فهرس المحتويات

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتجية سلسلة نقد الالحاد 2 الالحاد والاغتراب بحث في المصادر الفلسفية للالحاد المعاصر تأليف: باترك ماسترسن ترجمة: هبة ناصر
(2)
(4)

 

الفهرس

 

مقدمة المركز7

 مُقدّمة الكتاب10

الفصل الأول: العلم المعاصر والكوجيتو الديكارتي13

الفصل الثاني: كانط والمطلق المحدود27

الفصل الثالث: هيغل والمطلق المحايث51

الفصل الرابع: فيورباخ وتأليه الإنسان83

الفصل الخامس: ماركس والخلاص العلماني101

الفصل السادس: المنظومة الحديثة للفلسفة الوضعية الطبيعية123

الفصل السابع: الفلسفة الوجودية ورفض المعبودات157

الفصل الثامن: لوحةُ الأمل187

(5)

مقدمة المركز:

 

ما فتئ البحث عن الإلحاد وتجلياته المختلفة مستمراً عبر القرون والعصور، سيما في زماننا الحاضر جرّاء ما أتاحته الثورة المعلوماتية من عولمة الشبهات ومحاولة تقليص دائرة الدين.

فالبحث عن الإلحاد قديم بقدم البحث عن الإيمان والألوهية، ومتنوّع بتنوّع المناشئ والأسباب من نفسية وتربوية إلى فلسفية واجتماعية وغيرها، ولكن مع هذا يبقى الجواب على السؤال الرئيسي، في أنّ الإلحاد ـ في وقتنا الحاضر ـ هل أصبح ظاهرة عامّة أو أنّه حالة عابرة، متعلّقاً بتعريف الإلحاد، إذ كثيراً ما يختلط الأمر فيُطلق المصطلح على من ترك بعض الطقوس الدينية أو تهاون فيها جرّاء ضغوط اجتماعية أو نفسية مختلفة ـ وهو الأعم الأغلب سيما في فترة المراهقة وطغيان الغرائز ـ وشتّان بين ترك بعض الطقوس أو التهاون فيها ورفض الإله تماماً.

في هذا الكتاب يبحث المؤلف «باترك ماسترسُن»، الجذور الفلسفية للإلحاد المعاصر، ويستعين بعلم نفس الدين ليصل إلى أنّ جذور الإلحاد المعاصر تنتهي إلى جدلية المحدود والمطلق (= الإنسان والله) ونوع العلاقة بينهما، حيث يرى الإلحاد المعاصر أنّ القول بوجود المطلق أمام الإنسان يسبب عزلة الإنسان انسلاخه عن هويته المطلقة، وهذا ما يحلو للنزعة الإنسانية المعاصرة التي جعلت الإنسان مطلقاً.

فالبحث عن هذه الجدلية أثارت مدارس ومذاهب فكرية فلسفية متنوعة بل ومتضاربة، تبدأ من الإيمان في دراسات أمثال ديكارت وكانط وهيغل، وتنتهي إلى

(7)

الإلحاد في دراسات أمثال فيورباخ وماركس، حيث يرى المؤلّف أنّ ديكارت وكانط وهيغل وإن كانوا مؤمنين غير أنّ أعمالهم فتحت الطريق أمام تضخيم دور الإنسان وذاتيته، فاستفاد الإلحادُ المعاصرُ وتغذّى منها لصالحه، ناهيك عن أعمال فيوبارخ وماركس والفلسفة الوضعية والوجودية حيث روّجت للإلحاد صريحاً وذهبت إلى تأليه الإنسان.

في هذا الكتاب يبحث المؤلف في فصول سبعة العزلة والأصالة لدى الإنسان من خلال سبر أغوار دراسات وأفكار هؤلاء الفلاسفة بنظرة تحليلية نقدية، لينتهي في الفصل الثامن إلى تقديم وجهة نظره حول مسألة الألوهية في عالمنا المعاصر ونقد الإلحاد لكن لا من خلال إقامة أدلّة وبراهين فلسفيته كلامية على ذلك، بل من خلال معالجة سيكولوجية نفسية تكون مقدّمة لتلك البراهين، وذلك من خلال ربط مسألة الله تعالى بإطار الأمل البشري، وهذا الأمل يتعلّق بمصير الإنسان وإسعاده في هذه الدنيا دون التطرّق بشكل مباشر للعلّة الأعلى الخالقة للإنسان، ولكن في النهاية يمكن إظهار أنّ الأمل بالله يشتمل على إثبات الله الخالق الحكيم الذي هو خيرٌ للإنسان.

إذاً يقترح المؤلف لحلّ جدلية علاقة المحدود بالمطلق ومسألة العزلة والأصالة لدى الإنسان وحلّ هذا التعارض المزعوم الذي روّج له الإلحاد المعاصر، من خلال رفع التناقض بين مقتضيات الذاتية الإنسانية والأمل بالله، وإحداث مقاربة توافقية بين الأمل بالله وادعاءات الذاتية بأسلوب ينتهي إلى إثبات حقيقي لوجود الله تعالى، ليقول المؤلف في نهاية بحثه:

«إنّ إعادة ظهور هذا الأمل هو مقدمة ضرورية للمشروع الفلسفي الكبير المتمثّل بالتحليل الحاسم لإثبات وجود الله في يومنا الحالي».

ونحن إذ نقدّم ترجمة هذا الكتاب إلى المكتبة العربية، ننوّه بأنّ المستفيد هم

(8)

النخبة المثقفة المعنيّة بهكذا أبحاث والمطّلعة على مسار الفكر الفلسفي ونقده في الغرب، إذ هو كتاب معقّد في محتواه وإن حاول المؤلّف تبسيطه من خلال استعمال أدبيات سهلة، ولكن مع هذا سيبقى المفهوم عصيّاً إلاّ على ذوي الخبرة والاختصاص.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الميامين.

26 ذو القعدة 1438

النجف الأشرف

(9)

مُقدّمة الكتاب:

 

 الإلحاد والاغتراب

باترك ماسترسُن ( Patrick Masterson) [1]

إثباتُ وجود الله هو من دون شكٍ أحدُ أكثر الانجازات البشرية التي تستحق الملاحظة. يُعبِّرُ هذا الانجازُ في مظاهره التاريخية المختلفة بعمقٍ عن تقييم الانسان لوضعه ـ لكماله وضعفه، لتصوّراته وإخفاقاته، ولآماله ومخاوفه ـ ويرمزُ بطريقةٍ لافتةٍ للغاية إلى سعيه لفهم طموحاته ومحدوديته.

ولكن بالكاد يكونُ الإنجاز المتمثّل برفض الانسان لهذا الإثبات لوجود الله أقل جدارةً بالملاحظة. الإلحاد بأشكاله المختلفة -بما لا يقل عن الايمان بالله ـ هو تعبيرٌ مهمٌ للغاية عن تصوّر الانسان عن نفسه لنفسه. بالفعل، بالقدر الذي يقدّم الإلحاد نفسه على أنّه ظاهرة متأخرة عن الايمان بالله، فإنّه يزعمُ نقلَ صورةٍ أكثر انعكاساً وأصالةً للانسان ممّا هو موصوفٌ في أيٍ من نماذج الايمان بالله.

يمكنُ بحث ظاهرة الإلحاد هذه من عدة وجهاتٍ للنظر وتتّصفُ كلُّ واحدةٍ منها بأسسها وأهدافها الخاصة. وعليه، يستطيع عالِمُ الدين، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، وعالم الاقتصاد السياسي تقديمَ تفاسير مختلفة –ولكن ليس بالضرورة متعارضة-

(10)

لمغزى الإلحاد. لا يهدفُ هذا البحث إلى عرض دراسةٍ لمقاربات مُحدَّدة كهذه، بل يهدفُ إلى تقديم بيانٍ أبسط عن المغزى العام للإلحاد المعاصر وذلك من خلال توضيح تطوره الفلسفي. وعليه، يسعى البحثُ إلى تعقّب المعالم الفلسفية في تطور الإلحاد المعاصر من أسسه في الفكر الحديث إلى الوقت الحاضر.

إن الأهمية الأساسية المقَر بها عالمياً للكوجيتو الديكارتي[1] في تكوين الفهم المعاصر للذات هي فكرةٌ أساسية هادية لهذا البحث. إنّها تسعى لإظهار كيف أنّ نقطة الكوجيتو ـ مُعزّزةً بتأثير العلم المعاصر ـ قد ألهمت السير الفلسفي في المسار الذي تمّ فيه استبدال الاعتقاد التقليدي بأن الانسان المنعزل هو ذاك الذي لا يؤمن بالله بفكرة أنّ الايمان بالله هو المصدر العميق للعزلة الانسانية. يتضحُ هذا الموضوع في تطويره لفلسفات كانط (Kant)، هيغل (Hegel)، فويرباخ (Feuerbach)، وماركس(Marx) وفي مظاهره المعاصرة المتمثّلة بالمذهبين الوضعيين: الطبيعي والوجودي.

الذي يبرز من خلال مسار هذا البحث هو تفصيل المذهب الانساني عن الحرية الذي يتساءل عن إمكانية وجود الكيان المحدود والمطلق معاً ـ أو بشكلٍ أكثر واقعية: وجود الانسان والله معاً. كيف يمكنُ أن تتوافق الادعاءات المتزايدة في وقعها عن كون الذاتية الانسانية مصدراً غير قابلٍ للاختزال لعالمٍ من المعنى والقيمة، مع الادعاءات الكامنة في المفهوم الإيماني الذي يُفيدُ بأنّ الله هو الخالق المطلق لكل الموجودات المحدودة؟ تنكشفُ قصة تطور الإلحاد المعاصر كرفضٍ تدريجي ليس فقط للمطلق الإلهي بل حتى لكلِّ بديلٍ علماني كمفهوم «الروح المطلقة» لهيغل، «المطلق الاجتماعي» لفويرباخ وماركس، و«الاطلاق العلمي» للفلسفة الوضعية.

لا مفرَّ من أن يكون كتابٌ على هذا النطاق انتقائياً في معالجته للمواضيع

(11)

والمصادر. وعليه، حتى ضمن آفاقه المحدودة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، فإنّه لا يتطرّق بشكلٍ صريحٍ إلى العديد من الفلاسفة الذين قاموا بتفصيل نظريات مهمة حول مسألة الله. إنّه يسعى ببساطةٍ -من خلال إيضاحات فلسفية رئيسية محددة ـ للتوسط من أجل تحقيق البصيرة في المواضيع الأساسية التي قد أنعشت تطوّر الإلحاد المعاصر. في عرضه لهذا التطور، يسعى الكتاب لبساطة التعبير من دون الوقوع في سطحية العرض، ومن خلال سرد هذا التطور يتمُّ تقديم اقتراحاتٍ إيجابيةٍ محدَّدة حول مسألة الله، وذلك في الفصل الأخير.

نشأ هذا الكتاب من سلسلةٍ من المحاضرات لتلاميذ جامعيين مختصين بالفلسفة لم يتخرّجوا بعد. من أجل تسهيل الاستكشاف الاضافي لهكذا قرّاء حول المواضيع المناقشة، تمّت الإشارة عند الإمكان إلى النسخ الانكليزية للمؤلّفات المذكورة. أودُّ توجيه الشكر لزملائي في كلية الفلسفة في المعهد الجامعي في دبلين الذين كانت أفكارهم واهتمامهم ذا قيمةٍ لي في تأليفي لهذا الكتاب. أودُّ أيضاً الإقرار بامتناني لمحرّري دورية «دراسات فلسفية» و«دراسات»، حيث ظهرت لأول مرةٍ بعض مواد الفصول 3-5. أخيراً، أودُّ أن أشكر زوجتي فرنسيس لتأمينها البيئة المنزلية والتشجيع العملي اللَّذَين ساهما كثيراً في جعل كامل المشروع ممكناً.

(12)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

العلم المعاصر والكوجيتو الديكارتي

(13)

 

1- العلم المعاصر والكوجيتو الديكارتي

انتقل التركيز على الإلحاد المعاصر إلى حدٍ كبيرٍ من نقد براهين وجود الله إلى رفض الخصائص المنسوبة إليه تقليدياً. أساساً، يمكن القول بأنّ الإلحاد في عصرنا بتعبيره النظري الفلسفي يتألف بصورةٍ رئيسيةٍ من التأكيد على استحالة تواجد الموجود المحدود والمطلق معاً. يتمّ التأكيد أنّ إثبات كون الله موجوداً مطلقاً يستلزمُ بالضرورة تخفيض قيمة الموجود المحدود، وبالأخص تجريد الانسان من الانسانية. لقد تمّ استبدال النموذج السلبي البحت من الإلحاد بصيغةٍ أكثر تطوراً حيث إنّ على الانسان المعاصر إذا أراد أن يكون إنساناً حقيقياً أن يتخلى- ربما متردداً- عن الايمان بالله.

بناءً على ذلك، يتمُّ طرح «مسألة الله» اليوم كسمةٍ للإشكالية الأبسط وهي العزلة والأصالة الانسانية. يتمحور النقاش حول الأنواع التالية من الأسئلة: «هل أنّ وجود الله يُشكّل الوجود التاريخي للإنسان أم أنه يدمّره؟ ولكي يوجد الانسان و«يبرز» كرجل الحرية والفعل الانساني، هل المطلوب أن يُدرك ويعترف بوجود الله ـ كما يقول العهدان القديم والجديد ـ أو أن يتجاهل ويرفض وجود الله ـ كما تقول الثورة والمسرح؟ ولكي يتواجد الناس جاهزين للعمل في التاريخ كقوةٍ تروم تحقيق المصير التاريخي، هل المطلوب أن يُنكروا الله أو أن يعترفوا أنهم شعبه؟ ما الذي يعزلُ الإنسان عن ذاته؟ هل هو الاعتراف بوجود الله في التاريخ وفي وعي الانسان، أو طمس هذا الوجود من التاريخ وقمعه في الوعي؟»[1]

(14)

إن موضوع العزلة هو أساسيٌ للتفكر في تطور الإلحاد المعاصر، إذ يقوم الناس اليوم وعلى نطاقٍ متزايد بإعلان إلحادهم، ليس بسبب الاعتراضات على البراهين المدَّعاة على وجود الله بقدر اعتبارهم أنّ إثبات وجود الله يؤدي إلى تنافر الناس في ذواتهم ومع الآخرين. إنّ الرواج المنتشر لهذا الاعتقاد هو صورة كاشفة عن «رؤية عالمية» جديدة تقوم بإبراز نفسها منذ القرون الأخيرة وتتضمن اليوم إطاراً أولياً أو جواً ثقافياً حيث نقوم بإطلاق مهمتنا للحصول على المعنى والقيمة والأصالة في تجربتنا وحياتنا.

في العصور التي سبقت تطور العلم الوضعي، وبروز الفلسفة المعاصرة، وولادة الفكر الثوري حول الديمقراطية، ونمو الحياة المدنية الصناعية، كانت النظرة المخالفة هي السائدة. في حقبةٍ زراعية بالأساس، كان الانسان يعيش حياته وكأنّه في كونٍ منظمٍ بموضوعية، ذي معنى وقيمة يُقدِّمان وجودهما بطريقةٍ ما بشكل سابقٍ ومستقلٍ عن الانسان. كان الانسان يحيا في عالمٍ يمتلكُ نظامه المقدَّر الخاص وكان عليه أن يتعلّم كيف يتكيّف معه أو أن يهلك. اتخذت قوى الطبيعة وقوانينها التي كانت أعرق من الانسان نفسه طابعاً شبه مقدَّس وظهرت كنموذج لتنظيم كلٍّ من حياته الفردية والاجتماعية. كان عالمُ الانسان على نحو حيث كان كلُّ شيء مُنجزاً منذ الأبدية ـ عالم منظمٌ بطريقة إلهية وخالٍ بالأساس من الحداثة. بدا النظام التسلسلي والإيقاع المستمر للكون ـ اللَّذَين كانا يُحدِّدان بشكلٍ وثيقٍ النشاطات الزراعية للانسان- وكأنهما مفروضين تماماً بدلاً من كون الانسان هو من يشكلهما وبالتالي سهّل هذا الأمر إثبات المصدر الإلهي. أعلن العالم بتجليه المباشر للكيان المنظم تسلسلياً الحقيقةَ والعزةَ الكامنَين في الحكمة والقوة الإلهية الشاملة.

في هذا السياق الثقافي الذي يتخلّله حسٌ حيويٌ بما هو مقدّس، كان من المقبول بسهولة أنّ الانسان المنعزل والمتباعد هو ذاك الذي لا يؤمن بالله أو لا يعيش وفق

(15)

مستلزمات الايمان بالله. فقط من خلال الإخلاص الحي للتدبير الإلهي يمكنُ للانسان تحقيق الوئام والتوافق والإنجاز في داخله. «يا رب، أنت قد خلقتنا لنفسك وقلوبنا لا تهدأ حتى ترتاح بك» (القدّيس أوغستين)(Saint Augustine). لم يكن يُعتبر الانسان الذي يُنكر الله ناضجاً أو عليماً أو مندمجاً بشكلٍ جيد بل على العكس، كان يُعتبر لا منطقياً، متحيراً أخلاقياً، وأحمقاً. «الأحمق يقول في قلبه: (لا وجود لله!)» (المزامير، 14:1). كان الكافرون الذين استكشفوا جمال الكون ونظامه، ولكنهم فشلوا -بالرغم من البرهان الواضح والعارم والمتاح لهم بسهولة- في إدراك مصدره الإلهي، حمقى «يعيشون في ظلام الموت وظلّه» (لوقا، 1:79). في تخميناتهم العقيمة والوثنية حول الكون «استسخفوا المنطق وأظلمت عقولهم الفارغة» (الروم، 1:21).

على مستوى الجماعة وبما لا يقلُّ عن مستوى الوجود الفردي، كان الاعتراف بالله المصدر الأساسي للوحدة والوئام والسلام. كما قامت ثقة القبائل الإسرائيلية بالوجود الوفي ل»يهوه» بجمعهم كشعبٍ موحَّد، كذلك كان الايمان بالإله المسيحي هو المعيار في مجتمع القرون الوسطى. لم يكن ذلك عصر المسيحية فحسب بل عصر العالم المسيحي، وكانت ايدولوجيته إلهية. قام تركيبٌ لاهوتي بتأمين الإطار الموحِّد للمجالات المتعددة في العلم والثقافة وتنظيم المجتمع.

مما لا شك فيه أنّ العديد من علماء الدين والفلاسفة في القرون الوسطى قد توصّلوا إلى فروقات هامة بين العقل والايمان، والنعمة والطبيعة، والإلهي والعلماني. كذلك، قاموا بتطوير تأملات عميقة متعلقة بالوضوح الذاتي والاستقلال النسبي للنظام المخلوق، إلا أنّ البيئة الثقافية التي تمّ فيها تطوير هذه التأملات كانت إيمانية قطعاً، وكان الدين المسيحي هو ما يُفعّلها قبل التفكير التأملي، ويُغذّيها فكرياً بشكلٍ واسع الانتشار. علاوةً على ذلك، كان هدفهم هو الدمج الفكري لكل الحقيقة في نظامٍ مسيحيٍ موحَّد. كما يقول أحد المعلِّقين: «من المهم الإدراك بأنّ تطوُّر الثقافة المسيحية

(16)

قد جمع اهتمامات السماء والأرض والطبيعة والتاريخ في نظامٍ موحَّدٍ مُعتمد. بالرغم من التنوُّع المعروف على نطاق واسع في القرون الوسطى، إلا أن قوة دفعه الوحيدة كانت اتحاد جميع الأشياء مع امتلاك كل شيء لمكانه المناسب. كان النظام الاقطاعي ونظام الكنيسة والامبراطورية، ونظام السماوات ـ بالرغم من كل الاختلافات بينها ـ تُعتبرُ مماثلة وفي الختام تعكسُ نظاماً واحداً، أي المملكة نفسها»[1].

على نحو الإجمال، يمكن القول بأنّه حتى بداية تطور مفهومٍ جديدٍ عن الانسان والطبيعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر -وهو مفهوم ما زال في طور الإعداد اليوم ـ عثر الانسان على هويته ومعناه وهدفه كفردٍ وكعنصرٍ في المجتمع ضمن النظرة الكونية المقدسة وهي نظرةٌ كونية قامت بوضع مكان الانسان وهدفه ضمن خطةٍ إلهيةٍ شاملة. مهما كانت الأحوال، فإن أيَّ رأيٍ بأن الاعتقاد بالله يُربكُ الانسان داخل ذاته وفي مقابل أخيه الانسان كان ليبدو أكثر تناقضاً ضمن هذه النظرة الكونية.

أطلق تطوّر العلم الوضعي إلى حدٍ كبير بروزَ الاتجاه الذي يربطُ الايمان بالله مع مسألة العزلة الإنسانية. بإلهامٍ من عباقرة مثل كـوبرنيكُس(1473-1543)(Copernicus)، غاليليــو(Galileo)(1564، 1642)، وبالأخص نيوتن(Newton)(1642-1727)، كشف نمو العلم الوضعي عن أسلوبٍ جذريٍ جديد في التفكر بالكون الماديّ وفهمه، وأزاح الفكرة التقليدية الواضحة المعالم عن كونٍ محدود مسلسل ممّا دعم التقبل السريع لحقائق غير أرضية وروحية وإلهية. بدلاً منها، تمّ اقتراح فكرة الكون اللانهائي والموحّد والميكانيكي حيث لا تكونُ السماوات المرصّعة بالنجوم فوقنا أكثر غموضاً أو سموّاً في جوهرها من رمال الشاطيء تحت القدمين. وعليه، يُلاحظ المؤرخ باترفيلد (Butterfield)أنّ: «الكون المبني على ميكانيكيات

(17)

أرسطو(Aristotle)، كان بابه نصف مفتوح للأرواح، وهو كونٌ يتحتّم على الأيادي الخفية فيه أن تكون في حركة مستمرة وعلى العقول السامية دحرجة الكواكب في الأرجاء. كبديل، كان لا بدّ من وهب الأجسام أرواحاً وطموحات، مع ’القابلية‘ لأنواع محددة من الحركة، فبدا أنّ المادة بذاتها تمتلك خصائص غامضة. إنّ قانون القصور الذاتي الحديث الذي شكّل النظرية الجديدة حول الحركة هو العامل الكبير الذي ساعد في القرن السابع عشر على طرد الأرواح من العالم وفتحَ الطريق أمام كونٍ يسير كآلية الساعة»[1].

مع وفود العلم الحديث، فرضت الرياضيات- وليس الميتافيزيقيا- نفسها كالأسلوب المناسب لتشكيل فهمٍ علمي وتجريبي للعالم. لم يستمدّ العلم الجديد في تطوره الناضج قوانينه من اعتباراتٍ ميتافيزيقة ولم يُقدّم نفسه كتابعٍ جوهرياً أو كطالبٍ للاندماج والاكتمال ضمن منظومة الميتافيزيقيا واللاهوت الطبيعي. في منطقه الداخلي، طمحَ للوصول إلى مرتبة الحقل الحر المبتني بشكلٍ مستقلٍ على مبادئه الأساسية الفارقة، ودَعَمَ تصوّر فهم الكون ببساطة من ذاته بدلاً من فهمه على ضوء مبدأٍ خارجي روحيٍ أو إلهي واستهدف بشكلٍ خاص تحقيق فهمٍ علميٍ للعالم بالتحديد من داخل العالم. كانت أي إشارة إلى الله أو إلى الملائكة كأسباب لما يجري في العالم خارجة عن مناط الإسناد المناسب للنظرة العلمية الجديدة. كانت أي إشارة كهذه لتتضمن فهماً خاطئاً عن مستوى الوضوح الذي يسعى إليه والأساليب التي تطلّع من خلالها لإحراز هذا الوضوح- مع أنه من المعترف أنه قد مضى بعض الوقت قبل أن يُثمّن العلماء أنفسهم هذه الحقيقة كما ينبغي. كانت الفرضية الوحيدة المناسبة للاتجاه العلمي الجديد هي تلك التي يمكن من حيث المبدأ إثباتها أو نقضها من خلال الملاحظة التجريبية أو الاختبار. كان واضحاً تماماً أن الرجوع إلى

(18)

الإله الذي «لم يره أي إنسان في أي وقت» هو نموذج لما لا يُمكن أن يرد كفرضية حقيقية في هذا السياق.

تضمّن التوتر التاريخي المفهوم بين الأفكار التقليدية والعلمية الجديدة عن العالم بذورَ الجدال اللاهوتي والفلسفي المرير الذي ـ كما سوف نرى ـ قد تفتّح بأشكال متعددة من الفلسفة الوضعية حيث يكون إثبات وجود الله غير متوافقٍ مع النظرة العلمية المتكاملة. تمّ تمهيد الواجهة للنظرة التي تُفيد أنّ إثبات الله يُشكّل تباعداً وإعزالاً عن الديناميكية الذاتية لأكثر إنجازات الإنسان حسماً، ألا وهي العقلية العلمية الحقيقية.

ينبغي طبعاً الأخذ بعين الاعتبار أنّ الجزم الصريح بهذه النظرة قد تحقق فقط بطريقة تدريجية. بالفعل، بشكل عام ،كان الروّاد المميزون في العلم المعاصر-كأفرادٍ من أمثال بُويل (Boyle)ونيوتن(Newton) - مقتنعين بأن تأملاتهم تُثبت وجود الله بما لا مجال فيه للشك. كانوا يعتقدون أنّ وجود الإله الحكيم ضروري قطعاً لضمان ضبط الساعة الكونية العظيمة كما ينبغي والمحافظة على عملها بشكلٍ جيد. مضى بعض الوقت قبل ظهور الطابع الإلحادي للمفهوم الجديد للعالم والمنهج العلمي الذي يُسنده. بالتدريج، أصبحت أيُّ إشارة إلى الله في التفسير العلمي للعالم بعيدةً وعرضيةً بشكلٍ متزايد. مع الوقت، أصبح الله خارجاً عن الموضوع حتى حين الحديث عن مصدر النظام الشمسي وصيانته، وأصبح ضائعاً في تخمينات نظرية مبهمة حول أصل السديم السابق للوجود الشمسي. أضحى التفسير الطبيعي الحصري لكل الظواهر المادية هو محور الاهتمام المسيطر. يصفُ أحد الكتّاب هذا التطور قائلاً: «إله نيوتن القاهر والحيوي الذي فعلاً ’أدار‘ الكون وفقاً لإرادته وقراره الحر أصبح بتعاقبٍ سريع قوةً مُحافِظة، عقلاً ما فوق العالم، و’إلهاً عاطلاً‘. قال لابلاس(Laplace) ـ الذي أوصل علم الكون الحديث إلى كماله النهائي بعد نيوتن (Newton) بمئة عام ـ

 

(19)

لنابليون (Napoleon) حين سأله الأخير عن دور الله في كتابه ’نظام العالم‘: ’سيدي، لم أكن بحاجة إلى تلك الفرضية‘. إلا أن العالم الموصوف في كتاب لابلاس(Laplace) 
ـ وليس الكتاب ـ هو الذي لم يعد بحاجة إلى فرضية الله.»[1]

أصبح الأشخاص المتأثرون بالصدى الثقافي للنظرة الكونية العلمية الجديدة لا يقبلون وجود الله بشكلٍ روتيني، وأما آخرون فقد رفضوا وجوده معتبرين ذلك نوعاً من الخرافات السابقة للعلم. من المعترف به من خلال إلقاء نظرة دقيقة أنّه من غير الممكن إظهار كون أيٍ من الأوتاد العظام للمفهوم الكوني الجديد ـ كنظرية مركزية الشمس أو قانون القصور الذاتي أو قانون الجاذبية ـ غير متوافقة من حيث المبدأ مع إثبات وجود الله. بالرغم من ذلك، فإنّ الأفكار التي قامت هذه النظريات باستبدالها كانت مرتبطة بشكل وثيق بإثبات وجود الله وبمجموعة من المواضيع الإلهية المتنوعة، فبدا لعديد من الناس أن سقوط هذه الأفكار يميلُ إلى تقويض إثبات وجود الله بدلاً من تسهيل إحداث فهمٍ أكثر أصالةً ونقاءً عن طبيعته. على نحو أدق، فإن المنهجية الإلحادية للنظرة العلمية المعاصرة قد قامت ببساطةٍ بإقصاء السؤال عن وجود الله ولكنها قد أحدثت أيضاً إطاراً ذهنياً يميل نحو تعميم لامبالاتها المنهجية تجاه ما هو إلهي وتحويله إلى نزعةٍ إنسانيةٍ علميةٍ مُطلقة.

   بناءً على ذلك، ينبغي عدُّ تطوّر العلم الوضعي الذي بدّل أفقنا الفكري بشكل دراماتيكي على أنّه عاملٌ ذو أهمية مركزية في تشكيل الإلحاد المعاصر. لقد مهّد الطريق لتياراتٍ متواصلة من الفلسفة التجريبية والمادية والوضعية. فضلاً عن ذلك، فقد قدّم مُخططاً جديداً للكون المادي حيث يستطيع فيه الانسان لدى بحثه عن شؤونه أن يرفع بشكل ملموس الاحتمال الرامي إلى أنه في العالم ذي المحورية الإلهية حيث كان المرء يعيش سابقاً وكأنه في موطنه، كان في الواقع ضائعاً ومنعزلاً عن أسسه الحقيقية.

(20)

تطور وثوقٌ جديد واهتمامٌ نقدي بالموارد الذاتية ونطاق العقل البشري، وذلك بالترافق مع نمو العلم الوضعي وبشكل جزئي بإلهامٍ من كَشْفه عن البراعة الإبداعية الكامنة في الاستفهام البشري. بدا وكأن العالم الذي يُصوّره العلم ـ في مقابل العالم المعهود للتجربة المألوفة ـ يستمد بنيته الواضحة من العبقرية الرياضية للانسان. بالتالي، أصبح الاهتمام مُركَّزاً على السؤال عن مساهمة العالِم في موضوع علمه، ويتضح هذا التطور جيداً في فكر ديكارت(Descartes) (1596-1650) والذي غالباً ما يُشاد بأنه مؤسس الفلسفة المعاصرة. نشاهد في كتاباته بروز اهتمام خاص بالذاتية، وهو اهتمام قد نشّط التاريخ اللاحق للفلسفة وهو سمةٌ أساسيةٌ في رواية الإلحاد المعاصر. كما يُلاحظ البروفيسور فابرو(Fabro) في بحثه الضخم حول الإلحاد المعاصر: «في القِدم وبالفعل وصولاً إلى نقطة بروز الفكر المعاصر، مثّل الإلحاد ظاهرةً متفرقة تقع ضمن حدود النخبة الثقافية، ولكن بمجرد بروز الكوجيتو على الساحة فقد اتخذ الإلحاد بُنية محيطة وبشكلٍ متزامن اجتاح الحياة العامة والسلوك الفردي»[1].

من النظرة الأولى، قد يبدو للمرء أنه من المستهجن وصفُ فكر ديكارت كمصدرٍ مهمٍ للإلحاد لأنه كان مسيحياً مُقتنعاً وكان يعتبرُ أنّ كامل فلسفته هي دفاعٌ بالغ القوة عن الإيمان بالله. بالفعل، فإن فكرة الله التي يُشتق منها إثبات وجوده هي سمةٌ لا غنى عنها إطلاقاً في منظومته الفلسفية. بالرغم من ذلك، ينبغي أن نفرّق بين نوايا أي مفكّر وحتى إثباتاته الصريحة من ناحية، وبين المنطق الضمني لمنهجه ومبادئه من ناحيةٍ أخرى. فيما يتعلق بديكارت، يظهر بوفرةٍ أنّ الثاني هو مصدر خصيب للإلحاد وذلك من خلال المسار اللاحق للتأمل الفلسفي الذي استمد الإلهام من عبقريته.

(21)

بكل بساطة، تشكّلت ثورة ديكارت(Descartes) الفلسفية عبر التساؤل (ولو موقّتاً) عن حقيقة العالم الخارجي، وتوجيه بحث الانسان عن إطارٍ أساسيٍ للمعنى واليقين والقيمة إلى الداخل حيث تتواجد موارد ذاتيته الخاصة بدلاً من الخارج نحو العالم المخلوق من قبل الله والمعيّن مباشرةً بالتجربة المعقولة. على نحوٍ أدق، فقد افتتح ديكارت (Descartes) عهد مبدأ مذهب الحلول الذي سيطر على تطور الفلسفة المعاصرة. يرفض هذا المبدأ النقطة المعرفية التقليدية التي يتمتع الكائن فيها بالسيطرة مقابل الفكر وذلك بطريقةٍ حيث يكون الكشف الذاتي أو ظهور الكائن نفسه هو ما يضع أرضية الفكر على أنّه وعي الكينونة. بدلاً من ذلك، وفقاً لبرنامج الشك الراديكالي، فإن مبدأ الحلول يُعقّد اتجاه الوعي ويعيّن اتخاذ نقطة انطلاقه الوحيدة والمطلقة من الوجود المنير للفاعل المفكّر نسبةً لنفسه- وهو فاعلٌ يُعرّف بمطابقته مع فكره الخاص. وعليه، فإن الوسيلة الوحيدة إلى الكينونة هي من خلال ابتداع الكوجيتو لذاته. يسودُ الفكرُ في مقابل الكينونة التي ترتكزُ من الآن فصاعداً على الاكتفاء الذاتي والوجود المنير للذات المفكّرة نسبةً لنفسها. يُصبحُ هذا الوجود للذات المفكّرة نسبةً لنفسها المبدأ الأول والقاعدة الأساسية التي ينبغي بطريقةٍ ما استخراج كلّ الصلاحية واليقين والقيمة منها. يتم إثبات أي كائنٍ يُراد إثباته انطلاقاً من الداخل وكنوعٍ من التحديد لهذه الدائرة الفكرية المغلقة والمكتفية ذاتياً.

بأساليب مختلفة، كانت النظرة الفلسفية الجديدة التي أسسها ديكارت (Descartes) ـ والتي تطمح لإنشاء كامل علم المعرفة وعلم الوجود من البداهة الفكرية للذات بوصفها فكراً ـ الإلهام المركزي للتأملات الفلسفية اللاحقة[1]. ما يحمل أهمية خاصة بالنسبة لبحثنا هو أنّ هذه النظرة قد قامت أيضاً بتقديم إطارٍ فلسفيٍ أمكن من خلاله صياغة الإشكالية المعاصرة عن الإلحاد والعزلة. لقد اقترحتْ

(22)

رأياً تأملياً حيث يمكن الطعن في التأكيد الديني التقليدي الذي يُفيد أنّ الذنب والغربة ينشآن حين نحرف اهتمامنا الرئيسي من الله ونوجّهه نحو الذات. من هنا، فإنّ أيَّ أمرٍ يبدو أنه يُقلِّل من شأن مفهوم ديكارت(Descartes) الجديد والسامي ظاهرياً عن الانسان بوصفه كوجيتو مستقل يُمكن تأويله كمصدرٍ للعزلة التي ينبغي تجاوزها، ويمكن اعتبار أنه يميل نحو فهم الانسان على ضوء ما هو غير الإنسان، وأنه ينسى أن أي إثبات لغير الانسان يعتمد بشكلٍ سياقي وينبعثُ من الانسان باعتباره بيئة محيطة للفكر. إن إثبات الإله المتعالي كالمبدأ الأول الأهم من الكوجيتو يثيرُ مسألة العزلة بطريقة فعليةٍ وراديكالية. يُمكن تلمّس الحدود الرئيسية للإلحاد المعاصر- والتي تُعتبر تساؤلاً عن إمكانية وجود نظامين مختلفين للكائن المحدود والمطلق في آنٍ واحد- من خلال التوتّر بين إثبات سيادة الكوجيتو من ناحية وسيادة الإله المتعالي من ناحيةٍ أخرى. مع ديكارت(Descartes)، لا نعثر على الإثبات الأول فحسب، بل على الثاني أيضاً كما سوف نرى الآن. وعليه، من خلال الغموض المتأصل في فكره والذي بمقتضاه يقوم شخصياً بتجنّب مسألة الإلحاد، يقوم ديكارت (Descartes) بتوضيح العناصر الأساسية لهذه المسألة للأجيال المستقبلية.

لقد أشرنا كيف قام ديكارت بنسبِ استقلاليةٍ وسيادةٍ لم يسبق لهما مثيلٌ للانسان الذي يُعتبر كوجيتو يتنصرُ على الشك والوهم، والذي من خلال موارده الخاصة بوصفه كائنٌ مفكرٌ يقوم بتأسيس نظامٍ شاملٍ من الحقيقة المثبتة بمتانة. بالرغم من ذلك، فإن ديكارت يحدّ من هذه الاستقلالية فوراً وبشكلٍ راديكالي مما يعرّض تماسك منظومته إلى الخطر لأنّه ينتقلُ مباشرة إلى إثبات أن الله هو الأساس الذي لا غنى عنه للحقيقة المؤكَّدة. «ينبغي حين تسنح الفرصة أن أتساءل إن كان هناك وجود للإله؛ وحين أجد أن الإله موجود ينبغي أن أسأل أيضاً إن كان بالإمكان أن يكون مُخادعاً لأنّه

(23)

من دون معرفة هاتين الحقيقتين لا أرى أنه بإمكاني أن أكون واثقاً من أيّ شيء أبداً.»[1]

من خلال فكرته بأن الله هو موجود مطلق وأبدي ومستقل وكليّ العلم والقدرة ويملك منتهى الكمال، ينتقلُ ديكارت(Descartes) مباشرة إلى إثبات وجود الله. من خلال هذا الإثبات، تتبدّل وجهة النظر ويصبح الله هو المبدأ الأول للفكر الفلسفي. يتمُّ منح الفكرة الموضوعية عن الله إيجابيةً وسيادةً حتى في مقابل نظرة الكوجيتو المحدود إلى نفسه. «ينبغي أن لا أتخيل أنني لا أدرك المطلق من خلال فكرة حقيقية بل من خلال سلب المحدود فحسب، تماماً كما أدرك السكون والظلام من خلال سلب الحركة والضوء؛ لأنّه على العكس، إنني أرى بوضوحٍ وجود حقيقةٍ أكبر في المادة المطلقة مما هو موجود في المحدود. بناء على ذلك، يكون مفهوم المطلق سابقاً لفهوم المحدود في داخلي بطريقةٍ ما- أي في العقل: مفهوم الله سابقاً لمفهوم نفسي»[2].

سرعان ما يبدو أنّ الكوجيتو المحدود ليس هو المصدر المطلق أو الإبداعي للحقائق والقيم التي يقوم بإثباتها بل يُذعن فحسب لنظامٍ من الحقيقة والقيمة التي يرى أنّها تنبثقُ من مبدأ أكثر جوهريةً وهو الإرادة الإلهية. إنّ الاستقلالية الحاكمة للانسان تُحقق الكشف عن نظامٍ من الحقيقة والقيمة من خلال موارد الانسان الخاصة باعتباره كائناً مفكراً، ويصفها ديكارت أحياناً بأنها مطلقة. تُعتبر هذه الاستقلالية في التحليل الأخير مجرد الحرية في تجنب الخطأ والخداع من ناحية -أي رفض عدم الكينونة ـ ومن ناحيةٍ أخرى الإذعان للمخطط المقدّر إلهياً للأمور. تنهارُ الإمكانية الدراماتيكية للاستقلالية الراديكالية التي قام ديكارت بالإشارة إليها في ميله الأصلي نحو الذاتية لتتحول إلى انقياد تامٍ للضوء الذي يُعمي النظر الصادر من نظام الحقيقة والقيمة اللَّتين تستمدان واقعهما التام من حرية الله الإبداعية. «كلَّما أقوم

(24)

بالحد من إرادتي ضمن حدود علمي لكي لا يُصدر حكماً إلا على الأمور المبيَّنة بوضوح وجلاء عبر الفهم، لا يُمكنني أن أنخدع أبداً لأنّ كل مفهوم واضح وجليٍ هو شيءٌ من دون شك، وعليه لا يمكنُ أن يستمد مصدره من العدم بل ينبغي على وجه الضرورة أن يكون الله هو مُحدِثُه».

في تقييمٍ نافذٍ للفكر الديكارتي، يعتبرُ الفيلسوف الوجودي ج.ب.سارتر(Jean-Paul Sartre) أن ديكارت (Descartes) قد فشل في إكمال استكشافه للذاتية الإنسانية حين أدرك أنه ينبغي على الحقيقة أن ترتكز في النهاية على الحرية المطلقة والمبدعة، فقام بنسب هذه الحقيقة وحريتها الأساسية المثمرة إلى الله وليس إلى الإنسان[1]. يدّعي سارتر(Jean-Paul Sartre) أنّه من خلال ذلك، فإن ديكارت(Descartes) مُذنبٌ بارتكاب التسامي والتبديل وأنه قد أحدث انعزالاً واضحاً للإنسان عن نفسه. بقي المبدأ الأساسي في النزعة الإنسانية -أي أنّ الانسان هو الكائن الذي جعلَ العالم يتحقق من خلال قدومه ـ بحاجة إلى التفسير بشكلٍ حاسم. فتحت فلسفة ديكارت الثورية الطريق أمام هذه النظرة الجديدة وتسبّبت بتقدمنا كثيراً على الدرب ولكنّها في النهاية ـ على حساب الغموض الكبير وحتى التعارض ـ بقيت وفيةً للنظرة الإلهية.

منذ جهود ديكارت(Descartes) الريادية، شهد مسار الثقافة والفلسفة نصراً تدريجياً للذاتية التي طرحت باصطلاحاتٍ متزايدة في الشدّة مسألةَ العلاقة بين العزلة والاعتقاد الديني. اتّباعاً لفكرة سارتر(Jean-Paul Sartre) في مسار تأملاته على فلسفة ديكارت(Descartes)، يُمكن القول بأنّ النظرة الكونية الجديدة التي وضّحت نفسها بالتدريج خلال القرون الأخيرة هي بالأساس بروزٌ لنوع جديد من النزعة الإنسانية نحو الحرية، وطريقةٌ حديثة لفهم معنى الانسان والمجتمع والتاريخ. بالنتيجة، أصبح الانسان بشكلٍ متزايد أكثر إدراكاً لكل ما تمثله حريته ولقوته الباطنية في تشكيل العوامل المؤثرة على حياته والسيطرة عليها. من خلال

(25)

استكشاف ذاتيته، ومن خلال بحثه عن أشكال الحياة الاجتماعية التي تحترمُ تطلعات هذه الذاتية وتدعمها، ومن خلال الشهادة التجريبية على مستوى الانجازات العلمية والتكنولوجية إلى ادّعاءات هذه الذاتية على تشكيل مسار التاريخ، عمل الانسان بشكل مستمرٍ لتحقيق فهمٍ ذاتي جديد لوضعه. مع تطوُّر هذا الفهم الذاتي الجديد، لم يعد يُقبل إثبات وجود الله بشكل تلقائي على أنه المبدأ التوحيدي والأساسي على نحو تامٍ لنزاهة الانسان ومعناه وقيمته، بل أصبح هذا المبدأ بتركيزٍ متزايدٍ يميلُ نحو الظهور كأمرٍ غريب، مهدِّدٍ، وسالبٍ للانسانية.

ترسّخت هذه النظرة الجديدة وهذه الأنسنة للحرية في نمطٍ متماسك عبر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. تحوّل التصوير الديني التقليدي الذي يُبرز اقتضاء الثورة للعزلة والاستعباد -كما يظهرُ على سبيل المثال في ثورة الملائكة الساقطين (The revolution of the Fallen Angels) وثورة آدم وبرج بابل( Revolt of Adam and the Babel) وثورة بروميثيوس(Revolt of Promehteus) ومدينة الانسان الأغسطينية((The Augustinian city of man إلى فكرٍ ثوريٍ يعدُ بالاتحاد والتحرّر. اتخذت هذه الايدولوجية الحياةَ على المستوى الاقتصادي على شكلٍ فعليٍ في الثورة الصناعية، وعلى المستويين الاجتماعي والاقتصادي بشكل ملموس في الثورة الأمريكية وبشكلٍ خاص الثورة الفرنسية، وعلى المستوى التأملي بشكل فعلي في الثورة الكوبرنيكية(CopernicanRevolution) لفلسفة كانط(Kant). أمّا الآن، فإنّه ينبغي توجيه اهتمامنا إلى الأهمية النظرية المركزية لفلسفة كانط(Kant) في تطوّر الإلحاد المعاصر.

