ المحور الرئيسي في العرفان يدور حول الخلافة الإلهيّة وولايته، وخليفة الله لا يسعى لهداية الناس فحسب، بل يسعى سعيًا بليغًا في تعديل أسماء الله وتناكحها، وتعليم الأسماء وإنباؤها للملائكة، وحلّ خصومات الولاء الأعلى أيضًا.
يتوقّف هذا البرهان على هذه المقدمات:
1. خُلق الإنسان للوصول إلى كماله الوجودي، وإنّ تحصيل ملكة العدالة بعد تحصيل الحكمة النظرية، هي مناط تماميّة الإنسان وكمال نفسه الناطقة.
2. إنّ ملكة العدالة تعني رعاية الاعتدال في جميع الأفعال والأعمال من دون تفريط أو إفراط.
3. يتوقّف حصول ملكة العدالة على معرفة أثر كلّ فعل وعمل - من حيث الكمية والكيفية - على النفس، ولكن التّعرّف على ميزان تأثير الأفعال على النفس ليس بمقدور البشر، وإنّ الله خالق الإنسان هو الذي يعلم بما هو كمال لنفس الإنسان، ومدى تأثير الأفعال والأعمال عليها. لذا يضع الله تعالى القوانين الكليّة والشرايع، كي يعلّم الإنسان طريق السلوك في هذا السير، كما أنّ إبلاغ القوانين والشرايع الإلهيّة تتم عبر الأنبياء، كي يصل الإنسان إلى ملكة العدالة وتهذيب النفس بالعمل بها. وعليه فإنّ حصول ملكة العدالة، وتحصيل تهذيب الأخلاق،
متوقّف على وجود الأنبياء وهدايتهم ودلالتهم
.وقد تبيّن ممّا مضى انّ السؤال عن منشأ الدين - الدين كظاهرة خارجية وواقعية متشكّلة من مجموعة عقائد وأحكام واخلاق - يلقى أجوبة متعدّدة بحسب النظرة الكونية المادية او الإلهية، فلو كانت النظرة الكونية لدى شخص مادية، يرى انّ منشأ الدين بشري ويلحظ العلل البشرية. أما لو كانت نظرته الكونية إلهية، يرى انّ منشأ الدين من الله، وانّه بمقتضى حكمته وعدله ورحمته، جعل تلك الحقائق تحت متناول الإنسان عن الطريق إبلاغ الوحي إلى الأنبياء، كي يصل إلى كماله الحقيقي على ضوئها.
قد يُبحث عن منشأ الدين ويراد منه علّة قبول الدين أو دواعي التديّن. وبعابرة أخرى، إنّ السؤال عن منشأ الدين سؤالٌ عن علل وأسباب اتّجاه الناس نحو الدين. هل يتّجه الإنسان نحو الدين بأسباب وعلل نفسيّة، أو بعلل وأسباب اجتماعية، أو أنّ علّة ذلك شيء آخر؟
هذا المعنى من «منشأ الدين» يختلف عن المعنى الأوّل؛ لأنّ التديّن غير أصل الدين. لذا فإنّ السّؤال عن التديّن سؤالٌ عن سبب تحقّق الدين عند الفرد أو المجتمع.
وجواب السّؤال عن سبب التديّن، منوطٌ بنوعيّة تلقّي التديّن، هل التديّن أمرٌ فرديٌّ كي نكون أمام مسألة نفسيّة فتُحال الإجابة إلى علماء النفس، أي يكون الحاجة إلى الدين حاجة فرديّة ليكون التديّن منشأ لازدهار آحاد المتدينين فردًا فردًا، أو أنّ التّديّن أمرٌ جمعيٌّ لنكون حينئذٍ أمام ظاهرة اجتماعيّة. هل الحاجة إلى الدين حاجة اجتماعيّة تضمن حياة الدين بعنوان
ركيزة اجتماعيّة، وتسبّب استمراره، أو أنّها حاجةٌ فرديّةٌ؟
بناء على هذا، لو افترضنا انّ الخوف من وجهة نظرٍ نفسيّةٍ، أو الفقر من وجهة نظر اجتماعيّة سبب التديّن، يتعلّق بحثنا حينئذٍ بالمعنى الثاني لمنشأ الدين لا المعنى الأوّل، أي إنّ الخوف أو الفقر مثلًا سبب اتجاه الفرد أو المجتمع نحو الدين، وعليه سنجيب هنا عن سؤال علل اتّجاه الناس نحو الدين.
لو فكّر الإنسان في مسائل الدين بشكلٍ أفقيٍّ، وبيّن جميع المسائل على أساس المادة والعلل المادية، وينطلق في فكره وإدراكه من منطلق الخيال والوهم، فهو إمّا غير متديّن رأسًا أو أنّ تديّنه قليل، لذا من الممكن زوال هكذا تديّن، ولكن إذا فكّر بشكلٍ عموديٍّ وبنظرةٍ إلهيّةٍ، وعرف أنّ حقيقة الدين من الله، وانطلق في إدراكه من العقل لاشتدّ تمسّكه بالدين وشوقه إليه.
يقول القرآن الكريم في تحليله عن المنحرفين عن الدين الإلهي: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾ [النّجْم: 23]، أي إنّهم يكتفون في المسائل العلميّة والعقديّة بالظنّ والتّخمين لا اليقين والبرهان، ويسيرون في مسائلهم العمليّة نحو أهواء نفوسهم.
إنّ ظاهرتي متابعة الظنّ في مقام الإدراك والنّظر، والسير في مسير الهوى في مقام العمل، ظاهرتان خطيرتان؛ لأنّ مبدأ الظنّ والخيال هو الشيطان أوّلًا، وثانيًا إنّ الظنّ لا يحصل من طريق واحدٍ فحسب، بل ربما نتج من طرقٍ متعدّدةٍ، يوقع الإنسان الظان في فخّه، كما أنّ الشيطان في مقام العمل - وبسبب تعدّد الأهواء وعدم وجود حدّ لمتطلّبات النفس - يستغلّ هذا الأمر ويسوق الإنسان إلى سيّء الأعمال. وإذا أراد الإنسان
التخلّص من هذين الظاهرتين، يلزم عليه متابعة اليقين والاستدلال في مباحث الدين، ولا يطلب سوى رضى الله في مقام التدين.
وعليه لا بدّ أن يكون العقل والفطرة علّة تمسّك الإنسان الرئيسيّة بالدين في مقام الاعتقاد والنّظر.
ولذا بُعث الأنبياء والرسل لازدهار كنوز عقول البشر، والمطالبة بأداء ميثاق الفطرة، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام :
«فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته... ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة».
وكذلك لا بد أن يكون رضى الله سبحانه سبب توجّه الإنسان نحو الدين؛ لأنّ الله مع الإنسان دائمًا وله إحاطة قيّوميّة به: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحَديد: 4] ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [قٓ: 16].
وبناء على هذا، لا بد أن يكون أهمّ عامل وسبب في التمسّك بالدين في مقام النّظر هو العقل والفطرة، وفي مقام العمل رضى الله. أمّا العوامل الأخرى، كالعوامل النّفسيّة والاقتصاديّة، إنّما هي عوامل فرعيّة، تُعدّ بمثابة العلل المُعدّة للتوجه نحو الدين وقبوله عند الإنسان، من دون أن يكون لها أيّ دور في سبب قبول الدين.
بعد ما بيّنا العلّة الرئيسيّة في التّوجّه نحو الدين، نشير هنا إلى العوامل الفرعيّة في ذلك:
إنّ عرض الدين بشكلٍ صحيحٍ لعطاشى الحقيقة في مقام النظر، يسوقهم نحو التمسّك بالدين، لذا يقول الله لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النّحل: 125]؛ إذ البشر لا يفكرون بمستوى واحد، فلبعضهم استعداد أعلى وللبعض الآخر استعداد متوسّط، لذا لا بد من التكلّم معهم بمقدار فهمهم ورشدهم العقلي، ومن هنا يأمر الله في هذه الآية بالتكلّم مع النخب ودعوتهم إلى الله بالحكمة والبرهان، ومع المتوسطين (في الإدراك) بالموعظة والنصيحة، ومع الذين لهم طبع جدلي ومخاصمات فكرية، بالجدل الأحسن.
قد لا ينتفع بالحكمة من ليس له قدرة درك البرهان المتقن، ولكن الأوحدي من المتفكرين أو المتوسطين، كما ينتفعون بالحكمة، ينتفعون في بعض الموارد من الموعظة والجدال الأحسن أيضًا.
إنّ عرض مسألة الألوهيّة بشكلٍ محبّبٍ وشيّقٍ، يُعدّ من الطرق المرغّبة لسَوْق المجتمع البشري نحو الدين. فإذا عرض المبلّغ الإسلامي مسألة الألوهيّة بالعلم والحكمة في مقام النّظر، وبالقسط والعدل في مقام الحقوق، وبالرأفة والرحمة في مقام العواطف، وأظهر الصفات الإلهيّة الجماليّة، تمهّدت أرضيّة تسّمك الإنسان بالله وبالدين. كما أنّ المتولّي لأمر التبليغ، لو بيّن بعض أسماء الله الحسنى المستنبطة من النّصوص المتقنة - الكتاب وسنّة أهل العصمة عليهمالسلام المعتبرة - ولو تزيّن هو بها أيضًا وابتعد عن الزلل وتطهّر عن الانحراف، لوصلت حينئذٍ جاذبيّة التّديّن في المجتمع إلى نصاب أعلى.
إنّ المسؤول والمتولّي لنشر الدين، لا بدّ أن يُدرك تعاليم الدين بشكلٍ جيّدٍ، وأن يعتقد بها ويعمل بها بشكلٍ صحيحٍ، كي يكون سببًا لسَوْق الناس
نحو الدين. لذا يقول الله لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم : ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عِمرَان: 159]، كما أنّ الله ينفي صفة العقل عمّن يأمر بالمعروف ولم يأتمر بأوامر الله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البَقَرَة: 44]، وهؤلاء هم الذين لعنوا في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام : «لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به».
يتّصف الله بالأسماء الحسنى، كما أنّ دينه يبتني على أساس المعرفة والعدل والمحبّة. وإنّ زعيم الدين الإلهي رسول الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم بُعث إلى العالمين رحمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبيَاء: 107]، وبهذه الرحمة يسوق المجتمع البشري نحو الحقائق.
قال أمير المؤمنين عليهالسلام في عهده للأشتر: «وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة واللطف بهم والمحبة لهم» . ولا يخفى وجود فوارق بين الرحمة العقليّة، والطيب العاطفي، والرحمة القلبية، فالرحمة العقلية لا تأبى إجراء الحدود الإلهيّة للعاصين واللّصوص، ولكن الرحمة القلبيّة التي تدور مدار العاطفة والأحاسيس تأبى ذلك، لذا ينهى الله تعالى عن الرأفة في غير محلّها: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النُّور: 2]، أي لا تصابون بالحياء والرأفة العاطفيّة في إجراء الحدود الإلهيّة على النساء والرجال السيئيين. إنّ من ينتسب إلى الزعماء - كالزعماء أنفسهم - عليه أن يراقب أعماله، كي يمهّدوا رغبة المجتمع للدين، لذا يقول الله تعالى لنساء النبي: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ [الأحزَاب: 32]، فمن كانت من نساء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صالحة وعاملة بأوامره، لها أجران؛ لأنهنّ لو اتّقين وعملن بشكلٍ صحيحٍ، كان
ذلك عملًا بالوظيفة الملقاة عليهنّ من جهة، وحفاظًا لحرمة النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من جهة ثانية. لذا لهن أجر مضاعف، كما لو اُبتلين بالذّنب كان عقابهنّ مضاعفًا أيضًا.
وبناء على هذا، لو اعتقد زعماء النظام الإسلامي والمتولّون لأمر تبليغ الدين ومن ينتسب إليهم؛ بأوامر الدين الأصيلة وعملوا بها، كان ذلك سببًا لترغيب المجتمع نحو الدين.
إنّ الدين بعد إذعانه بأصل الملكيّة الخاصة الهام؛ يقول: إنّ حقيقة المال يتعلّق بمجموع البشر. الأموال كوثر متدفّق تتعلّق بالبشر في الحاضر والبادي دائمًا، أعم من الحاضرين والغابرين، من دون أن تتعلّق بجماعة محدّدة كي لا يجعلوها سدًّا أمام انتفاع المحرومين: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ [الحَشر: 7]، فلو تحوّل المجتمع إلى أن يعيش البعض في الفقر الاقتصادي فالتّديّن فيها يكون صعبًا للغاية.
لو تعدّى الطغاة في زمن على حقوق الناس الثابتة، وحرموا الناس من حقوقهم في هكذا ظروف ظلمانيّة، لا بدّ أن يقوم الزعماء الإلهيّون ويتحمّلون العناء والتّعب لاستخلاص النّاس من الظّلم واستقرار العدل والقسط، فحينئذٍ يتّجه الناس نحو الدين، كما أنّ الحجازيين دخلوا في الدين بعد فتح مكة أفواجًا ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ [النّصر: 2].
ظهر الإسلام في ظروف غلبة التعدّي والسّلب والنّهب، وحاكميّة شعار «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقام وشكّل حكومة، فدخل النّاس في دين الإسلام أفواجًا بعد أَنْ رأوا أنّ كلام الله والدين الإلهي يهديهم إلى
المعارف العليا، كما يحامي عنهم في بسط العدل والحرية.
والخلاصة، إنّ أسباب التديّن - المعنى الثاني لمنشأ الدين - تنقسم إلى قسمين: أصلي وفرعي. فالعامل الأصليّ هو نموّ العقل وازدهار الفطرة، أمّا العوامل الفرعيّة للتوجه نحو الدين فهي كثيرة، وقد أشرنا إلى بعضها. والسرّ في أنّ أهمّ عاملٍ للتوجه نحو الدين هو النموّ العقلي وازدهار الفطرة، يكمن في أنّ الإسلام يحتوي على معارف عقلانيّة ونصائح وأحكام مقبولة قلبًا.
إنّ أسباب النّفور من الدين، من المسائل التي تطرح بعد بيان أسباب التوجّه نحو الدين، وللنفور من الدين أسبابٌ عدّة نشير إلى بعضها هنا.
المعرفة الصحيحة للكون، الإنسان والدين، تهيّء الظروف لتوجّه الإنسان نحو الدين، وفي المقابل عدم معرفة الكون، الإنسان والدين، تهيّء ظروف النفور من الدين؛ لأنّ من يحصر الكون في المادة ولم يعتقد بما وراءها، أو يعتقد بانقطاع الكون في البدء والختم، لم يعتقد بضرورة المبدأ والمعاد إطلاقًا، وبتبعه ينفي وجود طريق (الوحي والنبوة) للمبدأ والمعاد، لذا لا يتّجه نحو الدين.
وكذلك من لم يعرف الإنسان، ولم يقف على أبعاده الوجوديّة وحوائجه الواقعيّة، لم يرَ الدين ضروريًّا فحسب، بل ينفر منه، وأيضًا من عرف الإنسان، وجهل كيفيّة ارتباطه بالكون وبسائر بني البشر، لا يفهم الحاجة إلى الدين، فلا يميل إليه.
وأيضًا، لو اعتقد شخصٌ بأنّ الدين سحرٌ أو خرافاتٌ، أو أنّه يشتمل
(44)على أمورٍ غير عقلانيّةٍ، ولا يسعى لمعرفة حقيقة الدين، فمن الطبيعي أن ينفر من الدين ويُعرض عنه، كما أنّ الماركسيين الذين جعلوا الدين أفيون الشّعوب ومخدّرًا لهم، لم يبحثوا عن حقيقة الدين، بل أفتوا - بالنّظر إلى المتدينين الخاملين والجامدين - بأنّ الدين أفيون المجتمع. فهؤلاء لمّا رأوا المجتمع المتديّن خاملًا ومتحيّراً في الظاهر، ذهبوا إلى أنّ الدين هو سبب ذلك، والحال أنّ الدين متناغمٌ مع وجود الإنسان، وينظّم علاقة الإنسان بالعالم بشكلٍ جيّدٍ، ويهب للإنسان الحركة الحيويّة، كما هو عامل للنهوض.
العامل الثاني للنفور من الدين، تفسير بعض مسائله وقراءتها بشكلٍ خاطئٍ. وعلى سبيل المثال، فالبعض بعد اعتقادهم بكون الموت وذكر الموت مخدّرًا يقولون: إنّ ذكر الموت وزيارة القبور، يمنع الإنسان من العمل، والحال أنّ هذا التفسير خاطئٌ، بل إنّ هكذا أوامر من أحسن الطرق لتفعيل الإنسان؛ لأنّ الموت لا يعني الفناء، بل الموت هجرة وانتقال من عالم محدودٍ إلى عالمٍ أوسع. لذا يُعبّر عن الموت في النّصوص الدّينيّة بالتوفّي والوفاة، لا الفوت، والفوت يعني الفناء ولكن التوفّي يعني الاستيفاء الكامل.
فمن يفكر هكذا يُلزم بالسعي الصّحيح؛ لأنّ أوّل سؤال يلاقيه بعد الموت عن عمره فيما أفناه؟ فلا بدّ أن يجيب بجوابٍ إيجابيٍّ، ويقول: أفنيته في الأعمال المفيدة، كي ينتفع من نتائجه، وإلّا يبقى في التعب والعناء، أي إنّ الإنسان الحيّ يسعى ويكابد أوّلًا، وإنّ عمله نافعٌ للمجتمع ثانيًا، وينفذ أعماله النّافعة لرضى الله، بحيث يصونه حدوثًا وبقاءً من الرياء والسّمعة ثالثًا. فهكذا إنسان يذكر الموت واقعًا، ولكن الإنسان العاطل، أو
(45)الذي يعمل أعمالًا سيّئةً، أو من يعمل رياءً وسمعةً، فإنّه ناسيٌ للموت.
مع لحاظ هذا المعنى، يُفهم كلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الثّمين بشكلٍ جيّدٍ؛ حيث يرويه عنه أنس بن مالك قائلًا: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها».
الإنسان المسؤول يوم القيامة هو العاطل دون الفاعل، فالموت وذكر الموت عاملٌ للحركة والازدهار، وإن زعم البعض أنّه سبب التخدير.
وكذلك التّفاسير الخاطئة التي تُذكر للقضاء والقدر، الصبر، الزهد، انتظار الفرج وغيرها، قد تكون محملًا للجهلاء أو المغرضين للنفور من الدين، والحال أنّ الدين بجميع عناوينه، سببٌ لتنظيم حياة الإنسان الصّحيحة، وإيجاد الحركة والازدهار وتكامل الفرد والمجتمع.
فجميع ما ذكر، لا بدّ أن يُفسّر بحيث يتبيّن موقعها سواء في بعدها النّظري العقدي أو في بعدها العملي.
قد يُبحث عن منشأ الدين ويُراد منه السّؤال عن لزوم اتّجاه الإنسان نحو الدين والاستفادة من نتائجه ومعطياته؟ ما الذي يُلزم الإنسان ليتعرّف على الدين ويقبله؟ هل لا بد أن يُقبل عليه لحقّانيته؟ أو بدليل الآثار الإيجابيّة التي يتركها في حياة الإنسان، بحيث يلبّي حوائجه الفرديّة والجمعيّة، أو يلزم لحظ كلا الجانبين: الحقّانيّة والآثار الإيجابيّة؟ الطرح العميق لهذا السؤال، والجواب عنه ورد في كتاب انتظار البشر من الدين
.تُعدّ مسألة جوهر الدّين وصَدَفه، من مسائل فلسفة الدّين والدّراسات الدّينيّة التي تُبحث ضمن سلسلة مباحث علم الدين. الباحثون في الدين يسألون ما هو جوهر الدين وما هو صَدَفه؟ الأمر الرئيسي أنّ الصّدَفَ جاء للحفاظ على الجوهر، ولولا الصّدَف لتلِفَ اللّؤلؤ، وعند الاستفادة من اللؤلؤ لا بدّ من إلقاء الصّدف جانبًا؛ لأنّ قيمة الصّدَف بقيمة اللؤلؤ.
وهنا يُطرح السؤال: هل للدين جوهرٌ وصدفٌ، بحيث تكون قيمة الدين باعتبار جوهره، وأنّ فائدة صدفه هو بمقدار حفاظه للجوهر فقط، وإلّا لا بد من إلقائه جانبًا؟ وهنا لا بد من طرح مجموعة التّفاسير الواردة حول جوهر الدين وصدفه، كي يتبيّن جواب السؤال بشكلٍ جليٍّ.
إنّ المراد من الدين في «جوهر الدين وصدفه»: إما أن يكون التّديّن، أو يكون مجموعة قضايا عقديّة وأخلاقيّة واحكام تسبب في تكوين مكتب معين:
1. إذا كان المراد هو التديّن، يمكن القول بصحّة الكلام عن «جوهر الدين وصدفه» في نطاق أصل الدين وفروعه فقط. كما أنّ جوهر التّديّن في الإسلام هو المعرفة التوحيديّة، ومعرفة صفات الله الجماليّة والجلاليّة،
(47)والوحي والنبوة والمعاد، وخلوص النيّة، بحيث تكون منشأً للأعمال الصالحة. وإنّ الإنسان لو عمل من دون معرفة هذه الأصول، أو من دون نيّةٍ خالصةٍ وإلهيّةٍ وتوحيديّةٍ، أي من دون قصد التقرّب إلى الله، لكان عمله هذا عديم الفائدة ولم يترتب عليه أيّ أثر، لذا يقول القرآن: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البَيّنَة: 5].
وقد ورد التّأكيد في النّصوص الدّينيّة على معرفة الله، كما على أهميّة النّيّة الخالصة، وأنّ قيمة العمل بخلوص النيّة، كما قال علي بن أبي طالب عليهالسلام: «أول الدين معرفته» . وعن الإمام السجاد عليهالسلام: «لا عمل الّا بنيّة» . وعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: «إنّما الأعمال بالنيات، ولكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله وقع أجره على الله (عز وجل) ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلّا ما نوى» .
وبناء على هذا التفسير، لا بد من إتيان جميع الفروع على ضوء تلك الأصول، لا أن يُكتفى بتحصيل الأصول، وترك فروع الدين، كالصدف الذي يخلو من اللؤلؤ.
2. لو كان المراد من الدين، مجموع القضايا العقديّة والأخلاقيّة والأحكام العمليّة، فإنّه وإن كان جميع الدين جوهر من جهة ولا يوصف بالصدف - لذا لا يصح التعبير عن جوهر الدين وصدفه - ولكن يمكن جعل جوهر الدين أصلًا واحدًا هو التوحيد، بحيث تكون جميع المسائل العقدية والأخلاقية والأحكام العملية، تفصيل ذلك الأصل وترجع إليه، كما يقول العلامة الطباطبائي:
«(إنّ) معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهيّة، والأخلاق الكريمة الإنسانيّة، والأحكام الشرعيّة الراجعة إلى كلّيات العبادات والمعاملات والسياسات والولايات، ثم وصف عامة الخليقة كالعرش والكرسي واللوح والقلم والسماء والأرض والملائكة والجن والشياطين والنبات والحيوان والإنسان، ووصف بدء الخليقة وما ستعود إليه من الفناء والرجوع إلى الله سبحانه... تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل وتلك فروعه... وهو توحيده تعالى»
.وبناء على هذا، فإنّ جوهر الدين، وبعبارة أخرى محور معارف الدين ومركزها الأساسي، هو التّوحيد، أي إنّ الله واحدٌ، وعلى الإنسان السّعي لفهم هذه الوحدة، ولا يكتفي بفهم وحدة الله، بل يلزم أن يجد الوحدة المتشابكة في جميع الأشياء بحيث توجب الربط المتقابل بينها، بمعنى سريان توحيد الله في جميع المنظومة الكونيّة والمجتمع البشري وحياة الإنسان، وفي علاقة الإنسان بالطبيعة، وفي منظومته المعرفيّة وصنائعه، بحيث تعكس جميع أشكال هذا التوحيد وحكمة الله ومشيئته في عالم الطبيعة والوجود وحياة الإنسان، المشيئة التي اندرجت بأجلى وجه في القانون الإلهي أو الشريعة، كما يلزم تجلّيها وانعكاسها أيضًا في كلّ وجه أصيلٍ من وجوه حياة المسلمين.
وبناء على هذا، فالحياة الإسلاميّة تعني السّلوك طبقًا للمشيئة التشريعيّة الإلهيّة، والسّلوك بالفضائل التي تطابق الأصول الأخلاقيّة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبويّة صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، وكذلك العيش بمعيّة معرفة وحدانيّة الله المتجلّية في مخلوقاته، وأيضًا في الإنسان والمجتمع البشري.
وليعلم أنّ الدين في مباحث الدّراسات الدّينيّة لا يراد منه التّديّن، بل يأتي بمعنى مجموع القضايا العقديّة والأخلاقيّة والأحكام العمليّة، وكما أشرنا إجمالًا لا يوجد شيءٌ في الدين كالصدف يقبل الترك والرّمي به.
يمتاز الدين بغاياتٍ طوليّةٍ متعدّدة، تنتهي إلى هدف أعلى وغاية قصوى، وجوهر الدين هو ذلك الهدف الأعلى والغاية القصوى، أما صَدَف الدين فهو الأهداف الوسطى للدين.
يرى دارسو الدين نافذو البصيرة، أنّ الهدف الرئيسيّ من الدين والمقصد الأساسيّ للأحكام ومناهج التربية، هو التوحيد، وأنّ سائر الأهداف تُعدّ بمثابة المقدّمات لذلك الهدف العالي، بحيث يتمكّن الفرد والمجتمع البشريّ من الوصول إلى قمّة ذلك الهدف العالي بعد قطع الأهداف الوسطى.
يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في مقام كيفيّة اكتساب الفضائل الأخلاقيّة:
«إنّ الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين؛ المسلك الأوّل: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيويّة... المسلك الثاني: الغايات الأخرويّة (بمعنى أنّ الإنسان إذا أراد دخول الجنّة والتّنعّم بنعيمها والبُعد من جهنّم ونقماتها، عليه أن يتحلّى بالفضائل الأخلاقيّة)، وها هنا مسلك ثالث مخصوصٌ بالقرآن الكريم، لا يوجد في شيء ممّا نقل إلينا من الكتب السّماويّة وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، وهو تربية الإنسان وصفًا وعلمًا باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدّفع (لأنّ هذا المسلك يبتني على الحبّ الإلهي، وتقديم مشيئة الله على مشيئة نفسه، فله أثار ونتائج
(50)يفقدها المسلكان الآخران)».
وبناء على هذا، فالهدف العالي للدين هو التوحيد، أو الوصول إلى مقام الفناء في الله عند أهل المعرفة، وتعدُّ الأهداف الأخرى، كالحياة الأخرويّة، أو الإهتمام بالحياة الدنيويّة، أو بناء مجتمع نموذجيّ، أو تأمين العدالة الاجتماعيّة، كلّها من الأهداف الوسطى للدين، تدور قيمتها مدار علقتها بغاية الدين النهائيّة أعني التوحيد. ولعلّ لهذا السبب وصف في المتون الإسلاميّة المأثورة، من يعبد الله لدخول الجنّة ونيل نعيمها بالتّاجر، ومن عبده خوفًا من النار وبُعدًا من العذاب بالعبيد، ومن عبد الله حبًّا وتقديرًا له بالأحرار
؛ وذلك أنّ أهدافهم متعدّدة، فتختلف عبادتهم.هناك من يطرح عنوان ذاتيات الدين وعرضياته عند تبيين مسألة جوهر الدين وصدفه. ويقولون إنّ التمايز بين أوجه الدين الذاتيّة والعرضيّة، يوجب الموفقيّة المثلى في العثور على جوهر الدين. إنّهم يعتقدون أنّ ذاتيات الدين وجوهره وأموره الماهويّة، هي التّعاليم التي أبلغها النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في كل مكان وزمان.
ويقولون أيضًا إنّ ذاتيات الدين هي مقاصد الشّارع، وهي عبارة عن:
1. ليس الإنسان هو الله بل إنّه عبد (الاعتقاد).
2. السعادة الأخرويّة هي أهم غاية في حياة الإنسان، كما هي غاية الأخلاق الدينيّة (الأخلاق).
3. إنّ حفظ الدين، العقل، النفس، والعرض أهم مقاصد الشارع في الحياة
الدنيويّة (الفقه)، وإنّ قوانين الإسلام الاجتماعيّة جاءت لحفظ هذه المقاصد الفقهيّة
.وهؤلاء أنفسهم يقولون ببيان آخر: إنّ سعادة الآخرة هي الغاية القصوى للدين، وإنّ الحياة الدنيويّة تابعةٌ للحياة الأخرويّة، ويقولون إنّ الدين في الأساس عقيدة جاءت للآخرة والدنيا تبع لها
، وكما يقولون أيضًا إنّ الإسلام العقديّ هو ذاتيات الدين عينها، والإسلام التّاريخيّ هو عرضيات الدين عينها .ويرد عليه أوّلًا بأنّ كشف جوهر الدين وصدفه عن طريق البحث في الذاتيات والعرضيات محلّ إشكالٍ، وثانيًا على فرض الصّحّة، فإنّ في هذا الطريق إشكالات عدّة، نشير إلى بعضها:
1. في عمليّة تفكيك ذاتيات الدين وعرضياته، لا بد لنا من معيار، وهذا المعيار إمّا أن يكون من خارج نطاق الدين أو من داخله. ففي الحالة الأولى لا بد أن يكون المعيار مستندًا إلى فرضيات (والخلفيات المعرفية) للمفكِّك، وحينئذٍ يتمكّن كلّ شخص من تقسيم بعض الأمور إلى ذاتيات أو عرضيات الدين بحسب ذوقه، كما ذهب إلى هذا صاحب هذه النظريات (التي ذكرناها)؛ حيث جعل الفقه في مكان من عرضيات الدين، وجعله في مكان آخر من ذاتياته
. وأمّا في الحالة الثانية، فلا يوجد دين يقبل هذا التفكيك، بل إنّ جميع الأديان تعتقد بأنّ جميع ما تشتمل عليه يُعدّ من الذاتيات.2. هناك خلطٌ في هذه النّظريّة بين ذاتي الدين والمقصود بالذات من الدين، وبين العرضي في الدين والمقصود بالعرض فيه. بمعنى أنّ تفسير غاية الدين الأساسيّة بأن (الإنسان عبد الله وليس هو الله) أو (كيف يمكن تأمين السعادة الأخرويّة) هي المقصود بالذات للدين وليست ذاتيات الدين؛ لأنّ المقصود بالذات للدين هو أن يعتقد الإنسان بأنّه عبد الله، وينال سعادة الآخرة عن طريق العبوديّة، كما أنّ المقصود بالعرض من الدين إيصال التّعاليم إلى الإنسان لينظّم حياته الأخرويّة على ضوئها.
3. وردت في النّظريّة المذكورة بعض الأمور ضمن عرضيات الدين، لكنّها في الواقع خارج نطاق الدين، بل متضادّة معه؛ لأنّ أمورًا كالجعل والوضع والبدعة والتحريف بعيدة عن الدين وليست من عرضيّاته، بل إنّ هذه الأمور أُقحمت في الدين من قبل الجهلاء والمغرضين مدى التّاريخ، وأخرجت الدين من خلوصه.
هناك من يستعير تعابير أهل المعرفة والأدبيات العرفانيّة في تبيين المراد من جوهر الدين وصدفه، فيجعلون الجوهر لبّ الدين وحقيقته، والصدف قشر الدين والشريعة والطريقة. فتعبير اللب والقشر يوهم برمي القشر بعد الوصول إلى اللب، وبترك سلّم الشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة.
إنّ أهل النّظر يرفضون هذا الوهم؛ لأنّ القشر وإن كان قليل الفائدة ولم يكن مقوِّمًا ولا معرِّفًا للّب، غير أنّه حارس اللّبّ والحافظ له. لذا يقولون: إنّ انزياح القشر يوجب زوال التديّن، ولا بد من عدم إغفال القشر والشريعة في جنب الاهتمام بالحقيقة واللب، إلّا إذا هجر الإنسان الحياة الدنيويّة ورحل إلى الآخرة، حيث إنّها عالم ظهور الحقيقة وليست عالم التّكليف والشريعة.
(53)يقول مولوي في مقدّمة الدفتر الخامس: «الشريعة كالشمعة تنير الطريق، ومن دون تحصيل الشّمعة لا يمكن السير، وإذا سلكت الطريق كان سلوكك هذا هو الطريقة، وإذا وصلت إلى المقصود فهو الحقيقة، وسبب ما يقال «لو ظهرت الحقائق بطلت الشرائع» هو أنّ النحاس إذا صار ذهبًا أو إذا كان في الأصل ذهبًا، فإنّه لا يحتاج إلى علم الكيمياء - وهو الشريعة - كما لا يحتاج إلى أن يلامس الكيمياء - وهو الطريقة - كما قالوا: «طلب الدليل بعد الوصول إلى المدلول قبيح، وترك الدليل قبل الوصول إلى المدلول مذموم».
والحال أنّ الشريعة تعدّ بمثابة تعلّم الكيمياء من الأستاذ أو من الكتاب، وأنّ الطريقة استعمال الأدوية وتمرير الكيمياء على النحاس، والحقيقة أن يصير النحاس ذهبًا.
إنّ الكيميائيين فرحون بعلم الكيمياء حيث يعرفونه، والعاملون فرحون بعملهم بالكيمياء حيث يعرفون هذه الأعمال، والواصلون إلى الحقيقة فرحون بالحقيقة حيث أصبحوا ذهبًا وخلصوا من علم الكيمياء والعمل به. إذا مات الإنسان انقطعت الشريعة والطريقة، وبقيت الحقيقة. وإذا نال الحقيقة يصيح: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴿٢٦﴾ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يٓس: 26-27]، وإذا لم ينلها يصيح أيضًا: ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴿٢٦﴾ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴿٢٧﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ ﴿٢٨﴾ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحَاقَّة: 26-29].
الشريعة علمٌ، والطريقة عملٌ، والحقيقة الوصول إلى الله ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
جعل القرآن الكريم العبادة سلّم اليقين، وقال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن
مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴿٩٨﴾ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحِجر: 98-99]، ولبيان معنى الآية سنشير إلى بعض النقاط:
1. إنّ اليقين في هذه الآية هو اليقين المعرفيّ، وتفسيره في الرّوايات باليقين بالموت من باب الجري والتّطبيق لا التفسير المفهومي لليقين. فعند الموت تزاح حجب عالم الطبيعة الظلمانيّة، وتنظر العين البرزخيّة النافذة إلى جمال الحقائق، لذا تزول جميع الشبهات ويحلّ محلّها اليقين.
2. إنّ كلمة «حتى» لم تكن للغاية كي يقال إنّ الوصول إلى اليقين هو غاية العبادة، فاعبد حتى تصل إلى اليقين، وبعد الوصول إلى اليقين يمكنك ترك الدين. كلا، بل المراد أنّ اليقين يُعدّ من جملة منافع العبادة ولا يتيسّر الوصول إلى اليقين عن غير طريق العبادة، فلو قال الدليل: اصعد السلّم كي تصل يدك إلى الثمار في أعلى الشجرة، فلم يكن معنى كلامه ترك السلّم عند الوصول إلى أعلى الشجرة؛ لانّ ترك السلّم يساوي السقوط والحرمان القطعي.
3. فالآية المذكورة تنبّه أنّ اليقين مستقرّ على سلّم العبودية، والكف عن أدوات الصعود توجب السقوط في وادي الشك والحيرة والجحود والإنكار. وعليه فلا يمكن تفكيك القشر من اللّب، والشريعة والطريقة من الحقيقة.
بالإمكان اقتباس معنى لبّ الدين وقشره بعد تفسيره الصّحيح من القرآن، من وجهة نظر كون لبّ الدين هو النور، وقشره المصباح: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾ [النُّور: 35].
وهذا التمثيل وإن كان يبيّن اللب والقشر، أي كونه كالمصباح الذي يتم تنظيم لهبه من خلال الزجاجة، والمصباح موضوع في وعائه كي يُصان من الآفات، لكنّ هذا التمثيل يقرّب الفكرة من جهة، ويبعّدها من جهة أخرى؛ لأنّ الدين جميعه نورٌ، لا أنّ بعض أحكامه وأخلاقياته فاقدة للنور كالزجاجة.
وبناء على هذا تم التّعبير عن الشريعة بالقشر؛ لأنّها كالقشر تحافظ على اللّب، كما أنّ المصباح ووعاءه يحافظان على النّور، ولو انكسر المصباح والوعاء والزجاجة، لا يحصل الإنسان على النور، فإذا تُركت الشّريعة، لا يمكن الاستفادة من أصل الدين والتوحيد.
قال تعالى في بيان النور وأنّ جميع الدين جوهر: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المَائدة: 15]، فجميع القرآن نور وجوهر، لا أنّ بعضه كالصدف لا نور له ويمكن طرحه، بل إنّ طريق الوصول إلى الجوهر واللّب، هو هذه الجواهر الفرعيّة.
إنّ الدين جميعه جوهرٌ ونورٌ، وبما أنّ للنور درجاتٍ ومراتبَ في القوّة والضّعف - كما أنّ للدين أفرادًا ومراتبَ ودرجاتٍ قويّةً وضعيفةً - يكون لنفس الدين أيضًا درجات بين القوّة والضّعف، فأصول الدين تعدّ كالنور القويّ، وفروعه كالنور الضّعيف. فلو جعلنا أصول الدين بمثابة جوهر الدين وفروعه بمثابة الصدف، لا بد أن نعلم بأنّ أصول الدين العقديّة هي سبب ظهور فروع الدين، وأنّ فروع الدين تمهّد لحفظ أصول الدين وتقويتها. لذا من اعتقد بالله ويوم القيامة، كان أهلَ الصلاة والعبادة والطهارة، ويجتنب الذّنوب، ونفس هذه الأعمال الدينيّة - أي تجنّب المحارم وطاعة الذات الإلهيّة المقدّسة - تسبّب إزدهار أصول الدين، بحيث إنّ هذه الأعمال ترسّخ في الإنسان النّظرة التّوحيديّة وتقوّيها.
(56)يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [البَقَرَة: 265]، أي إنّ إنفاق الأموال للتقرّب إلى الله، بل أيّ عمل صالح آخر يوجب تثبيت العقائد، ومن لم تكن له عقيدة راسخة يكون متزلزلًا في مقام العمل أيضًا، ويمتنع بأدنى تبرير عن أداء وظائفه الفرديّة والاجتماعيّة.
وبناء على هذا، فإنّ الأعمال الصالحة، الأخلاق وفروع الدين، تكون سببًا لتثبيت العقيدة أي أصول الدين، وكما يلزم سقي الشتلة المزروعة كي تثبت، يلزم تثبيت شتلة الاعتقاد بالله والقيامة من خلال سقيها بماء الأخلاق والعمل الصالح وأداء العبادات.
هناك من يحصر جوهر الدين بالعرفان، ويفصل عنه الأخلاقيات والجزميات والعواطف
. ويحاول سوق الإنسان نحو العرفان، ولكن يشتمل العرفان على قسمين: نظري وعملي، والإنسان للوصول إلى ذلك النور القوي بحاجة إلى كليهما؛ لأنّ النّظر والعمل كجناحي الطائر حيث لا يتمكّن من الطيران من دون الآخر.والحاصل أنّ التّعبير عن محتوى الدين بالجوهر والصّدف، بحيث تعطى القيمة للجوهر وتنفى عن الصّدف، فهذا التّعبير غير صحيح؛ لأنّ جميع محتوى الدين سواء فيه الأصول العقدية، الصفات النفسانية والأخلاق، الفقه والحقوق، الآداب والسنن، كلها ذات قيمة، وكانت ذات مراتب ودرجات من حيث الكيفيّة، فبعضها قويّ وبعضها ضعيف، ولهذه المراتب الضّعيفة والقويّة تأثيرٌ وتأثّرٌ متقابل. بمعنى أنّ أصول الدين تؤثّر في تجلّي الأعمال وفروع الدين، والأعمال الدينيّة توجب إزدهار الأصول العقديّة وتثبيتها.
إنّ جوهر الدين واحدٌ لجميع الأقوام والملل؛ أوّلًا: بسبب أنّ أيّ دين لم يُقبل لدى الله سوى الإسلام، وثانيًا: إنّ حقيقة الإنسان المخلوق من قبل الله واحدةٌ أيضًا ولا تتغيّر، وثالثًا: إنّ الله هو المسؤول عن تنمية هذه الحقيقة، ورابعًا: لا يتطرق إلى الله أبدًا الجهل والنسيان والسهو، بل يعلم بجميع الحقائق من الأزل إلى الأبد. وعليه ليس لله دينان وأمران، كما أنّ القرآن يشير إلى هذه الحقيقة على نحوٍ إثباتيٍّ وكذلك سلبيّ، ويقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عِمرَان: 19]؛ ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عِمرَان: 85].
وبناء على هذا، فالتّعبير عن كلمة الدين بصيغة الجمع (أديان) تكون باعتبار تكامل الدين في مقام التنزّل، فمظاهر الدين هي التي تكتمل، لا أن يكون الدين ناقصًا في زمن ثمّ تمّ تكميله ووصل إلى مرتبته الأكمل والأتم والأعلى. أي إنّ حقيقة الدين واحدةٌ، فتارة تظهر مراحله النازلة وتارة تنزل مراحله الوسطى وأخرى تتجلّى مراحله العليا، وتختم بهذه الجملة النورانيّة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المَائدة: 3].
كما أنّ مقتضيات العصر توجب تغيير فروع الدين، من دون المساس بأصول الدين والكليات. وبعبارة أخرى، إنّ الدين واحدٌ، ثابتٌ ودائميٌّ. أمّا الشرائع والمناهج، فمتعدّدةٌ ومتغيّرةٌ وقد تكون مؤقّتةً، كحرمة صيد السمك يوم السبت لليهود ونسخها في الإسلام.
كانت المباحث اللغويّة تُطرح فيما مضى في مختلف العلوم الإسلاميّة، كالأدب وأصول الفقه، والتّفسير، وعلوم القرآن، والكلام، و...، ولكن بعد ما طرحت بعض المسائل في القرون الحديثة في الغرب، دخلت هذه المباحث في مرحلةٍ جديدةٍ.
وأهمّ هذه المسائل هي:
1. مسألة تعارض العلم والدين وحلّ التّعارض عن طريق التّفكيك بين لغة العلم ولغة الدين.
2. وجود التّهافت في مصادر الدين النّقليّة والاتّجاه نحو التّأويليّة.
3. ظهور مكاتب فلسفيّة في مصادر جديدة، كالوضعيّة المنطقيّة، وطرح مسائل معنى القضايا في هذا المكتب، وظهور فلسفة التّحليل اللغويّة.
نُشير في هذا الفصل في البداية إلى خصائص لغة الدين بشكلٍ عام، ثم نعرّج على لغة القرآن وخصائصها، وفي الختام نجيب على بعض الأسئلة في هذا المضمار.
إنّ لغة الدين متناغمةٌ مع باقي اللغات ومفهومة لدى جميع الناس،
(59)وليس في لغة الدين رمزيّة أو غموض كي لا يفهمها أحد؛ لأنّ الدين جاء لهداية عامة الناس، وما كان لهداية عامة الناس، لا بد أن يبيّن المعارف والحقائق بحيث يفهمها ويصدّقها الجميع، ويذعن بأفضليتها بالقياس إلى سائر الأفكار والآراء. فلو كانت لغة الدين رمزيّةً وغامضةً، لم يتحقّق الهدف الأعلى في الهداية والانتخاب والتّرجيح.
ونظرًا للزوم مفهوميّة لغة الدين للجميع، بعث الأنبياء بلسان قومهم أوّلًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4]، وثانيًا: فإنّ الأنبياء يحاججون بلسان الناس، ويجيبون على أسئلتهم، كما أنّ الناس بعد سماع تلك الحجج إما يقبلونها أو يرفضونها، وثالثًا: وصفت تعاليم الأنبياء بالبيّنات، وهي بمعنى الحقائق البيّنة والواضحة، فلو كان المراد من البيّنات المعاجز، فهي ذات لسان واضح وناطق، وإذا كان المراد الكتب السّماويّة فدلالة متونها واضحة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحَديد: 25].
إنّ الكتب السماويّة بحاجة إلى تفسير، والأنبياء أنفسهم قاموا بتفسير الكتب الإلهيّة، وبيان أسرار الوحي للناس، فمعارف هذه الكتب واضحة؛ لأنّ الآيات النّظريّة فيها تفسّر وتشرح على ضوء الآيات البيّنة والواضحة، ناهيك عن أنّ الأصول البديهيّة والعقليّة الأوّليّة، تكون أساس المعارف دائمًا.
لقد أرسل الله تعالى القرآن - كسائر الكتب السماويّة - لهداية الإنسان: ﴿أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [البَقَرَة: 185]، لذا فلسان القرآن واضح للجميع، نعم بما أنّ البعثة كانت في أرض العرب وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عربيًّا، نزل القرآن باللغة العربيّة، ولكن بالدليل نفسه الذي مرّ فإنّ القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ
مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشُّعَرَاء: 193-195]، والعربي المبين هو العربي الواضح بنفسه والمُظهر لغيره من الأمور.
ولكن، بما أنّ نطاق هداية القرآن لجميع الناس في كلّ زمان ومكان، فلغته عالميّة، أي إنّ تعاليمه عالميّةٌ وقابلةٌ للفهم في جميع الأعصار والأمصار. ولم يكن لسان القرآن من باب اللغة والأدب اللفظي؛ لأنّ معارف القرآن ظهرت للبشريّة بقالب لغة العرب، ومن لا يعرف اللغة العربية لم يفقه القرآن قبل تعلّمه للّغة العربيّة.
المراد من لغة القرآن وكونها للجميع، هو التكلّم بالبناء على ثقافة الناس المشتركة؛ لأنّ الناس وإن اختلفوا في اللغة والأدبيات، وكما يختلفون في الثقافة القوميّة والإقليميّة غير أنّهم يشتركون في الثقافة الإنسانيّة، وهي ثقافة الفطرة الثّابتة والمستقرّة، والقرآن يخاطب الناس من خلال هذه الثقافة المشتركة.
إنّ القرآن يوجّه خطابه الرئيسيّ لفطرة الإنسان، كما أنّ رسالته الرئيسة ازدهار هذه الفطرة، لذا فإنّ لسان القرآن واضحٌ للجميع، وفهمه متيسّرٌ للبشر جميعًا.
وبما أنّ لسان القرآن هو اللسان المشترك بين جميع الناس في جميع الأعصار والأمصار ولسان عالمي، لم يشترط في الاستفادة من معارف القرآن، الحصول على ثقافةٍ خاصّةٍ كي لا تتيسّر الأسرار القرآنيّة بدونها، ولا حضارة خاصّة تمنع من يعتنقها من نيل لطائف القرآن.
إنّ كونيّة لغة القرآن الكريم واشتراك ثقافته، تتجلّى في صورة الاجتماع الشيّق بين سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وأويس القرني، وعمار، وأبي ذر الغفاري، في جوار الرسول العالمي محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؛ حيث كان شعاره: «أرسلت إلى الأبيض والأسود
والأحمر»
؛ وذلك أنّ كثرة الصور أمام الوحي والرسالة التي هي الظهور التام لوحدة الباري تعالى، محكومة بوحدة السيرة؛ لأنّ تعدّد اللغة، والقوميّة والإقليم والعادات والآداب وسائر العوامل الخارجيّة، مقهورة بطيب السنة واتّحاد الفطرة الداخليّة.لقد تمّ بيان عموميّة فهم القرآن، وإمكان فهم معارفه للجميع في آيات عدّة، من قبيل:
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المَائدة: 15].
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ [النِّسَاء: 174].
3. ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التّغَابُن: 8].
4. ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعرَاف: 157].
بيان ذلك:
تمّ التّعبير عن القرآن في هذه الآيات بالنور، الكتاب المبين، البرهان، والنور وإن كان ذا درجاتٍ ومراتبَ مختلفة، وبعض العيون لا تطيق النّظر إلى درجاته الشّديدة، ولكن لا يمكن أن يدّعي أحدٌ الحجز عن مشاهدة أصل النور أو مراحله الغامقة.
إنّ الله الذي هو نور السماوات والأرض: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النُّور: 35]، خلق لهداية الناس نورًا خاصًّا، وهو متنوّر بنفسه بحيث لا يوجد فيه أي إبهامٍ أو ظلمةٍ ولا حاجة إلى نور آخر لمشاهدته، كما أنّه منوّر حياة الناس في مختلف الأنحاء العقديّة والخلقيّة والأعمال. فالنّور ظاهر بذاته ومُظهر لغيره وغنيّ عن الغير؛ لأنّ جميع الأشياء تلحظ على ضوئه، وهو لا يلحظ بشيء آخر غير وجوده. والقرآن الكريم نور، بمعنى أنّه لا يشتمل على مطالب غامضة ومظلمة في حدوده، كما أنّه لا يوجد فيه أيّ غموض وإبهام وظلمة في مقام تبيين حقائق الكون وترسيم صراط سعادة الناس، ولا يحتاج إلى غيره.
5. ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النّحل: 89]، ولذا فإنّه بيّنٌ وواضحٌ وغنيٌّ في تبيين تعاليمه حتمًا من دون أن يكون مبهمًا ومجملًا ومحتاجًا إلى تبيين؛ لأنّ الكتاب المبهم غير قادرٍ على حلّ المعاني وتفسير المطالب، كما لم يتمكّن من تبيين المعارف التي تُوجب السعادة. لذا فإنّ القرآن الكريم «بيّن» بخصوص حدوده الداخلية، و«مبيّن» بخصوص حدوده الخارجيّة.
6. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محَمَّد: 24]، فالدعوة وترغيب جميع الناس إلى التّدبّر في القرآن الكريم والتّوبيخ على عدم التّدبر فيه، شاهد صدقٍ على كونيّة لغة القرآن، وفهم معارفه لدى العموم؛ لأنّ القرآن لو تكلّم على ضوء ثقافةٍ خاصّةٍ لبعض الناس، لكانت دعوة جميع الناس للتدبر فيه لغوًا.
7. ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسرَاء: 88].
وليعلم أنّ تحدّي القرآن الكريم هذا، كما أنّه عالميٌّ - وهو مفاد الآية الكريمة - فهو خالد أيضًا. ومن لوازم كونيّة تحدّي القرآن الكريم،
إمكان فهمه للعموم؛ لأنّ هذا التحدّي لم يقتصر على محور اللغة، والأدبيات والفصاحة والبلاغة كي يكون مخاطبًا للعرب أو من يعرف أدبيات العرب، بل يشتمل على محتواه وثقافته الخاصّة.
واعتراف جميع العالم بالعجز عن الإتيان بمثله، يكون نافعًا حينما يفهم الجميع محتوى القرآن، وإلّا فالدعوة بالإتيان بمثله لغو وخلاف للحكمة لمن لا يفهم لغة القرآن الخاصّة.
1. إنّ تكلّم القرآن الكريم بلغة فطرة الإنسان وعموميّة فهمه، لم يكن بمعنى استفادة الجميع من هذا الكتاب الإلهي على نحو سواء. فإنّ للمعارف القرآنيّة مراتب كثيرةً، ولكلّ مجموعة حظّها من تلك المرحلة:
«كتاب الله عزَّ وجلَّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء».
فكلّ واحد ينهل من القرآن بمقدار استعداده وازدهار فطرته الأصليّة، إلى أن ينتهي إلى المقام المكنون، المقام الذي لا يرِده سوى النّبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام.
2. القرآن الكريم وإن كان كتابًا عالميًّا وخالدًا، ولم يختص بعصرٍ ما أو فئة خاصّة أو منطقةٍ ما، غير أنّ توفيق الاستفادة منه ربما لا يحصل لجميع الناس.
الذنوب والمعاصي، الإلحاد وتقليد الآباء الباطل، تعد قفلاً لقلوب البشر تمنعهم من التدبّر في معارف القرآن وأسراره: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ
علَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محَمَّد: 24]؛ إذ معارف القرآن لا تنفذ في القلوب المغلقة، أما الذين حافظوا على فطرتهم؛ سواء أكانوا كصهيب من الروم، أو سلمان من إيران، أو بلال من الحبشة، أو عمار وأبي ذر من الحجاز، فكلّهم في الاستفادة من هذا الكتاب الإلهي سيّان؛ لأنّ القرآن الكريم لا يختص بإقليم أو قوميّة خاصّة، بل هو شفاء أمراض الروح وسبب الهداية والرحمة لجميع الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يُونس: 57].
والحاصل، أنّ هداية القرآن عامّة بالأصالة، والآيات التالية: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البَقَرَة: 2]، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النَّازعَات: 45]، وقوله: ﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يٓس: 70]، لم تقصد اختصاص دعوة القرآن بالمتّقين أو الخاشين أو أصحاب القلوب الحيّة، بل إنّها ناظرةٌ إلى استفادتهم الخاصّة من القرآن.
وبناء على هذا، فإنّ القرآن لهداية الجميع، غير أنّ المتّقين وأصحاب القلوب الحيّة في وجل منه. ولذا فإنّ القرآن يتكلّم على السواء بخصوص إنذار الخاشين: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النَّازعَات: 45]، وإنذار المعادين: ﴿وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾ [مَريَم: 97]، وبهذه الطريقة يشير إلى كونيّة أصل الإنذار؛ لانّه نزل لإنذار العالمين: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفُرقان: 1].
ولكنّ الذين يستفيدون من هذا الإنذار هم أصحاب القلوب الحيّة، وأمّا أصحاب اللّد واللجاج الذين لا يتّعظون به ينالون سوء العاقبة والوعيد الإلهي.
ومن الأسباب اللّازمة للاستفادة من القرآن، الفطرة الطاهرة من ظُلَمِ المعاصي، حتى إنّ المفكّر المادي الذي لم يدنّس فطرته التّوحيديّة
بالذنوب، يمكنه الاستفادة من هداية القرآن، ولكن إذا أطفأ نور فطرته بالعناد الإلحادي لم ينل فوائد القرآن؛ لأنّ الكافر الكنود الذي يجعل القرآن أسطورة لم يتأمّل فيه.
3. بما أنّ للقرآن رسالةً خاصّةً في تفهيم ثقافة الفطرة، لا يستقيم معه أيّ حكم إفراطيّ أو تفريطيّ، فالبعض جعل القرآن أبكمًا ومن دون لسان؛ لحصر الحجيّة في الرّوايات والابتعاد عن القرآن، بحيث لم يكن عندهم إلّا ألغازًا غامضة وغير مفهومة، والبعض الآخر جعلوا لغته رمزيّةً محضةً خاصّة بالمعارف الباطنيّة، بحيث لا ينالها سوى الأوحدي من الناس، وبعضٌ آخر ذهب إلى الابتذال، وزعم كفاية معرفة اللغة العربيّة لفهم القرآن، ونيل معانيه لكلّ إنسانٍ عاديٍّ من دون مساعدة أستاذ أو دليل، لذا ينكرون الحاجة إلى علم التّفسير، نعم إنّ هذه الأوهام المنسوجة جميعها منسوخةٌ (وغير صحيحة).
4. إنّ عموميّة فهم القرآن، وسهولة درك معارفه للجميع، لم يكن بمعنى حق التدبّر في مفاهيمه واستنباط تعاليمه والاستناد إلى نتائج هذا الاستنباط، ولو مع الجهل بالقواعد العربيّة أو العلوم الأساسيّة الأخرى التي لها مدخليّة في فهم القرآن، بل يحقّ التّدبّر في مفاهيمه والاستناد إلى نتائجها والاحتجاج بها لمن يعرف القواعد العربيّة.
إنّ الله سبحانه يحصر رسالة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم في تلاوة آيات الله على الناس، وتعليمهم الكتاب والحكمة وتزكية نفوسهم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجُمُعَة: 2]، والجامع لهذه الرسالات هو الدّعوة إلى الله، الدعوة التي تتصدّر برامج جميع أنبياء الله.
وقد تمّ تبيين طرق الدّعوة إلى الله في القرآن الكريم هكذا: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النّحل: 125] . إنّ الله تعالى الذي علّم رسوله الطّرق المختلفة للدعوة، قد استخدم هو نفسه هذه الطرق في تبيين معارف القرآن وتفهيمها.
والسرّ في استخدام الطرق المختلفة في دعوة الناس وتعليمهم، يعود إلى اختلاف درجات ذكاء الإنسان وفهمه، فالجميع وإن اشترك في الفطرة، ولكن بحسب ما ورد في بعض الروايات، فإنّ «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»
. بحيث إنّ بعض من يخاطبه القرآن من البسطاء، والبعض الآخر من الحكماء المتوغّلين في المعارف. لذا، يلزم لكتاب الله العالمي أن يبيّن المعارف الفطريّة بطرقٍ مختلفةٍ وفي مراحلَ متنوّعةٍ، كي لا يستغني عنه الحكيم المتوغّل بمبرّر أنّ معارف الوحي سطحيّة، ولا يحرم نفسه البسيط المقلّد بمبرّر أنّ معارفه مغلقة.وبناء على هذا، فالقرآن الكريم لم يكتفِ بإراءة معارفة عن طريق الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، بل بيّن كثيرًا من معارفه بصيغة الأمثال، بحيث تنزّلت بطريقة التمثيل كي تكون تعليمًا للمبتدئين، وتأييدًا للمحقّقين العاقلين، ليكون فهمها ميسورًا للجميع بالمآل.
إنّ طريقة القرآن في الدّعوة والتّعليم، الجامعة للحكمة والموعظة والجدال الأحسن من جهة، والتّمثيل والتّشبيه ونقل القصص من جهة اُخرى، لم ترد في أيٍّ من كتب العلوم العقليّة والنّقليّة؛ لأنّ مؤلّفيها يكتفون بمجرّد إراءة البراهين الصّرفة والاستدال العقليّ المحض. وسنتكلّم لاحقًا وفي هذا الفصل أيضًا عن هذا الموضوع بالتّفصيل.
كما لا يوجد في معارف القرآن بتاتًا قضايا جدليّة الطرفين، وحَرَمُ
القرآن الآمن مصونٌ من هذه القضايا، وإن اتّهم الغافل أو المتغافل اشتمال القرآن على هكذا قضايا.
سبق أن ذكرنا بأنّ القرآن الكريم مضافًا إلى إقامة البراهين لبيان معارفه، يستخدم الأمثال أيضًا لتعميم الفهم: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزُّمَر: 27].
وعلى سبيل المثال، فقد يعرض التّوحيد على صورة برهان التّمانع - البرهان الذي يعتقد الحكماء والمتكلّمون بوزانته وثقله العلمي، ويختلفون في كيفيّة تلازم المقدّم والتالي وبطلان التالي لذلك القياس - وقد يعرض التوحيد في صورة مثل بسيط يدركه أيّ أمّي لم يتلق الدروس.
ذكر برهان التّمانع في القرآن الكريم في قالب القياس الاستثنائي، فالقضيّة الشرطيّة ومجموع المقدّم والتالي جاءت في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبيَاء: 22]؛ لأنّ لكلّ إله ذاتًا وإرادةً وقدرةً مستقلّةً، ينتج عن هذا وجود إرادتين وقدرتين وعلمين، ونوعين من تشخيص المصالح، ويؤول هذا إلى فساد العالم.
وكذلك قد تمّ بيان القضيّة الحمليّة وبطلان التالي لبرهان التمانع في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ﴿٣﴾ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [المُلك: 3-4].
وحاصل برهان التمانع القرآني، أنّ تعدّد الآلهة يُوجب فساد نظام السماوات والأرض، ولكن نظرًا لعدم وجود اختلاف في سلسلة مخلوقات الله سبحانه المتلاحمة، ففرض تعدّد الآلهة محال؛ لأنّ في نظام الخلقة، قد وُضع كلّ موجود في مكانه الخاص، ولم تكن أيّ حلقةٍ من حلقات هذه
السلسلة في حيرةٍ كي ينقطع تلاحم السلسلة مع قوّتها. ولذا كلّما جال البصر ليقف على فطور في هذا النظام المتقن، رجع خسيئًا حسيرًا.
وقد تمّ بيان محتوى هذا البرهان في صورة مثالٍ بسيطٍ هكذا: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ [الزُّمَر: 29]؛ أي إنّ خدمات الرجل الثاني متناسقة ومنسجمة، ولكن خدمات الأول مفكّكة وغير منسجمة؛ لأنّ رب الثاني مدبّر وعاقل لذا يكون عمله منظّمًا.
فلو كان للكون آلهة عدّة، يرد عليه إشكالات عدّة:
1. بما أنّ صفات الله الذّاتيّة عين الذات، فعلم أيّ إله وتشخيصه للمصالح عين ذاته أيضًا.
2. إنّ تعدّد الذات يوجب تعدّد العلم والقدرة والإرادة وكذلك تباينها.
3. يكون حينئذٍ لمبدأ العالم علوم وقدرات وإرادات متباينة، وتعدّد مبدأ التصميم والإرادة لا يستلزم إلّا فساد النّظم، وعليه فلو كان للعالم مبدأ واحد، وإرادة واحدة، لكان منتظمًا ومستقرًّا، أما لو كان ذا مبادئ متباينةٍ وإرادات متعدّدة لكان خاسرًا فانيًا.
إنّ التذكّر بالتمثيل يكون لبعض الناس دالًا على الطريق ولبعضهم فاتحًا للطريق، ولكن لا بد أن لا يتوقّف الإنسان على الأمثال بتاتًا، بل أنْ يجعلها منفذًا للمُمَثَّل، ويعبر عنه ويصعد السُلّم بالاعتصام بالمثل، ويستفيد أيضًا من الموعظة والجدال الأحسن، وأن يمتلئ من الحكمة، ليسير من مقام العلم إلى مقام العقل: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العَنكبوت: 43].
وفي المآل لا بدّ من مدّ الجسر من المعقول إلى المشهود، والعبور من الحصول إلى الحضور، ومن الغيب إلى الشهود، ومن العلم إلى العين، والوصول من منزل الاطمئنان إلى مقصد لقاء الله سبحانه، ومن هناك يسير
«من الله إلى الله في الله» مع نغمات «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر»عليهمالسلام القائلين: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» .
، ويستمر مع شهود المقصود، والحيرة في الممدوح، ويتناسق مع أئمة المعصومينمن الأمور التي تُبحث في لغة الدين، البحث عن القضايا الدينيّة، ولتبيين هذه المسألة لا بدّ من الرّجوع إلى النّصوص الدّينيّة، أي القرآن الكريم والسنة النبويّة صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة المعصومين عليهمالسلام .
فالمحقّق الباحث بعد الرّجوع إلى النّصوص الدينيّة المقدّسة، يرى أنّ الدين يحتوي على قضايا متنوّعة، فإنّه يشتمل على قضايا خبريّة، كما يشتمل على قضايا إنشائيّة، وأيضًا يستخدم لغة الأمثال ونحوها.
يستخدم القرآن الكريم قضايا متنوّعة، نذكرها هنا إجمالًا:
1. القضايا العقلانيّة الاستدلاليّة: فالقرآن الكريم يُبيّن بعض الحقائق بالتّحليل العقلي، وعلى سبيل المثال فإنّ قسمًا كبيرًا من تعاليم القرآن تتعلّق بإثبات توحيد الله وإثبات اسمائه الحسنى؛ أي توحيد الذات والصفات والأفعال والتوحيد في العبادة.
فالقرآن يقيم البراهين على مسائل من قبيل إثبات وحدة الله سبحانه، الأسماء والصفات، حضور جميع المخلوقات في مشهده ومحضره، وكون علاقة الله بالإنسان أقرب من علاقة الإنسان بنفسه.
كما أنّ القرآن يقوم بتحليل المعاد ومواقف القيامة، ويثبت ضرورة وقوع المعاد، ويبيّن البرزخ ومواقفه. كما أنّ القرآن يقوم بالتحليل العقلي لضرورة بعثة الأنبياء وكيفيّة نزول الوحي. فجميع هذه المسائل (التحليل العقلي) إخبار، تطرح تارة على نحو نتيجة القياس، وتارة أخرى تستنتج عن طريق تنظيم القياس، وعلى سبيل المثال يقول القرآن في إثبات وحدانية الله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبيَاء: 22].
فهذا الاستدلال - وقد مرّ بيانه - ورد في القرآن على نحو القياس الاستثنائي:
لو كان في نظام الخلقة آلهة إلّا الله الواحد، لفسد نظام الخلقة؛ لأنّ للآلهة المتعدّدة تدابيرَ متعدّدة أيضًا، والتّدابير المتعدّدة تنتج الفساد واضمحلال العالم.
نعم، إنّ القرآن يذكر دائمًا طريقين معًا: الأوّل طريق الشهود المتاح للشهداء ولسالكي مشهد الحضور، أي الذين يدركون الحقائق بالقلب.
الثاني: طريق العقل والبرهان والاستدلال، لمن يدرك الحقائق بالتفكّر والعلم الحصولي. وبناء على هذا، فإنّ الحقائق التي تُطرح في الدين بالتحليل العقلاني وبالبرهان والاحتجاج، تُعدّ ضمن القضايا الإخباريّة.
2. القضايا المتعلّقة بالمواضيع والعالم، وبيان المادة الأساسيّة للخلقة، من قبيل:
1. يقول في دورات الخلقة إنّها كانت في ستة دورات أي أنّ الله خلق
العالم في ستة أيام (دورات): ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [السَّجدَة: 4].
2. ويقول في فصول السنة بأنّه قدّر أرزاق الناس على الأرض في أربعة فصول: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ﴾ [فُصّلَت: 10].
3. ويقول بخصوص خلق الإنسان ومراحل نموّه وتكامله في العالم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴿١٢﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ [المؤمنون: 12-13].
4. ويقول في طبقات السماوات السبعة: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ [المُلك: 3]، وقد تكون الطبقات السبعة من سنخ الأيام الستة أي كما أنّ المقصود من الأيام الستة لم يكن الأيام العادية، فكذلك المقصود من السماوات السبعة لم يكن سبعة أعداد عادية.
وعلى كلّ حال، فهذا القسم من الآيات - المتعلّقة بالمواضيع العينيّة - تكون من القضايا الإخباريّة أيضًا.
3. القضايا التاريخيّة: إنّ بعض الحقائق الواردة في القرآن، تُعدّ من القضايا التاريخيّة المتعلّقة بقصص الأنبياء وأممهم. وهذه القصص التي نقلت منذ آدم عليهالسلام إلى خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم على أنّهم أولياء الله أو أنبياءه، وكذلك ما يتعلّق بأممهم، فكلّها قضايا خبريّة، سواء أكانت تلك القصص ملكوتيّةً بأجمعها، كقصّة آدم وحواء والشيطان، أم مركّبة من الملك والملكوت، كقصّة الخضر وموسى عليهالسلام، أم تكون مُلكية بأجمعها، طبعًا إنّ حكايات القرآن المُلكيّة تحتوي على رسالةٍ ملكوتيّةٍ، كقصّة موسى الكليم عليهالسلام مع فرعون وقارون ونحوها، وكقصص نبي الله عيسى عليهالسلام ويحيى وإبراهيم ونوح وسائر الأنبياء عليهمالسلام.
فكلّ هذه القصص قضايا إخباريّة تخبر عن الواقع، نعم إنّ القرآن الكريم في ضمن نقل هذه القصص، يتكلّم عن الوعد والوعيد اللذين من القضايا الإنشائيّة، كي يصل الصّلحاء على ضوء هذه الوعود إلى الجنّة؛ لأنّ أمم الأنبياء نالوا الجنّة بتطبيق هذه الوعود، والعصاة دخلوا النار ونالوا عذاب الله بعصيان هذه الوعود.
تحتوي الكثير من المسائل القرآنيّة على لغةٍ إنشائيّةٍ، من قبيل:
1. الأوامر والنّواهي.
2. الوعد والوعيد. الأوامر والنواهي والوعد والوعيد، يعلّمان الإنسان طريقة تنظيم الحياة في الدنيا وحيازة الآخرة.
3. تعليم الأدعية التي تعلّم طريقة ارتباط الإنسان بالله.
4. المسائل الاستفهاميّة.
5. الأمور التي تبيّن على نحو الترجّي والتمنّي. فكلّ هذه المسائل من سنخ الإنشاء لا الإخبار.
وردت بعض حقائق القرآن على نحو الأمثال، من قبيل:
1. قد يذكر القرآن ما حدث بنحو خاص على نحو النموذج فيحلّله ويجزّءه ثم يستنتج منه نظرةً جامعةً ويذكره كأصلٍ كلّيٍّ، وعلى سبيل المثال يتطرّق إلى أمر ثم يقول بعده: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبيَاء: 88]أو ﴿وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعَام: 84]بمعنى أنّ هذه القضيّة لم تكن رمزيّةً لم تقع في الواقع، أو لم تكن قضيّة شخصيّة لا يمكن تكرارها لاحقًا، بل تدلّ على أنّ سنّة الله هكذا دائمًا.
وقد يقول: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يٓس: 13]، فهذه الآية وما يتبعها تبيّن قصّة خاصّة برسل بعثوا إلى قرية، وهي واقعة خارجيّة، فالقرآن يذكر الأمر الواقع على شكل المثال والنموذج، وبعبارة أخرى فالآية لا تحتوي على لغةٍ رمزيّةٍ، بل مفادها من الأمور الواقعة في الخارج، على خلاف ما يرد في كليلة ودمنة مثلاً.
2. وقد تُذكر قصّةٌ لم تتحقّق في الواقع، بل يذكر القرآن أمرًا على نحو التّشبيه والتّبيين، وعلى سبيل المثال يذكر مسألة التّوحيد التي وردت في قالب برهان التّمانع، يذكرها على نحو المثال أيضًا كما مرّ بيانه.
3. القرآن يذكر عظمة الوحي بهذا المثل الرمزي: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحَشر: 21].
بمعنى أنّ عظمة القرآن تكون بحيث لو أنزل على جبل لتلاشى الجبل، ولكنّ القرآن لم ينزل على الجبل في الواقع، بل إنّه مثلٌ له جانب رمزي. إنّ الله تعالى تجلّى لموسى الكليم عليهالسلام في الجبل، وهذا التجلّي لم يكن رمزيًّا، بل واقعًا عينيًّا: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا﴾ [الأعرَاف: 143]، فتجلّي الله للجبل واقع عينيّ، ولكن مسألة نزول القرآن على الجبل مثال، يُراد منه بيان السّعة الوجوديّة لوعاء الإنسان، وإعلامٌ بأنّ الإنسان الكامل بإمكانه حمل الوحي الثّقيل الذي لا يتمكّن الجبل الصلد من حمله.
1. قد يكون المَثَل بمعنى الوصف: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النّحل: 74]، أي لا تذكروا الأوصاف لله، بل الله هو الذي يصف نفسه؛ لأنّ الإنسان ما دام لم يعرف الموصوف لم يعرف وصفه أيضًا. لذا لا
يتمكّن أيّ شخص من توصيف الله، سوى عباد الله المخلَصين (بالفتح) لأنّهم عرفوا الله بالمقدار اللّازم.
2. قد يكون المثل بمعنى شيءٍ واقعيٍّ، تذكرها على نحو النموذج للأمور الواقعة: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ [يٓس: 13].
3. قد يكون المثل بمعنى شيء لم يقع في الخارج، لكنّه يُذكر كأمرٍ رمزيٍّ، كما يقول القرآن: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحَشر: 21]، فهذا من باب الأمثال، وإلّا فالقرآن لم ينزل على الجبل، بخلاف تجلّي الله لموسى عليهالسلام في جبل طور وتلاشي الجبل المتحقّق في الخارج.
4. قد يكون المثل لتمثيل واقعٍ محسوسٍ أو غير محسوسٍ لموجود أعلى، من قبيل كون الدنيا مثال للبرزخ، والبرزخ مثال لرحلة العقل والحشر الأكبر، لذا فإنّ الذات الإلهيّة المقدّسة عندما تذكر أوصاف الجنّة، يذكرها على نحو المثل: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محَمَّد: 15]، فهذا في الواقع وصفٌ للجنّة، ولكن هذه الجنّة المحسوسة، تكون مثالًا للجنّة العقليّة.
بيان ذلك: إنّ الله سبحانه يُشير في بعض الآيات إلى أنّ المتقين يريدون جنّة فيها غرف وأنهار وأنواع الفاكهة، وفي بعض الآيات مضافًا إلى وجود هذه الجنّة للمتّقين، فإنّهم عند مليك مقتدر، فهذه جنّة أخرى غير محسوسةٍ بل عقليّة: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۚ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴿٥٤﴾ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرَّحمٰن: 54-55].
والله سبحانه يُشير في آيةٍ أخرى إلى هاتين الجنّتين، ويقول: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرَّحمٰن: 46]، كما أنّه يشير إلى جنتين أخريين غير التي ذُكرت، ويقول: ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرَّحمٰن: 62].
وبناء على هذا، فكلّ موجودٍ نازل يكون مثالًا بالنّسبة إلى الموجود الكامل لا رمزًا، بل إنّ هذا حقيقة؛ حيث تتجلّى صورة الحقيقة الأعلى في الحقيقة الأدنى، فالدنيا حقيقة وتكون مثالًا للبرزخ، والبرزخ أيضًا حقيقة ولم يكن سفسطة لكنّه مثالٌ لعالم العقل. كما أنّ عالم العقول والملائكة والمجرّدات التّامّة لم تكن سفسطة، بل إنّها مثالٌ لأسماء الله، كما أنّ أسماء الله أيضًا تعيّنات لذات الله المقدّسة التي هي هويّة مطلقة غير متعيّنة.
فالمثال تارة يكون بمعنى التمثّل، والتمثّل ظاهرة حقيقيّة تشير إلى حقيقة أعلى، وبناء على هذا فلغة القرآن لم تشبه لغة كليلة ودمنة - التي لم تكن لقضاياها حقيقة خارجيّة ولسانها رمزي - بل إنّ لغة القرآن مثالٌ للحقيقة الأعلى.
5. قد يكون المثل من سِنْخ التّمثيل وتشبيه أمرٍ حقيقيٍّ بأمرٍ محسوسٍ عاديٍّ وطبيعيٍّ، كمثل الحياة الدنيا: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [يُونس: 24].
وعليه، فإنّ للمثل في القرآن معانٍ عدّة، وإنّ لغة القرآن لم تكن رمزيّةً بل لبيان الحقائق.
قد يقال بأنّ من أسباب انشغال فلاسفة الدين بالتنظير في لغة الدين، ما يجدونه من تعارضٍ مشهودٍ بين العلم والدين
، من قبيل:1. اختلاف ما ورد في الوحي بخصوص علم الكون مع ما ورد في العلم، وعلى سبيل المثال فأغلب علماء الدين في الماضي كانوا يقولون
بمركزيّة الأرض ومحوريّتها للكون ودوران الشّمس حولها، أما الآن فعلماء العلم الجديد في الفلك يقولون بمركزيّة الشمس ودوران الأرض حولها.
2. المتديّنون كانوا يقولون بخصوص الإنسان وطريقة خلقته بأنّه مخلوقٌ مستقلٌّ من دون تحوّل الأنواع والتكامل، ولكن جاء عالم إحيائي باسم دارون وقال بأنّ الإنسان حلقة من حلقات تكامل الموجودات السابقة، وقد انتهت في دوران التّكامل إلى الإنسان.
ولأجل حلّ تعارض العلم والدين، سلك جمعٌ طريقَ الإفراط، وجعلوا لغة الدين أسطوريّة، وتلقّوها أحيانًا على أنّها مهملةٌ ومن دون معنى، كما سلك جمعٌ طريقَ التّفريط فردّوا كلام علماء العلوم التجريبيّة. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ البعض جعل الأصالة للعلوم التجريبيّة، وتركوا الدين جانبًا، والبعض الآخر جعل الأصالة للدين وحكم بطرد علماء العلوم التجريبيّة وتكفيرهم. وهناك صنفٌ آخر قالوا بعد تفكيك نطاق لغة العلم ولغة الدين بأنّ لغة العلم تنظر إلى الواقع، ولكن لغة الدين تمثيليّة ورمزيّة
.وللإجابة عمّن يفكّر هكذا، لا بدّ من الاهتمام بمجموعة أصول:
الأصل الأول:
إنّ لغة العلم - سواء العلوم التجريبيّة أو الطبيعيّة أو الرياضيّة - قابلةٌ للجمع مع لغة الدين. لذا لا ينبغي لعلماء الدين طرد علماء العلوم التجريبية والرياضية وتكفيرهم، من جانب، كما لا ينبغي من جانب آخر لعلماء العلوم التجريبيّة والرياضيّة الحكم على لغة الدين بكونها أسطوريّة، بل لا بدّ
من الإذعان بأنّ الدين حقٌّ، كما هو الحال في العلم، ولو حصل أحيانًا تعارضٌ بينهما، يلزم سلوك طريق التّوفيق بينهما.
الأصل الثاني:
كما يوجد حلّ للتعارض بين الظواهر الدينيّة، أو رفع تعارض دليلين رياضيين أو طبيعيين، يتم من خلال رفع التّعارض، كذلك توجد حلول لرفع التعارض بين دليل ديني ودليل علمي أو رياضي، يمكن من خلاله رفع ذلك التعارض؛ لأنّ الدليل هو ملاك القبول، وله الحجيّة، وعند وجود الدليل لا يوجد فرقٌ بين الدليل النّقليّ والعقليّ، وإن كان أحدهما أهمّ من الآخر، وفي الواقع فإنّ لكلّ دليلٍ - سواء أكان عقليًّا أم نقليًّا - واجدٍ لنصاب الحجيّة، احترامًا ويلزم استخدامه.
الأصل الثالث:
إنّ تعارض العلم والدين، يُطرح من قبل أناس يجعلون المنبع العقليّ للدين أمام المنبع النّقليّ، ويخرجون المواجيد العقليّة من دائرة الدين، والحال أنّ الدين يُستنبط من منبعين: المنبع العقليّ والمنبع النقليّ، أي كما أنّ الدليل المعتبر النقليّ يكتشف إرادة الله وحُكمه، فكذلك الدليل المعتبر العقلي، وكما أنّ الدليل النّقلي حائز على جميع آثار الحجيّة، فكذلك الدليل العقلي.
والقول بوجود فوارق بين لغة العلم ولغة الدين في بيان الحقائق والمعارف، كلامٌ صحيحٌ في جهةٍ، ولم تكن لغة العلم التجريبي أو الرياضي تختلف مع لغة الدين فحسب، بل فإنّ لغة الفلسفة والفقه والأصول والعرفان، تختلف عن لغة الدين أيضًا. ولذا ينبغي هنا الإشارة إلى فوارق لغة الدين عن لغة سائر العلوم الأعمّ من التجريبية والرياضيّة والإنسانيّة.
(78)للقرآن الكريم طرقٌ خاصّةٌ لبيان المعارف الإلهيّة، تختلف عن طرق سائر الكتب العلميّة.
بيان ذلك: إنّ الله سبحانه في مقام بيان تعاليم النّبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم، قد يذكر تلاوة الآيات على الناس وتعليمهم الكتاب والحكمة وتزكية النّفوس، ويقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجُمُعَة: 2]. وقد يتكلَّم عن إخراج الإنسان من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور الهداية، ويقول: ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1].
كما يجعل الله سبحانه القرآن الكريم وسيلة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم في إبلاغ هذه التّعاليم، ومتمسّكه في تعليم الإنسان وتزكيته: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشّورىٰ: 7]، ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشّورىٰ: 52].
وبناء على هذا، فالقرآن الكريم لم يكن كالكتب العلميّة يهتمّ بمجرَّد بيان المسائل العلميّة والكونيّة، وكذلك لم يكن بمثابة الكتب الأخلاقيّة التي تهتمّ بمجرّد الوعظ، كما أنّه لم يكن بمثابة كتب الفقه والأصول التي تكتفي بذكر أحكام الفروع ومبانيها، وعلى العموم لا يتّخذ القرآن الطرق الرّائجة في الكتب البشريّة.
إنّ القرآن الكريم لتحقّق أهدافه - التي جاءت رسالة نبي الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم العالميّة لتحقيقها - اتّخذ طرقًا خاصّة، نشير إلى بعضها فيما يلي:
1. الاستخدام الكثير للتمثيل لتقريب المعارف المتعالية والثقيلة.
2. استخدام طريقة الجدال الأحسن، والاعتماد على الخلفيات المعقولة والمقبولة لدى الخصم، للاحتجاج أمام المعاندين لأصل الدين أو خصوص القرآن.
3. امتزاج المعارف والأحكام مع الموعظة والأخلاق، وأيضًا مصاحبة تعليم الكتاب والحكمة مع التربية وتزكية النّفوس، واقتران المسائل النّظريّة مع العلميّة، والمسائل الإجرائيّة مع الضمان لإجرائها، وعلى سبيل المثال فإنّ القرآن بعد ذكر وجوب الصوم ، يُشير إلى هدفه أي تحصيل التقوى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البَقَرَة: 183].
وكذلك بعدما يُبيِّن اللّباس الذي يستر جسم الإنسان ويحافظ عليه، يتكلَّم عن لباس التقوى الذي يكسو روح الإنسان ويكون أفضل حارس له أمام السيّئات الخُلقيّة ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعرَاف: 26]، وكذلك في فضاء التكلّم عن الحج والعمرة، وبما أنّهما يستلزمان السفر، والسفر بحاجة إلى زاد، يذكر زاد التقوى الذي هو أفضل زاد في السير والسلوك إلى الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البَقَرَة: 196-197].
كما أنّه إلى جنب بيان بعض أحكام الصوم، يذكّر بحفظ الحدود ورعاية تقوى الله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البَقَرَة: 187]. وكذلك عند بيان أداء الزكاة، يذكر تطهير روح الإنسان وتزكيتها: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التّوبَة: 103]. كما أنّه إلى جنب ذكر أبسط أوامر العِشرة الاجتماعيّة، يذكر تزكية الروح، وعلى سبيل المثال فإنّه يأمر الضيف غير المدعوّ بالرجوع عند إكراه واعتذار صاحب الدار من دون أن يتأذّى؛ إذ هذا الرجوع أنسب لتزكية النّفس: ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النُّور: 28].
4. الحكم القاطع بخصوص أقوال وآراء الأخرين، فانّ القرآن الكريم لم يكن مجمع الأقوال كسائر الكتب المتداولة، كي ينقل مجرد آراء الاخرين، انّ نقله يمتزج مع التحكيم. لذا لو ذكر أمرًا من دون أن يردّه، فإنّه يدل على القبول والإمضاء، ومنه عدم الردّ على كلام ابن آدم الصالح بأنّ معيار قبول الأعمال عند الله هو التقوى: ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المَائدة: 27]. لذا ورد في بعض الروايات عن هذه الجملة بأنّها (قول الله) . كما هو الحال في الكتب الفقهيّة. ولذا سمّي القرآن لهذه الخصوصيّة بالقول الفصل: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴿١٣﴾ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ [الطّارق: 13-14].
ومن نماذج الحكم على آراء الآخرين، إبطال كلام المنافقين بعد
نقله: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنَافِقون: 8]كان يزعم المنافقون بأنهّم الأعزاء وأنّ المؤمنين أذلّاء، ولكن الله أبطل هذا القول. ونموذج آخر إبطال كلامهم السّخيف في حصار المسلمين اقتصاديًّا وعدم الإنفاق عليهم ليتفرَّقوا عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم (سورة المنافقون، الآية 7).
فالكتاب المنزل من لدن الله الحكيم الحميد، والموصوف بالعزّة، لا يتطرّقه الباطل أبدًا: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصّلَت: 41-42].
وليعلم أنّ مواعظ القرآن وحكمه تذكر إلى جنب الأحكام والمعارف الإلهيّة، تارة متأخّرة عنها كما مرَّ من الأمثلة، وتارة متقدِّمة، كقوله: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النِّسَاء: 32].
5. إقتران المسائل الكونيّة مع الإلهيات: إنّ من أهم الفوارق بين القرآن الكريم وسائر الكتب العلميّة أنّ الكتب العلميّة تكتفي بمجرَّد البحث وتبيين السّير الأفقي للأشياء ولظواهر الكون. وعلى سبيل المثال، يُبيِّن في كتب علم المعادن كيفيّة تطوّر هذه المعادن الموجودة في جوف الأرض أو الجبال منذ السنين الماضية، وبعد هذا كيف ستتحوَّل في الأعوام القادمة، ولكنّ القرآن الكريم الذي هو كتاب هداية ونور وليس كتابًا علميًّا محضًا، مضافًا إلى رؤيته الإجماليّة بالسّير الأُفقي للأشياء، يتطرَّق إلى سيرها العمودي وكيفيّة ارتباطها بالمبدأ والمعاد، أي أنّه يتكلم عن المبدأ الفاعلي والمبدأ الغائي في سير الموجودات وتحوُّلها. من قبيل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فَاطِر: 27]،
وأيضًا: ﴿۞ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعَام: 141]، وأيضًا: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبيَاء: 30].
وفي هذا النّوع من الآيات يجري الكلام في المبدأ الفاعلي للمطر والسبب الفاعلي لحركة البذور الجامدة إلى العناقيد والسيقان التي لها حياة نباتيّة، كما يجري الحديث عن المبدأ الأساسي لإحداث الطرق البيضاء والحمراء والسوداء في الجبال، وعن مُنشئ أنواع الفاكهة والبذور المأكولة، والحال أنّ العلوم العلميّة والفلسفيّة الرّائجة تبحث: إمّا عن الظواهر الخاصّة، كالنجوم والجبال و...، وإمّا تبحث في جميع الكون بشكل أفقيٍّ محض، أي تكتفي بالبحث عن الظواهر الخاصّة أو عن مجموع الكون بأنّها كيف كانت سابقًا وكيف هي الآن وكيف ستكون لاحقًا، ولكنّها تخلو عن بيان السير العمودي، على خلاف القرآن الكريم حيث يضيف التبيين العلمي للأشياء - بالمقدار الذي ورد ذكرها - والتحرير الفلسفي لأصل الكون، السير العمودي أيضًا، أي يتكلم عن المبدأ الفاعلي للأشياء وعن المبدأ الغائي والهدف النهائي.
6. اختيار المشاهد التاريخيّة التّعليميّة في ذكر القصص: لم يكن القرآن الكريم كتابًا تاريخيًّا صرفًا كي يحكي وقائع جميع الحوادث في القصص، بل يكتفي بذكر المشاهد التي تتناغم مع الهدف (أي الهداية)، ثم يُبيّنها على أنّها سننٌ إلهيّة (فلسفة التاريخ).
وعلى سبيل المثال، فقد ورد ذكر موسى الكليم أكثر من مئة مرّة في القرآن، وتمَّ بيان قصّته بشكلٍ واسع في 28 سورة، ولكن لم يرد فيه ما يخصّ التاريخ أو ما يخص الحكايات المحضة، كتاريخ ولادته أو وفاته،
بل تمّت الإشارة إلى النّقاط العامّة وذات العبرة من تلك القصص، فلم يرد فيه تاريخ ميلاد موسى أو مدة رضاعته، ولكن تكلّم عن الوحي الإلهيّ العام إلى أم موسى أن تلقيَ ابنها في البحر، وعن إيجاد الطمأنينة في قلبها وبشارة ردّه بعدما يكبر، ووصوله إلى النبوَّة.
كما لم يرد في القرآن تاريخ هجرة موسى عليهالسلام من مصر إلى مدين، وزَمَنَ رجوعه إليها، ولكن تكلّم عن سقيه مواشي أبناء شعيب عليهالسلام ، وعن رعي بناته وعفافهنّ، وكيفيّة تعرّف موسى على شعيب عليهماالسلام، وكيفيّة انتخاب العامل - أي لزوم أمانته وقوّته وتسلّطه على تنفيذ الأعمال - كما تكلّم عن رؤية النار والذهاب إليها، وشهود النور، واستماع كلام الله التوحيدي من الشجرة.
7. من أهم فوارق القرآن الكريم مع الكتب العلميّة البشريّة، أنّ المحور التّعليميّ الأساسيّ في الفنون البشريّة، يدور حول العلوم التي يتيسّر الوصول إليها، ولكن مدار التّعليم في القرآن الكريم، يدور حول العلوم والمعارف التي لم يتمكّن الإنسان حصولها من دون الاستعانة بنور الوحي: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البَقَرَة: 151]، وأيضًا: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البَقَرَة: 239].
كما أنّ الأنبياء يثيرون استعداد الإنسان فيما يخصّ العلوم المستحصلة والمستقلات العقليّة «ويثيروا لهم دفائن العقول»
. ولكن محور تعليمهم رفع الستار عن الغيب والإبداع العلمي والمعرفي للبشريّة.وتعبير القرآن الدقيق: ﴿مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البَقَرَة: 151]يُشير إلى
هذه النّقطة؛ لأنّ معنى هذه الجملة لم يكن (ما لم تعلموا)، بل معناها (لم تكونوا بالذي يعلمها من الطرق العادية)، كما أنّ الله يقول للنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم رغم استعداده الخاص: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النِّسَاء: 113] أي أنّ الله علّمك معارف لم تستطع الوقوف عليها من الطرق المتعارفة لا بالفعل ولا بالقوّة، لا مع الواسطة ولا من دون واسطة. لذا فهذه الخاصيّة للقرآن الكريم لا تختصّ بفترة انحطاط العلم، بل إنّ القرآن - إلى الأبد - معلّم للعلوم التي لا يصل إليها البشر.
والقرآن الكريم يذكر في بعض الموارد الخاصّة هذه الحقيقة، أي أنّ أسرار الكون الخفية تعرف في ضلّ نور الوحي: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البَقَرَة: 216]، فهذا الخطاب يشمل جميع الأشخاص، أعم من الضِّعاف والأوساط والأوحديّ من أهل العلم والعمل.
8. بيان المصداق واجتناب الكلّيات: لم يكن من المتعارف في الكتب العلميّة ذكر المصاديق عند بيان الحقائق بأن يتمّ ذكر الخيّرين في بيان تعريف الخير، ولكن قد اتّبع القرآن الكريم في الآيات هذه الطريقة، وعلى سبيل المثال يقول في تبيين البر والإحسان: ﴿۞ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البَقَرَة: 177].
المفسِّرون الذين جعلوا القرآن الكريم كالكتب العلميّة، يبحثون في هذه الموارد عن المحذوف أو عن سائر المبرِّرات؛ كي يتناسق أسلوب القرآن البياني مع الطرق المتداولة في الفنون العلميّة، وهم في غفلة عن أنّ القرآن لم يكن كتابًا علميًّا صرفًا، ولم يتابع الطرق المتعارفة المتّبعة في الكتب البشريّة، فهو قد يذكر الموصوف بدل الوصف، كما يعرِّف أصحاب الخير بدل تفسير معنى الخير، وهذا من الطرق المحوريّة في القرآن.
ونموذج آخر جاء في الآية: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشُّعَرَاء: 88-89]، فإنّ التناسق بين المستثنى والمستثنى منه يقتضي أن يقال: (إلّا سلامة القلب) لكن تمَّ اجتناب ذكر الوصف والاكتفاء بذكر الموصوف، كي يشوِّق المجتمع نحو الخير كما في الآية السابقة، لا أن يكتفي بتفسير الخير، وذلك لأن يسوق المجتمع نحو سلامة القلب في هذه الآيات، لا أن يكتفي بتعريف سلامة القلب للنجاة يوم القيامة.
وليعلم أنّه قد يكون بيان الوصف في آيات أخرى لا في نفس تلك الآية، كما ورد في الآية: ﴿...فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿١٧﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُۥٓۚ...﴾ [الزُّمَر: 17-18]، فالكلام فيها عن اتّباع أحسن القول، وتمّ بيان المصداق في هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فُصّلَت: 33].
وقد ورد في سورة الحمد المباركة، الذكر الإجمالي والكلي لأصحاب النعيم (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفَاتِحَة: 7]، وورد ذكر المصداق في سورة النساء: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النِّسَاء: 69]، فهذه الآية مصداق لأصحاب النعيم الذين هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.
9. تكرار الأمور: إنّ القرآن كتاب نور وهداية، ولا بدّ من تكرار المطلب الواحد في مناسباتٍ مختلفةٍ وبلغةٍ خاصّة في مقام الهداية، كي تحفظ ميزة الموعظة، على خلاف الكتب العلميّة التي تذكر الأمور مرَّة واحدة ويكون تكراره غير نافع.
والسرّ في لزوم التكرار في كتاب الهداية، استمرار إغواء الشيطان والنفس الأمَّارة اللذان من عوامل الضلال والعذاب، وأنّ إغوائهما ربّما يقلّ غير أنّه مستمرّ ولا يُترك. لذا من الضّروريّ تكرار الهداية والإرشاد.
10. من الطرائف الأدبيّة والفنيّة في بيان القرآن، تغيير السّياق فجأة، وعلى سبيل المثال ذكر كلمة بإعراب للنصب في ضمن جملٍ متعدّدة بإعراب الرفع، كي يتوقّف التاليُ [للقرآن] ويتأمّل، كقوله: ﴿لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاء: 162].
ففي هذه الآية، وردت خمسة أوصاف سياقها الأدبي الرفع، كما في وصفين متقدمين (أي الراسخون والمؤمنون) وفي وصفين متأخرين (المؤتون والمؤمنون)، ولكن في ضمن هذه الأوصاف الأربعة المرفوعة، يأتي وصف منصوب وهو (المقيمين)، كي يعطف نظر المتدبرين في القرآن والتالين لكتاب الله نحو أهميّة الصلاة التي هي عمود الدين، كما يكتب في بعض اللوحات كلمة (الشهيد) بالخط الأحمر كي يتمّ الانتباه إليها، وعليه فقد يتغيّر الأسلوب والسياق ليتمّ الانتباه إلى محتوى اللفظ.
من يعتقد بأنّ القضايا الدينيّة من دون معنى (الوضعيون) يقول: إنّ معيار المعنى هو الحسّ والتجربة، فالشيء الذي يمكن إثباته أو إبطاله
بالحس والتجربة، يكون ذا معنى، وما يخرج عن نطاق الحس والتجربة نفيًا وإثباتًا، ليس له معنى، ولن يمكن إثباته أو نفيه، فالقضايا من قبيل (للعالم مبدأ، للعالم منتهى، الجنة موجودة، النار موجودة)، لا يمكن إثباتها أو نفيها بالتجربة
.ولإثبات معناوية قضايا ما فوق الطبيعة، لا بد من البحث في جهتين: (جهة) أنطولوجيّة، و(جهة) ابستمولوجيّة.
1. لو قبلنا أنطولوجيًّا بأنّ (كل موجود مادي) - والتي عكس نقيضها يكون: كل شيء غير مادي غير موجود - لا بدّ من قبول عدم معناوية قضايا ما فوق الطبيعة. ولكن لو اعتقدنا بالوجودات غير المادية، لا محيص لانتخاب معيار الإثبات والإبطال من جهة أعلى من الحسّ والتجربة، كما أنّ انحصار معيار الإثبات بالحسّ والتجربة، ثم إبطاله بمساعدة العقل ومساعدة الوحي.
إنّ ابن سينا في النّمط الرابع من الإشارات، قام ببيان عدم صحّة قضيّة (كل موجود مادي) وذهب إلى أن كثيرًا من الموجودات غير ماديّة
.كما أنّ الوحي أيضًا يبطل هذه القضيّة، فالقرآن ينقل عن لسان بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [البَقَرَة: 55]أي بما أنّ إلهك غير قابل للرؤية، وكلّ ما لا يقبل الرؤية، لا يمكن قبوله، فلا نؤمن به. كما كانوا يقولون: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النِّسَاء: 153] أي إذا كان الله موجودًا، لا بدّ من رؤيته بالعين المجرَّدة أو غير المجرَّدة، ولكن يقول الله في الإجابة عن هكذا مذاهب حسيِّة: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعَام: 103].
ثم إنّ التّجربة تتمكّن من إثبات ما يكون في نطاقها، ولا تتمكّن من نفي ما هو خارج عنه، وعلى سبيل المثال فانّ الاثبات التجريبي بكون عصارة عشبة ما تنفع لعلاج المرض الكذائي، لا يمكن أن يثبت عدم تأثير عصارة أعشاب أخرى لذلك المرض، لأن لسان التجربة لم يكن لسان النفي المطلق، على خلاف الرياضيات، حيث يدور الأمر فيها بين النفي والإثبات، أي إذا ثبت في طرف ما النقيض، ينفي الطرف الآخر؛ وبالعكس أيضًا، لأنّ اجتماع النقيضين وارتفاعهما محال.
بناء على هذا، فإنّ حدود العلوم التجريبيّة ضيِّقة ومغلقة، لذا تتمكّن من إثبات مجرّد ما يكون في نطاقها أي المحسوسات، لا الأمور التي تقع خارج نطاق الحسّ.
2. أما المحذور الابستمولوجي الوضعي - المبتني على المأزق الأنطولوجي - هو أنّه يقول: إنّ طريق الإثبات والإبطال وطريق تحقُّق أي شيء، ينحصر في الحسّ والتجربة، وهذا المدّعى الحصريّ غير صحيح؛ لأنّ الموجود إذا كان ماديًا، يكون طريق معرفته وإثباته أو نفيه الحسّ والتجربة، ولكن لو كان الموجود مجرَّدًا، لا ينضوي طريق معرفته وإثباته أو نفيه في الحسّ والتجربة. فطريق المعرفة والإثبات، لا ينحصر في الحسّ والتجربة، لوجود طريق البرهان العقلي، وأعلى منه عن طريق الشهود القلبي والعرفاني، وأعلى منهما أيضًا عن طريق الوحي والكشف وشهود الوحي المعصوم.
إن الحسّ والتجربّة تعتبر طليعة التحقيق وبداية البحث، والبرهان العقلي بمثابة الطريق الأوسط، وطريق الشهود القلبي والعرفاني يكون منتهى الطرق، ويقع شهود المعصوم في قمّة الشهود. فمن يُقدم على معرفة الحقائق عن طريق الحسّ والتجربة فقط، فإنّه قد سلك ثلث أو ربع الطريق، وهذا أيضًا لا يتحصَّل من دون البرهان العقلي.
(89)وعليه، فالوضعيون في مأزق سواء في الأنطولوجيا والنظرة الكونيّة، أو في الأبستمولوجيا، ولا بد في البدء من حلّ هذين الإشكالين على ضوء العقل والفلسفة والوحي.
والحاصل أنّه لا بد في كلّ علم لإثبات القضايا والمسائل من انتخاب معيارها الخاص، فلو كان المعلوم من المحسوسات وما يقبل التجربة، كان طريق إثباته الحسّ والتجربة، وإذا كان المعلوم مفهومًا كليًّا، يكون البرهان العقلي طريق إثباته، ولو كان المعلوم مشهودًا قلبيًّا أو عرفانيًّا، فأفضل طريق لإثباته هو الشهود. كما أنّ الأمر الشّهوديّ المتعلِّق بعالم (المثال المنفصل) يمكن إثباته أو نفيه عن طريق المشاهدات المثاليّة، وإنّ المشهودات القلبيّة لما وراء المثال - وهي عالم المجرّدات التامّة - يمكن إثباتها عن طريق تلك المشاهدات.