(26)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

كانط والمطلق المحدود

(27)

 

2- كانط والمطلق المحدود

في فكر إمانويل كانط(Immanuel Kant) (1724-1804)، يمكنُ ملاحظة مرحلة جديدة من التفسير الفلسفي للإنسان لمعناه وقيمته الذاتيتين، وتقييم جديد للعلاقة بين الانسان والله. طوّر كانط(Kant) تركيز ديكارت (Descartes) على الذاتية موجهاً إيّاه نحو إثبات قاطع لاستقلالية الانسان. وعليه، بينما يرى ديكارت(Descartes) أن الانسان يكتشف الحقيقة فقط كأمرٍ محدَّدٍ مسبقاً بطريقةٍ إلهية، يرى كانط(Kant) أن الانسان يُشكّل الحقيقة بفضل موارده الذاتية الخاصة به.

سعى كانط(Kant) لنقض الآراء التي كان يعتبرها غير وافية للمفكرين المنطقيين المتأخرين عن ديكارت(Descartes) كـ«ليبنبز»(Leibniz) و«وولف»(Wolf) وآراء العلماء التجريبيين المتأخرين عن ديكارت(Descartes) كـ«لوك»(Locke) و«هيوم»(Hume). لتحقيق هذا الأمر، قام بتطويرٍ تفصيلي لدفاعٍ فلسفي أصيل عن الحقيقة والقيمة اللَّتين يتم البحث عن أساسهما ضمن الأبعاد المتعالية للروح الإنسانية نفسها بدلاً من عند إلهٍ مُتعال. وضع كانط الأرضية لشمولية العلم وضرورته ولإطلاق حقيقة القيم الأخلاقية ليس في منطق الله وإرادته بل في الأشكال البديهية لفهم الإنسان واستقلالية عقله العملي المحض. طوّر كانط(Kant) تصوّر ميتافيزيقيا المحدود، وهو تصوّرٌ ما زال يُلهمُ التفكر في أغلب الفلسفة المعاصرة.

إحدى الإشكاليات الأساسية التي واجهت كانط(Kant)، والتي مثّلت فلسفته بنحو جزئي حلاً مُقترحاً لها، هي إشكالية تبرئة ادّعاءات الرياضيات والعلوم الطبيعية في مقابل الشك الراديكالي للفيلسوف التجريبي الكبير دافيد هيوم (David Hume)(1711-1776). من خلال إيصال مبادئ التجربة إلى نتيجتها النهائية، احتجّ

(28)

هيوم(Hume) أنّه إذا كان كلُّ ما نعرفه بشكلٍ مباشر هو انطباعات حسية مُنفصلة، فلا طائل من البحث عن أي تبريرٍ نظريٍ للمفهوم العلمي عن العالم. إذا كان بالإمكان اختزال العلم في تأثيراتٍ ذريّةٍ كاللون والصوت والتركيب والشكل، لا يمكن تقديمُ أي قاعدة لإثبات الحقائق الضرورية والشاملة للأجسام المادية، والأكثر يقيناً هو أنه لا يمكن تقديم أي قاعدة لإثباتات الميتافيزيقيا التقليدية للحقائق التي تتجاوز أي تجربة حسيّة ممكنة، كالعالم بأكمله والروح والله.

بالنظر إلى وضعها المفكَّك وغير الحاسم، اعترف كانط بدون تردد بالطابع المبهم لادّعاءات الميتافيزيقيا. بالرغم من ذلك، فقد أصر أنه على ضوء إنجازات العلماء المعاصرين كنيوتن(Newton) الذي لا نظير له، لا يمكن لأي إنسانٍ عاقلٍ أن يُنكر بجديةٍ أننا نمتلك فعلاً المعرفة العلمية بالأجسام المادية. وعليه، طرح في كتابه «نقد العقل المحض» أن يتمّ تحديد الشروط التي ينبغي حيازتها من أجل جعل هذه المعرفة العلمية ممكنة ـ وهي ممكنة قطعاً[1]. على ضوء هذه الأفكار، كان يأمل أن يتوصّل إلى فهمٍ نقديٍ نقيٍ للفاعل العالِم، والذي يُمكّنه من الجزم فيما إذا كان الإنسان قادراً أم لا على تحصيل أي معرفةٍ ميتافيزيقة صحيحة بالحقائق كالله على سبيل المثال.

استناداً إلى كانط (Kant)، فإنّ السؤال عن الشروط التي تجعل العلم الطبيعي ممكناً هو كالسؤال عن الشروط التي تجعل الأحكام المركبة البديهية ممكنة، إذ إنّ هذا النوع من الأحكام هو الذي يُميز العلم الطبيعي. من خلال تركُّبها، تقوم هذه الأحكام حقاً بدعم مفهوم الفاعل أو توسعته، وبالتالي هي أكثر من مجرد إسهابٍ في الكلام. أما من خلال بداهتها، فإنّ هذه الأحكام تُعربُ عن الضرورة والشمولية

(29)

الدقيقة، أي أنها تتجاوز الإمكانية والخصوصية الكامنين في التجربة المحضة. إنّ ما نبحث عنه في العلم الطبيعي هو بالتحديد هذا النوع من المعرفة الموسِّعة التي تتمتع بخواص الضرورة والشمولية.

يُصرّ كانط(Kant) على عدم وجود طريقٍ لإثبات إمكانية هكذا معرفة ـ وهي إمكانية متحققة بطريقةٍ فعّالةٍ في الفيزياء والرياضيات ـ إن استمرّينا في النظرة التقليدية التي تُفيد أنّ المعرفة تتألف أساساً من مطابقة العقل مع معطيات التجربة. لقد أظهر هيوم(Hume) بوضوح أنه لا يمكن من خلال التجربة المحضة استخلاص الضرورة والشمولية الملائمتين للمعرفة العلمية. لا يمكن تعليل الانتقال من «الواقعية» و«البعضية» الموجودتين في التجربة إلى «الضرورة» و«الكلية» الموجودتين في العلم الطبيعي فيما لو أُخذت المعرفة أساساً كتطابقٍ غير فعّالٍ للعقل مع معطيات التجربة. من أجل حلّ هذه المعضلة، اقترح كانط طريقةً ثوريةً جديدةً لتصوير الحالة الإدراكية، وكان لها انعكاسات كبيرة على مسألة معرفتنا بالله.

اقترح كانط(Kant) أنه بدلاً من اعتبار العلم تطابقاً للعقل مع البنية المقدَّمة للأشياء، ينبغي اعتباره تطابقاً للأشياء مع البنية العقلية[1]. وفقاً لهذا المفهوم، يتمّ تحويل المادة الأولية للمعرفة ومُعطى التجربة الحسية إلى واقعٍ واضحٍ من خلال نشاطنا الفكري. يتم إدراك هذا الواقع عبر الأشكال البديهية للمكان والزمان، ويُفهم من خلال تطبيق مقولات الفهم المختلفة البديهية كالسببيّة والاستمرارية والتبادلية وما إلى ذلك. إذا كانت الطبيعة تُقدّم نفسها على أنها قابلة للاستكشاف التجريبي الذي يُثمر معرفةً علميةً، فإنّ هذا يعودُ إلى أن «الطبيعة» التي نستكشفها ليست نظاماً مُطلقاً للأمور كما هي في ذاتها مستقلةً عن معرفتنا بها بل إنّها عالمٌ مُنظَّمٌ من التجربة المنسّقة بدقة من خلال كونها موحَّدة، مُركّبة، و«مفهومة» بالتطابق

(30)

مع السمات العامة لإدراكنا وفهمنا الإنساني. على حد تعبير كانط(Kant): «نحن أنفسنا من يقوم بتعريف النظام والاطّراد في المظاهر التي نسمّيها الطبيعة. لو لم نكن أنفسنا ـ أو طبيعة عقلنا ـ قد وضعناها في ذاك الموضع، لاستحال العثور عليها في المظاهر»[1]. تُستمدُّ كل المعرفة العلمية بالواقع من الإطار الموحَّد لقطبين أساسيين ومتناسقين وتقطنُ فيهما، وهما المعلومات المدرَكة بالتجربة الحسية، ومقولات الفهم التي ينحصرُ دورها المتمثل بمنح العلم بالواقع في جعل معلومات التجربة ذا معنى.

«يتضمن العلم عاملين: الأول هو المفهوم حيث يكون الموضوع بشكلٍ عام هو الفكر (المقولة)، والثاني هو الإدراك الذي يُقدّم من خلاله...حالياً، الإدراك الوحيد الممكن بالنسبة إلينا هو محسوس؛ بالتالي يُمكن للتفكر بموضوعٍ ما بشكلٍ عام ـ من خلال المفهوم النقي للفهم ـ أن يغدو علماً بالنسبة لنا ما دام المفهوم متعلقاً بمواضيع حسية... وعليه، يكونُ استنتاجنا هو التالي: مع إثمار المقولات للعلم بالأشياء، إلا أنه لا يُمكن تطبيقها إلا فيما يتعلق بالأمور التي يمكن أن تكون مواضيع خاضعة للتجربة الممكنة.»[2]

حتى من خلال هذه الإشارة الشديدة الاختصار إلى الموقف المعرفي العام لكانط(Kant)، يُمكن ملاحظة تضمُّنه لبذور نقضه اللاحق لادّعاء الميتافيزيقيا التقليدية بتأمينها للمعرفة العلمية بوجود الله. بأبسط تعبير، فإنّ اعتراضه سيكون بأنّ الله الذي يُدّعى كونُ وجوده ثابتٌ ضرورياً أو علمياً ليس معلومة قابلة للإدراك الحسي، وبناء على ذلك فهو يتجاوز نطاق الإثبات العلمي لأنّ المقولات التي نتوصل من خلالها فعلاً إلى المعرفة العلمية ـ كالسببية ـ تكون وظيفتها بالتحديد وبشكلٍ حصريٍ تنظيمَ ما يمكن أن يكون معلومة قابلة للإدراك الحسي أو هو كذلك فعلاً.

(31)

وعليه، بما أنّ مُعطى التجربة الحسية وحده هو ما يُمكنُ وصفه بشكل صحيحٍ كسبب، فإنّ إثبات وجود الله كالسبب الأول للعالم بأجمعه ليس صحيحاً لأنّ الله والعالم بأكمله لا يمكن أن يكونا موضوعين للتجربة الحسية[1].

استناداً إلى كانط(Kant)، لا ينبغي فهم المواضيع التقليدية في الميتافيزيقيا «المميَّزة»، أي «العالم» و«الروح» و«الله»، كوقائع وجودية نستطيع امتلاك المعرفية النظرية العلمية بها. يطلقُ عليها كانط(Kant) تسمية الأفكار المتعالية للعقل المحض ويعتبرُ أنها لا تنطبقُ على معلومات التجربة الحسية وأنه لا نمتلك أيَّ إدراك فكري للمواضيع المتعلقة بها، بل دورها ببساطةٍ هو وظيفة تنظيمية تدعم الوحدة المنسَّقة لعمليات الإدراك التجريبي للفهم. «كما أن الفهم يوحّد ما هو متعدِّد في الموضوع من خلال المفاهيم،كذلك يوحّد المنطق ما هو متعددٌ في الموضوع من خلال الأفكار، واضعاً نوعاً من الوحدة الجماعية كهدفٍ لأنشطة الفهم والتي لولا ذلك كانت لتتعلق فقط بالوحدة التوزيعية. لذلك، أنا أعتبر أنّ الأفكار المتعالية لا تسمح أبداً بالتوظيف التكويني. حين ننظر إليها بتلك الطريقة المغلوطة وأنها بالتالي تقوم بتزويد المفاهيم لبعض المواضيع، تكون مفاهيماً شبه منطقية وجدلية فحسب.»[2] أما حين تُفهم الأفكار المتعالية بشكلٍ صحيح، فإنها تُعتبر مقياسية بشكلٍ محض، وأنها تقوم ببساطةٍ بتأمين البنية الأساسية الإرشادية أو التصوّر الثابت عن الاتحاد المنطقي الكامل الذي يُنشِّط التحقيقات المستمرة إلى ما لا نهاية في العلم الطبيعي. بكلمةٍ أخرى، إنّ العقل في بحثه عن الفهم العلمي لمعطى التجربة ينطلقُ وكأنّ التعددية في التجربة الحسية قد ألّفت بشكل مثالي منظومةً سببيةً تمّ التعبير عنها بشكلٍ غير محدد والتي تُظهر نفسها لـ «أنا» روحيٍ مهم وتعتمدُ على الوفرة الشاملة من الوضوح والكينونة. قامت الميتافيزيقيا التقليدية بتجسيد هذا

(32)

التصوّر المعياري فحسب من المعنى، واعتبرت أن العالم والروح والله هي مواضيع حقيقية في الاهتمام العلمي، إلا أنّها قد تغاضت عن الحقيقة التي تُفيد أن مُعطى التجربة فقط هو ما يمكن أن يكون موضوعاً حقيقياً للمعرفة العلمية، وأنّ العالم والروح والله لا يمكن أن يكونوا أبداً معطيات على هذا النحو.

قدّر كانط(Kant) على نحو تام النتائج البعيدة المدى لادّعائه بأنّ فكرة الله مخترعِ العالم الحكيم وكليّ القدرة هي مجرد استراتيجية منطقية نقومُ من خلالها بالسعي وراء أعظم اتحادٍ منهجيٍ وهادفٍ ممكنٍ لمعرفتنا التجريبية. بالنتيجة، فإنّ الرأي الذي قدّمه كانط صرّح بأنّ ما تمّ اعتباره إلى حد الآن أسمى صورةٍ للمعرفة الإنسانية ـ أي معرفة الله التي تمّ التوصّل إليها من خلال الميتافيزيقيا التأملية- هي مجرد وهم، وبالفعل وهم خطير. احتجّ بأنّ هذا التأمّل يورّط الانسان في نزاعاتٍ عقيمة وحادّة حول ما لا يُمكن أبداً من حيث المبدأ أن يكون موضوعاً للمعرفة الحقيقية، وأنّه قد قوّض بحثنا العلمي الحقيقي في القوانين الجوهرية للطبيعة وذلك من خلال الميل نحو وضع حلول المدد الغيبي الخادعة والنهائية مكان المهمة المضنية المتواصلة المتمثِّلة في الاستكشاف التجريبي للطبيعة. وعليه، فإنّ كانط(Kant) يُقيّم التأمُّل الميتافيزيقي التقليدي حول وجود الله كمصدرٍ للحيرة التي تعزلنا عن هدفنا الحقيقي المتمثّل بإرساء أنفسنا بشكلٍ أكثر فعالية في العالم المحدود. إنّه يبتني على القبول غير الناقد للأفكار التنظيمية الصرفة باعتبارها مصادر مُشكِّلة للمعرفة المتعالية. وعليه، فإنّه يُفضي «من خلال وهمٍ مُبهرٍ وخادع إلى الإقناع وإلى معرفةٍ خيالية محضة، وبذلك إلى تناقضاتٍ ونزاعاتٍ دائمة»[1].

يقوم كانط بتفصيل هذا الموقف الفلسفي العام الذي يمنعُ أي إثباتٍ ميتافيزيقي لوجود الله وذلك من خلال تقديم نقدٍ محدد للأدلة التقليدية على وجود الله.

(33)

وفقاً لكانط(Kant)، فإنّ أي دليل يستحق النظر هو أحد ثلاثة أنواعٍ ممكنة من الأدلة، وهي:1) الدليل الوجودي؛ 2) الدليل الكوني؛ 3) الدليل الفيزيائي-الإلهي. يكمنُ الاختلاف في أنّه يتمُّ استخلاص الأول من كل التجربة، والثاني يبتني على تجربة الوجود بشكلٍ عام، والثالث يرتكزُ على الطابع المميِّز لعالم التجربة الحسية. يقومُ كانط(Kant) بالبحث في كل واحدة من هذه الأدلة الممكنة بدورها.

يشرحُ كانط(Kant) أنّ الدليل الوجودي هو محاولة لبحث مفهوم الله للتوصل مباشرةً إلى وجوده الفعلي. يُحكمُ بوجود الله الذي يُعتبر الموجود ذي الكمال اللامتناهي الذي يملك كل الحقيقة، لأنّه لدى التأمل بمفهوم الله الموجود الأكثر واقعية يتضح أنه يتضمن خاصية الوجود تماماً كما يمتلك مفهوم المثلث خاصية امتلاك الزوايا الثلاث. بناءً على فكرة الله نفسها، يُمكننا الانتقال فوراً إلى إثبات وجوده الضروري.

وفقاً لكانط(Kant)، فإنّ هذا الدليل ناقصٌ من عدة جوانب. إحدى الطرق لتقدير هذا الأمر هو التفكير فيما إذا كان الطرح الذي يدّعي إثبات وجود الله ـ أي «الموجود الأكثر واقعية موجود» ـ هو تحليلي أو تركيبي. إذا كان تحليلياً، فإنّ الدعوى لا تعدو كونها إسهاباً ضعيفاً يفترض وجود «الموجود الأكثر واقعية» ومن ثم يؤكّد هذا الوجود المفترض فحسب. أما إذا كان الطرح تركيبياً ـ وهو كذلك فعلاً- فلا يُعدُّ إنكار وجود الموجود الأكثر واقعية المتصوَّر تناقضاً، وذلك لأنه في الافتراضات التحليلية فقط يكون من التناقض إثبات الموضوع وإنكار المحمول، أما الافتراضات التركيبية فمن سماتها عدم تضمُّن مفهوم الموضوع لمفهوم المحمول، وبالتالي يمكن إنكاره دون تناقض.

بشكلٍ أساسي، فإنّ خطأ الدليل يكمنُ في الدعوى الخاطئة التي تُفيد أنّ الوجود هو صفة إضافية مُحدِّدة لمفهومنا عن شيء يُمكن أن يعمل كمحمول حقيقي لهذا المفهوم. حقيقة الأمر هو أنه عندما نقول إن شيئا ًما هو موجود، فإنّنا لا نُعلن

(34)

محمولاً جديداً بل نقوم فقط بوضع الموضوع وكافة محمولاته كشيءٍ يتطابق مع مفهومنا عنه. بناءً على ذلك، لا يُمكننا التوصّل بشكلٍ مباشر من خلال فكرتنا عن الله، مهما قُمنا بتزيينها بدلالات الكمال المطلق وغير المحدود- إلى أيِّ نتيجة ترتبط بوجود شيءٍ يتطابق مع هذه الفكرة. على أقصى تقدير، يُمكننا أن نقول إنّ مفهومنا حول كون الله هو الموجود الأكثر واقعية ليس مُتعارضاً بشكلٍ جليٍّ مع الوجود الحقيقي. بالرغم من ذلك، يبقى السؤال حول إذا كان هذا الكائن موجوداً فعلاً أم لا. كما يُعبّر كانط نفسه: «وعليه، حين أعتبرُ أن كائناً ما هو الحقيقة الأسمى الخالية من أي عيب، يبقى السؤال إذا كان موجوداً أم لا»[1]. لا يُمكننا معرفة الجواب على هذا السؤال لأنّه يمكننا فقط إثبات وجود الأشياء التي يمكن أن تكون معطيات للتجربة، والله ليس من هذا الصنف.

يُشير كانط(Kant) إلى أنه من النظرة الأولى، يبدو الدليل الكوني واعداً أكثر من الدليل الوجودي. نقطة انطلاق الدليل الكوني ليست فكرة بل تجربة حقيقية- أي تجربة الوجود الممكن، فهو يبحث تجربة الممكنات ليصل إلى وجود الله كالسبب الضروري تماماً لكلِّ ممكن. أما بتقدير كانط(Kant)، فإن هذه الحجة منطقية أكثر من الدليل الوجودي فقط على نحو سطحي. بالفحص الدقيق، يبدو أنّ كل واحدة من المرحلتين الأساسيتين للدليل الكوني تتضمن مغالطات ناقضة. هاتين المرحلتين هما: 1) تقديم حجة السببية للبرهنة على الموجود الواجب مطلقاً؛ 2) تحديد كون الموجود الواجب مطلقاً هو الله الذي يُعتبر «الموجود الأكثر واقعية».

الاعتراض الأساسي على المرحلة الأولة هو إساءة استعمالها لمبدأ السببية عبر تجاوز استخدامه الصحيح، وذلك لتطبيقه على عالم الممكنات الخاضعة للتجربة الحسية ليدلّ على وجود واجب الوجود بوصفه السبب المتعالي لكل نظام الممكنات. ينشأ سوء

(35)

استخدام السببية هذا من التحول غير المبرر لمبدأ تفكيرٍ تنظيميٍ إلى تكويني. بكلمةٍ أخرى، فإنّ الحاجة المنطقية -التي ينبغي استكشاف نطاق الممكنات دوماً بالتطابق معها، وكأننا في بحثٍ عن أرضية ضرورية لهذا الحقل لن تكون أبداً من معطيات التجربة- تتحول إلى تأكيدٍ على الوجود الموضوعي المستقل لهذا التصور الإرشادي.

ولكن حتى لو تقبّل المرء الدعوى التي تنطلق من تجربة الممكنات إلى إثبات واجب الوجود، سوف تواجهه المصاعب في المرحلة الثانية من الدليل التي تحدِّد كون واجب الوجود هو الله. يُقدّر كانط(Kant) أنّ هذه الخطوة تُعيد تقديم نُسخة مخفية من الدعوى الوجودية. من خلال السعي إلى البتّ في الفكرة غير القابلة للتحديد من قبل التجربة والمتمثّلة بكائنٍ واجبٍ مُطلقاً، يلتمسُ الدليل الكوني المفهوم البديهي للموجود الأكثر واقعية كالمفهوم الوحيد الذي يمكنه التعبير بشكلٍ وافٍ عن مقصد هذه الفكرة، إلا أن هذا الأمر يساوي الجزم بأنه يمكن استنتاج واجب الوجود مُطلقاً من خلال مفهوم الموجود الأكثر واقعية، وهذا بالذات هو مفاد الدعوى الوجودية. قام كانط بعرض هذا النقد النهائي للدليل الكوني بطريقةٍ منطقية كالتالي:

«إذا كان افتراض أنّ ’كل موجودٍ واجبٍ مُطلقاً هو أكثر الكائنات واقعية‘ صحيحاً (وهذا هو صلبُ دعوى الدليل الكوني)، فينبغي أن يكون قابلاً للتحول كجميع الأحكام المثبِتة، وعلى الأقل بالصدفة. وعليه، يستتبع ذلك أن تكون بعض الموجودات الأكثر الواقعية كائناتٍ واجبة مُطلقاً كذلك، إلا أنه لا يختلف أحد الموجودات الأكثر واقعيةً عن الآخر بأي نحو، وما ينسحبُ على بعض ما يندرج تحت هذا المفهوم يصحُّ على الجميع كذلك. إذاً في هذه الحالة، يمكنني أن أعكس الفرضية بطريقة بسيطة، وليس فقط على نحو الصدفة، وأن أقول إنّ كل موجود أكثر واقعيةً هو واجب الوجود. ولكن بما أنّه يتم تحديد هذا الافتراض من مفاهيمه البديهية وحدها، فعلى المفهوم المحض للموجود الأكثر واقعيةً أن يحمل معه الوجوب المطلق لذلك الكائن:

(36)

وهذا بالضبط ما أكّد عليه الدليل الوجودي ورفض الدليل الكوني الاعتراف به بالرغم من أن نتائج الأخير تعتمدُ عليه فعلاً بطريقةٍ خفيّة.»[1]

في الختام، لدى الانتقال إلى الدليل الفيزيائي ـ الإلهي، يرى كانط(Kant) أنه ينبغي التعامل مع هذا الدليل باحترام ويعترفُ أنّه يُقوي الايمان بالله على مستوى المنطق السليم. بالرغم من ذلك، يصرُّ أن هذا الدليل على مستوى النقاش النقدي الفلسفي ليس مُقنعاً فكرياً أكثر من الدليلين السابقين اللَّذَين قد تعرّضنا لهما. يصفُ كانط(Kant) الدليل الفيزيائي ـ الإلهي على أنه دليلٌ يبحث في النظام والهدفية والجمال الكامنين بشكلٍ عرضي في الأشياء الموجودة في عالم تجربتنا، واصلاً إياها بمصدرها المطلق المتمثل بعلةٍ عالِمة تُعتبر الكائن ذي الكمال الأسمى. يعترفُ كانط(Kant) بوجود نوعٍ من الصحة في البرهنة القياسية المنطلقة من أنّ المصنوعات كالبيوت والساعات تشيرُ إلى علّةٍ عاقلة، فكذلك نتاجات الطبيعة وعملياتها المتناسقة تُشير إلى علةٍ عاقلة، لكنّه يدّعي بأنّه حتى لو قبلنا بهذا النوع من التفكير فإنه سوف يسمحُ لنا فقط بإثبات وجود مهندسٍ عاقلٍ محدود لهيئة العالم، وهو محدود بقابلية تكيُّف المادة التي يعمل بها. لا يُثبت هذا لزوم أن يكون المهندس الإلهي كائناً متعالي الكمال وهو خالق المادة وهيئة العالم أيضاً. من خلال إيصالنا إلى نقطة الإعجاب بالعظمة والحكمة والقوة غير المحدودة التي يمتلكها مُكوّن العالم- وليس إلى إثبات الخالق الأعلى ذي القدرة المطلقة ـ فإن المنهج الفيزيائي الإلهي يفشلُ في إحراز الواقع الإلهي الذي يمكنه تشكيل أساس الإلهيات والدين.

من أجل سدّ هذه الفجوة الفاصلة بين المهندس المحدود والخالق الأعلى، يقومُ الدليل الفيزيائي ـ الإلهي بالتخلي عن جميع الاعتبارات التجريبية المحددة ويلجأ إلى الدليل الكوني. بكلمةٍ أخرى، يستعينُ الدليل الفيزيائي ـ الإلهي بإمكان النظام

(37)

الهادف للعالم، ومن خلال هذا الإمكان وحده ينطلق لإثبات وجود واجب الوجود على الإطلاق. في الدليل الكوني، يُحدَّد في النهاية أنّ واجب الوجود مُطلقاً هو الله الذي يُعتبر حقيقة عُليا تامّة الإحاطة. إلى حد الآن، لقد رأينا كيف أنه بالنسبة لكانط، تعتمد هذه المرحلة النهائية من الدليل الكوني على الرجوع إلى الدليل الوجودي، وعليه ينهار الدليل الفيزيائي-الإلهي على الدليل الكوني الذي بدوره ينهار على الدليل الوجودي الذي هو بنفسه واضح البطلان. بالتالي، يُقدّر كانط أنّه مع وجود ثلاثة أنواع ممكنة من البراهين فقط، فقد ظهرت استحالة أيِّ محاولة لتأمين الدليل النظري على وجود الله أسوةً بالميتافيزيقيا التقليدية.

لقد أثّر نقدُ كانط(Kant) لأدلة وجود الله بشكلٍ عميقٍ على الفكر الذي تلاه وساهم بشكلٍ مهمٍ في تشكيل الإلحاد الفلسفي المعاصر. حتى اليوم، يُعترفُ على نطاق واسع، وغالباً من دون نقد، أنّ كانط(Kant) قد دمّر بشكلٍ حاسمٍ إمكانية الدليل المنطقي على وجود الله بالمعنى المصطلح التقليدي. في خضمّ هذا البحث، سوف نشير في مناسباتٍ عدّة إلى هذه الناحية من فكر كانط(Kant). بالرغم من ذلك، فإن مساهمة كانط(Kant) الفكرية فيما يتعلق بمسألة الله وتطوّر الإلحاد لا تقتصرُ على هذا المحور. من أجل التوصل إلى تقييمٍ حكيمٍ لأهميتها البعيدة المدى، من المهم أن نفهم لماذا ومن أي ناحية لم يعتبر كانط(Kant) نفسه بأنّ تمام موقفه الفلسفي هو إلحادي، بل على العكس من ذلك هو دفاعٌ عن إمكانية وجود نوعٍ محدَّد من الإيمان الديني.

بعد نقضه لأدلة وجود الله مباشرة، يُحذّرنا كانط(Kant) بصراحةٍ من الانتقال إلى استنتاجاتٍ إلحادية، ويشيرُ إلى أنّ نفس الأسس التي تمنعُ الإثبات الميتافيزيقي لوجود الله كذلك تمنع صلاحية جميع الأدلة المعارضة. ما ينطبقُ على الأول ينطبق على الآخر، وإذا لم نتمكّن خارج التجربة من التدبّر بشكل صحيح حول وجود كائن أعلى

(38)

بصفته العلّة النهائية لكل شيء، فعلى نفس المنوال لا يمكننا التدبّر خارج التجربة بعدم وجود هذا الكائن الأعلى.

علاوةً على ذلك، يرى كانط(Kant) أنّ نتاج علم الإلهيات النظري ليس فاقداً بتمامه للقيمة فيما يتعلق بمعرفتنا بالله. إذا كان هناك ما يدفعنا من خلال طرقٍ أخرى غير علم الإلهيات النظري إلى إثبات وجود الكائن الأعلى، فإن تأملات الإلهيات النظرية حول فكرة الله سوف تؤدي وظيفة مفيدة للغاية في تنقية وإغناء فهمنا لهذا الكائن. في النتيجة، يدعمُ كانط(Kant) وجود دورٍ محدّد للإلهيات النظرية من خلال اعتبارها صقلاً لقناعةٍ أخلاقية ودينية أولية بدلاً من كونها قاعدة لهكذا قناعة.

وعليه، بينما يبقى الكائن الأعلى في التوظيف النظري البحت للمنطق مجرد تصوّر مثالي، إلا أنه تصوّرٌ مثالي دون خلل وهو مفهومٌ يُكمّل كل المعرفة الإنسانية ويُتوّجها. لا يُمكن فعلاً برهنة الواقع الموضوعي لهذا التصوّر ولكن لا يمكن إثبات بطلانه من خلال المنطق النظري البحت. إذا وُجدت إلهيات أخلاقية تقومُ بتلافي هذا القصور، ستُثبتُ الإلهيات الغيبيّة- التي كانت قبل هذا محل إشكال فحسب- أنه لا غنى عنها في تحديد مفهوم هذا الكائن الأعلى وفي الفحص المستمر للمنطق الذي كثيراً ما خُدع من قبل الحس وغالباً لا يكون متوائماً مع أفكاره الخاصة.[1]

إحدى التحليلات المعتدلة لفكر كانط(Kant) من نظرةٍ إلهية تُفيدُ أن هدف نقده لأدلة وجود الله ليس من أجل ترسيخ الإنكار النظري التام لوجود الله، بل لتمهيد الطريق لإثباتٍ أكثر أصالة على وجود الله[2]. إذاً، من خلال قصر كانط(Kant) لمعنى «المعرفة» (ولو اعتباطياً نوعاً ما، وحصرياً إلى حد بعيد) على الفهم العلمي للأشياء الظاهرية وقوانينها، وبإنكاره لإمكانية امتلاكنا للمعرفة النظرية بوجود الله، كان كانط(Kant) يُنكر فحسب إمكانية معرفة الله بنفس الطريقة التي نُدرك من

(39)

خلالها أي شيءٍ مادي. بما أن الله ليس جزءاً من العالم المادي بأي شكل من الأشكال، فلا يُمكن على نحوٍ أدق إثبات كونه موضوعاً للمعرفة النظرية. إذا أردنا إثباته، فلن يكون ذلك من خلال بيئة المعرفة العلمية بل من خلال نوع من الإثبات الذي يتجاوز المعرفة العلمية ويمكن إطلاق اسم الإيمان المنطقي عليه بسبب افتقارنا لمصطلح أفضل. وعليه، حين يشير كانط(Kant) إلى مسألة الله في مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل المحض»، يُلاحظُ أنه: «بالتالي، لقد وجدتُ أنه من الضروري إنكار العلم من أجل فتح المجال للإيمان»[1].

بعيداً عن النقاش حول ما إذا كان هذا التحليل المعتدِل مُناسباً للطابع الكاسح والمتصلِّب لنقض كانط(Kant) للأدلة، فلننظر بأيِّ معنىً يوجد مكان في فكره للإثبات الراسخ لوجود الله عبر الإيمان المنطقي. بما أنه لا وجود لهذا الإثبات في بيان كانط للمنطق الأصيل للمعرفة النظرية، ينبغي إذاً، من أجل الحفاظ عليه بأيّ وسيلة، أن يكون مُتعلّقاً بمنطق المعرفة العملية. من هنا ومن خلال التأمل في التوظيف الأخلاقي للمنطق، يتوصّل كانط إلى إثبات وجود الله ويُثبت ذلك كأمرٍ مُسلَّم أو لازم في الأخلاق[2].

من المهم أن نفهم أنه حينما يتكلم كانط(Kant) عن الله كأمرٍ مسلّم في الأخلاق، فإنّه لا يعني على الإطلاق أنّ الإيمان بالله هو القاعدة أو المبدأ المحفّز في الأخلاق. بالفعل، وكما ذُكر سابقاً، فإنّ أحد السمات الحاسمة لمساهمة كانط(Kant) في الأنسنة الحديثة للحرية هو إصراره على استقلالية الأخلاق. يُشير كانط(Kant) إلى أنّه:

«ما دامت الأخلاق ترتكزُ على مفهوم الإنسان الفاعل الحر الذي يقوم فقط

(40)

بسبب حريته بربط نفسه من خلال منطقه بالقوانين غير المشروطة، فهي ليست بحاجة إلى فكرة وجود كائن (إله) فوق الإنسان لكي يُدرك وظيفته، ولا إلى دافع غير القانون نفسه ليُنجز وظيفته. على الأقل، إنّ الارتهان لهذه الحاجة هو خطأ الإنسان نفسه؛ وإذا كان كذلك لا يمكن التخلص من هذه الحاجة عبر أيِّ شيء خارج عن ذاته لأن أي أمرٍ لا ينشأ من داخله ومن حريته لا يمكنه على أي نحو من الأنحاء أن يعوّض عن النقص في أخلاقه. لهذا، فإن الأخلاق بنفسها لا تحتاج إلى الدين على الإطلاق (سواء كان ذلك على نحوٍ موضوعي كالإرادة، أو على نحوٍ شخصيٍ كالقدرة (على التصرف))؛ وبفضل العقل العملي المحض يكون المنطق مُكتفياً ذاتاً.»[1]

يُفترض وجود الله في سياق العقل العملي ليس كمبدأ الأخلاق بل كشرطٍ للتحقق المطلوب لمتطلباته المنطقية. القانون الأخلاقي الذي يفرضه الإنسان على نفسه انطلاقاً من عقله العملي يوجّهه نحو السعي وراء موضوع غير مشروط، وهو الخير الأعلى. من خلال التأمل، يبدو هذا الموضوع مُعقّداً. أولاً، إنّه يتضمّن الشرط الأعلى غير المقيَّد لكل الأفعال الأخلاقية- أي الإرادة المطيعة أو الفضيلة. ولكن زيادةً على شرط الخير الأعلى الضروري ولكن غير الوافي، يوجد عنصرٌ آخر وهو التمتع بالسعادة بشكلٍ متناسب مع الفضيلة. إنّ إثبات وجود الله لازمٌ من أجل جعل الرابط الضروري بين هذين العنصرين المكوّنين للخير الأعلى ممكناً ومن أجل ضمانه. فلننظر إلى السبب وراء هذا الأمر.

بالرغم من أن السعي نحو السعادة لا يمكن أن يكون معيار العمل الأخلاقي، إلا أنّ التصرف بشكلٍ أخلاقي أو مستقيم يعني التصرف بطريقةٍ تستأهلُ السعادة أو تستحقها. بإمكان من يتصرف بهذه الطريقة أن يأمل بالسعادة ويتوقّعها، ولا يُمكن لأي تقييمٍ منطقي عمّا ينبغي أن تكون الأمور عليه أن يُقرر خلاف ذلك. «إنّ الحاجة

(41)

إلى السعادة واستحقاقها ـ ولكن في نفس الوقت عدم المساهمة بها ـ لا يمكن أن يكون متوافقاً مع الإرادة المثالية للكائن العاقل.»[1] إن الترابط النهائي لهذه الحاجة المنطقية أو الضرورة العملية التي تفيد أنه يجب على الفضيلة إنتاج السعادة ـ وبالتالي تحقيق الخير التام أو المثالي الذي يدفعنا القانون الأخلاقي إلى ترويجه ـ يستلزمُ وجود الله. تعتمدُ السعادة على تناغم مسار الطبيعة مع رغبة الإنسان وإرادته. بما أن الإرادة الإنسانية لا يمكنها فرض مسار الحوادث الطبيعية، فإنه يمكن تأمين الرابطة الضرورية بين الفضيلة والسعادة فقط من خلال الالتجاء إلى كائنٍ مُطلق يُمكنه وحده ضمان التحقق النهائي لحالةٍ تكونُ السعادة فيها متناسبة بالدقة مع الفضيلة. بكلمةٍ أخرى، بما أننا نُدرك أنّ ترويج «الخير الأعلى» هو وظيفة وبالتالي علينا افتراض إمكانية ذلك، وبما أنّه ممكنٌ فقط بشرط وجود الله، فإنه من الضرورة الأخلاقية إثبات وجود الله[2].

وعليه، يُثبت كانط(Kant) وجود الله ليس كحقيقةٍ نظريةٍ فرومُ (Fromm) حلّ التناقض الميتافيزيقي، بل كحقيقةٍ وجودية فرومُ حلّ النزاع الحيوي وعدم التناسب بين السعادة العملية والوفاء لمتطلبات الوظيفة لدى الإنسان المتحلّي بالأخلاق. بما أنّ الحياة المحكومة بتبجيل قداسة السلوك الصالح لا تُرافقها على نحو حتمي على مستوى الحدوث السعادة المتناسبة والمستَحَقَّة مع هكذا حياة فاضلة، فإن الإنسان في استجابته للطلب المنطقي للأمل يُثبت وجود إلهٍ مُطلق يُمكنه في الوقت الملائم إحداثَ توافقٍ تامٍ بين الفضيلة والسعادة. «من خلال الاعتراف بأنّ القانون الأخلاقي النقي يُلزم كلَّ إنسان بشكلٍ صلب على نحو الأمر (وليس وفق مبدأ الاحتياط)، يُمكن للانسان الصالح أن يقول: أنا أشاء وجود إله لكي يكون وجودي في هذا العالم أيضاً وجوداً خارجاً عن سلسلة

(42)

العلل المادية، وفي عالمٍ نقيٍ من الفهم، وفي النهاية لكي تكون مدّة وجودي أبدية»[1].

يظهرُ الطابع المتجاوز للتأمل والوجودي قطعاً لإثبات كانط(Kant) لوجود الله من خلال إصراره أنه من غير المناسب فرض نمط الخطاب الموضوعي على تصريحٍ ثابت إيمانياً. الأخير شخصي في الأساس لأنني أستمد اعتقادي الإيماني من خلال تأملٍ ملموس في البعد الأخلاقي لذاتيتي الخاصة. وعليه يلاحظ كانط(Kant) أنّ: «إيماني ليس يقيناً منطقياً بل أخلاقياً؛ وبما أنه يستندُ على أسس ذاتية (للشعور الأخلاقي) لا ينبغي حتى أن أقول: ’وجود الإله هو مؤكّد أخلاقياً‘ بل ’أنا متأكدٌ أخلاقياً‘. بكلمةٍ أخرى، فإن الإيمان بالله والعالم الآخر متشابكٌ مع شعوري الأخلاقي إلى درجة عدم وجود خطر كبير يعرّضني لخسران الأخير، وكذلك ليس هناك سبب كبير للتخوّف من إمكانية سلب الأول منّي أبداً»[2].

إن حصر كانط(Kant) لإثبات وجود الله ضمن سياق العقل العملي كان له نتائج مهمة وبعيدة المدى في نقاشه حول الدين، وهذا ما علينا التطرق إليه الآن بشكلٍ وجيز. المؤلَّف الأساسي التي تتجلى فيه فلسفته الدينية هو «الدين في حدود العقل المجرد» (1793). إن العنوان نفسه هو إشارة واضحة إلى اعتقاده الأساسي بأنّ النقد الفلسفي للعلم والأخلاق هو المعيار التام الذي ينبغي على ضوئه تنظيم أي ادّعاء ديني والحكم عليه. أثبتت تأملاته حول متطلبات العقل العملي ـ والتي مكّنته من تجاوز أوهام الإلهيات الطبيعية النظرية في توجهها لإحراز إثبات لله ـ أنها سيفٌ ذو حدّين لأنها تقوده إلى إنكار فكرة الوحي الخارق للطبيعة وإلى جعل الدين المسيحي أدنى من الفلسفة الأخلاقية.[3]

(43)

إنّ إصرار كانط(Kant) على أن الأخلاق تنشأ فقط من إطاعة الإرادة العقلانية للقوانين الكونية المفروضة ذاتياً، وتصميمه على عدم المساومة بهذا التتويج المجيد للإنسان ـ أي استقلاله الأخلاقي ـ هو ما يصبغُ كامل موقفه بالنسبة للدين. يعترفُ كانط(Kant) بأنّ الأخلاق تقودنا حتماً إلى الدين وإلى إثبات الله المشرّع الأعلى. الدينُ هو الإقرار بأنّ جميع التكاليف هي أوامر إلهية، ولكنه من الانحراف عن الإنسان والدِّين كليهما الاحتجاج بأنه يتحتّم عليّ أن أعرف مسبقاً الأمر الإلهي لكي أدرك أنه تكليفي، أو أن أفترض إمكانية وجود دين مُنزّل مؤلَّف على نحو يتضمن أكثر مما يمكن أو ينبغي للبشر اكتشافه بأنفسهم من خلال استخدام عقولهم فحسب[1]. بالنسبة لكانط(Kant)، فإنّ المتطلبات المنطقية للعقل العملي للإنسان تُشكّل المقياس الأساسي والحصري للدين الحقيقي والحصن الوحيد ضد الخرافة والوثنية. «مع أنه يبدو بالفعل خطيراً، إلا أنه ليس من المستهجن بأيِّ طريقة أن نقول إنّ كل إنسان يخلق إلهاً لنفسه بل وأنّ عليه خلق هكذا إلهٍ وفق المفاهيم الأخلاقية...لكي يمجّد فيه الواحد الذي خلقه[2]

لا يُتصوّر الله فقط من خلال المفاهيم الأخلاقية بل ينبغي على الدين أيضاً أن يتخذ شكلاً أخلاقياً عملياً. «الدين الوحيد الصحيح لا يتألف من شيء غير الأحكام، أي تلك المبادئ العملية التي يمكننا الاطلاع على ضرورتها غير المشروطة والتي بالتالي نُدركها كما تتجلى من خلال عقلنا (وليس تجريبياً).»[3] إنّ الإجلال الحقيقي لله المشرع الأعلى يتشكّلُ ببساطة عبر عيش حياة أخلاقية جيدة. ينبغي طبعاً أن نُنمّي الشعور بوجود الله وقداسته، ولكن ينبغي أن يتحقق هذا في سياق السلوك الأخلاقي وليس في العزلة. وعليه، يُلاحظ كانط(Kant): «أعتبرُ أنّ الافتراض التالي هو مبدأٌ

(44)

لا يتطلب البرهان: إن أي شيء زائد على سلوك الحياة الخيّر، ويتخيل الإنسان أنه يستطيع فعله ليكون مرضياً لدى الله، فهو مجرد وهم ديني وخدمة مزيّفة لله»[1].

قامت نظرة كانط(Kant) المنطقية والأخلاقية إلى الدّين بإقناعه بأنّ الدّين بأشكاله العقائدية التقليدية هو نوعٌ من العزلة والخداع للذات. بالرغم من أنه كان فعلاً يعدّ نفسه مسيحياً، إلا أن تحليله للمسيحية هو على نحوٍ اعتبر فيه أن المسيح هو معلّم دينٍ أخلاقي بحت- أي دين العقل العملي المحض[2]. رفضَ كانط(Kant) العبادة والصلاة وحميع الممارسات الدينية الموجّهة حصراً نحو خدمة الله بوصفها مجرد زخارف للإيمان التعويذي، وكان يرى أنها تميل نحو استبدال الاحتياجات الأكثر تطلّباً ـ ولكنها أصيلة ـ لهذا السلوك الدنيوي الأخلاقي بالأوهام الأخرويّة المراوغة عن الصلاح[3]. في تقديره، إنّ ما يثير الاعتراض أكثر من ذلك هو وجود أي إشارة بأنّ الإيمان بالوحي الخارق للطبيعة هو بنفسه مصدرٌ للتعليل. لا يُمكن لهذا الأمر إلا أن يُعبّر عن الاعتزال الجبان للاستقلالية الشخصية الذاتية وللسلامة العقلية للمرء.

«إنّ فكرة كون الإيمان بهكذا وحي- كما يرويه التاريخ المقدّس لنا ـ والاعتراف به (سواءً كان ذلك باطنياً أو خارجياً) هي بحد ذاتها أسباب نقوم من خلالها بجعل أنفسنا مرضيّين لدى الله، سيكون وهماً دينياً خطيراً. السبب هو أنّ هذا الإيمان -بوصفه إقرارٌ باطني لقناعته الراسخة ـ هو في الحقيقة فعل مدفوعٌ بالخوف من أن يقوم الإنسان المستقيم بالقبول بأي شرطٍ آخر قبل هذا؛ لأنه فيما يتعلق بكل الخدمات الواجبة الأخرى سيكونُ الانسان على أكثر تقدير مُنجزاً لأمر زائد فحسب، بينما هنا لدى الإعلان عن شيٍ هو غير مقتنع بحقيقته، سيلحق الضرر بضميره.»[4]

(45)

وُصفت فلسفة كانط(Kant) الدينية بشكلٍ ملائم على أنها تتمحور حول الإنسان وليس الله. بالرغم من أنه قد حافظ على إثبات وجود الله الممتلك لمعظم الخصائص التي تنسبها إليه الإلهيات التقليدية الطبيعية، إلا أنّ كامل سياق هذا الإثبات قد تغيّر بشكلٍ عميق. لا يخدمُ هذا الإثبات الفهمّ الأفضل للوحي الإلهي أو حتى الفهم النهائي لمعنى الإنسان وقيمته المفصّلان على ضوء قاعدته الإيمانية المتعالية. بدلاً من ذلك، بدأ الميل الديكارتي نحو الذاتية والمائل باتجاه العقل العملي بالظهور في منطقه المتأصل الذاتي. إنّ منظور كانط(Kant) الأساسي وغير القابل للاختزال والذي يُقدّم السياق المحيط الذي ينبغي تنظيم كل شي ضمنه، هو استقلالُ العقل العملي المحض للإنسان. إنّ هذه الاستقلالية أو القدرة على إنشاء قرارتٍ أخلاقية متطابقة مع القانون المنبعث من العقل العملي نفسه هي الحقيقة الأساسية التي تنبغي أن تحكم تقييمنا لكل شيء آخر. إنّ الإثبات الديني لوجود الله هو فعلاً ضروري لمتطلبات العقل العملي المحض، ولكن ينبغي السيطرة بقوة على نطاق هذا الإثبات ضمن حدود هذه المتطلبات، وذلك تحت طائلة إلحاق الضرر باستقلالنا الأخلاقي. لقد كان لهذا الجانب من فكر كانت وغيره مما ذكرناه تأثيرٌ كبير على المسار اللاحق لفلسفة الدين بشكل عام، وعلى تطوّر الإلحاد المعاصر بشكلٍ خاص. فلنذكر بعض السمات الأكثر تأثيراً لكامل نظرته.

بالرغم من أنّ الموقف المعرفي الذي قام كانط بتطويره في «نقد العقل المحض» يدّعي أنّ وجود الله يبقى سؤالاً مفتوحاً، إلا أنّ هذا الموقف–بالأخص إذا تناولناه بشكلٍ منفصل عن مؤلفات كانط(Kant) الأخرى- يلائم بسهولةٍ نظرةً إلحاديةً متأصِّلة. إن إصراره الجازم بعدم إمكانية الوصول إلى المعرفة العلمية بوجود الله من خلال مناهج العلوم الطبيعية المادية، يبدو أقل ضرراً من الناحية الفلسفية حين ننظر إليه على

(46)

ضوء التأكيد الإضافي على أنّ المعرفة العلمية الوحيدة بالوجود الموضوعي هي تلك التي يؤمّنها العلم المادي. إذا لم يُمكن معرفة الله من خلال الأسلوب الذي يُتيح العلم الطبيعي الوضعي من خلاله معرفة الأشياء، وإذا كان هذا الأخير هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها معرفة الشيء فعلاً، فإنّ الموقف الفلسفي اللاحق المعترف بكونه مُخالفاً لموقف كانط(Kant) والذي يعطي الأولوية المطلقة لهكذا اعتبارات نظرية، لن يكون لديه أي سبب لإثبات وجود الله. من خلال هذه الطريقة وكما سوف نرى، فقد أثبتت نظرية كانط(Kant) حول المعرفة أنّها مصدرٌ خصبٌ من الإلهام بالنسبة لأشكالٍ مختلفة من مذهبي الطبيعة والوضعية الإلحاديين.

لقد تعزّزت هذه النتيجة من خلال التأثير البارز لنقد كانط(Kant) لأدلة وجود الله. تمّ الاعتقاد على نطاق واسع أن هذا النقد يُشكّل كلمة كانط الأخيرة حول مسألة وجود الله. كذلك، اِعتُقد أن هذا النقد قد أضرّ بجميع الأشكال الممكنة من الأدلة على وجود الله، وأنّ صلاحيته مستقلة حتى عن نظرية المعرفة الخاصة بكانط(Kant). وعليه، كما يلاحظ أحد الفلاسفة المعاصرين بشكلٍ صحيح: «في الواقع، إنه ليس من الشائع جداً للفلاسفة العلمانيين اليوم أن يُقدّموا أسباباً لعدم النظر في براهين وجود الله. لعلّ سبب هذا الأمر هو نَسْبُ الفضل لكانط(Kant) على أنّه قد فعل ذلك مرةً وللأبد»[1]. مثّل الأثر التراكمي النفسي لهذه المزاعم المشبوهة الاتجاه نحو تحليل كل الأدلة التقليدية على وجود الله نسبةً إلى كانط(Kant)، وإبعاد الاهتمام عن موضوع إثبات وجود الله باعتبار ذلك مشروعاً ميؤوساً منه بالأساس.

من ناحية أخرى، فإن استبدال كانط للاعتبارات الوجودية والعملية بمقاربةٍ نظريةٍ موضوعية عن الله قد حفّز بطرقٍ مختلفة المحاولات المتعددة للتخلي عن

(47)

تصوّر الانفصال العلمي في هذا الحقل أو تجاوزه. يمكن استكشاف هذا الأثر بشكلٍ أقل في كتابات مُفكّري أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر من أمثال شلايرماخر(Schleiermacher)، جاكوبي(Jacobi)، شِيلنغ (Schelling)، وحتى هيغل(Hegel) في شبابه. إنّ التأكيد على وجود إدراكٍ شبه حدسي بالحقيقة الإلهية في هذه المؤلفات قد اتجّه في النهاية ـ وذلك عبر ادّعاء سهلٍ للغاية- بإلحاق الضرر وإبطال المعنى الكامن في أي إثبات لوجود الله.

تجدرُ الإشارة إلى أنّ المؤلفين قد نظروا من زوايا مُختلفة للغاية إلى المعضلة العملية الكامنة في التفاوت الحي بين الفضيلة والسعادة التي بنى عليها كانط إثباته لوجود الله. على سبيل المثال، حتى المفكّرين المختلفين كماركس(Marx) وكاموس(Kamose) قد رفضوا بشدة أي لجوءٍ إلى الله لحلّ ظاهرة البؤس الإنساني غير المستَحَق، باعتبار أنّ هذا اللجوء هو هروب غير جدير أو فعّال. بطريقةٍ مماثلة، وكما سوف نرى حالياً بشكلٍ أكثر تفصيلاً، فإن نظرة كانط(Kant) المتمثلة «بالإيمان منطقي» بوجود الله قد كان لها تأثيرٌ مُبهم على النقاش الفلسفي اللاحق.  وعليه، بالرغم من أنّ هذه النظرة تتمتع ببعض الاستحسان في نماذج مُحدَّدة من الفلسفة الوجودية، إلا أنها في نماذج أخرى كتلك المنتمية إلى سارتر(Sartre) وجينسون(Jeanson) تتحول من «إيمان منطقي» إلى عدم وجود الله.

لعل السمة الأهم في فكر كانط(Kant) هي تلك التي سبق وأشرنا إليها، أي طابعه الدنيوي وبشري التمركز قطعاً. في إلهامه الأساسي، يميلُ نحو حَرف البحث عن مصدر المعنى والقيمة بعيداً عن الخطة المنظّمة والمقدّرة إلهياً للأمور، وتوجيهها بدلاً من ذلك نحو الموارد المنتِجة للذاتية الإنسانية. إنّ الأبعاد الواضحة والأخلاقية للعالم كما يصفها كانط(Kant) تُشبه انبعاث الروح الإنسانية أكثر من

(48)

المشاركة في الكمال الإلهي. علاوةً على ذلك، فإنّ الدور الأساسي للمسعى النظري والعملي هو تثبيتنا بشكل أكثر أصالة ضمن العالم المحدود بدلاً من جعلنا عرضةً للتفكُّر في الأمور الإلهية وتقليدها. لم يعد يشيرُ التعالي بشكلٍ أساسي إلى الكمال اللانهائي الذي يكون الله بمقتضاه تماماً فوق العالم الذي خلقَه، بل أصبح يشيرُ إلى الموارد الباطنية لذاتيتنا والتي من خلالها نتجاوز نحن الوقائعية المجردة للتجربة ونحوّلها إلى كونٍ منظّم وأخلاقي. بالرغم من أنّ هذه النظرة تفتحُ المجال لإثبات وجود الله، إلا أنها في ذاتها تميلُ نحو اعتبار هذا الإثبات مصدراً مُحتملاً للوهم والعزلة. لقد لاحظنا كيف أن كانط(Kant) قد كشفَ موارد من هذه العزلة والوهم في: 1) ادّعاءات الإلهيات الطبيعية على تقديم المعرفة النظرية بالله؛ 2) النظرة التي تجعل الله الأساس أو المبدأ المحفّز للأخلاق؛ و3) الاعتقادات والممارسات التقليدية للدين المنزّل.

السؤال الذي تطرحه هذه الاعتبارات هو فيما إذا كان إثبات كانط(Kant) لوجود الله متوافقاً فعلاً مع نظرته المتمركزة بشكلٍ أساس حول الإنسان أم لا. إذا تبنّى أحدهم إثبات الله، ألا يتم بذلك التقليل من شأن ادّعاءات هذه النظرة على نحو لا يكون كانط(Kant) مُستعداً لقبوله؟ في الفصل الأول، أشرنا إلى أن وجهة نظر ديكارت(Descartes) الإلهية في النهاية قد حدّت من ادّعاءات الذاتية الكامنة في مبدأه الكوجيتو بشكلٍ راديكالي. قد يظن المرء أنه من خلال إصراره المتشدّد على هذه الادّعاءات، يمكن أن يكون كانط(Kant) قد عرّض في التحليل النهائي قابلية التطبيق والترابط في إثباته لوجود الله إلى الخطر. قد يبدو هذا الظن وليدَ المسار اللاحق للفلسفة الإلحادية والذي يُشدّد على أنّ النظرة الثابتة المتمركزة حول الإنسان غير متوافقة مع الاعتقاد بالمفهوم الإلهي للواقع. بالرغم من ذلك، وقبل تناول التأكيدات الصريحة لهذه النظرة، ينبغي أن نذكر تطوراً إضافياً قد مهّد الطريق لها، وهو فلسفة

(49)

هيغل(Hegel) التي تُعتبر محاولة ميتافيزيقة عظيمة لإبطال الطرح الذي يُفيد أنّ الإيمان بالله هو مصدرٌ للعزلة. تسعى هذه الفلسفة للتوفيق بين النظرتين: المحورية الإنسانية والمحورية الإلهية، ولو على حساب المفاهيم التقليدية عن كُلٍّ من الإنسان والله. سيكونُ هدفنا في الفصل التالي بيانُ معالم هذه المحاولة البارزة.

(50)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

هيغل والمطلق المحايث

(51)

 

3 - هيغل والمطلق المحايث

إنّ فكر ج.ڤ.ف.هيغل(G.W.F Hegel) (1770-1831) ـ أحد أعظم الفلاسفة على مرّ الزمان من دون شك- يتصف بصعوبة استثنائية وفق كل المعايير. إنّ المجموعة الكبيرة المتنوعة من التحاليل التي ألهمها هذا الفكر هي دليلٌ على صعوبته المتأصلة وربما حتى على غموضه. كثيراً ما نُبذ هذا الفكر بصبرٍ نافذٍ باعتبار أنّه يُحرِّف النسيج الغني للواقع الحي ويُحوّله إلى متاهة خيالية من التوتّرات الميتافيزيقة المبهمة. تنتشرُ النظرة إلى أنّ هذا الفكر هو منظومة عقيمة من الفكر المجرّد الذي يمتلك بالفعل علاقة مُنعزلة واصطناعية مع الواقع الملموس.

مع أنّ هذا الانطباع مفهومٌ على ضوء أسلوب هيغل التعبيري الغامض نوعاً ما، إلا أنه مُضلّلٌ بالفعل. سيقع المرء في خطأٍ فادحٍ إذا اعتبر أنّ هيغل هو مجرّدُ شخصٍ قام بإحداث منظومة إبداعيةٍ وحتى جميلةٍ من الأفكار التي تدور حول عالمٍ مثاليٍ، ولكنها منظومة غير متّصلة بالعالم الحقيقي للاهتمام الوجودي والتجربة الحيّة. من ناحية، يمكن على نحوٍ صائب اعتبارُ فكره بحثاً مُكرّساً للوصول إلى المعنى والقيمة النهائيين للتجربة من خلال فاعلٍ مشاركٍ بعمق وساعٍ نحو الخلاص لحياته. إنّ المسعى قائمٌ لحل مسألةٍ أساسيةٍ كان يفرضُ طابعها التناقضي نفسه بإلحاح متزايد في سياق تطور الفكر المعاصر، وهي مسألة تواجد المحدود والمطلق معاً. علاوةً على ذلك، لم يطرح هيغل(Hegel) المسألة باستخدام مصطلحات عامة وفلسفية بحتة. بالنسبة إليه، إنّ المسألة تطرح نفسها أولاً في محاولته لفهم الأهمية الحقيقية لموضع إجلاله-أي الدين المسيحي. كانت كتاباته الأولى كـ «وضعية الدين المسيحي» و«روح المسيحية ومصيرها» لاهوتية بامتياز. بالاضافة إلى ذلك، وكما سوف نرى، فقد تم استيعاب

(52)

هذه التأملات اللاهوتية وتحويلها في فكره اللاحق الفلسفي تحديداً بدلاً من نبذها ورفضها. تحتوي الصفحات التالية على بيان المعالم العريضة لفكر هيغل(Hegel) حول مسألة تواجد المحدود والمطلق معاً.

في مقالته المبكرة: «وضعية الدين المسيحي»، إنتقد هيغل(Hegel) التحول التاريخي للمسيحية إلى نظامٍ سلطوي دكتاتوري. كان نقده يستند إلى إلهامٍ ثنائي: من ناحيةٍ كان منجذباً بشكلٍ عاطفي إلى جمال الدين اليوناني الشعبي وبساطته، والذي كان يُكنّ له التقدير بوصفه انعكاساً لتناغم وتوازن شعبٍ حُرٍ حقاً. من ناحيةٍ أخرى، كان مُعجباً بالعقلية الهادئة لتعاليم كانط(Kant) الأخلاقية ومُبجّلاً لها. لقد شهدنا كيف احتجّ كانط(Kant) في مؤلَّفه «الدين في حدود العقل المجرد» بأنّ العبادة الحقيقية الوحيدة لله تكمن في الوفاء للأولويات الأخلاقية للعقل العملي للإنسان. نالت هذه النظرة استحسان هيغل(Hegel) الشاب الذي كان متنفرّاً من الطابع «المفروض» و«المؤسساتي» و«الدكتاتوري» للمسيحية كما تمّ تقديمها إليه. من خلال وضعيتها، فإن مسيحيةٍ كهذه لا يمكنها إلا أن تكون مصدراً للعزلة ـ أي ديناً للرجال المستَعْبَدين، وهي بعيدة عن هدف كلِّ دين حقيقي وجوهره- أي الأخلاق الإنسانية وإطاعة القانون الاخلاقي. من وجهة نظر هيغل(Hegel)، كان هذا هو الهدف الوحيد للتعاليم الدينية للمسيح الذي «تولّى رفْعَ الدين والفضيلة إلى الأخلاق وإعادةَ الحرية الجوهرية للأخلاق إليها...وفق هذه النظرة، فإنّ المسيح كان مُعلِّماً لدين أخلاقيٍ محض، وليس لدينٍ وضعي»[1].

يرى هيغل(Hegel) أنّه بما أنّ تلامذة المسيح، وهم ضحايا تراثٍ استعبادي، كانوا يلتفتون بشكلٍ أساسي إلى الخصائص الفريدة والإعجازية ظاهرياً في حياته، فإنّهم قد نقلوا إلى الأجيال اللاحقة تحليلاً مُحرّفاً و«وضعياً» للدين الأخلاقي المحض

(53)

الذي كان يرغب المسيح بتعليمه. بالرغم من ذلك، حين قام هيغل(Hegel) بإدانة الوضعية، فهو لم يقصد ضرورة التعبير عن الحقيقة الدينية الأصيلة فقط على ضوء مفهومٍ مجرد وعام عن الطبيعة الإنسانية ومن دون أيِّ رجوع إلى الظروف التاريخية الخاصة بالأُطُر الثقافية المختلفة. في القسم الثالث من مقالته، قام برفض هذه الفكرة بوصفها عقلانية مُفرطة «تُهملُ المشكلة الأساسية أي مشكلة إظهار ملائمة الدين للطبيعة من خلال جميع تبدّلات الطبيعة من قرنٍ إلى آخر»[1]. كما أنّ الطبيعة الحيّة للفرد تتضمن بالضرورة تبدّلاتٍ هي بمثابة مجرد زياداتٍ طارئة على مفهوم الطبيعة الإنسانية المحض، فكذلك يكون محتوى الدين الواقعي وضعياً على الدوام بمعنى تضمّنه بالضرورة لمعالم التفصيل التاريخي.

حين ينتقدُ هيغل(Hegel) الدين الوضعي، فإنه يشير إلى طريقة محددة لتحليل أهمية الدين. يُخبرنا هيغل(Hegel) أنّ «مسألة الوضعية لا تؤثر على محتوى دينٍ ما بالقدر الذي يؤثر فيه أسلوب تصوّر الدين[2]». وعليه، فإن مجرد وجود العوارض التاريخية في تعاليم الدين ليس هو المشكِّل لوضعيته، بل إن إضفاء المعنى الخارق للطبيعة بالتحديد على هذه العوارض ـ وهي لا تمتلكه فعلاً ـ هو الذي يشكل وضعيته. بنحو أكثر تحديداً، يكون الدين وضعياً حين يتم فهمه كفرْضٍ تعسُّفيٍ ومتسلط لمنظومةٍ من العقائد والأوامر من قبل إله متعالٍ بالأصل. على النقيض من ذلك، فإن أي دينٍ مهما كان مُثقلاً بالتفاصيل التاريخية يُمكنه تفادي تهمة الوضعية إذا تم فهمه على أنه ينقل للانسان الحقيقة الإلهية الكامنة في أعماق ذاته ـ وهي حقيقة يتمُّ تفعيل قوتها المنشِّطة من خلال إلتزام الإنسان الحر والموقّر للقانون الأخلاقي.

من المهم أنه حتى في هذه المرحلة المبكرة من فكره، قام هيغل بربط مسألة

(54)

الوضعية بقضية العلاقة بين الطبيعة الإنسانية والإلهية، وبين المحدود والمطلق. بالفعل، يُلاحظ هيغل(Hegel) بنحو صريح أنّه «لا يُمكن فحص هذه المسألة بتمعّن وبشكل تام من دون تحوّلها في النهاية إلى معالجة ميتافيزيقية للعلاقة بين المحدود والمطلق[1]». بالرغم من ذلك، فإنه يشير إلى أنّ تطور هذه المعالجة الميتافيزيقية ليس هو هدف هذه المقالة، بل إنّ همّه الأساسي هو إثبات مبدأه العام بأنّ «هدف كل دين حقيقي وجوهره ـ بما في ذلك ديننا- هو الأخلاق الإنسانية، وإن جميع العقائد الأكثر تفصيلاً في المسيحية ووسائل نشرها وكافة فرائضها... تُقدّر قيمتها وقدسيتها وفقاً لعلاقتها القريبة أو البعيدة بذلك الهدف»[2].

في «روح المسيحية ومصيرها»، يُلاحظ المرء تطوراً مهماً في محاولة هيغل(Hegel) لإبعاد الرأي الذي يُفيد بأنه حين يتم فهم الدين المسيحي بشكل صحيح، فإنه يحتوي العزلة الانسانية. من هنا،لم يعد يعتبر هيغل أنه من المناسب مجرد استبدال الوضعية الكامنة في المسيحية التقليدية بتفسيرٍ يُظهر المسيحية كدين للفضيلة يُجسد عقيدة كانط المتمثّلة بالموافقة الحرة للانسان على أخلاقٍ مفروضةٍ ذاتياً. في الواقع، إن تأثير عصر التنوير قد فسح المجال بشكلٍ عام لنظرةٍ أكثر عاطفية حيث يُقترح بأن وحدة الوجود التي تتشكل من الحب بدلاً من القانون الأخلاقي للعقل العملي هي الرسالة الجوهرية للمسيحية.

في هذه المقالة، تمّ انتقاد الدين اليهودي كمتسببٍ بتجريد راديكاليٍ للإنسان من الإنسانية. يُحتج بأنه في اليهودية يتم خفض الإنسان إلى مستوى العبد الذي يخضع بصورةٍ عمياء إلى تقييد شرعي جائر مفروض من قبل سلطةٍ خارجية تحت اسم الإله الكلي القدرة والمتعال. إله اليهود هو سيدٌ متسلط، واليهود أنفسهم شعبٌ معزولٌ ومنسلخ.

(55)

وفقاً لهيغل(Hegel)، فإن هدف تعاليم المسيح كان التغلب على هذه العزلة الإنسانية. ولكن إذا كان هذا هو الحال، فمن غير المفيد تحليل هذه التعاليم على ضوء الاحترام الكانطي للقانون الأخلاقي، وهي مقاربةٌ تُشير إلى اختلافٍ حاد بين الوظيفة والميل. في التحليل النهائي، إنّ عقيدة كانط(Kant) حول الإرادة المستقلة التي تنشر الأخلاق العامة هي بحد ذاتها نوع من التقييد الشرعي وبالتالي تكونُ مصدراً للعزلة. لا تعدو أن تكون العلاقة بين السيد والعبد كامنة فيها، ويهيمن الانسان بوصفه عقلاً مشرِّعاً كونياً على الانسان بوصفه فرداً عاطفياً حياً. يُطالَبُ الإنسان بالخضوع للأوامر العقلانية التي، فيما يتعلق بعواطفه وميوله، تكون مفروضة ووضعية تماماً كأيٍّ من الوصايا الدينية الوضعية. وعليه، وفق هذه النظرة، يتم محو الوضعية بشكل جزئي فقط. بالتالي، يُلاحظ هيغل(Hegel) أنه «بالمقارنة بين شامان التونغويين[1] ((Shaman of the Tungus، والأسقف الأوروبي الذي يحكم الكنيسة والدولة، والفوغليين[2]((Voguls، والبيوريتانيين[3](Puritans) من جهة، وبين الرجل الذي يُنصت إلى أوامره الخاصة لامتثال الوظيفة من جهة ثانية، فإن الفرق لا يكمن في أن اولئك يجعلون أنفسهم عبيداً بينما الأخير هو حرٌ، بل في أن ربَّ اولئك خارجٌ عن ذواتهم بينما الأخير يحمل ربّه في نفسه، ولكنه في نفس الوقت عبدُ نفسِه»[4].

المعنى الحقيقي لتعاليم المسيح هو أنه ينبغي لأخلاقيات القوانين والقواعد أن تفسح المجال لأخلاقيات الحب. يَدينُ الإلزام الأخلاقي الكانطي بميزته الإلزامية إلى

(56)

انقسامٍ مفترضٍ دائم بين الواجب والميل. كتعليمٍ أخلاقي، يفتخرُ بأنّه يجعل الميل تابعاً للواجب. بكلمةٍ أخرى، يتقبّل أن الانقسام داخل الإنسان هو أساسي ويقترح كتصوُّرٍ أخلاقي أن يكون الميل الحي تابعاً للحياة كما يُتصوَّر ذلك في أوامر العقل العملي. يُقدَّم احترام الوجوب الكامن في الإلزام الاخلاقي كجوهر الأخلاق. لقد رفض المسيح(Christ) هذه النظرة إلى الوضع الإنساني باعتبارها غير ملائمة، وإنّ عقيدته في الحب «تُبرز ما يُنجز القانون ولكنه يلغيه كقانون، وبهذا يكون أعلى من القانون ويجعله شيئاً زائداً[1]». من خلال تمكيننا من إدراك القيمة الموحِّدة للحب، تغلّب المسيح على العزلة الكامنة في أخلاقيات القوانين والأوامر وأظهر أنه حين يتمُّ فهم الحب كتناغمٍ داخلي بين الميل والعقل، فإنّه سيكون اتجاهاً أساسياً للحياة الإنسانية يتجاوز نظام الواجبات والأوامر. إن التعبير عنه كإلزام لا يلائم إطلاقاً حقيقته التي تفيد أنه تعديلٌ للحياة ذاتها. ولكن إذا قمنا بالاستجابة إلى الموعظة التي تدعو إلى قبول القوة الموحِّدة للحب كمفتاحٍ لأسلوبٍ إنساني حقيقي في الحياة، فسوف يستمر إثبات محتوى القانون الأخلاقي كعاقبةٍ لمنطق الحب، إلا أنه سيكون قد تمّ التغلب على شكله القانوني على وجه التحديد–أي ميزته الشرعية. ما أراد المسيح أن يُنبّهنا عليه هو أنه ينبغي رفع الأخلاق من «الإلزام» القانوني إلى «كينونة» الحب. يظهرُ تفوّق أخلاقيات الحب على أخلاقيات القانون من خلال تضمنه لمحتوى لأخير مع تفاديه لشكله القانوني المسبِّب بالعزلة.

تمتلك هذه البصيرة الأخلاقية نظيراً ميتافيزيقياً،ـ أي أنّ القوة الموحِّدة للحب، بدلاً من ميزة الفكر التحليلية والجاعِلة للموضوعية، هي مفتاحُ حقيقة الواقع.

من خلال الحبّ، يُمكننا التوصل إلى وعي ملموس باتّحاد حياتنا مع الحياة المطلقة، ومن خلالها مع كل الحياة. «الحب بنفسه لا ينطق بأي إلزام. إنه ليس شيئاً

(57)

عاماً في مقابل الخاص، وليس وحدة المفهوم بل وحدة الروح والألوهية. حبُّ الله هو أن يشعر المرء بنفسه في ’كلّ‘ الحياة، من دون قيود، في المطلق»[1].

خلال هذه الفترة المبكرة من حياة هيغل(Hegel) المهنية، كان يرى أن الفلسفة التي تُعتبر حقلاً تأملياً وتحليلياً من دون منازع، هي غير قادرة على تحقيق الإدراك المنطقي بذاك الاتحاد المحِب مع الحياة المطلقة الذي يُحققه الدين. وعليه، في مؤلفه «جزءٌ من المنظومة» (1800)، يُثبت هيغل(Hegel) أن الفلسفة تابعة للدين بالضرورة. «يتم تجاوز هذه الصفة الجزئية للكائن الحي في الدين؛ ترتفع الحياة المحدودة إلى الحياة المطلقة. فقط لأن المحدود بنفسه هو حياةٌ، فإنه يحمل في ذاته إمكانة رفْع نفسِه إلى الحياة المطلقة. لذلك، ينبغي للفلسفة التوقّف قبل الوصول إلى الدين لأنها تمثِّل عملية فكرية، وباعتبارها عملية كهذه فإنّها تُشير إلى تعارضٍ مع (العمليات) غير الفكرية بالاضافة إلى التعارض بين العقل المفكّر وموضوع الفكر.»[2]

يمكن اعتبار المسار اللاحق لحياة هيغل(Hegel) المهنية كمحاولةٍ على المستوى التأملي الفلسفي لحل المفهوم الموحَّد للواقع المتأصل في هذا التفسير المبكّر للمسيحية كوحدةِ وجودٍ تتشكّل من الحب. سعى هيغل(Hegel) لتطوير أسلوبٍ جديد من التفلسُف يمكنه رد الاعتبار إلى المنطق وجعل الرؤية العاطفية حول الواقع -التي كشفها إنجيلُ المسيح في رموزٍ دينية- متاحة له بشكلٍ نظري مُنقّى. وعليه، بينما يمكن اعتبار هيغل(Hegel) عاطفياً بسبب الشوق إلى الاتحاد الذي ألهم فكره، إلا أنه لم يكن عاطفياً على الإطلاق في الأسلوب الذي أشبع فيه هذا الشوق في النهاية. لم يكن يعتمدُ على الصور الشعرية الغامضة أو الحدس الباطني للإعلان عن الاتحاد العميق لكل الواقع، وادّعى أنه قد أظهر هذا الاتحاد كحقيقةٍ

(58)

مفصّلة بصورة وافية ومُثبتة تماماً عبر إجراءاتٍ عقلية حصراً[1].

إنّ فلسفة هيغل(Hegel) المتطورة هي عملٌ فذ يسعى من خلال التأمل المنطقي للتغلب على النتائج المتسبِّبة بالعزلة التابعة لكلِّ ازدواجية زُعم أنها لم تحلّ بعد[2]. إنّ الموضوع الرئيسي لرُشد هيغل(Hegel) الفلسفي هو أنه يمكن الملائمة جدلياً بين المتناقضات المتعددة التي يُنشئها فهمنا (مثلاً: بين الموضوع والمحمول، العقل والطبيعة، الكينونة والفكر، الظاهر والواقع) وذلك من خلال تعقّل فلسفي رفيع. على وجه الخصوص، يسعى هيغل(Hegel) -في اتحاد تركيبٍ أعلى- إلى التغلب على المتناقضات المؤكَّد عليها بين الإنسان والله وبين الدين والفلسفة. إنّ اتجاهه الفكري يُصوّر تحوّل الدين إلى هيئة أصيلة من الوعي الفلسفي الذي يُنتج تفسيراً منطقياً بحتاً للاتحاد النهائي بين الإنسان والله.

تتخذ هذه العقلية الفلسفية شكل ميتافيزيقيا الروح. في هذه الميتافيزيقيا، يتم إظهار الروح كاتحادٍ فعّال لكل التناقضات، ومن المعلوم أن جميع التناقضات هي في النهاية تمايزات ذاتية متصالحة للروح. يتمّ جمع الله والكينونة والفكر في اتحاد عضوي-أي تركيب وجوديٍ إلهي. هذا التركيب ليس فقط الحقيقة حول الواقع بل الحقيقة الحيّة الداخلية للواقع. في تقدير هيغل(Hegel)، إنَّ أي شيء أقل من هذا المجموع الموحَّد الحي لن يُلبّي الحاجة للتساؤل الفلسفي الراديكالي عن الوحدة والشمولية واللامشروطية والاستقلالية. إنّ المبدأ الفلسفي الوحيد القابل للتطبيق بمفرده ـ أي أن ما هو حقيقي هو منطقي وما هو منطقي هو حقيقي ـ يقتضي هذه الوحدة[3].

(59)

إن نقض هيغل(Hegel) لوجود أي تمييز نهائي بين المحدود والمطلق يحمل أهمية خاصة لتحقيق غاياتنا. بنظره، لا يوجد مشكلة كبيرة تتعلق بمعرفتنا بوجود المطلق، ويتحقق ذلك بشكل تلقائي من خلال التسامي الديني للروح إلى مبدأها الحقيقي إذ إنّ الدين بجوهره هو تسامٍ طبيعيٍ للحياة المحدودة إلى الحياة المطلقة. بالاضافة إلى ذلك، فإن هذا الإدراك بوجود المطلق- والذي يمنحنا الاندفاع الديني به طمأنينةً حيةً كهذه- يتم إثباته بسهولةٍ من خلال التقييم التأملي. يُظهِر التأمل أن الفكر، في نفس عملية الالتفات إلى الأبعاد المختلفة للمحدودية، قد تجاوز عوائق المحدودية وأحرز إثباتاً للمطلق باعتباره المصدر المحيي لإدراكه للمحدودية. كما يُعبِّر هيغل(Hegel) نفسه فإنّه: «يتحقق انحصار المحدودية بالنسبة إلينا فقط ما دمنا فوقه وبعيدين عنه...وعليه، يكون المطلق ما هو فوق الحدود وأبعد منها؛ وهو شيء مختلف عن المحدود؛ إنه اللامحدود، المطلق. وعليه، فإننا نمتلك المحدود والمطلق»[1]. بما أن هوية الواقعي والمنطقي هي المنظور الفلسفي الحقيقي، يترتب على ذلك عدم وجود مشكلة في الانتقال من المطلق كحاجةٍ فكرية للتوصُّل إلى الوجود الحقيقي للمطلق. كذلك، لا توجد فجوةٌ بين المحدود والمطلق ينبغي سدّها عبر مناقشةٍ تعتمد على السببية، لأن وجود المطلق ثابتٌ في جدلية الفكر ذاته الذي يكشف المنطقي، وبالتالي العلاقة الحقيقية بين المحدود والمطلق. تمّ إقصاء اعتراضات كانط(Kant) على الإثبات الميتافيزيقي لوجود المطلق باعتبار اعتمادها على تقابلٍ باطلٍ بين الواقعي والمنطقي. يُمكن أيضاً ردُّ الاعتبار إلى «الأدلة» التقليدية على وجود الله في الإلهيات الطبيعية ـ مع الاعتراف بأنّ ذلك يتمُّ على نحو مُعدَّل ـ وذلك حين يتم التخلي عن هذا التقابل الوهمي ويتم تثمين العلاقة الحقيقية بين المحدود والمطلق. يُمكن منح هذه الأدلة دوراً وقيمة مُحدَّدَين ومتواضعين، ولكن ليس كإيضاحات منفصلة وموضوعية لمطلقٍ مجهولٍ سابقاً، بل كإيضاحات وصفية للحركة الدينية الأكثر أساسية للروح والتي

(60)

بواسطتها ترفع نفسها من الحياة المحدودة إلى الحياة المطلقة. بكلمة أخرى، «ينبغي أن تتضمن تسامي الروح الإنسانية إلى الله، وأن تقوم بالتعبير عنها للتفكر»[1].

وعليه، بالنسبة لهيغل(Hegel)، يكون المحور الحقيقي للاهتمام في المناقشة الفلسفية عن الله ليس وجود المطلق بالقدر الذي هو حقيقة طبيعته وعلاقته مع المحدود. كما يعبّر أحد المعلّقين فإن: «الهدف المناسب للنشاط الإثباتي في فلسفة هيغل(Hegel) حول الله ليس الإثبات الوجودي بل حقيقة الواقع الإلهي المعروف بكونه الحياة المحتوية لكل الطرق المحدودة للفكر والكينونة»[2].

يُصرُّ هيغل(Hegel) أنه لا ينبغي أن نرضى بمجرد إثبات المطلق، أو أن تردعنا العبارات المملة المنصاعة والمتعلقة بتمام اختلاف المطلق وعدم إمكانية معرفته. «ينبغي أن نخلّص أنفسنا تماماً من هذا التقابل بين المحدود والمطلق، وأن نفعل ذلك من خلال اكتساب البصيرة بالحالة الواقعية للقضية.»[3] يمكن اعتبار أن كل فلسفته حول الروح هي جهدٌ دؤوب لاكتساب هذه «البصيرة بالحالة الواقعية للقضية».

طبقاً للحاجة لهذا الاتحاد الذي يُحيي كامل فلسفته، قام هيغل(Hegel) برفض أيِّ تعارضٍ نهائيٍ بين المحدود والمطلق. على النقيض من الفهم التقليدي السببيّ للعلاقة بين المحدود والمطلق- والتي طبقاً لها يعتمد المحدود بشكلٍ تامٍ على مطلقٍ مُتعالٍ، مُكتفٍ ذاتياً، ومستقل جوهرياً وأبدياً عن النظام المخلوق بشكلٍ حر للكائن المحدود ـ يصفُ هيغل(Hegel) نظام الكائن المحدود كبُعدٍ ضروري للعملية التي يقوم المطلق من خلالها بتحقيق واقعه التام والحقيقي كمطلق. إنّه يُنجز ذلك عبر عمليةٍ من التمايز الذاتي والتوسط والتي يقوم الكائن المحدود من خلالها بإنكار الإثبات النظري لنفسه كهوية محضة، وبالتالي يرجع إلى إثباتٍ فعلي لنفسه من خلال إنكار هذا

(61)

الإنكار. «بالتالي، يشكّل المحدود لحظةً مهمة من المطلق الكامن في طبيعة الله، وعليه يمكن القول بأنّ الله نفسه هو من يجعل نفسه محدوداً، ويُصدر العزائم في ذاته.»[1]

في مهمته للعثور على نظرية موحَّدة عن الواقع، لا يخضع هيغل(Hegel) لأيِّ طريق مختصر قد يورّطه بشكلٍ واضح في الإلحاد من خلال إنكار حقيقة المطلق، أو قد يورطه في الأكوزمية الحلولية[2](PantheisticAcosmism) من خلال إنكار حقيقة المحدود. ينبغي الاجتهاد في إثبات كُلٍ من الواقع الأصيل -ولكن النسبي- للمحدود والواقع التام وغير القابل للاختزال للمطلق، ولا ينبغي محو الفرق بينهما. ما ينبغي التغلب عليه هو ميل الفكر التصوري الديني والأفكار المجرّدة المحضة في مقولات الفهم إلى تجميد هذا التمايز في تعارضٍ صلبٍ وسريع ونهائي. المطلوب هو توفُّر الفكر الجدلي لفلسفة الروح المطلقة التي تكشف عن الهوية الفارقة بين المحدود والمطلق. حين يتم التعبير عن هذه الفلسفة بالمثالية المطلقة، فإنها تُظهر أن الهوية الأساسية الكامنة في التمايز بين المحدود والمطلق هي عملية الروح المطلقة الضرورية والمحقِّقة للمحدودية ذاتياً، والتي تقوم من خلالها بتحقيق شموليتها الفعلية كروحٍ مطلقة. حين يتمُّ فهم تمام النظام المحدود المتوّج بالنشاط الديني ولا سيما الفلسفي للروح الإنسانية كجَعلٍ موضوعي للحياة الإلهية، فإنّه يُعتبر ضرورياً إذا أراد الله تحقيق العلم الفعلي بواقعه غير المحدود الذي يُشكّل حقيقته المطلقة الصحيحة. ينبغي فهم كل التقلبات وحالات العزلة المتأصلة في العالم المحدود ـ التي هي من سمات هذه المرحلة من « الله في تمايزه» ـ كملازماتٍ ضرورية للعملية التي تقوم الروح المطلقة من خلالها بالعودة إلى إدراك نفسها (بمعنى مزدوج يفيد المعرفة والتحقق الواقعي) عبر الحركة الدينية والفلسفية لتحرير الوعي المحدود المتجاوز لذاته. باختصار، فإنّ كُلاًّ من المحدود والمطلق يحتاجان لبعضهما ولاتحادهما المتمايز لتحقيق واقعهما

(62)

الحقيقي ووضوحهما التام.

يُلخِّص الاقتباس الطويل التالي نظرة هيغل(Hegel) فيما يتعلق بعلاقة المحدود والمطلق:

«لدى التفكُّر العقلاني والمتطور منطقياً بالمحدود، لا تعودُ تمتلك الأشكال البسيطة من الافتراض أي قيمة. الله مطلق وأنا محدود؛ هذه تعبيرات باطلة وسيئة، وصيغٌ لا تتطابق بشكل متناسب مع ما هو عليه المفهوم ـ أي طبيعة الموضوع الحقيقي. المحدود ليس هو الشيء الكائن،كما أنّ المطلق غير محدّد؛ هذه التحديدات هي مجرد أبعادٍ للعملية. من الصحيح أيضاً أنّ الله موجودٌ كمحدود والأنا كلامحدود. حين يُفهم بمعناه الحقيقي، فلا يمتلك ’الكائن‘ أو الموجود الذي يُعتبر ثابتاً في هكذا افتراضات أي معنى غير النشاط والحيوية والروحانية.

كذلك فإن المحمولات غير كافية في التعريف هنا، وبالأخص تلك التي تكون أحادية الجانب وعابرة. ولكن على العكس فإنّ ما هو حقيقي، أي ما يُشكّل المفهوم، موجود فقط كحركة. وعليه، فإنّ الله هو هذه الحركة في ذاته وبالتالي هو وحده الإله الحي. ولكن لا ينبغي الإبقاء على هذا الوجود المنفصل للمحدود؛ بل على العكس ينبغي إلغاؤه. الله هو الحركة نحو المحدود، وبفضل ذلك يكون هو-إذا جاز التعبير- الرافع للمحدود نحو ذاته. في الأنا، كما في ذاك الذي يُبطل نفسه باعتبار أنّه محدود، يعود الله لنفسه وفقط من خلال هذه العودة يكون هو الله. من دون العالم، الله ليس الله.»[1]

يمتلكُ هذا التفسير العالمي للعلاقة بين المحدود والمطلق انعكاسات كبيرة على جهاتٍ عديدة. لا يشيرُ هذا التفسير فقط إلى قمة الاعتقادات الفلسفية السابقة واللاحقة لديكارت وإلى تركيب عناصرها، ولكنّه يشيرُ أيضاً بشكل أعمق إلى منحىً جديد، إلى «الآوفهبونغ»( Aufhebung)، وهو مضمونٌ فلسفي جديد يُبدّل معنى

(63)

معطيات التأمل الفلسفي بالاضافة إلى الفلسفة نفسها. على وجه الخصوص، يؤثّر هذا المضمون على المناقشة الفلسفية التي تدور حول الله والدين والعزلة. من خلال الإحداثيات الجديدة التي أنشأها المضمون بين هذه المواضيع، ظهر الإطار الذي على ضوئه يُوضّح الإلحاد المعاصر نفسه ويقوم مقدارٌ كبيرٌ من الإيمان المعاصر المفترَض بالتعبير المتحيّر عن نفسه.

إذا أراد أحدهم أن يحدِّد أن فلسفةً ما هي إلهية من خلال الإشارة إلى كُلية الحضور والمركزية في رجوعها لمسألة الله، إذاً سوف تُصنّف فلسفة هيغل وفق هذا المعيار كإلهيةٍ بشكلٍ حاسم وحتى على نحوٍ مُبالغ فيه. إلا أنّ هذا الوصف هو إفراطٌ في التبسيط مع احتمال كونه مُضلِلاً، ويُشتبه بأنّه كان السبب وراء الكثير من الكلام الفلسفي المتعارض لأنه يفشل في مراعاة التحوُّل العميق في المعنى الذي مرّ به مصطلح «الله» في سياق الفكر الهيغلي.