بناء على هذا، فإنّ القضايا الدينيّة والأخلاقيّة، قابلة للإثبات وذات معنى، ولكن معيار إثباتها أو إبطالها لم يكن الحسّ والتجربة.
إنّ من البواعث الدّاعية للفلاسفة في البحث عن لغة الدين، ما ورد من قضايا كلاميّة وعقديّة دينيّة، حيث إنّ محمولها أوصاف وأفعال تُنسب إلى الله كما تُنسب إلى الإنسان، كالعلم والقدرة والحكمة وغيرها.
الجواب: يتحصَّل فهم لغة الدين في الإلهيات والقضايا العقدية، وهل إنّ لغة الدين في هكذا موارد لغة تمثيل أو أسطورة أو رمز، يتحصَّل هذا بالمراجعة إلى النّصوص الدينيّة كالقرآن؛ لأنّ القرآن قد بيّن جميع الحقائق،
(90)وعرَّف نفسه بأنّه تبيانٌ لكلّ شيء، وما يكون تبيانًا لكلّ شيء، لا بد أن يكون تبيانًا لنفسه أيضًا.
لذا، لمعرفة لغة القرآن في القضايا الكلاميّة واللَّاهوتيّة لا بدّ من مراجعة القرآن نفسه.
القضايا التي تذكر في القرآن الكريم بالنسبة إلى الذات الإلهيّة المقدّسة ويقام لها البراهين؛ على نحوين:
1. القضايا التي أخذ في محمولها أمور يحتوي مفهومها على النّقص والمعايب والآفات والسيِّئات ونحوها، كالجهل والعجز والحسد وغيرها، فالقرآن الكريم في هكذا قضايا يسلب هكذا محمول من ذلك الموضوع، وينزِّه الله سبحانه من تلك الصفات.
2. القضايا التي لم يُؤخذ في محمولها أُمور يحتوي مفهومها على النّقص والمعايب والآفات والسيّئات، ولكن قد يقترن مصداقها مع النّقص والآفات. فالقرآن حينما ينسب هكذا محمول إلى الله سبحانه، يذكر إلى جنبها قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورىٰ: 11]؛ كي لا يخلط أحد المفهوم بالمصداق.
وبعبارة أخرى، قد يكون للمصاديق درجات ومراتب - بحيث يكون بعضها ضعيفًا وبعضها أضعف، والبعض قويًّا والبعض الآخر أقوى - ولكن المفاهيم منزَّهة من النّقص. فهكذا مفاهيم لو نُسبت إلى الله ترد جملة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورىٰ: 11]في جنبها؛ للتخلّص من خلط المفهوم بالمصداق.
وعلى سبيل المثال، فحقيقة مفهوم العلم: الكشف والحضور، سواء أكان حصوليًّا أم حضوريًّا، محدودًا أم متناهيًا أم غير محدود وغير متناهٍ، مسبوقًا بالجهل وملحوقًا بالنّسيان أم لا، زائدًا على الذات أو عينها؛ لأنّ
هذه الأمور غير دخيلةٍ في جوهر العلم، بل تُعدّ جميعها من خصائص مصداق العلم.
وبناء على هذا، فعلم الله حضوريّ وغير محدودٍ وغير متناهٍ وعين ذاته، وغير مسبوقٍ بالجهل وغير ملحوقٍ بالنسيان، ولكن علم الإنسان قد يكون حصوليًّا وقد يكون حضوريًّا، كما أنّه متناهٍ ومحدودٌ وزائدٌ على ذاته، ومسبوقٌ بالجهل وملحوقٌ بالنسيان، لذا لتنزيه ذات الله من انتساب مفهوم العلم المقترن بخصائص المصداق، ترد إلى جنب هذه الصفة جملة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورىٰ: 11]، وعليه يقول بعض العظماء، كصدر المتألهين ، والفيض الكاشاني : إنّ الألفاظ وُضعت لروح المعاني لا خصوص المصاديق.
فكلمة الميزان على سبيل المثال وُضعت لقياس الوزن، أي أنّ مفهوم الميزان آلة للمقياس والاختبار، ومصاديقه تختلف، لذا يستخدم المتر لقياس المساحة، والميزان للوزن، ومقياس الحرارة للحرارة والبرودة، الإنسان الكامل لقياس الإنسان، كما أنّ كلمة المصباح ترد بمعنى آلة التنوير وله مصاديق عدّة، تطوَّرت بحسب الزمان، كما كان يستفاد في فتراتٍ زمنيّةٍ مختلفةٍ من الحطب أو الشمعة أو المصباح الزيتي وسائر آلات التنوير.
وبناء على هذا، فإنّ مفهوم العلم والقدرة والحياة، لم يقترن مع أيّ خصوصيّة، كالمحدوديّة أو غير المحدوديّة، الزيادةعلى الذات أو عدمها. ولكن تكون بعض المصاديق غير محدودة وبعضها محدودة كما في علم الله فإنّه غير محدود، أو علم الإنسان فإنّه محدود، فمن يعتقد أنّ اتّصاف الله
بصفاتٍ كالعلم والحياة والقدرة وغيرها، بأنّها صفات إنسانويّة، فإنّه قد خلط بين المفهوم والمصداق.
وبعبارة أخرى، فإنّ من استناد العلم إلى الله ومن التدبر في هذه الصفة الذاتيّة، نستكشف أمورًا جديدة، وعلى سبيل المثال كان يُتصوّر في الماضي أنّ علم الله حصوليّ أو زائد على الذات ومحدود، ولكن تبيَّن الآن أنّ علم الله حضوريّ وعين ذاته وغير محدود.
قال أحد أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام وبحضوره: «الحمد الله منتهى علمه»، فنهاه الإمام الصادق عليهالسلام عن أن يقول منتهى علمه «فإنّه ليس لعلمه منتهى». وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا عليهالسلام يأمر أن يُقال: «الحمد الله منتهى رضاه» ؛ حيث يوجد لرضى الله حدّ. [الرضا] من صفات الفعل ويقابلها صفة (الغضب)، فكما أنّ غضب الله محدودٌ، فرضاه أيضًا محدود، فرضاه أيضًا محدود، أي أنّ حدود الجنّة والنّار متعيِّنة. وعليه بما أنّ الرضا والغضب من صفات الفعل الإلهي لهما حد، ولكن بما أنّ علم الله عين ذاته ليس له حدّ.
ملاحظة:
يقول البعض للتخلّص من الإشكال المتوهّم في كيفيّة إطلاق صفة العلم إلى الله وإلى الإنسان: إنّ هذه الألفاظ والكلمات وُضعت للمفاهيم العرفية، لكنها تستخدم للمجرّدات على نحو التوسّع والمجاز بمعيِّة القرائن، أي أنّ إطلاق العلم على الله يكون من باب التوسّع في مفهوم العلم؛ لأنّ هذه الألفاظ وضعت للمصاديق العرفيّة، فإطلاقها على المصاديق العليا أو المجرّدات، يكون من باب التوسّع.
وبعبارة أخرى، توجد ثلاثة أقوال لإطلاق ألفاظ: كالعلم والقدرة
والحياة، على الله تعالى: البعض يراها من باب الاشتراك المعنوي - وهو الرأي الأوّل - والبعض يراها من باب الاشتراك اللفظي، والبعض الآخر يراها من باب الحقيقة والمجاز.
(94)إنّ علاقة العقل والدين والنسبة بينهما، تُعدّ من أقدم وأشهر وأعمق المباحث في تاريخ الفكر البشري، وقد كان يُعبِّر عن هذا العنوان فيما مضى بالعقل والوحي، وتارة بالعقل والنقل، وأخرى بالعقل والشريعة، وقد يجعلون العقل تارة أخرى أمام الإيمان.
وها هنا سؤالان:
1. هل للعقل اعتبار في الدين والنقل والشريعة أم لا؟ فلو كان له اعتبار، فما هي حدوده؟ هل يُعدّ العقل في مرتبة الدين أو قبله أو بعده؟
2. هل للعقل دورٌ في تبيين النُّظم العقديّة الدينيّة؟ هل العقل مقدّم على الإيمان أو أنّ الإيمان متقدِّم عليه؟ أي هل وجود الإيمان منوط بوجود دلائل جيّدة عند الإنسان تدعم اعتقاده بصدق إيمانه أم لا؟
وردت ثلاثة أقوال في الفكر الغربي عند الإجابة عن دور العقل في نطاق الدين والشريعة:
1. البعض بعد اعتقاده بأفضليّة الإيمان يقول: أُرسل الوحي للإنسان ليحلّ محل جميع المعارف، أعم من التجريبية والأخلاقيّة وما يخص ما بعد الطبيعة.
منذ ظهور المسيحيّة، وُجد دائمًا أشخاص ينظرون في اللّاهوت نظر الإفراط، إنّهم بعد فتواهم بأصالة الوحي يقولون: بما أنّ الله تكلّم معنا، فلا حاجة إلى التّفكّر العقلاني، ولا بدّ من الاهتمام بنيل الفلاح، وما هو ضروريّ ينفع الإنسان في نيل الفلاح موجود في الكتاب المقدّس، لذا لا بد من تعلّم الشريعة والتّأمّل فيها والعمل بأحكامها، ففي هذه الصورة لا حاجة إلى أيّ شيء آخر حتى الفلسفة
.2. وفي قبال هذا الرأي، اعتقد البعض بأصالة العقل.
3. وهناك من يعتقد بالتّناسق بين العقل والوحي والعقل والإيمان، ويقول: الإيمان والعلم والعقل، نوعان من المعرفة متمايزان، ولا يحلّ واحد منها محلّ الآخر كي يؤدّي دورها. ومن هنا يقولون: الإيمان هو الاعتقاد بشيء ورد عن الله من خلال الوحي، ولكن العلم فمعناه الاعتقاد بشيء، نرى صحّة بشكلٍ طبيعيٍّ في ضوء نور العقل الطبيعي.
يقول توما الأكويني: الوحي حقيقة، وفي نطاق الوحي تحصل المعرفة بالله والإنسان - وتقديره ضروري للنجاة الأبدي - لجميع البشر، سواء كانوا فلاسفة أو غير فلاسفة، ولكن هذه المعرفة تتشكّل من أجزاء مختلفة لا بد من الفصل بين قسمين فيها: القسم الأول يحتوي على عددٍ معيَّن من الحقائق المنزلة في الوحي، يمكن إدراكها بمساعدة العقل، كمعرفة وجود الله وصفاته الذاتيّة، أو معرفة وجود روح الإنسان وفناءه
.ثم إنّه يسأل: لماذا كشف الله حقائق للإنسان، يتمكّن من معرفتها حتى بالعقل التكويني، ويجيب على هذا السؤال: لأنّ عددًا قليلًا من الناس يُعدُّون فلاسفة ما بعد الطبيعة، والحال أنّ لزوم النجاة عاماً للجميع، والله تعالى عن
طريق وحي هذه الحقائق إلى الإنسان، مهّد لكل واحد منَّا ومن دون واسطة، بيقين كامل وعلم خال عن الشوائب، طريق معرفة جميع الحقائق المنجية.
أما القسم الثاني من حقائق الوحي، يشمل جميع العقائد الإيمانيّة التي تم بيانها بوضوح، أي بعض مراتب الوحي التي تفوق جميع مراتب عقل الإنسان. إنّه يقول بهذا الصدد: إنّ مسائل التثليث والتجسُّد والفدية من هذا القبيل، حيث لا يوجد أيّ فكر فلسفيّ يمكنه إقامة دليل ضروريّ لصالح أي حقيقة من هذه الحقائق
.يمكن القول بأنّ الأكويني قد قسّم القضايا الدينيّة إلى ثلاثة أقسام:
1. القضايا العقلانيّة، أي القضايا التي يثبتها العقل كما يمكن أن تكون متعلّق الإيمان.
2. قضايا غير عقليّة، أي القضايا التي لا يثبتها العقل ولا ينفيها، أي يسكت عنها (وليس معنى غير عقلية نفور العلم والعقل عنها، بل يعني أنّهما ساكتان حيالها ولم يتمكّنا من تحليلها)، وهذه القضايا تتعلَّق بالإيمان.
3. قضايا ضدّ العقل، وهي القضايا التي يدلِّل العقل على نفيها، وهنا يقع التّعارض بين القضايا الدينيّة وفتوى العقل، ويحاول المتكلّم حلّ هذا التّعارض عن طريق تأويل القضايا الدينيّة.
إنّ التقابل بين العقل والإيمان، تقابلٌ بين التعقّل والإيمان أو الدين والتدين، ولا يكون تقابلًا بين العقل والدين؛ لأنّ التّعقّل والإيمان فعلان من أفعال الإنسان، أي أنّ الإنسان هو الذي يؤمن بالقضايا الدينيّة كي يتعقّل، أو يقدّم التّعقّل كي يؤمن.
توجد ثلاثة أقوال في الغرب تجاه الإجابة عن سؤال دور العقل في تبيين النُّظُم العقديّة:
1. التّعقّل الأكثري: بناء على هذا الرأي لا بد لقبول النّظم العقديّة الدينيّة عقلًا، من إمكان اثبات صدقها أولاً، ولا بد من بيان صدقها بحيث يقتنع جميع العقلاء بها.
2. الرأي الإيماني: بناء على هذا الرأي، فإنّ النُّظُم العقديّة الدينيّة، لا تدخل في مدار تقييم العقل وحكمه، يقول أصحاب هذا الرأي: لو آمنّا بوجود الله، أو بكماله غير المحدود وحكمته وعلمه وقدرته، كما حبُّه للإنسان، ففي الواقع نحن قبلنا هذا الأمر مع قطع النّظر عن أيّ قرينة واستدلال، وكل محاولة تسعى لإثبات حب الله للإنسان أو إنكار ذلك، فهي مردودة .
3. العقلانيّة النّقديّة: بناء على هذا الرأي، لا بد من نقد النُّظُم العقديّة الدينيّة وفحصها عن طريق العقل، وإن لم يمكن الإثبات القاطع لهكذا نُظُم. ففي العقلانيّة النّقديّة، تستعمل قدرات العقل بأعلى مستوى لتقييم العقائد الدينيّة، ونستفيد من أفضل البراهين لتأييد تلك النُّظُم العقديّة، وفي الوقت نفسه لا بد من لحظ النّقود الأساسيّة المتوجّهة الى تلك النُّظُم العقديّة.
فالإنسان في هذا الرأي يختار العقائد، ويسعى لكسب الاطمئنان عن طريق فهمها الدقيق، كما يبحث في الدلائل المؤيّدة والنّافية لذلك المعتقد
.لقد ظهرت ثلاث فرق في العالم الإسلامي، في مقام بيان العلاقة بين العقل والدين أو العقل والإيمان، ولكل فرقة رأيها الخاص:
1. أصحاب الظاهر: وهم يسعون بالجمود على الظواهر الدينيّة حتى في الأصول العقديّة، وينفون بشدّة أيّ تعمُّق وتدبّر أو أيّ نشاط عقليّ في المعاني الدينيّة، وعلى سبيل المثال عندما سُئِل مالك بن أنس عن معنى الاستواء في قوله تعالى: «الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ»
قال في الجواب: «الاستواء ، والكيفيّة مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»
.فالمداقّة في هذا الكلام، مع لحظ أنّ الفكر يبتني على السّؤال، وعندما لا تكون أسئلة رئيسيّة، لا يتولَّد الفكر الجاد والخلَّاق، يُعلم منه أنّ أصحاب الظاهر يمانعون من دخول أيّ فكر جديد في منظومة المعرفة الدينيّة.
2. العقلانيون: يقول هؤلاء إنّ جميع المعارف الدينيّة تُدرك بالعقل، كما يقول بعضهم: «المعارف كلّها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحَسَن والقبيح» .
3. العقلانيون الذين يقبلون بالنّقل: هذه الطائفة مع اعتقادهم بالتّناسق بين العقل والشريعة والعقل والنقل يقولون: كما يُعدّ الوحي والشريعة منبعًا لمعرفة الإنسان، فكذلك العقل يعدّ من منابع المعرفة لدى الإنسان، كما أنّ العقل والوحي والشريعة، ينبّئان عن حقيقةٍ عينيّةٍ خارجيّةٍ، فلذا فإنّ تقريرهما متناسقٌ مع بعض.
بعدما ذكرنا كيفيّة طرح موضوع العقل والدين أو العقل والإيمان في الفكر الغربي والإسلامي، لا بد من القيام بتصحيح العنوان؛ لأنّ مبدع إشكاليّة العقل والإيمان يقول: إنّ الإيمان علقة بين النفس والأمر الآخر، وعند انعقاد هذه العلقة يقال للنفس بأنّها مؤمنةٌ بذلك الأمر، فلو كان الأمر الذي إطمأنّت به النفس علميًّا وصحيحًا، كان الإيمان صحيحًا أيضًا، وإلّا سيكون الإيمان باطلًا، وبما أنّ عمل العقل هو فهم الواقع، فلا معنى لتقابل الإيمان والعقل.
كما أنّ التّعبير عن العقل والدين وإيجاد التّقابل بينهما غير صحيح أيضًا؛ لأنّ الدين مجموع معارف العقل والنقل، لا شيء أمام العقل. وبعبارة أخرى لا بد من إثبات الدين عن طريق العقل والنقل معًا.
1. المراد من العقل هو البرهان العقلي من المنظر الداخلي؛ لأنّه يمكن الحديث عن البرهان العقلي من وجهتين: داخليّة وخارجيّة. بيان ذلك: في جميع الموارد التي يُستفاد فيها من البرهان العقلي، كالفلسفة والأخلاق والأصول والفقه، فإنّه يُستخدم البرهان العقلي والنظر العقلي من الداخل (الجوَّانِي)، ولكن في الموارد التي يُبحث فيها عن تقييم العقل والنقل ومقايستهما، فإنّ النّظر في العقل يكون من الخارج (برَّاني).
2. هناك فاصل بين اعتبار العقل وملاحظات العاقل؛ لأنّ العقل والبرهان العقليّ معصومان، ولكن العاقل أي الحكيم والمتكلِّم والأصولي والفقيه غير معصوم. لذا لا يمكن مقايسة العقلاء والحكماء والمتكلّمين والفقهاء بالأنبياء، ولكن بما أنّ العقل معصوم يمكن تقييم براهينه مع
(100)مضمون القرآن والروايات، وإن كانت قداسة الوحي محفوظة تمامًا.
3. بما أنّ البرهان العقلي حجّة الله، فمن اتّجه نحو المتون المقدَّسة برأسمال العقل، ينال العلوم المقدّسة المتراكمة، سواء من المتون النّقليّة أو البراهين العقليّة. إنّ البرهان العقلي - كما هو البرهان النقلي المعتبر - من الإلهامات الإلهيّة التي تجلّت في ظرف تعقُّل الإنسان. وبناء على هذا، فإنّ الدّليل العقلي كالدليل النقلي حجّة من حجج الله ومن إلهاماته، فمن اتّجه إلى المتون المقدّسة بالعقل واستنبط منها، كان كما لو اتّضحت آية بمساعدة آية أخرى أو بمساعدة رواية أخرى. لذا لم تكن هذه الأمور بعيدة عن المتن النقلي.
نعم من اتّجه إلى المتون المقدّسة بالاستقراء النّاقص أو التمثيل المنطقي أو أنحاء المغالطات لصق حينئذٍ غبار البشرية كالهالة على محتوى النّصوص الدينيّة المقدَّسة.
تنقسم معرفة العقل - كمعرفة القرآن - إلى قسمين: فلو أراد شخص التعرُّف على القرآن لا بد أولاً أن يبدأ بمعرفته من الخارج أي بالعلوم القرآنيّة، فيلزم على سبيل المثال التعرُّف على معنى الوحي، نزول الوحي، الرسول والمُرْسَل ونحوها، ثم يتعرَّف بعد هذا على المباحث المتعلقة بتفسير القرآن وتبيين معارفه.
فالعقل أيضًا لا بد أن يعرف من خلال مرحلتين:
1.العلم بالعقل والمعرفة العقليّة.
2. العلم بالقواعد والمفاهيم العقليّة.
يُبحث في المرحلة الأولى بأنّ العقل هل هو مجرّد أو لا؟ ما هي
موقعيَّة العقل؟ ما هو نطاق المعرفة العقليّة؟ هل العقل منبع ومصدر أو مستمع؟ هل يمكن الإفتاء للعقل أو لا؟ هل يتمكّن العقل في العلوم البرهانيّة كالحكمة والكلام والرياضيات والمنطق، وبعض أقسام علم الأخلاق، من إقامة البرهان القطعي أو لا؟ هل يتمكّن العقل من استحصال الاطمئنان في العلوم التجريبيّة التي تنتج الطمأنينة في الأغلب ويقلّ فيها البرهان المنطقي، أم لا؟ هل الاطمئنان الحاصل من العلوم التجريبيّة حجّة أم لا؟ فهذه كلّها علوم عقليّة تتعلّق بعلم العقل والمعرفة العقليّة.
ويُبحث في المرحلة الثانية من القواعد العقليّة، من قبيل هل اجتماع الضدين أو اجتماع المثلين أو تكليف ما لا يُطاق محال أو لا؟ كما يُبحث عن سائر القواعد التي تعدّ من مبادئ الفلسفة والكلام وأصول الفقه، وكذلك قضايا الحكمة العمليّة من قبيل: هل الظلم والكذب قبيح أو لا؟ وهل العدل والإنصاف والصدق حَسَن أو لا؟
ومن الواضح عدم إمكان التمسّك بهذه القواعد والقوانين قبل معرفة العقل؛ لأنّها تعتبر في الواقع الشّروع من منتصف الطريق. وبعبارة أخرى لو تمسّكنا بالقاعدة العقليّة في أصول الفقه في مسألة مقدّمة الواجب، وقلنا: إنّ ما يتوقف عليه الواجب واجب يقينًا، أو قلنا بعدم الجمع بين الأمر والنهي، فهذه أمور عقليّة، والتمسّك بقوانين العقل قبل تحليل (ماهية) العقل من الخارج - وإن كان ممكنًا في حدّ نفسه - يُوجب سلوكًا للطريق من منتصفه.
وبالاعتماد على ما قلنا، لا بد من التّكلّم عن العقل في ثلاث مراحل:
1. معرفة العقل.
2. الفرق بين اليقين والقطع المنطقي مع القطع النفسي.
3. ميزة العقل بمثابة المنبع عن العقل بمثابة المخاطب الفهيم. (كل ذلك)
(102)ليعرف أن فتوى العقل فتوى الدين، وأنّ العقل يقع في مقابل النّقل لا الدين.
لذا، يُقال إنّ العقل والنّقل، جناحا الدين، مثلاً يؤكّد القرآن على أصل استقلال الأمم والبلد، وهذه الاستقلاليّة تشمل الجوانب السياسيّة والعسكريّة والثّقافيّة والاقتصاديّة أيضًا، كما أنّ العقل يؤكّد أيضًا على حُسن استقلال البلاد في مختلف الجوانب ويقبّح الخنوع تحت سيطرة الآخرين.
يقول القرآن: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النِّسَاء: 141]، فهذه الآية تقول بلزوم استقلال المسلمين والمؤمنين وعدم قبولهم سلطة الكافرين. قال الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليٍّ عليهالسلام : «لئن أدخل يدي في فم التنين إلى المرفق أحبّ إليَّ من أن أسأل من لم يكن ثم كان» ؛ أي إنّ الطلب من غير الله أسوأ من إدخال اليد في فم التنين السامّ.
ويقول الإمام الصادق عليهالسلام أيضًا: «لأن تدخل يدك في فم التنين إلى المرفق خير لك من طلب الحوائج ممّن لم يكن فكان» ؛ أي الموجود الذي محتاج في وجوده وبقائه إلى الله.
وبناء على هذا، يتم إثبات [حُسن] الاستقلال بالدليل النقلي والدليل العقلي معًا [يُعدّ الاستقلال من مسائل الحكمة العمليّة، أي إنّ العقل يُفتي به كمنبعٍ مستقلّ ضمن أقسام الحكمة العمليّة؛ إذ المستقلّات العقليّة لا تنحصر في حسن العدل وقبح الظلم، فكما أنّ المستقلات العقليّة النّظريّة تثبت قضايا بديهيّة تعدّ أساسيات الحكمة النّظريّة كاستحالة اجتماع النقيضين، واستحالة اجتماع الضدين، وضرورة ثبوت الشيء لنفسه،
واستحالة سلب الشيء عن نفسه، يمكن تأسيس قضايا رئيسيّة في الحكمة العمليّة وحلّ مسائل كثيرة على ضوئها، ولكن لا بد من الإلتفات إلى الفرق الموجود بين القضايا الأوّليّة - التي لا تقبل البرهان ويستحيل الاستدلال عليها- والقضايا البديهيّة - التي تقبل البرهان لكنّها لا تحتاج إلى الاستدلال - ففي الحكمة النظرية يكون أصل التناقض أوليًّا، وباقي القضايا بديهيّة. وقد يُدّعى أيضًا في الحكمة العمليّة أنّ قضيّة حسن العدل وقبح الظلم، غير قابلة للبرهان، وسائر القضايا - كحسن الأمانة وقبح الخيانة وغيرهما - قابلة للبرهان. وثانيًا، إنّ عمود قضيّة حُسن العدل وقبح الظلم هو قضيّة امتناع جمع المتناقضين، أي بعد تصوّر المبادئ التّصوّريّة لهذه القضيّة، وبعد قبول الأصول الأخلاقيّة والاجتماعيّة إذا أريد تحليل قضيّة حُسن العدل وقبح الظلم، لا بد من الاستناد إلى أصل التّناقض]. ولذا فإنّ سبب تكلّم الأنبياء عن الاستقلال، أنّهم يغوصون في معدن وجود الإنسان، ويثيروا الكنز المستور فيه: «ويثيروا لهم دفائن العقول»
.وبناء على هذا، فالعقل البرهانيّ مصدر الدين، ومع لحاظ الدّليل النّقليّ المعتبر، تكون فتواه فتوى الدين، فإنّ كلّ ما يثبته الدليل النّقليّ المعتبر بملاحظة البرهان العقلي يُنسب إلى الدين. لذا لو عمل شخصٌ على خلاف ما أثبته البرهان العقلي فسوف يحاسب في المعاد، وعلى سبيل المثال لو حكم العقل العملي كخبير بلزوم استخدام الماكنات في الزراعة الميكانيكية للوصول إلى الاستقلال، أو لزوم استحداث السد الكونكريتي للري، ولكن خالف أشخاصٌ عن عمد هذا الحكم واستحدثوا سدًّا ترابيًّا وأهدروا بيت المال، فإنّهم يُسألون في محكمة العدل الإسلامي، كما أنّ هكذا شخص يحاسب يوم القيامة ويُعذّب.
(104)يُعدّ البرهان العقليّ بمثابة الدّليل النّقليّ المعتبر، ولكن هل موقعيّته واعتباره قبل النقل أو بعده أو أنّه متقارن معه؟ هنا يحكم العقل نفسه، ويقول: «إنّ البرهان العقلي قد يكون في بعض الأمور قبل اعتبار الدليل النقلي المعتبر، وفي بعض الأمور الأخرى مع الدليل النقلي، وفي أخرى أيضًا بعد الدليل النقلي».
بيان هذه المواد الثلاثة:
1. إنّ البرهان العقلي يكون قبل النّقل في أصول الدين؛ لأنّ العقل يحكم بحاجة الإنسان إلى الدين، ويقول العقل في مقام الحكمة النظرية: إنّ المجتمع البشري بحاجة إلى الوحي، وهذا الوحي ينزل على الإنسان الكامل (النبي) عن طريق الملك. كما يحكم العقل في مقام الحكمة العمليّة بقبح الممانعة من دين النبيّ أو الحرب معه أو منع تعاليم النّبيّ وحرمان الناس من فيوضاتهم أو قتل الأنبياء، بل يفتي العقل - في قبال هذه الأمور - بحُسن الدفاع عن النبي وطاعته وتهيئة المقدّمات لنشر رسالته.
وبناء على هذا، فالعقل نفسه الذي يفتي بضرورة بعثة الأنبياء في مقام الحكمة النّظريّة، يفتي - بمعرفة صحيحة - بحُسن نشر تعاليم النبي وقبح الممانعة من تعاليمه في مقام الحكمة العمليّة.
2. يفتي العقل كالنّقل في حدود الدين، والعقل والنقل يؤيّد أحدهما الآخر، كما نرى في المباحث العقليّة تعاضد دليلين عقليين، أو في مسائل نقليّة صرفة، دليلين نقليين متعاضدين، ففي المباحث الدينيّة يتعاضد الدليل العقلي مع الدليل النقلي.
3. تم بيان تأخّر العقل عن النقل، في مباحث أصول الفقه بشكل مبسوط،
فلو لم يجد العقل - بعد سعيه - حكمًا خاصًا ولم يرد فيه أيضًا دليلًا نقليًّا، وكان من باب ما لا نص فيه، فهنا قد يحكم العقل بالبراءة أو الاحتياط أو التخيير، وقد يفتي بنفي الحرج والضرر. وعلى سبيل المثال قد يقول العقاب بلا بيان قبيح، وتارة أخرى عند اشتغال ذمة الإنسان يطلب براءة الذّمّة ويحكم بالاحتياط. وبعبارة أخرى، فإنّ يد العقل مفتوحة فيما لا يوجد فيه فيها نقل.
هذا التقرير، يُبيِّن المراحل الثلاثة للدليل العقلي أمام الدليل النقلي، والمهم هو تشخيص موقعيّة العقل (ومكانته) كي لا يختلط موقع العقل والنقل، وكي نعتبر العقل والنقل جناحا الدين. وعلى هذا الأساس لو وجب شيء بحكم العقل أو النقل، وبما أنّ أيّ عمل لا يتحصَّل من دون مقدّمات، يحكم العقل بلزوم تحصيل المقدّمات، كما أنّ الدليل النّقلي المعتبر يحكم بوجوب الصلاة، ويعلن عن وجوب الوضوء والطهارة من باب المقدّمة. فالواجب العقلي أيضًا هكذا، وكما أنّ ترك الواجب ومقدّماته طبقًا للدليل النقلي حرام وموجب للعقاب، يكون ذلك قبيحًا أيضًا طبقًا للدليل العقلي ومخالفته توجب العقاب والذم.
العقل قوّة موهوبةٌ من الله وعمله الإدراك، فقد يدرك الوجود والعدم اللذان يتعلَّقان بالحكمة النّظريّة، وقد يدرك ما ينبغي وما لا ينبغي المتعلِّقان بالحكمة العمليّة.
والعقل على قسمين: عقلٌ نظريٌّ وعمليٌّ، العقل النظري يدرك الوجود والعدم وما ينبغي وما لا ينبغي. وبعبارة أخرى، إنّ العقل النّظري يدرك مسائل الحكمة النّظريّة ومسائل الحكمة العمليّة معًا.
بيان ذلك: إنّ إدراكات الإنسان على قسمين:
(106)1. الإدراكات التي تتعلَّق بالحقائق والوجود والعدم، كالإلهيات والرياضيات والطبيعيات والمنطقيات ونحوها، فهذه العلوم يُطلق عليها الحكمة النظرية.
2. الإدراكات التي تتعلَّق بما ينبغي وما لا ينبغي، كالفقه والحقوق والأخلاق ونحوها، فهذه العلوم تُسمَّى بالحكمة العمليّة. والعقل النّظريّ يدرك كلا القسمين: الوجود والعدم، ينبغي وما لا ينبغي؛ لأنّ وظيفة العقل النظري الإدراك.
والإدراك لم يكن وظيفة العقل العملي، بل إنّه قوّةٌ إجرائيّةٌ عملها العزم والإرادة والمحبّة والإخلاص والإيمان ونحوها. وبعبارة أُخرى ما يخصّ العمل يتعلَّق بالعقل العملي، وقد تمّ تعريفه في كلام الإمام الصادق عليهالسلام هكذا: «العقل ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان» .
والإدراك من مهمّة العقل النّظري؛ لأنّ العقل في بُعديه النّظري والعملي مجرّد، وكلّ مجرّد يكون عمله مجرّدًا أيضًا، وعمل المجرَّد هو عين الدرك والشهود، وإن كان الفهم والعلم ينشأ من قسم الإدراكات في انتزاعه المفهومي، لا من قسم العمل.
والعمل أيضًا على قسمين: عمل مجرَّد وعمل مادي، والعمل المادي يختلف عن الإدراك، ولكن العمل المجرَّد عين الإدراك، أي أنّه موجودٌ مجرَّدٌ كالقدرة الإلهيّة، أو قدرة أيّ موجود مجرَّد تام آخر، فإنّها مجرَّدة. فالموجود المجرَّد عين الشهود والشاهد والمشهود، ولكن هذا غير العلم؛ لأنّ العلم يُنير حتمًا المتعلَّق الخاص، نعم للعقل العملي وجودٌ مجرَّدٌ، وفي الوجود المجرَّد يتّحد الشاهد والمشهود والشهود، ولكنّه لم يكن لتنوير شيء
في حقيقته. وبناء على هذا، فإنّه تختلف الحكمة النّظريّة عن الحكمة العمليّة، كما يختلف العقل النّظري عن العقل العملي.
تذكير: لكلٍّ من الحكمة النّظريّة والحكمة العمليّة اصطلاح خاص، ولكن العقل النّظريّ والعملي اصطلاحان: 1. إنّ العقل النظريّ قوّةٌ تُدرك الحكمة النّظريّة، والعقل العملي قوّةٌ تُدرك الحكمة العمليّة. 2. العقل النظري يُدرك الحكمة النّظريّة والعمليّة معًا، والعقل العملي له صبغة عمليّة فقط (دون العلميّة) ووظيفته العزم العملي لا الجزم العلمي. وقد استعمل في هذه المباحث الاصطلاح الثاني، وهو أصح.
إنّ مواد قضايا الحكمة النّظريّة ثلاثة أشياء، ومواد قضايا الحكمة العمليّة خمسة؛ لأنّ الحكمة النّظريّة ترتبط بالوجود والعدم، ونسبة الشيء إلى الوجود والعدم متساوية، فإنّه: إمّا ضروري الوجود أو ضروري العدم، فلو كانت النسبة متساوية فإنّه ممكنٌ، ولو كان وجوده ضروريّ فهو واجب وضروريّ، سواء أكانت ضرورة أزليّة أم وصفيّة، وإذا كان وجوده ممتنعًا فهنا تأتي مسألة الامتناع؛ لأنّ الشيء ما لم يمتنع لم يُوجد.
وبناء على هذا، فإنّ جهات قضايا الحكمة النّظريّة، الضرورة والإمكان والامتناع، لا أقلّ ولا أكثر. والفلسفة هي المتكفِّلة لإثبات هذه الجهات الثلاثة، وتحيلها بعد الإثبات إلى علم المنطق، يُستخرج منها الجهات الثلاثة عشر المعبَّر عنها بالمواد وجهات القضايا البسيطة والمركّبة.
ولكن، بما أنّ الحكمة العمليّة ترتبط بما ينبغي وما لا ينبغي، فجِهاتُها وموادها خمسة:
1. ما ينبغي مئة بالمئة (الواجب).
2. ما ينبغي لاعلى نحو مئة بالمئة (المستحب).
3. ما لا ينبغي مئة بالمئة (الحرام).
4. ما لا ينبغي لا على نحو مئة بالمئة (المكروه).
5. يتساوى فعله وتركه من دون رجحان أحدهما على الآخر (المباح).
فالحكمة العمليّة التي يتعلَّق بعضها بالفقه والحقوق، تتكفَّل هذه القضايا التي تُعدّ موادها وجهاتها خمسة، نعم إنّ هذه الموارد الخمسة تتوسّع وتشتمل على مصاديق كثيرة.
سؤال: هل يمكن في الحكمة النّظريّة من حلّ جميع المسائل من خلال كم حكم عقليّ بديهيّ؟ أو هل يمكن حلّ جميع مسائل الحكمة العمليّة من خلال بعض القضايا البديهيّة، كالعدل حسن، والظلم قبيح، أو الصدق مقتضى للحُسن والكذب مقتضى للقبح؟
الجواب: يمكن حلّ كثير من مسائل الحكمة العمليّة في الفقه والأخلاق والحقوق من خلال أدلَّة نقليّة معتبرة، وما يحلّ عن طريق الدّليل العقليّ، لا يبعد أن لا تتجاوز مبادئه التّصديقيّة ثلاثة قضايا أو أربعة، كما أنّ رأس مال الحكمة والكلام والفلسفة يُعدّ كم قضيّة بديهيّة وأوليّة [فقط] كضرورة ثبوت الشيء لنفسه، واستحالة سلب الشيء عن نفسه، واستحالة اجتماع الضدين، واستحالة الدور، واستحالة اجتماع المثلين، حيث إنّها جميعًا ترجع إلى أصل امتناع اجتماع النقيضين، فالإنسان اخترع بهذه القضايا البديهيّة العلوم الكثيرة، حيث تنتهي جميع هذه القضايا البديهيّة إلى قضيّة اجتماع النقيضين البديهيّة.
وبناء على هذا، كما يُستفاد في قضايا الحكمة النظريّة من الأصول البديهيّة والأوليّة، وتتوسَّع دائرة العلم (من خلالها)، فكذلك يمكن في مسائل الحكمة العمليّة من استنباط مسائل كثيرة عن طريق كم قضيّة محدودة ومحصورة، فنحصل على تجارة علوم كثيرة برأس مال محدود.
قلنا إنّ حجيّة الإدراكات العقليّة في الحكمة النظريّة ذاتي، واعتباره لا يثبت عن طريق العقل كما لا يثبت أيضًا عن طريق النقل؛ لأنّ الإثبات عن طريق النّقل يوجب الدور، لأن أساس إثبات النقل يكون عن طريق العقل، لأن العقل هو الذي يقول بوجود الله والوحي والنبوة والإمامة والقيامة، كما يحكم بلزوم الاعتماد على الوحي.
يمكن إثبات حجيّة الإدراكات العقليّة في الحكمة العمليّة عن طريقين:
1. عن طريق التبيين والتنبّه أي أنّ القضايا المطروحة في الحكمة العمليّة تبيّن وينبّه عليها عن طريق التجزئة والتّحليل العقليين.
2. عن طريق النقل أي الآيات القرآنيّة والروايات المعتبرة.
إنّ إثبات حجيّة المدركات العقليّة في الحكمة العمليّة عن طريق النّقل لا يستلزم الدور؛ لأنّ أصل اعتبار النّقل يكون بمساعدة العقل، وقد ثبت ذلك في الحكمة النّظريّة، أي أنّ العقل هو الذي يقول بوجود الله واسمائه الحُسنى، وأنّ أوصاف الحكمة والهداية والإرشاد من صفاته العليا، ولذا فللّه وحيٌ ورسالاتٌ تكون حجّة. بناء على هذا، فلو عدّ الدليل العقلي المعتبر فتوى العقل صحيحةً ومعتبرةً وصائبةً وحجّةً في الأخلاق والفقه والحقوق، فإنّه لا يستلزم الدور؛ لأن المتعلّق متمدّد.
إنّ العقل من أدلّة إثبات الدين ويختلف عن القياس الباطل. والعقل على قسمين: العقل النظري والعقل العملي.
1. العقل النظري: رسالة العقل النظري الجزم العلمي. إنّه يُدرك الأمور البديهيّة والواضحة بداهتها، كما يدرك المدركات النّظريّة غير البديهيّة،
(110)بإرجاعها إلى البديهيات الأوّليّة، ورسالته كما قلنا الجزم العلمي. يوجد دائمًا طريق بين المدركات النّظريّة والبديهيّة، وهذا الطريق معصوم ويُطلق عليه القواعد المنطقيّة والطريق لا يكون خطأ إطلاقًا، ولكن سالك الطريق يكون مثابًا ومصيبًا لو سلك الطريق بالشّكل الصّحيح ووصل إلى المقصد، وإلّا فمخطئ ومعذور.
وكذلك الأمر في النظام العلمي؛ حيث يوجد طريق معصوم بين البديهي والنظري، لا يتطرّق إليه الاختلاف والتخلُّف إطلاقًا، ولكن العالم تارة يسلك الطريق الصّحيح فيصل إلى المقصد وتارة يخطئ.
2. العقل العملي: إنّ رسالة العقل العملي الإيمان والقبول والاعتقاد والتسليم، والعزم العملي في المآل. العقل العملي يقبل كثيرًا من المطالب ويتّجه نحوها. الإنسان من حيث خلقته الأوّليّة مُلمّ بالفجور أو التقوى، ولكن بنيته الأساسيّة تميل نحو التّقوى. إنّه يتعرَّف على الحُسن والقبح، وتعرُّفه عليهما سواسية غير أنّه يميل إلى الحُسن.
يقول القرآن الكريم بهذا الخصوص إنّ الإنسان يعرف الحُسن والقبح على حدٍّ سواء، إنّه يعرف الحُسن جيّدًا ويعرف القبح جيّدًا أيضًا: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشّمس: 8]. ولكن في مقام الاتّجاه لم يكن بالمستوى نفسه بل خُلقت فطرة الإنسان ميَّالةً إلى الفضيلة والإيمان: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الرُّوم: 30]. إنّ مذاق الإنسان يُشخِّص الحلاوة والمرارة معًا، لكن اتّجاهه نحوهما لم يكن على حدٍّ سواء، بل يقبل مجرَّد الحلاوة، ولو اتّجه نحو السيّئات والقبائح فإنّه يكون بسبب العادات والتعليم السيّئ.
وبالاعتماد على هذه المقدّمة، فإنّ الإنسان يعرف الطريق الصّحيح
بعقله ويسلكه، ولكن هناك فرق واضح بين القياس الفقهي والتّمثيل المنطقي والعقل الذي هو دليل الدين؛ لأنّ التّمثيل هو قياس الجزئي مع جزئي آخر والوقوف على حكم جزئيٍّ عن طريق حكمٍ جزئيٍّ آخر، وليس هذا طريق العقل.
بعبارة أخرى: لا يصحّ الاستدلال من الجزئي الى الجزئي الآخر؛ لأنّ لكلّ جزئيٍّ - عدا الجامع المشترك بين أفراده - خصائصه الخاصّة به، وهذه الخصائص الجزئيّة حجاب وحصار تمنع سريان حكمٍ جزئيٍّ إلى جزئيٍّ آخر، لذا قال الأئمة عليهمالسلام إنّ الدين لا يثبت بالقياس، كما قال الإمام الصادق عليهالسلام: «إن السنّة إذا قيست محق الدين» . وقال أيضًا: «إنّ دين الله لا يصاب بالقياس» .
وعليه، فإنّ السرّ الرئيسي في حجيّة دليل العقل وعدم حجيّة دليل القياس، يكمن في أنّ العقل يتعرَّف عن طريق الجامع والكليِّ على جزئيات ذلك الجامع، ولكن القياس التعرُّف من جزئيّ إلى جزئيّ آخر، والحال أنّ الجزئيّ محصورٌ ومحدودٌ ضمن نطاق خصائصه الماهويّة، ولذا لا يسمح بالانتقال من خصوصيّةٍ إلى خصوصيّةٍ أخرى، كما لا يسمح بسريان الحكم المتعلِّق بجزئيّ خاص إلى جزئيٍّ آخر. [إنّ سلب حجيّة القياس قبل أن يُطرح في الفقه، طُرح في فنّ أصول الفقه المتكفِّل للبحث في الحجيّة وعدم الحجيّة، كما أنّه قبل أن يُطرح في فنّ أصول الفقه، طرح في المنطق المتكفِّل للبحث في الحجيّة وأقسامها، من قبيل القياس والتمثيل والاستقراء، وكذلك البحث في سبب حصر الحجيّة في هذه الأقسام الثلاثة. ويرجع تاريخه الواسع إلى قبل الإسلام].
يتمّ تبيين بعض المباني في الأصول بالعقل وبعضها ببناء العقلاء، كمسألة حجية خبر الواحد، ولكن يختلف العقل مع بناء العقلاء.
يُعدّ العقل (البرهان العقلي) من سنخ العلم، ولكن بناء العقلاء فمن سنخ العمل، والمراد من العقل هو البرهان العقلي الذي جوهره من سنخ العلم لا العمل، كما أنّ اعتباره وحجيّته ذاتيّة؛ لأنّه إمّا بيّن وإمّا مبيِّن، ولكن بناء العقلاء هو سيرتهم وعملهم المستمر وجوهره من سنخ العمل لا العلم، وليس له حجيّة واعتبار ذاتي؛ لأنّ ما يصنعه الناس والعقلاء غير معصوم، لذا لا يعدّ دليلًا إثباتيًّا للدين، ولكن ما يفهمه العقل (البرهان العقلي) دليل إثباتيّ للدين.
لذا لو حكم العقلاء بلزوم فعل شيء، وكان سنده العقل البرهاني، كان التّمسّك بهذه السيرة تمسّكًا بالعقل نفسه، وحينئذٍ يكون حجّة لبرهانيته. ولكن لو لم يكن فعل شيءٍ بحكم العقل (البرهان العقلي)، وكان رائجًا بالوقت نفسه بين الناس، لا بد أن يُمضى من قِبل الشّارع وصاحب الدين. فلو أمضيَ من قبل صاحب الدين لدخل تحت السنّة ويكون مشروعًا وإلّا فمردود.
وعلى سبيل المثال، لو سلك الناس في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو الأئمة عليهمالسلام طريقًا في الفنون أو المعاملات والحقوق، وكان رائجًا في زمن أهل بيت العصمة عليهمالسلام، مع عدم مخالفتهم أو مع فعله أيضًا بحيث يصبح ممضى من قبلهم، فلهذا الطريق حجيّة واعتبار؛ لأنّه لو كان باطلًا لأفتى النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو أحد الأئمّة عليهمالسلام ببطلانه، لأنّهم لا يسكتون أمام الباطل إطلاقًا.
وبعبارة أخرى، إنّ بناء العقلاء حجّة فيما لو وقع تحت نظر المعصومين عليهمالسلام من دون ردعهم؛ لأنّ عدم ردع المعصوم - ولو كان
(113)سكوتًا دليلٌ على رضاه، وما كان مرضيًّا لدى المعصوم مرضيًّا عند الله أيضًا، وحينئذٍ يكون بناء العقلاء هذا حجّةً لصدق عنوان السّنّة عليه.
وبعبارة ثالثة، إنّ أوّل دليلٍ إثباتيّ للدين هو القرآن، والثاني السّنّة، والسّنّة أعمّ من قول المعصوم وفعله وتقريره، وما كان منتسبًا إلى العصمة يكون دليلًا إثباتيًّا للدين، أي أنّ سكوت المعصوم كاشفٌ عن الدين لأنّه مقبولٌ لدى صاحب الشريعة، وعليه فبناء العقلاء المرضيّ لدى الشارع، يقع تحت مجموعة السّنّة، ولكن يُعدّ العقل (البرهان العقلي) دليلًا مستقلًّا للدين في قبالة السّنّة.
تُبحث مسألة حجيّة العقل في علم الكلام ضمن مباحث الحُسن والقبح العقليين. والآراء الكلاميّة حول حجيّة العقل تكون:
1. هناك من ينفي دور العقل - كبعض الأشاعرة- في سوق الاحتجاج، ويقول بعد نفيه لأيّ ابتكار وتجديد للعقل، ولأيّ حُسن وقبح عقليّ: إنّ العقل لا يدرك حُسن أيّ شيءٍ وقبحه. وما أمر به الشارع المقدّس حَسَنٌ وما نهى عنه قبيح
. ويكون العقل عند الأشاعرة مستمعًا جيّدًا ولم يكن متكلّمًا وليس له قدرة بيان أي شيء بنفسه.2. وهناك من يعطي سهمًا للعقل في الاحتجاج، لكن يجعلونه تحت السنّة.
3. والبعض الآخر - كالمحقّقين من الإماميّة - يعطي الاستقلال للعقل (البرهان العقلي) ويجعل له كرسي الإفتاء.
توجد ثلاث مراحل في مسألة الحُسن والقبح لا بد أن تُبحث تباعًا:
1. لو كان الحُسن والقبح ذاتيين في الأشياء ثبوتًا، فهل يوجد طريق لإثباته وإدراكه؟
2. لو ثبت أنّ العقل يُدرك ما هو الحسن وما هو القبيح، فهل تكون نتيجة حكم العقل المدح والذم في الدنيا، أو يترتّب عليها الثواب والعقاب الأخروي؟
3. يوجد خلاف في كلّ هذه الموارد الثلاثة. وقد ذهب محقِّقوا الإماميّة إلى أنّ الحُسن والقبح ذاتيان للأشياء في بعض الموارد، ولو كان الحُسن والقبح ذاتيين لأدركهما العقل بالضرورة. إنّهم يقولون: كما يترتّب على ذلك المدح والذم الدنيوي، يترتب عليه أيضًا الثواب والعقاب الأخروي، وعندما يدرك العقل الثواب والعقاب عن طريق حُسن شيءٍ أو قبحه، سيكون هكذا عقل دليل إثبات الدين لا محالة.
قالت الأشاعرة بعد تحرير محلّ النزاع: للحُسن والقبح ثلاثة محاور: اثنان منها مقبولة وخارجة من محلّ النّزاع، ويبقى محور واحد محلّ النزاع، والمحاور الثلاثة هي:
1. الحُسن بمعنى الملائم للإنسان، كما أنّ المنظر الجميل للحي، جميل وحَسَن وملائم، أو أنّ الطعام الجيّد حَسَن للأمعاء وملائم للذائقة وجميل، وعليه فكلّ ما يتلاءم مع قوّةٍ من القوى الظاهريّة أو الباطنيّة حَسَن، وكل ما لا يتلاءم معها قبيح، وهذا المعنى للحُسن والقبح متّفق عليه عند الجميع، غير أنّه خارجٌ من محلّ النّزاع.
2. الحُسن والقبح بمعنى الكمال والنقص، كالعلم فإنّه حَسَنٌ أي كمال، والجهل قبيح أي نقص، أو القوّة حَسنة والعجز قبيح، هذا المعنى للحسن والقبح متّفق عليه بين الجميع أيضاً، وخارج من محلّ البحث.
3. الحُسن والقبح مورد النزاع، هو أنّ العقل هل يمكنه الإفتاء بخصوص أعمال الإنسان والقول بأنّ العمل الكذائي حسن أو قبيح؟ فهنا لم يكن الكلام عن الأشياء أو الأشخاص، بل يقع الكلام حول الأفعال وعناوينها. تقول الأشاعرة إنّ العقل لا يُدرك هذا النّوع من الحُسن والقبح، وهو متروك للشارع. فلو أمر الشارع المقدّس بشيء، يكشف عن الحسن المأمور به، ولو نهى عن شيء، نعلم أنّ المنهيّ عنه قبيح. وهم قد جعلوا العقل ذيل السنّة؛ لأنّ العقل حينئذٍ يكشف عن أمر الشارع ونهيه، ولم يكن مبدعًا.
وبناء على هذا، بما أنّ إنكار الحُسن والقبح هذا، يسدّ باب تفسير الأحكام والأخلاق والحقوق، لم ينكر الأشاعرة الحُسن والقبح كليًّا، بل قالوا: إنّ العقل يدرك الحُسن والقبح بمعنى الكمال والنقص والملائم المنفّر، كما يدرك مدح من يفعل العمل الحَسَن (كالعدل) وقدح من يفعل العمل القبيح كالظلم، غير أنّهم لم يصلوا إلى القول بأنّ ما أفتى العقل بحُسنه أو قبحه، يقبله النّقل أيضًا ويترتّب عليه الثواب والعقاب، بحيث يوجب فعله الجنّة أو النار.
إنّ إنكار الحُسن والقبح العقلي، يستلزم عجز الدين عن تلبية جميع توقّعات الإنسان، أي أنّ الدين يتمكّن من البحث في القيم فقط، من دون أن يكون له برنامج في العلوم والإدارة. القائلون بالحُسن والقبح يقولون: كما أنّ الله أشعل مصباح الوحي والنّبوّة من الخارج، استحدث رسالة
(116)و«نبوة» أخرى في داخل كلّ إنسان سليم الفطرة وهو العقل. وهذا العقل هو مخلوق من مخلوقات الله، ومصباح إلهيّ يستفيد منه كلّ من لم يطفئه، وإلّا كان مصداقًا لقوله: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشّمس: 10].
إنّ العقل البرهانيّ هو الذي يشخِّص الأعمال الحسنة والسيّئة. وذلك أنّ أفعال الإنسان تنقسم - من وجهة نظرٍ خاصّة - إلى ثلاثة أقسام:
1. ما تكون علّة تامّة للحُسن والقبح. بعبارة أخرى، العناوين التي تكون سببًا تامًّا للحسن والقبح ذاتًا. كالعدل والظلم، فكلّ ما صدق عليه العدل والقسط والإنصاف والإحسان حَسَنٌ، وكلّ ما صدق عليه الظلم والتّعدِّي والعدوان والطغيان قبيحٌ.
وليعلم أنّ أيّ فعل خاصّ بعنوانه الخاص - كإنقاذ الغريق أو المحروق - لم يكن حسنًا ذاتًا بحيث لا يتغيّر بالطوارئ والعوارض، كما أنّ أيّ فعلٍ خاصّ بعنوانه الخاص - كالقتل - لم يكن قبيحًا ذاتًا بحيث لا يتغيّر بالطوارئ والعوارض.
2. الأفعال التي تقتضي الحسن أو القبح، وباقتضائها يكشف العقل الحسن والقبح كالصّدق أو الكذب، أي الصدق فعلٌ حَسَنٌ ولكن ليس في جميع الموارد يجب أن يكون الإنسان صادقًا، وعلى سبيل المثال إذا كان المؤمن في خطر، لا ينبغي الصدق هنا، ومعنى المثال: «الكذب عن مصلحة أفضل من الصدق الذي يوجب الفتنة»، هو هذا. وفي الواقع فإنّ هذا المورد من باب تقديم الإصلاح على الإفساد، فالصدق - بحسب الاقتضاء - حسن دائمًا لا على نحو السببيّة التّامّة، والكذب - بحسب الاقتضاء - قبيح، لا على نحو العلّة التّامّة.
3. الأفعال والعناوين التي لا تقتضي القبح ولا الحُسن، بل تُعدّ من المباحات، كالقيام والقعود العاديين حيث إنّهما ضمن المباحات وليس
لهما عنوان خاص، إلّا إذا كانت مقرونة بعناوين أخرى.
تقول الإماميّة إنّ العقل يدرك كلّ هذه الأفعال الثلاثة، كما يدركها أيضًا مستقلّة، وعندما يحكم العقل على نحو الاستقلال لم يكن ذيل السنّة، وإن ساعدته السنة، بمعنى أنّ هذه الموارد تقع ذيل الشرع الإلهي وتكشف عن حكمه، غير أنّها لا تكشف عن السنّة - أي الأعم من قول المعصوم وفعله وتقريره - كالإجماع. ويوجد فرقٌ عميقٌ بين القول بأنّ العقل يكشف رأي المعصوم، والقول بأنّه يكشف حكم الله؛ إذ بناء على مبنى الكشف عن حكم الله، يكون العقل دليلًا مستقلًّا للدين كسنّة المعصومين والقرآن، ولكن بناء على مبنى الكشف عن رأي المعصوم، يكون العقل من أقسام السنة، أي يكون العقل على الفرض الأول قسِيم السّنّة، وعلى الفرض الثاني قِسم السّنّة.
هناك من ينكر الحُسن والقبح العقليين كالأشاعرة، وهناك من يقول بإدراك العقل للحسن والقبح في حدود الأعمال الاجتماعيّة ولوازمها وآثارها فقط، أي يحكم العقل بمدح المجتمع لمن يفعل الأعمال الحسنة؛ لأنّ فاعل الحسنات يستحقّ المدح والثّناء، وإذا فعل الأعمال القبيحة يذمّه المجتمع. فالعقل يفتي في حدود مدح المجتمع وذمّه لا في حدود الثّواب والجنّة أو العقاب والنار. كما أنّ العقل لا يهتم بمستحقّي الجنّة أو النار. فلهذا العقل القدرة على تنظيم الأمور الاجتماعيّة، ولم يقدر على الجلوس على كرسيّ الكلام والفقه والإفتاء وتعيين الثّواب والعقاب الأخرويين. فمن يزعم هكذا يُخرج العقل من أدلّة الدين الإثباتيّة في مباحث أصول الفقه.
وهناك قسم آخر يقولون - وكلامهم حق - إنّ العقل لا يدرك مجرّد الحُسن والقبح وأقسامهما ومدح المجتمع، بل يُدرك استحقاق الثّواب والعقاب أيضًا، أي أنّ العقل يقول - من دون أن ينتظر الدليل النقلي -
(118)باستحقاق الجنّة لمن عمل الفعل الحَسَن الكذائي، ويقول باستحقاق النّار لمن عمل الفعل القبيح الكذائي، وعلى سبيل المثال يحكم العقل بقبح الخيانة في الأمانة، وأنّ الخائن يستحقّ النار، كما يحكم مستقلًّا بقبح الفتنة واستحقاق مرتكبها العذاب يوم القيامة.
العقل الذي يدرك الثواب والعقاب، يُعدّ دليلًا إثباتيًّا للدين، وهو الذي يحكم بوجوب مقدّمات الواجب، أو يقول للمدراء والساسة بوجوب تأمين مستلزمات المجتمع وتأمين الاقتصاد وتهيئة فرص العمل للناس، ولو ثبت بعد الفحص بلزوم الاهتمام بالزراعة والصناعة لتأمين حوائج عامة الناس، وجب الاهتمام بهما بحكم العقل من باب مقدّمة الواجب.
إنّ مجرّد فهم هذه المسألة التخصيصيّة، تُوجب الإلزام بحكم العقل، وتجب مراعاتها، وبالاستناد على الحجيّة العقليّة هذه، سوف يحتجّ الله يوم القيامة على المكلفين - أعم من الساسة وآحاد الناس - في تركهم لذلك الفعل الواجب، ولا يقبل تبرير عدم وجود رواية أو آية بذلك الخصوص؛ لأنّ الله يحتجّ بحجيّة العقل ووجوده، نعم إنّ حجيّة العقل في المسائل الأصوليّة والكلاميّة، تعتمد على البرهان العقلي والقطع المنطقي، كما أنّها تعتمد على حصول الإطمئنان في المسائل التجريبيّة والعادية والحرفيّة.
تذكرة: إنّ العقل يدرك بعض الأمور على نحو الاستقلال، كما يشخِّص ترتب الثواب والعقاب واستحقاق الجنّة والنار من خلال فهم الرّوابط القائمة بينها، بمعنى أنّ لأفعال الإنسان وأعماله جذورًا تكوينيّة، كما أنّ الجنّة والنّار أمورٌ تكوينيّةٌ وحقيقيّةٌ، وهي في الواقع باطن الأعمال، هذا أوّلًا. وثانيًا، بما أنّ العقل يدرك الأمور الحقيقيّة والرّوابط القائمة بينها، يحكم باستحقاق بعض الأعمال للثواب والجنّة أو العقاب والنار. وبعبارة أخرى، إنّ الأعمال ومبادئها من الأمور التكوينيّة والحقيقيّة، تعود إلى الجنّة والنّار اللتان من التكوينيات أيضًا.
(119)مع لحاظ الارتباط بين عالم التكوين والتشريع ، يكون عقل الإنسان الكامل حلقة اتّصال ورابط بين التكوين والتشريع ، وأنّ لإدراك هذه المسألة دورًا بارزًا في مباحث النّبوّة وكيفيّة تلقّي الوحي.
بيان ذلك: إنّ للموجودات، في نظام التكوين وفي قوسي النزول والصعود، أربعة محاور:
1.الوجود الطبيعي.
2. الوجود المثالي.
3. الوجود العقلي.
4. الوجود الإلهي المبتني على نظريّة «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء».
يعتمد ترقّي الموجودات في قوس الصّعود على الحركة الجوهريّة من عالم الطبيعة إلى عالم المثال، ومن هناك إلى نشأة العقل حتى الوصول إلى لقاء الله. وكذلك لو أراد موجود التنزُّل في قوس النزول، يتلبّس التّجلِّي الإلهي في صورة نشأة العقل، ومن هناك إلى عالم المثال، ومنه يتنزَّل إلى عالم الطبيعة.
ومن هذا الوجه، وبالاعتماد على قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحِجر: 21]. فإنّ جميع الأمور تتنزَّل من الخزانة الإلهيّة، حتى المطر فله هذا السّير النزولي، حيث يتنزَّل من عالم العقل إلى عالم الطبيعة، وإن كانت جميع مراحل تكوّنه كالغيم وغيرها وجودات طبيعيّة.
كما أنّ الحلم لو أراد أن يتنزَّل، بما أنّ له وجودًا تكوينيًّا، فإنّه يتنزَّل من النشأة العقليّة إلى النشأة المثاليّة ومنها إلى عالم الطبيعة؛ لأنّ الحقيقة
التي تشعّ على روح الإنسان ويُدرك الإنسان من خلالها، لها وجود خارجيّ في الواقع ومحلّها في روح الإنسان.
وبناء على هذا، فإنّ العلم الذي يتنزَّل على النّبيّ على صورة الوحي، لو أراد أن يندرج في النشأة الطبيعيّة، لا بد أن يُبيِّن على نحو الألفاظ، ونشأة الألفاظ نشأة اعتباريّة، وعليه فذلك الموجود الحقيقي يتنزَّل في قالب الاعتبار ضمن حيلة فنّيّة.
ربّما يُتساءل ويقال: ما هو الرابط بين التكوين والاعتبار، عندما يتنزّل الموجود الحقيقي في قالب الألفاظ الاعتباريّة، وفي أي مكانٍ يتنزَّل الأمر الحقيقي في قالب الأمر الاعتباري؟
نقول في الجواب: ينحلّ هذا الإشكال مع وجود الإنسان الكامل والكون الجامع؛ لأنّ الإنسان خليطٌ من الطبيعة وما فوق الطبيعة، وتلفيق من التكوين والاعتبار، وفي ظلّ هذا الخليط وحدوده، يندمج التكوين والاعتبار، كما تندمج الطبيعة وما فوق الطبيعة، وما ينمِّي هذا الخليط في حدود التكوين، هو اليد الغيبية (الله)، كما أنّ ما ينمِّيه في حدود الاعتبار هو نفس تلك اليد الغيبيّة (أي الله).
بناء على هذا، فإنّ في تنزُّل حقيقة الوحي إلى نشأة العقل، لم يقم النّبيّ بتنسيق ألفاظ الوحي، بل إنّه يتلقّى الألفاظ والمعاني سويّة من المبدأ، فنشأة تكوينه واعتباره كلاهما بيد الله الذي يوصف بــ «كلتا يدي الرحمن يمين»صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضًا تلك الحقيقة التكوينيّة في قالب الألفاظ الاعتباريّة.
. إنّ نشأة اعتبار الإنسان، مظهرٌ من مظاهر الله، وحينئذٍ تتناسق نشأته الاعتبارية مع التجلِّي التكويني الإلهي، وتظهر تلك الحقيقة العينيّة في قالب الاعتبار، ويسمع النبيإنّ الإنسان لم يمكث فقط في نشأة الاعتبار أو نشأة التكوين المحضة، بل إنّه خليطٌ يجمع بينهما، فمن جهة له علم بالاعتبار، ويدرك حسن الأشياء والأفعال وقبحها، ومن جهة أخرى له علم بالتكوين وحقيقة المستقبل، ويعلم أنّ مآل الأعمال الحسنة والقبيحة الجنّة أو النار، لذا يفتي بالوجوب أو الحرمة.
وهذا التحليل يكشف تناغم العقل والنقل، وإذا اختلف ظاهر الدليل النقلي مع الدليل العقلي المبرهن في مورد، يكون حينئذٍ الدليل العقلي بمثابة الدليل اللّبّي المتّصل أو المنفصل، ويمكن التصرُّف في ظاهر النقل على ضوئه، كما أنّ الدليل النقلي القطعي، يُقدّم على الدليل العقلي غير القطعي.
نعم إنّ افتراض تعارض الدليل العقلي القطعي- لو صحّ - سيكون كتعارض الدليلين العقليين القطعيين، أو كتعارض الدليلين النقليين القطعيين، ولكن هذا النّوع من التعارض يكون ابتدائيًّا أو نهائيًّا ومستقرًّا، وينحلّ بعد التأمُّل.
قلنا إنّ الحُسن والقبح ذاتيان للأشياء والأفعال، والمراد هو الذاتي في باب البرهان لا الذاتي في باب الإيساغوجي والكليات الخمس، بيان ذلك: تطرح مسألة الذاتي في علم المنطق في مكانين: الذاتي في الكليات الخمس والذي يقابل العرضي ومصداقه الجنس والفصل والنوع. والذاتي في باب البرهان يعني انّ المحمول من عوارض الموضوع الذاتيّة، سواء في الحكمة النظرية أو الحكمة العمليّة، مع فارق أنّ في الحكمة النّظريّة يعود سنخ المحمول والموضوع إلى الوجود والعدم، وفي الحكمة العمليّة إلى ما ينبغي وما لا ينبغي.
(122)وعلى سبيل المثال، في قضيّة «الإنسان ممكن بالإمكان الماهوي» أو قضية «وجود الإنسان ممكن بالإمكان الفقري»؛ حيث ينتزع المحمول من الموضوع ويُحمل عليه، تكون ذاتيّة إمكان الإنسان من باب الذاتي في باب البرهان، كما أنّ في قضايا «العدل حسنٌ» و«الظلم قبيحٌ» يكون هذا الحُسن والقبح ذاتيًّا، ولكن لا طريق للذاتي من باب البرهان في الحكمة العمليّة، بل المقصود هو الذاتي بالنسبة إلى الآراء المحمودة (لا الذاتي المنطقي) بمعنى أنّه من القضايا المقبولة والمتسالم عليها.
وليعلم أنّ قضيّة «العدل حسن» أو «الظلم قبيح» لم تكن على نحو قضيّة «الإنسان إنسان». بحيث لا تفيد؛ لانّ المحمول فيه عين الموضوع، بل المحمول فيها من العوارض التحليية للموضوع، وحينئذٍ تكون مفيدة لأنّه [أي المحمول] لازم للموضوع لا عينه.
يقول منكروا الحسن والقبح: الدّليل على عدم إدراك العقل لحسن الأشياء وقبحها، هو اختلاف العقلاء وأصحاب النّظر؛ لأنّ الحُسن والقبح لو كانا ذاتيين للأشياء، ما كان يقع الخلاف في حسن الأفعال وقبحها كالصدق والكذب والقتل والضرب، ولكن يوجد اختلاف، فليس للعقل قدرة الإدراك.
ولكنّ هذا الدليل مردودٌ؛ لوجود الاختلاف في كثير من المسائل غير البديهيّة، حتى في وجود المبدأ للعالم، والتوحيد الإلهي، وصفاته، يوجد خلافٌ، ومن المستبعد جدًّا عدم وجود خلاف في المسائل العلميّة المؤثِّرة [والهامّة]. نعم لا يوجد خلاف في البديهيات الأوليّة، ولكن هذه البديهيات من قبيل «ثبوت الشيء لنفسه ضروري» و«سلب الشيء عن نفسه محال» غير نافعة. وبعبارة أخرى، إنّ استدلال منكري الحُسن والقبح العقليين - لو
(123)صحّ - يثبت مجرد عدم كون الحسن والقبح من القضايا البديهيّة، لا أنّ العقل لا يتمكّن من إدراكها.
وبناء على هذا، كما أنّ العقل يدرك مسائل الحكمة النظرية المختلفة، يدرك كذلك مسائل الحكمة العمليّة المختلف فيها كالحُسن والقبح.
فيما يلي نشير إلى بعض أدلّة القائلين بالحُسن والقبح العقليين:
1. شهادة الوجدان: إنّ الإنسان يُدرك بوجدانه وبشكلٍ واضحٍ، حسن بعض الأفعال وقبحها، جمال بعضها وبشاعتها مع قطع النّظر عن الدليل النقلي أو ملاءمتها مع الأغراض الشخصيّة والأهواء النّفسيّة أو عدم ملاءمتها، من قبيل أنّ الإنسان وجد بعض الأفعال حسنة كالعدل والإحسان ويمدح فاعلهما، وكما وجد بعض الأفعال قبيحة كالظلم والخيانة ويذمّ فاعلهما.
شهادة الوجدان هذه دليلٌ واضحٌ على أنّ قبح بعض الأعمال وحُسنها نتيجة لوجود العقل المشترك بين أفراد الإنسان، وهي ميزةٌ من مميّزات النّوع الإنساني، وليست جرَّاء الموافقة أو عدم الموافقة لأهواء الإنسان وميوله.
2. التّلازم بين إنكار الحُسن والقبح وإنكار الشرع: لو اعتمد حسن الأفعال وقبحها على طريق النّقل وإخبار الأنبياء فقط، لا يمكن الحكم بحسن أيّ فعل وقبحه؛ لأنّ النّبيّ حينما يخبر عن قبح الكذب وحُسن الصدق، يُحتمل أن يكون كاذبًا في هذا الكلام. بعبارة أخرى، لو لم يتمكّن العقل من إدراك حسن الأشياء وقبحها بشكلٍ مستقلٍّ، لانتفى الحسن والقبح بشكلٍ مطلقٍ، حتى الحُسن والقبح النقليين؛ لأنّ اللّازم باطل فالملزوم مثله.
(124)3. عدم إمكان إثبات الشرائع مع إنكار الحُسن والقبح: القائلون بالحسن والقبح العقليين يقولون: لو اعتقدنا بنظريّة الحُسن والقبح العقليين، لا يواجهنا أي إشكال في مسألة النبوة والشرائع الإلهيّة؛ لأنّ العقل يحكم بصراحة وبشكلٍ قاطعٍ بتنزّه الله عن ارتكاب أيّ قبيح، ومن تلك القبائح أن يعطي الله القدرة على المعاجز للكاذب. فالعقل يحكم بصدق الأنبياء وكونهم هداة الإنسانيّة بدليل اتيانهم بالمعاجز. وبهذا الاستدلال يتمّ قبول النبوّة والشّرائع من قبل الإنسان، ولكن لو أنكرنا الحسن والقبح العقليين، لا يمكننا إثبات صدق النّبيّ في دعوى النّبوّة.
ورد الكلام كثيرًا في القرآن والروايات عن العقل والتعقّل، ففي الجوامع الروائيّة ذكر الكليني رحمه الله في كتاب الكافي الباب الأول روايات حول العقل في باب العقل والجهل. كما أنّ المجلسي رحمه الله قد خصّص الجزء الأول - من مجموعته المئة وعشرة جزءًا من بحار الأنوار - لهذا الموضوع. والمهم معرفة زمان دخول العقل في حيطة الاستنباط والاجتهاد. وأي عقل حجّة شرعًا وملاك للحجيّة؟
وقد طُرحت مسألة حجيّة العقل واعتباره بعنوان دليل من أدلّة ثبوت الأحكام الشرعيّة، منذ زمن قديم بين الفقهاء وعلماء الشيعة، من دون إمكان تحديد الفترة الزمنيّة الدّقيقة للمراحل الأولى المتعلّقة بدخول العقل في حيِّز الاستنباط.
ويُعدّ صاحب كتاب السرائر ابن ادريس الحلي (ت 598) أوّل عالم أصوليّ صرّح بالدّليل العقلي، فإنّه يقول:
«فإنّ الحق لا يعدو أربع طرق، إمّا كتاب الله سبحانه، أو سنّة رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم المتواترة المتّفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل. فإذا فقدت
الثلاثة - يعني الكتاب والسنّة والإجماع - فالمعتمد في المسائل الشرعيّة عند المحققين الباحثين عن مآخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها، فإنها ملقاة عليه وموكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل الى العلم بجميع الأحكام الشرعيّة في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها والتّمسّك بها».
ثم يأتي المحقّق الحلي رحمه الله (ت 676) صاحب كتاب الشرائع، ويقول في الفصل الثالث من كتاب المعتبر حول العقل وحجّيته:
«مستند الأحكام وهي عندنا خمسة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل والاستصحاب..، وأمّا دليل العقل فقسمان: أحدهما ما يتوقّف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: الأول لحن الخطاب.. والثاني فحوى الخطاب.. والثالث دليل الخطاب وهو تعليق الحكم على أحد وصفي الحقيقة..، والقسم الثاني: ما ينفرد العقل بالدلالة عليه، وهو إمّا وجوب كردّ الوديعة أو قبحٌ، كالظلم والكذب أو حسن كالإنصاف والصدق، ثم كل واحد من هذه كما يكون ضروريًّا فقد يكون كسبيًّا، كردّ الوديعة مع الضرورة، وقبح الكذب مع النفع».
ثم بعده الشهيد الأوّل (ت 786) في كتاب ذكرى الشيعة، وهو أيضًا كالمحقّق الحلّي رحمه الله يجعل دليل العقل على قسمين: قسم متوقّف على الخطاب، وقسم غير متوقّف عليه. فالدّليل العقلي غير المتوقّف على الخطاب خمسة أقسام: الأوّل ما يُستفاد من قضيّة العقل وحكمه كوجوب قضاء الدَّين، وردّ الأمانة، وحرمة الظلم، واستحباب الإحسان. الثاني: التّمسّك بالبراءة عند فقدان الدليل.. أما ما لا يكون العقل فيه مستقلًّا، ويكون متوقّفًا على الخطاب الشّرعي فستّة أقسام:
1. مقدمة الواجب.
2. الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه.
3. فحوى الخطاب.
4. لحن الخطاب.
5. دليل الخطاب.
6. أصالة الإباحة في المنافع، وأصالة الحرمة في المضار
.ما ذكره المحقّق والشّهيد رحمهما الله يدلّ على عدم بلورة قضيّة الدّليل العقلي في عصرهما، لذا بيَّنا الدليل العقلي بحيث يشتمل الظواهر اللفظيّة تارة أو لحن الخطاب (دلالة القرينة العقليّة على حذف اللفظ) أو فحوى الخطاب (المفهوم الموافق) أو دليل الخطاب (المفهوم المخالف).
كما أنّهما جعلا الاستصحاب من أقسام الدليل العقلي، في حين أنّه دليلٌ منفصلٌ وأصلٌ مستقلّ، والحقّ أنّ أساس الاستصحاب هو الدليل النقلي لا العقلي، وإن لم يكن البرهان العقلي على خلافه، كما لم يردّه بناء العقلاء.
أمّا المتأخّرون من الفقهاء والأصوليين، كالمحقّق القمي (ت 1231) صاحب القوانين، والعلّامة السيد محسن الكاظمي في كتاب المحصول، وتلميذه صاحب الحاشية على المعالم، والمرحوم الشيخ محمد تقي الأصفهاني، فقد بحثوا الدّليل العقليّ بالتّفصيل، كما أنّ بعض العظماء كالشّيخ الأنصاري رحمه الله، والأخوند الخراساني رحمه الله صاحب كفاية الأصول وغيرهما من علماء الأصول، لم يبحثوا عن العقل والدليل العقلي بشكلٍ تفصيليٍّ.
إنّ أصول الفقه هو المتكفِّل للبحث في العقل، غير أنّه لم يُبحث بالمقدار الكافي في أصول الفقه حول العقل والبرهان العقلي في موارد لزوم القطع المنطقي، وكذلك التجربة العلميّة في موارد كفاية الاطمئنان (الظنّ المطلق)، بل بُحث بشكلٍ قليل عن حجيّة القطع الذاتيّة، وقليلاً عن مسألة اعتبار أو عدم اعتبار القطع النفسي (قطع القطّاع). والحال أنّه يلزم على الأصول إثبات كون الكتاب والسنة والإجماع والعقل من أدلّة إثبات الدين، ولكن بُحث في هذا العلم عن الإجماع والسنة بشكلٍ مبسوط، وعن القرآن بشكلٍ أقل، وعن العقل أقلّ القليل.
وكان ينبغي لعلماء الأصول البحث عن: ما هو العقل؟ ما هو العقل الذي يكون دليلًا إثباتيًّا للدين؟ ما هي أنواع العقل؟ ما هي القواعد العقليّة الداخلة في أدلّة الدين؟ ما هي موارد إفتاء العقل، ما هي الموارد التي يكون العقل فيها رسولًا جيّدًا، أو مستمعًا جيّدًا؟ وإذا كان العقل مدركًا ما هي كيفية إدراكه؟
ولكنّهم اشتغلوا بالبحث عن المفهوم الموافق والمفهوم المخالف، وقسّموه إلى لحن الخطاب ودليل الخطاب، وهي ترجع إلى الدليل اللفظي أجمع. إنّها استماع العقل وإدراكه عن الدليل اللفظي، وهو صوت الشرع والنقل يُسمع من خلال لسان العقل، والحال أنّ العقل - طبقًا للبرهان الخاص - يكون دليلًا لإثبات الدين فيما لو كشف حكم الله.
وعلى كلّ حال، فقد بُحث في الأصول عن القطع واليقين النّفسي، أي إذا أيقن شخصٌ بشيءٍ فالحجّة قائمة عليه، سواء أكان لقطعة مبنًى منطقيّ أم نفسيّ. وفي الأصول يبحثون عن الاحتجاج وتأمين الحجّة، لذا يكتفون بحصول القطع وإن كان نفسانيًّا، وإن لم يتمكّن القاطع من التّبيين
(128)المنطقي ليقينه، غير أنّه لم يرد كلامٌ رسميٌّ عن القطع المعرفيّ والمنطقيّ رغم أهمّيته.
تذكرة: لتبيين رسالة العقل الرئيسيّة، لا بد لعلم الأصول من البحث في مرحلتين:
1. تعريف العقل بعنوان دليل مستقل لإثبات الدين، لا أن يكون رسولًا أو مستمعًا أو مخاطبًا.
2. يلزم أن يكون القطع العقلي قطعًا منطقيًّا لا قطعًا نفسانيًّا، كي يمكن تبيينه بشكلٍ منهجيٍّ.
إنّ تقسيم العقل إلى عقلٍ دينيٍّ وعقلٍ فلسفيٍّ، وجعل هكذا إصطلاح صحيح؛ لأنّ العقل يُطلق عادة على القوّة المدركة، فإنّه يدرك تارة ما يتعلّق بالوجود والعدم - أي نطاق الحكمة النظريّة - ويدرك تارة ما ينبغي وما لا ينبغي - أي نطاق الحكمة العمليّة - بمعنى أنّ إدراك جميع مسائل الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة ملقاة على عاتق العقل.
ولكن، كان نطاق إدراك العقل مسائل الدين الجوّانيّة، كالمسائل الأخلاقيّة، والسياسيّة، والحقوقيّة، أو المعارف الإلهيّة - الأمور التي جاء بها الأنبياء كهداية ملكوتيّة ما قبل إنسانيّة - فيمكن تسمية العقل بالديني، أو بعبارة أصح العقل الذي يُدرك الأمور النّقليّة بشكلٍ جيّدٍ، في قبال العقل الذي يُدرك الحقائق العينيّة.
وبناء على هذا، فإن جعل الإصطلاح متاح للجميع، ولا مانع من التعبير بالعقل الديني والفلسفي، ولكن وظيفة العقل النّظري، إدراك الوجود والعدم وما ينبغي وما لا ينبغي؛ لأنّ محتوى النّقل: إمّا هو المعارف والوجودات والأعدام، أو هو ما ينبغي وما لا ينبغي.
(129)وهذا التقسيم كان رائجًا في الماضي، حيث يقسّمون العقل إلى نظريّ وعمليّ، وكان لهما اصطلاحات تمّ الحديث عنها. ولو جعلنا العقل العمليّ هو القوّة المحركة للنفس، والتي تتكفّل جميع أعمال النّفس العمليّة كالعزم والإرادة والتّصميم والإخلاص والمحبّة...، كان أولى، كما أنّ الاصطلاح الثاني للعقل العملي هو هذا.
إذا كان العقل الفلسفيّ الاصطلاحي، يعني استنتاج المسائل النظريّة من البديهيات، وتبيين غير المبيّن - كما هو المستعمل في المنطق والفلسفة - فإنّه يمكن استخدامه في متنون الدين النّقليّة؛ لأنّ القرآن أظهر قداسة العقل بطرقٍ مختلفةٍ، وأقام براهين عقليّة وأقام عليها الحجج.
الموارد التي تمّ ذكرها بالبرهان العقلي قد تكون مصحوبةً باسم العقل والتّعقّل وأمثالهما، وقد لا تكون مصحوبة، ونشير فيما يلي إلى ثلاثة موارد:
1. يقول الله تعالى في القرآن: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطُّور: 35]. فالآية تدل على أنّ الإنسان لم يخلق صدفةً، بل له خالق، لاستحالة الفعل من دون الفاعل عقلًا. فالفاعل إمّا هم أنفسهم وإما مثلهم أو ولا واحد منهما، بل الفاعل هو الله سبحانه.
فهذا الاستدلال عقليّ، والمقصود من الشيء في الآية هو المبدأ الفاعلي لا المبدأ القابلي؛ لأنّ إنكار المبدأ القابلي ليس له ضرر عقديّ - كما أنّ الإقرار به لا ينفع أيضًا - بل الذي يؤثّر عقديًّا قبول أو رفض المبدأ الفاعلي، ويدور استدلال القرآن حول إثباته ولزوم قبوله، كما أنّ نزاع الموحّد والملحد لم يكن حول قبول أو رفض المبدأ القابلي، ولم يُكلّف زعماء الدين بهداية الملحدين أو المنكرين نحو المبدأ القابلي.
وعليه، فمعنى الآية الكريمة هكذا: أليس لهم مبدأ فاعلي، وهل خُلقوا من دون فاعل؟ والحال أنّ الفعل من دون الفاعل يكون صدفةً وترجيحًا بلا مرجّح، وحصول الصدفة محال في العالم، بل لكلّ فعل فاعل يخلقه. ففي هذه الصورة نقول: هل فاعل الموجودات هم أنفسهم؟ أو خلقهم غيرهم؟ ففي الصورة الأولى يلزم الدور والدور - أعم من المضمر والمصرّح - محال. وعلى الثاني يلزم التسلسل، وهو محال أيضًا. وعليه، بالاستناد على هذه الآية:
1. تكون الصدفة محالًا.
2. إثبات ضرورة المبدأ الفاعلي.
3. بطلان الدور الصريح والمضمر، وبطلان التسلسل أيضًا. فالقرآن وإن لم يستخدم كلمة العقل في هذه الآية، لكنّه بيَّن الغرض بالبرهان العقلي، وبعبارة أخرى إنّ بيانه عقليّ.
كما أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام، تكلّم في نهج البلاغة أيضًا طبقًا للبراهين العقليّة، وإن لم يذكر اسم العقل: «كل قائم في سواه معلول» . أي كلّ موجود لم يتّكئ على نفسه ووجوده لم يكن صِرفًا وعين ذاته، بل إنّه معلولٌ وكلّ معلول يطلب علّة، وورد نحو هذا الكلام النوراني عن الإمام الرضا عليهالسلام أيضًا .
وورد أيضًا في نهج البلاغة، نحو ما ورد من استدلال حول ضرورة المبدأ الفاعلي في القرآن، قال أمير المؤمنين عليهالسلام:
«فالويل لمن أنكر المقدّر، وجَحد المدبر، زعموا أنّهم كالنبات ما
لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، ولم يلجئوا إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق لما أوعوا، وهل يكون بناء من غير بانٍ، أو جناية من غير جان».
يقول أمير المؤمنين عليهالسلام في هذا البيان النوراني: ويل لمن ينكر المبدأ الفاعلي للموجود الإمكاني، أي لم يحدث أي فعل من دون فاعل. فهذه الاستدلالات القرآنيّة والروائيّة تُعدّ براهين عقليّة، يُستفاد منها أيضًا في فنّ الفلسفة والكلام، وإن لم يرد ذكر العقل في تقرير هذه البراهين.
2.القرآن الكريم يضع الحكمة التي من أعمال العقل، في مقابل الموعظة والجدال الأحسن ويقول: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النّحل: 125].
ومن الواضح أنّ الحكمة التي تختلف عن الجدال والموعظة، هي الحكمة الفلسفيّة المصطلحة؛ لأنّ الحكمة هي المقدّمات الواضحة المتكفّلة لبيان الحقائق النظريّة، أمّا الموعظة فتستعين بالآراء الموجودة في الأخلاقيات وما ينبغي وما لا ينبغي، والجدال الأحسن يعتمد على المشهورات والمقبولات والمسلَّمات، أي يستفاد في الجدال الأحسن من المقدمات المقبولة لدى الطرف الآخر، كالمشهورات والآراء المحمودة، وإن كان جدالًا بالباطل. ولذا يقول القرآن: ﴿۞ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العَنكبوت: 46].
وقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام عندما سئل عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هل جادل؟ فأشار عليهالسلام إلى حتميّة جدال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّ الله أمره بذلك، فالجدال
واجب عليه، نعم إنّه يجادل بالأحسن، ثم سرد عليهالسلام مجموعة من الآيات أُنزلت على سياق الجدال الأحسن، ومنها الآيات الواردة في أواخر سورة يس . ففي هذه الآيات تم استخدام مقدّمات مقبولة ومسلّم بها لدى الخصم.
وعلى كلّ حال، بما أنّ الله قد أمر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن، وجبت هذه الأقسام الثلاثة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم، وقد ورد في القرآن نماذج كثيرة من هذه الأقسام الثلاثة، فالحكمة في الآية تقابل الموعظة والجدال، وهي البرهان العقلي المتداول في الفلسفة والكلام.
3. قد يذكر القرآن الكريم البرهان العقلي باسم العقل وإلى جنبه، أي مع البراهين التي تنير الدرب من المقدّمات البديهيّة إلى النّظرية، ويقول: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الزُّمَر: 21]؛ ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الجَاثيَة: 5]؛ ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البَقَرَة: 164]. فالعقل في هذه الآيات هو العقل النّظريّ والفلسفيّ.
إن الله سبحانه، مضافًا إلى ذكره البراهين العقليّة في القرآن، يذكر فيه أيضًا الأدلّة التي علّمها الأنبياء الماضين، التي استخدموها في مقام الاحتجاج مع الملحدين، ثم يأمرهم بالتعقل، ويقول: ﴿۞ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10]هل يوجد شكّ في خالقيّة الله للسموات والأرض؟ هل وجد نظام الكون من دون فاطر وخالق؟ لا يمكن القول إطلاقًا بظهور هذا العالم من دون فاطر وفجأة، أو القول بأنّ خالقًا منهم قد خلقهم.
فللعالم خالق، ولكن هذا الخالق ليس شبيهًا لهم ولا مماثلًا، إذ لو كان له مماثل لاندرج تحت عنوان كليّ واحد؛ لأنّ الشيء لو كان له مثل، كان له جامع، وما كان له جامع كان ذلك الجامع ممكنًا، وهذا الممكن قد يوجد ضمن هذا الفرد تارة أو ضمن ذلك تارة أخرى. وهذا بنفسه دليل لإثبات وجود الله ووحدانيّته. والآن نشير إلى احتجاج نبي الله إبراهيم عليهالسلام .
يذكر الله سبحانه احتجاج إبراهيم عليهالسلام هكذا: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البَقَرَة: 258]أي نظرًا لوجود الموت والحياة فإنّهما لم يكونا بالصدّفة، بل يوجد محيي ومميت.
يلزم أن يكون فاعل الإحياء والإماتة مصونًا من زلل العدم، بل يكون حيًّا محضًا وذلك هو الله سبحانه: ﴿الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفُرقان: 58]؛ ﴿هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البَقَرَة: 255]. فالرب هو المُحيي والمُميت، وبما أنّ نمرود لم يتقبّل برهان إبراهيم عليهالسلام العقلي، أو لم يُرد انتباه الحاضرين في المناظرة [لمعنى الدليل] غالط وقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البَقَرَة: 258].
كما أنّ الله سبحانه يقول في سورة الأنعام: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعَام: 83]، الآية 83) ثم يسرد احتجاجات إبراهيم عليهالسلام أمام الأغيار الذين ناظروه
وكلّها مناظرات عقليّة، كما يذكر الطريق الشهودي أيضًا: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعَام: 75].
إنّ الله يبتدئ بإراءة الطريق القلبي والشهودي للأنبياء، والأنبياء أيضًا ينقلون هذه الطرق إلى تلامذتهم، نعم هناك من له استعداد معرفيّ، وللبعض استعدادٌ ذكريّ، ولمجموعة استعداد ذوقيّ، وهناك من يجمع بين النّظر والذّوق. ولذا فإنّ الله يربِّي الناس على يد الأنبياء كلّ بقدر استحقاقه واستعداده.
إنّ الناس جميعًا - نساءً ورجالًا - سواسية في التّمتّع بالفكر أو الذّوق، وطريق الشهود مفتوح للجميع رغم اختلاف الناس في المراتب والدرجات. وإن اختلف طريق النّظر عن طريق القلب؛ لأنّ طريق القلب متاح للجميع ومتاح للإنسان دائمًا، أي من دون فرق بين الدّارس والأمِّي. ولكن طريق النّظر ليس عامًا للجميع؛ لأنّ الجميع لا يتمكّن من التّعليم والتّحصيل والتّأليف، كما أنّه ليس دائميًّا؛ لأنّ من تعلّم شيئًا عن طريق العلم الحصوليّ وإمعان النّظر، فلربّما نسيَه في فترة الشيخوخة، ولكن طريق القلب مفتوح إلى آخر العمر، بل يكون في آخر العمر أكثر انفتاحًا؛ لأنّها فترة انكسار القلوب وليونتها.
وعليه، فإنّ الله تعالى أنار الإنسان في القرآن بالطريق العقلي والنظري، كما أناره عن طريق الكشف والشهود القلبي.
ورد الاستناد بالبرهان العقلي في روايات المعصومين عليهمالسلام، وعلى سبيل المثال فإنّ أمير المؤمنين عليهالسلام في نهج البلاغة بخصوص إثبات صفات الله كونها عين الذات، يقيم براهين عقليّة، ويقول: «وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنّها
(135)غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة»
.إنّ كمال التوحيد في الإخلاص، وكمال الإخلاص نفي الصفات الزائدة عنه، وبعبارة أخرى: إنّ كمال توحيد الله في جعل صفات الله عين ذاته لا زائدةً عليها؛ لأنّ كلّ صفة تشهد أنّها غير الموصوف، وكلّ موصوف يشهد أنّه غير الصفة.
وبعبارة ثالثة: كلّ من اعتقد بزيادة صفات الله على ذاته، له شاهدان على أنّ كلّ واحد منهما غير الآخر، إذا كان الوصف زائدًا على الموصوف، وإذا كان الموصوف غير الصفة، فهنا يشهد الوصف أنّه غريبٌ عن الموصوف، كما يشهد الموصوف - وهو مزيد عليه - بأنّه غريبٌ عن الوصف.
ومن الواضح أنّ هذه المسائل: أي كون صفات الله عين ذاته، أو أنّ الله ليس ذاتًا لها علم، بل ذات الله عين العلم، أو أنّه ليس ذاتًا لها قدرة، بل ذاته عين القدرة، فجميع هذه المسائل تعدّ استدلالاتٍ عقليّةً وردت في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام .
تذكرة: لم يكن التفكُّر العقليّ رائجًا في زمن علي بن أبي طالب عليهالسلام على خلاف زمن الإمام الرضا عليهالسلام ، وعليه فقد وردت البراهين العقليّة في كلام الإمام الرضا عليهالسلام في مختلف المسائل العقديّة، كالتي وردت في بيان أمير المؤمنين عليهالسلام .
يقول البعض: ينحصر إثبات الدين بالقرآن والسنة، والعقل لا يكون دليلًا بتاتًا؛ لأنّ القرآن الكريم قد أخرج أركان الدين من دائرة السّؤال
والجواب، فإذا كان السّؤال عن الله، وعن توحيد ذاته المقدّسة، وعن الوحي والرسالة والمعاد ممنوعًا، كان السّؤال عن الأحكام والحِكَم الإلهيّة ممنوعًا أيضًا، ونتيجته غلق طريق العقل والتعقُّل؛ لأنّ حياة العقل بالسؤال والجواب، كالسمكة في الماء.
وعلى سبيل المثال، يقول القرآن الكريم: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبيَاء: 23]، ويقول من جهة أخرى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعَام: 57]، فعندما يكون الله حاكمًا مطلقًا ولا يمكن السؤال عنه، فمعناه غلق طريق التعقُّل، والاقتصار على طريق النّقل في أصول الدين وأحكامه.
لا بد من التعرُّف أوّلًا على دور السّؤال والجواب في تطوّر العلم، فعلاقة السّؤال والجواب كعلاقة الرجل والمرأة، فكما لا يولد بشكلٍ عاديّ من مجرد وجود الرجل أو المرأة، بل يحصل ذلك عن طريق الجمع بينهما والتلقيح، فكذلك يبتني تطوّر العلم ونموّه على السؤال والجواب، فالإشكال والسّؤال بمثابة المرأة، والجواب بمثابة الرجل، ونتيجة هذا التناكح بين السؤال والجواب، تطوّر العلوم ونموّها.
فالعلم يكون عقيمًا فيما لا يوجد سؤال، أو وُجد من دون أن يكون له جواب مقنع، فلا بد من تهيئة أرضيّة رقيّ المجتمع بالسؤال والجواب المناسبين، كما أنّ النساء بعد الزواج: إما أن يلدن ولدًا أو بنتًا أو يكنّ عقيمات، فكذلك في زواج السؤال والجواب: ﴿لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشّورىٰ: 49-50].
ويُستفاد من القرآن الكريم أنّ دوام الفيض الإلهي في نظام التكوين، منوطٌ بالسؤال والجواب، لذا نرى في نظام الطبيعة سؤال جميع الموجودات
من الله: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرَّحمٰن: 29]وحينما يقوم نظام الكون بالسؤال من الله، فالله تعالى يجيب سؤالهم، وهذا السؤال والجواب يوجب دوام الفيض؛ لأنّ المخلوق الفقير يعرض حوائجه دائمًا على الرب الغني، والرب الغنيّ أيضًا يستجيب له دائمًا، ولذا يدوم الفيض الإلهي.
الأسئلة الناشئة من التعنّت والتحقير، أسئلة خادعة، ولم يكن السائل بصدد الفهم، ولذا تكون عقيمة ولا تستحق الجواب. كما أنّ السّؤال لو كان استفهاميًّا ويُطرح للاستفهام، ولكن لم يكن الجواب كافيًا مقنعًا، فهنا وإن عُرض على صورة الجواب غير أنّه ليس على سيرة الجواب. لذا يكون السؤال والجواب عقيمين. ولكن لو كان السؤال للتفقّه لا التّعنّت، وكان من قبيل: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النّحل: 43]، وتكفّل أهل الذكر بالإجابة عليه لا الغرباء، فهكذا سؤال وجواب لا يكونا عقيمين.
وبعبارة أخرى، فإنّ السؤال التّحقيقي (الموجّه) والجواب التّحقيقي، ينتجان مولود العلم المبارك. لذا فحياة العلم ونموّه رهينة بالسؤال والجواب.
وبعد بيان دور السّؤال والجواب، يمكن القول بأنّ للسؤال أقسامًا: الأسئلة الممنوعة والمباحة والجائزة، كما أنّ في العرف تُمنع بعض الأسئلة وبعضها يكون مسموحًا. فكلّ ما كان للعقل حقّ الدخول فيه، كان السؤال عنه جائزًا وإلّا فلا.
وفيما يلي نشير إلى بعض أقسام السؤال:
1. السؤال بمعنى الطّلب من الله أو من أولياء الله بأمر من الله، فهذا النّوع من السؤال لا يكون ممنوعًا فحسب، بل مرغّب فيه أيضًا، فقد قال الله مرارًا للمجتمع الإنساني: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ [النِّسَاء: 32]؛
﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرَّحمٰن: 29].
2. السّؤال الاستفهامي بهدف فهم الأمور العلميّة، فالقرآن يدعو ويرغّب هكذا أسئلة، كما قال للجميع: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النّحل: 43].
والسؤال - أعم من كونه تحقيقيًّا أو تقليديًّا - لازم للعلم ورفع الجهل، فالسّائل في فروع الدين يسأل الفقهاء تقليدًا، ويسأل في أصول الدين عن الفلسفة والكلام تحقيقًا؛ لأنّ تحصيل العلم في فروع الدين يبتني على تعلّم التعبّديات، بينما يلزم في أصول الدين تعلّم الأصول والأركان الأولى بالاستدلال المتناسب مع شأن كل شخص وبشكلٍ معقولٍ.
3. قد يكون السّؤال بمعنى الاعتراض، فهذا القسم من السؤال ممنوعٌ بالنّسبة إلى الله سبحانه، وما ورد في القرآن من النهي عن السؤال يُراد به هذا: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبيَاء: 23]لا يحكم الله أي قانون كي يُسائل الله، بل الآخرون يُسأل عنهم: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعرَاف: 6]جميع الناس يُسألون يوم القيامة سواء الأنبياء أو أممهم.
والحاصل أنّ الأسئلة التي تنطلق بقصد الأمور العلميّة والاستفهاميّة، أو الاعتراض العلميّ الرائج في المناظرات والمباحثات، لا منع منها. لذا بخصوص الله وأوصاف الرسالة وأبعادها المختلفة، لم يكن السؤال والبحث ممنوعًا فحسب، بل لم يردّه القرآن الكريم أيضًا.
سألت مجموعةٌ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كي يعرِّف لهم الله الذي يدعوهم إليه، كي يعرفوه ويعبدوه، فالله تعالى أرسل بناء على طلبهم سورة التوحيد المباركة على رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [النَّمل: 30]، [الإخلاص: 1-4]. فهذه السورة تبيّن نسب الله سبحانه، بل جميع القرآن بيان لهويّة الله؛ لأنّ جميع آيات القرآن تشرح و[تتكلم] عن الله وأسمائه الحسنى وصفاته وأفعاله وآثاره.
والعقل يقول بجواز بعض الأسئلة حول الله، ومنع بعضها الآخر، من قبيل: كيف خُلق الله؟ ما هي مادّته وصورته؟ فهكذا أسئلة لا تلامس ساحة الله، كما أنّ النقل يؤيِّد هكذا منع.
والسرّ في المنع من هكذا أسئلة خلوّها من المعنى، وعليه لا بد من سوق المسائل نحو تصوّر صحيحٍ لمعنى الرب، فالعقل والنقل يقولان بالتّناسق بينهما: ليس لله علّة مادية وصورية، ولم يكن مخلوقًا، ولا تصح هكذا أسئلة بخصوص الله.