من السمات المندرجة في الدلالة التقليدية لكلمة «الله» (أو على الأقل في دلالة كلمة «الله» في الاتجاه الفلسفي السائد في العصر المسيحي) ما يلي: 1) الحرية المطلقة فيما يتعلق بالخلق؛ 2) التعالي الكامل في مقابل نظام الكائن المحدود؛ 3) البقاء الأبدي للكمال. من المعترف به أن هذه النقاط تَظهر من جديد في المفهوم الهيغلي حول الله ولكن بنحوٍ معدّل إلى حدٍ كبير.

تحدّث هيغل(Hegel) عن «النشاط الحر المبدع الذي يمكنه تحقيق ذاته دون مساعدةِ مادةٍ موجودة خارجه»[1]. على نحو مماثل، يُخبرنا بأنّ «الله يخلق عالماً، فالله يُحدِّد؛ أما خارج ذاته فلا يوجد شيء ليحدده. إنه يحدد نفسه حينما يتصوّر نفسه، ويضع آخراً مقابل نفسه حين يكون هو والعالم أمرين اثنين. الله يخلق العالم

(64)

من لا شيء»[1]. وعليه، يُثبت هيغل(Hegel) المفهوم التقليدي للحرية الإلهية بالنسبة إلى الخلق، وذلك إلى درجةٍ يُصرُّ فيها أنّه لا يمكن إجبار الله على خلق أيِّ شيء خارج طبيعته لأنه بغير الخَلق لا يوجد أي كائن خارجي عن الله. بالرغم من ذلك، فإنّ المفهوم التقليدي يتقدّم ويصرُّ بأنّه لا يمكن أن يقال بإجبار الله على الخَلق بواسطة أيّ ضرورة جوهرية في الطبيعة تدفعه نحو تعبيرٍ أعظم عن الذات. بوصفه الكمال المطلق، فإنه يتمتّع فعلياً وأبدياً بجميع موارد الكينونة، ولا يمكننا في المفهوم التقليدي أن ننسب أي ضرورة للخلق إلى العقل أو الإرادة الإلهيين. لا يمكن أن يُقال بأنّ الإرادة الإلهية تُوجب منحَ الوجود وكأنّ ذلك يُحقق نهايةً منشودة. على العكس من ذلك، فإنّ الحب الإلهي للكمال يجد الرضا الكامل في الكيان الإلهي المطلق فعلياً. يتمُّ تبنِّي أيَّ قرار للخَلق ليس من أجل إحراز الكمال غير المتحقَّق، بل بمقتضى خيارٍ حر لنقل كمالٍ مملوكٍ بشكلٍ تام مُسبقاً.[2]

لا يمكن أن يرضى هيغل(Hegel) بهذا المفهوم الأكثر تشدّداً حول الحرية الإلهية إذ إنَّ «خَلق» النظام المحدود برأيه هو ضرورة ذاتية للطبيعة الإلهية. بإمكان المطلق تحقيق واقعه الحقيقي فقط بمقتضى سَير الروح في عمليات الواقع المحدود وعبرها. تستطيع الطبيعة الإلهية إحراز التعبير الكامل والتحقق التام لغائيتها الذاتية فقط من خلال تحقيق ذاتها خارجياً في نظام الكائن المحدود. «من دون العالم، الله ليس الله».

لقد تأثّر معنى التعالي الإلهي كذلك في الرؤية الهيغلية. سابقاً، كان يدل مفهوم التعالي الإلهي أنّ الله، بمقتضى كماله المطلق، هو متميزٌ بالفعل ومستقلٌ واقعاً عن كامل النظام المحدود المخلوق. يشيرُ هذا المفهوم إلى أن الكمال الإلهي غير معدَّل جوهرياً وغير مقيَّد بواقع الكائنات المحدودة، ويؤكِّد أنّ المحدود والمطلق يمثّلان

(65)

مستويين من الكينونة غير قابلين للقياس بتاتاً. إذا أمكن القول بأنّ الطبيعة الإلهية تحتوي مُسبقاً وبشكلٍ جليٍّ على كمال الحقائق المحدودة المخلوقة، فإنّ ذلك هو بفضل كمالها الخاص المطلق وعلى غِراره، ولا تتأثر بأي نحو من الأنحاء في كينونتها بالمحدودية التي تميّز نمط واقع الكائنات المخلوقة[1].

قام هيغل(Hegel) أيضاً بإثبات تعالي الله واحتجّ بوجود اختلافٍ بين المطلق والمحدود. إن الكمال المطلق للحقيقة الإلهية غير قابل للاختزال في أي مجموعة مُقدَّمة من الحقائق المحدودة ولكن، على النقيض من النظرة التقليدية، لا يتم تصوّر هذا الاختلاف وكأنّ حقيقة المطلق مستقلة عن حقيقة المحدود. إنّ مفهوم هيغل(Hegel) حول الهوية الفارقة للمحدود والمطلق تقتضي فهمَ التعالي كخاصيةٍ للحياة الإلهية تسري في أرجاء النظام المحدود بدلاً من كونها صفة لله تُفيد استقلاله الجذري عن النظام المحدود. بالمقابل، تُعتبر مملكة المحدود سمة أساسية في التشكل الذاتي لحياة الله.[2]

من ناحيةٍ تقليدية، يُعتبر هذا المفهوم محاولة للقيام بالمهمة المستحيلة المتمّثلة بإنصاف التعالي الإلهي على ضوء حلول الله في المحدود واشتراك المحدود في الله، ولكن مع نبذ عقيدة الاكتفاء الذاتي لكمالات الله المطلقة في مقابل المحدود. بالفعل، فإنّ نظرة هيغل(Hegel) إلى التعالي تدلُّ على «التجاوز الذاتي» الديناميكي للروح للوصول إلى اختلافها الخاص في الأبعاد المتنوّعة من المحدودية، والتجاوز الذاتي المقابِل للمحدود الذي يُنجز أخيراً التحقق التام للروح المطلقة. وعليه، بالنسبة لهيغل(Hegel)، لا يدلُّ التعالي على مُلكٍ ثابتٍ وغير متغيِّر لله بل على نشاطٍ ديناميكيٍ يُحيي الهوية الفارقة للمحدود والمطلق.

(66)

تتضمّنُ معالجة هيغل(Hegel) للحرية للحرية الإبداعية والتعالي الإلهي تعديلاً مُماثلاً للمفهوم التقليدي عن كمال الله الثابت إلى الأبد. سابقاً، كان يدلُّ هذا المفهوم على «امتلاك (الله) المتزامن والكامل والممتاز للحياة غير المتناهية»، وعبّر عن تعالي الله فوق الوقت في وجوده وفعله، واستثنى من الكمال الإلهي أيَّ اقتراح يُفيدُ التعاقب الزمني أو عملية التغيير.[1]

تحدّث هيغل(Hegel) أيضاً عن كمال الله الثابت والأبدي. «إنّ المفهوم المطلق الأبدي، في وجوده الجوهري، في نفسه ولذاته، هو الله بأبديّته قبل خَلق العالم وخارج العالم.»[2] حتى أنّ هيغل(Hegel) قد تناول هذا الموضوع بشكلٍ شِعريٍ تماماً حين يُخبرنا بأنّ «الله موجودٌ في حقيقته الأبدية، ويُعتبر هذا هو الوضع الذي كانت عليه الأشياء الموجودة قبل الوقت، كالوضع الذي كان عليه الله حين سبّحته الأرواح المباركة ونجوم الصباح والملائكة وأولاده»[3]. ولكنّ هذا التعبير بالنسبة إليه هو فقط أسلوبٌ تقريبي وتجريدي للتفكّر في الكمال الإلهي، ويُمثّل تفكيراً نظرياً محضاً بخطةٍ كونيةٍ للحقيقة الإلهية. «يحتوي هذا الكليُّ على المفهوم التام, ولكنّه يحتويه فقط، ويمثّل مجرد احتمال المفهوم.»[4] إنّ التحقق الفعلي لهذا الاحتمال يقتضي عمليةً تاريخيةً كاملةً من التجلي. تستطيع احتمالية الروح التوصّل إلى تملّكٍ واعٍ لنفسها فقط عبر الحركة الجاعلة للمحدودية ذاتاً والمتمثّلة بالتحقق الخارجي وإعادة الحيازة التاريخية التأمّلية. «الروح هي تماماً هذا الفعل المتمثل بالتقدّم إلى الواقع عبر وسائل الطبيعة، ومن خلال إلغاء هذا التعارض توجد لذاتها وتكون روحاً.»[5]

(67)

وعليه، بصرف النظر عن التوتّر الميتافيزيقي الواضح والحاد بين فكرتيّ الكمال الأبدي المطلق والعملية التاريخية المحدودة، يُحتّم السياق التام لنظرة هيغل(Hegel) عليه أن يربطهما معاً في مفهومه عن الله.

تُوضِّحُ هذه الاعتبارات التحوّلَ العميق الذي مرّ به الفهم التقليدي «لله» في إطار فلسفة هيغل(Hegel). من نظرةٍ إلهية، يُفيدُ التحليل المعتدل لإنجازه بأنّه من خلال التحسين البارع لفهمنا الفلسفي للطبيعة الإلهية، قام هيغل(Hegel) بصيانة الإثبات الأصيل لإله المسيحية من أجل الإنسان المعاصر[1]. على وجه التحديد، يُحتجّ بأنّه قد لائم بين إثبات الله كالمصدر المطلق لكل المعنى والقيمة مع الادّعاءات الطارئة حول الذاتية والإبداع الإنسانيين، وذلك عبر الكشف عن الهوية الأساسية التي تُشكِّل أساس الاختلاف بين الإنسان والله وتُعزّزه. لقد أظهر هيغل(Hegel) أنّه يُمكن القول بأنّ الإنسان والله معاً هما مصدر المعنى والقيمة في العالم لأنّ هذا التمايز يُفهَم كتعبيرٍ عن أبعادٍ مختلفة فقط للواقع المطلق نفسه.[2]

بالرغم من أنّ هذا التحليل لفلسفته حول الله يبدو وفياً لمقصد هيغل ولقناعته المعبَّر عنها، إلا أنه تفسيرٌ غير مناسب للنتيجة الفعلية لمسعاه. يحتجّ تقييمٌ أكثر تحفُّظاً لإنجازه بأنّ أثره المجموعي هو إزالة إثبات الله واستبداله بعقيدة غير إلهية في الجوهر متمثّلة بالروح المطلقة. وعليه، كما يُعلِّق البروفيسور كولينز(Collins) بحق، فإنّ نتيجة المفهوم الجديد هو إرساء الحقيقة حول الله والإيمان من خلال توضيح قصورهما وعدم اكتراثهما بالطبيعة الحقيقية للمطلق. بالتالي، بدلاً من التحديد المؤقت والفضفاض نوعاً ما لفلسفته بأنّها وجودية-إلهية-منطقية، «يُسمّى

(68)

الإطار الحاكم لفلسفة هيغل(Hegel) بشكلٍ أدق منطقاً وجودياً روحياً، وذلك من أجل التأكيد على محورية مفهومه الفريد عن الروح المطوِّرة لذاتها»[1]. يتمّ تعزيز هذا الادّعاء عبر تناول تفسير هيغل(Hegel) للعلاقة بين الدين والفلسفة وتداعياته على موضوع العزلة الإنسانية.

بالنسبة لهيغل(Hegel)، فإن الدين والفلسفة هما من دون شكٍ أكثر نشاطَين ساميين للإنسان، وبنحوٍ أهم هما أكثر نشاطين حاسمَين في إحراز التحقُّق الذاتي الكامل للروح المطلقة.  في كلٍّ منهما، تتجلى الروح بشكلٍ واعٍ لنفسها. كلٌّ منهما ضروريان في هذه العملية من التجلي الذاتي التي تحتوي على التعبير عن كل الطبيعة والتاريخ الإنساني. ولكنْ في الفلسفة وحدها تستطيعُ هذه الصياغة الذاتية للروح تحقيقَ الإدراك بنفسها بنحو ملائم وبشكلٍ صافٍ مناسب.

كما سبق ورأينا، فإن الدين بالنسبة لهيغل(Hegel) ينشأ في الوعي الإنساني كارتقاءٍ تلقائي وتجاوزي للذات من الحياة المحدودة إلى الحياة المطلقة، إلا أن هذا المصدر المتواصل التلقائي للدين ليس فورةً عاطفية محضة تتضمن الإحساس والحدس والخيال فحسب. باعتبارها بشكلٍ دقيق نشاطاً للروح المحدودة، فإنّها فورة متوسطة تتضمّن عنصر التفكير وليس فقط مجرد الإحساس بالاتّكالية الذي تشعر به حتى الحيوانات التي لا تستطيع تجاوز حدود تجربتها، بل تتضمن أيضاً تسامياً فكرياً أصيلاً لمملكة المحدودية يتمّ عبر المفاهيم المشتقة من مصادر متعددة، كالتجربة المعاشة، والتعليم، والوحي[2]. إنّ التقييم الحقيقي لبُعد الدين التلقائي والسابق للتأمل، والوتر المتجاوب الذي يثيره في الإحساس والانفعال الإنساني، ليس تشددّه أمام التعبير المنطقي بل يكمنُ في أنّ الدين في أصله ومعناه الأعمق هو فعلٌ إلهيٌ

(69)

غير إنساني ونشاطُ الروح المطلقة الذي يتمّ عبر الوسائل المحدودة للذاتية الإنسانية. «وعليه، الدين هو معرفة الروح الإلهية بنفسها من خلال توسّط الروح المحدودة»[1].

يُمثّل الدين مرحلةً حاسمة ولكن غامضة لحياة الروح المطلقة. إنّها حاسمة لأنها تشير إلى الاسترداد الذاتي الواعي للروح من تشتُّتها وتحقُّقها الخارجي الضروريين في الطبيعة والمؤسسات الثقافية المحدودة. وإنّها غامضة لأنه بالرغم من كونها تعبيراً حقيقياً وضرورياً للامتلاك الواعي للروح لنفسها، إلا أنها لا تمثّل التعبير القطعي عن هذا التملُّك الذي يتحقق بصورة نقية فقط حين يتمّ تحويل الدين إلى الفلسفة. إنّ الدين، وحتى «الدين الكامل»، ليس مناسباً للصياغة الملائمة لمحتواه الخاص ـ وهي صياغةٌ تقوم فلسفة الروح وحدها بتأمينها.

يُعلنُ الدينُ المصالحةَ الواعيةَ للروح مع نفسها، إلا أن معانٍ إضافية لعملية العزلة الطويلة ـ التي تمّ التغلّب عليها- تصبغُ شكل هذا الإعلان. بالرغم من أنّ موضوعه هو المطلق، إلا أنّ الدين يُصوّر هذا المحتوى بطريقةٍ متصلة بمقامه كوسيطٍ بين المملكة المحدودة للشعور والإدراك من جهة، وبين التأمل النقي المتحرر للفلسفة من جهةٍ أخرى. إنّ الدين يُصوّر محتواه كشكلٍ من الفكر التصويري (فورستلونغ)[2]، وهو شكلٌ فكري مُعلَّق بين خصوصية الصورة وشمولية الفكر المنطقي. إنّه يسعى لإحراز المعنى النقي الشامل المشار إليه في الصورة الفردية المحدودة للمطلق، ولكنّه يفشلُ في تخليص نفسه بشكلٍ فعّال من القبول الشعوري و«الطبيعي» للصورة ويتوصّل فقط إلى بيانٍ مُحدَّد وتوقُّعي للمطلق. استناداً إلى هيغل(Hegel)، ينبغي علينا حين التفكير في تعاليم الأديان المختلفة أن نتذكّر أنّها تُعبّر عن نفسها على هيئة الفكر التصويري. وعليه، ينتمي مثلاً موضوع الأب المنجب للابن، وقصة الخَلق،

(70)

ورواية ولادة المسيح(Jesus) وموته وبعثه إلى ميدان الفكر التصويري الذي تُتاح حقيقته بشكلٍ نقيٍ فقط عبر الفلسفة.

بالرغم من أنّ الدين «يقصدُ» التصالح الحيّ الواعي بين المحدود والمطلق، إلا أنّ جذوره الكامنة في الشعور والتقييد الملازم لشكله التصويري الفكري الخاص يُعرّضانه إلى خطر تشويه العلاقة الحقيقية بين المحدود والمطلق بطرقٍ مختلفة. إنّه يميلُ على سبيل المثال لتصوير قُطبيّ هذه العلاقة بتعارضٍ مُبالَغٍ فيه إلى الحد الذي يكون الرابط الواعي الوحيد الذي يُمكن ادّعائه بينهما هو «الوعي الحزين» بعلاقة المولى والعبد[1]. بالاضافة إلى ذلك، تبقى هذه الحقيقة غير مُنكشفة بنحوٍ مُناسب ـ حتى حينما يجد الاتحاد الأساسي للاختلاف بين المحدود والمطلق التعبيرَ الديني الحقيقي في عقائد المسيحية. السبب هو أنّه يتمّ تصويره على هيئة العلاقات الخارجية والأحداث العرضية؛ وليس على الهيئة المنطقية الصارمة المتمثلة «بالترابط الداخلي والضرورة المطلقة» التي يتمّ من خلالها تحقيق التحرُّر الكامل للروح أخيراً. «يتخذُ شاهِدُ الروح في صورته العُليا شكلَ الفلسفة التي، طبقاً لها، وبنحوٍ نقيٍ كما هو، ومن دون وجود أيِّ افتراض، يقوم المفهوم بتطوير الحقيقة من ذاته وندرك أنّه يتطوّر ونستشفُّ ضرورة التطوّر في التطوّر نفسه وعبره»[2].

وعليه، من خلال العودة إلى فلسفته حول الروح حين تُؤخذ كمعيارٍ مطلق للوعي الحر والمتكامل، يُنشئ هيغل(Hegel) إضفاءَ الطابع النسبي النقدي على الدين، ومعياراً يُمكّنه من الكشف عن دليل وجود العزلة الإنسانية في الأشكال التاريخية المختلفة من الدين الوضعي. وعليه، فقد تمَّت الإشارة بشكلٍ كامل في كتاباته الإلهية

(71)

المبكرة إلى أنّ موضوع الوضعية الدينية «لا يمكن تتّبعه بشكلٍ مدروس وتام من دون أن يتحوّل في النهاية إلى معالجةٍ ميتافيزيقيةٍ للعلاقة بين المحدود والمطلق». على النقيض من رأيه السابق، فإنَّ الدين بحد ذاته، وليس الوضعية فقط، يخضعُ للمنطق الأعلى للمنظومة الفلسفية وهو مُستَوعَبٌ فيها.

لا يمكننا الدخول هنا في تفاصيل تحليل هيغل(Hegel) الشيّق للغاية لأديانٍ محدَّدة ومختلفة على ضوء تصويرها لله والإنسان. كذلك، لا يُمكننا مناقشة تفسيره حول التدرّج المنطقي باتِّجاه التحرير الروحي الأصيل الذي يتحقّق عبر السلسلة الزمنية لأديانٍ محدَّدة. بالرغم من ذلك، وكما يُتوقَّع، فإن هيغل(Hegel) يكشف عن وجود مستوىً عميق جداً للعزلة في أشكال الدين التي ـ على النقيض من مفهومه الخاص للروح المطلقة ـ تُعلّق أهميةً خاصة على إعلان التعالي الكامل لله في مقابل النظام المحدود. لقد ظهر هذا بوضوح من خلال معالجته للدين اليهودي.

كما يصفُها هيغل(Hegel)، فإنّ اليهودية هي دين التعالي الإلهي من دون منازع[1]. تؤكِّدُ اليهودية أنّ الله هو الرب الفريد الجبّار، وأنّ العالم المخلوق يعتمدُ بشكلٍ كاملٍ على عظمته العُليا غير القابلة للإدراك. العلاقة الأساسية بين الإنسان والله هي علاقة بين العبد الفاقد للقيمة والسيّد المطلق، وخلقَ الله جميع البشر من أجل شرفه ومجده الخاص. أمّا على المستوى العملي، يُمكن تحقيق هذا الهدف فقط من خلال شعبٍ مختار إلهياً ـ وبالتالي مُنعزل ـ وهم اليهود(Jews). بالفعل، إنّه إله إبراهيم(Ibrahim) وإسحاق(Isaac) ويعقوب(Yacoub).

   وفقاً لهذه النظرة إلى العقيدة اليهودية، فإنّ الشرط اللازم لسيطرة الإنسان على الطبيعة ولسعادته العملية ولحيازته على الأرض الموعودة هو الاعتراف بالسيادة

(72)

المطلقة والمبدعة لله على الطبيعة والحياة الإنسانية، وهو اعترافٌ ينبغي مدّه بالخضوع الكامل للقانون الإلهي كما هو. ينبغي تنظيم النطاق الكامل لأفعال المؤمن الحقيقي بأدقِّ التفاصيل طبقاً للقوانين المقبولة والمطاعة، وليس انطلاقاً من العقل البشري بل انطلاقاً من صدورها من الله. «لذلك، فإنّ شعب الله هم شعبٌ تمّ تبنِّيه عبر الميثاق والعهد، بشرط الخوف والخدمة.»[1]

بناءً على ذلك، يعتبرُ هيغل(Hegel) أنّ اليهودي هو عبدٌ قد انعزل عن حريته واستقلاله وإبداعه وذاتيته الأصيلين وسلّمها لله. بشكلٍ أدق، فهو لم يُحقق بعدُ إدراكاً واعياً بعلاقته واتّحاده كروحٍ مع المطلق، وبمقتضيات هذه الروحانية التي ينبغي إشباعها في أي علاقة دينية أصيلة مزعومة[2]. بسبب مفهومه البائس عن الحياة الإنسانية، فإنّ اليهودي يخضعُ لشرخٍ مطلق بين الإنسان والله وينسبُ أيَّ مصدر للمعنى والقيمة يإمكانه تزيين الوجود الإنساني إلى العناية الغامضة لربٍ متعالٍ تماماً.

مهّد الألم والعزلة المتأصلَّين في الدين اليهودي الطريق للدين المسيحي الذي هو بالمبدأ تعبيرٌ دينيٌ أصيلٌ عن الوحدة بين المحدود والمطلق. تمّ التغلّب على التعالي الإلهي المستَعْبِد وغير القابل للاختزال، وذلك في عقائد المسيحية المتمثلة بتجسّد ابن الله وموته وبعثه وبسكون الروح في الكنيسة. بالطبع، فّإن محدودية الأسلوب الديني في التصوير يحجبُ الحقيقة التي تمّ التعبير عنها هنا، وينبغي توضيحها على ضوء صياغتها الفلسفية الملائمة. بالرغم من ذلك، فإن ما تُعبِّر عنه ـ ولو بشكلٍ ناقص ـ هو الحقيقة الضرورية بأنّه «قد تمّ نقل الاتحاد بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية إلى الوعي الإنساني وأصبح يقينياً بالنسبة إليه، مما يدلّ على أنّ الغيرية- أو المحدودية

(73)

والضعف والعجز في الطبيعة الإنسانية كما يتمّ التعبير عنها أيضاً ـ ليست متعارضة مع هذا الاتحاد، كما أنّ الغيرية في المفهوم الأبدي لا تُقلِّل على الإطلاق من قدر الوحدة التي يُمثّلها الله»[1].

بالاضافة إلى ذلك، فإنّ الوعي بجعْلِ الله محدوداً في الطبيعة الإنسانية ـ كما يظهر في عقيدة التجسُّد ـ قد تطوّر في عقيدة آلام المسيح وموته إلى وعيٍ بإلغاء هذا الإله المتواري عن الأضواء[2]. إلا أنه قد تمّ إنقاذ هذا الوعي من «أكثر الأفكار رُعباً» وهو أن الله قد مات، وذلك عبر عقيدة القيامة التي تدلُّ على التحقُّق الكامل للمُطلق كروحٍ مطلقة ومتصالحة تماماً. نصلُ إلى الإدراك المحرِّر الذي يُفيد أنه إذا  أردنا التحدث عن الله ينبغي أن نفهمه ليس كالإله المتعالي المجرّد في الإيمان، بل كالمطلق الذي يتحمّل الغربة الذاتية والمحدودية وحتى الموت من أجل إحراز واقعه الروحي الحقيقي كوعيٍ ذاتيٍ كوني.[3]

مع تثميننا بأنّ المفهوم الجديد للحياة الإلهية هو حلٌ حيوي محيط بكل المتناقضات المتعلقة ليس فقط بالمسيح بالبشرية ككل، يمكننا الدخول بشكل تام إلى مملكة الروح. نتغلَّبُ على خصوصيتنا وبالرغم من ضعفنا ومحدوديتنا ندرك أن نفوسنا هي جزء من الحركة الإلهية التصالحية التي نتَّحِدُ من خلالها مع الله وإخواننا البشر. يتمّ التعبير عن هذا الإدراك الجديد في مجتمعٍ روحي نُسمّيه الكنيسة في البيان الديني. في هذا المجتمع الذي يُنشّطه الوعي بمعيّة هويتنا وكليّة الروح الإلهية، نتحد بالمبدأ من خلال الحب الكوني تجاه جميع البشر وبالنهاية مع كل بُعدٍ من وجودنا الدنيوي، على سبيل المثال: الاقتصادي والعلمي والجمالي والسياسي. قبل كل

(74)

شيء، يُقدِّم المجتمع الروحي عبر حياته السياسية أكبر شهادةٍ خارجيةٍ فعّالة على الوعي المحرِّر الذي يُنشّطه. «إنّ التصالح الحقيقي الذي من خلاله يُحقِّق الإلهي نفسه في ميدان الواقع يوجد في الحياة الأخلاقية والقانونية في الدولة.»[1]

يُقيم هيغل(Hegel) وزناً كبيراً لهذه العلاقة الوثيقة بين التحرُّر الروحي المكتَسَب عبر الدين الحقيقي وإحراز التحرُّر الاجتماعي ـ السياسي الأصيل. حتماً، سوف يميلُ النظام الاجتماعي المنسلخ وغير المنطقي والفاقد للحرية إلى حَرْف مهمة الإنسان لنيل الوحدة مع الله، مُحوِّلاً إيّاها إلى شكلٍ مُنعزلٍ من الاعتقاد الديني. ولكن على نحوٍ أهم، لا يوجد احتمالٌ بتحقيق النظام الاجتماعي المتكامل قبل اكتسابنا لشكلٍ مُحرِّرٍ فعلاً من الوعي الديني. السبب هو أنّ « الطابع المحدَّد للعدالة والأخلاق يمتلكُ إثباته النهائي بالنسبة إلى شعبٍ فقط على شكل دينٍ موجود بالفعل، وإذا لم يكن هذا الأخير متناغماً بالجوهر مع مبادئ الحرية ستوجد فجوةٌ على الدوام، أي انقسام أو ازدواجية غير محلولة»[2].

إنّ الفرد الذي حاز على تقديرٍ دينيٍ أصيل للقيمة المطلقة لكل إنسان باعتبار انتمائه لمملكة الروح قد تعالى على كل الاختلافات في السلطة والقوة والمقام والعِرق. إنّه يمتلكُ بصيرةً أساسية بالمساواة بين جميع البشر، وقد تأكّد من الاحتمال والقاعدة الأصيلين في نظامٍ من الحق الشامل وتحقيق الحرية[3]. إلا أنَّ الشكل المنعزل من الاعتقاد الديني ـ الذي يفشلُ في الإعراب عن كون حرية الإنسان بالأساس أمرٌ مملوك ذاتياً باعتباره لحظة داخلية من الحياة الإلهية بدلاً من أمرٍ موضوع في مقابل الإرادة الإلهية المتعالية ومحكومٌ من قبلها- حتماً سوف

(75)

يُثير عزلةً مُتعدِّدة الأشكال في كافة أنحاء ميدان الحياة الاجتماعية والثقافية.

يعتمدُ كلُّ شيء هنا بشكلٍ أساسيٍ على مفهوم الحرية الذي يحمله شعبٌ ما في وعيه الذاتي، لأن تحقُّق مفهوم الحرية يتمُّ في الدولة، والوعي بالحرية الموجودة بفضلها الخاص ينتمي بشكلٍ أساسيٍ إلى هذا التحقُّق. تعيشُ هذه الدول التي لا تعلم أنّ الإنسان هو حرٌ بفضله الخاص في حالةٍ من السُبات من جهة كُلٍّ من شكل حكومتها ودينها. يوجد فقط مفهومٌ واحد للحرية في الدين والدولة، وهذا المفهوم هو أعلى ما يملكه الإنسان، ويُحققه الإنسان. الشعب الذي يملكُ مفهوماً باطلاً أو سيئاً عن الله يمتلكُ أيضاً دولةً سيئة، وحكومة سيئة، وقوانين سيئة.[1]

بعد الإشارة إلى أنّ المسيحية بالنسبة لهيغل(Hegel) هي التجسيد الديني المحرِّر للعلاقة الحقيقية بين المحدود والمطلق، يبقى فقط أن نستذكر مرةً أخرى إصرار هيغل(Hegel) على أنّ هذه العلاقة تجد أتمَّ تعبيرٍ مُلائم فقط عبر صياغتها الفلسفية. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ الفلسفة ليست مجرد المحاولة لتطوير منطقها المتأصّل من داخل دينٍ مسيحيٍ محيط، بل هي الحاكم الأعلى والشامل لكل المنطق ومن ضمنه الدين المسيحي. بالرغم من أنّ هيغل(Hegel) يُقرّ بالعلاقة الوطيدة بين حقيقة المسيحية وحقيقة فلسفته حول الروح، ويُقرّ أيضاً بأنّ الدين المسيحي هو شرطٌ ضروري في فلسفته، إلا أنّه في التحليل النهائي يُحكم بصدق الأول بفضل صدق الآخر. يَعتمدُ إثبات حقيقة المسيحية كالدِّين المطلق على ماهية محتواه الذي يظهر في الهيئة التصويرية الأدنى للحقائق والوقائع التاريخية الممكنة، مع محتوى فلسفة الروح حيث يتمّ التعبير عنه بشكله المناسب المتمثّل بالضرورة المنطقية. في الفلسفة، نرتفعُ فوق هيئة الاعتقاد الديني المنفتحة والتصويرية بالأساس لنصل إلى المنظور

(76)

المطلق أو الإلهي للفكر التأملي الذي يُعيد تصوير الضرورة المنطقية لكل عملية الروح المتمثلة بجعْل الغيرية والتصالح ذاتياً. من هذا المنظور الإلهي للفكر الفلسفي، يتمّ تجاوز حياة الاعتقاد الديني وفهمه كالمرحلة ما قبل الأخيرة في تحقيق المعرفة الإلهية بالذات.

من المعترف به أنّ عامّة البشر لن يرتفعوا أبداً فوق التقدير الديني لحقيقة الروح المتمثلة بالتصالح المطلق. قد يشعرون بالرضا في اعتقاداتهم الدينية البسيطة التي لا تُلائم مقتضيات المستوى التعقُّلي للوعي. إنّ هذا التحقُّق الديني هو تجربة إنسانية صحيحة لا ينبغي احتقارها بأيِّ نحوٍ من الأنحاء، ولكنْ بما أنّ الإنسان هو بالدقة كائنٌ مُفكِّر فإنّه لن يتحرّر بشكلٍ كامل إلا حينما يُصبح عبر التأمل الفلسفي شاهداً على الروح في الهيئة العُليا للفلسفة التي تكشفُ عن الضرورة المنطقية لكل الحركة التصالحية للحياة بوصفها روحاً. لا يُمكن إحراز الوعي الذاتي المناسب تماماً بالروح إلا عبر هذه الهيئة.[1]

في نهاية بحثنا عن فلسفة كانط(Kant) حول الله، توقّعنا أنّ تقوم فلسفة هيغل(Hegel) ـ من خلال التصالح في تركيبٍ أعلى لنظرةِ المحورية الإلهية والإنسانية إلى مصدر المعنى والقيمة ـ بمحاولة التغلّب على القول بأنّ إثبات الله هو مصدر العزلة الإنسانية. في هذا الفصل، قدّمنا خُلاصةً لهذا المسعى. لقد رأينا كيف أنّ هيغل(Hegel) قد انتقل من محاولاته المبكرة لتقديم حلٍ عاطفيٍ ودينيٍ بالأساس لمعالم المسيحية المسبِّبة للعزلة ظاهرياً ليصل إلى مُعالجةٍ منطقيةٍ وفلسفيةٍ تحديداً لتمام مسألة العلاقة بين المحدود والمطلق. في هذه الفلسفة التي تشتملُ على كامل الحقيقة باعتبارها توليداً تلقائياً للروح المحدودة التي تتحقق فقط عبر

(77)

عمليةٍ من الغربة والتعافي الذاتيين في الأبعاد المختلفة من المحدودية، رأينا كيف قام هيغل(Hegel) بتقديم حلٍّ نظريٍ لكل التعارضات وحالات العزلة. على وجه التحديد، يُعتبر في المبدأ بأنَّ إنقاذ الإنسان من مخالب العزلة يتمُّ حين تُفهم فلسفياً جميعُ أبعاد نشاطه- بالاضافة إلى اعتقاده الديني- في معناها الباطني باعتبارها لحظاتٍ من حياة الروح المطلقة. يكشفُ هذا الإدراك الفلسفي عن جذر كلِّ عزلةٍ في الغربة الذاتية الضرورية للروح وأيضاً عن حلِّها المؤكَّد في تطوير الروح للوصول إلى الوعي الذاتي المناسب عبر الفلسفة نفسِها.

إنّ الدافع الأساسي وراء هذا التغلُّب النظري على العزلة هو تبدُّل كُلٍّ من مفهوميّ الله والإنسان ضمن الفكرة الأكثر شمولية عن الروح المطلقة. يُعتبر هنا أنّ الله يحتوي المحدودية كمرحلةٍ ضروريةٍ من تشكُّله الذاتي كروح. بشكلٍ مُترابط، لا يُعتبر الإنسان بعد الآن حقيقة مُمكنة تمّ الإنعام عليها «بجعلها إلهية» عبر الموافقة الإلهية، بل هو «إلهيٌ» بفضله الخاص وكميزةٍ ضرورية في تطوّر حياة الروح. تمَّ رفع الإيمان بالله -مع مفاهيمه حول الإنسان والله التي زُعم بأنّها تُسبِّب العزلة بشكلٍ غير قابل للاختزال ـ إلى إطارٍ فلسفيٍ محيط وجديد حول الروح.

تُمثِّلُ منظومة هيغل(Hegel) الرائعة قمَّةَ الفكر الفلسفيّ المعاصر حول الله. على المستوى الفلسفي، تُقارَنُ هذه المنظومة في الحركة المهيبة لبراعتها التحليلية واستيعابها وتحويلها للفكر السابق وقوة إلهامها، بالتركيب اللاهوتي العظيم الذي حقَّقه توما الاكويني(Thomas Aquinas) لصالح الفكر في القرون الوُسطى. إنّها تُقدِّمُ -ضمن إطارٍ مفهومي أصيل ـ نظريةً موحَّدة حول الكينونة والفكر والله، وهي نظريةٌ قد تسبَّبت بإثراء وتعميق المسار اللاحق للتأمُّل بالطبيعة الإلهية. حتى اولئك الذين لا يقبلون التركيب الهيغلي لسببٍ أو لآخر قد أُرغموا -بفضل

(78)

إعادة بيانه الأصيل والموضِّح للعقيدة التقليدية- على اجتياز الطابع الرسمي للتعاريف المقبولة منذ أمدٍ بعيد للتوصُّل إلى تقديرٍ أشد لعدم مناسبتها للتعبير عن اللغز التي تدلُّ عليه. لقد مثّلت فلسفة هيغل بالتأكيد تحديَّاً للقناعة اللاهوتية وحافزاً قوياً لتحسين الفهم اللاهوتي وتجديده. إلا أنّه للمفارقة، وكما سوف تقومُ الفصول التالية ببيانه، كانت فلسفة هيغل(Hegel) أيضاً إحدى أكثر المصادر تأثيراً على الإلحاد المعاصر. على النقيض من مقصد المؤلِّف، مهّدت هذه الفلسفة لإنكارٍ صريحٍ لله وإثباتٍ مُتجدِّد وأكثر راديكالية للنظرة التي تُفيدُ أنَّ الإيمان بالله هو مصدر العزلة الإنسانية.

يُمكن الاحتجاج بأنّ الأشكال المختلفة من الإلحاد المعاصر كالماركسية والوضعية والوجودية ليست مجرد ردّات فعلٍ ضدّ فلسفة هيغل(Hegel) حول الروح، ولكنها تُعَدُّ بشكلٍ أعمق تحسيناتٍ مستمرة للإلحاد الذي سبق وضعه في هذه الفلسفة وإن لم يتم الاعتراف بذلك صراحةً. على سبيل المثال، قد يعترض أحد المفسّرين المسيحيين على ادّعاء هيغل(Hegel) بأن الفلسفة في الهيئة الأسمى للضرورة المنطقية تُمثِّل نفس المضمون المعبَّر عنه في الإثباتات الدينية. قد يحتجُّ هذا المفسر بأنّ مشروع التعبير عن محتوى المسيحية بهيئة الضرورة المنطقية يتضمّن حتماً إنحرافاً عن المحتوى ذاته، وذلك يعودُ لأنّ مضمون الوحي المسيحي يصفُ تاريخ التواصل الحر وغير المستوجَب بين الله والإنسان بالمقدّس، ممّا يعارض ادّعاء هيغل(Hegel) بأنه «ينبغي تعليل المحتوى المسيحي الحقيقي للإيمان عبر الفلسفة وليس التاريخ»[1].

إنّ التصوير الديني بأنّ حوادث تاريخية محددة تنبعث من الحكمة الإلهية والإرادة الحاكمة فحسب يُضفي على هذه الحوادث أهمية غير قابلة للاختزال في

(79)

إعادة الصياغة الفلسفية على ضوء الإلزام المنطقي الصارم[1]. سوف تُعتبر محاولة هيغل(Hegel) لإحداث هكذا إعادةٍ للصياغة على أنها تهدمُ التصوير الديني الحقيقي للإله المسيحي وذلك من خلال إخضاعه لتصور فلسفي تفسيري غير متطابق مع المضمون الصريح لهذا التصور الديني نفسه.

إنّ محتوى التصوير الديني يُظهر الإنسان بشكل أساسي كمُتلقٍ للمبادرة الإلهية لفعل الله الحر و«الحافل» المتمثّل بالخلاص. تدّعي فلسفة هيغل(Hegel) أنها تتجاوز هذا المنظور الإنساني إلى العلاقة بين المحدود والمطلق وأنها تستوعب هذه العلاقة من نظرة إلهية عبر إعادة تصويرٍ نظريٍ مناسب لها. إذا كانت هذه النظرة الإلهية مُتاحة للإنسان كما يؤكِّد هيغل(Hegel)، وإذا كان بالإمكان تحصيل المعرفة الذاتية الإلهية المشمولة فيها فقط عبر الوعي الفلسفي للإنسان، إذاً سيكون الدين المسيحي باطلاً في مضمونه بما لا يقلُّ عن بطلانه في هيئته. السبب هو أنّه في التصوير الديني المسيحي، يُفهَم النظام المحدود على أنّه في حقيقته التامة متعلقٌ بالإرادة الإلهية ومقصودٌ «شخصياً». لا يكفي في الموقف الديني فهمُ النظام المحدود على أنّه يهدفُ عبر الإنسان إلى تصوُّرٍ ثالوثيٍ مطلق للمنطق. ينبغي فهم النظام المحدود نفسه على أنه مقصودٌ من قبل ثالوث إلهي واقعي. بكلمة أخرى، يمكن الادِّعاء بأن إثبات الله يعتمد على تأكيد الأولوية الوجودية المطلقة لفعلٍ عقلائي مُريد واقعاً، بدلاً من تصور هيغليٍ للمنطق يمكن إرادته عبر التصميم الفلسفي الذي يرغبُ الفكر النقي. وعليه، يحتجُّ المؤمن بأنَّه في منظومة هيغل(Hegel)، تمّت الإساءة إلى المحتوى الأساسي للدين في إعادة صياغته الفلسفية أو تشويهه، وليس كما يتمنّى هيغل(Hegel) أن يؤكِّد عليه، وهو أنّه قد قام فقط بتنقيته.

(80)

بعباراتٍ أعم، قد يُحتج بأنّ مفهوم هيغل(Hegel) للفلسفة، المتمثّل بالتأمُّل التام الذي يشملُ الضرورة المنطقية الكاملة لروحٍ مُطلقة مُحيطة، يستطيعُ المحافظة على إثباته لله والدين فقط بفضل غموضه المنهجي. السبب هو أنّه كما تمّت الإشارة آنِفًا، يتمُّ استخدام الخصائص الدالّة على»الله» «كالتعالي المطلق» و«الحرية اللامحدودة» و«الكمال الدائم» بمعنىً مُعدَّل راديكالياً من أجل وصف طبيعة الروح المطلقة، فيكون الاستخدام المستمر لمصطلح «الله» في هذا السياق مُضلِّلاً أكثر من كونه مُوضِّحاً. يُمكن القول بأنّه قد تمّ بشكلٍ أساسيٍ نقلُ الأشكال اللاحقة من الإلحاد الصريح عبر تحسين المفهوم الهيغلي للمُطلق المتمثِّل بتجريده من الدلالات الدينية غير المناسبة والادّعاءات الباطلة على معنىً إلهي. وعليه، كما سوف نرى، يُمكن أن نعتبر أنّ كُلاًّ من الماركسية والفلسفة الوضعية هما بطرقٍ مختلفة تجسيدٌ لمفهوم هيغل(Hegel) المتأقلم حول المطلق. تُتوَّجُ عملية إسقاط الأسطورة هذه بالفلسفة الوجودية الإلحادية مع إنكارها لفكرة المطلق بأي شكل من الأشكال.

بالطبع، سيكون شرحُ الأشكال المتعدِّدة من الإلحاد المعاصر كمجرد حلولٍ مُتقدِّمة للأمور الغامضة المتأصِّلة في فلسفة هيغل(Hegel) إفراطاً خطيراً في التبسيط. لقد ساهمت التيّارات الفكرية الأخرى والتطوّرات التاريخية المهمة بحصّتها الوافية على كلِّ مستوىً من المسعى البشري بتشكيل الوجوه المختلفة من الإلحاد. ولكن يُمكن للمرء حين التأمّل في الماضي أن يرى الأهمية الحاسمة لفلسفة هيغل حول الروح باعتبارها قد قدّمت نظرة ميتافيزيقية جديدة وكاملة، وتستطيع الأشكال المختلفة من الإلحاد تكوين معناها الخاص وتوضيحه عبر الرجوع إلى هذه النظرة.

بالاضافة إلى ذلك، لقد كان لتحليل هيغل(Hegel) للعزلة الإنسانية وقناعته الصريحة بأنّ أفدح مصادرها هو المفهوم الباطل عن الله، أثراً عميقاً على التطوّر

(81)

اللاحق لأشكالٍ مُختلفة من الإلحاد الفلسفي. لقد تمّ إعادة إثبات هذه المواضيع ليس فقط وفق معالم المقاربة الهيغلية بل أيضاً، وبشكلٍ مُدمِّرٍ أكثر، ضدّ مفهومه الخاص عن العلاقة الحقيقية بين الإنسان والله. وعليه، تمّ الاحتجاج بأنّ أعماق العزلة الإنسانية التي حلّلها هيغل بشكلٍ جيِّدٍ للغاية، يُمكن تحويلها إلى الوجود الأصيل ليس عبر إثبات الوحدة النهائية بين الإنسان والله باعتبارها الحقيقة المطلقة، بل من خلال رفض الله وإثبات كون الإنسان هو المطلق الوحيد.