كما لا يصحّ أيضًا السّؤال عن علّة الله الفاعليّة والغائيّة؛ لأنّ جميع الممكنات محتاجةٌ إليه، وهو غنيّ عنها، والغنيّ عن الجميع لا خالق ولا فاعل له. والسّؤال عن علّة الله الغائيّة لا يصح أيضًا؛ لأنّه كمالٌ محض، والكمال المحض يكون غايةً لباقي الأشياء، أما هو فليس له غاية ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحَديد: 3] فليس لله مبدأ، ولا غاية ولا هدف خارج ذاته.
ولا يُسأل أيضًا عن أفعال الله، بحيث تقع تلك الأفعال تحت المساءلة؛ لأنّ المساءلة تتعلّق بأفعال من يسلكون في إطارٍ قانونيٍّ، والحال أنّ الله هو خالق القانون ولا يعمل وفقًا لقانون مرسوم مسبقًا كي يُساءل، فالقانون الموجود من فعله وصنعه، والقانون المعدوم [الذي لا يوجد] لا يمكنه أن يكون معيارًا وميزانًا [للمساءلة].
دعا القرآن المجتمع البشريّ إلى التّعقُّل والتّفكُّر والتّدبُّر في أكثر من ثلاثمئة آية، بل ورد الاستدلال والبرهان في موارد كثيرة من القرآن. وعلى سبيل المثال، فإنّ القرآن يُبيِّن غناء الله، واستناد جميع الموجودات إليه بالاستدلال، ويقول: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: 8].
والتّأمّل الجيّد في هذه الآية يكشف محتواها الاستدلالي؛ لأنّ الآية تقول: إنّ الله سبحانه يدعو الكون إلى الإيمان، وهذه الدّعوة لم تكن لاحتياجه إليه؛ لأنّه غنيٌّ مطلق، فالدّعوة إلى الإيمان جاءت لاستكمال المخلوقات.
بناء على هذا، فإنّ مُفاد كثير من الآيات القرآنيّة، هو الاستدلال والبرهان، ولو قيل إنّ الدين فوق السؤال، فمعناه السؤال بمعنى الاعتراض؛ لأنّ الله نورٌ ولا يظهر من النور في جميع الوجود سوى النور، والتكوين والتشريع نور، والنور لا يتطرَّق إليه السؤال الاعتراضي.
يقول القرآن على سبيل المثال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عِمرَان: 18]، فالله تعالى قائمٌ بالقسط، وجميع الموجودات تشهد بذلك، ولا مجال للسؤال في قيام الله بالقسط، ويتم الاستدلال في سورة الأنبياء المباركة: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبيَاء: 22]، ومحتوى الآية برهان التمانع على وحدانيّة الله.
إشكال: لو كان العقل دليلًا إثباتيًّا للدين، لا بد أن يحرز علماء الرياضيات والطبيعيات - فيما وصلوا فيه إلى الجزم والوثوق، وحازوا التّقدّم العلمي - قسمًا عظيمًا من الدين ويكونوا أقرب إلى الله بالمآل.
الجواب: إنّ العقل من أدلّة إثبات الدين، بمعنى أنّ من أراد الوصول إلى العقل العملي، والتقرُّب إلى الله، ونيل ثوابه، لا بد أن يؤمن بالله ويعمل للتقرّب نحو الله على أساس ذلك الإيمان، كي ينال الثواب.
إنّ الأجر على الواجبات التوصّليِّة منوطٌ بارتباط التوصّليات بالتعبّديات، بمعنى أنّ العالِم لو كان أصل تعلّمه من جهة، وتعليمه للآخرين من جهة أخرى، وعمله بما يعلم من جهة ثالثة، لو كان هذا لرضا الله حصرًا، سينال الثواب والأجر الإلهيّ؛ لأنّ هكذا علم يكون مقرَّبًا لله، ولكن لو كان العلم لنيل المنافع الماديّة أو الشهرة عند الناس، فأجره هو الذي سعى له.
قد يُقال: لم يكن الدين عقلانيًّا فحسب، بل يعارض العقل؛ لأنّ بعض أوامر الدين لا يمكن الدّفاع العقليّ عنها، كقمع الحريات أو تحديدها أو الحكم بالقصاص. فالعقل يفتي على خلاف كثير من العقوبات كالإعدام والرجم، في حين أنّ الدين يقول بلزوم الإعدام والرجم والقصاص، وعليه فالعقل يتعارض مع الدين.
القائلون لهذا الكلام لا يعرفون أوّلًا نطاق العقل وحدوده، والذي تكفّل بيانه علم أصول الفقه، وثانيًا العقل الذي يستخدم كدليل لإثبات الدين لم يكن أي عقل؛ لأنّ العقل يعترف بعجزه عن إدراك كثير من الأمور، ويدرك حاجته للمرشد.
بيان ذلك: يرى الإنسان أنّه خالد، وأنّ روحه وجودٌ واحدٌ بسيطٌ مجرّدٌ وباقٍ، أي حقيقة واحدة دائمة غير زائلة، إنّه يرى نفسه مسافرًا يرنو
(142)إلى دار القرار، يكمن في فطرته الخلود وحب البقاء الدائم، وإن كان قد يخطئ في مقام التطبيق، فيأمل الخلود في دار الممر، فللإنسان دار قرار ودار ممرٍّ، وما دام يلبث في الدنيا فإنّه يمشي في دار الممر، غير أنّه يسكن عند وصوله إلى دار المقرّ.
يرى القرآن أنّ لقاء الله هو دار قرار الإنسان، ويصف غير لقاء الله بدار الممر، لذا يأمر ويقول: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذّاريَات: 50]؛ لأنّ الإنسان جاء من الله أي الآن وقد جئتم من «هُوَ الأَوَّلُ» ففروا إلى «هُوَ الآخِرُ»؛ لأنّ دار قراركم هي لقاء من يكون: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحَديد: 3]، لا الدنيا ولا البرزخ يكونا دار القرار؛ لأنّ البرزخ على الحد الوسط بين الدنيا والآخرة.
وعليه، فإن كان الإنسان خالدًا ومسافرًا إلى الأبديّة، يدرك حاجتة إلى المرشد؛ لأنّ كثيرًا من الطرق والمنازل والوسائل والزاد لا تهدي إلى الطريق، لذا يحكم العقل بلزوم متابعة الدليل والإيمان به والعمل بأوامره كي يضمن لنفسه السعادة الأبديّة.
المسائل الأبديّة من الجزئيات، ولا يهتدي إليها البرهان والاستدلال العقلي، كما صرّح الخواجه نصير الدين الطوسي وغيره بعدم إمكان إقامة البرهان في الجزئيات
. وعدم اهتداء العقل إلى بعض الأحكام، يختص بالأمور الجزئية المتغيِّرة التي لا تقبل البرهان، وإلّا فالكليات تدخل في نطاق البرهان العقلي، وحينئذٍ فالعقل هذا يحكم بحاجة الإنسان في الجزئيات إلى الوحي، والوحي بدوره يقوم بتنظيم حياة الإنسان بحيث ينسّق ماضيه ومستقبله مع نظام العالم أجمع.بناء على هذا، فالعقل يعلم بعدم فهمه للمسائل الجزئيّة، وإنّه يحتاج إلى دليل غيبيّ ومعصوم في هكذا موارد، وعلى الشارع الحكيم قيادة المجتمع الإنساني بحكمة، والعقل أيضًا يقبل بأحكام الشارع الحكيم من دون أن يسمح لنفسه التّدخّل في أحكامه.
تذكرة: 1. قد يُحكم باستحالة الأمر البعيد، والحال أنّ العقل يرى أنّ المستبعد يختلف عن المستحيل. 2. قد يحكم من خلال الحسّ والتّجربة. باستبعاد الأمور الخارجة عن دائرة الحسّ والتجربة، والحال أنّه لا يُستبعد حصولٌ ممكن في موطن خاص على رغم عدم إدراك الحسّ والتجربة له.
الجواب الآخر لمعتقدي تعارض الدين والعقل، هو لزوم التّفرقة بين العقل والوهم، فإنّه قد يجلس الوهم مكان العقل، لذا يستبدل أمورًا أخرى بدل الحقيقة: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104]. وقد أشار الكليني رحمه الله في رواية نورانيّة إلى أنّ الشيطان يبذل قصارى جهده لإنتاج السلع السيّئة.
الاحتكار والتطفيف في البيع والغش من عمل الشيطان، ولو تاجر الإنسان معه يُسلب من دينه على حسبه، وهو بدوره يعطي للإنسان أقل ما وعده به، وبما أنّه يتعامل مع الشيطان، فمن الصّعب فسخ المعاملة أو إقالتها بعد علمه بالغبن؛ لأنّ التّعامل مع الشيطان يسلب الإنسان القدرة على تشخيص الموقف، ثم إنّ هذا الشيطان يستبدل الإنسان بغير الإنسان، وحينئذ يصاب الإنسان بأعظم المغالطات، لذا يُخطئ في تشخيص الحق، وبسبب فقدان تشخيص الحقّ لا يتمكّن من عقلنة إدراكاته أو يرى تعارض العقل مع الدين، ولو تنزَّه العقل من هذه المغالطات والمعاملة الباخسة،
لكانت فتاواه متطابقة مع النقل تمامًا، ولا يدّعي ما يردّه الدليل النّقلي المعتبر.
تذكرة:
1. قد يُوهم الشيطان بمغالطاته الإنسان المتوهم، كي يجعل عدم العلم بشيءٍ مساويًا مع العلم بعدمه، أي يجعل عدم الوجدان دليلًا على وجدان العدم.
2. للمغالطة أقسامٌ كثيرةٌ، أسوأها المغالطة في أساس هويّة الإنسان، أي يجعل الشيطان نفسه مكان الإنسان بحيث يجري جميع حوائجه عن لسان الإنسان، والإنسان الواقع في المغالطة لا يفهم أنّ الآخر قد جلس على كرسيّ هويّته الأصيلة ويتّخذ القرارات بدله.
يقول أهل المعرفة: لا بد من وجود العقل لمعرفة الدين، لكنّه غير كافٍ. والعقل بدوره يدرك هذا المعنى أيضًا؛ لأنّه يدرك أنّ المعرفة الشهوديّة-الخارجة من حدود العقل - أعلى من العلم الحصولي، والعلم الحصولي يقول أيضًا إنّ العلم الحضوريّ أقوى منّي وأعلى، غير أنّي لا أهتدي إليه سبيلًا.
ومن الممكن إقامة البرهان على المسائل العرفانيّة العامّة، كما يمكن تبيين شهود العرفان بالبرهان أيضًا، بمعنى أنّ من شهد شيئًا بجميع لوازمه، يتمكن من تفهيم شهوده بشرط عدم وجود شوائب في فكره.
وكما أنّنا ندرك المحسوسات بالحسّ، ونعمّمها بالعقل بعد التجربة، فالشهود أيضًا كذلك، بمعنى من شهد شيئًا بالعين الباطنيّة يمكنه انتزاع المفهوم منه، ثم تحليله وتجزئته وتعميمه، ثم إقامة البرهان عليه.
لو قال شخص: هل يمكن القيام بالدّفاع العقلاني عن الدين في جميع مسائل الدين الكليّة والجزئيّة أم لا؟ فجوابه أنّ العقل لا يدافع عن جزئيات الدين؛ لأنّها لا تدخل في نطاق البرهان العقلي، سواء كانت الجزئيات من الطبيعيات أو جزئيات الشريعة. وبعبارة أخرى إنّ الجزئيات أعم من العلميّة والعينيّة والحقيقيّة أو الاعتباريّة، لا تدخل في حيِّز البرهان العقلي، وما لا يدخل في حيّز العقل، لا يمكن تعليله عقلًا، ولكن يمكن التّعليل العقلاني في الكليات الطبيعيّة والشّرعيّة.
بيان ذلك: بما أنّ العقل يرى نفسه راجلًا في كثير من الأمور، فإنّه يحتاج إلى الوحي. ومنطق العقل هو أنّه يعترف بعدم إدراكه لكثير من الأمور، واحتياجه إلى الوحي. ويقول العقل بالاستناد على برهان النبوّة العام: أنا صاحب هدفٍ سام وأبدي، وأعلم بوجود طريق للوصل إلى ذلك الهدف، وهذا الطريق طويل لا يمكن سيره إلّا بدليل، والدليل الغيبي هو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يلزم الإصغاء إليه في الكليات والجزئيات والعمل بها.
لذا لا يسأل لماذا صلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربعة، أو لماذا يلزم الجهر في صلاة المغرب، والإخفات في صلاة الظهر، أو لماذا تحلّ تلك السمكة وتُحرَّم أخرى، وبما أنّ العقل لا يدرك كثيرًا من الجزئيات يحكم بحاجته إلى النبي، لذا لا يدّعي العقل التّدخل في الجزئيات ولو حُمِّل هكذا دعوى باطلة لا يتمكن من إثباتها والوصول إلى المقصد.
وبناء على هذا، يمكن الدفاع العقلي عن الخطوط العامة للدين والشريعة، كما يمكن الدفاع العقلاني عن كليات الطبيعة، بمعنى أنّ العقل عندما يذعن بوجود الله، ويعرفه بالعلم والقدرة والحكمة وسائر أسمائه
(146)أسمائه الحسنى، يعلم أنّ الله الحكيم خلق الكون بهدف، لذا يقول عندما لا يدرك الهدف في الأمور الطبيعيّة: بما أنّ الله الحكيم خالق للطبيعة فله هدف ومقصد يقينًا.
والخلاصة:
1. يمكن الدفاع العقلي المباشر لكليات الدين.
2. لا يمكن الاستدلال العقلي المباشر ومن دون واسطة لجزئيات الدين، غير أنّها تصلح لذلك عبر الواسطة وبشكلٍ غير مباشر.
3. السرّ في عدم إمكان الدّفاع العقلي لجزئيات الدين من غير وسيط، كون العقل قاصرًا عن إدراك الأمور الجزئيّة.
4. لو كان الإدراك شهوديًّا لا حصوليًّا، أمكن مشاهدة حقَّانيِّة تلك الأمور الجزئيّة.
5. يمكننا توجيه الأمور الجزئيّة بعد مشاهدة حقانيِّتها، وإلا تبقى في حالة الغموض العقلي لغير الشاهد.
6. العقل قاصر عن إقامة البرهان على جزئيات الدين، كما أنّه عاجزٌ عن إراءة الدليل على بطلانها أيضًا، لذا لا يمكنه أن يكون حكمًا فيها.
7.فيما لو عجز الحاكم، يأتي دور الشخص القادر، فهنا يتكفّل الدليل النقلي المعتبر الحكم حول صحّة الجزئيات أو سُقمها، ولا يمكن معارضته لأيّ منطق أو الاعتراض عليه، لذا لا يحقّ الإعراض عن فتواه.
الدّفاع العقلي لجميع معارف النصوص الدينيّة:
سؤال: هل مجموع المعارف الموجودة في النّصوص الدّينيّة قابلة للدفاع العقلاني أو التّعليل العقلي أم لا؟
الجواب: لا بد من القول في مقدمة الجواب، إنّ الشيء المعدوم أو ما يوجد في ذهن الإنسان فقط، لا يقبل إقامة البرهان ولا الشهود العرفاني، أي لا يمكن مشاهدته ولا يمكن إقامة البرهان العقلي عليه. وما يقبل الفهم أو الشهود هو الشيء الموجود فقط، والأمور الوهميّة التي يصنعها الذهن وتخلو من الحقيقة، لا طريق للبرهان والعرفان إليها.
إنّ القضايا الدّينيّة تُعدّ تقريرًا للحقائق الموجودة في عالم الطبيعة أو عالم المثل والبرزخ، أو القيامة الكبرى والحشر الأكبر وعالم العقول، لذا يمكن فهم بعضها والبحث فيها عن طريق العقل البرهاني، والبعض الآخر عن طريق المشاهدة بالقلب الشهودي أو التجربة الحسّيّة. مع فارق أنّ حصيلة الدّليل العقلي هو العلم الحصولي والمفهوم؛ لأنّ العقل يدور حول الذهن والمفاهيم والكليات والتصوّر والتّصديق.
وليعلم أنّ العقل السائد في العلوم العقلية (الكلام والحكمة) يمكنه إدراك المفاهيم الذهنيّة فقط ولا يمكنه الشهود، ولكن العرفان (الكشف والشهود) مع إدراكه الكليات بطريق آخر، يرى الجزئيات الخارجيّة أيضًا، أي أنّ للإنسان في باطنه عينًا وإذنًا وسامعة وذائقة ولامسة يرى بها الحقائق الخارجيّة ويدركها. كما يرى الحقائق في الرؤيا الصادقة، أي يسافر أو يسمع كلامًا أو يشم رائحة، فما يراه في الرؤيا الصادقة، يدل على وجود أعضاء وجوارح غير الأعضاء والجوارح الظاهريّة، يرى بها تلك الحقائق. كما أنّ هذه الحالة الخاصّة والوضع الخاص، يحصل للإنسان في اليقظة، وهو طريق تهذيب النّفس وتطهير القلب والكشف والشهود.
وكما يخطئ الإنسان في الأمور العقليّة والمسائل النظريّة، ويلتجئ - للتخلُّص من الخطأ - إلى إرجاع الأمور النّظريّة إلى البديهيّة بل الأوليّة؛ لأنّ الأوّليات مصونة من الخطأ - وقد يخطئ أيضًا في المشاهدات والكشوفات بسبب خلط المثال المتّصل والمنفصل، ولا بد حينئذٍ من
(148)الرجوع إلى كشف المعصوم المصون من الغفلة والسهو والنسيان.
وبناء على هذا، فإنّ القضايا الدينيّة، تقرير من الحقائق الوجودية القابلة للإثبات البرهاني والمشاهدة الحسيّة والقلبيّة؛ لأنّ الشيء الموجود يمكن إدراكه عن طريق الاستدلال المفهومي، وعن طريق الشهود القلبي والحسّيّ. ولكن ما لا يوجد أبدًا، وينحصر في ذهن شخص خاص، فلا يمكن إثباته كالمذاق الشّخصي حيث لا يقبل الشهود القلبي والاستدلال البرهاني.
ولم تكن معارف الدين كالمذاق الشّخصي الذي لا يمكن البرهنة عليه ولا إفهامه للغير، بل إنّ معارف الدين موجودة أوّلًا، وثانيًا بما أنّها موجودة فلإثباتها طريقان: عقليّ وشهوديّ.
رسالة الأنبياء تنحصر في تعليم الدين وتبليغه، أي يبلّغون الناس معارف الدين في البداية ثم يقومون بالاحتجاج والدفاع عنها أمام الآخرين. وبعبارة أخرى، إنّ الأنبياء لأجل تبليغ الدين يقومون أوّلًا بالتنظيم ثم التّبيين، ثمّ الدّفاع العلميّ عنه، وبعد أن يتمّ نصاب الدّفاع العلميّ يُبادرون إلى التّطبيق.
وعلى كلّ حال، فالقضايا الدّينيّة بما أنّ لها واقعًا، يدركها الأنبياء، كما يمكن إدراكها للآخرين مع حفظ المراتب والدرجات، وإن كان إدراكهم غير معصوم في التّصوّر والتّصديق، كما أنّ شهودهم غير مصونٍ من الخلط بين المثال المتّصل والمنفصل. لذا لم يكن لإدراكهم من القداسة ما لإدراك المعصوم، لذا يمكن ردّه ونقده.
زعم البعض أنّ الدين عبارة عن مجموعة الحكمة العلميّة، ولها صلة مع الإيمان والعشق والحب والعقل العملي فقط، من دون ارتباط
(149)بالاستدلال العقلي المتعلّق بالحكمة النّظريّة. لذا لا حاجة للرجوع إلى البرهان.
ولكن، قيل إنّ الدين هو الجامع بين الحكمة النّظريّة والعمليّة، وله علقة مع البرهان العقلي. لذا تطرح الآيات القرآنيّة الاستدلال النّظريّ كما تذكر احتجاج الأنبياء عليهمالسلام. ولكن بما أنّ أصل الدين ينبني على القبول والعمل، يصرّ القرآن على الإيمان والعمل مع تقديم جانب الفهم والإدراك؛ لأنّ الإدراك مقدّمة للإيمان والعمل.
ومضافًا إلى هذا، فإنّ طريق الإيمان والفطرة والقلب أعمّ من سائر الطرق، بحيث يتمكّن الجميع من سلوكه سواء الأمِّي أو المتعلِّم. وما ورد في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام من ازدهار العقول: «ويثيروا لهم دفائن العقول» ، فإنّ قسمًا كبيرًا منه يتعلّق بالحكمة العمليّة، ثم يزدهر العقل عن طريق العمل.
فالقرآن كما يهتم بالإيمان، يهتم بالاستدلال العقلي أيضًا؛ لأنّ الإيمان هدف الاستدلال وعام، ويمكن لجميع الطبقات حيازته في جميع الشرائط.
تذكرة:
يختلف الدين عن التّديّن والإيمان، الدِّين هو مجموع المسائل العقديّة، الثّقافيّة، الأخلاقيّة، الفقهيّة والحقوقيّة المنزلة من قبل الله على نحو الحكمة النّظريّة والعمليّة، ولكنّ التّديّن - وهو وصف المجتمع - مجموعة الآراء والدّوافع العقديّة والسّلوكيّة في الأمّة الإسلاميّة. أمّا الإيمان، فقد يُطلق على مجموعة العقيدة والتّخلّق والعمل الصالح، وقد
يُطلق على خصوص العقيدة ويكون مقابلًا للعمل الصالح الذي يُدخل التخلُّق وهو - وصف نفساني - تحت ظلّه.
قد يقال: لا يمكن تحليل الإيمان بالعقل، ولكن يُقال في الجواب: يمكن تحليل هذا السّؤال على نحوين:
1. إذا كان المقصود أنّ الإيمان يتعلّق بالجزئيّات، والجزئيّات لا يمكن إثباتها بالعقل، فالإيمان لا يقبل التّحليل العقليّ، فهذا الاستدلال صحيح؛ لأنّ الموجود الشّخصي العينيّ لا يمكن إثباته بالعقل، ولكن بما أنّه مصداقٌ لعنوان كلِّيّ، يمكننا إثبات إمكان ذلك المفهوم الكلّي أو ضرورة تحقّقه عن طريق العقل، وإنْ لم يكن في الخارج سوى الموجود المشخّص العيني.
وعلى سبيل المثال، فالجنّة لا يمكن إثباتها أو نفيها بالعقل؛ لكونها موجودًا جزئيًّا عينيًّا خارجيًّا، أمّا الإمكان أو ضرورة أصل الجزاء - المنطبق على الجنّة ونعيمها مفهوم كلّيّ - يمكن إثباته عقلًا.
لذا، يمكن القول بأنّ هذه المفاهيم الكلّيّة ممكنةُ الوجود، ثم نقوم بتبيين ضرورة تحقّقها على أساس غائيّة نظام الكون؛ كي يُعلم أنّ لهذا المفهوم (الأجر الحسن) مصداقًا حتمًا.
هذه الضرورة العقليّة، هي نفسها العبارة الدّينيّة القائلة «لا ريب فيه». فالقرآن يذكر المعاد بعبارة ﴿.. لَّا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عِمرَان: 9]، وهو نفسه الضرورة الفلسفيّة، كما أنّ القرآن يقول بخصوص القيامة: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عِمرَان: 9]؛ أي أنّ القيامة ضروريّة الوجود، والعقل يثبت أصل إمكان وجودها كما يثبت ضرورتها، أي يقول إنّ هذا المفهوم (القيامة) له مصداق يقينًا، كما أنّ
لمفهوم واجب الوجود مصداقاً حتماً، ولكن العقل لا يبحث في المصداق الخارجي، بل يبحث حصرًا عن مفهوم واجب الوجود الكلّيّ، ويقول: لا يمتنع أوّلًا وجود واجب الوجوب بل إنّه ممكن. وثانيًا، إنّه ممكن بالإمكان العام المتلائم مع ضرورة الوقوع. وثالثًا، إنّه ضروريّ قد تحقّق، أي أنّ الله ضروريّ الوجود.
وبناء على هذا، لو كان متعلّق الإيمان الموجود الشّخصيّ الخارجي، فلا يقبل البرهان العقلي ولا يكون معقولًا. نعم لو كان مجرّدًا لزم أن يكون مشهودًا، ولو كان ماديًّا لزم أن يكون محسوسًا، ولكن لا يتمكّن العقل من إدراك ذلك الشّخص الخارجي؛ لأنّ العقل أقل رتبة من الشّهود، والحقائق المجرّدة تدرك بالشّهود العرفاني، لا العقل البرهاني. كما أنّ العقل أعلى من الحسّ، لذا ندرك المحسوسات بالحسّ فقط دون العقل.
2. لو كان المقصود أنّ الإيمان حصوليٌّ، والحصوليات - كالمذاقات الشّخصيّة والحالات والآداب الخاصّة - غير قابلة للبرهان، فهذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الأنبياء دعوا النّاس إلى الإيمان، واستعانوا في ذلك بالاستدلال والاحتجاج والحكمة، ومن الواضح أنّ الشّيء لو كان غير قابل للبرهان، لا يمكن الدّعوة العقليّة نحوه. والحال أنّ أولي الألباب وأصحاب العقول قد تمّت دعوتهم للإيمان.
نعم، الأمور الذّوقيّة الشّخصيّة لا تقبل البرهان، وما لا يقبل البرهان لا يمكن تصويب الدّعوة العقليّة نحوه، ولكن متعلِّقات الإيمان لها واقعٌ خارجيٌّ ولا ترتبط بالذّوقيات، وما له واقع خارجيّ يمكن إثباته سواء بالحسن والتجربة أو التواتر النقلي التاريخي أو البرهان العقلي.
والخلاصة:
1. الإيمان وإنْ كان حصوليًّا غير أنّ متعلّقه من الحقائق العينيّة.
2. يمكن إدراك الحقيقة العينيّة عن طريق البرهان العقلي، وكذلك الشهود القلبي.
3. ما كان وجوده معلومًا يمكن الإيمان به وقبول وجوده، سواء أكان العلم به عن طريق البرهان الحصولي أم العرفان الشّهودي.
4. لا تتجاوز الذّوقيات الشّخصيّة، الحالات، الآداب، الحب والبغض الشّخصي، عن حدود نفس الشخص، وكلّها من لوازم وآثار مثاله المتّصل، ولا ربط لها بالمثال المنفصل. لذا لا يمكن نقلها إلى الآخرين، على خلاف الإيمان؛ حيث إنّ متعلّقة موجودٌ عينيٌّ ومتّصلٌ بالعالم المنفصل، سواء المثال المنفصل أو العقل المنفصل. لذا يمكن انتقالها عن طريق تفهيمها للآخرين.
مقدّمة:
التعدّدية الدينية هي إحدى المواضيع الهامّة في مختلف الدراسات الكلامية والفلسفية والدينية المعاصرة.
التعدّدية
رؤية قوامها التعدّد الديني ، وفي مقابلها رؤية قوامها الوحدة الدينية تجسّد نمطاً من التفرّد الديني وفي هذا السياق قسّم المفكّر الغربي جون هيك وجهات النظر المطروحة على صعيد تنوّع الأديان إلى ثلاثة أقسامٍ هي كالتالي:رؤية قوامها تفرّدية دينية.
رؤية قوامها تعدّدية دينية.
رؤية قوامها شمولية دينية.
أصحاب الرؤية التفرّدية يعتقدون أنّ الحقيقة والسعادة والنجاة والكمال عبارة عن قضايا موجودة في دين واحد على نحو الحصر والتفرّد،
وعلى هذا الأساس يعتبرون هذا الدين هو الحقّ وفي رحابه فقط يمكن للإنسان أن يبلغ الغاية التي خلق لأجلها، لأنّ الدين وحده يحكي عن الحقيقة ويمنح البشر سعادةً واقعيةً.
وأصحاب الرؤية التعدّدية يعتقدون أنّ جميع الأديان تضمن النجاة والكمال لأتباعها، ومعنى ذلك أنّ الأديان كافّةً تحكي عن الحقيقة وتمنح البشرية سعادةً واقعيةً.
وأمّا أصحاب الرؤية الشمولية فيعتقدون بوجود سبيل وحيد للنجاة والسعادة، وهذا السبيل لا يُعرف إلا في رحاب دينٍ محدّدٍ، وفي هذا السياق أكّدوا على أنّ كافّة الناس بإمكانهم نيل هذا الهدف شريطة أن يذعنوا للأحكام التي يفرضها عليهم هذا الدين الحقّ ليصبحوا سالكين حقيقيين في سبيل النجاة الذي أرشدهم إليه. أصحاب هذه الرؤية يشاركون أصحاب الرؤية التعدّدية من حيث اعتقادهم بأنّ لطف الله تعالى قد تجلّى في العديد من الأديان ضمن جوانب مختلفة، وعلى هذا الأساس استنتجوا أنّ كلّ إنسانٍ بإمكانه نيل النجاة حتّى إذا لم يكن على علمٍ بالعقائد الحقّة، وهذا الكلام يعني ضرورة اعتقاد المتدين بما يلي: ما ناله الآخرون من سعادة ومعرفة بالحقيقة يقابل ما لدي من سهمٍ في هذا المجال، لذا أعتبرهم إلى جانبي في طريقي نحو النجاة والسعادة بحيث لا يختلفون عنّي.
تجدر الإشارة هنا إلى وجود أشكال أخرى من الفكر التعدّدي الديني، لكنّها لا تندرج ضمن نطاق بحثنا.
أهمّ الأسئلة التي تطرح بخصوص بحثنا يمكن تلخيصها بما يلي:
1. هل المفترض هو تعدّد الأديان أو وجود دين واحد لا يقبل التعدّدية؟
2. هل يمكن ادّعاء تعدّد المعتقدات الحقّة بحيث يمكن للإنسان اتّباع أيّ دينٍ شاء وسلوك عدّة طرقٍ لبلوغ مرحلة لقاء الله تعالى؟
3. هل بإمكان المتدين أن يتعايش مع أتباع سائر الأديان بسلامٍ وطمأنينةٍ؟
4. عندما تتعدّد الأديان هل يمكن لأتباع كلّ واحدٍ منها ادّعاء أنّهم سائرون في سبيل النجاة؟ أي هل يمكن لكلّ إنسانٍ نيل النجاة وبلوغ المقصد المنشود بغضّ النظر عن الدين الذي يعتنقه والسبيل الذي يسلكه؟ هل من الممكن ادّعاء أنّ أتباع كافّة الأديان سائرون في الطريق الصحيح الذي هو طريق النجاة والسعادة؟
التعدّدية الدينية على نوعين، فهناك فكر تعدّدي بشكل تنوّع في دينٍ واحدٍ، وهناك فكر تعدّدي يطرح على صعيد تنوّع الأديان. النوع الثاني معناه الاعتقاد بتعدّد الأديان وادّعاء أنّ كلّ واحدٍ منها على حقّ ويأخذ بيدي أتباعه إلى الحقيقة والسعادة؛ في حين أنّ النوع الأوّل معناه أنّ تعاليم دينٍ واحدٍ تفسّر بأنماط متنوّعة بحيث يتبلور مذهبٌ معينٌ على أساس كلّ تفسيرٍ، لذا تتعدّد المذاهب في هذا الدين الواحد، وأصحاب هذه الرؤية يعتقدون بأنّ كلّ هذه المذاهب على حقٍّ ومن شأن كلّ واحدٍ منها الأخذ بيد أتباعه إلى الفلاح والسعادة.
قبل أنّ نتطرّق إلى بيان معنى التعدّدية في مباحث علم الكلام، نرى من الأنسب أوّلاً بيان النطاق الذي يجب أن يتمّ تسليط الضوء عليها في رحابه ثمّ معرفة أهمّ مبادئها كي نتمكّن من معرفة ما إن كانت من الأفكار المتوارثة روايةً أو أنّها مجرّد فكر تجريبي أو من النظريات العقلية.
لا شكّ في أنّ التعدّدية تعتبر من النظريات العقلية وليست فكراً تجريبياً، لذا تطرح في بوتقة النقد والتحليل ضمن مباحث علمي الفلسفة والكلام، وأمّا السبب في عدم كونها من المسائل التجريبية فيعود إلى أنّها
ذات ارتباط بالأسس الأيديولوجية، وكما هو معلوم فالمباحث الأيديولوجية غير خاضعة للتجربة، بل القول الفصل فيها للعقل والوحي (النقل الثابت صوابه بالدليل القطعي).
المقصود من العقل هنا ذلك العقل الذي يعتبر أعلا مقاماً من الحسّ والظنّ والخيال، أي العقل البرهاني (الاستدلالي) الذي له صلاحية التفكّر بالقضايا الكلّية ومخوّل بإبداء الرأي إزاءها، والمقصود من النقل والوحي (النقل القطعي) هو القرآن الكريم أو أيّ خبرٍ يعتبر نصّاً قطعياً من حيث صدوره ودلالته على الموضوع، أي ذلك الخبر الدالّ بشكلٍ صريحٍ على الموضوع ويكون متواتراً أو خبر واحدٍ مدعوماٌ بقرينة قطعية، وكذا الحال إذا كان هذا النصّ آيةً قرآنيةً، إذ يجب أن تكون دلالته على الموضوع بشكلٍ صريحٍ أيضاً كي يعتبر نصّاً عليه.
استناداً إلى ما ذكر، إذا أفاد ظاهر نصوص الوحي الظنّ، لا يمكن الاكتفاء به حسب القواعد القرآنية، فقد أكّد تعالى على أنّ الظنّ لا طائل منه على الصعيد الأيديولوجي: «إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً».
لا يمكن للتجربة أن تتّخذ كأساسٍ لتمييز الحقّ عن الباطل على الصعيد الأيديولوجي، لذا ليس من الصواب الاعتماد عليها لتقييم مدى صواب أو بطلان فكرٍ ما، فهي بمدلولها المتعارف في العلوم التجريبية لا تجدي نفعاً على صعيد العلوم غير التجريبية والفكر المجرّد؛ إذ لو كان المقصود منها هو التجربة العملية، فالكثير من الحقائق في عالمنا لا تندرج في نطاق التجارب العملية لكونها مجرّد مبادئ نظرية ومعتقدات فكرية، ومن المؤكّد أنّ هذا النوع من الحقائق الغير خاضعة للتجربة لا يمكن إثباتها تجريبياً، لذا لو أردنا إثبات مدى صدقها أو سقمها بهذا الأسلوب سوف نواجه مشاكل فكرية جادّة ثمّ لا نتمكّن من معرفة ما إن كانت حقّاً أو باطلاً.
المقصود ممّا ذكر هو أنّ التدين يندرج ضمن القضايا العقائدية
(158)والأخلاقية والسلوكية، والحقائق الدينية تتجلّى جوانبها الأساسية وينال الإنسان ثمارها بعد الموت، وهي بكلّ تأكيد غير خاضعة للتجربة في الحياة الدنيا، فالأمور المرتبطة بعالم البرزخ والقيامة والجنّة والنار على سبيل المثال لا يمكن الاطّلاع على حقائقها من خلال التجربة. وأمّا الأحكام الشرعية والأخلاق الدينية فلا يمكن إخضاعها للتجربة إلا في مجال فوائدها الدنيوية وذلك لأجل صياغة أنموذج أمثل للسلوك الدنيوي، حيث تتبلور فوائد تجربتها في الحياة الدنيا فحسب؛ لأنّ كافّة آثارها الأخروية لا تندرج في نطاق التجربة، ومن ثمّ لا فائدة من إخضاعها للفكر التجريبي، فعلى سبيل المثال لا يمكن للإنسان تجربة أثر الصلاة بشكل ملموس إلا إذا كانت كلّ آثارها تتبلور في الحياة الدنيا فقط، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الصيام وسائر العبادات والعقود والإيقاعات وكافّة المعاملات التي نؤدّيها امتثالاً لأحكام الشريعة، حيث يمكن إثبات آثارها تجريبياً فيما لو افترضنا أنّ هذه الآثار تتبلور في الحياة الدنيا فحسب، إلا أنّ الواقع على خلاف ذلك لكون الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالحلقة في بيداءٍ، فقد وصفت: «كحلقةٍ في فلاةٍ». المقصود من هذه العبارة أنّ الإنسان مسافر أبدي وحياته الدنيوية كالحلقة الموجودة في بيداءٍ مترامية الأطراف، فهو كالقطرة في بحرٍ عظيمٍ.
نستشفّ من جملة ما ذكر أنّ التجربة لا طائل منها على الإطلاق لمعرفة واقع الدين، بل لا بدّ في هذا المضمار من الاعتماد على العقل البرهاني (الاستدلالي) والنقل الثابت بالدليل القطعي كنصٍّ ثابتٍ كي نتمكّن من امتلاك معرفة صائبة بخصوص القضايا الأيديولوجية والمعارف الدينية.
أوّل سؤال يطرح للبحث والتحليل على صعيد التعدّدية الدينية - تنوّع الأديان - هو ما يلي: هل المفترض هو تعدّد الأديان؟ للإجابة نقول: فرضية تعدّد الأديان ليست صائبةً، لأنّ الدين جاء بهدف تربية الإنسان، وقد
(159)تمّ إثبات أنّ الإنسان يجسّد حقيقةً واحدةً في عالم الوجود، ومن هذا المنطلق لا بدّ وأن يكون الدين الهادف إلى تربيته واحداً لا أكثر.
هناك ارتباط وطيد بين الأنثروبولوجيا ومعرفة الدين الحقّ لدرجة أنّنا لو استطعنا معرفة حقيقة الإنسان بدقّةٍ متناهيةٍ سوف نعرف إثر ذلك الدين على حقيقته أيضاً، فعلى سبيل المثال إذا تمّ إثبات وجود تنوّع في حقيقة الإنسان على مرّ العصور وعدم امتلاكه حقيقةً واحدةً بصفته من ذرّية آدم عليهالسلام، ففي هذه الحالة يمكن الإذعان إلى فكرة تنوّع الأديان أيضاً؛ لكن إذا تمّ إثبات امتلاكه فطرةً إلهيةً لا تغيير لها على مرّ العصور وفي شتّى البقاع مهما اختلف جنسه وعرقه ولونه وبعض خصائصه البدنية وصفاته الطبيعية، فالنتيجة هي وجوب كون الدين واحداً وثابتاً، لأنّه ذو ارتباط تامّ بفطرة بني آدم، وإثر ذلك لا بدّ وأن تكون أصول الدين ثابتةً على مرّ العصور حتّى إذا تغيّرت فروعه التي تندرج ضمن الأحكام الشرعية الموسومة بالمنهاج والشريعة.
بنو آدم يشتركون بحقيقة واحدة مهما تغيّرت الظروف والأزمنة، لأنّ عقولهم وقلوبهم وفطرتهم من سنخ واحد على الرغم من وجود تغييرات في نمط حياتهم وهيئة أبدانهم وكيفية ارتباطهم بعالم الطبيعة، فهذه التغييرات تحدث مع تنوّع الأزمنة والأمكنة، وهذا التنوّع يتجلّى أيضاً في طريقة تعاملهم مع بعضهم وأساليب أسفارهم، فقد كانت المعاملات التجارية في قديم الزمان بنحوٍ يختلف عمّا عليه الحال في عصرنا الحاضر، كما كانوا يسافرون مشياً أو على الدوابّ إلا أنّنا اليوم نسافر بوسائل نقل حديثة كالسيارات والطائرات. هذه هي المتغيّرات في حياة البشر، وأمّا الأمور الفطرية فهي ثابتة على مرّ العصور وفي كلّ مكانٍ من الكرة الأرضية، فعلى سبيل المثال الإنسان القديم كان يحبّ العدل ويستاء من الظلم، ويستحسن التواضع وحفظ الأمانة، ويسعى إلى نيل حرّيته واستقلاله بحيث يشعر
(160)بالسعادة إذا تمكّن من تحقيقهما، كذلك كان يبغض التكبّر والخيانة والاستعمار والاستغلال والعبودية والذلّ؛ وكلّ هذه الحالات تكتنف فكر الإنسان المعاصر أيضاً ولا تغيير فيها.
إذن، المبادئ العامّة للدين والأخلاق، كذلك المعارف التي لها ارتباط بالفطرة الإنسانية؛ ثابتة لا تغيير لها لكون الفطرة ثابتةً ذاتياً وليست عرضةً للتغيير، وعلى هذا الأساس نستنتج وجود ارتباط وطيد بين التعدّدية الدينية والأنثروبولوجيا، ومن ثمّ لو اعتبرنا الإنسان صاحب فطرة ثابتة وحقيقة واحدة لا يبقى مجال لادّعاء وجود تعدّدية دينية على الإطلاق؛ لكن إذا قيل بتعدّد حقيقة الوجود الإنساني وعدم ثباتها يمكن حينها افتراض وجود تعدّدية دينية.
فرضية التعدّدية الدينية باطلة من أساسها، والقرآن الكريم رفضها بصريح العبارة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عِمرَان: 19]، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عِمرَان: 85]، مفهوم هاتين الآيتين هو أنّ الدين الحقّ واحدٌ لا أكثر.
البراهين العقلية والآيات والأحاديث كلّها تدلّ على امتلاك الإنسان روحاً واحدةً فقط تضمّ عقلاً وقلباً وفطرةً وشؤون أخرى كثيرة، كذلك تؤكّد على أنّ بدنه ذو ارتباط ببيئته الجغرافية - الطبيعية - بينما روحه ذات ارتباط بعالم ماوراء الطبيعة ومن صفاتها أنّها ثابتة على مرّ العصور بحيث لا يؤثّر عليها تغيّر الزمان، فهي في الواقع ليست شرقيةً ولا غربيةً ولا شماليةً ولا جنوبيةً، بل عبارة عن شأنٍ ماورائي؛ ومن هذا المنطلق إذا أردنا معرفة العوامل المساعدة في رقيها لا بدّ وأن نستكشف خصائصها في عالم ماوراء الطبيعة. وأمّا البدن فهو مرتبط بالبيئة الجغرافية التي يعيش فيها بحيث يتأثّر
بها وتتغيّر خصائصه الطبيعية وفقاً لخصائصها من جهة كونها شرقيةً أو غربيةً أو استوائيةً أو معتدلةً، وما إلى ذلك من ظروف جغرافية أخرى؛ ناهيك عن أنّ قابليات البشر متنوّعة وفي تطوّر متواصل؛ لذا على ضوء هذا التنوّع ونظراً لوجود اختلاف في الخصائص الجغرافية لكلّ منطقة ووجود تباين في الآثار التي تتمخّض عنها، تتنوّع قابليات الإنسان وكذلك حاجاته من الناحية الجغرافية، ومن ثمّ لا بدّ من تلبية هذه الحاجات المتنوّعة بتنوّع أيضاً؛ وهذا هو السبب في تعدّد الشرائع (المناهج) فهي مرتبطة بالجوانب المتغيرة من حياة البشر.
لذلك نلاحظ وجود تناسقٍ بين المسائل الرياضية التي هي ذات ارتباط بالعقل، والمسائل الفلسفية والكلامية (العقائدية) التي هي ذات ارتباط بالعقل والفطرة معاً، وهذا التناسق ثابت سواءً في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها؛ بينما مسائل العلوم التجريبية مثل الطبّ والصيدلة - من حيث جهتها العملية وليست العلمية - تختلف مع اختلاف الناس.
أصول الدين والمبادئ العامّة للأخلاق والقانون والفقه ثابتةٌ لكونها ذات ارتباط بالجانب الثابت من وجود الإنسان، فهو صاحب فطرة ثابتة تقتضي ثبوت هذه الأمور: «لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»، في حين أنّ الشريعة (المنهاج) متغيّرة ومتعدّدة من منطلق ارتباطها بظروف بيئته الطبيعية وأسلوب حياته.
قد يسأل سائل: هل امتلاك الإنسان بُعدين وجوديين هما الروح والبدن، دليلٌ على وجود تعدّدية دينية؟
نقول في الإجابة عن هذا السؤال: لو كان المقصود إمكانية تحميل العديد من الأديان على فطرة البشر الواحدة، فهذا التحميل ليس صحيحاً لأنّه يستلزم القول بوحدة المتعدّد وتعدّد الواحد، ومن ثمّ فالكثير بما هو
(162)كثير يصبح واحداً، والواحد بما هو واحد يصبح كثيراً؛ وكلاهما في الحقيقة مستحيل، وهذه الاستحالة دليل على بطلان التعدّدية الدينية.
استناداً إلى ذلك يثبت لنا أنّ الروح من حيث عدم تعدّدها تقتضي وجود دينٍ واحدٍ لا غير، ومن ثمّ فالقانون الذي يسنّ لتربيتها والرقي بها إلى أعلا الدرجات يجب أن يكون واحداً إذا كانت بذاتها واحدةً حقّاً؛ وفي غير هذه الحالة فالقانون الواحد في عين وحدته يجب أن يكون متعدّداً، والفطرة الواحدة في عين وحدتها يجب أن تكون متعدّدةً؛ وهذا الأمر مستحيل بكلّ تأكيدٍ.
إذن، بما أنّ فطرة بني آدم واحدة، فالدين الحاكم عليها والمربّي لها والمدبّر شؤونها واحدٌ أيضاً، ورغم أنّ كلّ نبي اتّبع أسلوباً تبليغياً خاصّاً في بيئة جغرافية وظروف خاصّة تناسباً مع طبيعة حياة قومه وبنيتهم البدنية، إلا أنّ كافّة الأنبياء متّفقون على الأسس العامّة والمبادئ الثابتة؛ لذا لا صواب للرأي القائل بالتعدّدية الدينية بمعنى وجود أديان متنوّعة تتنوع مبادؤها العقائدية والأخلاقية والشرعية سواءً في عصر واحد أو في عدّة عصور؛ كذلك لا صواب للرأي القائل بجواز اعتناق الإنسان عدّة أديانٍ في آنٍ واحدٍ أو اعتناق عدّة أديانٍ واحداً تلو الآخر بحيث تتنوّع المبادئ العقائدية والأخلاقية والشرعية التي يعتقد بها؛ لأنّ الصواب فقط هو إمكانية تعدّد الشرائع مع تعدّد العصور في رحاب دينٍ واحدٍ.
التعدّدية الدينية يمكن تصوّرها ضمن أنواع عديدة هي كالتالي:
أحياناً تندرج أمور متعدّدة ضمن سبيلٍ واحدٍ لأجل تحقيق هدفٍ واحدٍ، وهنا يمكن اعتبار هذا التعدّد ليس بعيداً عن الحقّ، فهو إمّا أن
(163)يكون حقّاً محضاً أو قد يكون قريباً من الحقّ نظراً لوحدة الهدف والسبيل العامّ، والاختلاف في هذه الحالة كامنٌ في السبل الفرعية فقط والتي يجب أن ترتبط بهذا السبيل العامّ، فهي على ضوء ارتباطها به تقود صاحبها إلى الهدف المنشود الذي لا وجود لهدفٍ غيره.
التعدّد يرتبط أحياناً بالهدف، وهذا يعني كثرة الأهداف وليس السبُل، لكن رغم ذلك تبقى هذه الأهداف مرتبطة بهدف متعالٍ واحد لا غير، لذا يمكن لكلّ إنسان أن يبلغ أحدها بنحوٍ معين كي يبلغ هذا الهدف المتعالي الذي هو الغاية النهائية؛ وفي هذه الحالة يمكن قبول التعدّدية، لأنّ الاختلاف الكائن بين الأهداف الفرعية فرعي في واقعه وليس أساسياً.
أحياناً تكون الأهداف المفترضة متنوّعة ومتباينة، وفي موازاة بعضها لدرجة أنّ أحدها يدلّ على شيءٍ والآخر يفنّد هذه الدلالة من أساسها، كما لو أكّد أحدها على وجود مبدأ ومعادٍ لعالم الوجود والآخر يؤكّد على العكس من ذلك تماماً - والعياذ بالله - حيث يعتقد الإنسان حسب مدلول الهدف الأوّل أنّه سينعم بالحياة بعد موته وسيبعث في يوم القيامة حياً، في حين أنّه حسب مدلول الهدف الثاني يعتقد بأنّه سيفنى بالكامل ولا وجود لحساب وقيامة بعد موته.
لا شكّ في بطلان هذا النوع من التعدّدية التي تتعارض فيها الأهداف، إذ ليس من الممكن أن تكون حقّاً لأنّ الأفكار التي تتبلور في رحابه إمّا أن تكون متناقضة مع بعضها بالكامل أو أن تكون بمثابة النقائض، ونظراً لاستحالة الجمع بين النقيضين لذا ليس من الممكن مطلقاً أن يكون كلا الأمرين حقّاً، وفي الحين ذاته لا يمكن ادّعاء بطلانهما معاً.
أحياناً يكون الهدف واحداً إلا أنّ السبُل التي تقود إليه عديدة وفي مقابل بعضها على نحو التضادّ والتعارض، أي أنّها سبُل فرعية لا تنبثق من مبدأ واحد ولا تنتهي إلى سبيل عامّ واحد بحيث يتّجه أحدها على سبيل المثال إلى شرق الأرض والآخر إلى غربها أو إلى القطب الشمالي أو القطب الجنوبي.
الجدير بالذكر هنا أنّ اتّجاه هذه السبُل ليس منحنياً على غرار انحاء الكرة الأرضية، لأنّها لو كانت كذلك سوف يلتقي بعضها ببعض في نقاط معيّنة، لذا كلّ واحدٍ منها يجري على امتداد معين نحو جهة خاصّة بحيث لا يمكن أن يلتقي بغيره على الإطلاق.
هذا النوع من التعدّد غير مقبول طبعاً، إذ لا يمكن بتاتاً ادّعاء أنّ كافّة الطرق تنتهي إلى الحقّ، فهذا الادّعاء عبارة عن تعدّدية تقتضي الجمع بين النقيضين، ومن البديهي أنّ الجمع بينهما مستحيل كما هو ثابت عقلياً ومنطقياً.
يعتقد البعض أنّ الثقافة ذات الدين، وعلى هذا الأساس استدلوّا على تعدّديته، حيث قالوا بما أنّها متعدّدة فهو متعدّد أيضاً، ممّا يعني أنّ الاعتقاد بالتعدّد الديني هو نفس الاعتقاد بالتعدّد الثقافي. هؤلاء غفلوا عن أنّ التعدّدية الدينية تختلف عن تعدّدية الثقافات والأعراف والتقاليد، لأنّ كلّ قومٍ عادةً ما يتبنّون نمطاً ثقافياً خاصّاً له مميزاته الفريدة من حيث الأعراف والتقاليد التي تتناسب مع واقع حياتهم وبيئتهم الجغرافية، لذلك نلاحظ وجود فوارق بين مختلف الشعوب والأمم في شتّى المجالات مثل طريقة
(165)تناول الطعام ونمط الثياب وطريقة السفر والحضر، فكلّ أناس لهم أعرافهم الخاصّة في هذه المجالات وسائر مجالات الحياة العملية.
هذا النوع من التعدّد الثقافي مقبول ولا حاجة للبحث عن دليل لإثبات حقّانية مصاديقه أو بطلانها، إذ ليس هناك أيّ مانع يحول دون تعدّد الثقافات والأعراف والتقاليد، كذلك لا يوجد أيّ سبب يدلّ على ضرورة حدوث وحدة ثقافية شاملة بين كافّة البشر بادّعاء أنّ الثقافة الحقّة واحدة لا غير؛ لذا هذا التعدّد خارج عن نطاق التعدّدية الدينية.
هنا ملاحظة جديرة بالذكر على صعيد موضوع البحث، وهي أنّ عدم وجود ضرورة فكرية تدعونا لأنّ نتطرّق إلى شرح وتحليل تفاصيل كلّ ثقافة بما فيها من أعراف وتقاليد لإثبات ما فيها من حقّ وباطل، إلا أنّ مسائل الكفر والإيمان تختلف، إذ لا بدّ من شرحها وتحليلها لإثبات الحقّ والباطل فيها. السبب في المورد الأوّل يعود إلى كون الثقافات والأعراف والتقاليد عبارة عن قضايا متّفق عليها اجتماعياً، أي أنّها عقد اجتماعي، في حين أنّ السبب في ضرورة التعمّق فكرياً على صعيد المسائل من النوع الثاني يعود إلى أنّ الكفر والإيمان ليسا أمرين اعتباريين يقرّهما الناس في إطار عقدٍ اجتماعي بحتٍ دون أن تكون لهما خلفية واقعية، بل الحقيقة هي أنّ أحدهما حقّ والآخر باطل، كما أنّ السبيل إلى بلوغ الحقّ سالكٌ للجميع بحيث يتسنّى لكلّ إنسان معرفة الحقّ عن طريق البحث والتحليل وتبادل وجهات النظر بشكل متواصل لأجل معرفة الدين الواحد الشامل.
بناءً على ذلك لا تقتضي الضرورة البحث والتحرّي بخصوص الثقافات وما فيها من أعراف وتقاليد، في حين أنّ مسألة الإيمان والكفر ذات ارتباط وثيق بالواقع وبمصير الإنسان وسعادته في حياته الآخرة، لذا تقتضي الضرورة البحث والتحرّي بخصوصها.
(166)ليس المقصود من التعدّدية الدينية إمكانية التعايش السلمي بين أتباع أديان ومذاهب متنوّعة في رحاب مجتمع واحد، إذ من الممكن أن يتعايش الناس مع بعضهم في رحاب حياة مشتركة بأمنٍ وسلامٍ رغم تنوّع أفكارهم ومعتقداتهم ومذاهبهم وأديانهم.
كذلك ليس المقصود من تعايش الناس بشكل سلمي مع اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم هو تفرّد كلّ قومٍ بعقيدتهم وادّعاء أنّ غيرهم على باطل ومصيره جهنّم وبئس المصير بحيث ينبذ بعضهم البعض لكنّهم يضطرّون لأن يتعايشوا في رحاب حياة مشتركة، فربّما يعتبر كلّ قومٍ غيرهم على باطلٍ لكنّ هذا الغير برأيهم معذورٌ لأنّهم لا يعتبرون كلّ باطلٍ مصيره جهنّم وبئس المصير من منطلق احتمالهم وقوعه في خطأ على صعيد تشخيص الحقّ؛ إذ لو أخطأ إنسان في معرفة الهدف الصحيح بعد السعي والمحاولة قد لا يكون مصيره العذاب في الآخرة حتّى إذا حرم من نيل بركات فيض الربّ تعالى.
إذن، الحياة السلمية بين أتباع مختلف الأديان والمذاهب هي في الواقع كالإمساك بجمرةٍ، أي أنّها مجرّد تظاهر بالسلم، وهي ليست سلماً سياسياً وإنّما سلم إنساني، إذ قد يكون أحد الأطراف على حقّ والآخر على باطل إلا أنّ من اتّبع الباطل ربّما لم يكن مقصّراً في تشخيص الحقّ بل عجز عن تشخيصه، أي أنّه بذل ما بوسعه في هذا المضمار دون أن يتمكّن من تحقيق هدفه، لذا حتّى إذا كان كلامه باطلاً فهو ليس من أهل جهنّم، لأنّه معذور ومصداق لمن وصفهم الله تعالى بالمرجون لأمره في الآية المباركة التالية: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التّوبَة: 106].
(167)نستشفّ من مضمون آي الذكر الحكيم أنّ أتباع مختلف الأديان بإمكانهم التعايش مع بعضهم في إطار حياة سلمية فيما لو اتّفقوا على المبادئ العامّة للأديان التي يعتنقونها، وبعبارة أخرى يمكنهم التعايش بأمنٍ وسلامٍ مع بعضهم فيما لو كان الدين الحاكم واحداً وأتباع سائر الأديان خاضعين لأحكام هذا الدين على صعيد القضايا العامّة الحاكمة في البلد رغم أنّهم في شؤونهم الشخصية تابعين لأحكام أديانهم؛ ومن هذا المنطلق خاطب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أهل الكتاب قائلاً: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عِمرَان: 64]. مفهوم كلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه الآية هو أنّنا موحّدون وينبغي أن لا نفرض رأينا على بعضنا وأن نؤمن بالمبادئ العامّة لوحي السماء. من المؤكّد أنّ هذا الكلام لا يدلّ على التعدّدية الدينية التي يدّعي القائلون بها صواب تعاليم جميع الأديان وكون كافّة العقائد على حقّ حتّى إذا تعارضت مع بعضها، بل الواقع هو أنّ التعاليم والمعارف التي تتطابق مع التعاليم والمعارف الإسلامية هي الحقّ، أي الحقّ هو ما تطابق مع الإسلام بصفته خاتم الأديان السماوية وحاكماً عليها.
غير المسلمين لهم الأمان ومن حقّهم العيش تحت كنف الإسلام لكنّ النجاة في المعاد لطائفة واحدة من منطلق أنّ سبيل الحقّ واحدٌ لا غير، فالسبيل الذي يقود الإنسان نحو السعادة الأبدية في الحياة الآخرة ليس متعدّداً.
في هذا السياق يطرح سؤالان أساسيان هما كالتالي:
السؤال الأوّل: هل من الصواب أن نعيش بسلامٍ مع أتباع سائر
الأديان والمذاهب؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن لأتباع مختلف الأديان والمذاهب التعايش مع بعضهم بسلامٍ كي يحافظوا على أمن بلدهم واستقراره؟
الإجابة عن هذا السؤال تفاصيلها خاصّة سوف نذكرها لاحقاً.
السؤال الثاني: هل العامل الحقيقي لتكامل الإنسان واحد أو متعدّد؟ ويمكن تقرير هذا السؤال بتعابير أخرى هي كالتالي:
هل يتسنّى للإنسان بلوغ كماله المنشود على ضوء الاعتقاد بحقيقة واحدة لا ثاني لها وسلوك سبيل واحد لا وجود لغيره؟
هل العامل الذي يقود الإنسان نحو تكامله عبارة عن حقيقة واحدة أو حقائق متعدّدة؟
هل القيامة هي المضمار الذي تتجلّى فيه كمالات تلك الحقيقة الواحدة؟
للإجابة نقول: إذا أردنا الحديث عن الكمال الحقيقي ومسألة القيامة، لا بدّ لنا من الإذعان إلى وجود سبيل واحدٍ يضمن للإنسان هذا الكمال ولا وجود لسبيل غيره، لكنّ الأمر بالنسبة إلى إدارة البلد وجمع آراء كافّة العلماء والمفكّرين تحت مظلّة واحدة يختلف، إذ هناك سبيلان في هذا المجال هما كالتالي:
1. اعتناق الشعب ديناً واحداً فقط.
2. يمكن لأتباع مختلف الأديان الحفاظ على معتقداتهم إلى جانب احترام المقرّرات التي يتمّ إصدارها وفق تعاليم دينٍ واحدٍ، وعلى هذا الأساس يتسنّى لهم العيش مع بعضهم بأمنٍ وسلامٍ، إذ لا سلطة لأحدٍ على معتقداتهم وأفكارهم في حياتهم الدنيوية، ولا يمكن لأحدٍ نبذ أفكار غيره وزعم أنّ الفكر مختصّ به على نحو الحصر وكلّ ما يقوله حقّ
(169)بحيث يلزم الآخرين باتّباع ما يمليه عليهم ويجبرهم على أن يفكّروا مثله، بل الفكر حقّ للجميع ولا يمكن لأحدٍ منعهم منه؛ لذلك قال تعالى في كتابه الكريم على لسان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا﴾ [آل عِمرَان: 64]. مغزى هذه العبارة القرآنية هو عدم جواز فرض الإنسان فكره على الآخرين، بل لا بدّ من قبول كلّ فكر متقن ودقيق أيّاً كان صاحبه.
مسألة الحياة السلمية مع أتباع سائر الأديان ومنحهم الحقّ في حرّية الفكر وطرح الآراء التي تتمخّض عن أفكارهم، تختلف عن مسألة النجاة والسعادة في الحياة الآخرة، فهي لا تعني أنّهم جميعاً ناجون وسعداء في الحياة الآخرة، فالهدف من الخلقة واحدٌ والفطرة الإنسانية واحدةٌ والسبيل إلى النجاة والسعادة واحدٌ أيضاً كما ذكرنا آنفاً، وعلى هذا الأساس يجب على الإنسان أن يسلك سبيلاً واحداً بغية تحقيق هدفٍ واحدٍ وفق ما تمليه عليه فطرته الواحدة.
بناءً على ذلك لو أردنا استقصاء واقع الآراء والعقائد من حيث ارتباطها بالحياة الآخرة، فلا بدّ من الإذعان إلى أنّ السبيل الذي يضمن النجاة والسعادة في تلك الحياة واحدٌ، أي أنّ سبيل الحقّ واحد لا ثاني له؛ لكن لو أردنا استقصاءها من حيث تعايش البشر في الحياة الدنيا، نقول يمكن لكافّة الناس - مهما تنوّعت أديانهم - العيش بأمن وسلام والتفكير بحرّية، ومن ثمّ بإمكانهم السير في السبيل الصحيح دون أن يتجاوزا الأسس المستوحاة من العقل والنقل بحيث يتسنّى لهم تحقيق مقاصدهم الدنيوية.
تعاليمنا الإسلامية تؤكّد على ضرورة أن يعيش المسلمون مع أقرانهم المسلمين ومع أتباع سائر الأديان السماوية وغيرهم بأمنٍ وسلامٍ وأن
يتعاملوا بعدلٍ، وهذا ما نلمسه جلياً في القرآن الكريم وقد تمّ تطبيقه في رحاب الحكم الإسلامي، والآيات الدالّة على هذا الموضوع نستنتج منها ما يلي:
1. يجب على المؤمنين والمؤمنات أن يتعايشوا مع بعضهم بأخوّةٍ وسلمٍ، فقد قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحُجرَات: 10]. فحوى هذه الآية هي أنّ المؤمنين إخوةٌ في الدين، لذا لا بدّ من الإصلاح بينهم.
2. يجب على المؤمنين والمؤمنات أن يتعاملوا بسلمٍ مع الموحّدين الذين يعيشون تحت مظلّة الحكومة الإسلامية مثل اليهود والنصارى الذين يؤمنون بالله ونبوّة الأنبياء، لأنّهم موحّدون من جهةٍ معينةٍ باستثناء الذين يعتقدون عامدين بالتثليث أو التشبيه.
3. يجب على المؤمنين والمؤمنات أن يتعاملوا بسلمٍ مع الكفّار والملحدين الذين استحوذ عليهم الفكر المادّي الإلحادي وحال دون توحيدهم واعتقادهم بالمبدأ والمعاد شريطة أن لا يكونوا متآمرين للإطاحة بالحكومة الإسلامية، بل مستعدّون لأن يتعايشوا مع المسلمين بأمنٍ وسلامٍ؛ ولو حاولوا الإطاحة بالحكومة الإسلامية فلا بدّ حينئذٍ من التصدّي لهم وفق تعاليمنا الإسلامية.
قال تعالى في سورة الممتحنة بهذا الخصوص: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٨﴾ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المُمتَحنَة: 8-9]. استناداً إلى هاتين الآيتين، يجب التعامل بقسطٍ وعدلٍ مع الكفّار الذين لم يكن ماضيهم إجرامياً تجاه المسلمين ولا حاضرهم إجرامي، أي أولئك الكفّار الذين لم يلحقوا الضرر بالمسلمين ودينهم قبل انتصار الإسلام ولا بعد انتصاره.
نستنتج من هذا الكلام أنّ التعايش بسلامٍ واجبٌ مع الذين لم يؤذوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حينما كان مضطهداً في مكّة، ولم يتعرّضوا له ولدينه ولسائر المسلمين بعد أن هاجر إلى المدينة وأسّس فيها حكومةً إسلاميةً. كذلك يمكن التعايش بسلامٍ مع الكفّار المحايدين الذين لا يحاربون الإسلام ولا يعينون من يحاربه ولا يحاولون فعل شيءٍ ينصبّ في ضرره من مختلف النواحي الفكرية والمالية والعسكرية والسياسية بحيث يتمسّكون بهذا الحياد بشكل دائم؛ لذا يجب التعامل معهم بأسلوب إنساني، أي لا يقتصر الواجب على عدم ظلمهم فقط، بل لا بدّ من معاملتهم بقسطٍ وعدلٍ وإحسانٍ، لأنّ هذه السلوكيات تعكس الخصال الحميدة للإنسان المسلم حتّى إذا طبّقها مع كافرٍ؛ وفي الحين ذاته يستقبح لكلّ مسلم التعامل بجور وظلم حتّى مع الكافر.
إذن، العيش بسلامٍ مع أتباع سائر الأديان والمذاهب أمرٌ مقبول حسب التعاليم القرآنية، وأمّا مسألة عاقبة البشر في الحياة الآخرة من حيث النجاة والعذاب، فهي بحثٌ آخر.
الجدير بالذكر هنا أنّ القاصرين - غير المقصّرين - معذورون، وأمرهم موكولٌ إلى الله عزَّ وجلَّ.
التعايش بسلامٍ مع الآخرين يختلف عن التسامح، فقد أمر الله تعالى المسلمين بأن يتعايشوا مع الكفّار والمشركين بسلامٍ وفق شروط خاصّة وفي ظروف معينة لكن لم يأمرهم بالتسامح على الإطلاق، إذ لم يقل لهم تعاملوا معهم بتساهل وتسامح، بل الركيزة الأساسية في القرآن الكريم هي عدم مهادنة الباطل وأتباعه، فقد قال تعالى: «فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ
(172)تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون»، لا تطع المكذّبين، إنّهم يرغبون في أن تتساهل بأحكام دينك كي يتساهلوا معك، لكن هذا التساهل فيه انحراف عن الحقّ. إذن، هذه الآية تدلّ على أنّ الله عزَّ وجلَّ حذّر النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم من إبداء أدنى مرونة أمام اقتراح المشركين الباطل، وأمره أن لا يداهنهم.
أهل الحقّ لديهم أهداف مقدّسة راسخة بحيث لا يساومون عليها مطلقاً ولا يهادنون أحداً بخصوصها بأيّ شكلٍ كان، ولا يمنحون الطرف المقابل امتيازاً لا يستحقّه، فقد روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام: «ولَعمري، ما عليٌّ من قتال مَن خالف الحقَّ وخابط الغيّ من إدهانٍ وإيهانٍ».
المتدين لا يبدي أيّ ضعفٍ أو ليونةٍ من الناحيتين العملية والاعتقادية أمام الأعداء وأهل الباطل، فهو لا يتراجع مطلقاً عن مبادئه الأيديولوجية والاعتقادية، ولا يتخلّى عن مواقفه الأصيلة في كلّ سلوكياته.
الأحاديث المباركة وصفت الإسلام بأنّه دين الشريعة السمحة السهلة، ولم تعتبره ديناً متسامحاً متساهلاً، وهذا يعني أنّه دين يتناغم مع الفطرة الإنسانية السليمة، وهذا التناغم الفطري سببه يعود إلى سهوله الأحكام الشرعية الإسلامية بحيث يمكن للإنسان والمجتمع تحمّلها، فالإسلام لم يشرّع أحكاماً شاقّةً لا تتناغم مع القابليات الفردية والاجتماعية للبشر.
الشيخ محمد بن يعقوب الكليني رحمهالله روى في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام ما يلي:
«جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت: يا رسول الله، إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل؛ فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مغضباً يحمل نعليه حتّى جاء إلى عثمان فوجده يصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له: يا عثمان، لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفّية السهلة السمحة، أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح».
(173)كذلك روى عنه:
«إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهالسلام : التوحيد والاخلاص وخلع الأنداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة؛ أحلّ فيها الطيبات وحرّم فيها الخبائث ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم».
وقد أكّد الله عزَّ وجلَّ على يُسر الذكر في كتابه الحكيم قائلاً: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».
معارف القرآن الكريم تتضمّن أحكاماً يسيرةً يطيقها الناس كافّةً، لذلك وصفه الله عزَّ وجلَّ بالكتاب ميسّر الذكر، وإلى جانب ذلك وصفه بالقول الثقيل، ممّا يعني أنّه رغم يسره لكنّه ليس فارغاً - خفيفاً - عديم المضمون، بل ذو مضمون عظيمٍ - ثقيل - لذا فالسهولة في هذا المضمار يقصد منها الجهة المقابلة للصعوبة والمشقّة، لأنّ مواضيع الكتاب الحكيم سهلة وأداؤها يسير ليس فيه مشقّة، لكنّها مع ذلك ثقيلة كما قال تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً». المقصود من الكلام الثقيل في هذه الآية الثري والعميق والمتعالي في مضمونه، لذا فالقرآن الكريم بداعي اتّصافه بهذه الميزة، لا يعدّ خفيفاً أو موهوماً أو ظنّياً أو فارغاً من المضمون، بل هو كتابٌ أعلا شأناً من عرف عامّة الناس رغم إمكانية التنزّل بمعارفه السامية إلى مستوى فهمهم وإدراكهم على ضوء بيانه لهم بأسلوبٍ سلسٍ وبسيطٍ.
الإسلام بناءً على ما ذكر دين سهل يسير، لكن ليس فيه تسامح لأنّ التسامح من صفات البشر، وهو مذمومٌ في القرآن الكريم الذي وصفه بالمداهنة، وإنّما الممدوح في الدين هو السماحة والسهولة؛ كذلك وصف الله عزَّ وجلَّ القرآن بالثقيل، وهذا الوصف ممدوحٌ بالنسبة إلى القرآن نفسه لأنّ التثاقل وصفٌ مذمومٌ للإنسان كما قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [التّوبَة: 38].
(174)أدلّة السنن فيها تسامح، لكنّه لا يعني التساهل في العمل، بل المقصود منه هو أنّ كافّة السنن والمستحبّات يجب أن تستند إلى مرتكز علمي يقيني تكون حجّيته ذاتيةً باعتبار أنّ كلّ أمرٍ عرضي لا بدّ وأن ينتهي بشكل حتمي إلى أمرٍ ذاتي؛ لذا بما أنّ الأدلّة القطعية اليقينية هي الركيزة الأساسية للأحاديث التي نستخلص منها المستحبّات، فالضرورة تقتضي استقصاء أسانيد بعضها بدّقة متناهية.
الجدير بالذكر هنا أنّ علم أصول الفقه المبارك هو الذي يتطرّق إلى بيان تفاصيل هذا الموضوع، إذ بواسطته يتعرّف الباحث على ما إن كانت أحاديث «مَن بلغَ...» تثبت استحباب مضمون الروايات الضعيفة أو أنّها تثبت الثواب الذي يتحقّق من الانقياد لها فحسب أو تثبت شيئاً آخر.
استناداً إلى ذلك ليس هناك ارتباط بين مسألتي التسامح في أدلّة السنن والتسامح إزاء سلوك الآخرين، فالإسلام في واقعه دين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا من خصائص الأمّة الإسلامية دعوة أبنائها بعضهم البعض إلى عمل الخير والمعروف والتحذير من كلّ عملٍ غير لائقٍ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «وَمِنْهُمْ تَارِكٌ لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَيَدِهِ، فَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ». من يتسامح إزاء القبيح من سلوك الناس هو في الحقيقة ميّت في قالبٍ متحرّكٍ، أي أنّه جنازةٌ واقفةٌ بشكلٍ عمودي، فهو حيٌّ في رحاب حياةٍ حيوانيةٍ نباتيةٍ ولا ينعم بنصيبٍ من الحياة الإنسانية.
من المستحسن للإنسان أن يفسح المجال للآخرين كي يعربوا عن آرائهم ويطرحوا أفكارهم وبدوره يجب أن يستمع لهم ويتعرّف على طبيعة فكرهم، وهذا التنوّع الفكري في الواقع محدود في نطاق التفاهم وتبادل
(175)وجهات النظر ولا يدلّ على وجود تعدّدية فكرية حقيقية، لأنّ الحقيقة واحدة لا أكثر ويجب على كلّ إنسانٍ بذل ما بوسعه لمعرفتها.
الواجب على كلّ إنسانٍ أن يؤمن بضرورة السعي الحثيث بغية معرفة الحقيقة، وفي هذا المضمار بإمكانه الاستعانة بآراء الآخرين كي يتاح له استكشاف الحقيقة الأصيلة، فلربّما كانت عقيدته متقوّمة على مبادئ خاطئة وعقيدة الآخرين قوامها حقٌّ، لذا من المفترض به الاستفادة من آرائهم.
نستشفّ ممّا ذكر أنّ التعدّدية الحقّة هي التي تعني السماح للآخرين في أن يطرحوا آرائهم على الصعيد الفكري، إذ هناك العديد من الأساليب - السبُل - التي يمكن للإنسان اتّباعها لأجل معرفة الحقيقة الأصيلة التي لا وجود لغيرها، ومن هذه الأساليب ما هو صائبٌ يقود من يتّبعه إلى الهدف المنشود، ومنها ما هو سقيمٌ وخاطئٌ لا يكشف الواقع لمن يتّبعه على الإطلاق؛ لذا إن أراد الإنسان معرفة الحقيقة ينبغي له الاستماع إلى آراء الآخرين ثمّ يختار منها النظر الصائب، أي القول الأحسن حسب التعبير القرآني، فقد قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿١٧﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزُّمَر: 17-18]. إضافةً إلى المعنى الظاهر من نصّ الآية، فهي تستبطن أيضاً معنىً لطيفاً آخر فحواه أنّ الإسلام يتضمّن الكثير من الأحكام، وكلّ هذه الأحكام تمتاز بالــحُسن المطلوب إلا أنّ فيها ما هو أحسن. من يستقصي المعارف الإسلامية بكلّ جزئياتها وأنواعها ثمّ يختار ما هو أحسن منها، فهو يستحقّ الجنّة والبشرى.
حينما نستقصي مختلف الأديان نلاحظ أن تعدّدها كائن على نحو التشكيك، أي أنّها لا تنوب عن بعضها، فهي تشترك في الكثير من المبادئ الاعتقادية والفقهية والأخلاقية والقانونية لكنّها على درجات متباينة، إذ منها ما هو كامل ومنها الأكمل.
وبيان ذلك كما يلي: البحث في هذا المجال يتمحور حول موضوعين أساسيين، أحدهما وجود تشكيك على صعيد الحقائق الخارجية والمعارف البشرية، والآخر عدم نسبية هذه الحقائق والمعارف.
نسبية الشيء بمعنى عدم استقلاله بذاتٍ معينةٍ، بل عبارة عن أمرٍ يتبنّاه الإنسان عن طريق المقارنة أو الحساب أو الاعتبار، حيث يعتقد بمختلف أنواع القضايا على هذا الأساس، مثل القرب والبُعد، والأمام والخلف، واليمين واليسار، وما إلى ذلك من قضايا مشابهة، فهي نسبيةٌ ولا تتّسم بأيّ معنى ما لم يقارنها الإنسان بقضايا أخرى، ناهيك عن أنّها عرضة للتغيير والتحوّل تناسباً مع التغييرات والتحوّلات التي تطرأ حولها، كالشجرة التي توصف بكونها قريبةً من هذا الشيء وبعيدةً عن ذلك الشيء.
هذا النوع من النسبية لا يصدق على الحقائق الخارجية، لأنّها موجودة بذاتها - بواقعها - في عالم الخارج، فما هو في حقيقته مجرّد يبقى دائماً في تجرّده وما هو مادّي يبقى دائماً في مادّيته، لذا لا يتغيّر بالمقارنة أو الحساب أو الاعتبار؛ كما أنّ المعارف البشرية ليست نسبيةً، فهي صائبةٌ إن تطابقت مع الواقع، وإن لم تنطبق معه تعدّ باطلةً، وبالتالي لا تتغيّر عن طريق المقارنة؛ وعلى هذا الأساس لا يمكن ادّعاء أنّ الحقائق الخارجية أو المعارف البشرية نسبيةٌ بهذا النحو؛ لكن التشكيك - اختلاف الدرجات - واردٌ على الأمرين، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ كلّ شيء له مقامه الخاصّ به، فبعض الأشياء تعدّ عللاً وبعضها معلولات، ومنها ما هو أفضل، كذلك منها ما هو فاضل.
هناك أربعة عناصر معتبرة في التعدّدية التشكيكية، وهي كالتالي:
1. تعدّدية حقيقية.
2. وحدة حقيقية.
3. تعدّدية تعود في أساسها إلى وحدة حقيقية.
(177)4. وحدة تسري إلى تعدّدية حقيقية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ التعدّدية التي تعود في أساسها إلى وحدة حقيقية تعتبر أمراً حقيقياً من الناحية التشكيكية وليست مجازاً.
نستشفّ ممّا ذكر أنّ الحقائق الخارجية تنتظم على هيئة تشكيك، والمعارف البشرية هي الأخرى ذات درجات تشكيكية، إذ لو انطبقت هذه المعارف مع الواقع فهي تتمتّع بحظٍّ من الوجود وتعدّ حقّاً وصواباً، لكنّها إن لم تنطبق معها فهي باطلةٌ كاذبةٌ.
الحقّ هو الآخر ذو درجاتٍ، إذ قد يتمكّن أحد العرفاء في عصرٍ ما من تحصيل معرفة شهودية تنطبق مع الواقع، أو قد تكون الواقع بذاته، ثمّ يأتي بعده عارف آخر يدرك هذا الواقع على ضوء معرفة شهودية أكثر دقّةً وعمقاً، لذا يعتبر شهوده أحقّ من شهود الذي سبقه. من المؤكّد أنّ كلا العارفين حدث لهما شهود صادق هو عين الحقّ، لكنّ شهود الثاني أحقّ من شهود الأوّل؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى العلم الحصولي.
التعدّدية الموجودة على صعيد الأديان والشرائع السماوية تعدّ نسبيةً في واقع الحال، وهذه النسبية ليست حقيقيةً ولا معرفيةً، بل تشكيكيةً، فهي عبارة عن تشكيك على صعيد الحقائق الخارجية والمعارف البشرية، لأنّ كلّ شريعة سماوية تتناسب مع متطلّبات العصر التي أقرّها الله تعالى له، لذا على الرغم من اشتراكها إلا أنّها تحتوي على الكثير من التشريعات والقوانين التي تتنوّع بتنوّع الزمان ويمكن تشبيهها بالدواء المتنوّع الذي يصفه الطبيب البارع للمريض، حيث يأمره في كلّ مرحلة بتناول نوعٍ معيّنٍ من الدواء على أساس أنّ الفائدة تتحقّق في كلّ مرحلةٍ من أحد الأنواع؛ وهذا الأمر يدلّ بكلّ تأكيد على أنّها كلّها مفيدة ولا يدلّ مطلقاً على فائدة بعضها وعدم فائدة البعض الآخر.
(178)إذن، الاختلاف في الشرائع السماوية ناشئ من التشكيك الكائن على صعيد الحقيقة، وكذا هو الحال بالنسبة إلى المعارف البشرية، إذ بما أنّ إدراك الناس للواقع ذو درجات متباينة، فهي ذات طابع تشكيكي، وهذا هو السبب في الاختلاف بين الفقهاء والمفسّرين على صعيد بعض المسائل.
التعدّدية تضرب بجذورها في نمط معرفة الإنسان وتوجّهاته الأيديولوجية، وعلى ضوء هذه المعرفة تسري إلى الفكر الديني، وهذا يعني أنّ الأيديولوجيا هي المصدر الأساسي للتعدّدية، لذا إن اقتضت معرفة أحد الناس وتوجّهاته الأيديولوجية أن يعتقد بكون الحقيقة والفكر أمرين نسبيين، فهو يتبنّى هذه الرؤية على صعيد المعتقدات الدينية أيضاً بحيث ينظر إلى الدين بأسلوب نسبي وتعدّدي.
وفيما يلي نتطرّق إلى بيان مناشئ الرؤية التعدّدية.
المقصود من النسبية في الفهم هو عدم وجود شيء يمكن للإنسان فهم حقيقته سواءً كان نسبياً أو نفسياً، أو كان محدوداً أو مطلقاً، إذ لا قدرة له على معرفة واقعه.
أتباع بعض الأيديولوجيات يعتقدون بأنّ الحقيقة عبارة عن أمرٍ غير محدودٍ - مطلق - بينما عقل الإنسان وفكره محدود، وعلى هذا الأساس استنتجوا عدم قدرة العقل على إدراكها لكون المحدود عاجزاً عن فهم كُنه اللامحدود، وهذا يعني أنّ كلّ إنسانٍ بإمكانه إدراكها حسب قابليته العقلية. بعد هذا الاستنتاج ادّعوا أنّ فهم كلّ إنسانٍ للحقيقة صائبٌ، ومن ثمّ يجب اعتبار كافّة الآراء والنظريات صحيحةً، وكلّ المدارس الفكرية على حقّ.
(179)يعتقد البعض أنّ المنشأ الآخر للنسبية هو الاختلاف بين طبيعة فهم البشر للحقائق الخارجية، وقصدهم من ذلك أنّ هذه الحقائق تختلف عمّا يتصوّره الإنسان لكونها ذات طابع معين وميزات خاصّة بها، لذا حينما تلج في منظومته الإدراكية وتتغلغل في خلايا دماغه ثمّ تجري في ممراته التي تتبلور على هيئة فكرٍ في نهاية المطاف، سوف تتّسم بطابع آخر وميزات مختلفة عمّا كانت عليه في عالم الخارج؛ ونظراً للاختلاف الكائن بين البشر على صعيد منظوماتهم الإدراكية وخلاياهم الدماغية فكلّ واحدٍ منهم يدرك الحقيقة وفقاً لقابلياته بحيث تتّسم بصبغة ما لديه من أفكار.
بناءً على ما ذكر لا يمكن لأيّ إنسانٍ إدراك الحقيقة المطلقة بواقعها، بل غاية ما في الأمر أنّه يدركها تناسباً مع قابلياته الفكرية وليس كما يدركها غيره وليس كما هي في عالم الواقع، فالحقيقة بحدّ ذاتها عبارة عن أمرٍ واقعٍ مطلقٍ لا يمتاز بأيّة خصوصية، لذا يدركها كلّ إنسانٍ على أساس خصائص إدراكية مجازية.
هذه الرؤية التعدّدية على الصعيد الأيديولوجي تغلغلت في باطن المعارف الدينية، حيث طبّق أصحابها رؤيتهم إزاء عالم الطبيعة على الشريعة الدينية، وثمرة ما توصّلوا إليه في هذا المضمار هي ادّعاء أنّ كلّ إنسانٍ يفهم الدين حسب قابلياته، وبالتالي فهم كافّة الناس حقّ.
المبدأ الأوّل للتعدّدية هو اعتبار الحقيقة أمراً مطلقاً، لكن ما هي هذه الحقيقة المطلقة؟ لو كان المقصود من الإطلاق لامحدودية حقائق إمكانية معينة مثل الماء والتراب والأشياء التي يسعى الإنسان إلى معرفتها بداعي ارتباطها به، فهذا الكلام باطلٌ، إذ ليس من الصواب بمكانٍ اعتبار الشجرة
(180)حقيقةً مطلقةً بحيث لا يدرك كُنهها حتّى المهندس الزراعي، كذلك لا يمكن ادّعاء أنّ الميكروبات كائنات مطلقة لا يدرك حقيقتها حتّى الطبيب المتخصّص في الطبّ الميكروبي؛ والسبب في ذلك طبعاً يعود إلى أنّ كافّة الحقائق الخارجية محدودة وليست مطلقةً، لذا ليس هناك محذور من معرفة كُنهها، والإنسان بدوره قادر على ذلك.
أضف إلى ذلك هناك تعارض في بادئ وخاتمة القول بإطلاق الحقائق الخارجية، إذ لو كان الشيء مطلقاً فليس من الممكن أن يوجد شيءٌ في مقابله، أي لا يمكن القول على سبيل المثال «الماء حقيقة مطلقة، والذهب أيضاً حقيقة مطلقة»، إذ لو كان الماء حقيقة مطلقة حقّاً فلا يبقى أيّ مجال لوجود حقيقة مطلقة غيره؛ وعلى هذا الأساس فالجمع في شيء واحد بين التعدّد والإطلاق هو في الواقع جمع بين نقيضين، وهو باطل طبعاً.
إذن، كلّ شيء موجود في عالم الخارج يعدّ محدوداً في الواقع - غير مطلق - ومن المؤكّد أنّ كلّ محدود يمكن للإنسان إدراك كُنهه، أي أنّ معرفة حقيقته ليست بالأمر المستحيل.
لكن إذا كان المقصود هو إطلاق كافّة الحقائق الموجودة في العالم فهذا الكلام صائبٌ، لكن ليس هناك من يدّعي إمكانية فهم كافّة الحقائق الماضية والحاضرة والمستقبلية.
كذلك لو كان المقصود هو إطلاق ذات البارئ تبارك شأنه، فهذا الكلام وإن كان حقّاً لكن لا أحد يمكنه ادّعاء قدرته على الإحاطة بمكنون هذه الذات المقدّسة.
المبدأ الثاني للتعدّدية كما ذكرنا آنفاً هو أنّ كلّ إنسان لديه منظومته الإدراكية الخاصّة به ويمتلك خلايا دماغية مستقلّة، لذا تختلف عناصر
(181)الاستقبال الدماغية والفكرية لديه عمّا لدى الآخرين، وإثر ذلك تختلف المعارف المكنونة في ذهنه عن معارف غيره.
هذا الاستنتاج غير صحيح لأنّ إدراك الإنسان لا يتوقّف على الدماغ وخلاياه فحسب، بل الخلايا الدماغية مجرّد وسيلة لعملية الفكر، فالروح المجرّدة هي التي تتولّى مهمّة القطع واليقين العلمي وهي صاحبة القرار العملي الذي يتّخذه الإنسان.
الإدراك عبارة عن أمرٍ مجرّدٍ وهو ليس من وظائف القلب والدماغ المادّيين، بل تقتصر وظيفتهما على كونهما وسيلتين تؤثّران وتتأثّران، وحينما يواجهان مسائل علمية تتهيّأ الأرضية المناسبة للروح المجرّدة كي تقوم بعملية الإدراك، وعلى هذا الأساس عندما تبلغ الروح حدود الفكر فهي تجد نفسها غير مقيّدة بمكانٍ معينٍ، بل تشعر بعدم تعلّقها بأيّ مكانٍ. المقصود من هذا الكلام هو أنّ الإنسان من الناحية البدنية يمكنه أن يقول الآن «أنا موجود الآن في هذه المدينة وهذا الزمان» لكنّ روحه ليست كذلك، حيث هي تطوي مسيرتها في السماء والبرّ والبحر، فالتقني المتخصّص في دراسات أعماق البحار على سبيل المثال يجلس في محلّ عمله الخاصّ بالدراسات والبحوث العلمية لأجل أن يرسم تصميماً هندسياً لصناعة غوّاصة تجوب أعماق البحار، لذا عادةً ما يسخّر وقته لدراسة خصائص هذه الأعماق في كلّ مكانٍ من الكرة الأرضية، حيث يؤدّي هذه الوظيفة دون أن يغوص بنفسه في أعماق كافّة البحار والمحيطات لاستطلاع أوضاعها، بل يجلس أمام طاولة وأمامه كتاب أو مجموعة من الكتب إلا أنّ روحه تجوب أعماق البحار والمحيطات؛ وكذا هو حال عالم الفلك الذي يستكشف المجرّات بكلّ براعةٍ.
إذن، روح الإنسان ليست في الأرض ولا في السماء لأنّ الكائن
(182)المجرّد غير مقيّد بحدود الزمان والمكان، لذا هناك كائنات محدودة بنطاق الزمان أو المكان، وهناك كائنات غير محدودة بذلك.
بما أنّ الأرض ذات ارتباطٍ بمسألة الزمان، لذا يمكن للسائل أن يسأل «كم سنةً عمرها؟» لكن لا يمكن السؤال مطلقاً عن عمر المسائل الرياضية، إذ ليس من المنطقي أي يسأل سائل «كم سنةً عمر المعادلة الرياضية التالية: 2 * 2 = 4؟» أو يسأل «كم سنةً عمر القاعدة القائلة بأنّ مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين؟»، كذلك لا صواب للسؤال عن عمر القاعدة الفلسفية القائلة بوجود علّة لكلّ معلول.
كذلك يمكن للسائل أن يسأل عن وزن الأشياء، كما لو قال «كم غراماً وزن هذا الكتاب؟»، إذ توجد إجابة لهذا السؤال وما شاكله، لكن ليس من الصواب مطلقاً السؤال عن وزن روح الإنسان أو فهمه أو إيمانه أو عدله لكون هذه الحقائق مجرّدة ولا تتّسم بطابعٍ مادّي أو وزنٍ كي يتمّ تقييم وزنها بالغرام أو غيره من المقاييس المادّية؛ كما أنّ كلّ مجرّد لا مكان ولا زمان له على الإطلاق؛ ناهيك عن أنّ الروح التي تدرك هذه المعاني والمعارف المجرّدة من الزمان والمكان، لا يمكن أن تخضع لقيود الزمان والمكان.
نستنتج ممّا ذكر بخصوص المعرفة البشرية أنّ وسائل الإدراك الموجودة لدى بني آدم مختلفة وإثر ذلك تتنوّع حالات الفعل والانفعال الدماغي من شخصٍ لآخر، إلا أنّ هذا الاختلاف الكائن في الجانب المادّي لا يعدّ دليلاً يثبت لزوم وجود اختلاف على صعيد الإدراك لكون الفكر لا يقتصر على هذه الوسائل المادّية فقط، ويمكن تشبيه هذا الأمر بمن يستخدم عدّة أقلامٍ لكتابة موضوعٍ واحدٍ.
لو افترضنا أنّ كافّة المعلّمين والأساتذة تمكّنوا من نقل ثمرة أفكارهم
إلى تلامذتهم بنجاحٍ بحيث قبل الكثير منهم في الامتحانات النهائية، فهذا الأمر يدلّ على أنّ هؤلاء الناجحين قد فهموا ذات الشيء الذي أدركه أساتذتهم؛ ويمكن تشبيه المسألة بقراءة كتابٍ، أي أنّ قارءه يفهم ذات ما فهمه مؤلّفه ولم يفهم منه معنى آخر لا ارتباط له بما تمّ تدوينه، فلو كان الفهم غير المقصود لانقطع الارتباط بين الفهم والتفهيم.
إذا كان إدراك الحقائق لدى كلّ إنسان حسب خصائص فهم دماغه وخلاياه، كيف يمكنه حينئذٍ نقلها بذاتها إلى الآخرين؟! من المؤكّد أنّ الخلايا الدماغية مجرّد وسيلة للفهم والتفكير وليست مدركاً حقيقياً، لأنّ الإدراك من وظائف الروح التي ليس لها لونٌ ولا رائحةٌ أو أيّة ميزة مادّية أخرى، وعلى هذا الأساس فما تدركه لا يتّصف أيضاً بأيّة ميزة مادّية ولا يترتّب عليه أيّ أثر من الآثار التي تترتّب على الأمور المادّية.
المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها الرؤية التعدّدية وليدة للنزعات الشكّية والأفكار السوفسطائية، فمن يقول: «الحقيقة هي كلّ أمرٍ مطلقٍ، بينما الإنسان كائنٌ محدودٌ، لذا لا يمكنه إدراكها لأنّ المحدود لا قدرة له على فهم المطلق»، هو في الواقع مبتلى بمعضلة السفسطة، لأنّ الوجود المطلق مختصّ بالذات الإلهية المقدّسة فحسب، وكافّة الكائنات في عالم الوجود محدودة، ولا أحد يدّعي أنّ الإنسان قادر على إدراكها كافّةً.
الإنسان على ارتباط بما يحيط به، فالخبير المختصّ بصيد الأسماك بطبيعة الحال يعرف مختلف أنواع الأسماك وأسماءها، كما أنّ المهندس المختصّ بتصميم السدود لديه علم بموادّ البناء اللازمة لإنشائها مثل نوع الإسمنت وسائر المكوّنات التي يجب استخدامها في تشييدها وطبيعة الأرض التي تشيّد عليها. هذا النوع من العلم ممكن للبشر لكون موضوعه
(184)عبارة عن أمرٍ محدودٍ، وروح الإنسان من منطلق تجرّدها قادرة على إدراك هذا الموضوع المحدود بكلّ جزئياته.
الجدير بالذكر هنا قد يحدث اختلاف على صعيد فهم الأمور المحدودة، وإذا كان هذا الاختلاف على نحو التناقض فهذا يدلّ على أنّ أحد النقيضين حقٌّ والآخر باطلٌ، وإن لم يكن على نحو التناقض من الممكن أن يكون كلا الطرفين حقّاً أو باطلاً أو أن يكون أحدهما حقّاً والآخر باطلاً، فعلى سبيل المثال لو أبدى عشرة أشخاصٍ بآرائهم إزاء مسألةٍ ما من الممكن أن تكون كلّ هذه الآراء صائبةً، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ كلّ واحد منهم فهم المسألة من إحدى نواحيها؛ كذلك من الممكن أن تكون كلّ آرائهم باطلةً لكونها تتعارض مع الحقّ، إلا أنّ الرأيين المتناقضين اللذين ينفي أحدهما المسألة والآخر يثبتها، لا يوجد حدّاً وسطاً بينهما، لذا لا بدّ أن يكون أحدهما صائباً - على حقّ - والآخر باطلاً وفقاً للقاعدة القائلة باستحالة اجتماع النقيضين واستحالة رفعهما.
قدرة الإنسان على امتلاك معرفة عن طريق قابلياته الإدراكية وبواسطة ما أدركه أقرانه البشر، تدلّ بوضوح على أنّ معظم البشر لديهم قابليات معرفية محدودة ولا علم لهم بالكثير من الحقائق؛ فالقليل منهم لهم قدرة على الإحاطة التامّة بالكثير من الأشياء بفضل قربهم إلى الله عزَّ وجلَّ وتلقّيهم الفيض القدسي منه أسرع من سائر البشر.
وبعبارة أخرى: بعض الكائنات خلقت قبل غيرها، أي أنّها الصادر أو الظاهر الأوّل في عالم الخلقة، فقد ذكرت نصوصنا الدينية أنّ أوّل نور خلقه الله تبارك وتعالى هو نور النبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته الكرام عليهمالسلام ثمّ خلق سائر الكائنات.
(185)الصادر الأوّل في عالم الخلقة لديه إحاطة تامّة بسائر المخلوقات، لأنّ وجود كلّ ما خلق بعده يعدّ أدنى درجةً وأضعف من وجوده.
الكائن الذي على رأس هرم خلقة الكائنات، هو الإنسان الكامل وخليفة الله ومظهر اسمه الأعظم، وله القدرة على معرفة مظاهر الأسماء الحسنى، لذا لا يمكن ادّعاء عدم وجود أناسٍ لديهم إحاطة تامّة بكافّة علوم عالم الإمكان، بل من الممكن أن يوجد إنسان كامل لديه هذه الإحاطة لكنّه رغم ذلك لا يُحيط بكُنه الله تعالى وأسمائه الذاتية، بل يدرك أسماءه الحسنى على قدر قابلياته الوجودية، وفي الحين ذاته يمتلك إحاطة تامّة وعلماً كاملاً بالكائنات التي هي أدنى درجةً وجوديةً منه، ومن ثمّ له القدرة على معرفة أحوالها.
هناك ارتباط بين النزعة التعدّدية وكيفية معرفة الدين الحقّ، ولو أردنا معرفة طبيعة هذا الارتباط فلا بدّ من بيان بعض المنهجيات المعتمدة في الدراسات والبحوث التي تتطرّق إلى بيان حقيقة الدين، وذلك كما يلي:
الدين برأي البعض عبارة عن ظاهرة اجتماعية، ومن هذا المنطلق يتطرّقون إلى دراسته وتحليله في رحاب علم الاجتماع، لكنّ هذا الرأي غير صائب إذ ليس من الممكن بتاتاً بيان واقع الدين على أساس منهجية اجتماعية، ناهيك عن عدم إمكانية معرفة الدين الحقّ وتمييزه عن الدين الباطل وفق هذه المنهجية.
ويمكن بيان ما ذكر بأسلوبٍ آخر: ظاهرة تعدّدية الأديان في حياة البشر هي حقيقة اجتماعية لا يمكن إنكارها، إلا أنّ منهجية علم الاجتماع لا قدرة لها على إثبات الدين الحقّ من بين كلّ هذه الأديان، بل ليس من
(186)شأن الباحث الذي يعتمد عليها أن يبدي رأيه بهذا الخصوص؛ لذا حقّانية الأديان لا تندرج ضمن المواضيع التي يتطرّق إلى بيانها علم اجتماع الدين ولا تعتبر نتيجةً لها، فالمختصّ في هذا العلم يعتقد بتعدّدية الأديان لكنّه غير مخوّل بإبداء رأيه بالنسبة إلى الدين الحقّ.
بعض المفكّرين المختصّين بعلم الدين يتطرّقون في دراساتهم وبحوثهم إلى شرح وتحليل زمان ومكان ظهور الأديان، حيث تتمحور نشاطاتهم العلمية على سبيل المثال حول الأديان التي ظهرت في قارّة آسيا وسائر البقاع الشرقية من الكرة الأرضية والحقب الزمنية لظهورها، أو الأديان التي ظهرت في قارّة أوروبا والبقاع الغربية من الكرة الأرضية والحقب الزمنية لظهورها؛ حيث يسلّطون الضوء عليها في إطار دراسات وبحوث ذات طابع تأريخي وإقليمي ضمن ما يسمّى بعلم الدين، لكن على الرغم من فائدة هذه الجهود العلمية إلا أنّها لا ترشد الإنسان إلى الدين الحقّ ومن الصعب جدّاً الاعتماد عليها لتمييز الحقّ عن الباطل.
يعتقد البعض بإمكانية استكشاف حقيقة الدين على أساس الخصائص السيكولوجية - النفسية - لكلّ إنسانٍ، إذ يقولون إنّ كلّ إنسان أمامه نافذة يتمكّن من خلالها الارتباط بخالقه ومناجاته، لأنّ الذات الإلهية المقدّسة لها ظهور ونفوذ في نفس كلّ عابدٍ متهجّدٍ.
هذه المنهجية صحيحةٌ بشكل عامّ وليس في كلّ تفاصيلها، وحسب تعبير البعض فهي صحيحة في الجملة وليس بالجملة، لذا لا يمكن الاعتماد عليها لامتلاك معرفة تامّة بالدين، لكن غاية ما في الأمر أنّها تعدّ عاملاً مساعداً في معرفة الدين.
(187)نستنتج ممّا ذكر أنّ المنهجيات الثلاثة المذكورة أعلاه لا تعتبر وسيلةً ناجعةً لمعرفة حقيقة الدين، وقول من قال إنّ كلّ مجتمع له دينه الخاصّ بداعي أسباب وعوامل اقتصادية اضطرّت أعضاءه لأن يعتنقوه وذات هذه العوامل تضطرّهم أحياناً لاختيار أحد المذاهب التي تنضوي تحت مظلّته؛ هو في الواقع مجرّد تبرير لنظرية التعدّدية الدينية.