   تتّضحُ هذه النظرة بشكلٍ جيدٍ في فكر فيورباخ(Feuerbach) وماركس(Marx). كان كُلٌّ منهما بطريقته الخاصة شديد الإعجاب بدعوى هيغل التي تُفيد أنّ المفهوم الديني الاستعبادي للإنسان سوف يترافقُ بشكلٍ حتميٍ مع وضعٍ اجتماعيٍ وسياسيٍ مُنعزل. ولكنّهما قد أصرّا على أنّه بدلاً من طرح حلٍّ غير فعّال بالأساس للمسألة على ضوء النظرية الفلسفية المحيِّرة عن الوحدة النهائية بين الإنسان والله -كما فعل هيغل(Hegel) ـ ينبغي تناولها بدلاً من ذلك على ضوء الإلحاد الصريح التام. في الفصلين التاليين، سوف نبحث هذا الادّعاء في تعبيره المتجلّي في فكر فيورباخ(Feuerbach) وماركس(Marx) على التوالي.

(82)

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

فيورباخ وتأليه الإنسان

(83)

 

4 - فيورباخ وتأليه الإنسان

بدأ لودفيغ فيورباخ(Ludwig Feuerbach) (1804-1872) مسيرته الأكاديمية كتلميذٍ في اللاهوت البروتستانتي(Protestantism) في جامعة هيدلبرغ(Heidelberg University). بعد ذلك، انتقل إلى جامعة برلين(Berlin) حيث أصبح تلميذاً مُتحمساً لهيغل وكان يحضرُ دروسه بانتظام. ولكن مع الوقت، أدّت به تأمّلاته الشخصية إلى نبذ كُلٍّ من الإلهيات والفلسفة الهيغلية والإسهاب في فلسفةٍ إلحادية جليّة حول الإنسان تنطوي على تبدّلٍ واعٍ لوجهة نظر هيغل(Hegel). كما يُعلّق كارل بارث(Karl Barth) الذي تشكّلت آراؤه اللاهوتية إلى حدٍ كبير كردٍ على فلسفة فيورباخ(Feuerbach)، فإنّه «مع تقدّمه الكبير على هيغل(Hegel) وكانط(Kant) أيضاً، ينتمي فيورباخ(Feuerbach) إلى تلاميذ زعيم برلين الذين استشفّوا الرواسب اللاهوتية في تعاليمه ونزعوها عنها»[1]. يسعى فيورباخ(Feuerbach) لتقديم تحليلٍ للدين مضادٍ للاهوت يُثبتُ أنّ الحقيقة وراء المظهر تكمنُ في أنّ الدين في الأساس لا يؤمن بالله ويعبده بل بالطبيعة الإنسانية التي تُعتبر بحد ذاتها الكمال الإلهي أو الأعلى. لذلك، ينقسمُ مؤلّفه الرئيسي «جوهرُ المسيحية» (1841) إلى قسمين، وهو المؤلّف الذي رسّخ سمعته فوراً كأكثر فيلسوف ألماني مشهورٍ وحائزٍ على القسط الأكبر من المناقشة في العقد. القسم الأول إيجابيٌ ويُظهرُ الجوهر الحقيقي للدين، أمّا القسم الثاني فإنّه سلبي ويجحد ادّعاءات اللاهوت بأكمله. كان يعتقدُ فيورباخ بكون وظيفته هي إظهار أنّ «التضاد بين الإلهي والإنساني وهميّ كلياً، وما هو إلا التضاد بين

(84)

الطبيعة الإنسانية بشكلٍ عام والفرد الإنساني، وبالتالي فإنّ موضوع الدين المسيحي ومحتوياته إنسانية برمّتها»[1].

   استناداً إلى فيورباخ(Feuerbach)، ينبغي البحث عن أساس الدين في الاختلاف الجوهري بين الإنسان والبهائم لأنّ الأخيرة لا تمتلك الدين. إنّ هذا الاختلاف يكمنُ في وعي الإنسان بذاته ليس كفردٍ فحسب بل من خلال طبيعته الجوهرية أو انتمائه إلى نوع. لأنّ طبيعته المحدَّدة يُمكن أن تكون موضوعاً فكرياً للإنسان، فإنه يتمكّن بشكلٍ عام من العلم الطبيعي –أي العلم بالنوع بيولوجي. بالاضافة إلى ذلك، انطلاقاً من أنّ نوعه أو طبيعته الجوهرية هي موضوعٌ فكري إنساني،  يُمكن القول بأنّ الإنسان يتسامى فوق قيوده الفردية وبالتالي يُحرِزُ وعياً بالمطلق. وعليه، يُصبح أساس الدين في الميزة الفارقة للإنسان واضحاً. بالفعل، ينبغي فهم الدين ـ الذي يُوصف بشكلٍ عامٍ كوعيٍ بالمطلق ـ كوعي الإنسان بطبيعته الخاصة المطلقة. كذلك، ضمنياً، إنّ هذا الوعي بالمطلق «ليس إلا الوعي بلانهائية الوعي»[2]. بمقتضى الطبيعة غير المحدودة لوعيه، يتجاوز الإنسان القيود والخصوصية الكامنَين في الوجود البهيمي الحيواني المحض، ويستطيع أن يحيا نسبةً إلى نوعه وطبيعته العامة باعتبار تمييزها عن طبيعته الفردية.

   إنّ العناصر الملائِمة التي تُكوّن الطبيعة الجوهرية للإنسان هي الخصال المطلقة الموثِّقة للذات والتي تتألف من العقل والإرادة والحب. «وحده الحقيقي والكامل والإلهي هو ذاك الذي يُوجد من أجل ذاته. ولكن هكذا هو الحب، هكذا هو العقل، هكذا هي الإرادة. العقل والإرادة والحب ليست قوىً يمتلكها الإنسان إذ إنّه لا شيء من دونها، وإنّه ما هو عليه فقط من خلالها؛ إنّها العناصر المكوِّنة لطبيعته التي لا

(85)

يمتلكها ولا يصنعها، إنّها القوى المنشِّطة والمحدِّدة والحاكمة ـ القوى الإلهية المطلقة ـ التي لا يمكنه التصدّي لأي مقاومة إزائها.»[1] مهما كانت عليه نقاط ضعفنا وقيودنا الفردية، فإنّنا نُدرك أنّ العقل والإرادة والحب هي بنفسها كمالاتٌ مطلقة وكاملة. إنّها خصالٌ تمثّل غاياتٍ بحد ذاتها. ببساطة، نحنُ نفكّر ونُريد ونحب من أجل العقل وحرية الإرادة والحب.

إنّ كل شخص كفردٍ بشريٍ يُدرك محدوديته واعتماده على الطبيعة.  ولكن أيضاً من خلال إدراك لانهائية النوع الإنساني المتّصف بالكمالات التي تسمو بالإنسان بوصفه فرداً بكل بساطة ـ أي العقل والإرادة والحب ـ فإنّه يُحرز موضوع القيمة المطلقة. «بالنسبة للإنسان، فإنّ المطلق هو طبيعته الخاصة.»[2]

بالرغم من ذلك، فإنّ الإنسان لا يتوصّل بشكلٍ مباشر إلى الفهم المناسب للانهائية نوعه. في الواقع، إنّ الإنسان يميل لنسبِ قيوده الفردية الخاصة به إلى النوع بحدّ ذاته، وإبراز الكمال المطلق الكامن في جوهره في موضوع خارجي. بهذه الطريقة، يأتي إلى الإثبات «الديني» لله بوصفه العلم والإرادة والحب المطلق. إنّ الدين بمعناه الانتقاصي هو الشكل الأقدم وغير المباشر للعلم الذاتي الإنساني، والذي من خلاله يتفكّر الإنسان بطبيعته الخاصة وكأنّها أمرٌ خارجٌ عن ذاته وعائدٌ إلى إله متعال. يُمثّل الدين الحالة الطفولية الساذجة للإنسانية التي ينبغي تحويلها من خلال الفلسفة إلى نزعة إنسانية متكاملة.

وعليه بالنسبة لفيورباخ(Feuerbach)، فإنّ تعريف الإنسان المتديّن هو الإنسان المنعزل. يُخطئ هذا الإنسان حين ينسبُ الكمالات المتوِّجة لطبيعته الجوهرية إلى الله، وعلى النقيض من هذا الاستنباط يُعرّف نفسه على أساسٍ فردي بحت، وعرضيّ،

(86)

وغير كامل. بما أنّ التصوّر الديني في الأساس هو تحويلُ الخواص الإنسانية إلى إلهٍ وهمي، فكلّما يتمّ تفصيل فكرة الله بنحو أغنى، كلّما أصبح الإنسان أفقر ومُنخفضاً إلى حالةٍ تعيسة ومستعبدة. «إنّ الدين هو الذي يفصلُ الإنسان عن نفسه؛ يقوم الإنسان بوضع الله أمامه كنقيضٍ لذاته. الله ليس ما هو الإنسان عليه، والإنسان ليس ما هو الله عليه. الله هو المطلق والإنسان هو الكائن المحدود، الله كامل والإنسان ناقص، الله أبديٌ والإنسان زمني، الله قديرٌ والإنسان ضعيف، الله مُقدّس والإنسان مُذنب. يُشكّل الله والإنسان طرفين: الله هو الإيجابية المطلقة ومجموع كل الحقائق، والإنسان هو السلبية المطلقة والحاوي لكل النواقض.»[1] ينبغي حلّ هذا التضاد الباطل ولكن ليس بالطريقة الوهمية في فلسفة هيغل(Hegel) حول الروح بل بأسلوبٍ يُمكنه حقاً تحرير الإنسان وجعله متصالحاً مع واقعه الحقيقي.

يكمنُ الوهن الأساسي في المقاربة الفلسفية لهيغل(Hegel) في أنّه قد سعى لمحو العزلة الإنسانية وتحقيق تصالحٍ بين الإنسان والله من خلال نظريةٍ يمكن أن تُعتبر لدى التأملّ مُنحازة لصالح الله على حساب الإنسان. وعليه، فإنّ هيغل(Hegel) قد قام فقط بإنشاء العزلة تحت مسمّى حلّها. لقد قدّم نظريةً تُبدّل العلاقة الواقعية بين الموضوع والمحمول من خلال إثبات الموضوع الإلهي الممتِلك لكمالات محدَّدة بدلاً من جعل الكمالات بحد ذاتها محمولات إلهية. وعليه، فإنّ هيغل(Hegel) يقوم فقط بتقديم حلٍّ نظري مثالي لمشكلةٍ ينبغي أن تُعالج بشكلٍ مادي وتجريبي وفاءً للإطار الإنساني. يضمّ هيغل الوعي الإنساني إلى الوعي الإلهي على نحوٍ يتم تحليل وعي الإنسان بالله على ضوء وعي الله بنفسه. إنّ هذا ببساطة تمديداً واستسلاماً تاماً للوهم الديني بينما المطلوب هو تبديله والإطاحة راديكالياً في نظريةٍ تُحلّل وعي الإنسان بالله على ضوء وعي الإنسان بنفسه. «إذاً، لماذا تقومُ أنت بعزل وعي

(87)

الإنسان عنه وجعله وعياً ذاتياً بكائنٍ متميزٍ عن الإنسان، لذاك الذي هو موضوعٌ بالنسبة إليه؟ ...هل إنّ معرفة الإنسان بالله هي معرفة الله بنفسه؟ يا له من انفصام وتناقض! العبارة الصحيحة هي التالية: إنّ معرفة الإنسان بالله هي معرفة الإنسان بنفسه، بطبيعته الخاصة»[1].

استناداً لفيورباخ(Feuerbach)، فإنّ مفتاح الحقيقة العليا للإنسان هو التطبيق الصارم للمبدأ الذي يُفيد بأنّ الموضوع الحقيقي والقاعدة الملائمة لأي معنىً أو قيمة مكشوفة للوعي الإنساني هو الطبيعة الإنسانية نفسها. بما أنّ طبيعة الوعي الإنساني هي على هذا النحو، فإنّ المواضيع تظهرُ لنا وتؤثّر علينا كما هو ديدنها. إنّ موضوع أي شكلٍ من الوعي الإنساني –على سبيل المثال: الشعور، الإحساس، الفهم، الإرادة ـ هو دائماً في معناه الداخلي جعلٌ موضوعي للطبيعة الإنسانية. «وعليه، فإنّ قوة موضوع الشعور هي قوة الشعور ذاته؛ وقوة موضوع الفكر هي قوة الفكر ذاته؛ وقوة موضوع الإرادة هي قوة الإرادة ذاتها.»[2] نحن نعيشُ في بيئة إنسانية غير قابلة للاختزال. إنّ مجرد تطبيق أي محاولة ملموسة لتصوّر نظامٍ مُطلق من المعنى والقيمة يسمو فوق إطارنا ومواردنا الإنسانية هو خيالٌ ومشروعٌ يُلحقُ الهزيمة بالذات.

من أجل تحقيق هدفه المتمثّل بتفسير جوهر الدين واختزال كل الإلهيات في الانثروبولوجيا(Anthropology)، يتمّ على نطاقٍ واسعٍ تطبيق مبدأ فيورباخ(Feuerbach) الذي يُفيد بأنّه ينبغي فهم أهمية موضوع الوعي الإنساني على ضوء تطوّره النفسي من الطبيعة الإنسانية. تُمثّل خطة العلمنة هذه نصراً للنزعة الإنسانية المتصلّبة حول الحرية والتي قد طاردت التأمل الفلسفي كوعدٍ لم يتمّ الوفاء به، وذلك منذ استكشافات ديكارت(Descartes) المصيرية حول الذاتية الإنسانية

(88)

بحثاً عن جذور المعنى والقيمة. من أجل توضيح الهيئة التي تحققت بها في النهاية هذه النزعة للحرية في فلسفة فيورباخ(Feuerbach)، ينبغي أن نتناول بإيجازٍ بعض السمات البارزة في تحليله النقدي للدين ومفهومه المترابط حول الإنسان.

وفقاً لفيورباخ (Feuerbach)، فإنّ موضوع الوعي الديني يتمتّع بأهميةٍ مركزية في سبيل الكشف عن القيمة العُليا للطبيعة الإنسانية. السبب هو أنّه في الدين، يهدفُ الوعي إلى ما هو إلهي، أي ذاك الذي ينبغي عبادته بوصفه الكمال الأعلى. وعليه، فإنّه يكشف ـ ومن المعترف به أنّه من خلال نوع مُنعزلٍ من الإدراك ـ عن المركز الباطني للحقيقة الإنسانية. نجدُ في فكرة كون الله موضوع الوعي الديني تعبيراً خيالياً عن تصوّر الإنسان المثالي للامتياز الإنساني. من خلال تحسين مستمر وتقوية روحية لمفهوم الله، سعى التطوّر التاريخي للدين باتّجاه الكشف النهائي عن المفهوم الأساسي فعلاً حول الإنسان. إنّ تطوّر التجسيد البحت للقوى الطبيعية في الأديان طبيعية إلى إلهٍ يتّصفُ بالخواص الروحية والأخلاقية يعكسُ حركة التطوّر الإنساني من حالة الوحشية والهمجية إلى الثقافة. بالرغم من ذلك، فإنّ أكثر الأديان تطوراً تبقى خاضعةً للوهم الحتمي للوعي الديني بشكلٍ عام وذلك في اعتباره أنّ موضوعه هو حقيقة فوق البشر. فقط حين يتمّ جعل الدين بحد ذاته موضوعاً للتأمّل الفلسفي يمكن تحقيق فهم حقيقيٍ لجوهره.

إحدى الخطوات الأساسية للتوصّل إلى هذا الفهم هو إدراك أنّ ما يتمّ تبجيله في الدين فعلاً ليس الذات المزعومة الممتلكة للخصال الإلهية بل ألوهية الخصال نفسها. إنّ ما يحكمُ الإنسان بكونه الكمال الأعلى هو ما يعتقد بأنه إلهي. على سبيل المثال، كان يُنظر إلى الآلهة الوثنية من ناحية امتلاكها للرغبات الشهوانية والقوة البدنية والصفات البطولية وذلك لأنّ هذه الخصال كانت تُعتبر مُستحقة للتبجيل بأقصى درجات التقدير. إنّ وجهة النظر التي تدّعي إعلاء الوجود الإلهي ـ من خلال تأكيد

(89)

قصور أيٍّ من محمولاتنا الإنسانية حتماً حين تصوير الله كما هو في ذاته ـ تعادلُ شكلاً خفيّاً من الإلحاد. عملياً، فإنّ أي كائنٍ غير ممتلكٍ للصفات هو غير موجود فعلاً ويمثّلُ مجرد فكرة فارغة. «إنّ إنكار المحمولات المحدّدة الإيجابية المتعلقة بالطبيعة الإلهية لا يعدو كونه إنكاراً للدين، ولكن مع مظهرٍ دينيٍ يخدمه فلا يتمّ اعتباره إنكاراً. ببساطة، إنّه إلحاد خفيٌ مموّه»[1].

بالاضافة إلى ذلك، فإنّ الفرق الكامن بين الله كما هو في ذاته وبين الله كما هو بالنسبة إليّ ضعيف. لا يمكنني على الإطلاق تأكيد أي شيءٍ عن الله إلا ما يُمثّله الله بالنسبة لي. ما دام الأمر مُتعلّقاً بي، فإنّ ما يُمثله الله بالنسبة إليّ هو تمام ماهية الله في ذاته. إنّ الفرق بين الموضوع كما هو في ذاته وكما هو بالنسبة إليّ مُصيبٌ فقط ما دام بإمكان الموضوع التجلي لي بطريقة مختلفة عن ظهوره الفعلي. إنّ الحديث عن الفرق بين الموضوع كما ينبغي أن يظهر لي وبين ماهيته الذاتية بطريقةٍ لا يُمكنني أبداً إدراكها يُعتبرُ فلسفةً تجاوزية وهمية.

كذلك، يرِدُ ما يمثّله الله بالنسبة إليّ بشكلٍ تام في المحمولات التي أتصوّر من خلالها أنّه الكمال الأعلى. لا توجد قاعدة سليمة للافتراض الذي يُفيدُ بأنّ إثبات وجود ذاتٍ إلهية هو ـ بنحوٍ ما ـ أكثر تأكيداً وأقل تشبيهاً بالإنسان من المحمولات التي تصف الله. إذا شكّ أحدهم بالصحة الموضوعية للمحمولات المنسوبة لذاتٍ إلهية، فينبغي أن يشكّ أيضاً بموضوعية الذات الممتلكة لهذه المحمولات. إذا كانت المحمولات موضع هذا النقاش ـ كالحب والخير والشخصية وما إلى ذلك ـ تشبيهاتٍ بالإنسان ومجرد أساليب إنسانية لتصوُّر الإلهي، فإنّ إثبات وجود الذات الإلهية أيضاً هو مجرد أسلوبٍ تشبيهي بالإنسان لتصوّر الواقع. على سبيل المثال، كيف يمكن للمرء التأكّد من أنّ إثبات وجود الله

(90)

ليس ببساطةٍ تقييداً أو تحريفاً للنمط الإنساني المفاهيمي الذي يُزال بشكلٍ أكثر تنوّراً من الوعي؟[1]

بالتالي، ينبغي في تناولنا للدين ولموضوعه الإلهي أن ننقاد للمبدأ الذي يُفيد بأنّ «ماهية الموضوع تكمنُ فقط في المحمول؛ والمحمول هو حقيقة الموضوع ـ الموضوع هو فقط المحمول المشخّص الموجود، المحمول الذي يُتصوّرُ وجوده»[2]. يُمكّننا هذا المبدأ من تحقيق فهمٍ مناسب للدين وبصيرةٍ أوضح بالحقيقة التي تُفيدُ أنّ أساس الخصال الإلهية يكمنُ حصراً في الطبيعة الإنسانية. بالتالي، سوف يُعتبرُ الله في الدين استخلاصاً للخصال الأساسية في الطبيعة الإنسانية التي تُعتبر الحقيقة المطلقة. بالاضافة إلى ذلك، سنكون قد تخلّصنا بشكلٍ فعّال من جميع خدع وغوامض الإلهيات. بينما يُجسّد الدين فقط نقلاً سابقاً للتأمل للخصال الإنسانية إلى كائن إلهي وهمي، فإنّ الإلهيات تُنشئ هذه العزلة من خلال اعتبار الذات الإلهية المتعالية ـ التي قد تمّ إسباغ الخصال الإنسانية عليها ـ نقطة الإنطلاق المطلقة والصحيحة لتأملاتها.[3] يمُكننا تفادي هذا الوهم اللاهوتي ونتائجه حين نُقدّر أنّه يمكن اختزال الذات الإلهية في خصالها المميِّزة، وأن هذه الإسباغات هي لخصال إنسانية على وجه التحديد.

يكمنُ لُغز الدين في تحويل الإنسان لذاتيته الباطنية إلى موضوعية وتبديل الصورة الناتجة عن ذلك لتصبح ذاتاً متعالية أو إلهاً. في أنواع الدين الأكثر تطوراً من غيرها، وبشكلٍ خاص في المسيحية، يُصوَّر هذا الإله على نحوٍ شخصي وأخلاقي للغاية. إنّ المفهوم الميتافيزيقي المنفصل الذي يُفيد أنّ الكيان الإلهي هو العقل الأعلى يُقدِّم فقط تثبيتاً نظرياً للخصال العاطفية جوهرياً لإله الدين، مثل المشرّع الأخلاقي والأب

(91)

المحب. إنّ الله، باعتباره موضوع الوعي الديني، يتطابق بشكلٍ ملائم مع الحاجات العاطفية للذاتية الإنسانية الفعلية إلى العدل الأخلاقي والتصالح الخلاصي وليس مع متطلبات التأمل المنطقي الجامد. وعليه، بصرف النظر عن جهود الإلهيات النظرية لجعل المسألة غامضةً، فإنّ الله في الدين يُشبَّه بالإنسان بالضرورة. فقط من خلال الارتباط الدقيق بهذه الأبعاد الوجودية للذاتية الإنسانية يكون الله مُتَّصلاً حقاً بالوعي الديني. الإله البشري على وجه التحديد- أي الإله غير المخالف للإنسان على التمام بل يتقاسم معه الطبيعة والخواص المشتركة- هو فقط من يمكنه أن يكون ذا أهمية للهموم الإنسانية على وجه التحديد. «في الدين، يسعى الإنسان نحو الرضا؛ الدين هو خيره الأعلى. ولكن كيف يُمكنُ للإنسان العثور على السلوى والسلام في الله إذا كان الله في الأساس كياناً مُختلفاً؟...إذا كانت طبيعته مختلفة عن طبيعتي، فإنّ سلامه مختلفٌ أساساً ـ وهو ليس السلام الملائم لي.»[1]

استناداً إلى فيورباخ (Feuerbach)، فإنّ المسيحية ـ على خلاف نماذجها اللاهوتية المضلِّلة ـ تُصوّر الله عبر محمولات إنسانية على وجه التحديد. بالاضافة إلى ذلك، يمكن تحويلها إلى فلسفة حقيقية حول الإنسان حين يتمّ تنقيتها من: أ) الوهم الديني المتمثّل بنسبِ الألوهية بالأصل إلى ذات مُفترضة بدلاً من نسبها إلى الكمالات المجعولة على نحو المحمولات، وب) الخطأ المتصل بشكلٍ وثيق والمتمثّل بإثبات أبدية النوع فقط بالشكل المنعزل للفرد الإلهي المطلق، وذلك بسبب التعريف الباطل للنوع والفرد.

على سبيل المثال، إنّ اللغز المسيحي المتمثّل بالتجسيد يُحدّث الإنسان عن حبّ الله غير الأناني تجاه الإنسان. إنّ عناصره الأساسية هي الله والحب. إنّ المستحق للعبادة فعلاً في هذا اللغز هو ليس الذات الإلهية التي تُحب بل الكمال «الإلهي»

(92)

المطلق المتمثّل بالحب غير الأناني نفسه. «ماذا يكون المعنى الحقيقي وغير المزيّف للتجسيد إلا الحب المطلق الطاهر من دون إضافات ومن دون تمييز بين الحب الإلهي والإنساني؟ بالرغم من وجود الحب النفعي بين البشر إلا أنّ الحب الإنساني الحقيقي ـ الذي يستحق وحده هذا الاسم ـ هو ذاك الذي يدفع نحو التضحية بالذات من أجل الآخر. إذاً، من هو مُخلّصنا ومُنقذنا؟ الله أو الحب؟ الحب؛ لأنّ الله بما هو الله لم يُنقذنا بل الحب الذي يتعالى فوق الاختلاف بين الشخصية الإلهية والإنسانية.»[1]

يُقدّم فيورباخ (Feuerbach) تحوّلاً مماثلاً مُختزِلاً للسمات الأخرى في الدين المسيحي. على سبيل المثال، يصفُ فيورباخ(Feuerbach) لُغز الثالوث بأنّه يكشف ـ بطريقةٍ مُنعزلة دينياً ـ الطابع المطلق أو الإلهي للوعي الذاتي. بالاضافة إلى ذلك، يُعتبر بأنّه يُظهر الحقيقة التي تُفيد أنه يتمّ إيصال الوعي الذاتي المناسب فقط من خلال علاقة «أنا|أنت» في الحياة الجماعية. «الحياة المشتركة وحدها هي الحياة الحقيقية والمرضية للذات والإلهية: إنّ هذه الفكرة البسيطة، هذه الحقيقة الطبيعية والمتأصلة في الإنسان، هي السر واللغز الماورائي للثالوث.»[2]

كذلك، فإنّ فيورباخ(Feuerbach) يحتجُّ بأنّه يتم الإشارة إلى القوة الإلهية للغة كمبدأ أساسي للكمال والتحرير الإنساني، وذلك في موضوع «كلمة الله». إنّ عبادة «كلمة الله» هي اعترافٌ غير مباشر بالقوة الإلهية للغة الإنسانية حين تغدو موضوعاً للإنسان في نطاق الدين.[3] بطريقة مماثلة، يدّعي فيورباخ(Feuerbach) أنّ عقيدة خلق العالم عبر «الشخص» الثاني يُصوِّر بطريقةٍ دينية الحقيقة التي تُفيدُ أنّ الإنسان يلجُ في علاقةٍ ذي معنى و«مُشيِّدة للعالم» بمعيّة بيئته الطبيعية فقط عبر التواصل الثقافي مع أخيه الإنسان. إنّها تُظهرُ الأهمية العُليا للذاتية المتبادلة كمصدرٍ للكمال

(93)

الإنساني. «إذاً، يُحرز الأنا الوعي بالعالم عبر الوعي بالآخر. وعليه، يكون الإنسان إله الإنسان...في العزلة، تكون القوة الإنسانية محدودة، وفي الاجتماع تكون مُطلقة.»[1]

لا حاجة للمكوث عند تفاصيل تحليل فيورباخ (Feuerbach) لهذه السمات وغيرها في الدين المسيحي. الموضوع المحوري الذي يسودُ كامل التحليل واضحٌ بما فيه الكفاية، وهو أنّ الدين بشكلٍ أساسي شكلٌ مُنعزل من الإدراك الذاتي، ووهمٌ ينبغي التغلّب عليه من خلال تتّبعه للوصول إلى مصدره وموضوعه الحقيقيين- أي الطبيعة المطلقة للإنسان. الله هو مجرد جَعْلٍ موضوعي للذاتية الإنسانية التي تمّ تحريرها من القيود الفردية الطارئة. يعترفُ الدين بخواص النوع البشري وبإنسانيته الجوهرية، إلا أنّه يخطئ في تحويلها إلى كيانٍ إلهيٍ مُختلف عن الإنسان. إنّ الحقيقة الباطنية للإيمان بالله هي إيمان الإنسان بلاتناهي طبيعته الخاصة وحريتها المطلقة. إنّ الاختزال الأنثروبولوجي للدين يُوصل هذه الحقيقة إلى واجهة الوعي الإنساني وينقذ الإنسان من عزلته الذاتية الدينية. وعليه، في تقييمٍ نهائي لإنجازه، يلاحظُ فيورباخ(Feuerbach) بأنّه: «قد اختزلنا طبيعة الله السماوية والخارقة للطبيعة وفوق البشرية في عناصر الطبيعة الإنسانية بوصفها العناصر الأساسية فيها. لقد أوصلتنا عملية التحليل مجدداً إلى النقطة التي انطلقنا معها. إن بداية الدين ووسطه ونهايته هي الإنسان».[2]

فلننطلق الآن لتناول الخطوط العامة لمفهوم الإنسان المنبعث من هذا التحوّل للدّين والإلهيات إلى أنثروبولوجيا(Anthropology). استناداً إلى فيورباخ (Feuerbach)، فإنّه بعد إزالة الإيمان بالله باعتباره الذات الإلهية الممتلكة للكمالات المطلقة والموثِّقة للذات، يُمكننا إنزال هذه الكمالات «إلى الأرض» في مُحيطها الإنساني

(94)

الأساسي. إنّ الواقع الإنساني الحقيقي هو النوع، والعرق البشري، والإنسان المجموعي ـ ليس من خلال تصويره وإبرازه كفردٍ إلهي ـ بل في حياته الواقعية كمجموعة متطوّرة تاريخياً حيث يُشكّل كلّ إنسان كفردٍ مجرّدَ لحظة عابرة.

التوافق الحقيقي بين المحدود والمطلق ليس توافقاً تجريدياً للإنسان مع الكمال النظري البحت لذات إلهية مُطلقة، بل هو توافقٌ اجتماعي حيّ للفرد المحدود مع الكمال المطلق للنوع البشري. يُحرز الفرد أهميةً مُطلقة ومضمونة من خلال المشاركة في الكمال المجموعي للنوع الذي يتخطّى واقعُه غير المحدود مواردَ الفرد لوحده.

إنّ جميع الصفات الإلهية التي تجعل الله هو الله هي صفات النوع - صفاتٌ تكون محدودة في الفرد ولكن يتمّ محو حدودها في جوهر النوع وحتى في وجوده ما دام يكون وجوده التام كامناً فقط في ملاحظة مجموع كلّ البشر. علمي وإرادتي محدودان؛ ولكنّ حدّي ليس حدّ الإنسان الآخر ناهيك عن البشرية. ما هو صعبٌ بالنسبة لي هو سهلٌ بالنسبة لآخر؛ ما هو مستحيل وغير مُتصوّر في عمرٍ محدد هو معقول وممكن في عمرٍ لاحق. إنّ حياتي مُقيّدة بوقتٍ محدود؛ وهذا لا ينطبق على حياة البشرية.[1]

وعليه، في المعارضة الواعية للتراث المثالي، يقترحُ فيورباخ ما يُسمّيه حلّاً «مادياً» أو «واقعياً» لمسألة العزلة الإنسانية. يُخبرنا فيورباخ (Feuerbach) بأنّه مثاليٌ فقط بالمعنى الأخلاقي والعملي حيث يعتقدُ جازماً بأنّنا نشاركُ بالواقع المؤكَّد النهائي لانتصار القيم المطلقة كالحقيقة والحرية والعدالة والحب وسيطرتها. أمّا فيما يتعلق بالشكل والأساليب التي يتحقق من خلالها التوافق المطلق للإنسان مع واقعه الحقيقي، فإنّ فيورباخ(Feuerbach) يلتزم بشكلٍ صريحٍ وحصريٍ بالنزعة الإنسانية الطبيعية «الدنيوية». يتّخذُ هذا التوافق شكل المشاركة الفردية لكل إنسان في التشكّل المستمر

(95)

للكمال المطلق للإنسانية كمجموعٍ واقعيٍ ومُعقّد. يتحقّق هذا الهدف عبر التطوّر التاريخي الجماعي للعلاقات المادية والبيولوجية والأخلاقية والثقافية.

إنّ وصف فيورباخ (Feuerbach) للإنسان ككائنٍ منتمٍ إلى نوع يُقدَّمُ كتصحيحٍ للفردية الفلسفية بشكلٍ عام وللفردية الدينية بشكلٍ خاص. السبب هو أنّه يدّعي بأنّه في الدين -وعلى وجه التحديد في الدين المسيحي ـ يَعتبرُ كلّ إنسان أنّه يحقق كماله الأساسي بنفسه فقط، وذلك من خلال علاقته التأملية الشخصية بفردٍ إلهي قد مُنح كل الكمال العام للنوع. من خلال هذا الربط لكمال النوع البشري بفردٍ إلهي، يتمّ التضحية بالإنسانية التاريخية لحساب وهمٍ متجاوزٍ للطبيعة، ويتمّ إقصاء الفرد عن إطاره الفعّال الوحيد للتحقق. ترمي عقيدة فيورباخ(Feuerbach) التي تُفيد أنّ كلّ إنسان في الأساس ليس فرداً بل كائناً منتمياً إلى نوع ـ كائناً يلجُ في إنسانيته فقط بمقتضى علاقاته القائمة بشكلٍ متبادل مع الآخرين- إلى الإشارة للطريق نحو الإنجاز العملي للتحقق الإنساني الذي يختلف عن الخلاص الوهمي للفردية الدينية.[1]

استناداً إلى فيورباخ(Feuerbach)، يتمّ بشكلٍ أساسي إيصال هذه الحقيقة المطلقة للإنسان كذاتيةٍ متبادلة ومُحقِّقة لواقعه في مجتمع النوع ليس عبر الإطار التجريدي للفكر بل عبر الإطار البيولوجي الحي للجنس. إنّ أفضل طريقة لاستشعار غُربة الفرد ومحدوديته في مقابل النوع هي من خلال إدراك الفرق الجنسي. يعتمدُ كلٌ من الرجل والمرأة بشكلٍ متبادل على تكاملهما المشترك من أجل تحقيق واقعهما المحدَّد. إنّ الرجل والمرأة وحدهما معاً هما المشكّلان الأوّلان للإنسان الحقيقي، وباجتماعهما يُكوّنان نموذجاً للبشرية لأنّ اتّحادهما هو مصدر التكاثر وسبب وجود الناس الآخرين والتجسيد الأولي للبشرية.

انبثاقاً من هذا الاختلاف في الجنس، يتطوّر الكمال المكتفي ذاتياً والمطلق للحب

(96)

الذي يسمو فوق محدوديات الأفراد ويتشعّب في الأبعاد المختلفة من أجل تحقيق الوعي الذاتي بالنوع كاجتماعٍ مُعقّد للعلاقات الشخصية المنظَّمة تراتبياً[1]. من خلال هذا التعبير المنظَّم عن الحب، نتوصّل إلى وعيٍ متطورٍ بأنّ إنسانيتنا ترتكزُ على علاقاتنا التاريخية الحّية مع نظرائنا من البشر. «من خلال الآخر، أمتلكُ أولاً الوعي بالإنسانية. من خلاله أتعلّمُ وأشعرُ أولاً بأنني إنسان. من خلال حبّي له، يتّضحُ لي أولاً أنّه ينتمي إليّ وأنّني أنتمي إليه، وأنّه لا يُمكننا التواجد منفصلين، وأنّ الجماعة وحدها تُشكّل البشرية.»[2] وعليه، يتحقق توافق الإنسان مع المطلق ـ أي مع الحقيقة المقدّسة لنوعه ـ ليس من خلال المشاركة الباطنية مع الإبراز الديني للنوع على شكل الفرد الإلهي المطلق، ولكن من خلال تضامن الناس المفعم بالحب في حياتهم العلمانية. وعليه: «يوجد توافقٌ طبيعي. إنّ نظيري في الإنسانية بحدّ ذاته هو الوسيط بيني وبين الحقيقة المقدّسة للنوع. الإنسانُ إلهٌ للإنسان.»[3]

إذا رفض أحدهم إطلاق صفة الإلحاد على أي رأيٍ يؤكّد حقيقة المطلق بأي شكلٍ من الأشكال، وإذا كان المرء مُستعداً لعدّ الدين التزاماً توقيرياً للمطلق المتصوَّر بأي طريقة، إذاً تتوفر الأسس لتأكيد أنّ فلسفة فيورباخ(Feuerbach) لا تتضمّن الإلحاد ولا رفض الدين لأنّه يُثبت أنّ الكمال المطلق للنوع البشري يستحق التبجيل غير المقيّد. بالاضافة إلى ذلك، توجدُ نصوصٌ مختلفة تشيرُ إلى أنّ فيورباخ(Feuerbach) مُستعدٌ ليُفهم كمحافظٍ على إثبات الله والدين بهذا المعنى الخاص. على سبيل المثال، يُلاحظُ فيورباخ (Feuerbach) أنّه ينبغي اعتبار حتى الأكل والشرب أنشطةً دينية، ممّا يُذكّر الإنسان بامتنانٍ بالحقيقة الإلهية التي تُلبّي حاجاتنا.[4]

(97)

بالرغم من ذلك، فإنّ هذا المفهوم المطاطي نوعاً ما للواقع الإلهي والدين يميلُ إلى إبهام المناقشة حول مسألة الله بدلاً من توضيحها. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ إضفاء أيِّ أهمية خاصة لهذه الميزة في فكر فيورباخ(Feuerbach) قد يحرِف الانتباه عن فرضيته الأساسية أي الرفض الصريح والتام لله والدين كما فُهما عادة، والإنكار الكامل لأي مبدأ مطلق ومتجاوز للإنسانية حول المعنى والقيمة كالروح المطلقة لدى هيغل(Hegel).

قد تكمنُ الميزة الأهم لفلسفة فيورباخ(Feuerbach) في أنّه بعد المحاولات المتعدّدة لديكارت وكانط وهيغل لدمج حلولية التقليد المعرفي المستخرَج من الكوجيتو مع إثبات الكائن الماورائي، تؤكِّدُ بوضوحٍ أنّ العالم الطبيعي للواقع التجريبي هو الأفق المحدِّد للوعي والوجود الإنساني. وعليه، ينكشفُ الإلحاد المحتمل في هذا التقليد بشكلٍ جليٍّ[1].

بطريقته الخاصة، بقي فيورباخ (Feuerbach) وفياً لموقف الكوجيتو الذي يتشكّلُ وفقه عالم المعنى والقيمة فقط من خلال نشاط الوعي الإنساني. يؤكِّدُ فيورباخ (Feuerbach) بأنّ موضوع الوعي هو دائماً جعلٌ موضوعي لطبيعة الإنسان الذاتية. بالرغم من ذلك، فإنّه يدمجُ هذه النظرة مع العقائد الواضحة للمادية والواقعية التي تمنحُ التجربةَ الحسية تفوّقاً غير قابلٍ للاختزال وتحصرُ موارد الطبيعة الإنسانية ـ ومن ضمنها مجالها المتعلّق بالوعي ـ في إطار الوجود الزماني-المكاني. إنّ النتيجة،كما رأينا، هي النزعة الإنسانية الطبيعية الكاملة حيث يتمّ تحديد كون المطلق هو الطبيعة الإنسانية التي تُحلَّل بدورها من ناحيةٍ اجتماعية-تاريخية حصرية.

بالكاد يُعتبر فكر فيورباخ (Feuerbach) نموذجاً للتحليل الفلسفي الشديد والحاسم. إنّ أسلوب التعبير عن هذا الفكر هو بشكلٍ عام أدبي بدلاً من كونه فلسفياً على سبيل الحصر، وكثيراً ما يعتمدُ على الحكمة النيّرة بدلاً من المناقشة

(98)

النقدية التفصيلية. على سبيل المثال، لم يحلّ بشكلٍ مُقنع انسجامَ ماديّته الحسية مع اعتباره بأنّ نطاق الوعي هو جعلٌ موضوعيٍ للذاتية الإنسانية. كما يُلاحظُ أحد المعلّقين فإنّه: «لا يتفق فيورباخ(Feuerbach) مع بروتاغوراس(Protagoras) في أنّ الإنسان هو مقياسُ كل الأمور، بالرغم من أنّه يؤمنُ أيضاً بأنّ الأشياء موجودة بشكلٍ مُستقل عن الإنسان وأنّه لا يُمكننا التفكّر بأحدها دون الآخر. يكمنُ هنا، بالطبع، مصدرٌ لكثير من التعقيد غير الخاضع للفحص وينعكسُ في المناقشة غير الدقيقة لفيورباخ(Feuerbach) حول العلاقة بين «الإنسان» و»الطبيعة»، تماماً كما انعكس في مناقشته غير الدقيقة للعلاقة بين الفكر والجسد، والعلاقة بين الفهم والتجربة الحسيّة».[1]
   كذلك، يُوجدُ نوعٌ من الغموض في تخفيضه «للانهائية» النوعية للكمالات المطلقة كالحقيقة والحرية والعدالة والحب إلى «اللانهائية» الكميّة لإدراكاتها التجريبية المختلفة طوال التاريخ المجموعي للنوع[2]. إذا كان بالإمكان اختزال هذه الكمالات فقط في أمثلتها الفعلية المجموعة طوال التاريخ البشري، فمن غير الواضح كيف يمكن لفيورباخ (Feuerbach) تبرير دعواه الإضافية المتصلة التي تُفيد بأنّ هذه الكمالات هي بجوهرها على نحوٍ ينبغي أن تتعالى في النهاية على تقلّبات حالتها الآنية المحدودة، وأن تسود بشكلٍ كامل باعتبارها التحقيق المضمون للسعي البشري نحو سُلطة الحقيقة والفضيلة.

بنحوٍ مماثلٍ نوعاً ما، فإنّ نظرية فيورباخ(Feuerbach) حول التطوّر النفسي لفكرة الله ليست مناسبة فعلاً بالنسبة إلى هدفها الرامي إلى التخلّص من الإيمان بالله. من خلال السعي وراء حلّ مسألةٍ ميتافزيقية من ناحيةٍ فلسفية، تبدو هذه النظرية وكأنها تُقدّم فقط بياناً ديلاكتيكياً حول كيفية توصّلنا إلى فكرة الله الذي يُفترض عدم وجوده، بدلا ًمن كشفها عن أسسٍ موضوعية لإنكار وجوده. يُعتبر من الممكن فهم تمام طبيعة العبادة الدينية لله ووجودها بشكلٍ مناسب على ضوء توفّر

(99)

نظرية حول الشروط النفسية الضرورية لإمكانيتها. يُفترضُ أنّ بطلان الاعتقاد بالله يُثبت من خلال بيانٍ حول كيفية تمكّننا من التوصّل إلى هكذا اعتقاد.

بالرغم من نقاط ضعفها، فإنّ فلسفة فيورباخ (Feuerbach) من دون شكٍ تُؤلّفُ فصلاً مهماً من تكوُّن الإلحاد المعاصر، وتشيرُ إلى الوفود الحتمي لإلحادٍ تم تركيبه بوعيٍ تام. لا تقوم فلسفة فيورباخ(Feuerbach) ببساطةٍ باقتراح نظريةٍ عن المعنى النهائي للحقيقة والذي يبدو إلحادياً مع التأمّل. بدلاً من ذلك، إنّها تتعمّد دعمَ إلحادٍ صريح كمقدمةٍ ضرورية للتقييم الحقيقي للواقع بشكلٍ عام وللوجود البشري بشكلٍ خاص، وتُلغي أي إشارة إلى الله وذلك باعتبار ذلك مصدراً دائماً ومكنوناً للعزلة والتحيّر الذَّين ينبغي إزالتهما من أجل تحقيق النزاهة الإنسانية.

بالاضافة إلى ذلك، فإنّه من خلال التخلّص من الإطار المتجاوز للطبيعة، تتمكّن هذه الفلسفة من توجيه البحث نحو المعنى والقيمة النهائيين وذلك ضمن الحدود الطبيعية والإنسانية والاجتماعية حصراً. وعليه، تكتسبُ هذه الفئات أهميةً واهتماماً متزايدين لأنّها تُشكّلُ المجال المتصل الوحيد الذي يُمكن للإنسان من خلاله السعي وراء مبدأ ذي أهمية وأصالة مطلقتين. مع انكشاف البصائر والإمكانيات الجديدة عبر تركيز الانتباه ضمن مجال الاهتمام هذا الجديد والمحصور، فإنّ مسألة الله سوف تُصبحُ ذا أهميةٍ هامشية على نحو مُتزايد. سوف يبدو الإلحاد على نحو متزايد غير مستهجن بتاتاً بل كأنّه التسليم الطبيعي للإنسان المتحضِّر.