لا شكّ في أنّ مختلف الأحداث التأريخية والاقتصادية والاجتماعية لها دور في إقبال الناس على دينٍ معينٍ أو رفضه، إلا أنّ التأريخ يشهد على أنّ الدين ذو منشأ متعالٍ، فحينما ظهر الإسلام على سبيل المثال ببعثة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي دعا الناس إلى كلمة التوحيد: «... قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، عارضه الفقراء والأغنياء، واليوم أيضاً إذا دُعي الناس إلى قول لا إله إلا الله في الهند مثلاً سوف يواجه الداعي معارضةً من قبل الكثير من الناس فقرائهم وأغنيائهم على حدّ سواء لأنّهم يرفضون التوحيد من الأساس وفكرهم متقوّم على أسس دينية غير توحيدية، لذا يتهرّبون منه، في حين أنّ الذين أدركوا فضيلة هذه العقيدة الحقّة، يتمسّكون بها بكلّ ما أوتوا من قوّة وينأون بأنفسهم عن الشرك.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ البلدان التي تقطنها قوميات متنوّعة، تعاني بطبيعة الحال من تعدّدية حقيقية، لذا تطرح فيها مسائل حقوق الإنسان أكثر من أيّ بلدٍ آخر، إذ ليس من الممكن إرضاء عدّة شعوبٍ بقانون قومٍ أو بلدٍ واحدٍ، بل لا بدّ من تشريع قانون شامل بمحورية حقوق الإنسان بغية إرضائهم.
دراسة الدين اعتماداً على مبادئ علوم الاجتماع والإحصاء والتأريخ والجغرافيا ليس من شأنها بيان ما إن كان أحد الأديان على حقّ أو باطل،
(188)بل البرهان العقلي هو السبيل الصائب على صعيد معرفة الدين الحقّ لكون الدين عبارة عن حقيقة فطرية وعقلية بحتة؛ في حين أنّ المبادئ العلمية الأخرى مثل التأريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة لها القابلية على بيان أسباب قبول أحد المجتمعات ديناً ما أو رفضه، كما لها تأثير على التدين الشخصي، أي أنّ الإنسان قد يتأثّر بها لاعتناق دين معين أو رفضه، لكنّها غير ناجعة مطلقاً للتمييز بين الدين الحقّ والباطل.
نوضّح ما ذكر بأسلوب آخر: السبيل الصائب لمعرفة الدين الحقّ هو أن يعتمد الباحث على المنهج العقلي والمبادئ العامّة لعلمي الفلسفة والكلام كي يتمكّن من معرفة واقع العالم والإنسان، ولا بدّ له من تحليل الموضوع وفق أسس ماورائية لأجل أن يتسنّى له وضع برنامج تربوي يلبّي متطلّبات المجتمعات البشرية. كذلك ينبغي له دراسة وتحليل مسألة تجرّد الروح وخلودها كي يدرك أنّ هدف الدين هو تغذية روح الإنسان الملكوتية وتمكينه من الارتباط بالفيض الإلهي الذي لا حدّ له ولا نهاية، ولكي يعلم أنّ الدنيا التي يرغب فيها البشر محدودة بالنسبة إلى الآخرة ويدرك أنّ الأحكام الشرعية التي تلبّي متطلّباتهم الدنيوية محدودةٌ أيضاً، لذا يجب أن لا يغفل عن تلك الحقائق التي تلبّي متطلّبات الإنسان اللامحدودة والمرتبطة بروحه الملكوتية وحياته الأخروية.
إذا استطاع الإنسان فهم الدين عن طريق البرهان العقلي البحت سيصبح قادراً على التمييز بين الدين الحقّ والباطل، ثمّ لا يدّعي أنّ جميع الأديان حقّ أو أنّ كلّ واحدٍ منها حقّ بنحوٍ ما أو أنّ كافّة الناس أدركوا الحقّ المطلق أو أن لا أحد منهم أدركه أو أنّ كلّ واحد منهم أدرك جانباً منه.
(189)لو سأل سائل: هل يمكن الاعتماد على التجربة لإثبات حقّانية الدين أو بطلانه؟
نجيب عن سؤاله كما يلي:
أوّلاً: الكثير من القضايا الدينية تتجاوز نطاق الحسّ والتجربة بحيث لا يمكن إدراكها اعتماداً على الحواسّ والتجارب، مثل التوحيد والمعاد في يوم القيامة، إذ لا يمكن إثبات أو تفنيد هذه المعارف العقلية المتعالية إلا عن طريق براهين غير حسّية وغير تجريبية.
ثانياً: إذا أردنا الحكم على حقّانية أو بطلان أحد الأديان اعتماداً على أدلّة حسّية وتجريبية، لا بدّ لنا من إخضاع كافّة الأديان إلى الاختبار التجريبي كي نتمكّن من تشخيص ما فيها من حقّ وباطل، لكن بما أنّ الأديان والمذاهب كثيرة جدّاً فالباحث قبل أن يستكشفها جميعاً ويخضع جميع تعاليمها ومعتقداتها للتجربة سوف تنتهي حياته ويبقى بحثه ناقصاً، لذا لو اتّبع البشر هذا الأسلوب في تشخيص الدين الحقّ سوف يبتلون بنزعة شكّية إزاء الأديان قاطبةً، إذ لا يمكنهم اتّخاذ القرار النهائي بخصوص الحقّ والباطل من الأديان؛ ومن المؤكّد أنّ الشكّية بحدّ ذاتها باطلةً لأنّ العقل أثبت بالبرهان القاطع قدرة الإنسان على امتلاك معرفة حقيقية لا يكتنفها أدنى شكّ، كذلك الأدلّة النقلية دعته إلى الإيمان الراسخ والعقيدة القويمة التي لا ترديد فيها.
إذن، البرهنة العقلية أو تحليل الأدلّة النقلية القطعية هما السبيل الأمثل للنجاة من فخّ النزعة الشكّية، وليس الحسّ والتجربة.
وفي هذا السياق أكّد أمير المؤمنين عليهالسلام على وجود الكثير من المعتقدات الدينية الرسمية في منطقة الحجاز وخارجها حينما بعث النبي
(190)الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم برسالة السماء واعتنق أصحاب هذه المعتقدات دينه العالمي، حيث قال: «... بين مشبّه لله بخلقهِ أو ملحدٍ في اسمه أو مشيرٍ إلى غيره». القرآن الكريم نزل في هكذا أجواء دينية فهدى الناس كافّةً لأنّ رسالة السماء لم توجّه إلى قومٍ دون غيرهم، وهذا ما أكّد عليه خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفسه، حيث وصف رسالته بأنّها عالمية يجب على جميع الناس أن يؤمنوا بها.
نستشفّ ممّا ذكر أنّ النبي الذي يبعث في تلك الأجواء الدينية التي أشار إليها أمير المؤمنين عليهالسلام، يجب أن يخاطب الناس قائلاً: ما جئتكم به حقٌّ، وكلّ ما يقوله المشبّهة والملحدون والمشركون باطلٌ؛ وهذا الأمر حتمي ما لم يبادر النبي إلى تفنيد معتقدات أتباع سائر الأديان وإثبات صواب معتقداته وحقّانية دينه على نحو الحصر، إذ لا يوجد مسوّغ يضطرّ الناس لأن يتخلّوا عن دين آبائهم وأجدادهم ويعتنقوا الدين الذي جاءهم به. هذا الأمر ليس هيّناً بكلّ تأكيدٍ، فإذا جاء إنسانٌ بمذهبٍ فكري جديدٍ في أجواء اجتماعية معينة، كما لو طرح أفكاره في مجتمع تحكمه أربعة تيارات فكرية على سبيل المثال وذكر دليلاً على صواب مذهبه الفكري ودليلاً آخر على بطلان سائر المذاهب الفكرية، ليعلم أنّه سيواجه - على أقلّ تقدير - ثمانية أدلّة من قبل أتباع هذه المذاهب الفكرية، لأنّ كلّ جماعةٍ منهم مستعدّون لإقامة أدلّة على صواب مذهبهم وسقم مذهب غيرهم؛ لذا ينبغي له أن يناظرهم جميعاً ويواجههم فكرياً، ولو بلغ عددها 72 مذهباً يجب عليه أن يقيم 144 دليلاً لأجل أن يثبت حقّانية مذهبه رقم 73 باعتباره المذهب المنجي للبشرية.
إذن، يجب على من يأتي بفكرٍ جديدٍ للبشرية أن يقيم دليلاً على حقّانية فكرة، و72 دليلاً على بطلان سائر المذاهب الفكرية، إذ بما أنّ الحقّ الخالص لا وجود له إلا في مذهبٍ واحدٍ وسائر المذاهب لا نصيب
لها منه، لذا يجب على أتباع هذا المذهب - الفرقة الناجية - تفنيد أفكار كلّ مذهبٍ آخر بأدلّة قطعية؛ ومن المؤكّد هنا استحالة إثبات فكر وتفنيد فكر آخر عن طريق الحسّ والتجربة، بل العقل هو السبيل الناجع لكونه على ارتباط بالقضايا الكلّية والحقيقية وله القدرة على تحليلها فكرياً، ومن ثمّ يستطيع أن يحكم بصواب كلّ أو بعض معتقدات أحد المذاهب وبطلان معتقدات سائر المذاهب عبر البرهنة والاستدلال. كما أنّ النقل القطعي من منطلق ارتباطه بالمعصوم الذي هو على ارتباط بعالم الغيب وبداعي أنّ علمه شامل يعمّ علوم كافّة المذاهب الأخرى، يمكن الاعتماد عليه لإثبات صواب كلّ أو بعض المعتقدات في مختلف المذاهب.
الجدير بالذكر هنا أنّ اليقين المتحصّل من البرهان العقلي والدليل القطعي النقلي؛ نادر جدّاً، فقلّما يتمكّن الناس من تحقيق يقينٍ منطقي وفلسفي على أساس برهان عقلي؛ كذلك اليقين المتحصّل عن طريق النصّ نادرٌ أيضاً، أي من النادر أن نجد خبراً متواتراً أو خبر واحد محفوفاً بقرائن قطعية تجعله نصّاً يفيد اليقين.
اليقين لا يتحصّل إلا لدى القلّة من البشر خلافاً للحسّ والتجربة والوهم والخيال والظنّ والقياس الفقهي، فهذه الأمور وافرةٌ بين البشر.
لا قدرة لأحدٍ على إدراك الحقّ المطلق، أي ليس باستطاعة شخص أو جماعة فهم كافّة حقائق عالم الوجود لكون وجودهم محدوداً، والكائن المحدود بطبيعة الحال عاجز عن إدراك كُنه اللامحدود والإحاطة به بشكل تامّ، لذا ليس بمقدور أحد أن يدرك حقائق العالم قاطبةً لوحده أو يعرف الذات الإلهية المقدّسة على حقيقتها؛ كذلك لا صواب لرأي من يدّعي أنّ كلّ إنسان قادر على إدراك جانب من الحقّ حسب قابلياته الشخصية ثمّ زعم
(192)أنّ جميع الإدراكات بتنوّعها تعتبر حقّاً وصدقاً لا باطل فيها، إذ لا يوجد تلازم بين القضية الأولى (إدراك جانب من الحقّ وفق القابليات الشخصية) والقضية الثانية (كلّ إدراك حقّ)، فمن المحتمل أن لا يتمكّن أيّ إنسان كان من إدراك كُنه الحقيقة المطلقة، كذلك من الممكن أن لا يدركها جماعة من الناس؛ لذا لا صواب لاستنتاج أنّ كلّ ما أدركه الآخروق حقٌّ، فلربّما كلّهم على خطأ لكونهم أدركوا شيئاً آخر غير الدين الحقّ، ومن هذا المنطلق لا يمتّ إدراكهم إلى الدين بأدنى صلةٍ.
على سبيل المثال لو أبدى شخصان رأيهما بالنسبة إلى حقيقة البحار والمحيطات، فهل يمكن حينئذٍ ادّعاء أنّهما أدركا حقائقها بالتمام والكمال دون أدنى نقصٍ وخللٍ؟ ولو افترضنا أنّ إنساناً غار في أعماق البحار والمحيطات وإنساناً آخر جاب البوادي والقفار الجدباء المحرقة من شدّة الحرّ وتاه في مساحاتها الشاسعة، من الواضح أنّ علم الأوّل بحقيقة البحار والمحيطات مقتصر على ما استطاع استكشافه منها فقط ومن ثمّ لا يمكنه أن يبدي رأيه إزاءها أكثر من ذلك، في حين أنّ الثاني غير مخوّل بإبداء رأيه بخصوصها على الإطلاق بادّعاء أنّه على علم بجانب من الحقيقة لكونه لم يستكشفها، بل خصّص وقته لاستكشاف البوادي والقفار فحسب.
وكذا هو الحال بالنسبة إلى معرفة حقيقة الدين، فمن لا يعرفه على حقيقته ولم يغر في أعماق بحر علوم القرآن والحديث لا يمكنه بتاتاً أن يقول لمن وفّقه الله لذلك: «أنا أيضاً لدي معرفة بحقيقة الدين»، لأنّه لم يلج في مضمار العلوم والمعارف الدينية الأصيلة ولا خبرة له في استكشاف جزئيات الدين؛ لذا لا يحقّ له ادّعاء أنّه فهمه حسب قابلياته الشخصية، في حين أنّ المسلمين والذين ولجوا في أعماق بحر القرآن والحديث واستقصوا الحقائق الدينية وأدركوا تعاليم رسالة السماء، يمكن أن يدّعي كلّ واحدٍ منهم أنّه أدرك جانباً من حقيقة الدين حسب قابلياته، إذ من المؤكّد أنّ
(193)المعرفة الدينية ذات درجات متباينة لكونها مرتبطة بمقدار بحث كلّ إنسان عن الحقيقة واستقصائه لما يرتبط بها.
الله تبارك وتعالى اعتبر الحقّ أمراً مشتركاً بين جميع المعتقدين بالأصول العامّة للدين وجميع المؤمنين والملتزمين بهذه الأصول حتّى إن اختلفت شرائعهم السماوية، لأنّ الوجه المشترك بينهم هو الإيمان به عزَّ وجلَّ؛ إلا أنّ الملحدين وصفهم في كتابه العزيز بالضالّين، حيث قال: «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ». فحوى هذه الآية المباركة هي أنّ كلّ ما سوى عقيدة التوحيد باطل. كذلك خاطبهم قائلاً: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ»، أي ليس أمامكم سبيل غير صراط الدين المستقيم.
بناءً على ذلك هناك أناس يوفّقون للسير في سبيل الدين الحقّ ويؤمنون بتعاليمه ويعملون بها، لكن غاية ما في الأمر أنّ بعضهم يتحرّكون في هذا المضمار بسرعة وبعضهم ببطء؛ وكلّ من سواهم تائه ضالّ في مسالك الباطل، ومن هذا المنطلق في بادئ الأمر دعا الله تبارك شأنه الكافرين والملحدين في كتابه الكريم إلى الإذعان للحقّ، ثمّ إن لم يذعنوا فليعلموا أنّهم - حسب التعبير القرآني - في خوضهم يلعبون: ﴿قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعَام: 91]، أي قل لهم إنّ الله تبارك وتعالى هو المدبّر لشؤون عالم الإمكان من أوّله إلى آخره، ثمّ دع أهل الباطل يخوضون (يلعبون) في مضمار الباطل.
الجدير بالذكر هنا أنّ الأحاديث المباركة أكّدت على تعدّد الطرق إلى الحقّ، فقد روي: «الطرق إلى الحقّ بعدد أنفاس الخلائق». فسّر البعض هذا الحديث كما يلي: كلّ من أدرك شيئاً على أساس تجربته الشخصية، فقد أدرك الحقّ.
هذا الكلام يعني أنّ التعدّدية الدينية حقّ، لكنّ هؤلاء غفلوا عن
(194)المدلول الحقيقي للحديث، فمضمونه في الواقع يتمحور حول المسائل المرتبطة بباطن الدين وليست المرتبطة بأشياء خارجة عن نطاقه.
بيان ذلك أنّ الله عزَّ وجلَّ ذكر في كتابه الكريم تعاليمَ ضمن سياقين هما كالتالي:
السياق الأوّل: تعاليم ترتبط بالنطاق الداخلي للمفهوم العامّ للدين، وفحواها أنّ كلّ دين سماوي له نصيبٌ من الحقّ يتناسب معه بشكل عامّ.
السياق الثاني: تعاليم ترتبط بقضايا خارجة عن نطاق المفهوم العامّ للدين (أي مرتبطة بمفهومه الخاصّ)، وفحواها أنّ الإسلام فقط دين الحقّ وكلّ ما سواه باطل لا صلة له بالحقّ.
ثمرة هذا الكلام هي أنّ وجود الله تعالى ووحدانيته حقّ، بينما الشرك والإلحاد باطل.
يعتقد البعض أنّ الشاعر المعروف جلال الدين الرومي (مولانا) هو أوّل من وضع حجر الأساس لنظرية التعدّدية الدينية بأسلوبٍ صائبٍ ضمن قصّة ذكرها في ديوانه «مثنوي»، وهي كالتالي: غرفة مظلمة كان فيها فيلٌ وأربعة أشخاصٍ، وبما أنّهم لم يستطيعوا رؤيته بأعينهم بسبب الظلام الدامس، راحوا يتحسّسون أعضاء بدنه كي يعرفوا ما هو، وإثر ذلك أبدى كلّ واحد منهم برأيه فتعدّدت آراؤهم، حيث لمس الأوّل رجله وقال: «هذا عمودٌ»، والثاني لمس أذنه فقال: «هذه مروحة يدوية»، بينما الثالث مرّر يده على ظهره وقال: «هذا سرير»! رابعهم كان عارفاً يرى الفيل ببصيرة قلبية خاطبهم قائلاً:
«هذا ليس عموداً وليس مروحةً يدويةً وليس سريراً، ولا أيّ شيء من هذا القبيل؛ وإنّما فيلٌ لمس كلّ واحد منكم أحد أعضاء بدنه فأبدى برأيه
(195)حسب ما تحسّسه من هذا اللمس المحدود، لذا كلكم قلتم الحقّ لكن بما أنّكم لم تشاهدوا البدن بأكمله فقد اختلفت آراؤكم».
ثمّ على أساس هذه القصّة استنتجوا ما يلي: الاختلاف الموجود في معتقدات الناس الدينية هو الذي جعل منهم المسلم والمسيحي واليهودي وغير ذلك، فهو على غرار الاختلاف الذي حدث في تشخيص حقيقة الفيل في الظلام، وهذا يعني أنّ التعدّدية الدينية فكرٌ صائبٌ، حيث تختلف آراء الناس إزاء حقيقة واحدة، لذا كلّ رأي منها يحكي عن جانب من الحقّ.
استدلّ هؤلاء بهذه القصّة على إمكانية تعدّد الأديان باعتبار أنّها قاطبةً على حقّ، إلا أنّ استدلالهم باطلٌ، فجلال الدين الرومي لم يعتبر كلّ الآراء التي ذكرت بخصوص الفيل في الظلام صحيحة كي يدّعى أنّها صائبة وحقّ، بل اعتبرها خاطئة، وقصده كالتالي: بما أنّ ثلاثة من الذين كانوا في الغرفة المظلمة لم يسلكوا السبيل الصائب للمعرفة - سبيل العرفاء - لذلك ما عرفوا الفيل على حقيقته، ممّا يعني أن لا أحد منهم على حقّ باستثناء رابعهم - العارف - فهو على حقّ لكونه أدرك أنّ الكائن الموجود في الظلام فيلٌ.
إذن، جلال الدين الرومي أيّد رأي العارف فقط وفنّد آراء الآخرين لكونها خاطئةً برأيه، وقد أراد إخبارنا بأنّ هؤلاء الثلاثة رغم خطئهم لكنّهم معذورون بسبب ظلام الغرفة التي كانوا فيها؛ لكن مع ذلك يجب عليهم السعي لإنارتها كي يتسنّى لهم إدراك الحقيقة على واقعها، لأنّ من يقصد مكاناً مظلماً ولا يأخذ معه سراجاً يستنير به أو لم يصدّق كلام أصحاب البصيرة والقول السديد، فهو غير معذور.
بناءً على ذلك ينبغي للإنسان أن يسعى للاستفاضة من المعرفة الحقّة اعتماداً على البراهين القطعية المستوحاة من العقل والنقل - القرآن
(196)والحديث - ويحصّن نفسه بنورها كي يستطيع معرفة واقع عالم الوجود والفكر السديد والأيديولوجيا الصائبة، وعندئذٍ سيدرك أنّ الحقيقة واحدة ويوقن بوجود صراطٍ مستقيمٍ يقوده إلى معرفتها ويضمن له السعادة المنشودة.
ربّما يمكن الاستناد إلى بعض الآيات المباركة لادّعاء وجود تعدّدية دينية، إلا أنّ القرآن الكريم لا يؤيّد هذه النظرية على الإطلاق.
فيما يلي نسلّط الضوء على سورة «الكافرون» كمثالٍ بخصوص هذا الموضوع.
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿٤﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٥﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ٦﴾ [الكافِرون: 1-6]. المقصود في هذه السورة هو أنّ الإسلام دين محترم وذو شأن عظيم عند المسلمين، كذلك سائر الأديان محترمة وذات شأن عظيم عند أتباعها، وكلّ إنسان بإمكانه اختيار الدين والفكر الذي يعجبه؛ لذا كلّ دينٍ وفكرٍ يعدّ حقّاً بالنسبة إلى أتباعه، فهو حقّ بحدّ ذاته عند من يتبنّاه.
الواقع أنّ الهدف الأساسي المقصود من هذه الآيات هو رفض التعدّدية الدينية وليس إثباتها، فالله تبارك شأنه لم يقل في هذه السورة على لسان نبيه الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم: «دينكم حقٌّ وديني أيضاً حقٌّ» كي يدّعى صواب تعدّدية الأديان برؤية قرآنية، بل مغزى كلامه تعالى هو تفنيدها، ناهيك عن أنّ سبب نزول هذه السورة هو اقتراح مشركي مكّة، حيث طلبوا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعبد المسلمون أوثانهم سنةً ثمّ يعبدون ربّ المسلمين في السنة التالية، وفي السنة الثالثة يعبد المسلمون أوثانهم مرّةً أخرى وفي السنة
(197)الرابعة يعبدون إله المسلمين؛ فقد تكرّرت العبارات الخاصّة بالعبودية أربع مرّات في هذه السورة المباركة وهي كالتالي: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿٤﴾ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافِرون: 2-5]. هذا التكرار ناظر إلى السنوات الأربعة التي اقترحوها، وفحوى اقتراحهم في الحقيقة تعدّدية دينية.
الله تبارك وتعالى أكّد لنبيه الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم في القرآن الكريم على أنّ الحقّ إذا خالطه الباطل سوف يفقد حقّانيته، لذا يجب أن يكون خالصاً لا تشوبه شائبة باطلٍ على الإطلاق؛ ولو امتزجا مع بعضهما عندئذٍ يصبح الحقّ باطلاً ولا يصبح الباطل حقّاً.
امتزاج الحقّ بالباطل يمكن تشبيهه بامتزاج الماء الآسن بالماء العذب الزلال، حيث يصبح الماء الزلال آسناً بعد الامتزاج ولا يمكن أن يصبح الماء الآسن زلالاً بهذا الامتزاج على الإطلاق؛ كذلك يمكن تشبيهه بامتزاج المجهول بالمعلوم، حيث يؤثّر المجهول على المعلوم فيصيّره مجهولاً والعكس غير صحيح، أي أنّ المعلوم لو خالط المجهول فهو لا يصيّره معلوماً.
فحوى خطاب الله تبارك وتعالى لنبيه الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم في سورة «الكافرون» ما يلي: يا أيّها النبي، قل للكافرين إنّ الحقّ لا يتناغم مع الباطل بتاتاً، لذا لا تتصوّروا أنّ دينكم وديني كلاهما حقٌّ، ثمّ تدّعون أنّكم مخيرون في انتخاب أيّهما شئتم. لقد اقترحتم عليّ قبول التعدّدية الدينية لكنّي أرفضها، فأنا لا أقبل دينكم - دين الباطل - وأنتم أيضاً لا تقبلون ديني - دين الحقّ - إثر عنادكم، لذلك ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافِرون: 6].
نستنتج من جملة ما ذكر أنّ سورة «الكافرون» لا تؤيّد نظرية التعدّدية الدينية على الإطلاق.
بعض المعتقدين بنظرية التعدّدية الدينية تمسّكوا بالآية 62 من سورة البقرة ليدّعوا ما يلي: القرآن الكريم اعتبر اليهودية والمسيحية والصابئية أديان حقّ، وأكّد على أنّ اتباعها يضمن للإنسان النجاة في الآخرة ونيل خير ثوابها، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البَقَرَة: 62]. إذن، معيار النجاة استناداً إلى مضمون هذه الآية هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح مهما كان دين الإنسان، لذا الناس أحرار في اختيار دينهم، لأنّ كلّ دينٍ ضمن لهم معرفة الحقيقة والسعادة والنجاة في الحياة الآخرة.
بناءً على ذلك ادّعى هؤلاء أنّ أهمّ شيء في حياة الإنسان هو توفير أسس النجاة والسعادة الأخروية على ضوء الإيمان بالله والحياة الآخرة والعمل الصالح، ثمّ استنتجوا أنّ هذا هو المقصود من التعدّدية الدينية، فالإنسان مخوّل باختيار الدين الذي يعجبه لأنّ كلّ دين سوف ينجيه في الحياة الآخرة ويمنحه السعادة المنشودة.
تجدر الإشارة هنا إلى وجود آية أخرى مشابهة لمضمون هذه الآية باختلافٍ طفيفٍ، وهي الآية 69 من سورة المائدة.
استنتاج هؤلاء من الآية المذكورة خاطئ لكونها في مقام بيان قاعدة كلّية فحواها أنّ نجاة الإنسان في يوم القيامة مرهونة بإيمانه بأصول دين خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والعمل بأحكامه، وهذا الدين هو الإسلام طبعاً، لذا يمكن تفسيرها كما يلي: كلّ واحدٍ من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئة، ثوابه محفوظٌ عند الله تبارك وتعالى ومصونٌ من الخوف والحزن في يوم القيامة إذا كان معتقداً بالله واليوم الآخر.
الاعتقاد بأصول دين خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم هي التي تنجي الإنسان، ولا ينجيه الاعتقاد بدينٍ آخر، وذلك لما يلي:
أوّلاً: الله عزَّ وجلَّ ذمّ أهل الكتاب وأمر المسلمين بقتالهم حتّى يذعنوا لدين الحقّ الذي هو الإسلام المحمّدي، أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فقد قال في كتابه الكريم: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التّوبَة: 29].
ثانياً: قال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عِمرَان: 85]. مضمون هذه الآية هو أنّ المسلم فقط سينعم بالنجاة في يوم القيامة، أي الذي يعتقد بأصول الدين الثلاثة ويعمل صالحاً.
الحقيقة أنّ الآية 62 من سورة البقرة تفنّد ادّعاء أنّ التدين وحده كافٍ لنجاة الإنسان في يوم القيامة، أي اعتقاد الإنسان - بسذاجةٍ - أنّه على حقّ؛ فقد أشار تعالى إلى هذا التصوّر الباطل في الآيتين التاليتين: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿١٢٣﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النِّسَاء: 123-124].
لو ادّعي أنّ الآية أكّدت فقط على الإيمان بالله تعالى ويوم القيامة والعمل الصالح ولم تتطرّق إلى مسألة النبوّة، نردّ على هذا الادّعاء قائلين: عبارة ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [المَائدة: 69]تدلّ على أنّ الله تعالى يريد تنبيهنا على شيئين هما كالتالي:
1. الاعتقاد بالوحي (النبوّة).
2. وجوب العمل بما جاء به نبي العصر (حجّة الله في الأرض).
مصطلح العمل الصالح حسب المفهوم القرآني يشير إلى العمل الذي
ينسجم مع تعاليم الوحي وما جاء به نبي العصر الذي هو حجّة الله في الأرض، لذا لا يصدق على الإنسان أنّه استجاب لوحي السماء و«عمل صالحاً» إلا إذا آمن بنبي عصره.
إذن، الآية المذكورة تشير إلى الاعتقاد بالتوحيد والمعاد بشكلٍ صريحٍ، وتشير إلى الاعتقاد بالنبوّة بشكلٍ ضمني في رحاب مفهوم العمل الصالح؛ وعلى هذا الأساس لا يمكن الاستناد إليها لادّعاء صواب نظرية التعدّدية الدينية، أي أنّ رأي الذين استدلّوا بها لإثبات هذه النظرية وادّعاء أنّ كلّ إنسان حرّ في اختيار الدين الذي يشاءه، باطلٌ جملةً وتفصيلاً؛ بل تدلّ على أنّ السبيل الوحيد لنجاة البشر في الحياة الآخرة هو اعتقادهم بأصول الإسلام والعمل بأحكامه.
فيما يلي نذكر ثلاثة آراء تفسيرية للآية 62 من سورة البقرة وما فيها من احتمالات على صعيد بيان مدلولها.
الاحتمال الأوّل:
احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تدلّ على ما يلي: المؤمنون واليهود والنصارى والصابؤون نصيبهم النجاة في الحياة الآخرة شريطة أن تتوفّر في دينهم العناصر الثلاثة المذكورة في هذه الآية، والمسلمون هم من تتوفر في دينهم هذه العناصر في العصر الحاضر، ممّا يعني أنّ كلّ إنسانٍ في أيّ عصرٍ كان إذا اتّبع دين ذلك العصر وحجّة الله فيه وعمل بتعاليم شريعة هذا الدين فهو من الناجين، وثمرة ذلك هي أنّ النجاة كانت من نصيب اليهود عندما اتّبعوا النبي موسى عليهالسلام إلى أن نزل الإنجيل، وكانت من نصيب النصارى عندما اتّبعوا النبي عيسى عليهالسلام إلى أن نزل القرآن الكريم، وكانت من نصيب الصابئة عندما اتّبعوا النبي يحيى عليهالسلام .
هذا الكلام صحيح، إذ من المؤكّد أنّ كلّ إنسان يعمل بتعاليم دين عصره ويتّبع حجّة الله في زمانه ستكون النجاة نصيبه، لكنّ الآية ليست في مقام بيان هذا الموضوع، فالقرآن الكريم لا يهدف إلى بيان تكليف الأسلاف، بل بما أنّه كتاب هدى للعالمين فهو يتطرّق إلى بيان تكليف أهل زمانه والأزمنة المستقبلية، ومن هذا المنطلق عيّن العامل الأساسي لنجاة البشر وذكر من يستحقّ النجاة في عالم الآخرة.
تركيب عبارة «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...» في الآية المذكورة إنشائي وليس إخبارياً، وبهذا المعنى فالآية توجّه دعوةً عامّةً لمن هم مسلمون في الظاهر والنصارى واليهود والصابئة كي يعتنقوا الإسلام الحقيقي.
الاحتمال الثاني:
احتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية هو بيان المصداق الحقيقي لليهودي الذي يتّبع النبي موسى عليهالسلام والمسيحي الذي يتّبع النبي عيسى عليهالسلام والصابئي الذي يتّبع النبي يحيى عليهالسلام ، إذ بما أنّ الكتب المقدّسة لهذه الأديان بشّرت ببعثة نبي الرحمة محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بصفته خاتم الأنبياء والمرسلين، لذا من كان بحقّ متّبعاً الأنبياء الثلاثة المشار إليهم لا بدّ وأن يؤمن بنبوّة خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم ويعتنق الإسلام ديناً.
هذا الكلام صحيح أيضاً لكنّه لا يتناغم مع المعنى المقصود في الآية المباركة، إذ لو فسّرناها بما ذكر - بيان المصداق الحقيقي لأتباع الأديان السابقة - يجب حينئذٍ الإذعان لما يلي:
1. تقدير عبارة «منهم» في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفَال: 72]وفي قوله تعالى ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التّوبَة: 18]، فنقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ [الحَديد: 27]و ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ﴾ [البَقَرَة: 126]. من المؤكّد أنّ التقدير خلاف الظاهر
2. الآية المباركة حسب ما ذكر في الاحتمال التفسيري الأوّل في مقام دعوة أتباع سائر الأديان إلى اعتناق الإسلام كي يسلكوا سبيل الإيمان ويصبحوا كسائر المؤمنين في عصر نزول القرآن والفترة اللاحقة له.
الاحتمال الثالث:
احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية المباركة تتحدّث عن الجهلة والقاصرين من اليهود والنصارى والصابئين، أي أنّ جهلهم هو السبب في عدم اعتناق الإسلام، فهم بهذا المعنى قاصرون وليس مقصّرين، لكنّهم مع ذلك متمسّكون بالمبادئ الأخلاقية في حياتهم؛ لذا هؤلاء مصيرهم النجاة في عالم الآخرة وسوف يثيبهم الله عزَّ وجلَّ.
هذا الاحتمال ليس صحيحاً، لأنّ الجاهل القاصر معذورٌ وليس مأجوراً، أي من الممكن أن لا يُعذّب في عالم الآخرة لكنّه لا ينال ثواباً، لأنّ المعذورية لا تستلزم الأجر والثواب.
روح الأديان السماوية حسب التعبير القرآني واحدة، لذا الدين واحد لا ثاني له، ومن الأولى أن لا جمع له.
كلّ دين يعدّ حقّاً في عصره، أي أنّ الأديان التي جاء بها شيخ المرسلين نوح وخليل الله إبراهيم وكليم الله موسى وروح الله عيسى (عليهم الصلاة والسلام أجمعين) كانت حقّاً في عصرها وليست باطلةً، إذ لولا دين النبي السابق لما كان لدين النبي الثاني أيّ تأثير على الناس، ولولا دين النبيين الأوّل والثاني لما كان لدين النبي الثالث أيّ تأثير على الناس أيضاً؛ وعلى هذا الأساس كلّ دين يعدّ حقّاً في عصره وشريعة كلّ نبي في عصره حقّ.
(203)إضافةً إلى ما ذكر فالمبادئ العامّة للأديان السماوية - أي التوحيد والنبوّة العامّة والمعاد - لم تتغيّر على الإطلاق، إذ قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فَاطِر: 31]. خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم مصدّق للحقّ الذي جاء به النبي الذي سبقه، ومسألة التصديق بالحقّ السابق لا تختصّ به، بل الأنبياء الذين سبقوه صدّقوا بعضهم، فالنبي عيسى عليهالسلام صدّق كلّ ما جاء به النبي موسى عليهالسلام، وموسى بدوره صدّق كلّ ما جاء به النبي إبراهيم عليهالسلام؛ فضلاً عن ذلك فقد بشّر كلّ نبي بمن سيحمل رسالة السماء بعده، وحسب هذه القاعدة الربّانية بشّر المسيح عيسى عليهالسلام ببعثة الحبيب محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم من بعده.
إذن، لو لم تكن الأديان السماوية حقّاً، لما صدّق النبي اللاحق من سبقه بالنبوّة، ولما بشّر النبي السابق لمن سيليه في النبوّة، ونتيجة ذلك هي أنّ كلّ دين سماوي في عصره حقٌّ.
الجدير بالذكر هنا أنّ المبادئ الجزئية في الأديان - الشريعة والمنهاج - تختلف مع بعضها، كالصيام على سبيل المثال، فبعض الأديان شرّعته في أقلّ من شهر بينما الإسلام شرّعه لمدّة شهر كامل؛ ومثل الصلاة، حيث يتوجّه المسلمون في صلواتهم الواجبة نحو الكعبة المشرّفة بينما أتباع بعض الأديان يتوجّهون نحو قبلة أخرى رغم أنّ الله تبارك وتعالى غير محدودٍ بجهةٍ معينةٍ، فهو ربّ المشارق والمغارب وأينما نولّي وجوهنا فثمّ وجهه الكريم:
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البَقَرَة: 115].
إذن، بما أنّ الله تبارك وتعالى غير محدودٍ بجهةٍ معينةٍ، لذا بإمكان المسلم أن يتوجّه نحو أيّة جهةٍ يشاء وبأيّ شكلٍ كان في الصلواة المستحبة وليست الواجبة، كذلك بإمكانه أن يؤدّيها عن طريق الإيماء برأسه ووجهه،
(204)فالربّ الموجود في جهة الكعبة موجود أيضاً في الجهة الأخرى، وموجود في السماوات والأرض: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ﴾ [الزّخرُف: 84].
نستنتج من جملة ما ذكر أنّ المبادئ العامّة للدين، أي الأصول العقائدية والفقهية والحقوقية والأخلاقية ليست عرضةً للتغيير مطلقاً، لذلك لم تتغيّر على مرّ العصور، فقد بعث الأنبياء كافّة لترسيخ مبادئ التوحيد والنبوّة والمعاد وبيان حقائقها لبني آدم، كما وضّحوا لهم المبادئ الأخلاقية والاجتماعية الأساسية مثل قبح الظلم ووجوب مقارعته، إذ لم يدّع أحدهم بتاتاً أنّ الظلم حسنٌ ومقارعته قبيحة؛ إلا أنّ شرائعهم فيها اختلافٌ.
التعدّدية تطرح أحياناً بخصوص حقيقة الدين ثمّ على أساسها تعمّم على الأديان كافّةً، وأحياناً تطرح بخصوص أحد مصاديق الأديان، وفي هذه الحالة تطرح مسألة المذاهب التابعة لهذا الدين؛ وهنا يأتي الكلام حول التعدّدية في باطن الدين، ممّا يعني ظهور العديد من المذاهب والفرق من دينٍ واحدٍ إثر تنوّع التفاسير إزاء معتقداته وتعاليمه.
قبول مسألة التعدّدية في باطن الدين مرهون بمختلف المبادئ التي تتبنّاها المذاهب، فبعض المذاهب تستوعب في مبادئها مسألة التعدّدية خلافاً لمذاهب أخرى لا تستوعبها، وفيما يلي نشير إلى عددٍ من هذه المبادئ.
1.إذا كانت الركيزة الأساسية في فهم الدين هي الاعتقاد بصواب سائر المذاهب وليس تفنيدها، ففي هذه الحالة يمكن استيعاب مسألة التعدّدية في باطن الدين- تعدّد المذاهب- لكن إذا كانت الركيزة الأساسية تفنيد سائر المذاهب، ففي هذه الحالة ترفض مسألة التعدّدية في باطن الدين.
(205)بيان هذا الموضوع كما يلي: بعض الناس يعتقدون بحقّانية سائر المذاهب في دينهم استناداً إلى فهمهم الخاصّ لأحكام الشريعة، حيث يدّعون أنّ فهم كلّ إنسانٍ حقٌّ، وهذا يعني أنّ الحقّ ينشأ وفقاً لاجتهاد الإنسان في فهمه، وبالتالي ليس هناك حقٌّ متعينٌ وثابتٌ مسبقاً.
هذا الرأي يتناسب مع نظرية التعدّدية الدينية.
لكن إذا أقررنا بأنّ كلّ أمرٍ لا بدّ وأن يستبطن حقيقةً معينةً وآمنّا بقدرة الإنسان على معرفة الواقع - رغم احتمال وقوعه في خطأ -، فلا مجال حينئذٍ للقول بالتعدّدية المذهبية، لأنّ الفهم الصائب المنطبق مع الواقع واحدٌ فحسب وكلّ ما سواه باطلٌ.
2. إذا اعتبرناً الحقيقة أمراً نسبياً بحيث تختلف من شخصٍ إلى آخر مع اختلاف الظروف، وادّعينا عدم وجود حقيقة محضة ومطلقة، ففي هذه الحالة يمكن الاعتقاد بوجود تعدّدية مذهبية؛ لكن إذا اعتقدنا بوجود حقيقة محضة مطلقة وليست نسبيةً وادّعينا قدرة الإنسان على إدراكها، ففي هذه الحالة لا يمكن الاعتقاد بوجود تعدّدية مذهبية.
3. إذا تبنّى العلماء والمفكّرون تفاسير متنوّعة ومتباينة إزاء أحد المذاهب الفكرية، فهذه التعدّدية صحيحة شريطة أن تطرح التفاسير بأسلوب منهجي صائب ووفق أسس ومبادئ قويمة.
بناءً على ذلك فالذين أمضوا سنوات طويلة في دراسة مواضيع دينية على نحو التخصّص وتتلمذوا عند أساتذة حاذقين لهم رأيهم السديد، ثمّ أصبحوا هم أيضاً حاذقين ذوي رأي سديد وعلى أساس هذه القدرة العلمية بادروا إلى تحليل وتفسير البراهين العقلية والقرآن والحديث ليستنتجوا منها ما يرومون معرفته، ففي هذه الحالة تقبل استنتاجاتهم لأنّها في هكذا حالة لا تختلف إلا في التفريعات الجزئية، وهذا النوع من الاختلاف لا ضير فيه.
(206)الباحثون الذين يتعاملون مع موضوع البحث بأسلوب علمي قويم، منذ ألف سنة وإلى يومنا هذا ألّفوا المئات من الكتب التفسيرية والفقهية التي تتقوّم على مبادئ كلّية مشتركة رغم اختلافها في التفريعات، لذا يحترم المفسّرون والفقهاء آراء بعضهم رغم اختلافهم في عدد منها.
الجدير بالذكر هنا عند حدوث اختلاف جذري في الآراء واختلاف الفتاوى مع بعضها على نحو التضادّ بحيث لم تتناسق مع بعضها وفق المبادئ العامّة، من المؤكّد في هذه الحالة أنّ أحدها حقٌّ وكلّ ما سواه باطلٌ؛ فقد روي في مصادر الفريقين شيعةً وسنّةً عن النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم: «ستفترق أمّتي على ثلاثة وسبعين فرقةً، منها فرقةٌ ناجيةٌ والباقون هالكون».
الكثير من الطوائف تعتبر نفسها «الفرقة الناجية»، لكن من المؤكّد عندما تحدث مواجهة فكرية بين العديد من الآراء المتناقضة فإنّ واحداً منها حقّ وكلّ ما سواه باطل، ومثال ذلك لو قال أتباع أحد المذاهب إنّ الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام هو الخليفة الشرعي بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ورفض أتباع المذهب الآخر كلامه هذا، أو كما لو قال بعضهم إنّ الضرورة تقتضي كون الخليفة الشرعي لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معصوماً لكنّ الآخرين تبنّوا رأياً آخر غيره؛ ففي هذه الحالة يوجد رأي واحدٌ حقٌّ وكلّ رأي سواه يعدّ باطلاً.
نستنتج ممّا ذكر أنّ فهم المعارف الدينية إذا ارتكز على مبادئ منهجية صائبة وتمحور الخلاف بين العلماء والمفكّرين حول مسائل فرعية، من المؤكّد أنّ واحداً من الآراء المختلف حولها حقٌّ وكلّ ما سواه باطلٌ في مقام الثبوت وعالم الواقع رغم امتلاكهم الحقّ جميعاً بالاعتراض في مقام الإثبات بحيث يعمل كلّ واحد منهم برأيه استناداً إلى الأدلّة التي اعتمد عليها في إثبات صواب ما قال؛ ومن هذا المنطلق قيل لو استنفذ الإنسان جهده وفق منهج علمي قويم ثمّ تمكّن من استكشاف الواقع سوف ينال أجرين، لكنّه إن لم يتمكّن من استكشاف الواقع رغم هذه الجهود الحثيثة
(207)فله أجرٌ واحدٌ لأنّه استنفذ جهده وفق منهج علمي قويم «للمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ واحدٌ».
وإذا لم يتطرّق الإنسان إلى دراسة وتحليل النصوص الدينية بجدّ واجتهاد اعتماداً على منهج علمي قويم، فهو عندما يخطئ لا ينال أيّ أجرٍ، بل لا يعدّ معذوراً في خطئه بحيث يتحمّل وزراً وإثماً.
إذن، التعدّدية المذهبية سببها تنوّع الاستنتاجات واختلاف الآراء، لذا إن توصّل الباحث إلى رأيه وفق منهج علمي قويم ولم يتوانَ في السعي لاستكشاف الحقيقة، يعدّ رأيه حجّةً بالنسبة إليه ثمّ لا يعذّبه الله تبارك وتعالى حتّى إذا كان مخطئاً؛ لكن إذا توصّل إلى رأيه دون أن يجدّ ويجتهد ولا يسعى بأسلوب صائب لاستكشاف الحقيقة بحيث أذعن للباطل عالماً عامداً ومقصّراً، فقد اشترى جهنّم بفعله هذا.
فيما يلي نذكر ملاحظتين على صعيد ما ذكر.
الملاحظة الأولى: التعدّدية الدينية تتبلور أحياناً في باطن مذهبٍ واحدٍ وفي أحيان أخرى تتبلور على صعيد عدّة مذاهب بحيث تعود في أساسها إلى دينٍ واحدٍ، مثل مذاهب الشيعة والأشعرية والمعتزلة.
الملاحظة الثانية: كما أنّ الاختلاف بين علماء مذهب واحد لا ضير فيه، كذلك لا ضير في حدوث اختلاف بين عدّة مذاهب، وكما ذكرنا آنفاً لو كان الباحث قاصراً وليس مقصّراً لا يمكن ادّعاء أنّ مصيره جهنّم فيما لو تبنّى رأياً باطلاً، إذ ليست هناك قاعدة تقول إنّ كلّ من قال باطلاً يستحقّ عذاب جهنّم، فلربّما يكون معذوراً، وقد وصف الله تبارك شأنه من كان معذوراً بقوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التّوبَة: 106]. فهو قد يستحقّ رحمة الله تعالى ولطفه.
(208)تنوّع الاستنتاجات إزاء العلم (الطبيعة) والمذاهب وأحكام الشريعة يعدّ أمراً مقبولاً، وهناك سببان أساسيان في جواز هذا النوع من التعدّدية والتسامح إزاءه، هما كما يلي:
السبب الأوّل: الذين يتوصّلون إلى نتائج متنوّعة لديهم علم بالمبادئ الأساسية بحيث أمضوا سنوات مديدة في مضمار دراساتهم وبحوثهم العلمية وإثر ذلك امتلكوا ثروةً علميةً تؤهّلهم لأن يستدلّوا على ما يريدون إثباته وفق منهج معتبر وقويم.
السبب الثاني: أصحاب الآراء المختلفة متّفقون على الكثير من المبادئ الأساسية بحيث يعتبرونها منطلقات ارتكازية ومشتركات فكرية، لكنّهم يختلفون في القضايا الفرعية؛ لذا من لا يتوفّر فيه هذان الشرطان، آراؤه بكلّ تأكيد تختلف في مبادئها الأساسية مع ما يتبنّاه سائر المفسّرين والفقهاء كما تختلف من حيث المنهجية. مثال ذلك طبيبان يختلفان في الرأي إزاء أحد الأمراض لكنّهما في رحاب الاعتماد على المبادئ الأساسية في علم الطبّ من الممكن أن يتوصّلا إلى رأي مشترك فيما بعد لكونهما يعتقدان بهذه المبادئ ويتّبعان المنهج العلمي القويم في علم الطبّ، لكن من لم يدرس علم الطبّ لا يمكنه مطلقاً أن يتوصّل إلى رأي مشابه لما توصّلا إليه لكونه لا يتقن مبادئ علم الطبّ الذي لم يدرسه من الأساس كذلك لا يمكنه تحليل طبيعة المرض وفق منهج علمي قويم.
لا يكفي الإنسان في فهم حقيقة الدين أن يعتمد على منهجية قويمة فحسب، بل إلى جانب ذلك يجب أن يكون حرّاً في فكره شريطة أن يسلك السبيل الفكري الصحيح دون أن يتجاوز حدود العقل والنقل، فهو في
(209)الحقيقة ليس كائناً مطلق العنان، بلّ حرٌّ، والحرّية مستحسنةٌ بكلّ تأكيدٍ وتختلف بالكامل عن الجموح.
الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام وأهل البيت عليهمالسلام كانوا أحراراً، ولم ولن تشهد الدنيا حرّاً حقيقياً كالإمام الحسين عليهالسلام، كذلك لم يظلموا أحداً على الإطلاق ولم يذعنوا لظلم ظالمٍ، لكنّهم التزموا جانب الحيطة والحذر وقيّدوا أنفسهم، لذا أمرونا بأن نقيّد أنفسنا، وهذا يعني رفضهم إطلاق العنان لجموح النفس.
روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام في هذا السياق: «أخوكَ دينُكَ، فاحتَطْ لدينكَ بما شئتَ». الاحتياط بمعنى إيجاد حائط، لذا ينبغي للإنسان أن يشيّد حائطاً يطوّق به دينه، فالمحتاط هو من يفعل ذلك.
كذلك روي عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام : «لكَ أنْ تنظرَ الحزمَ وتأخذ الحائطَ لدينكَ».
المزارع الذي يعرف أهمية مزرعته وقيمة ثمارها فهو بطبيعة الحال يحوّطها - بأسلاك شائكة على سبيل المثال - كي لا يدخلها الغرباء وينهبوا ما أثمرت، وكذا هو حال الإنسان المحتاط، حيث يحوّط دينه كي لا يدخل حريمه أحدٌ، لأنّ دين كلّ إنسانٍ ثمرة وجوده، لذا يجب أن يحوّطه كي لا تُنهب ثماره.
الاحتياط يحصّن الإنسان، لذا كلّ من امتلك إيماناً بسعي حثيثٍ فهو على غرار المزارع الذي أثمر زرعه، وعلى هذا الأساس يحوّط دينه لأجل أن يصون ثماره.