بالفعل، يمكن اعتبار أنّ فلسفة فيورباخ(Feuerbach) قد وفّقت الوعي الإنساني مع نظرة عالمية إلحادية بنحو تام وصريح بالرغم من أنّه يُمكن أيضاً اعتبار أنها قد قامت فقط بوضع الخطوط الأساسية لهكذا نظرة بشكلٍ بدائي نوعاً ما. كما سوف نوضّح في مناقشتنا حول الفلسفة الماركسية والوضعية والوجودية، يُستوعب اهتمام الفلاسفة اللاحقين من أجل السعي لتقديم نماذج أكثر نفوذاً وتطوراً لهذه النظرة المؤسَّسة حديثاً والمقبولة بسهولة.

(100)

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

ماركس والخلاص العلماني

(101)

 

5 - ماركس والخلاص العلماني

تعمّقت النزعة الإنسانية الإلحادية الصريحة لفيورباخ(Feuerbach) ونالت الزخم في فلسفة كارل ماركس(Karl Marx) (1818-1883) ممّا أثار مفهوماً ثورياً وديناميكياً حول الإنسان والمجتمع والتاريخ. لقد تسبّب مسار الأحداث اللاحقة ـ والذي بمقتضاه أصبحت الماركسية ايدولوجية قوية ذات أبعاد عالمية- بجعل هذه الفلسفة إحدى أكثر المصادر تأثيراً على الإلحاد المعاصر. سوف يتناول هذا الفصل فكر ماركس بالمقدار الذي يتّصلُ فيه بموضوع الإلحاد والعزلة، وسنوجّه الاهتام بشكلٍ رئيسي إلى المرحلة المبّكرة من فكره وصولاً إلى طباعة «بيان الحزب الشيوعي» في 1848. من خلال المقارنة مع توجُّهه العلمي والموضوعي على وجه التحديد في مؤلّفاته اللاحقة، يبدو أنّ ماركس(Marx) كان في الفترة المبكّرة أكثر اهتماماً بالقضايا الفلسفية كالمصير والأصالة الإنسانيّين والتقييم الصحيح للاعتقاد الديني.

منذ بداية حياته المهنية، حين كان يُنسب ماركس(Marx) إلى «الشباب الهيغليين» الذين طبّقوا فلسفة هيغل(Hegel) باتّجاه نقدٍ راديكالي للدين والسياسة، فإنّ ماركس كان مُلحداً مُقتنعاً. في بواكر مؤّلفاته، أكّد انّ الإلحاد ميزة أساسية في مفهومه حول الإنسان، وبالتالي أعلن جازماً في أطروحته لنيل الدكتوراه عام 1841 أنّ الحقيقة العُليا هي الإنسان وليس الله[1].

ينبغي تمييز بُعدين في الإلحاد الماركسي. من ناحيةٍ، يوجد نقده المباشر للدين

(102)

المفسَّر كشكلٍ من العزلة. ومن ناحيةٍ أخرى، توجد نظريةٌ وضعية حول الإنسان تتضمّن خطةً للعمل يُدّعى بأنّها تستطيع التخلّص من مسألة الله بشكلٍ فعّال من خلال التغلّب على جميع تجليّات العزلة الإنسانية في مهدها. تُصوِّر هذه النظرية حالةً يكون فيها غياب الله ماثلاً في أذهان البشر وقلوبهم بكل بساطة ودون إشكال. كما سوف نرى، يوجد ارتباطٌ وثيق بين بُعديّ الإلحاد الماركسي. البُعد النقدي يجعل النظرية الوضعية حول الإنسان مُمكنة، وهذا بدوره يتجلّى في إثبات نقد الدين والتأكّد النهائي من ذلك. فلنتناول كُلَّ واحدٍ من هذين البُعدين.

لعلّ النقطة الأولى التي ينبغي ملاحظتها في النقد الماركسي للدين هي عدم توجّه هذا النقد إلى الميتافيزيقيا. على سبيل المثال، لا تكشفُ مؤلّفاته عن اهتمامٍ كبير بالتحليل والنقد النظري المحض للأدلة التقليدية على وجود الله. في المناسبات النادرة التي يُوجّه فيها فكره نحو مواضيع كهذه، يكون تناوله لها مُوجزاً وليس عميقاً على وجه الخصوص. على سبيل المثال، يحتجُّ ماركس(Marx) بأنّ إثارة السؤال حول خالق العالم والإنسان هو طرحٌ موهوم. بمقتضى فكرةٍ مجرّدة عديمة الجدوى، يفترضُ هذا السؤال أنّ العالم والإنسان لم يكونا موجودين من قبل ويطالبُ بإثبات وجودهم، إلا أنّ هذه الفكرة المجرّدة تُلغي السائل نفسه وسؤاله معه. بكلمةٍ أخرى، «إذا أردتَ أن تحافظ على فكرتك المجرّدة، كُن ثابتاً. وإذا اعتبرتَ الإنسان والطبيعة غير موجودين فعليك أن تعتبر نفسك أيضاً غير موجود لأنّك تتألف كذلك من الإنسان والطبيعة. لا تُفكّر ولا تطرح علّي أي أسئلة لأنّه بمجرد تفكيرك وطرحك للأسئلة، سوف تُصبح فكرتك المجرّدة حول وجود الطبيعة والإنسان بلا معنى. أم هل أنت أنانيٌ إلى درجةٍ تعتبرُ فيها أنّ كلّ شيء غير موجود ولكنّك تُريد أن تُوجِد نفسك؟»[1].

(103)

إنّ هذا الادّعاء ـ بأنّه لدى الحديث عن الخَلق يحاولُ المرء بغباوةٍ طرحَ الأسئلة ضمن إطارٍ افتراضي من عدم الكينونة يُلغي واقع أي سائل ـ بالكاد يكونُ تفنيداً جديراً بالملاحظة للمفهوم التقليدي للخَلق. السبب هو أنّه عادةً، كان مفهوم الخَلق يُقدّم أولاً ليس من أجل استخلاص أصلٍ تاريخي للإنسان والطبيعة من حالة العدم السابقة المفترضة، بل من أجل تفسير المحدودية والإمكانية لوجودهما الآن وفي هذا المكان.

بالرغم من ذلك، لم يكن ماركس(Marx) مُهتمّاً بتتبّع تحسيناتٍ ميتافيزيقة على وجه التحديد، ولم يكن ليقبل بأخذ عدم اكتراثه بالنمط الفكري الميتافيزيقي كإشارة إلى سطحية نمطه النقدي الخاص. على العكس من ذلك، كان ليحتجّ بأنّ نقده في النهاية لا يقوم فقط بهدم الدين بشكلٍ فعّال، بل يتخلّص أيضاً من الادّعاءات الوهمية لكلّ تأمل فلسفي مُنفصل.

يحتلّ مفهومُ «النقد» أهمية مركزية في الفكر الماركسي، ودوره هو الكشف التدريجي عن الطبيعة والمصدر النهائي لحالات العزلة الإنسانية المتعدّدة. إنّ التصوّر المثالي للتحرّر الإنساني ـ الذي يُظهر الاتحاد المتناغم للإنسان مع الطبيعة والاعتراف الفعّال بالإنسان من قبل الإنسان ـ يُحرّك النقدَ الماركسي الذي يتوجّه ضد الأبعاد الإيدولوجية المختلفة التي يفهم المجتمع القائم نفسه عبرها ويُفسّر ذاته لذاته. يتألّف هذا النقد من إظهار خداع المجتمع لنفسه وإخفائه لحقيقة الإنسان على المستويات المتعددة من التفسير الذاتي الايدولوجي سواء على المستوى الديني، الفلسفي، السياسي، الاجتماعي، أو الاقتصادي. إنّه يُقدِّمُ الإنسان لنفسه على نحو يحرّف التصوّر المثالي الحقيقي للتحرّر الإنساني ويُخفي تعاسة وضعه الواقعي، وبالتالي يُشكّل في أنواعه المختلفة غُربةً أو انعزالاً للإنسان عن ذاته.

تمّ طرح الخطة النقدية لماركس من أجل الكشف عن عمق العزلة الإنسانية المتجسّدة في غوامض الايدولوجية وبالتالي من أجل توضيح الهدف الحقيقي للإنسان

(104)

وأساليب تحقيقه. بالنسبة إليه، فإنّ نقد الدين هو نقطة الانطلاق الملائمة في هذا النقد العام للايدولوجية. عل حدّ تعبيره فإنّ: «نقد الدين هو مبنى كلّ نقد»[1].

بالنسبة لماركس، يتمتّع النقد الديني بمكانةٍ متميّزة في النقد العام للغموض الايدولوجي، والسبب ليس لأنّه مصدره الأهم بل لأنّه تجلّيه الأعلى والأكثر تخديراً. حين يُكشف الدين كشكلٍ للعزلة، سوف يلتفتُ الإنسان بسهولةٍ أكبر إلى أبعاد عزلته الأخرى الأكثر هلاكاً في النهاية. «بالتالي، إنّ نقد الدين هو النقد الابتدائي لوادي الدموع هذا حيث يكون الدين هو الهالة»[2].

استناداً إلى ماركس(Marx)، يكمنُ أساس نقد الدين في الاعتراف بحقيقة أنّ «الإنسان يصنعُ الدين، والدين لا يصنع الإنسان»[3]. من خلال تطوير هذا المبحث الأساسي، يدعمُ ماركس(Marx) رأي فيورباخ(Feuerbach) بأنّ الدين في الجوهر هو نوعٌ من الوعي الإنساني الذي يعكسُ وضعاً إنسانياً مُنعزلاً. إنّه النظير السماوي لوجودٍ علماني غير أصيل. على نحوٍ أدق، إنّه في نفس الوقت تعبيرٌ عن الوضع غير الإنساني في المجتمع واعتراضٌ عليه. «إنّ هذا الوضع وهذا المجتمع يُنتجان ديناً يُمثّل وعياً عالمياً معكوساً لأنّهما (بحد ذاتهما) عالماً معكوساً...إنّه الإدراك المدهش للكائن الإنساني بالقدر الذي لا يمتلك فيه الكائن الإنساني أي واقعٍ حقيقي.»[4] بالرغم من ذلك، فإنّه غير فعّال كشكلٍ من الاعتراض لأنّه يقوم فقط بتقديم تبريرٍ خادع ومواساة وهمية للحالة البائسة في المجتمع الإنساني.

يُفسّر ماركس(Marx) التجليات التاريخية المختلفة للممارسة الدينية كإثباتٍ

(105)

تجريبيٍ لادّعائه بأنّ الدين يغرسُ الخضوع الأخروي غير المجدي للحالة الراهنة. وعليه، يتحدّث ماركس(Marx) عن المبادئ الاجتماعية للمسيحية التي تُبرّر الاستعباد في العصور القديمة وتُمجّد الاسترقاق في العصور الوسطى وتدافعُ عن الظُلم اللاحق بالطبقة العاملة. بالاضافة إلى ذلك، يصف ماركس هذه المبادئ بأنّها تحكمُ بكون الأفعال الظالمة هي الجزاء العادل للذنوب أو أنها بلاءات يفرضها الله بحكمته من أجل إصلاحنا.[1]

إذا كان النقد الماركسي للدين مقتصراً على السمات التي وصفناها إلى حد الآن، يُمكن الاحتجاج بأنّ موقفه ليس إلحادياً بالجوهر. وعليه، يُمكن اعتبار أنّ ماركس (Marx)كان فقط رافضاً لتحريف الدين الذي قد ينشأ من النظام الاجتماعي المعيوب أو ينبعث منه فعلاً. يُمكن القول بأنّه من خلال الاستعانة بحوادث تاريخية مُحدّدة لدعم إدانته للدين كأمرٍ غامض، لم يكن ماركس مُوسِّعاً للملاحظات التجريبية لتحويلها إلى تعميمٍ فلسفيٍ يُدين كل دين، بل كان ببساطةٍ مُوضِّحاً للمبدأ الذي يُفيد بأنّ عدم أصالة النظام العلماني ينعكسُ حتماً في الوعي الديني. إنّ هذا الرأي يفتحُ المجال أمام إمكانية مرافقة الدين الأصيل لتحقيق نظامٍ اجتماعي أصيل.

بالرغم من ذلك، لا يمكن الدفاع عن هذا التحليل لموقف ماركس(Marx) على ضوء معالجة أكثر تطوراً لنقده الديني ولأبعاد أخرى من تفكيره. السبب في ذلك هو أنّ ماركس ينتقدُ الدين ليس فقط باعتبار أنّه انعكاسٌ لحالةٍ معيّنة من العزلة العلمانية واعتراضٌ عقيم عليها، بل أيضاً لأنّه يُشكّل بنفسه على الدوام بُعداً محدّداً إضافياً للعزلة حيث يكون الإنسان بمقتضاه مُنفصلاً عن ذاته أكثر من أي وقتٍ مضى.

لقد شهدنا منذ بدايات الفكر الحديث كيف يتمّ التعبير تدريجياً عن الفرضية

 

(106)

التي نشّطت قناعة ماركس بأنّ الدين مصدر للعزلة بحد ذاته، وكيف أصبحت هذه الفرضية واضحة بشكلٍ قاطع في فلسفة فيورباخ(Feuerbach). تُفيدُ هذه الفرضية بأنّ أي محاولة لتفسير الإنسان وفق مبدأٍ يُدّعى بكونه أسمى من الإنسان نفسه يُشكّل عزلةً عن الاستقلالية الإنسانية. «لا يَعتبرُ الكائن نفسه مُستقلاً إلا إذا كان سيّدَ نفسه، ولا يكونُ سيّدَ نفسه إلا حينما يكون مديناً بوجوده لنفسه. إنّ الإنسان الذي يعيشُ تحت نعمة الآخر يَعتبرُ نفسَه كائناً مُعتمِداً. ولكنّني أعيشُ تماماً تحت نعمة فردٍ آخر حين أكون مديناً له ليس فقط باستمرارية حياتي بل بخلقها أيضاً؛ أي حين يكون هو مصدرها[1] بالتالي، يتقبّل ماركس(Marx) دون تحفّظ ضرورة كون النقد الديني تاماً وراديكالياً -إلى درجة إثبات أن الإنسان هو المطلق الوحيد. «الدين هو فقط الشمس الوهمية التي يدور الإنسان حولها ما دام لا يدورُ حول نفسه.»[2] يكون التحرّر الإنساني الفعّال مُمكناً فقط إذا «تبنّى المرء رأي تلك الفرضية التي يكونُ الإنسان وفقها الكائن الأعلى بالنسبة إلى الإنسان»[3].

أدرك ماركس(Marx) أنّ الإثبات الفعّال لنقده للدين تطلّب تفصيلاً وتبريراً لقاعدته الإنسانية. يعتمدُ الادّعاء الذي يشتمل عليه هذا النقد –أي أنّ إثبات وجود الله ككائنٍ متميّزٍ عن الإنسان وأعلى منه يُحقّق العزلة بحد بذاته- على الافتراض الذي يُفيدُ بأنّ الواقع يُقرّ بالإنجاز الذاتي الحصري للاستقلال والتحقّق الإنساني ويتطلّب ذلك. إذالم يتم فعلاً تصحيح هذا الافتراض أو التصوّر المثالي، فلا يمُكن إثبات تهمة العزلة بحق الدين بشكلٍ حاسم.

وعليه، فإنّ بيان فيورباخ(Feuerbach) للكيفية التي ينبغي تفكيك الدين وتفسيره على ضوء قاعدته العلمانية هو سطحيٌ وغير فعّال، والسبب هو أنّه لا

(107)

يكفي مجرد توضيح كيفية اعتبار الدين ظهوراً وهمياً لواقعٍ علماني. من أجل إرساء دعائم هكذا الرأي، يتحتّم تأمين تحليل أكثر استقصائيِ للتوترات والتناقضات المتأصّلة في هذه القاعدة العلمانية نفسها التي سوف تفسّر فعليةَ تحقّق الظهور الديني وإمكانيَّتَه. بالاضافة إلى ذلك، فإنّه من غير المجدي الاعتقاد بأنّ الوهم الديني سوف يختفي تلقائياً نتيجة للبصيرة الفلسفية التي تُعلن أنّ مجرّد الرابطة الطبيعية للحب الأخوي هي المبدأ الأساسي للنزاهة والاتحاد الإنساني. المطلوب هو تقييم أكثر عملي لإمكانية تبدّل النظام العلماني من خلال العمل والنشاط الثوري، وذلك من أجل التخلّص بشكلٍ فعّال من القاعدة غير الإنسانية التي تؤدي إلى الوهم الديني في الوقت الراهن.

وعليه، بالرغم من أنّ ماركس(Marx) يُقرّ بالفضل لفيورباخ(Feuerbach) بسبب إنجازه المحدود في إرجاع الدين إلى مصدره العلماني، إلا أنّه يصر أنّ فيورباخ «يتغاضى عن الحقيقة التي تفيد أنّه بعد إتمام هذا العمل، ما زال يتعيّن القيام بالأمر الأساسي. لا يتمّ فعلاً تفسير انفصال القاعدة العلمانية عن نفسها وتشييدها لذاتها في الغيوم كمملكة مستقلة إلا من خلال الانقسام والتناقض الذاتيين في هذه القاعدة العلمانية. بالتالي، ينبغي فهم الأخير أولاً من خلال تناقضه ومن ثم إحداثه ثورياً في ميدان العمل عبر إزالة التناقض»[1].

بالنسبة لماركس، ما هو هذا الأمر الذي يُشكّل هذا التناقض الذاتي في العالم العلماني والذي ينبغي فهمه من خلال تناقضه ومن ثم إحداثه ثورياً في مجال التطبيق؟ من الناحية الأبسط والأكثر أساسيةً، يكمنُ التناقض في أنّ الإنسان ـ أي العامل والكائن الاجتماعي الذي ينبغي أن يجد الاكتمال في عمله وعلاقاته الاجتماعية ـ يتم نزع الإنسانية عنه بالفعل عبر عمله ويُشوَّه على يد علاقاته الاجتماعية.

(108)

ادّعى ماركس أنّ الدولة الرأسمالية الليبرالية الحديثة التي انتحلت صفة الدفاع عن المصالح المشتركة لجميع مواطينها وحراسة الحقيقة والحرية والعدالة، ليست في الواقع ما ادّعته بل هي أداةٌ يستخدمها قسمٌ محدَّدٌ في المجتمع- أي الطبقة الحاكمة- من أجل استمرارية قوّتها الاقتصادية. كذلك، اعتبر ماركس(Marx) أنّ الظروف المروّعة التي مرّت بها الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر هي إشارة واضحة على أنّه قد تمّ اساءة استخدام المعنى الحقيقي للعمل وتحريفه. في الواقع، تمّ تخفيض العمل ـ الذي ينبغي أن يؤدي دور المصدر الإنساني حقاً للتحقّق الذاتي والترابط الاجتماعي ـ إلى المستوى التجاري اللاإنساني. من أجل البقاء على قيد الحياة، يتحتّم على العامل أن يبيع عمله للرأسمالي الذي يملكُ وسائل الإنتاج. بالتالي، من خلال مصادرة ثمار عمله، ينسلخُ العامل عن نفسه وعن أخيه الإنسان الذي يقفُ مقابله في علاقةٍ من الصراع والنزاع الطبقي. «إذا كان متّصلاً بنتاج عمله الموضوعي كاتّصاله بأداة غريبة وعدائية وقوية ومُستقلة، فإنّ هذا الاتصال هو على نحوٍ يكون فيه رجلٌ آخر غريب وعدائي وقوي ومستقل سيّدَ هذه الأداة. إذا كان متصلاً بنشاطه الخاص بوصفه نشاطاً غير حُر، فإنّه يكون متّصلاً به كنشاطٍ تحت خدمة وسيطرة وإرغام وعبودية رجل آخر»[1].

من هنا، نتوصّل إلى معرفة الأمر الذي كان بالنسبة لماركس المصدر الراديكالي والأصلي لتعاسة الإنسان وعزلته: أي استغلال الإنسان من قبل الإنسان. على وجه الخصوص، إنّه يتمثّل في مصادرة المالكين لوسائل إنتاج فائض القيمة الذي يُصدره العاملون. إنّ الكيفيات المنظّمة المختلفة في الحياة الثقافية كالقانون والسياسة والفلسفة والدين هي مجرّد غوامض إيديلوجية تُرافقُ هذا الاستغلال البحت. «إنّ الدين والعائلة والدولة والقانون والأخلاق والعلوم والفن وما إلى ذلك هي مجرّد أنواع

(109)

محدّدة للإنتاج وتندرجُ تحت حُكمه العام.»[1] تتشكّل هذه الأمور كمحاولاتٍ خادعة كثيرة لعقلنة الغُربة الاقتصادية الأساسية للإنسان وتبريرها وتخفيف وطأتها. إنّ الميزة الغامضة في تاريخ الإنسان هي استعباده من قبل وهمٍ إيديلوجي قد صنعه بنفسه.

بالرغم من ذلك، يكمنُ خلف هذا الإطار من الوهم الإيدولوجي ظهورٌ متزايدٌ في الشدة للواقع التاريخي الذي ينفي أوهام الإيدولوجية ويتضمّن في ذاته بذور البحث عن إيدولوجية ونهاية للعزلة. يتمثّل هذا الواقع التاريخي في البروليتاريا ـ وهي طبقة العاملين المتنامية باطراد والذي يكشفُ النزعُ المستمر للإنسانية عنها من قبل منطق الرأسمالية المتصلّب بوضوحٍ عن فساد كامل هذه الإيدولوجية وعدم أصالتها. في التحليل النهائي، ينكشفُ المعنى الحقيقي للعزلة والمبدأ الواقعي للتخلّص منها بشكلٍ فعّال ليس عبر عملية من الفكر المنفصل بل من خلال التشكّل التاريخي لجماعة بشرية واسعة خالية تماماً من أي كرامة أو ميزة إنسانية. في فقرةٍ ملفتةٍ للنظر، يصفُ ماركس(Marx) ما يقتضيه هذا الوضع:

«ينبغي تشكيل طبقة تمتلكُ روابط راديكالية، طبقة في المجتمع المدني ليست منه، طبقة تمثّل تفكّك كل الطبقات، نطاقٌ اجتماعي له طابعٌ عام لأنّ معاناته عامة...وأخيراً، نطاقٌ لا يُمكنه تحرير نفسه دون تحرير ذاته من جميع الأطر الأخرى للمجتمع ومن دون تحرير جميع هذه الأطر الأخرى بالتالي. باختصار، إنّه خسرانٌ تام للإنسانية ولا يمكنه إصلاح نفسه إلا من خلال الإصلاح الشامل للبشرية. إنّ هذا التفكّك الاجتماعي، كطبقةٍ خاصة، هو البروليتاريا[2]

على ضوء هذا التحليل للعزلة، يُوضِّح ماركس تفسيراً للتحقق الإنساني الأصيل الذي ينبغي أن يُلهِم النشاط الثوري للبروليتاريا ويُرشده في سبيل التغلّب على التناقض

(110)

الكامن في الوجود العلماني للبروليتاريا. تُجسّد النظرة الجديدة للإنسان الأصيل في هذا التفسير البُعدَ الراديكالي جداً في إلحاد ماركس. إنّها إلحادية فعلاً لأنّ أي إشارة فيها إلى الله أو إلى الدين غير متصلة بهذه النظرة إلى الإنسان. إنّها تمثّلُ مفهوماً ديناميكياً للإنسان، وحين يتمّ تطبيق هذا المفهوم بشكلٍ تام سوف يُثبت أنّه فعّال حقاً في جعْل الإنسان يتصالح مع نفسه وسوف يُشكّل ـ استناداً إلى ماركس ـ تأكيداً تجريبياً حاسماً لنقده للدين باعتباره عزلةً ذاتية. إنّه مفهوم إنساني سوف يكون إثباته الفعلي في التحقّق التاريخي لمجتمعٍ شيوعي. في حياة هذا المجتمع ولغته، سوف تكون أي إشارة إلى الله باطلة وفي غير محلّها ومعدومة الوجود.

إنّ الموضوع الأساسي والمحفّز في هذا المفهوم الجديد حول الإنسان هو أنّه ينبغي فهم كلّ شيء يتعلّق بالإنسان والمجتمع والتاريخ عبر منظور العمل المنتِج في المجتمع. بكلمةٍ أخرى، ينبغي اعتبار أنّ الإنسان بشكلٍ حصري يصنع ما هو عليه عبر عمله المنتِج. بالاضافة إلى ذلك، بما أنّ العمل المنتِج هو نشاط اجتماعي بالضرورة، فإنّ الإنسان يستطيع صناعة نفسه حقاً فقط في الجماعة أو المجتمع وعبرهما.

ينبثق الإنسان من الطبيعة من شكلٍ وجودي لا يتعدّى الحيوانية، تماماً كما يُبدّل الطبيعة من خلال عمله المنتِج لتلبية حاجاته المتعدّدة. إنّه يجعل نفسه إنساناً من خلال تنمية العالم وأنسنته عبر عمله. من خلال العمل الذي يُلبّي احتياجاته المادية والبيولوجية الأساسية، يُمهّد الإنسان الأرضية لبروز الحاجات الاجتماعية والثقافية على وجهٍ أدق، والتي بدورها تُلبّى من خلال العمل. يُشكّل الإنسان نفسه تدريجياً من خلال خطابٍ جدليٍ مع الطبيعة، وهو خطابٌ يتمّ تفعيله من خلال العمل. إنّ حدود إمكانيات العمل الإنساني هي حدود إمكانيات عالم الإنسان وتاريخ الإنسان ومجتمع الإنسان ومصير الإنسان. يتم تحديد نطاقُ وعي الإنسان ومدى جودته من خلال مقدار وطابع السيطرة العملية على الطبيعة والتي قد حققها عبر عمله. من خلال

(111)

العمل المنتِج، يتحقق الانتقال من حالة السيطرة شبه التامة لقوى الطبيعة إلى أنسنةٍ فعّالة للطبيعة، ومن الوجود المشابه للقطيع إلى وجودٍ جماعي أصيل[1].

وفقاً لماركس، فإنّ الإنسان سوف يبقى مُنعزلاً وغريباً حتى يلتزم بثباتٍ بهذه الحقيقة الجوهرية التي تُفيدُ أنّ أي معنى أو قيمة يمتلكهما الإنسان ـ أو بمقدوره حيازتهما ـ يتمّ تحصيلهما حصراً من خلال عمله الخاص. لهذا السبب يُعتبر نقد الدين ضرورياً لأنّه يُمكّن الإنسان من تجاوز التصويرات الوهمية لوضعه والتوصّل إلى تقديرٍ فعّال لمصدره وهدفه الحقيقيين. «يُزيل نقد الدين الوهمَ عن الإنسان لكي يُفكِّر ويعمل ويُشكِّل واقعه كإنسانٍ قد تخلّص من أوهامه واستعاد عقله؛ وذلك لكي يدور حول نفسه كشمسه الخاصة الحقيقية»[2].

وعليه بالنسبة لماركس، فإنّ المنظور الأساسي الذي ينبغي أن نُطوّر من خلاله فهماً للحالة الإنسانية يتناقضُ بشدة مع أي تفسيرٍ ديني لهذه الحالة. الإنسان هو صُنعُ الإنسان-من خلال عمله الخاص بشكلٍ دقيق وحصري، يخلق الإنسانُ الإنسانَ ويُنجز عبر موارده الخاصة تمام الحرية والتحقق. إنّ العمل الإنساني هو المصدر المطلق لكل قيمة الإنسان ولجودة مجتمعه ولمعنى تاريخه. على حدّ تعبير ماركس فإنّ «كلّ ما يُسمّى بالتاريخ العالمي هو ليس إلا خلق الإنسان عبر العمل البشري»[3].

انطلاقاً من مصدر إلهامها الأساسي، تُمثّل الماركسية نزعةً إنسانية مطلقة وفلسفة مادية ديناميكية. إنّ أيّ اقتراحٍ بضرورة دمج عمل الإنسان لنيل التحقق الذاتي في إطارٍ أوسع وأكثر أهميةً والنظر إليه ـ على سبيل المثال ـ كمرحلة من حياة الروح المطلقة الهيغلية أو كمشاركةٍ محدودة في الكيان المطلق لخالقٍ متجاوزٍ للطبيعة

(112)

ينبغي رفضه بوصفه استبدالاً وهمياً للمادة بالظل. السبب هو أنّ جميع هذه المفاهيم الميتافيزيقية واللاهوتية هي مجرّد لوازم مشتقة ومؤقتة في عملية خلق الإنسان لذاته عبر عمله.

يعني ذلك أنّنا لا ننطلق ممّا يقوله البشر أو يتوهمونه أو يتخيلونه، ولا من الكلام عن البشر والتفكر بهم وتوهمهم وتخيّلهم للوصول عبرهم إلى رجالٍ مصنوعين من لحمٍ ودم. إنّنا ننطلق من الرجال الفعّالين حقاً ونعتبر أنّ تطوّر ردودهم الإيدولوجية وأصداء عمليتهم الحياتية الواقعية تنبثق من نفس تلك العملية الحياتية. حتى الصور الضبابية في عقول الرجال هي أمور سامية ضرورية لعمليتهم الحياتية المادية والقابلة للملاحظة التجريبية والمشروطة مادياً. وعليه، فإنّ الأخلاق والدين والميتافيزيقيا والأنواع الأخرى من الايديلوجية وأشكال الوعي التابعة لها لا تحتفظُ باستقلالها الظاهري بعد الآن. إنّها لا تمتلك تاريخاً ولا تطوراً، ولكن حين يُطوّر البشر إنتاجهم وتعاملهم المادي مع واقعهم هذا، فسوف يتغيّر تفكيرهم ومنتجاته أيضاً. الوعي ليس هو المحدّد للحياة، بل الحياة هي التي تُحدِّد الوعي[1].

إنّ النزعة الإنسانية الطبيعية المتأصلة في إصرار ماركس بأنّ العمل المنتج هو المصدر المطلق للمعنى والقيمة قد تلقّت المزيد من الإثبات والتحديد في بيانه للطابع والدور الاجتماعي لعملٍ كهذا. بالفعل، إنّ الهدف الحقيقي للعمل هو بناء مجتمعٍ شيوعي. إنّ العمل المنتِج ـ أي الاجتماعي في ذاته ـ هو إنساني بالأصالة بالمقدار الذي يتمّ تنفيذه كخطة اجتماعية ـ أي إلى المدى الذي يكون فيه مشروعاً اجتماعياً لأنسنة الطبيعة بُغية تحقيق أنسنة فعّالة لجماعة العاملين. من خلال المسعى الجماعي، يمكن تطوير أساليب إنتاجية أكثر فعالية، وهذه الأساليب بدورها تُمكّننا في النهاية من إحراز تحقُّق الإنسان واكتماله كحقيقة جماعية.

(113)

يمكن حقاً تحقيق الميزة العامة للإنسان حين يستشعر الجميع بأنّ العالم -من خلال العمل الإنساني المشترك ـ قد أصبح محلَّ إقامة جماعة تُجسِّد القضاء المناسب لحاجات الكل وتُتيح تعبيراً ملائماً عن مؤهّلات الجميع. حتى اليوم، لم يكن هذا الوضع السعيد مُمكناً، ومن الأنسب وصفُ مسار التاريخ السابق على أنه تاريخ ما قبل الإنسانية. إلى حد الآن، كنّا تحت سيطرة الحاجة أو النُدرة الاقتصادية التي تُفضي إلى نظام الممتلكات الخاصة الذي يتجلى فيه المصدر الجذري لكلّ عزلة[1].

بالاضافة إلى ذلك، فإنّ المجتمع الصناعي الرأسمالي الحديث ـ بغضّ النظر عن طاقته غير المحدودة تقريباً على الإنتاج ـ يُعرقل تحقق المجتمع الشيوعي الأصيل. السبب هو أنّ وسائل الإنتاج هي بيد القلّة التي تُصادرُ ثمار عمل الأغلبية الساحقة لمصلحتها الخاصة، ولكن حين يعي العمّال الرازحون تحت ضغط العزلة ونزع الإنسانية المستمرّين أيّ مأزقٍ هم فيه فإنّهم سوف يثورون ويقبضون على وسائل الإنتاج، وبعد مدّةٍ من التكيّف الاجتماعي تحت ديكتاتورية البروليتاريا(Proletariat) سوف يحقّقون المجتمع الشيوعي.

في هذا المجتمع الشيوعي الذي سيكون تجسيداً لخلْق الإنسان لنفسه، سوف يعثرُ جميع البشر على تحققهم الكامل والإنساني على وجه التحديد. حين يتحرّر كلّ فردٍ من المملكة الانقسامية للحاجة والنُدرة ومن أبعادها الانعزالية المرافقة، فإنه سوف يتمتّع بالتحرّر الأصيل المتمثّل بالولوج إلى واقعه الحقيقي ككائنٍ منتمٍ إلى نوع وتنمية هذا الواقع. من خلال عمله، سوف يستشعرُ بأنه فردٌ مدفوع بدلاً من فردٍ مجبور. سوف يتّخذ مفهوم «الحاجة» معنى إبجابي لكي يكون «الرجل الثري في نفس الوقت مُحتاجاً لتركيبةٍ من التجليات الإنسانية في الحياة، ويتواجد تحقُّقه الذاتي كضرورة باطنية، كحاجة»[2].

(114)

لن يتم بعد الآن استشعار أنّ العمل هو مهمة تنافسية نازعة للإنسانية في خدمة البقاء الفردي، بل الاستشعار بأنه التعبير الحر والمناسب لتحقيق الإنسان لذاته كمندمجٍ اجتماعياً بشكلٍ تام. من خلال عمله، سوف يتمتّع الإنسان بتقدير حي ومُرضٍ تماماً للأهمية الاجتماعية و«الدنيوية» حصراً لحياته. بالتالي، في مجتمعٍ كهذا، سوف يتم الاعتراف بأنّ «النشاط المرتبط بشكلٍ مباشر بالآخرين قد أصبح أداةً لتجلي الحياة ونمطاً لتخصيص الحياة الإنسانية»[1]. على هذا المستوى المتطوّر من الوجود الإنساني، حتى توقّع الموت الشخصي سوف يرسّخ ببساطةٍ قناعة الإنسان بأنّ واقعه الحقيقي ـ حتى كفرد ـ مشمولٌ في الوسط الاجتماعي لحياته ووعيه المتصلَين بالنوع.[2]

يتمثّل الوضع الذي تصوّر ماركس بأنّه حصيلة الأداء الإنساني في جماعةٍ من المواطنين المجعولين اجتماعياً وطبيعياً بشكلٍ تام في عالمٍ إنساني طبيعي حقاً. «الوجود الطبيعي للإنسان قد أصبح وجوده الإنساني، والطبيعة بحد ذاتها قد أصبحت بشرية بالنسبة إليه. وعليه، فإنّ المجتمع هو الاتحاد المنجَز للإنسان مع الطبيعة والانبعاث الحقيقي لها، والنزوع الطبيعي المتحقق للإنسان، والأنسنة المتحققة للطبيعة.»[3]

لا يتم افتراض هذا المجتمع الشيوعي كشيءٍ في مقابل الفرد بل كأمرٍ يُشكّل التحقق المناسب له. ولكن بالرغم من أنّ ماركس يعترف من خلال ذلك بأهمية الفرد بوصفه «الوجود الذاتي للمجتمع كما يُتصوّر ويُستشعر»[4]، ينبغي التأكيد أنّه بالنسبة إليه تكون هذه الأهمية اجتماعية حصراً. يكونُ الفرد مهماً فقط على ضوء المجتمع الذي يدعمه وبكونه الداعم لهذا المجتمع. بالتالي، لا يوجد مجالٌ كبير ـ

(115)

إذا وُجد أصلاً ـ في هذا المفهوم لنسبِ الأهمية إلى الفرد كمتجاوزٍ بطريقة ما لبيئته الاجتماعية بفضل ذاتيته الشخصية الفريدة. بالاضافة إلى ذلك، وبالنظر إلى أصله الطبيعي غير المقيّد، لا يوجد مجال على الإطلاق في هذا المفهوم لأن يُنسب إلى الفرد علاقةً شخصيةً مع مبدأ إلهي متعال أو مع مصير شخصي يتجاوز وجوده التاريخي. كما يتصوّر ماركس، فإنّ الشيوعية تُقدِّم حلاً كاملاً وكافياً ذاتياً لجميع مشاكل الحياة والتاريخ الإنساني. «الشيوعية كنزعةٍ طبيعية متطوّرة كلياً هي نزعة إنسانية، وكنزعة إنسانية متطورة كلياً هي نزعة طبيعية. إنّها الحل القطعي للعداوة بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان. إنّها الحل الحقيقي للصراع بين الوجود والجوهر، بين الموضوعية والإثبات الذاتي، بين الحرية والضرورة، وبين الفرد والنوع. إنّها الحل لأحجية التاريخ، وتعلم أنها تمثّل هذا الحل»[1].

وعليه، قد يحتجُّ ماركس(Marx) أنّ بيانه العلمي الذي يوضّح كيفية تحقق مجتمع علمانيٍ متناسبٍ تماماً مع المتطلبات الإنسانية يُقدِّم من حيث المبدأ تبريراً لنقده الإنساني للدين كمسبِّبٍ للعزلة بحد ذاته. يكمنُ الإثبات التجريبي الفعلي لتبرير وجهة نظرٍ إلحادية في تطبيقٍ ثوري يؤمِّن التحقق الفعلي للمجتمع الشيوعي. بفضل التحقق الفعلي لهذا المجتمع، سوف يتخلص الإنسان من الشروط التي تجعل الدين مُمكناً لأنه سيكون قد تغلب على العزلة الاقتصادية التي تُمثِّلُ مصدره الخفي، ومن خلال هذه العملية سيكون قد أمّن لنفسه الدليل الواضح الذي استنتجه بتمام واقعه وقيمته الإنسانيين من داخل موارده الإنتاجية الخاصة. حتى الإشارة غير المباشرة إلى الله التي تطبعُ الفهم العرفي للإلحاد لن تكون ضرورية بعد الآن، كما يُعبّر ماركس نفسه في الاقتباس المطوّل التالي الذي يُمكن أن يُقال بأنّه يُلخّص كامل فلسفته حول الدين:

(116)

«بما أنّه للإنسان الاجتماعي، كل ما يُسمّى بالتاريخ العالمي ليس إلا خلق الإنسان عبر العمل البشري وبروز الطبيعة لصالح لإنسان، فإنّه بالتالي يمتلك الدليل الواضح الذي لا يُدحض على خلقه الذاتي، على أصوله الخاصة. حين يتضح في الحياة العملية والتجربة الحسية جوهرُ الإنسان والطبيعة، والإنسان ُككائن طبيعي والطبيعةُ كواقع إنساني، فإنّ البحث عن كائن أجنبي، كائن فوق الإنسان والطبيعة (وهو بحثٌ يُمثّل الإقرار بعدم واقعية الإنسان والطبيعة) سوف يغدو مستحيلاً عملياً. بعد هذا، لن يكون للإلحاد ـ باعتبار كونه مُنكِراً لهذه الوهمية ـ أي معنى، لأنّ الإلحاد هو إنكار الله ويسعى من خلال هذا الإنكار لتأكيد وجود الإنسان. بعد هذا، ما عادت الاشتراكية تطلب أسلوباً دائرياً كهذا؛ إنها تبدأ من التصوّر النظري والعملي الحسيّ للإنسان والطبيعة كموجودات أساسية. إنه الوعي الذاتي الوضعي الإنساني، ولم يعد الوعي الذاتي المحرَز من خلال إنكار الدين»[1].

يُمثّل فكر ماركس(Marx) محاولةً مثيرة لوضع الأرضية لإثبات المعنى والقيمة المطلقين للوجود الإنساني عبر مصطلحات المحدودية والعلمانية حصراً. لقد شهدنا كيف يقدّم مفهوماً حول الإنسانية المتحققة والمندمجة تماماً بوصفها الإثبات المبدئي لنقد التفسير الديني للواقع. بالاضافة إلى ذلك،كان ماركس ليرفض الاتّهام الذي اعترف بإمكانية توجيهه ضد فيورباخ، وهو أنّ المجتمع الملحد المرتَقَب في العصر الشيوعي كان مجرد تفكير مبتني على التمني. كان ماركس ليصرّ بأنّه تنبّؤٌ مُستندٌ إلى أساسٍ علمي يكشفُ كيف يُمكن للإنسان ـ إذا اختار الأساليب الثورية اللازمة ـ أن يجعل نفسه فعلياً مكتفياً ذاتياً بشكلٍ تام. كان ليشدّد بأنّه لا يقدّم تصوراً مثالياً ولا أمراً حتمياً خالياً من الحياة، بل اقتراحاً عملياً يتحدّى الإنسان لاتخاذ مسارٍ للعمل يُمكنه من خلاله التخلُّص من كل عزلة وحعْل نفسه متناسباً تماماً مع حاجاته وطموحاته.

(117)

وعليه، يمكن القول بأنّ مفهومه للإنسان الشيوعي هو مثالٌ على التفكير الديناميكي المتعمَّد وليس على التفكير المبتني على التمني، ويتم تقديمه كنظرة راسخة متجاوزة للذات لطرازٍ جديدٍ من الإنسانية بوصفه هدف المسعى التاريخي المكرّس وإلهامه. «سوف يُنتجه التاريخ، والتطور الذي سبق وأدركنا في الفكر بأنّه متجاوز للذات سوف يتضمن في الحقيقة عملية شديدة وممتدة. ولكن ينبغي أن نعتبر أنّ اكتسابنا السابق للوعي بالطبيعة المحدودة وهدف التطور التاريخي واستطاعتنا النظر إلى ما وراءه، هو تقدُّم»[1].

بصرف النظر عن الطابع العميق للإلحاد المتأصل في نظرة ماركس، إلا أنه يُمكن تقديم اعتراضات محددة ضدّه. على سبيل المثال، يُمكن الاعتراض بأنّ دائرة الاحتجاج التي تدعم إثبات الإلحاد ما زالت غير قاطعة في الأساس بالقدر الذي يقع الإثبات الفعلي للنقد الديني في التحقق المستقبلي لوضعٍ إنسانيٍ حُر وخالٍ من الدين. بكلمةٍ أخرى، إنّ ادّعاء لزوم كون الدين مُسبِّباً للعزلة في ذاته -لأن الإنسانية تقدر على تحقيق وضعٍ مندمج سوف يُثبَتُ فيه تجريبياً عدم واقعيتها- يتركُ صحة هذا التقييم الديني للمستقبل. بالرغم من ذلك، ينبغي افتراض صحته كشرط لازمٍ للتطبيق الذي يُدّعى بأنّه سوف يحقق الذبول التجريبي للدين. السبب هو أنّ هذا الإنجاز يفترضُ بأنّه ينبغي على الإنسان «أن يدور حول نفسه كشمسه الحقيقية» وأن يقوم بتوجيه عمله من أفقٍ اجتماعي ـ اقتصادي حصراً. وعليه، فإنَّ ما يبدو أنّه مشمولٌ بدلاً من الحجة القطعية هو الالتزام بجعْل التاريخ ينكشفُ على النحو الذي ينبغي، وذلك فيما لو أردنا تحقيق افتراض التحقق الذاتي التام للاستقلالية الإنسانية. يبقى أمر تواجد هذه الاستقلالية والتحقق بشكلٍ فعّال ضمن الموارد التاريخية ـ والتي تعني من الناحية الماركسية موارد العمل البشري- مورداً جدلياً حتمياً.

(118)

سوف يبقى الأمر جدلياً حتى لو تم الاعتراف بتنبّؤ ماركس الذي يُدَّعى بأنّه علمي، والذي يُفيد بأنّ «العملية الشديدة والممتدة» المتعلقة بتشكُّل المجتمع الشيوعي سوف تتغلّب على المخاطر والطوارئ الملازمة وتُنجز هدفها في النهاية. السبب هو أنّه حتى في هكذا مجتمع، فإنّه من غير الواضح إذا كان يستطيع الإنسان استشعار تحققه الملائم وتحرّره من كل عزلة. من المعترف به أنه لو استشعر الإنسان نفسه بهذه الطريقة في المجتمع الشيوعي، ستمثّل نظرية ماركس(Marx) الإنسانية بياناً منطقياً لعلّة ذلك. بالفعل، قد تُحدثُ هذه النظرية وضعاً إنسانياً يكون فيه من الممكن اختبار فرضية تحققه الذاتي الكامل تجريبياً. ولكن هذا بحد ذاته ليس دليلاً على ثبوت هذه الفرضية بالضرورة. إنّ تأكيد ماركس على ذلك يعتمد على الادّعاء القابل للمناقشة بأنه قد رفع رأسه فوق التاريخ وعلم مُسبقاً بالحصيلة التجريبية المطلقة للعملية التاريخية.

بشكلٍ أكثر مباشرة، يمكن تقديم اعتبارات وضعية متعدّدة تتحدّى الادّعاء الذي يُفيد بأنّ المجمتع الشيوعي قد يُشكِّلُ فعلاً إثباتاً تجريبياً للتحقق الإنساني الكامل واستبعاداً فعّالاً لمسألة الله. قد يُحتجّ مثلاً بأنّ هذا المفهوم يتضمّن نظرةً تقييدية للإنسان تُلاحظه فقط ضمن أبعاده المتمثلة بالوجود الخارجي والاجتماعي. من هنا، يفشلُ هذا المفهوم في التعامل مع مقتضيات الأصالة الشخصية الداخلية التي تؤكّد عليها الفلسفة المعاصرة أو إشباعها.

وعليه، يُمكنُ الإشارة إلى أنّه يوجد في داخل كلّ فرد تحدٍ حقيقي للتيقّن والوصول إلى الحقيقة الكاملة لذاتيته الباطنية. لا يمكن إشباع هذا التحدي لإنجاز مشروع التوصّل إلى العلم الذاتي والأصالة الشخصية الأساسيين فقط من خلال إصلاح حالات عدم التوافق الاجتماعي-الاقتصادي بين البشر، لأنّ الأمر يتعلّق ببُعد الاتّزان الداخلي العامودي بدلاً من بُعد التناغم الاجتماعي الأفقي. قد يُعترض بأنّ المفهوم الماركسي

(119)

حول الإنسان يفشلُ في توضيح هذه التراجيديا الأخلاقية للباطنية، وبالرغم من عدم تعارضها مع التراجيديا الأخلاقية في الخارج والمجتمع إلا أنّها قطعاً لا تُختزل بها. باختصار، حتى في المجتمع الشيوعي، يُمكن الاحتجاج بأنّ الإنسان سوف يبقى يمثّل مشكلةً لذاته مع احتمال انعزاله وعدم تحقق فرديّته الشخصية. إنّ الإقرار بهذا الأمر حتى على نحو الاحتمال يُشكّل معارضة حقيقية لادّعاء ماركس بأنّه مع قدوم المجتمع الشيوعي سوف يُضمن إزالة كافة حالات العزلة الإنسانية ومعها القضاء على مسألة الله في الوعي الإنساني[1].

كما أُشير سابقاً، سوف يكون الرد الماركسي على هذا الاعتراض بأنّه في البيئة الاجتماعية تماماً، سوف يقدِّرُ الفرد الأهميةَ الاجتماعية الحصرية لوجوده الخاص وبالتالي لن يقوم ببساطة بطرح مسألة معناه وقيمته الشخصيين المتجاوزين للمجتمع. حتى لو تطرّق لهذه المسألة، سوف يكون هدفه فقط صرف النظر عنها فوراً باعتبارها استفساراً زائفاً.

بالرغم من ذلك، قد يحتجّ كثيرون بأنّ هذا الأمر يُحدّد فقط مساحةً حقيقية من الاستفسار والمناقشة الإنسانية غير الموجودَين، وذلك من خلال الإصرار على بيانٍ غير مناسب ومتفكِّك في النهاية يتعرض للأهمية الاجتماعية الحصرية للوجود الإنساني. بكلمةٍ أخرى، قد يُحتجّ بأنّ هذا البيان يَفترضُ بشكلٍ خاطئ أنّه ما دام بالإمكان وصفُ كلّ الأفعال الإنسانية بالاجتماعية من بعض النواحي، فينبغي أن تكون كذلك في كلّ جانب[2]. يتعارضُ هذا الأمر مع النقطة التي يعترفُ بها ماركس نفسه وهي عدم وجود فعلٍ اجتماعي غير صادر عن الأفراد[3]. كل الوجود والفعل الاجتماعي

(120)

هو من عمل الأفراد. هكذا، تتخذ هذه النقطة طابع «المتكلم المفرد» غير القابلة للإختزال، وبالتالي لا يمكن أن يكون معناها اجتماعياً حصراً.

لا يُمكن احتساب الفرد بشكل تام وببساطة ـ حتى ذاك الذي يؤدي النشاط الاجتماعي ـ كمجموعة مُحدّدة من العلاقات الاجتماعية في الشبكة الشاملة المستمرة لهذه العلاقات التي تُشكّل مسار تاريخ البشرية. على خلاف قطعة لعبة الشطرنج مثلاً، فإنّ الأسئلة المتعلقة بأهمية الفرد لا يُمكن طرحها أو الاجابة عنها بشكل مناسب على ضوء الحركات المطلوب اتّخاذها أو العلاقات التي ينبغي الدخول بها مع الأفراد الآخرين. السبب هو أنّ الفرد كما يعترفُ ماركس(Marx) هو «الوجود الذاتي للمجتمع كما يُتصوّر ويُختبر»[1]. بوصفه بشكلٍ دقيق الذات الواعية في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تطبعُ مشاركته في حياة النوع البشري، يُواجه كلُّ فردٍ مسألة الأهمية النهائية لذاتيته التي لا يمكن التعبير عنها. مهما كان نظام المجتمع مُتكيّفاً بشكل جيد ومتناسباً مع متطلبات واقع الإنسان الاجتماعي، فإنّه لا يكشفُ عن أرضية ذي معنى لهذه الذاتية الفريدة التي من خلالها يتم إدخال الفرد في واقع الحياة الجماعية المستمرة ويعيش عبرها حياة النوع بطريقةٍ تختص به حصراً.

يقفُ الفرد ـ باعتباره على وجه التحديد الفاعل الواعي في الحياة الجماعية- في علاقة تماسٍ مع هذه الحياة الجماعية، ولا يتطابق معها بشكلٍ مطلق. لا يمكن شرح معنى حياته (وبالفعل موته أيضاً) ـ بالنظر إلى أنها مُلكه الخاص ـ بشكلٍ مناسب وفق معنى حياة الجماعة. لا يتمكّن المحتوى المتوفّر للفرد عبر مشاركته في المجتمع التاريخي من تحقيق نوع المصير والتعالي الذي قد يصبو إليه ولو بنحو يُمكن تصوّره على الأقل[2]. بالتالي، قد يبدو أنّه حتى تحت أكثر الظروف الاجتماعية ـ الاقتصادية أصالةً، سوف يُحافظ الفرد على الحاجة للأصالة الشخصية المتجاوزة للمجتمع. حتى

(121)

في مجتمع الحقيقة والعدالة الذي يتحقق فيه الاعتراف المتبادل بالإنسان من قبل الإنسان، فإنّه لا يبدو من المعقول الافتراض بأنّ مناقشة المصير الشخصي الثابت ومسألة الله بشكل عام سوف تختفي من الوعي الإنساني. إن الإشارة إلى إمكانية ذلك ـ كما يفعل ماركس ـ يستلزم تطوراً لافتاً للغفلة عن الذات، وبالكاد يكون مُحتملاً أو مرغوباً فيه.
إنّ هذه التأملات التي سوف نوسِّعها لاحقاً بشكلٍ أوفى لا ينبغي أن تحجب الاعتراف بالأهمية والتأثير الكبيرين للإلحاد الماركسي. يُقدّم هذا الإلحاد مشروعاً عميقاً ومُلهِماً في العديد من النواحي للحل القطعي للعزلة الإنسانية. يتمُّ دمجُ رفضه للمطلق الإلهي في الإطار الأوسع لنظرة متفائلة وعملية حول المصير الإنساني. وعليه، يتمّ إعادة تأكيد واقع المطلق على نحوٍ علماني حصراً، ويُعتبر أنّ المسار الكامل للمسعى الطبيعي والإنساني يقودُ إلى التشكُّل الذاتي المضمون للإنسانية بوصفها الحقيقة المنطقية الثابتة والمكتفية ذاتياً.
من خلال استبدال المطلق الإلهي المتعالي بمجتمعٍ بشريٍ «مطلق»، تدّعي الماركسية تحقيق أكبر طموحٍ للفكر المعاصر. تدّعي بأنّها تحقق الصدفة التامة للأنسنة الكاملة للحرية ولنظامٍ مُعترف به عالمياً للحقيقة والقيمة المطلقَين. يُمثّل مفهوم المطلق الذاتي التام ـ الذي ليس إلا اعتراف الإنسانية الكامل والمكتفي ذاتياً بنفسها ـ تصوّراً مثالياً نظرياً وأخلاقياً مُثيراً. لعله من غير المفاجئ أنّه بالمقارنة مع النشاط القيم جوهرياً المتمثل بالمشاركة في تحقق هذه الإنسانية المستقلة، يعتبر الماركسيون أنّ الأسئلة المتعلقة بالمصير الشخصي للفرد هي غير مهمة وحتى أنّها خارجة عن الموضوع. بكلِّ الأحوال، إنّ أيِّ تفسيرٍ إلهيٍ مُعاصر للمطلق وللتحقُّق الإنساني ينبغي أن يلتفت بجديةٍ إلى هذه النزعة الإنسانية المطلقة لدى ماركس والتي ما زالت تُعجب الكثيرين بوصفها تقييماً أكثر أصالة للواقع.

(122)

 

 

 

 

 

 

الفصل السادس

المنظومة الحديثة للفلسفة الوضعية الطبيعية

(123)

 

6 - المنظومة الحديثة للفلسفة الوضعية الطبيعية

لا يُعنى هذا الفصل والفصل الذي يليه بشكلٍ رئيسيٍ بعرض أفكار فلاسفة محدَّدين، بل يمثّلُ هذان الفصلان محاولة لنقل فهمٍ أساسيٍ لأكثر نموذجين مميِّزين يجدُ الإلحاد المعاصر فيهما التعبير عن نفسه وهما: الفلسفة الوجودية والفلسفة الوضعية الطبيعية. سوف ينحصرُ هذا الفصل ببحث الفلسفة الوضعية الطبيعية.

في مسار النقاش التالي، سوف يتمُّ توضيح الفروق الدقيقة المختلفة الكامنة في مصطلح «الوضعية الطبيعية» الغامض والمربك نوعاً ما. ولكن من خلال الوصف الأولي، يُمكن القول بأنّ هذا المصطلح يُشيرُ ضمناً إلى الرأي الذي يعتبرُ أنّه من أجل الوصول إلى تفسيرٍ نهائي لمعنى الواقع وقيمته بشكل عام وللوجود الإنساني بشكلٍ خاص، لا يُوجد أي أساس أو حاجة لتجاوز عالم التجربة والتوضيح العلمي.

إنّ هذا الرأي يستمدُّ الإلهام من العديد من المصادر، وقد تمّت الإشارة إلى بعضها في الفصول السابقة. على سبيل المثال، لقد شهدنا كيف أطلقت الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر تصوراً جديداً يتمثّل بالفهم الذاتي المحض للعالم. بالاضافة إلى ذلك، أتاحت هذه الثورة للإنسان سيطرةً غير مسبوقة على الطبيعة وعلى مصيره الخاص، وترافقت مع نتائج أكثر جديرة بالملاحظة تميلُ نحو حصر اهتماماته وآماله ضمن إطارٍ علماني على وجه الحصر. لقد رأينا أيضاً الأثرَ العميق لفلسفة كانط(Kant) وكيف قامت بحصر المعرفة العلمية بالواقع بالمعرفة التي توفّرها العلوم المادية، ورفضت كل الادّعاءات الميتافيزيقة على توفير العلم بأي حقيقةٍ متجاوزةٍ لحدود التجربة باعتبارها وهمية.

المصدر الآخر الذي ينبغي ذكره للفلسفة الوضعية الطبيعية هو المذهب الفلسفي

(124)

التجريبي الذي كان المؤثّر الرئيسي على الفلسفة البريطانية منذ القرن السابع عشر. كذلك، ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار التيّار المهم للمذهب المادي الفرنسي في القرن الثامن عشر.

قد يتطرقُ المرءُ إلى مواضيع مختلفة بوصفها ذات أهمية بالنسبة إلى تطوّر المذهب التجريبي البريطاني الكلاسيكي. على سبيل المثال، قد يتناول أبعاداً محدّدة من فكر ثوماس هوبس(Thomas Hobbes) (1588-1679) الذي عمّم النظرة العلمية الجديدة إلى مذهبٍ فلسفيٍ ميكانيكيٍ مادي. أو قد يُركّز على إصرار جون لوك (1632-1704) بأنّ العقل البشري هو بالأصل صفحةٌ بيضاء وأنّ معرفتنا بأكملها تنشأ في الانطباعات الحسية الذرية ومنها. أيضاً، قد يُشيرُ المرء إلى كيفية هدم جورج بركلي(George (Berkeley (1685-1753) للادّعاء الضعيف وغير المبرّر لمذهب لوك التجريبي بأنّه قد حافظ على رابطةٍ بين أفكار التجربة والعالم المادي الخارجي المخلوق إلهياً. بالرغم من ذلك، لا تتعدى كلُّ هذه التأملات أن تكون تطلّعاتٍ لفلسفة دافيد هيوم(David Hume) (1711-1776) التي وجد المذهب التجريبي الكلاسيكي فيها أبلغ تعبيرٍ له، وتمّ عبرها وضعُ المحتويات الفلسفية الأساسية للفلسفة الوضعية الطبيعية اللاحقة.

تمّت الإشارة إلى السمات المتصلة بنظرة هيوم(Hume) تجاه مسألة الله في مبدئه المنهجي العام: «حين نحمل أي شكٍ بأنّه يتم استعمال مصطلحٍ فلسفيٍ دون أي معنى أو فكرة (كما يحصل كثيراً) ينبغي فقط أن نتساءل: مِن أي انطباعٍ تمّ استنتاج تلك الفكرة المفترضة؟ وإذا كان من المستحيل تحديد أيٍّ منها، فإنّ هذا سوف يخدمُ في تأكيد شكّنا»[1]. استناداً إلى هيوم، لا يُمكن وجود أي تبرير فلسفي لإثبات أي حقيقةٍ تتجاوز ميدان التجربة الحسيّة. على وجه التحديد، إنّ إعادة صياغة هيوم لمبدأ

(125)

السببية على ضوء العادة النفسية ـ المنطقية المتمثّلة بالتوقُّع الناشئ عن المفاهيم المتلازمة على الدوام، يمنعُ الانتقال النظري من معلومات التجربة الحسية لإثبات كون الله هو سببها المتعالي.

وعليه، يُرجع هيوم(Hume) مسألة وجود الله بأكملها إلى مملكة الدين الغامضة ويحتجُّ بأنّ الشك هو الموقف الوحيد القابل للتطبيق فلسفياً فيما يتعلّقُ بادّعاءات المنطق على إثبات وجود الله. على سبيل المثال، في مؤلّفه «محاوراتٌ في الدين الطبيعي»، يُسقطُ هيوم ادعاءات برهان التصميم بحكم تأسسه على الاستدلال القياسي غير القاطع. فضلاً عن ذلك، يؤكّد هيوم أنه بالرغم من أنّ الرجوع بشكل انتقائي إلى بعض أبعاد التجربة ـ كدليل النظام في الطبيعة ـ  يُفيدُ إثبات وجود الله بناءً على مقارنةٍ قياسية فضفاضة مع الذكاء الإنساني، إلا أنّ أبعاداً أخرى من التجربة ـ كدليل وجود الفوضى والشرـ تقفُ في مقابل هذا الإثبات. وعليه، في تقييم هيوم، يكون أكثر مواقف المنطق مسؤوليةً هو ذاك الذي يرفض نسب الجاذبية الفلسفية إلى الادّعاء الذي يُفيدُ بأنه على المرء تجاوز عالم التجربة للحصول على تفسيرٍ لظواهر هذا العالم. سوف نتطرق الآن إلى كيفية تكرار هذا الرأي بشكلٍ أوضح وأكثر تأكيداً في الفلسفة الوضعية الطبيعية المعاصرة.

كانت تتّسمُ الفلسفة الفرنسية في القرن الثامن عشر ـ التي تأثرت كثيراً بآراء العلماء التجريبيين البريطانيين ـ  بالميل نحو جعل النظرة إلى العلم الوضعي مطلقة. كانت تلك الفلسفة في عصرٍ يتطلّعُ إلى تقدّم العلم من أجل «التنوير» والمصالحة بين البشر، وكان موقفها سلبياً تجاه الدعاوى «العقائدية» للميتافيزيقيا التي كانت تتمتع بالاستحسان الكبير في القرن السابق.

ينبغي الاعتراف بأنّ مواقف العديد من مُفكري القرن الثامن عشر تجاه مسألة الله ـ مثل فونتينيل(Fontenelle) (1657-1757)، مونتسكيو(Montesquieu)

(126)

(1689-1757)، فولتير(Voltaire) (1694-1778)، كُوندياك (1715-1780)وديديرو(Diderot) (1713-1784) في أوائل فكره- كانت تميلُ إلى الإيمان بالله وليس نحو الإلحاد. اعترف هؤلاء المفكرون بوجود كائنٍ أعلى وأيّدوا قيمة الدين الطبيعي إلا أنهم كانوا ثابتين في نقدهم لكل الأديان المنزّلة والتاريخية. كانوا مُقتنعين بأنّ اكتشافات العلم الطبيعي وتلقينات القانون الأخلاقي المماثل لدى جميع البشر توفّر الإرشاد الوحيد الجدير بالاعتماد للأصالة الدينية.

ولكن هذا العصر من الفلسفة الفرنسية قد ضمّ أيضاً بعض الفلاسفة الماديين البارزين الذين كانت تعاليمهم إلحادية جوهرياً مثل لامِتري((LaMettrie (1709-1751)، دولباخ(D’Holbach) (1723-1789)، وكَبَانيس(Cabanyes) (1757-1804). تمثّل مسعاهم الرئيسي في نقض الازدواجية القُصوى أي ازدواجية الجسد والروح وازدواجية الله والطبيعة. تمّ اعتبار وصف ديكارت للجسد الحي بالآلة كقاعدةٍ مناسبة لتفسير الإنسان الكامل، وتمّ رفض الروح السماوية المستقلة بوصفها فرضية غير ضرورية. كذلك، فقد استغنى مفهومهم بأنّ الطبيعة هي نظام مادي ذو إرادة وحفظ ذاتيين وخاصيةٍ جوهريةٍ متمثلة بالحركة، عن الحاجة للافتراض بأنّ الله هو سبب الحركة أو النظام. وعليه، فقد تمّ رفض أي إشارة إلى الله باعتبارها غير متصلة فلسفياً، وحتى بأنها مصدرٌ للوهم والغُربة الإنسانية.[1]

من الواضح بأنّ هذه الملاحظات العامة هي ناقصة بالنسبة إلى تنوع الآراء الغني الذي تجلى في الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر. بالرغم من ذلك، تُوفِّر هذه الملاحظات بعض الدلالة على العقلية العلمانية بالدرجة الأولى التي طبعت ذلك العصر. وعليه، بالنظر إلى التزامها الواسع بمنهجية العلم الطبيعي وعدم وثوقها بالدين المنزّل وتيّارها الصلب المتمثل بالمادية الصارمة، قد يتّفق الفرد حتماً مع تقييم

(127)

كُبلستون بأنّ «فلسفة القرن الثامن عشر قد ساعدت في تمهيد الطريق للفلسفة الوضعية في القرن اللاحق»[1].

كان الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت(Auguste Comte) (1795-1857) الرسول العظيم للفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر. من الجدير بالذكر أنّه قد تم طبع مؤلّفه الأساسي «مسار الفلسفة الوضعية»((Course of positive Philosophy المكوَّن من ستة مجلدات في 1842، أي بعد سنةٍ من طباعة مؤلف فيورباخ(Feuerbach) «جوهرُ المسيحية»((The Essence of Christianity. اجتمع تأثيرهما مع المذهب المادي التاريخي لماركس ومذهب التطور لداروين(Darwin) (1809-1882)، وهكسلي(Huxley) (1825-1895)، وسبِنسر(Spencer) (1820-1903) لتشكيل روح الفلسفة الوضعية الطبيعية التي طبعت القسم الأخير من الثقافة الأوروبية في القرن التاسع عشر.

إنّ الموضوع المحوري في فلسفة كونت هو مبدأه الشهير «قانون المراحل الثلاث». وفقاً لهذه العقيدة الأساسية، ينبغي أن يمر التفكُّر بكلِّ موضوع خاضعٍ للاستفسار الإنساني ـ سواء في حالة كلّ فردٍ على حدة أو الجنس البشري ككل- تباعاً في ثلاث مراحل نظرية مُختلفة. هذه المراحل هي: 1) المرحلة اللاهوتية؛ 2) المرحلة الميتافيزيقية؛ و3) المرحلة الوضعية.

في أكثر حالاته البدائية ولدى اعتماده شبه الكلي على الشعور والخيال، يتّخذ التفكّر الإنساني شكلاً نظرياً. في هذه المرحلة اللاهوتية التي يُسمّيها كونت أيضاً بالمرحلة «الوهمية»، يسعى العقل البشري لتفسير كل الظواهر الطبيعية وكأنها من نتاجِ الفعل المباشر لكائنٍ أو كائناتٍ ماورائية.

(128)

المرحلة الثانية، أي الميتافيزيقية، هي مرحلة وُسطى ضرورية ولكنها غامضة، وتأتي بين الإفراطات الخيالية في المرحلة الأولى والعقلانية العلمية في المرحلة الثالثة. في هذه المرحلة الميتافيزيقية، يسعى العقل البشري لتفسير الطبيعة الباطنية لجميع الأشياء ومصدرها، وذلك من خلال استبدال الأسباب المتجاوزة للطبيعة في اللاهوت بوحدات ومقولات علم الوجود المجرّدة وغير القابلة للملاحظة بالمبدأ. بالرغم من أنّ العقل في هذه المرحلة الميتافيزيقية قد انتقل من البحث عن أسبابٍ مُتعالية خارقةٍ للطبيعة إلى البحث عن مبادئ مُوضِّحة موجودة في الطبيعة ذاتها، إلا أنّ إنجازه في أفضل الأحوال هو مجرد إعادةِ بيانٍ للظواهر الملاحظة وذلك بمصطلحاتٍ نظرية غامضة.

في مرحلته الثالثة الوضعية «توقّف العقلُ عن البحث العقيم عن الأفكار المطلقة ومصدر الكون ومصيره وأسباب الظواهر، وكرّس نفسه لدراسة قوانينها ـ أي علاقاتها الثابتة المتمثلة بالتتابع والتشابه. حين يجتمع الاستدلال والملاحظة بشكلٍ صحيح، فإنهما يُمثّلان وسائل هذا العلم. ما يُفهمُ الآن حين نتحدّث عن تفسير الحقائق هو، ببساطةٍ، إنشاءُ رابطةٍ بين الظواهر الفردية وبعض الحقائق العامة التي يتقلّصُ عددها باستمرارٍ مع تطوّر العلم»[1]. السمةُ المميِّزة لهذه المرحلة الوضعية هي ضرورة أن تكون جميع التفاسير على ضوء ما يُمكنُ ملاحظته. تُهمِلُ هذه المرحلة كلَّ التخمين العقيم المتعلق بأسبابٍ متجاوزة للطبيعة أو حتى ميتافيزيقة في جوهرها. ببساطةٍ، تهتمُّ هذه المرحلة ـ كأسلوب العلم المادي ـ بإرساء قوانين طبيعية قابلة للإثبات تجريبياً وتتعلقُ بالتسلسلات المنتظمة للأحداث. يقومُ منهجٌ مُطلق، وهو منهج العلم الطبيعي، بالحلول مكان الكيانات المطلقة في اللاهوت والميتافيزيقيا.[2]

(129)

وعليه، من وجهة نظر الفلسفة الوضعية، حتى المفاهيم الميتافيزيقية كالمادة المطلقة لسبينوزا(Spinoza) أو الروح المطلق لهيغل التي ادّعت تجريد المطلق الإلهي في اللاهوت التقليدي من الأسطورة، ينبغي أن تُجرَّد بنفسها من الأسطورة وأن تفتح الطريق للنظرة التجريبية التامة للعلم الوضعي.

في تقييم كونت(Comte)، سبق وأن حلّت المقاربة الوضعية مكان اللاهوت والميتافيزيقيا في دراسة كلِّ حقلٍ من الظواهر الطبيعية، ولكنّه لم يتمّ إيصالها بعدُ إلى التأثير على ميدان الظواهر الاجتماعية. وعليه، كانت الحاجة الوحيدة البارزة هي سدّ هذا الفراغ الوحيد في الفلسفة الوضعية من خلال إنشاء «فيزياء اجتماعية» تستطيع بسط منهج العلم الوضعي ليشمل دراسة الظواهر الاجتماعية. حين يتمُّ إنجاز هذا الأمر وتُصبح جميع المفاهيم الأساسية مُتجانسة، ستكون المرحلة الوضعية قائمة بشكلٍ كامل وقطعي. «لا يُمكنها بعد الآن تغيير طابعها على الإطلاق بالرغم من أنّها سوف تبقى دائماً في مسار التطوّر من خلال إضافات العلم الجديد. مع اكتساب طابع العالمية الذي كان حتى الآن المزيّة الوحيدة المرتكزة مع المنظومتين السابقتين، سوف تحلُّ مكانهما من خلال أفضليتها الطبيعية وتترك لهما وجوداً تاريخياً فقط.»[1] حين يتمُّ إرساء الفلسفة الوضعية بشكلٍ كامل، سوف تخدمُ كأداةٍ عالمية لتحقيق الوئام الاجتماعي والازدهار والسعادة.

تتطابقُ فلسفةُ كونت(Comte) الوضعية مع التقييم المتفائل للمصير الإنساني الذي، كما رأينا، قد طبع الأشكال الأخرى من الإلحاد في القرن التاسع عشر كتلك التي طرحها فيورباخ(Feuerbach) وماركس(Marx). يرى كونت أنّه حين تمتدّ الفلسفة الوضعية بنجاحٍ لتشمل جميع الظواهر الاجتماعية، فإنّها تُشكّل قاعدةً لدينٍ جديد ونقي يتألف من عبادة الإنسانية. حين يتمّ إنقاذ البشر من مخاوف اللاهوت

(130)

والميتافيزيقيا وأوهامهما عبر عادةٍ فكريةٍ علميةٍ تُطمئن البشرية بالتقدّم اللامحدود وتدعمُ نمو الحب الأخوي، فسوف يتوصلون بأجمعهم إلى عبادة الإنسانية المقدّسة التي يشتركون بها، وذلك باعتبارها الكائن الأعلى.[1] إنّ الجدّية التي كرّس كونت نفسه بها في الجزء الأخير من حياته المهنية من أجل شرح تفاصيل عبادة ونظام ونشر هذا الدين الجديد المتمثّل بالإنسانية ـ والذي كان كونت(Comte) بنفسه كاهنه المنصّب شخصياً ـ هو أحد أغرب الأحداث في المسعى الثقافي في القرن التاسع عشر.[2]

في يومنا الحالي، قد يبدو للمرء أنّ تفاؤل الخلاص الذي يُتوّجُ فلسفة كونت الوضعية هو مثل حماسٍ مثاليٍ نوعاً ما وغيرَ ملائمٍ تماماً للتعقيدات والمخاطر والغوامض الأخلاقية الموجودة في الثقافة المتوجهة نحو العلم والتكنولوجيا. كذلك، فإنّ الكثير من التفريط مُقحَمٌ في قانونه الأساسي حول المراحل الثلاث الذي يُفيدُ أنّه بتطوّر العقل البشري ينبغي للفلسفة الوضعية الحلول مكان الأنماط الفكرية اللاهوتية والميتافيزيقية وإزالتها. السبب هو أنه يُمكن المناقشة بأنّ هذه المراحل تمّثل ثلاث وجهات نظرٍ مختلفة ولكنها متوافقة، ويُمكن للفاعل من خلالها التفكُّر بحقائق تجربته. وعليه، يُمكن الاحتجاج بأنّه من خلال تطوير وتمييز منهجياتهم المختلفة، يُمكننا التوصُّل إلى فهمٍ نقيٍ على كافة المستويات الثلاثة عوضاً عن الإزالة الحتمية لاثنين منهم بوصفهما باطلَين. كما يُعلّق دي لوباك فإنّه «لو كان من الصحيح إذاً القول بأنّ ’الفيزياء‘ (بمعنى كل العلم الطبيعي) قد بدأت إلهيةً، سيكون من الصحيح كذلك القول بأنّ الإلهيات قد بدأت ماديةً، ولا يميلُ قانون التطوّر نحو إقصاء الإلهيات أكثر من العلم الطبيعي، بل ’لتطهير‘ كليهما عبر التفريق بينهما»[3]. بتعبيرٍ

(131)

آخر، تشكّلت بدائيةُ التفكُّر السالف من خلطها بين الحقول المختلفة وليس فقط من ميلها إلى «إضفاء الغموض» على الطبيعة. بالاضافة إلى ذلك، وكما سوف نرى في الفصل السابع، فإنّ إحدى أكثر السمات الملفتة في الفلسفة الوجودية المعاصرة هي نقضها لمحاولة كونت «العلمية» لحصر كل المعرفة الصحيحة ـ خصوصاً المتعلقة بالإنسان ـ بتلك التي يتم إحرازها عبر منهجية العلم الوضعي.

بالرغم من ذلك، ومهما كانت نقاطُ ضعفها، تُمثّل فلسفة كونت الوضعية إحدى أكثر المحاولات المفصّلة والمهمة لتوضيح الحجّة لصالح نظرةٍ طبيعية قد ألهمها الجانب النظري والعملي في العلم المعاصر. ما زالت تُمارسُ جاذبيةُ هذه النظرة تأثيراً كبيراً على الفكر في القرن الحالي. تتخذ هذه النظرة في الوعي العادي شكلَ الأنسنة العلمية التي تتوقّعُ من روائع العلم حلّ جميع مشاكل الإنسان ومخاوفه وحاجاته. في تعبيرها الفلسفي، تميلُ هذه النظرة إلى حصر نفسها بشكلٍ رئيسي بالمقاومة الحازمة لأيِّ لجوءٍ إلى تفسير العالم بطريقة غير تجريبية أو متجاوزة للطبيعة. يُمكن من خلال أُطرٍ فلسفية مختلفة توضيح هذه الفلسفة الوضعية الطبيعية في القرن العشرين التي تتجنب الحماس المتفائل في فلسفة كونت الوضعية «الدينية» وتتمتع أكثر بروح الشك الحكيم للمذهب التجريبي الكلاسيكي. على سبيل المثال، تظهرُ هذه الفلسفة في الفرع الأمريكي من المذهب التجريبي العلمي المتجسّد بفلسفة جون ديوي [1] (1859) (john dewey-1952)  كذلك، فإنّ نماذج محددة من الفلسفة البُنيوية المعاصرة- على وجه الخصوص تلك التي قام كلود ليفي ستروس(Claude Levi Strauss) بتطويرها ـ هي أشكال منقّحة جوهرياً من الفلسفة الوضعية الجديدة[2]. ولكن في الصفحات التالية، سوف نحصر بحثنا

(132)

للفلسفة الوضعية الطبيعية المعاصرة إلى ظهورها في أبعاد محددة في الفلسفة البريطانية في القرن العشرين.

إحدى الروابط الموحِّدة التي تقعُ تحت التنوع والتطوّرات الكبيرة في الفلسفة البريطانية في القرن العشرين هي قناعتها بأنّ الوظيفة الأساسية للفلسفة ليست استطلاع واستكشاف الحقائق الجديدة التجريبية أو المتجاوزة للطبيعة، بل تحليل معنى اللغة. إنها تسعى لتوضيح الأساليب المختلفة التي تُحقق اللغة من خلالها تواصلاً ذا معنى. كذلك، فإنّها تقدّم بياناً لكيف يُمكن أن تفشل اللغة في تحقيق تواصلٍ ذي معنى وسبب ذلك، خصوصاً في تلك الحالات التي لا يكون هذا الفشل واضحاً بشكلٍ مباشر. إنّ هذا الاعتبار الأخير ـ حين يتمّ توجيهه نحو تحليل اللغة المتحدثة عن الله ـ فإنّه هو الذي يُعزِّز فرع الفلسفة الوضعية الطبيعية في الفلسفة البريطانية المعاصرة.[1]

إنّ أكثر هيئة صلبة وجدت هذه الفلسفة الطبيعية التعبير فيها هو فلسفة الوضعية المنطقية التي تمتعت بشهرةٍ محددة في وقتٍ سابق من القرن. وفقاً للفلسفة الوضعية المنطقية، فإنّ الكلام البشري إما: أ) عاطفي أو ب) معرفي. لا يقوم الكلام العاطفي بتأمين المعلومات واقعاً، بل يخدمُ فقط في التعبير أو تحريك المشاعر أو الحثّ على العمل. أما مهمة الكلام المعرفي فهو إيصال العبارات الغنية بالمعلومات. في تحليلها للكلام المعرفي، تؤكّدُ الفلسفة الوضعية المنطقية أنّه بصرف النظر عن الجمل التحليلية التي هي مجرد حشو كلامي أو اصطلاحات لغوية، فإنّ الفئة الوحيدة من الجمل المفيدة للمعنى هي تلك الجمل الواقعية التي يمكن إثباتها عبر التجربة الحسية. وعليه، استناداً إلى مبدأ الإثبات الشهير كما يُدافع، مثلاً، أ.ج.آير(A.J Ayer) عنه في مؤلّفه «اللغة والحقيقة والمنطق»( (Language,Truth

(133)

and Logic، فإنّ معنى أي جملة واقعية مفترضة يكمنُ في المنهج الذي من خلاله يُمكنُ إثباته تجريبياً[1]. إذالم يكن بالإمكان تقديم تجربةٍ متصلةٍ بإثباته فإنّه ـ على نحوٍ دقيق ـ ليس صحيحاً أو خطأ بل هو خال من المعنى بالفعل. بالاضافة إلى ذلك، لكي يُعتبر ذا معنى لا ينبغي أن يتضمّن كجزءٍ من معناه المفترض أي شيءٍ لا يُمكن أن يتمثّل في عبارةٍ مُستندة إلى الملاحظة.

على ضوء هذه النظرية حول المعنى، يُعدُّ بشكلٍ عام إثبات وجود الله والبيانات اللاهوتية ضمن العبارات التي ينبغي رفضها بوصفها خالية من المعنى. على سبيل المثال، لكي تُعتبر عبارة «يُوجدُ إلهٌ متعالٍ» ذا معنى، ينبغي أن يكون بالإمكان الاستنتاج منها ـ أو على الأقل منها ومن غيرها من الفرضيات التجريبية ـ عبارات مُعيَّنة مُستندة إلى الملاحظة لا يُمكن استنتاجها من هذه الفرضيات الأخرى وحدها. قد يُعتبر أنّه بإمكان عباراتٍ واقعيةٍ مُحدّدة تحقيق هذا الشرط، على سبيل المثال: تلك العبارات التي تتعلق بالنظام المتجلي في الطبيعة عبر الظواهر كالتعاقب الدوري للفصول والتنمية المنتظمة للحياة النباتية والحيوانية. قد يُعتبر أنه بالإمكان أخذ هذه الأمور كأدلة تجريبية صائبة على إثبات وجود الله، ولكن في الواقع، يحتجّ عالِمُ الفلسفة الوضعية المنطقية أنّه بالرغم من إمكانية اعتبار أنّ هكذا بيانات مستندة إلى الملاحظة ومُتعلقة بالفصول والكائنات الحيّة تميل نحو إثبات التأكيدات على وجود نظام محدد في الطبيعة، إلا أنها لا تمتلكُ تأثيراً حاسماً على الميزة الأساسية لإثبات وجود الله، أي: وجوده ككائنٍ متعال لا يُختزل وجوده دون بقايا تجلياته التجريبية. وعليه، يعلّقُ آير أنّه «إذا لم تستلزم جُملة ’الله موجود‘ أكثر من حصول أنواع محددة من الظواهر في سياقات محددة، إذاً سيكون تأكيد وجود الإله مساوياً ببساطةٍ لتأكيد وجود الانتظام المطلوب في الطبيعة؛ ولا يُمكن لأي رجلٍ متديّنٍ الاعتراف بأنّ هذا هو

(134)

كلّ ما كان يقصد الجزم به حين أكّد على وجود الإله»[1]. كما أنّ إثبات وجود الله يتضمّن بالضرورة، وكجزءٍ من معناه المفترض، الميزةَ الميتافيزيقية المتمثلة بالتعالي الذي لا يُمكن تصويره تجريبياً، فإنّه يفشلُ في تأكيد أي شيء قد يكونُ صحيحاً أو خطأ. ببساطة، إنه عديم المعنى.

   كذلك، من خلال المعيار الوضعي المنطقي للمعنى، ينبغي رفض جميع العبارات المتعلقة بالإلهامات الخفية والرؤى والمعجزات باعتبارها خالية من المعنى، وذلك لأن التجارب التي تُقدّم بأنها ذو صلةٍ بإثبات هذه الأمور هي غير كافية لدعم المعنى الماورائي المدّعى في هكذا عبارات. إنّ وصف الصوفي للرؤيا يمنحنا فقط معلومات غير مباشرة عن حالته العقلية. كذلك، لا يُمكن للفرد أن يستبعد منطقياً إمكانية توفّر تفسيرٍ طبيعيٍ محض للأحداث التي يتم تقديمها كدليلٍ تجريبي على تأكيد حصول المعجزة إلا إذا لجأ إلى الوسيلة التي تستجدي الحصول على الأجوبة والمتمثلة بإدخال الطابع الماورائي لدى تعريف الأحداث. وعليه، لا يُمكن الإشارة إلى أيّ دليل تجريبي صائب بشكلٍ حاسم يُمكن من خلاله اختبار صحة -أو حتى بطلان- العبارات المتحدثة عن الغيب.

بأسلوبه الصريح المعهود، يُلخّص آير النظرة الوضعية المنطقية إلى جميع التأكيدات الإيمانية حين يُعلن بأنّها «تقومُ فقط بتأمين المادة للمحلّل النفسي»[2]. من خلال الفشل في إصدار الافتراضات القابلة للإثبات التجريبي والتي يتألف منها العلم الطبيعي، يُمكن رفض ادّعاءات المؤمن بالله على امتلاكه للمعرفة القائمة على الحقائق باعتبار ذلك خداع للنفس.

وعليه، فإنّه من خلال إصرار الفلسفة الوضعية المنطقية على أنّ النوع الوحيد

(135)

الأصيل للمعرفة الحقيقية هو ذاك الذي يُمكن إثباته تجريبياً، تقومُ هذه الفلسفة بتكرار الفرضية الطبيعية التي تُفيد بأنّ التفكير اللاهوتي والميتافيزيقي هو من حيث المبدأ غير أصيل، ومحيِّر، ونازعٍ للإنسانية. بما أنّ هذا التفكير ليس باطلاً أو غير ملائم فحسب بل هو عديم المعنى بالفعل، فإنّ الفرد الذي يسعى لتفسير ذاته وعالمه على ضوء الله يقومُ بعزل أي معنى وقيمة قد يمتلكهما، وذلك من خلال إرسائهما في إطارٍ من الثرثرة الفاقدة للمعنى.

أثناء تطوّر الفلسفة اللغوية خلال ربع القرن الماضي، تم انتقاد الفلسفة الوضعية المنطقية بشدة وحلّت مكانها فرضيات أكثر رقياً حول المعنى[1]. على سبيل المثال، تمّت الإشارة كثيراً إلى أنّ المعيار المطلق للمعنى المتمثّل بمبدأ الإثبات هو فاقد للمعنى وفق مقياسه الخاص أو على الأقل غير مناسب تماماً كمعيارٍ مطلقٍ للمعنى. كما يبدو أنه أكثر تفسيرٍ معقول، إذا ادّعى هذا المبدأ بأنّه يُقيم تأكيداً حقيقياً يُفيد أن معنى كل عبارة ذي مغزى يتكوّن إما من مصطلحٍ لغويٍ فائض أو من دليلٍ حقيقيٍ عائدٍ إلى التجارب الحسية المناسبة، فإنّ هذا التأكيد بحد ذاته غيرَ قابلٍ للإثبات عبر هذه التجارب. لا توجد تجارب حسية كهذه تستطيعُ إثبات التأكيدات على وجود المعنى المنطقي في جميع الجمل. من ناحيةٍ أخرى، إذا تمّ تفسير هذا المبدأ كجملةٍ تحليلية تُحدِّدُ استعمال مصطلح «عبارة مُفيدة للمعنى»، فإنّه لا يحولُ دون تبنّي التعاريف البديلة لهذا المصطلح. ولا يُمكن تفادي هذه المعضلة عبر الإشارة إلى أنّ هذا المبدأ لا يُعدّ حشواً كلامياً ولا عبارة تُفيد حقيقة تجريبية، بل مجرد توصية لنا لاعتبار الحشو الكلامي والعبارات التجريبية ذات معنى.  السبب وراء ذلك هو أنّ تحليل طبيعة الحشو الكلامي والعبارات التجريبية لا ينقضُ الاعتراضَ الذي يُفيد بأنّ أي توصية كهذه هي تعسّفية وفاقدة للتأثير المنطقي.

(136)

بشكلٍ مباشر أكثر، تمّ الاحتجاج بأنّ الفلسفة الوضعية المنطقية تقوم من دون مبرّرٍ بتعميم مبدأ الإثبات من وظيفته المحدودة المتمثلة بتحديد كون عبارةٍ ما مؤدية للمعلومات تجريبياً إلى الحُكم بأنّ كلّ بُعدٍ كلامي يُفيد المعنى. تقومُ هذه الفلسفة بإخضاع كل كلامٍ بشريٍ للافتراضات التجريبية التقليدية التالية: أ) العلم منحصرٌ في النهاية بالانطباعات الحسية، وب) ما يجعل اللغة ذا معنى هو تطابقها مع تلك الانطباعات الحسية التي يُمكن من خلالها تعريفها ظاهرياً. لقد مارست هذه الافتراضات التأثيرَ على الفلسفة الوضعية المنطقية لكي تتعامل الأخيرة مع عبارات العلم الطبيعي المؤدية للمعلومات الحقيقية على أنّها معيار كل كلام مفيد ولكي تحصر فهمها للعبارات المؤدية للمعلومات الحقيقية في إطار ما هو قابل للإثبات تجريبياً. وعليه، فإنّ رفضها لكلِّ كلام لاهوتيٍ أو ميتافيزيقيٍ باعتباره كلاماً فارغاً هو في الأساس رفضٌ لهذا الكلام على ضوء إطارٍ من الافتراضات المتعلقة بالمعرفة والمعنى، والذي يتمّ فيه ـ وفق طبيعته ـ منع قبول مثل هذا الكلام.