إذا أراد الإنسان انتهاج السبيل القويم فلا بدّ أن يمرّن نفسه، ومن المؤكّد أنّ الصلاة والصيام أفضل تمرين؛ ولو أراد معرفة الأسرار الإلهية يجب أن لا يفكّر بشيءٍ ولا يذكر شيئاً سوى اسم الله تعالى، وإن لم يفعل
(210)ذلك سوف يتراكم على مرآة روحه غبار ذكر غير اسمه تعالى ثمّ لا ينال منه معرفةً بعالم الوجود ولا بأسراره.
لو مرّن الإنسان نفسه بالعبادة الحقّة سوف تفنى روحه في نور الحقّ الإلهي ولا يرغب في كلّ ما سواه، بل لا يطيق شيئاً آخر غيره، وحينها تنبعث في روحه الكثير من الأسرار المقدّسة، لذا إن أراد حقّاً الاستفاضة من نور الحق تبارك وتعالى الذي هو «نُورُ السَّماواتِ والأَرْضِ»، فلا سبيل له سوى أن يوجّه قلبه نحوه ويعبده بإخلاصٍ.
حينما ينظر الإنسان إلى عالم الوجود من زاوية عرفانية فهو يرى ما فيه من حسنات وبركات، كذلك يرى ما فيه من سيّئات وشرور، لكنّه يعتبرها قاطبةً حسناً وجمالاً.
يا ترى هل تعدّ هذه النظرة إلى عالم الوجود مؤشّراً على تناسق السلوك العرفاني مع نظرية التعدّدية الدينية؟ نقول في الإجابة عن هذا السؤال: القول بتناسق العرفان الذي يرى الإنسان في رحابه الكون جميلاً بكلّ ما فيه مع التعدّدية الدينية، مجرّد مغالطة في مضمار التكوين والتشريع، لأنّ رؤية عالم الوجود جميلاً في الواقع رؤية عرفانية لعالم التكوين، فالعارف من منطلق اعتقاده بأنّ العالم من آثار الربّ الجميل وبفضل معرفته بأسرار هذا العالم، يرى أنّ كلّ ما فيه متناسق وجميل؛ لكن في مقام التشريع ينظر إلى كافّة معارف الوحي وحقائقه من جنّة وجهنّم وفي هذا السياق يدرك أوامر الله تبارك شأنه ونواهيه، وفي الحين ذاته يعتبر نفسه ملزماً باتّباع هذه الأوامر واجتناب كلّ معصية، لذا ينشأ لديه شوق بالجنّة فيسعى جاهداً لأن يصبح من أهلها، كذلك تنشأ لديه خشية من جهنّم فيسعى جاهداً لصيانة نفسه من العقاب الإلهي، وعلى هذا الأساس يميّز بين
(211)بين المطيع والعاصي من الناس ويميّز بين المؤمن من جهة والكافر والمنافق من جهة أخرى.
يتسائل البعض قائلين: هل يتعين إسلام الإنسان عبر امتثاله لأحكام الفقه العبوس؟ أليس تقديس الجمال شرط لإسلام الإنسان وعبادة الله عزَّ وجلَّ؟
الله تعالى جميلٌ وقد خلق كلّ شيءٍ جميلاً، وبما أنّ عالم الوجود جميلٌ لذا يجب على الإنسان أن يسلك نهج هذا الجمال ولا يعتمد فقط على شيءٍ عبوسٍ، أي يجب أن لا يستند إلى الفقه وحده.
نقول في بيان ما ذكر: صحيح أنّ الله تعالى جميل وقد خلق العالم جميلاً أيضاً ويجب على الإنسان أن ينتهج نهج الجمال، لكنّ جماله كامنٌ في عقله وليس في حواسّه المادّية، لأنّ الله عزَّ وجلَّ يصوّر الجمال للبشر على ضوء إدراكهم له ولنتائجه بشكلٍ صائبٍ وانعكاسه في أعمالهم.
الجدير بالذكر هنا أنّ الجمال على نوعين، محسوس ومعقول، وقد خلق الله تعالى كلّ شيءٍ جميلاً، لذا يجب على الإنسان أن يعرف الدين ويؤمن بتعاليمه ويعمل بأوامره في رحاب هذا الجمال بمعيار عقله وقلبه، وممّا روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا السياق: «إيّاكم وخضراء الدِّمَن»، فقيل له: يا رسول الله، ما خضراء الدِّمَن؟ قال: «المرأة الحسناء في منبت السوء». قصد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الفتاة الجميلة التي نشأت وترعرعت في أسرة غير متدينة، فهي كالوردة النابتة في مزبلةٍ، لذا يجب الابتعاد عنها. هذا النوع من الجمال لا يستسيغه العقل، لأنّه جمال ظاهري يستبطن قبحاً؛ فمن كان جميل المظهر قبيح الباطن هو في الواقع منافق اجتمع فيه جمال ظاهر وقبح باطن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش مع منافق، إذ من ميزات المنافق
(212)جمال ظاهره وقبح باطنه، وإذا عاشره الإنسان فهو في الحقيقة يرتبط بجمالٍ مسمومٍ.
المجرم - المنافق - في المصطلح القرآني أشدّ وطئاً على البشرية من العقارب والأفاعي، لأنّ هذه المخلوقات المخيفة يدلّ ظاهرها على باطنها، بينما المنافق إنسان في ظاهره وأفعى في باطنه، لكن يعاشره الناس لكونه واحداً منهم فينفث سمومه فيهم، لذا معاشرته تسمّمهم.
الإسلام دينٌ جميلٌ ويدعو الناس إلى حبّ الجمال، لذا اعتبر بلال الحبشي - الموحّد - جميلاً رغم سواد بشرته، وفي الحين ذاته قبّح الكثير من الرومانيين البيض إثر إلحادهم.
الأحاديث والروايات المباركة ذكرت معيار الجمال، فقد روي «جمال الرجال في عقولهم».
وأمّا بالنسبة إلى رأي من اعتبر الفقه عبوساً، نقول: القرآن الجميل الذي اعتبره الله تعالى أجمل كلام ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ [الزُّمَر: 23]، زاخر بالأحكام الفقهية مثل حرمة النظر إلى غير المحارم ووجوب ستر غير المحارم عمّن ليس محرماً لهم.
الله تعالى أكّد على عدم وجود كلام أجمل وأكثر جذّابيةً من كتابه المجيد، وهذا الكتاب المبارك خاطب المؤمنين: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النُّور: 30].
ذات مرّةٍ أراد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يختبر من حوله، لذا سأل عن أجمل زينة للمرأة، فأجابه كلّ واحدٍ حسب رأيه، إلا أنّ السيّدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام قالت له إنّ زينة المرأة في عدم اختلاطها مع غير المحارم.
إذن، حينما يتمّ التأكيد على وجوب حجاب المرأة وضرورة مراعاة حدود العفاف والطهارة، وعندما يتمّ التأكيد على ضرورة عدم الاختلاط بين
الأولاد والبنات في المدارس، فالهدف هو الحفاظ على العفاف والرقي بالفضائل الروحية وصيانة حرمة المرأة، وهذا ما دعا إليه القرآن الكريم؛ لذا لا تعدّ هذه المبادئ من آراء الفقهاء كي يدّعى إنّ الفقه عبوس.
كذلك قرآننا الجميل وصف الإسلام بأنّه دين جامع وكامل، وخاطب المسلمين قائلاً: بإمكانكم الارتباط مع كافّة البشر وفق مبادئ إنسانية مشتركة ولكم الحقّ في أن تعاشروهم بسلمٍ وأمانٍ دون أن يطالهم منكم أذى، لذا تعاملوا معهم بعدلٍ إلا من أراد الاعتداء عليكم أو إسقاط حكمكم، فمن يفعل ذلك منهم لا حيلة لكم سوى الدفاع عن أنفسكم، ودفاعكم أمرٌ معقولٌ.
الاعتقاد بالتعدّدية الدينية تترتّب عليه آثار مختلفة نذكر منها ما يلي:
من يعتقد بالتعدّدية الدينية لا محيص له من قبول التعدّدية الأخلاقية، ومن المؤكّد أنّ النتيجة التي تترتّب على ذلك هي وجوب الاعتقاد بكون الأخلاق أمراً نسبياً، ونسبية الأخلاق معناها عدم قبول مسألة ثبات المبادئ الأخلاقية؛ لذا يمكن لكلّ قومٍ أن يتبنّوا أخلاقاً خاصّة بهم وكلّ فردٍ حينئذٍ تصبح الأخلاق بالنسبة إليه ذات مدلولٍ خاصٍّ.
النتيجة الأخرى التي تترتّب على الاعتقاد بالتعدّدية الدينية هي حدوث نسبية على صعيد فهم وفق مداليل متنوّعة، وقد تطرّقنا إلى بيان هذا الموضوع سابقاً.
(214)يا ترى ما المقصود من تجربة الدين؟ هل يمكن اعتبار الوحي تجربةً دينيةً؟
هنا عدّة مواضيع ينبغي تسليط الضوء على كلّ واحدٍ منها بأسلوبٍ تحليلي وبيانه بشكلٍ مستقلٍّ كي لا يحدث خلطٌ بينها وبين مواضيع أخرى.
يقول البعض: إذا اعتمد الإنسان على التجربة الدينية لتفسير المسائل الدينية بحيث اعتبر التدين ثمرةً لخوضه تجارب على صعيد مظاهر الحقيقة التامّة - التي نعتبرها حقيقةً غائيةً متمثّلةً بالله عزَّ وجلَّ - بإمكانه الاعتقاد بالتعدّدية الدينية.
كذلك يقولون: جوهر الدين في باكورة ظهور الإسلام كان عبارةً عن نمطٍ من السلوك الديني - تجربة دينية - وليس اعتقاداً بعددٍ من القوانين.
يقولون أيضاً: الذين يبدؤون دراساتهم بخصوص الدين انطلاقاً من التجربة الدينية، ينظرون إلى جميع الأمور من زاوية تجريبية وبما في ذلك الوحي المنزل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حيث يعتبرونه تجربةً دينيةً عليا حسب تفسيره الصحيح.
كما يقولون: الأنبياء كانوا هداةً علّموا الناس الأسلوب الصحيح لتفسير التجربة الدينية، وهذا هو معنى هداهم ومعنى عقيدة التوحيد.
هؤلاء يعتبرون الوحي تجربةً دينيةً، وعلى هذا الأساس يتناسق مع ما يطرح في نظرية التعدّدية الدينية، إلا أنّ رأيهم باطل بكلّ تأكيد، وفيما يلي نفنّده ضمن بيان عدّة مسائل مرتبطة بموضوع البحث.
أوّلاً: أقسام اليقين: اليقين على قسمين، هما كالتالي:
علمي
سيكولوجي
(215)اليقين العلمي يناله الإنسان على صعيد مسائل الرياضيات التي إمّا أن تكون واضحةً أو توضيحيةً، مثل المسألة الثابتة «2 * 2 = 4»، فهذه المسألة واضحة؛ وإمّا أن تكون على هيئة معادلات معقّدة تختم في نهاية المطاف بمسائل رياضية واضحة مثل مسألة «2 * 2 = 4»، إذ ما لم تختم بهذه المسائل البديهية فهي لا تمنحنا يقيناً.
إذن، لو أردنا تحصيل اليقين بخصوص موضوعٍ ما، يجب أوّلاً أن نسعى لاستكشاف مجاهيله، وحينها لا بدّ وأن تُختم كافّة المعلومات النظرية بمعلومات بديهية.
هذا النوع من اليقين علمي يمكن الاعتماد عليه.
اليقين السيكولوجي ينشأ من التلقين، فلو تمّ تلقين أحدهم شيئاً ما عدّة مرّات سوف ينشأ لديه اعتقاد بشكل تدريجي ثمّ يتصرّف على أساس اعتقاده اليقيني هذا؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا النوع من التلقين خارج عن نطاق بحثنا.
اليقين العلمي على قسمين، أحدهما بيّن (واضح) والآخر مبيَّن يجب أن يتّضح بمعونة البديهي مثل قضيتي «الأربعة عددٌ زوجي» و«الخمسة عدد فردي»، فأمثال هذه قضايا تعدّ بديهيةّ لا تستوجب الاستدلال، وحتّى إذا أقيم دليل عليها فإلى جانبه يوجد مدلول، لذا يقال «الأربعة عدد زوجي» لأنّه قابل لأن ينقسم إلى عددين متساويين، إذ كلّ ما يمكن أن يقسم إلى عددين متساويين فهو زوج.
إذن، العدد أربعة زوجٌ، وهذا دليل موجود إلى جانب ذلك المدلول، ممّا يعني أنّ اليقين العلمي يجب أن يعود إلى أمر بديهي.
أوّل قضية بديهية هي «استحالة اجتماع النقيضين»، بمعنى امتناع اجتماع وجود الشيء وعدمه، مثلاً يستحيل أن يكون (ألف) بذاته (ألف)
وفي نفس الوقت ليس بــ (ألف)، وهذه الاستحالة تعدّ أمراً بديهياً.
كلّ القضايا العلمية اليقينية يجب أن تعود في أصلها إلى أمرٍ بديهي، وعندئذٍ يتّضح لنا أن لا داعي لأن يسأل سائل: ما السبب في استحالة كون القضية (ألف) بذاتها (ألف) وفي نفس الوقت ليست بــ (ألف)؟ السبب في عدم صواب طرح هذا السؤال هو عدم جواز السؤال عن البديهي، ولو سأل أحدهم عن أمرٍ بديهي فهو لم يدرك الموضوع بشكل صحيح، لذا يجب إرشاده إلى الحقيقة.
العلم على قسمين هما كالتالي:
حصولي (مكتسب).
حضوري (فطري).
العلم الحصولي هو العلم الذي لا يكون المعلوم فيه ذات الحقيقة، بل مجرّد مظهر لها، لذا لا تترتّب عليه آثارها الخارجية؛ وبيان ذلك كما يلي: إذا اتّضح لنا مفهوم شيءٍ ما، فالعلم به حصولي.
العلم الحضوري هو العلم الذي يكون المعلوم فيه ذات الحقيقة، لذا تترتّب عليه آثارها، وبيان ذلك كما يلي: إذا نشأ لدينا علم بوجود شيء، فهذا علم حضوري، مثل العلم الذي تمتلكه النفس بوجودها.
كما لدينا علم حصولي يقيني لا يشكّك به أحدٌ، مثل القضايا التالية: «إثبات الشيء لنفسه ضروري» و«سلب الشيء من نفسه محال» و«ألف هو ألف» و«ألف لا يمكن أن يسلب من ذاته»، فهذه القضايا مكنونة في أنفسنا على نحو العلم الحضوري اليقيني الذي لا يشكّ به أحدٌ على الإطلاق مثل علم الإنسان بوجود نفسه، لأنّ العلم بها حضوري شهودي، لذا حتّى إذا جهل بحقيقة نفسه فهو مع ذلك عالم بوجودها.
(217)الجدير بالذكر هنا أنّ الرؤى المنامية تعدّ جزءاً من العلم الحضوري لكونها تراود نفس الإنسان ولا تأتيه عن طريق عينيه أو أذنيه، لأنّ قابلياته الإدراكية تتوقّف عندما يخلد إلى النوم، وفي هذه الحالة ينظر إلى الأشياء بعين القلب؛ لكن مع ذلك قد يرى أضغاث أحلام، أي يرى أشياء منبثقة من باطنه ومن ذاكرته.
الوحي من سنخ العلم الحضوري وهو أعلا وأكمل درجة من درجاته، حيث يتمكّن الإنسان في رحابه من معرفة الواقع بكلّ وجوده.
ويمكن تعريفه كما يلي: عبارة عن مشاهدة حقيقة يتقوّم عليها وجود الإنسان.
الإنسان على ضوء علمه الحضوري الخالص يدرك قوام وجوده، أي يدرك حقيقة الله تعالى وكلامه، كما يدرك حقيقة نفسه، فهو في الواقع تحصيلٌ، لذا عندما يناله النبي ينشأ لديه يقين بأنّ ما حصل عليه وحياً؛ ومن هذا المنطلق لا يعتبر من سنخ التجربة الدينية كي يدّعي أحد ضرورة تكرار المشاهدة فيه وحتمية تلازمه مع الشكّ في بادئ الأمر.
لبيان ما ذكر نقول: التجربة تمنح الإنسان يقيناً بشرطين، أوّلهما تكرار المشاهدة وثانيهما وجود قياس خفي كامن في باطن التجربة، وذلك أنّ التجربة (المشاهدة) بعد أن تتكرّر في موارد كثيرة يتّضح للمجرّب أنّ وجود ارتباط بين الموضوع والمحمول يعدّ أمراً ضرورياً وثابتاً بحيث لم يحدث عن طريق الصدفة لكون ما يحدث صدفةً ليس متكرّراً بكثرةٍ وليس دائمياً؛ وبما أنّ ترتّب كلّ أثرٍ على مبدئه دائمي وليس من سنخ الصدفة، فالارتباط بين الموضوع والمحمول ضروري وحتمي ولا يحدث عن طريق الصدفة.
إذن، التجربة لا تمنح الإنسان يقيناً إلا إذا أدرك شيئاً معيناً عن طريق
(218)التكرار، في حين أنّ الوحي في غنى عن التكرار، حيث يوجد للموحى إليه يقيناً علمياً شهودياً منذ اللحظة الأولى لنزوله.
الشيخ محمد بن يعقوب الكليني رحمهالله نقل في كتاب «الكافي» الرواية التالية عن شخص سأل الإمام جعفر الصادق عليهالسلام:... قلت: أصلحك الله كيف يعلم [النبي] أنّ الذي رأى في النوم حقّ وأنّه من الملَك؟ قال: «يُوفَّق لذلك حتّى يعرفه...». إنّه توفيق إلهي حقّاً، فكما أنّ الإنسان يدرك وجود نفسه شهودياً بشكلٍ لا يحتمل الخطأ بتاتاً، كذلك يدرك كلام الله تبارك شأنه بهذا الشكل بحيث لا يشكّ به على الإطلاق لأنّ إدراك حقيقة الوحي أعلا درجةً من إدراك وجود النفس.
حينما يتلقّى النبي وحي السماء فهو يدرك الحقيقة على واقعها، لذا لا يكتنف ذهنه أيّ خطأ على الإطلاق، لأنّ الخطأ يحدث عند وجود باطلٍ، كذلك الشكّ إزاء أيّ موضوع لا يحدث إلا عند تصوّر وجود شيءٍ آخر غير الحقّ في هذا الموضوع؛ بينما وحي السماء منزّه من الباطل بالتمام والكمال، لذا لا يمكن تصوّر حدوث خطأ أو شكّ فيه.
من أبرز خصائص الوحي المنزل على نبينا الأكرم محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تنزّهه من الشبهة والخطأ في ثلاث مراحل هي كالتالي:
1. مرحلة استلام كلام الله عزَّ وجلَّ.
2. مرحلة حفظ كلام الله عزَّ وجلَّ.
3. مرحلة نقل كلام الله عزَّ وجلَّ للناس إلى الناس.
وقد أكّد البارئ تبارك وتعالى في كتابه الكريم على هذه المحاور الأساسية في صيانة الوحي المنزل على خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حيث قال: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النَّمل: 6]. النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم يعدّ
معصوماً عند تلقّيه الوحي من «لَدُنْ» الذات الإلهية المقدّسة، لأنّ لدنية البارئ عزَّ وجلَّ لا يكتنفها أيّ شكّ وخطأ على الإطلاق، إذ يقع الإنسان في فخّ الشكّ والخطأ عند وجود حقّ وباطل بحيث لا يعرف ما إن كان ما لديه حقٌّ أو باطلٌ؛ لكن عندما لا يوجد أيّ مجال للباطل ففي هذه الحالة لا مجال لافتراض الشكّ، وبما أنّ «لَدُنْ» الذات الإلهية المقدّسة هي منشأ الوحي، لذا لا وجود للباطل فيه بتاتاً، ومن ثمّ لا يمكن تصوّر أيّ خطأ فيه.
النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم معصوم أيضاً على صعيد حفظ مضمون الوحي، وفي هذا السياق قال تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى»، أي سنقرأ لك الوحي وسوف لا تنساه.
كذلك هو معصوم على صعيد إبلاغ وحي السماء للناس، حيث قال تعالى مؤكّداً على هذه الحقيقة: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النّجْم: 3-4].
الجدير بالذكر هنا كما أنّ نبينا الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم معصوم من الشكّ والخطأ في كافّة مراحل الوحي، فهو قطعاً معصوم من ارتكاب الذنوب والمعاصي بأيّ نحوٍ كان، وهذا ما أكّد عليه الرّب الكريم في كتابه الحكيم حينما قال إنّه لا ينطق عن الهوى، وإنّما كلّ ما يقوله وحي.
نستنتج من مجمل ما ذكر أنّ الوحي عبارة عن معرفة تنشأ لدى الأنبياء عليهمالسلام عن طريق شهود الحقيقة، وهم مصونون في كلّ أفعالهم وأقوالهم من السهو والنسيان والعصيان.
ذكرت العديد من الآراء لبيان معنى التجربة الدينية، من جملتها ما يلي:
1. تجربة أمرٍ مقدّسٍ - تجربة الله - كحقيقة مقصودة، وهذه التجربة تحدث بأشكال عديدة.
2. شعور ديني يتصوّر الإنسان على أساسه بأنّه مرتبط بموجودٍ متعالٍ، وفي هذا السياق ادّعى الفيلسوف الغربي شلاير ماخر أنّ التجربة الدينية ليست من سنخ التجارب العقلية أو المعرفية، بل عبارة عن شعور بالاعتماد التامّ والمطلق على مبدأ أو قدرة فيماوراء هذا العالم.
3. انفتاح نافذة من عالم الغيب على الإنسان، وهذه الحالة يمكن تشبيهها بالمريض الذي لا يأمل الأطبّاء شفاءه لكنّه يشفى بفضل دعائه وتوسّله بالله عزَّ وجلَّ أو بفضل دعاء وتوسّل غيره؛ بل يمكن تشبيهها بكلّ دعاءٍ مستجابٍ.
4. حالة الكشف والشهود التي يوفّق لها العرفاء إزاء الذات الإلهية المقدّسة.
5. تجربة المعارف والحقائق المذكورة في النصوص الدينية.
التجربة الدينية التي يتحدّث عنها البعض إنّما تصدق على أتباع دينٍ ما وليس على النبي المعصوم الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى، لأنّ الأنبياء يدركون حقيقة الدين عن طريق الوحي وليس بالتجربة؛ بينما المتدينين من الممكن أن يجرّبوا مسائل دينية، وقد تحدّث الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم عن بعض المسائل والمعارف التي جرّبها ويجرّبها المتدينون مراراً، فعلى سبيل المثال ذكر قاعدةً عامّةً على الصعيد العسكري في الآية التالية: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّه﴾ [البَقَرَة: 249]. المقصود في هذه الآية هو أنّ الإنسان لو سلك نهج الجهاد في سبيل الله تعالى سوف تنشأ لديه تجربة فحواها ما يلي: في الكثير من
من الأحيان تتمكّن فئة قليلة من أتباع الحقّ أن تلحق الهزيمة بفئة كبيرة من أتباع الباطل. هذه التجربة ربّما تحدث في عصرنا الحاضر أيضاً للمسؤولين العسكريين وقواتهم.
الحروب العديدة التي فرضت على المسلمين في عصر صدر الإسلام، منحتهم تجربة أساسية فحواها أنّهم لو عملوا بتعاليم دينهم سيكون النصر حليفهم سواءً كان عددهم أقلّ من الأعداء أو أكثر. هذه تجربة دينية على صعيد المسائل العسكرية، وهي طبعاً من سنخ التجارب الحسّية وليست من سنخ الوحي والشهود الباطني؛ فالتجارب الحسّية والتأريخية وغيرها لا تشابه وحي الأنبياء الذي هو عبارة عن شهودٍ من سنخ العلم وليس العمل.
من الأمثلة القرآنية الأخرى على مسألة التجربة الدينية، الدعاء والتهجّد والعبادة، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البَقَرَة: 186]. هناك قاعدة عامّة فحواها أنّ الله عزَّ وجلَّ يستجيب دعاء عباده حينما يتضرّعون إليه طالبين قضاء حوائجهم، فهي تدلّ على وعدٍ إلهي دائمٍ، لذا يمكن للناس تجربتها في كلّ عصرٍ.
الشيخ البهائي رحمهالله قال في كتابه «الأربعين»:
«جرّبت مراراً أنّ الــمَدين إذا قرأ الدعاء التالي يوفّى دينه (اللّهمّ أغنني بحلالكَ عن حرامكَ وبفضلكَ عمّن سواكَ)، وهناك من جرّب غيره».
هذا النوع من التجربة على غرار سائر التجارب الحسّية والتأريخية وغيرها من حيث عدم تشابهها مع شهود الأنبياء حينما يتلقّون وحي السماء على الرغم من إمكانية شمول التجربة الدينية كافّة التجارب الحسّية والتأريخية والعسكرية والاقتصادية وما شاكلها، فحسب الوعد الغيبي من الممكن أن تحدث أمور من حيث لا يحتسب البشر ومن ثمّ يصبح الصعب
(222)الشاقّ سهلاً يسيراً مثل شفاء مريض يئس الأطبّاء من علاجه، وما إلى ذلك من حالات أخرى.
ومن المصاديق الأخرى للتجربة الدينية تحقيق أهدافٍ وعد الله تعالى المؤمنين بها في كتابه الحكيم، لذا حينما يتحقّق الوعد الإلهي بشأن أحد الناس فهذا يعني تحقّق إحدى التجارب الدينية، حيث قال تبارك شأنه: ﴿لَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه﴾ [المَائدة: 64]. المقصود من هذه الآية هو أنّ المسلمين لو اتّبعوا وحي السماء ودافعوا عن دينهم سوف ينصرهم الله تعالى، وليس المقصود أنّه ينصرهم إذا حاربوا لأجل فتوحات وسيطرة على العالم وفرض سلطتهم على سائر البلدان أو لأيّ سببٍ مادّي آخر. الفعلان «أوقدَ» و«أطفأ» في الآية بصيغة الماضي، وكما هو معلوم حينما يوضّح المتكلّم مراده بأسلوب الماضي فهو يريد من ذلك قطعية تحقّق الموضوع، لذا يكون المقصود هنا تحقّق الوعد الإلهي، ومعناه يمكن تفسيره كما يلي: كلّما يشعلون ناراً للحرب قطعاً يطفؤها الله.
المسلمون جرّبوا مضمون هذه الآية في عصر صدر الإسلام، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّها ليست من سنخ تجارب الوحي، بل من سنخ التجارب الحسّية والتأريخية والعسكرية والعبادية والاقتصادية التي ذكرنا طبيعتها التجريبية آنفاً؛ والسبب في اندراجها ضمن هذا النوع من التجارب يعود لكونها من الأمور العملية وليست العلمية على الرغم من أنّنا لو تأملنا في مغزاها ومغزى التجارب المثيلة لها لأمكننا الاستدلال على وجود المدد الغيبي وإثبات أنّها نوع من التجارب الدينية، لذا نستخلص من نتائجها كونها علماً حصولياً - مكتسباً - يتحقّق بمددٍ غيبي والإيمان بهذا المدد، ولا تعدّ مطلقاً من سنخ الشهود الذي يتحقّق عن طريق الوحي.
أمير المؤمنين عليهالسلام وصف السخاء والكرم قائلاً: «من أيقنَ بالخلَف، جاد بالعطية»، فالعطاء قربةً إلى الله تعالى شبيهٌ بأخذ غرفة ماءٍ من نهرٍ جارٍ،
(223)لذا عندما يغرف الإنسان منه غرفةً سرعان ما يأتي ماءٌ جديدٌ يملأ الفراغ الحاصل ممّا اغترف؛ ومعنى ذلك أنّه مهما ينفق في سبيل الله تعالى سوف ينال عوضاً عنه بسرعةٍ. النهر الجاري بطبيعة الحال ليس كالأرض الجافّة التي إن اقتطعنا جزءاً منها يصبح مكانه فارغاً.
إذن، لو أيقن الإنسان أنّ الله عزَّ وجلَّ يعطيه عوضاً عمّا يبذل من خيرٍ فور بذله إيّاه، سوف تصبح نفسه سخيةً كريمةً، وهذا العطاء يعدّ من الأمور الخاضعة للتجربة.
نستنتج التالي من جملة ما ذكر.
1. الأنبياء ليسوا بحاجةٍ إلى التجربة الدينية عند تلقّيهم وحي السماء، بل فور نزول أوّل وحي عليهم ينشأ لديهم قطعٌ ويقينٌ بما جاءهم به.
2. التجربة الدينية تصدق في الكثير من مصاديق الوعد الإلهي، إلا أنّها ليست من سنخ شهود الأنبياء عند تلقّيهم وحي السماء، وقد ذكرنا أمثلةً على ذلك.
كما أنّ تجربة المؤمنين الدينية إزاء القضايا المرتبطة بالدين تختلف عن الوحي الذي يتلقّاه الأنبياء، كذلك التجربة العرفانية (الشهودية) التي يخوضها العرفاء تختلف عن الوحي.
قبل أن نوضّح وجه الاختلاف بين تجربة العرفاء الشهودية والوحي المنزل على الأنبياء، نرى من الأنسب بيان المقصود من هذه التجربة.
العرفان على قسمين هما كالتالي:
عرفان عملي
عرفان نظري
(224)العرفان العملي يتّضح على أساسه ارتباط الإنسان بذاته ووظائفه إزاءها وإزاء عالمه وربّه، حيث يتمّ في رحابه بيان كيفية بلوغ قمّة الإنسانية المنيعة - التوحيد - على ضوء تعيين نقطة الانطلاق في السلوك الروحاني والمنازل التي يجب أن يطويها العارف واحداً تلو الآخر لأجل أن يبلغ مرحلةً لا يرى في رحابها شيئاً سوى الله تبارك شأنه.
خلاصة ما ذكر هي أنّ العارف ضمن عرفانه العملي يبلغ منزلة وحدة الشهود، لكنّ العرفان النظري تتّضح فيه أيديولوجيا العارف ورؤيته النظرية.
حينما يخوض العارف غمار السير والسلوك الروحاني في رحاب تجربته العرفانية، تنكشف له حقائق يدرك على أساسها ثمرة وضعه الراهن أو ماضيه في اليقظة أو المنام، ويعرف ما إن كانت في عالم المثال المتّصل أو المنفصل، وهو بطبيعة الحال لــمّا يدرك شيئاً عادةً ما يبحث عن معيارٍ يقيّم على أساسه حالاته الشهودية التي أدرك هذا الشيء في رحابها، لأنّ هذه الحالات تختلف مع بعضها لدى الكثير من العرفاء لدرجة أنّ العارف يدرك أحياناً أنّه كان على خطأ في الحالة الشهودية التي اكتنفته؛ لذلك هو بحاجة ماسّة إلى معيارٍ يعينه على تمييز الشهود الربّاني الحقّ عن الشهود الشيطاني الباطل.
الجدير بالذكر هنا أنّ العارف ضمن سيره وسلوكه الروحاني لو اتّبع شريعة أهل البيت عليهمالسلام وآمن بولايتهم، سوف يتمكّن من السير في الطريق الصحيح بحيث يوفّق لنيل جزءٍ يسيرٍ من العلوم الشهودية التي ينالها الأنبياء والأولياء مثلما نال جانباً من العلوم الحصولية.
نستشفّ ممّا ذكر أنّ الوحي يختلف عن التجربة العرفانية، وذلك لما يلي:
وكلّ ما لديهم متناسق مع بعضه، لذلك قال تعالى في كتابه الحكيم: ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فَاطِر: 31]، أي أنّ النبي اللاحق يصدّق النبي الذي سبقه، كما أنّ النبي السابق يبشّر بالذي سيبعث بعده.
2.عند وجود أيّ اختلاف بين تعاليم الأنبياء، فهو اختلاف معلوم مسبقاً ويسمّى نسخاً.
إذن، الوحي شكل خاصّ من العلوم الشهودية، ويختلف عن الشهود العرفاني، لأنّ العرفاء يختلفون في حالاتهم الشهودية وقد يقعون في خطأ، فتارةً يرون مشاهداتهم الروحانية في عالم المثال المتّصل، وتارةً أخرى يرونها في عالم المثال المنفصل، في حين أنّ الأنبياء دائماً يخبرون عن عالم المثال المنفصل لأنّهم شاهدوه.
علم الأخلاق جزء من الفلسفة ولا ارتباط له بالعرفان لأنّ مواضيعه تتمحور حول النفس وتهذيبها ومعرفة فضائلها ورذائلها، ومعرفة السبيل الذي يمكّن الإنسان من كسب هذه الفضائل ويصونه من الابتلاء بالرذائل، وما إلى ذلك من مسائل مشابهة.
علم الفلسفة تتمحور مواضيعه حول أصل وجود النفس وتجرّدها وما فيها من قابليات إدراكية ودوافع مختلفة، بعد ذلك يأتي الدور لعلم الأخلاق الذي يوضّح السبيل الأمثل لتحلّي النفس بالفضائل.
الإنسان وفق مبادئ علم الأخلاق يجب أن يتحلّى بالفضائل وأن يؤدّي الواجبات ولا يترك المستحبّات، وأن يجتنب المحرّمات ويترك المكروهات، وأن يسعى جاهداً لكسب رضا الله تبارك شأنه؛ وكلّ هذه السلوكيات تنصبّ في وعاء تهذيب النفس.
وأمّا في مضمار العرفان فالعارف يقوم بما يلي:
1. السعي الدؤوب لكسب شهود روحاني بالواحد الحقيقي - الله تبارك شأنه - وإدراك جماله وجلاله وتوحيد ذاته وصفاته وأفعاله وآثاره.
2. تجاوز مرحلة تهذيب النفس، لأنّ تهذيبها مرتبة من مراتب عروج الروح، ممّا يعني أنّ العارف يبلغ مرحلة عروج الروح عندما يتحلّى بالأخلاق الفاضلة ويزكّي نفسه بتهذيبه إياها إلى جانب تأدية الواجبات والمستحبات.
3. كما أنّ العرفان أفضل من الفلسفة والأخلاق أدنى مرتبةً منها، كذلك العارف أفضل من الفيلسوف، وصاحب الخلق الفاضلة أدنى مرتبةً من الفيلسوف؛ لكن شريطة أن يكون الفيلسوف متديناً ومصداقاً للعالم الذي يعمل بعلمه.
يقول البعض: لا بدّ من التفكيك بين الشريعة وعلم الفقه - النظام الحقوقي - كي يمكن قبول مسألة التعدّدية والتسامح العملي، فلو تمّ تعيين حدود الشريعة وتمييزها عن حدود الفقه من الممكن حينها قبول آراء مختلف المفكّرين، لأنّ الفقه يحول دون التعدّدية والتسامح العملي، فهو حسب ما يصفه البعض «عبوس» - والعياذ بالله من هذا الوصف - لذا لا يطيق التعدّدية، بينما الشريعة تطيقها.
للردّ على هذا الكلام نقول: أوّلاً يجب علينا بيان مفاهيم البحث لبيان المقصود من الفقه والشريعة في القرآن الكريم والسنّة المباركة لأجل أن نعرف ما إن كانت هناك حدود خاصّة تفصل بينهما أو لا.
الفقه حسب المدلول القرآني يعدّ جزءاً من الشريعة، والشريعة قرآنياً
عبارة عن مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام، لذا يقصد من الفقه معرفة الواقع؛ وقد عرّفه البعض كما يلي: «التوصّل إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ»، أي أنّ الفقيه يسعى بواسطة فقهه إلى معرفة المجهول، فهو يستكشف ما كان مجهولاً عن طريق ما كان معلوماً، أي أنّ المعلوم عبارة عن سلّم يرتقيه الفقيه لمعرفة المجهول سواءً كان هذا المجهول من مسائل الوجود والعدم والتي تعتبر من مواضيع الحكمة النظرية وعلم الكلام، أو كان من مسائل الواجبات والنواهي الفقهية والأخلاقية والقانونية.
الفقه في عصر صدر الإسلام لم يكن مختصّاً بمعناه الاصطلاحي المعهود بيننا اليوم، أي أنّه لم يكن في مقابل علوم الفلسفة والتفسير والكلام، فالقرآن الكريم لــمّا دعا المؤمنين لأن يشدّوا الرحال نحو مراكز العلم والثقافة في دار الإسلام كي يتفقّهوا في الدين، قصد حينها التفقّه في العقائد والأخلاق والقانون، أي في مسائل على غرار: لعالم الوجود ربٌّ هو الله، الله واحدٌ، توجد جهنّم في الحياة الآخرة، توجد جنّة في الحياة الآخرة، النبوّة في الحياة الدنيا حقٌّ، المعاد بعد الممات حقٌّ، في ذمّة كلّ مكلّف واجباتٌ، ترك المحرّمات واجب على كلّ مكلّف؛ وما إلى ذلك من مسائل أخرى.
كلّ هذه المسائل وما شابهها كانت في تلك الآونة جزءاً من التفقّه في الدين - الفقه - حيث وجّه القرآن الكريم دعوةً عامّةً للمؤمنين كي يتعلّموها ويعلّموها، فقد قال تعالى: ﴿لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التّوبَة: 122]. مراد هذه الآية هو دعوة المؤمنين لأن يشدّوا الرحال نحو مراكز العلم والثقافة في البلاد الإسلامية كي يتفقّهوا بأصول دينهم وفروعه لينذروا الآخرين.
نستنتج ممّا ذكر أنّ الفقه حسب المفهوم القرآني عبارة عن علمٍ خاصٍّ
تندرج فيه جملة من الإلزامات والنواهي العقائدية مثل الجنّة ودرجاتها وجهنّم ودركاتها والجبر والتفويض والأمر بين الأمرين والله تعالى وصفاته، إلى جانب جملةٍ من الإلزامات والنواهي الفقهية والأخلاقية؛ لذا سمّي تعلّم مبادئ هذا العلم الشامل تفقّهاً.
القرآن الكريم ذكر معنى آخر للتفقّه غير الذي أشرنا إليه في الآية السابقة، وذلك ضمن إشارته إلى مسألة الجبر والتفويض التي تعدّ من المسائل الدقيقة في علمي الكلام والتفسير، فقد قال تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النِّسَاء: 78-79]. الله سبحانه وتعالى في هذه الآية قال: لماذا لا يضعون حلاً لمسألة الجبر والتفويض؟ كيف لا يعلمون أنّ الحسنات والسيّئات من عند الله؟ الحسنات من الله، إلا أنّ السيّئات من عنده، لذا لماذا لا يدركون أنّ السيّئات ليست من الله؟ لماذا لا يتفقّهون بهذا الموضوع؟
كذلك استخدم القرآن الكريم لفظ التفقّه بخصوص المنافقين، حيث قال: يتصوّرون أنّهم قادرون على تحقيق مآربهم وصيانة أنفسهم من خلال التظاهر والكذب ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ [المجَادلة: 16]، لكنّهم لا يدركون أنّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما في أنفسهم وسوف يفشي أسرارهم في محكمته العادلة. إنّهم لا يفقهون لذلك لا يدركون أنّه تبارك شأنه يرى كلّ شيءٍ: ﴿وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنَافِقون: 7].
إذن، كلمة فقه ومشتقّاتها في القرآن الكريم تدلّ على فهم وتعلّم مسائل دينية وشرعية.
لو اعتقد شخصٌ بأنّ الفقه بمعناه الاصطلاحي يبدأ من مباحث الطهارة وينتهي بمباحث الحدود والديات والذي يعني مجموعة من الإلزامات والنواهي (الواجبات والمحرّمات) ومسائل الحلال والحرام، ثمّ
حاول فصله عن الشريعة بادّعاء أنّها متوازنة تطيق التعدّدية إلا أنّ الفقه عبوس لا يطيق التعدّدية؛ فليعلم أنّه قد قطّع الدين أشلاءً وهو مصداق لمن ذمّهم القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحِجر: 91]. هذه الآية في مقام ذمّ الذين اعتبروا القرآن أجزاءً مشتّتةً، فهذا الفكر غير لائقٍ، لأنّ الدين شجرة طوبى التي لا يمكن قطع أغصانها وأوراقها لكون أصلها ثابتاً وفرعها في السماء.
الفقه بمعناه الاصطلاحي الذي يرتبط موضوعه بأفعال المكلّف من أحكام وضعية وتكليفية، وبالإلزامات والنواهي القانونية والأخلاقية، عبارة عن جزء من الفقه بمعناه القرآني - الشرعي والديني - والذي يكتسب حقّانيته من حقّانية الشريعة والدين، لأنّ الشريعة الإسلامية تعمّ هذا النوع من الفقه أيضاً.
الذين أرادوا وضع حلّ لمسألة التعدّدية عن طريق التفكيك بين الفقه والشريعة، ليعلموا أنّ الفقه وفق مدلوله القرآني يعني فهم الدين، والدين بدوره مجموعة من العقائد والأخلاق والفقه والقوانين، وهذه المجموعة واحدة ليس من الممكن تجزأتها، إذ لو تمّ تفكيكها يصبح الدين ناقصاً، ومن البديهي أنّ الناقص لا تأثير له ولا فائدة منه.
الشريعة مرادفة للدين، لذا لا يمكن تجزأتها، وبما أنّ الفقه بمعناه الاصطلاحي جزء من الدين (الشريعة)، لذا فهو بحكمه، أي أنّه حقّ وليس عبوساً حاله حال الدين الذي لا يعدّ عبوساً.
نستنتج التالي من جملة ما ذكر: كما أنّ الفقه لا يطيق التعدّدية ولا التسامح غير المعقول، كذلك الدين (الشريعة) لا يتحمّل التعدّدية ولا التسامح غير المعقول؛ لأنّ الدين حقّ والحقّ واحدٌ.
ربّما يحدث اختلاف في فهم الدين، وهذا الاختلاف - تعدّد الفهم - لو كان منهجياً فهو مقبول.
(230)1.قرآن كرىم
2. اديان زنده جهان، رابرت، هيوم، ترجمه عبدالرحيم گواهي، انتشارات دفتر نشر فرهنگ اسلامي، چاپ سوم،1373 ش.
3. اساس الإقتباس، خواجه نصيرالدين طوسي؛ انتشارت دانشگاه تهران، چاپ دوم، 1355 ش.
4. الإشارات والتنبيهات؛ شيخ ابوعلي حسين بن عبدالله بن سينا، مع الشرح، للمحقق نصير الدين محمد بن محمد الطوسي، مطبعة الحيدري، تهران، 1379 ش.
5. افول سكولاريزم، پيتر اِل برگر، ترجمه افشار اميري، انتشارات مؤسسه پنگان تهران، چاپ اول،1380 ش.
6. الإقتصاد في اصول الإعتقاد؛ ابوحامدغزالي، دار مكتبة الهلال بيروت - لبنان، 1421 هــ. ق.
7. انتظار بشر از دين؛ آية الله عبدالله جوادي آملي، مركز نشر اسراء، چاپ اول 1380 ش.
8. بحار الأنوار الجامعة لدرر الأخبار الأئمةالاطهار؛ محمدباقر مجلسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403 هـ.
9. جامعه شناسي دين؛ ملكم هميلتون، ترجمه محسن ثلاثى، مؤسسه فرهنگى انتشارات تبيان، چاپ اول، 1377 ش.
10. جستارهايي در فلسفه دين؛ الوين پلانتىنجاو...، ترجمه مرتضى فتحى زاده، انتشارات دانشگاه قم (انتشارات اشراق)، چاپ اول، 1380 ش.
11. الحكمة المتعالية في الاسفار الأربعة العقلية؛ حكيم متألّه صدر الدين محمدشيرازي، دار احياء التراث العربي، بيروت لبنان، چاپ سوم، 1981 م.
12. دين پژوهي؛ دفتر اول، ميرچاالياده، ترجمه بهاء الدين خرمشاهي، مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگي (پژوهشگاه)، 1372 ش.
13. دين و چشم اندازهاى نو؛ ترجمه غلامحسىن تولكى، مركز انتشارات دفتر تبلىغات اسلامى قم، چاپ اول 1376 ش.
14.دين ونگرش نوين؛ والتر ترنس استيس، ترجمه احمدرضا جليلى، انتشارات حكمت، چاپ اول، 1377 ش.
15.ديوان حافظ؛ خواجه شمس الدين محمدحافظ شيرازى (792 هـ)، كوشش دكتر خليل خطيب رهبر، انتشارات صفي عليشاه، 1365ش.
16. ذكرى الشيعة؛ شهيد اول، مؤسسه آل البيت لإحياء التراث، قم چاپ اول، 1419 هـ ق.
17. زبان دين؛ امير عباس علي زماني، مركز مطالعات وتحقيقات اسلامي مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامي، چاپ اول، 1374 ش.
18. الدّر المنثور في تفسير المأثور؛ عبدالرحمن جلال الدين السيوطي (911 هـ. ق) دار الفكر، بيروت، 1414 هـ. ق.
19. السرائر؛ محمد اين ادريس الحلي (598 هـ ق)، مؤسسه النشر الاسلامي، چاپ چهارم، 1417 هـ..
20. سير حكمت در اورپا؛ محمدعلي فروغي، انتشارات صفي عليشاه چاپ سوم، 1361 ش.
21. شرح المقاصد؛ مسعود بن عبدالله سعد الدين تفتازاني (712-793 هـ ق.) منشورات الشريف الرضي، قم، چاپ اول.
22. شرح المواقف؛ عضدالدين عبدالرحمن الايجي، سيد شريف جرجاني، انتشارات الشريف الرضي، قم، چاپ دوم، 1373 ش.
23. الشواهد الربوبية؛ صدرالدين شيرازي، باتصحيح وتعليق مقدمه سيد جلال الدين آشتياني، انتشارت دانشگاه مشهد، 1376 ش.
24.صورت وسيرت انسان؛ آيةالله عبدالله جوادي آملي، مركز نشر اسراء، چاپ اول، 1397 ش.
25. عقل واعتقادات ديني؛ مايكل پترسون و...، ترجمه احمد نراقي وابراهيم سلطاني، انتشارات طرح نو، چاپ اول،1376 ش.
26. علم ودين؛ ايان باربور، ترجمه بهاء الدين خرمشاهى، مركز نشر دانشگاهى، چاپ دوم، 1374 ش.
27. علم اليقين فى أصول الدين؛ محمد بن المرتضى معروف به ملّا محسن فيض كاشانى، انتشارات بيدار قم، چاپ اول، 1377 ش.
28. عقل ووحي در قرون وسطى؛ ايتن ژيلسون، ترجمه شهرام پازوكي، انتشارات گروس، چاپ دوم، 1387 ش.
29. علي بن موسى الرضا عليهالسلام والفلسفة الإلهية؛ آية الله عبدالله جوادي آملي، نشر اسراء، چاپ دوم، 1422 هـ. ق.
30. فلسفه دين؛ جان هيك، ترجمه بهرام راد، انتشارات بين المللى الهدى، چاپ اول، 1372 ش.
31. كافي؛ ثقة الاسلام كليني، دار التعارف ودار صعب بيروت، چاپ چهارم 1401 هـ ق.
32. كشف المراد فى شرح تجريد الإعتقاد؛ علامه حلي، تحقيق استاد حسن زاده آملى، انتشارات وابسته به جامعه مدرسين قم، 1415 هـ ق.
33. كيان؛ مجله ش 42.
34. گوهرمراد؛ عبدالرزاق لاهيجى، انتشارات وزارت فرهنگ وارشاد اسلامي، چاپ اول، تهران 1377 ش.
35. مباحث بلوراليزم دينى؛ جان هيك، ترجمه عبد الرحيم گواهي، مؤسسه فرهنگي انتشارات تبيان، چاپ اول، تهران، 1378 ش
36. مثنوي معنوي؛ جلال الدين محمدبلخي، انتشارات راستين، چاپ اول، 1375 ش.
37. مدار ومديريت؛ عبدالكريم سروش، مؤسسه فرهنگي صراط، چاپ اول، 1376 ش.
38. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ حاج ميرزا حسين نوري طبرسي (1320 هـ ق)، تحقيق ونشر مؤسسه آل البيت لإحياء التراث، قم، طبع اول، 1407 هـ ق.
39. مسند الامام رضا عليهالسلام ؛ شيخ عزيزالله عطاردي قوچاني، انتشارات مكتبة الصدوق، چاپ اول، تهران، 1392 هـ ق.
40. المعتبر في شرح المختصر؛ المحقق الحلي، مؤسسه سيد الشهداء، چاپ اول، 1364 ش.
41. مفاتيح الجنان؛ شيخ عباس قمي (1294 - 1359 هـ ش).
42. مفاتيح الغيب؛ صدرالدين محمد بن ابراهيم شيرازى، موسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگي تهران، چاپ اول، 1363 ش.
43. الملل والنحل؛ ابن الفتح محمد بن عبدالكريم ابي بكر الشهرستانى، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1421 هـ ق.
44. الميزان فى تفسير القرآن؛ علامه سيد محمدحسين طباطباىى، انتشارات مؤسسه الأعلمي بيروت، لبنان، 1393 هـ ق.
45. نقد تفكر فلسفي غرب؛ اتين ژيلسون، ترجمه دكتر احمد احمدي، انتشارات حكمت، چاپ چهارم، 1373 ش.
46. نور الثقلين؛ ابن جمع عروس حويزى (1112 هـ ق)، تصحيح رسولى محلاتى، مؤسسه مطبوعاتى اسماعيليان، قم.
47. نهج البلاغة؛ سيد رضي محمد بن حسين بن موسى (359-406 هـ ق)، تحقيق صبحي صالح، دار الأسوة، 1415 هـ ق.
48. وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة؛ شيخ بن حسين حر عاملى، مؤسسه آل البيت، دار إحياء التراث، 1414 هـ ق.