لم تعد تتقبل الفلسفة اللغوية في الوقت الحاضر هذه الافتراضات التجريبية المتعلقة بالمعرفة والمعنى بشكلٍ تام أو على الأقل بشكلٍ صريحٍ كما فعلت الفلسفة الوضعية المنطقية. حتى لو كان يوجد ـ كما سوف نرى ـ ما يدعو للاعتقاد بأنّ تأثير هذه الافتراضات ما زال فاعلاً خلف الستار، إلا أنّه كذلك بطريقةٍ خالية من المواضيع المنسَّقة وأقلّ احتداماً. في شكلها الحالي، تُفضّلُ الفلسفة اللغوية مفهوماً للمعنى أكثر مرونة وأقل تمرداً. أحدُ مصادر الإلهام الرئيسية لهذه المقاربة الأحدث للمعنى هو الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين(Ludwig Wittgenstein) (1889-1951) الذي درّس في جامعة كامبريدج(Cambridge University) ويُعترفُ عموماً بكونه أهم فلاسفة العصر وأكثرهم تأثيراً. في مؤلّفه «تحقيقات فلسفية»(Philosohpical (Investigations،

(137)

يؤكد فيتغنشتاين على وجود العديد من أنواع الكلام البشري المفيدة للمعنى حقاً والتي يملكُ كل واحدٍ منها بُنيته المنطقية المميِّزة، كما يؤكّدُ أنه من غير المقبول اعتبار بيانات العلم الطبيعي المعيارَ المفضّل لكل كلامٍ ذي معنى. وعليه، تقومُ اللغة بتأدية المعنى بشكل تام ليس فقط حين يتم نقل التعاريف التحليلية والحقائق المؤدية للمعلومات التجريبية، بل أيضاً ـ على سبيل المثال ـ حين يتمّ إصدار الأوامر وقطع العهود وتقييم الأحداث وإثارة الردود والاعتراف بالجميل والتعبير عن المشاعر[1]. وعليه، ينبغي قياس معاني التعابير ليس فقط من خلال الرجوع إلى تجارب حسية مُناسبة بل أيضاً –بشكلٍ أكثر شمولاً- من خلال التفكّر في استعمالها الصائب في سياق الكلام. تُطرح الأسئلة الفلسفية حول معاني التعابير المختلفة من خلال الانتباه جيداً إلى كيفية فهمها حين يتم استخدامها في أطرها المعهودة سواء كانت يومية، أو شعرية، أو تقنية. على سبيل المثال، يتمُّ تقييم معنى عبارة كالتالية «كغيوم المجد المتتابع نأتي\من الله الذي هو موطننا»[2]( ليس من ناحية الأدلة التجريبية المناسبة بل من كيفية عمل هذه العبارة الفعّال في الاستخدام الشِّعري للغة. بالتالي، إنّ الشعار الذي يُلخّصُ توجّه الفلسفة اللغوية المعاصرة هو: يكمنُ معنى اللغة في استعمالها.

بالنظر إلى هذا المفهوم الأكثر مرونة حول المعنى، تميلُ الفلسفة اللغوية في يومنا الحاضر بإيجابيةٍ أكثر مما كانت عليه الفلسفة الوضعية المنطقية تجاه اللغة اللاهوتية والميتافيزيقية المتحدثة عن الله. لم تعد تلقى هذه اللغة رفضاً سريعاً باعتبارها خالية من المعنى من حيث المبدأ بل على العكس، يتم توجيه الاهتمام الدقيق إلى أسلوب عالم الدين في استخدام لغته من أجل تطوير شموليةٍ إلهية للكلام.

(138)

بالاضافة إلى ذلك، تمّ بشكلٍ مُثمرٍ تطبيقُ تقنياتٍ مختلفة من التحليل اللغوي لتأييد التأكيدات اللاهوتية.[1]

بالرغم من ذلك، فإنّ تطوّر الفلسفة اللغوية لم يتّجه على الإطلاق نحو دعم النظرة الإلهية بشكلٍ ثابت. على سبيل المثال، يبدو أحياناً بأنّه حتى الاستعداد لعدّ اللغة اللاهوتية ذا معنى يستندُ في بعض الحالات بشكلٍ حصري على التفكُّر في الترابط المنطقي الداخلي لهذه اللغة، وعلى حساب الانفصال عن كلّ مناقشةٍ تدورُ حول إمكانية تطابق أي شيء واقعي مع عالم هذا الكلام. وعليه، يتم إعادة تأكيد معنى اللغة المتحدثة عن الله بطريقةٍ تجعل معنى وجوده الحقيقي نسبياً، ويتضمّن هذا الأمر استبدالاً دقيقاً للهدف الأصلي للاهوت نفسه الذي يرى أنّه يُعبِّر عن حقائق موضوعية عن الله. إنّ الافتراض بأنه لو أمكن استخدام اللغة اللاهوتية بطريقةٍ مترابطة فإنّ مسألة وجود الله ستكون عارضة على المعنى، له أثرٌ يُقلّل من جدية هدف الاستفسار اللاهوتي. كما يُعلّقُ دونالد إفانز(Donald Evans) فإنّه: «لا يُمكن استبدال أسئلة الحقيقة اللاهوتية بأسئلةٍ متصلة ’بالقواعد‘ الداخلية المنطقية للغة الإنجيل»[2].

علاوةً على ذلك، فإنّ استعداد الفلسفة اللغوية المعاصرة لإجراء تحقيقٍ مُنفتح للغة اللاهوت باعتبارها ميداناً مُحتملاً للكلام المفيد للمعنى لم يؤدّ على الإطلاق إلى الإقرار الشامل بأنّها ذات معنى بالفعل. في الواقع، لقد تمّ تقديم الحجج في مواضع مختلفة للتأكيد بأنّه لدى الفحص يتبيّن أنّ هذه اللغة هي خالية من المعنى. يُحتج بأنها تتضمن كل أنواع الإشتباه مثل: أ) استخدام استعمالاتٍ إصطلاحية متعارضة، ب) الخلط بيأسٍ بين معاني المصطلحات من خلال استعمالها بمعنى غريب تماماً عن

(139)

الاستعمال النمطي أو النموذجي، وج) إقصاء المصطلحات الممتلكة لأي معنى قابلٍ للتخصيص بشكل واضح. بعبارةٍ أخرى، حين يتم منحه آذاناً مُنصفة، فإنّ ادّعاء المؤمن بالله على استعماله للغة بنحو مفيدٍ للمعنى سوف يبدو ناقصاً.

 إنّ أحد الأمثلة على ادّعاء توظيف اللاهوت لاستعمالاتٍ متعارضةٍ للمصطلحات هو استخدامه للعبارات التي تُفيد المعاني الحسية والمجردة للدلالة على الكمال الإلهي. على سبيل المثال، نقول «الله خيّر» كما نقول «الله هو الخير». وعليه، بالنظر إلى هذه المحمولات، يؤدي مصطلح «الله» مهمة اسم الذات ومهمة اسم المعنى. لقد تمّ الاعتراض على هذا الأمر بأنّه «لا يمكننا الانتفاع من كلا الأمرين واستخدام كلمةٍ ما على أنّها اسم معنى واسم ذات في نفس الوقت، كما تُحاول فعله في عبارتك ’الله هو خيرُ نفسه‘. إنّ ذلك مجرد خطأ نحوي وجمعٌ للكلمات يحول دون إفادتها للمعنى ـ مثل ’قطة لا ستة‘... بطريقة استعمالك لها، لا تدل هذه الكلمة (الله) ـ ولا يُمكن أن تدل ـ على أي شيء البتّة. أنت ترفضُ وضعها ضمن الحركات المناسبة ’للدلالة‘«[1].

كذلك، تمّ طرح الحجج للتأكيد على أنّ أغلب اللغة المتحدثة عن الله تتضمّن تبديلاً غيرَ مبررٍ للمصطلحات عن الإطار الذي يُحدّدُ استعمالها القياسي أو العادي. يتم عادة تقديم وصف الله كواجب الوجود على أنه مثال واضح للخلط اللغوي أو «خطأ في المقولة». يُحتج بأنّه انطلاقاً من أنّ الوجوب الوجودي هو خاصية للعبارات وليس للأشياء، وبما أنّ مصطلح «الواجب» يدل بشكلٍ بسيط وحصري على خاصية العبارات التي كانت صحيحة في السابق ولكنها غير مفيدة للمعلومات الحقيقية من حيث المبدأ، يكونُ بالتالي إثبات وجود الله كواجب الوجود ليس باطلاً فحسب بل غير مفيدٍ للمعنى في الواقع. «لأنّ التمييز بين الوجوب والإمكان ليس تمييزاً بين نوعين

(140)

مختلفين من الذوات، بل بين نوعين مختلفين من العبارات...إنّ هذا هو استعمالها الوحيد الذي لا يؤدي إلى صعوباتٍ تعجيزية.»[1]

   في النهاية، غالباً ما يُحتجُّ بأنّ العبارات اللاهوتية هي خالية من المعنى لأنه من خلال رفضها للاعتراف بقدرة أي شيء على إبطالها، فإنّها تفشلُ بنحو مساوٍ في تأكيد أي شيء. تُعبِّرُ هذه المناقشة عن إحدى المبادئ، وهو مبدأ الإبطال الذي يرتبطُ بشكلٍ واضحٍ مع مبدأ الإثبات في الفلسفة الوضعية المنطقية. وفقاً لمبدأ الإبطال هذا، تكونُ أي عبارة خالية من المعنى إذا كان من المستحيل تحديد حالة تؤثر سلباً على حقيقتها أو تكون متعارضة معها. يتمّ تطبيق هذا المبدأ على العبارات مثل: «الله يُحبّنا»؛ «الله خيِّر»؛ و«الله خالقٌ حكيمٌ جبّارٌ». على سبيل المثال، إذا لم يسمح المؤمن بالله لأي احتمال ممكن ـ مهما كان مبغوضاً ـ للتأثير سلباً على إعلانه بأنّ الله هو الأب المحبّ الحكيم، فإنّه بالفعل لا يكون مؤكِّداً لأيّ شيء ذي معنى في وصفه لله بهذه الطريقة. بالرغم من أنّه يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا القول يؤكّد واقعَ حالةٍ محددة، إلا أنّه يخفق في تحديد الحالة نظراً إلى ادّعاء كونه متوافقاً مع كلّ حالةٍ ممكنة. بالتالي، فإنه يفشلُ في تحقيق الشروط المطلوبة ليكون جملة أصيلة أو ذات معنى مُطلقاً.[2]

لم يترك الفلاسفة الإلهيين القدامى أو المعاصرين معالجة هذه الأنواع من الاحتجاجات النافية لامتلاك اللغة المتحدِّثة عن الله لأي معنى. على سبيل المثال: كرّس القدّيس توما الإكويني(Thomas Aquinas) اهتماماً خاصاً بالصراع الظاهر الدائر بين استعمال كُلٍّ من اسم الذات واسم المعنى لوصف الكمال الإلهي. احتجّ الإكويني بأنّه في الكلام الإنساني، يوجدُ اختلافٌ جذري في المدلول حين استعمال

(141)

اسم الذات أو اسم المعنى. قد يُشير اسم الذات إلى كائنٍ أحَدٍ كامل موجودٍ فعلاً، ولكنّه دائماً يتضمّن دلالة التركّب وبالتالي المحدودية. أمّا اسم المعنى، فقد يتمّ استخلاصه من دلالة المحدودية هذه ولكن فقط من خلال تقديم دلالة عدم الوجود أو عدم التحقق. حين نصفُ مواضيع تجربتنا، يُمكننا التفريق بشكلٍ جيد بين هذين الاستعمالين. أيضاً، يُمكننا تحديد قاعدة التمييز، وذلك من الطابع المركّب للكائنات المادية ومن قدرتنا الفكرية للتمعّن في المبادئ الحسية بطريقةٍ مجرَّدة. بالرغم من ذلك، حين نحاول التحدّث عن الكمال الإلهي الذي يتجاوز إدراكنا المباشر أو المناسب ـ والذي هو من دون شكٍ موجود وغير محدود ـ نُدرك قصور كلٍّ من اسم المعنى واسم الذات في تصوير هذا الكمال. بسبب هذا القصور بالذات في التصوير المناسب للكمال الإلهي الذي يُشيرُ إليه كُلٌّ منهما، يُمكن إسنادهما إلى الله بغضّ النظر عن تعارضهما الظاهري لأنّ كل واحدٍ منهما يُعوّض عن النقص الموجود في الآخر.[1]

وعليه، قد يحتجّ الإكويني بأنّه سوف يبدو على نحوٍ حتميٍ أنّ بيان الكمال الإلهي يتضمن قواعد لغوية خاطئة وانتهاكاً لعلم تركيب الكلام في لغتنا. السبب هو أنه يتمّ تحديد اللغة ـ كصياغة رمزيةٍ لمعرفتنا- في تعبيرها عن التحديدات المناسبة لكيفية اكتسابنا للمعرفة. وعليه، بما أنه بإمكاننا معرفة الكمال الإلهي المطلق فقط بطريقةٍ غير مباشرة وغير وافية، وذلك من خلال التأمل بمعرفتنا عن العالم المحدود، فإنّه من المتوقّع أنّ المصطلحات التي «نُسمِّي» من خلالها الكمال الإلهي سوف تورّطنا بمفارقات ونقائص مُحدَّدة. بالفعل، إنّ الكائن المطلق الذي تستطيع اللغة تحديده بشكلٍ مناسب وفق المعايير الملائمة لتسمية الكائنات المحدودة سوف يكونُ مُطلقاً زائفاً، ومجرد مثالٍ لقاعدة، وخاضعاً للتصنيف، وبالتالي فاقداً لسمة التجاوز عن الطبيعة.

(142)

بالرغم من ذلك، فإنّه لا يعني أن تكون المبررات ـ مثل استعمال كُلٍّ من اسم الذات واسم المعنى لوصف الكمال الإلهي ـ مجرد كلام غريب. بسبب عدم قدرتنا على تصوير هذا الكمال بشكلٍ مناسب، نسعى لتقليل هذا القصور من خلال اللجوء إلى أداة لغوية لا يُمكن تبريرها لدى وصف الكائن المادي المحدود. ولكنّنا مُدركون لما نقوم به ويُمكننا سرد سبب قيامنا به. يتمّ تبرير استعمالنا اللغوي الاستثنائي والسيطرة عليه من خلال أي استدلال يقودنا لإثبات الوجود الفعلي للكائن المطلق باعتباره المصدر المتعالي لكل الكائنات المحدودة، ومن خلال معرفتنا بأنه بالرغم من إمكانية تكويننا لإشارات مناسبة تُحدِّد هذا الكائن المطلق إلا أنّ أسلوبنا في تأطير هذه الإشارات هو غير مناسب لتصوير الكمال الموضوعي التي تدل عليه.[1]

كذلك، فقد تم نقد الاحتجاج بأنّ وصف الله كواجب الوجود يتضمّن استعمالاً مُحرّفاً للغة. لقد تمّت الإشارة إلى أنّ حصر الاستعمال المفيد للمعنى لمصطلح «واجب الوجود» للإشارة إلى خاصيةٍ للافتراضات بدلاً من الأشياء هو انتقائي بشكلٍ غير مناسب[2]. إنّه يفشلُ في مراعاة الاستعمال المقبول تاريخياً والمترابط لهذا المصطلح للدلالة على كائن يستحيل عدم وجوده ـ أو فيما يتعلّق بالله على وجه التحديد ـ  للدلالة على الاكتفاء الذاتي للكمال الإلهي وأبديته. وعليه، فإنّ الادّعاء بأنّ الحديث عن الله ككائن واجب الوجود هو خالٍ من المعنى لأنّ الوجوب الوجودي يُمكنه الدلالة فقط على خاصية الافتراضات، ليس في الواقع استنتاجاً من المعنى المترابط الوحيد للوجوب الوجودي بل إعادة بيانٍ غير مباشر لادّعاء هيوم وكانط بأنّه لا يُمكن وجود شيء موجود بالضرورة. لقد أجاب البروفيسور غيتش بشكلٍ مناسبٍ على هذا

(143)

الزعم بأنّه: «بما أنّ ’واجب الوجود‘ هو ’محال‘ الوجود، فإنّ القول بأنّ ’الواجب‘ يمكن أن يشير فقط إلى الوجوب المنطقي يساوي القول بأنّ ما لا يمكن أن يكون كذلك, لا يمكن منطقياً أن يكون كذلك. على سبيل المثال: بما أنني لا أستطيع أتحدّث بالروسية، فإنّ كلامي بالروسية هو محالٌ منطقياً، وهذا سخيف»[1].

كذلك، لقد تمّ بأساليب مختلفة الاعتراض على الدعوى بأنّ اللغة المتحدثة عن الله كتلك التي تصفه على أنّه أبٌ مُحبٌّ حكيم هي خالية من المعنى لأنّها غير قابلة للإثبات. على سبيل المثال، أشار المؤلّفون على غرار كرومبي((Crombie وهيك(Hick) وكُبلستون(Copleston) إلى أنّه بإمكان الفرد تقبُّل نظرية إبطال المعنى ولكن مع تحويل إطار الإثبات والإبطال إلى الحياة الآخرة. وعليه، ينبغي فهم عبارة «الله هو أبٌ مُحبٌّ»[2] على ضوء الوعد الخاص بالنعيم السماوي، وتمنع هذه العبارة حقيقة القول بأنّ «الله يريد اللعن الأبدي والبؤس لجميع البشر» أو أنّ هذا القول يُبطلها.[3]

لقد احتجّ آخرون بأنّه من غير المناسب على الإطلاق السعي لاختبار التأكيدات مثل «الله هو أبٌ مُحبٌّ» من خلال مبدأ الإبطال لأنّ هذا التأكيد لا يُعبِّرُ عن حالةٍ يُمكن وصفها تجريبياً ـ وبالتالي تكونُ قابلة للإبطال ـ بل عن إلتزامٍ صريح وليس غير منطقي بجدارة الله لنيل الثقة بناءً على أي برهان قد تقبّلناه على وجوده وأنّه أهلٌ لإلتزامنا التام. «بعبارةٍ أخرى، يثق المرء مُسبقاً بأن كل شيء سيقع تحت التدبير الإلهي هو لمصلحة الفرد، من دون وضع أي شروط تجريبية مُتصوَّرة بشرياً

(144)

أو اختبارات يتمّ من خلالها الحكم على حبّه.»[1] من هذا المنطلق، فإنّ الإصرار على تطبيق مبدأ الإبطال على جميع التأكيدات اللاهوتية يعتمدُ على الافتراض التجريبي بأنّه في التحليل الأخير تكون الوظيفة المعرفية الوحيدة للغة هي نقل المعلومات التجريبية المحدَّدة. يُعتبرُ هذا الافتراض غير مُبالٍ بإمكانية تحقيق اللغة اللاهوتية لوظيفةٍ معرفيةٍ أصيلة من خلال ترويج فهمٍ عالمي للواقع متميّزٍ عن المعرفة العلمية بميادين تجريبية محدّدة. قد يُحتجّ بأنّ هذه اللغة تعبّر عن لجوء العقل إلى بعض المفاهيم القُصوى والعامة، وبالرغم من أنها غير قابلة للإبطال تجريبياً إلا أنّها تُشكّلُ تقييماً مُقنعاً فكرياً للمعنى والقيمة النهائيين للواقع ككل.

إنّ اعتراضات الفلاسفة اللغويين هذه على الكلام اللاهوتي تُمثّلُ كيف أنّ الفلسفة الوضعية الطبيعية بشكلٍ مُعدَّل ما زالت مستمرة في ممارسة التأثير الكبير على الفلسفة البريطانية المعاصرة. ممّا لا شك فيه أنّ تطوّر الفلسفة اللغوية قد حقّق مفهوماً أكثر استيعاباً للمعنى على ضوء الاستعمال المترابط يفوقُ التفسير الإثباتي الصريح للعالِم الوضعي المنطقي. بالرغم من ذلك، فإنّ الفرضية الطبيعية -التي تُفيدُ عدم وجود شيءٍ خارج النظام الطبيعي المكتفي ذاتياً الذي تعتمدُ كل أشكاله ووظائفه المختلفة جوهرياً على المادة ـ تُؤثر بشكلٍ عميق على المفهوم المعاصر للاستعمال المترابط. يُصرُّ المفهوم السائد على أن مجال الاستعمال المعرفي المترابط ينحصرُ في الأبعاد المتعددة لكلامٍ قابل للتجربة يدور حول النظام الداخلي للعالم الطبيعي. يُعتبر أنّ الصعوبات الناشئة عن محاولتنا لاستعمال لغتنا الدنيوية أصلاً للحديث عن الله تُعزّز الفرضية الطبيعة بأنّ الطبيعة هي الأفق المحدِّد للكلام المفيد للمعنى. وعليه، يتم إسقاط إمكانية تقديم الدليل المقنع على وجود الله بوصفه

(145)

المصدر المتعالي للعالم الطبيعي. كذلك، يتم التعامل مع اللغة المتحدثة عن الله على أنّها إما خالية من المعنى أساساً أو ـ في أفضل الأحوال ـ تعبيراً عن العواطف والمواقف غير المعرفية.

لقد انبرى البروفيسور فلو(Flew) في كتابه «الله والفلسفة»[1] للدفاع بشكلٍ صريح وقاطع عن هذا الافتراض الطبيعي الذي يؤثّرُ ضمنياً على معظم الفلسفة اللغوية الحالية عن الله. في هذا المؤلَّف الثاقب الذي يعتزمُ بحث قضية الاعتقاد بالله في المسيحية، يقومُ فلو أولاً بتقديم الاعتراضات الرئيسية المعاصرة على احتواء  إثبات وجود الله للمعنى وحتى كونه أخلاقياً، ثمّ يمضي في مسار نقد الأدلة التقليدية على وجود الله ليحتجّ بأنّه من الأكثر منطقياً السعي وراء تفسير الواقع من الناحية الطبيعية بدلاً من الناحية الإلهية. سوف نختمُ مناقشتنا حول قسم الفلسفة الوضعية الطبيعية في الفلسفة البريطانية المعاصرة ببحثٍ موجزٍ عن الصورة الكاشفة التي يُقدّمها فلو عن هذه الفلسفة.

قام فلو باتّباع هيوم(Hume) في تسمية المبدأ الذي يُعبِّر عن مذهبه الطبيعي «بالفرضية الستراتونية» لأنّ ستراتو ـ ثاني خلفاء أرسطو في قيادة اللوقيوم[2] ـ هو أول من قام بصياغته بشكلٍ واضح. ذكر فلو نموذجه الخاص من الفرضية الستراتونية في العبارة التالية: «إنّ الفرضية ـ القابلة للإبطال قطعاً عبر الاحتجاج المعاكس ـ ينبغي أن تفيد أنّ جميع الخواص الملاحَظَة في الأشياء هي خواص تنتمي بالحق الطبيعي إلى تلك الأشياء نفسها؛ وعليه، فإنّ أي سماتٍ نظن أنه بمقدورنا رؤيتها في الكون ككل هي سماتٌ غير مشتقة للكون نفسه»[3].

(146)

تُوجد صعوبةٌ أولية لعلّه من الجدير مُلاحظتها، وهي تتعلّقُ بإعلان فلو عن الفرضية الستراتونية. يقترحُ فلو بأنّه من المفترض أن يكون أكثر منطقياً توقّع تفسيرٍ نهائي لخصائص العالم على ضوء مبادئه الجوهرية الخاصة بدلاً من الاعتقاد باحتمال كونه مخلوقاً من قبل الله. ولكن لا مبرّر لهذا الاقتراح، لأنّ القوة المقيِّدة لهكذا فرضية تعتمد على الأدلة التي يُمكن تقديمها في الدفاع عنها. سيكونُ الدليل الوحيد المناسب بشكلٍ حاسم هو ذاك الذي يعتمدُ على تقييمٍ غير متحيّز لأي من الدعاوى الخاصة بكلٍّ من المذهبين الطبيعي والإلهي. بعبارةٍ أخرى، إنّه من غير المعقول أن نفترض بشكل بديهي أنّه من الأكثر منطقياً تفضيل تفسيرٍ طبيعي للعالم بدلاً من السماح بالاحتمال المساوي للتفسير الإلهي حتى يجزم الدليل. بالفعل، قد يبدو أنّه من الأعقل افتراض وجود تفسيرٍ إلهي للعالم بدلاً من افتراض وجود تفسيرٍ طبيعيٍ له، لأنّ هذا الافتراض سيكون أكثر إنصافاً ولن يردّ أي حكمٍ مُحتمل لصالح المذهب الطبيعي بينما تميلُ فرضية فلو نحو ردّ أي حُكمٍ مُحتمل لصالح المذهب الإلهي.

في الواقع، يُقدّم فلو حججاً داعمة لفرضيته الطبيعية والتي يعترفُ أنّها قابلة للإبطال من حيث المبدأ. إنّ ادّعائه الأساسي هو أنّه لا يُمكن للإنسان أبداً معرفة عدم الكفائية الذاتية المزعومة للعالم التي يؤسِّسُ المؤمن عليها إثباته لوجود الله، وأنّ الأدلة المتوفرة تُشيرُ بدلاً من ذلك إلى تفسيرٍ طبيعي للعالم. يُطبّق فلو هذا الرأي على الحجة التي تُفيد الانطلاق من نظام الطبيعة للتوصّل إلى الله باعتباره المصمّم الذكي له[1]. يعتبرُ أنّ الخطوة المهمة في هكذا حجة هي التأكيد على أنّ عناصر الكون بحدّ ذاتها متباينة ولا تُظهر أيَّ استعدادٍ لتشكيل نمطٍ معيّن، ولهذا السبب يتمّ ذكر الله كالمسبِّب المتعالي على الدنيا لنظامها الفعلي.

يردُّ فلو أنّه لا يُمكننا أبداً معرفة الاستعدادات التي تمتلكها، أو قد لا تمتلكها،

(147)

عناصرُ العالم «بنفسها» في مقابل الطريقة التي تتصرّف فيها فعلاً في ظروف إطارها الدنيوي. لكي يستطيع المرء اكتساب هذه المعرفة، ينبغي أن يكون قادراً على دراسة العناصر إمّا بمعزل عن العالم وهذا سخيف، أو دون التأثير المزعوم للسيطرة الإلهية وهذه خطةٌ يرفضها المؤمن بوصفها مستحيلة. وعليه، بدلاً من الانغماس في التخمين الذي لا يُحلّ عن محدوديات الاستعدادات الداخلية للأشياء، ينبغي للمرء تبنّي رأياً أكثر صراحة بأنّ النظام المتجلِّي عبر عناصر العالم هو خاصية طبيعية ـ وبالتالي غير مشتقة ـ لهذه العناصر. إنّ هذا الرأي هو أكثر منطقياً من الافتراض بأنّ نظام الكون الذي يبدو أنّه يسودُ طبيعياً لا يُمكنه فعل ذلك، وبالتالي ينبغي أن ينشأ بواسطة كائنٍ متجاوزٍ للطبيعة.[1]

يطرحُ فلو دفاعاً مُماثلاً عن الفلسفة الطبيعية في مناقشته لنماذج مُختلفة من الدليل الكوزمولوجي الذي يسعى لتفسير الوجود المحدود المشروط على ضوء الخالق المطلق غير المشروط[2]. يرى فلو أنّ هذه الحجج باطلة بسبب وجود مفهومٍ تفسيري غير قابل للدفاع يُفيدُ أنّ العيب المتأصّل في كل نظامٍ طبيعي يكمنُ في أنّ أهمّ قوانين المادة والطاقة في أي نظامٍ كهذا لا يُمكن أن تكون قابلة لأي تفسيرٍ إضافي. يُعتَقدُ بأنّ التفسير الطبيعي معيوبٌ على نحوٍ حتميٍ لأنّه يعتمد بالضرورة على تقبُّل المعلومات غير المنطقية، بينما يتمُّ إصلاح هذا الخلل في النظام الإلهي الذي –عبر إثباته لوجود الله كواجب الوجود- يُقدّمُ سبباً كافياً لتفسير كل ما يحصل.

يحتجُّ فلو(Flew) بأنّ العيب المزعوم ليس عيباً على الإطلاق بل حقيقةً ضرورية عن طبيعة كلّ تفسير، وأنّ اللجوء إلى الله ليس الاستثناء المتميّز كما كان يُعتقد. السبب هو أنّ التفسير في كلّ مرحلة يتألف من إظهار كيف أنّ ما ينبغي شرحه هو

(148)

مثالٌ على مجموعةٍ أوسع من المخالفات أو يُمكن استخلاصه منها، وينبغي في تلك المرحلة اعتباره معلومة غير مفسَّرة. إنّ التفسير النهائي لأيِّ سلسلة توضيحية هو بحد ذاته وعلى نحوٍ حتمي شيء ينبغي تقبّله كمعلومةٍ غير مفسّرة. «إلا أنّ هذا ليس عيباً إذا كان النظام حقيقياً؛ وكذلك فإنّه ليس عيباً يستطيعُ اللاهوتُ إصلاحه فيما لو كان اللاهوت صحيحاً. السبب هو أنّه ليس معلومة عرضيّة عن نوعٍ واحد من الأنظمة، بل حقيقة منطقية عن جميع تفسيرات المعلومات. لنفس السبب بالضبط، ينبغي أن تكونُ المعلومات النهائية عن الله غير قابلة للتفسير على حدٍّ سواء.»[1] إنّ الافتراض الوهمي بأن أي رجوعٍ إلى الله كواجب الوجود منطقياً يُمكنه أن يُقدِّم سبباً كافياً أو تفسيراً بديهياً لكل شيء هو ـ كما كان يرى كانط ـ مجرد تغيير لجوهر الدليل الوجودي المرفوض الذي يسعى بطبعه لتحديد كيف ينبغي أن يكون الوجود.

وعليه، يرفضُ فلو التصوُّر المثالي للتفسير التام الذي يعتقدُ أنّه يُضفي هالةً سطحية من المعقولية على إثبات وجود الله، وذلك باعتباره غير مترابط. إنّ السماح لنوعٍ من التقابل بين واجب الوجود وممكن الوجود ـ وهو ما يطبعُ دليل الإمكان ـ  يعني تصوّر الكائنات الممكنة كأمثلةٍ وجودية ناقصة في ذاتها، وبالتالي تقويض أي تفسيرٍ نهائي على مستوى هذه الكائنات[2]. بالرغم من ذلك، حين يتمُّ تقدير اعتماد هذا التناقض المزعوم بين واجب الوجود وممكن الوجود على تصوّر مثالي توضيحي غير قابل للدفاع، سوفُ يُعتبرُ الافتراض المؤيِّد لتفسيرٍ نهائيٍ للأحداث من الناحية الطبيعية غير قابلٍ للهزيمة. إنّ هذا هو الادّعاء الذي يكرّره فلو في العبارات الأخيرة في كتابه: «وعليه، نستنتجُ ـ مع الخضوع الدائم للتصحيح من قبل الدليل الإضافي والحجة الإضافية- أنّ الكون هو بنفسه نهائي؛ وعليه فإنّ مهما كان يعتبره العلم

(149)

الطبيعي من وقتٍ لآخر أكثر قوانين الطبيعة أهميةً ينبغي أن يؤخذ بشكلٍ مؤقّتٍ أيضاً كالكلمات الأخيرة في أيِّ سلسلةٍ من الأجوبة على الأسئلة التي تدور عن سبب كون الأمور على ما هي عليه. إنّ مبادئ العالم تكمنُ نفسها ’داخل‘ العالم»[1].

قد يُعارض المؤمن السمات المختلفة في عرض فلو للفرضية الستراتونية ودفاعه عنها. على سبيل المثال، قد يتساءل عن الاستنتاج المباشر المحوري في موقف فلو، وهو أنّ الخصائص التي يتم ملاحظتها في الأشياء بشكلٍ عام والتي يُفترض أنها تمتلكها بالحق الطبيعي هي بالتالي غير مشتقة. وعليه، يشيرُ أحد النقّاد إلى وجود أطرٍ مختلفة يتحدّث المرء فيها عموماً عن وجود خصائص مملوكة بالحق الطبيعي ولكنها مشتقة على نحو واضح. علي سبيل المثال: يُقال بأننا نمتلك الحق الطبيعي بالحياة بالرغم من أنّنا نستمد حياتنا من والدينا[2]. بشكلٍ مباشرٍ أكثر، يودُّ المؤمن الاحتجاج بأنّ نظرية الخلق الإلهي ـ المختلفة عن عقيدة الفيض الإلهي ـ تستلزمُ بشكلٍ مؤكَّد أن تكون الخصائص المشتقة للأشياء في الكون المخلوق «خصائص تعودُ بالحق الطبيعي إلى هذه الأشياء نفسها». يشيرُ الخلقُ إلى هبةٍ إلهية متمثلة بالوجود التام، وبالرغم من أنّ هذه الهبة هي من الله تماماً إلا أنّها مختلفة عن الله تماماً. بفضل هبة الخلق هذه، يتمتّع المتلقي من خلال «الحق الطبيعي» بوجوده الملائم ومبادئه المستقلة في العمل. بإيجاز، قد يطعن المؤمن في ادّعاء فلو بأنّ «غير المشتق» هو جزء من معنى «مملوكٌ بالحق الطبيعي».

قد يتمّ تقديم بعض الاعتراضات على الدفاع عن الفرضية الستراتونية الذي يُفصّله فلو في نقده لأدلة النظام والإمكان. على سبيل المثال، قد يُعترض بأنّ دليل النظام لا

(150)

يعتمدُ كما يدّعي فلو على العلم بكيفية عمل الأشياء المنظَّمة في العالم فيما لو كانت منعزلة عن العالم أو السيطرة الإلهية، بل على تحليلٍ ميتافيزيقي لنظامها الطبيعي المحدود الفعلي على ضوء تجربتنا التنظيمية. فضلاً عن ذلك، فإنّ الاقتراح الذي يُفيدُ أنّه بما أنّ الكون منظّم طبيعياً فإنّ هذا النظام غير مُشتق هو مجرد تطبيق لمبدأٍ خاضع للنظر، وقد ناقشناه آنفاً، وهو أنّ «غير المشتق» جزءٌ من معنى «المملوك بالحق الطبيعي». لا يستدعي تصرّف الأشياء بطريقة منظمة بشكلٍ طبيعيٍ الحيلولة دون وجود مصدر مبدع وراء هذا النظام.

كذلك، فإنّ المؤمن قد يدّعي بأنّ نقد فلو لدليل الإمكان يعتمدُ على تفسيرٍ شديد التقييد لطبيعة التوضيع. يفترضُ هذا التفسير أنّ التوضيح الوحيد المترابط هو على ضوء القوانين الطبيعية العامة. إنّ الافتراض بأنّ كل عملية توضيحية ينبغي أن تنتهي على مستوى المعلومة غير المفسَّرة لا يتفق فعلاً مع الادّعاء اللاهوتي بأنّ دليل وجود الله يؤسس لحقيقة مفهومٍ توضيحي أوسع. السببُ هو أنّ المؤمن قد يحتج بأنّ الدليل يثبتُ وجود الله كالعلة النهائية للأحداث الممكنة بطريقةٍ تُثبتُ في الوقت ذاته كونه علَّة وجود نفسه. وعليه، يرفضُ المؤمن فرضية عدم استطاعة التفسير الإلهي أن يكون أعلى من الطبيعي لأنّه ـ ككل تفسير ـ ينبغي أن ينتهي بمعلومة غير مفسّرة.

لا حاجة للوقوف عند هذه النقطة لتفصيل وتقييم الرد الديني على موقف فلو[1]. هدفنا المباشر هو فقط تلخيص هذا الموقف كمثالٍ واضح على الفلسفة الطبيعية الوضعية التي هي فرع مهم من الفلسفة البريطانية المعاصرة وبشكلٍ أعم مصدرٌ مؤثرٌ ومستمرٌ للإلحاد المعاصر. لقد وصفتْ الفصولُ السابقة التطور التصاعدي عبر الفكر المعاصر لانقلاب النظرة العالمية الإلهية التقليدية. في عرض فلو

(151)

للفرضية الستراتونية، نجدُ إعلاناً صريحاً وكاشفاً عن النموذج الطبيعي لهذا الانقلاب.

كما أشرنا في بداية هذا البحث، كانت فرضية النظرة العالمية التقليدية –قبل ظهور العلم الحديث والفلسفة المعاصرة ـ تفيدُ أنّ التفسير الإلهي للكون هو المقاربة المنطقية والبديهية تقريباً لتقييم الواقع. تمّ تحليل الاعتراضات التي قد ترتفع ضد هذا التقييم كإشكالاتٍ يُمكنُ حلّها عبر صقل التأمُّل اللاهوتي والفلسفي. لم تمارس هذه الاعتراضات التأثير في دفع الناس للتساؤل بشكلٍ راديكالي عن الفرضية الإلهية الأساسية التي وفّرت الإطار المؤكّد الذي ظهر فيه التأمل اللاهوتي والفلسفي. بالرغم من أنّ الفلسفة الوضعية الطبيعية تتضمّنُ إنكاراً كاملاً لهذه النظرة العالمية، إلا أنّها تشتركُ معها في نوعٍ من التشابه الرسمي لأنها ـ كالموقف التقليدي ـ تتضمّن فرضيةً مشروطةً ثقافياً تُهيِّئها لاعتبار الاعتراضات إشكالاتٍ ينبغي حلها ضمن إطار النظرة المقبولة بقوة بدلاً من جعل النظرة نفسها موضع تساؤل.

إنّ النمو والانجازات اللافتة للعلم التجريبي تدعمُ الفرضية الطبيعية بأنّ العالم المادي ـ باعتباره قابلاً للمنهج التجريبي للعلم الطبيعي- يُحدّد الميدان الموحَّد لأي تقييمٍ منطقي للواقع. لا تُعتبرُ النظرتان الطبيعية والإلهية بدائل معقولة بالتساوي للوهلة الأولى، وأنّه ينبغي تحليل ادّعاءاتها الخاصة بشكلٍ عادل. على العكس، إنّ الفلسفة الطبيعية تحظى بالقبول باعتبار استيلائها الحقّانيّ على العقل المعاصر بحيث إنّ أي مُنافسٍ ينبغي أن يُناقش ادّعاءاتها طبق المعايير الطبيعية للمعنى. يقفُ هذا المطلب بوجه القبول المتعاطف لصالح الإيمان بالله الذي يجدُ نفسه مضطراً للتتوافق مع شروط الكلام المنطقي الذي لا يُمكنه أن يجد فيه التعبير المناسب. على سبيل المثال، إنّ هذه هي الحالة التي يجدُ فيها الإيمان بالله نفسه من وجهة نظر الإلحاد الستراتوني الخاص بفلو. من خلال البدء بقبول فرضية «الكون هو كلُّ موجود؛ وبالتالي فإنّ كلّ شيء قابل للتفسير ينبغي توضيحه عبر الرجوع إلى ما هو موجودٌ في

(152)

الكون ومنه» تمّ التوصُّل إلى الاستنتاج الواضح أنّه «من خلال تناول مفهوم الله من وجهة النظر هذه، بدا أنّه يوجد أسباب قوية جداً لاعتباره غير مترابط»[1]. بالكاد كان ليظهر بطريقةٍ مختلفة لأنّه ـ وفق النظرة المعتمَدة- تمّ منع إثبات الله بشكلٍ تلقائي.

   تمثّلُ الفلسفة الوضعية الطبيعية رفضاً لكل مُطلق لاهوتي أو ميتافيزيقي أو فكري. ولكن يُمكن أيضاً اعتبار أنّ هذه الفلسفة تُثبت مُطلقاً شاملاً، أي منهجاً مُطلقاً من التحقيق العلمي يُؤخذ نظيره الموضوعي ـ أي العالم المادي ـ كالقاعدة المطلقة لكل شكلٍ ووظيفةٍ للواقع. من خلال النظر إليها من هذه الزاوية، يُمكن اعتبار أنّها تُعزِّز ميل الفكر ما بعد هيغل لمحو العقيدة غير المقبولة المتمثّلة بالروح المطلقة، وذلك من خلال تطوير نموذج علماني صريح وحصري للمفهوم الموحَّد للواقع الذي تتصوّره تلك العقيدة. إلى هذا الحد ، تُشكّل هذه الفلسفة قضية مُشتركة مع النزعة الإنسانية المطلقة التي دافع عنها مفكّرون مثل فيورباخ وماركس كما قد رأينا.

من ناحية أخرى، تمثّلُ الفلسفة الوضعية الطبيعية ـ على الأقل في تعبيرها المعاصرـ شكلاً أقل تفاؤلاً من الإلحاد مما هو موجود لدى فيورباخ وماركس. تتفقُ هذه الفلسفة معهما في تأكيدها بأنّ الإيمان بالله هو مصدرٌ جذريٌ للعزلة الإنسانية، ولكنها أقل ميلاً نحو الادّعاء بأنّها تمتلكُ ضمن مواردها الخاصة وسائل تحقيق الحل الكامل لكل البؤس والعزلة الإنسانية. على خلاف نظيرتها المتمثلة بالفلسفة الكونتية في القرن التاسع عشر، فإنّها لا تثقُ بأنّها المصدر المؤكد للتقدّم المستمر ولا تعتبر أنها قد حقّقت مصيراً عظيماً كالتبجيل الديني للإنسانية العلمية. تحصُرُ هذه الفلسفة أدلتها في الإشارة إلى أنّه ما دام بالإمكان إحراز التحرر والتقدّم البشري فإنّ ذلك يحصلُ فقط عبر الإلتزام الثابت بالطبيعة بوصفها تمام الواقع، وبمنطق العلوم باعتباره معيار العقلانية. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ تقييم الإنسان من الناحية العلمية

(153)

فقط قد أدّى من خلال تطوّر العلوم الطبيعية نفسها إلى تقييمٍ متحفّظ بازدياد حول أهميته الباطنية وآفاقه المستقبلية. لا يرجع هذا السبب فقط إلى المضاعفات العملية للعلم الطبيعي التي تظهرُ على شكل المخاطر البيئية والضغوطات النفسية، ولكن أيضاً بمقتضى حالات البصيرة النظرية المختلفة التي قد حقّقتها هذه العلوم نفسها. على سبيل المثال، حدَّ توسّعُ علم الفلك البيئةَ الإنسانية إلى حدٍّ ما في أبعادٍ كونية غير مهمة، وأظهرت مُكتشفات نظرية التطور البيولوجية عدم استقرار شكل حياتنا ومصدرنا الزمني في عالم ما قبل المنطق، وكشف بحثُ التحليل النفسي عن الانبعاثات العميقة غير الواعية لفكرنا وعملنا. وعليه، إلى حدٍ ما، حتى تطورات العلم الطبيعي نفسه تشيرُ إلى بعض التحفُّظات المتعلقة باحتمالات تحقيق التصوّر الإنساني المثالي وهو السيطرة العلمية التامة على الفعل الإنساني والعمليات الطبيعية.

 بالرغم من ذلك، قد يبدو من المضلِّل التأكيد بأنّ الفلسفة الوضعية الطبيعية تُمثّلُ نظرةً متشائمة بالأساس للإنسان، أو أنّها تتصفُ بالشعور بسخافة الوضع الإنساني. إذا كانت فرضيتها الأساسية بأنّ «مبادئ العالم تكمنُ حصراً في العالم» مصدراً للضجر الميتافيزيقي، فإنها أيضاً -وبشكلٍ مباشرٍ أكثر ـ دعوى لاستغلالٍ تكنولوجي أعظم للعالم المتصوَّر علمياً. تسعى روحها الغالبة «لإنجاح» فرضيتها بأنّ الطبيعة هي كل ما هو موجود. يتمّ دعم هذا الهدف بشكلٍ رئيسيٍ عبر توسّط الأدوات التي يبتكرها الإنسان لنفسه من أجل السيطرة على عمليات الطبيعة. وعليه، يقوم الإنسان بشكلٍ متزايد بالسيطرة على مصيره من خلال التحوّل التدريجي لبيئته إلى وسطٍ خارجي، أي إلى مدٍّ تكنولوجيٍ لجسده لكي يتمّ استخدامه بدلاً من تحمّله ببساطة[1]. إنّ الإشارات إلى أنّ التحقق الكامل لهذا

(154)

الهدف هو أفق يأخذُ بالانحسار على الدوام، وأنّه حتى الوساطات التكنولوجية التي يُحقِّق الإنسان من خلالها سيطرةً أكبر على الطبيعة يُمكنها أن تُشكّل بنفسها نوعاً جديداً من الخطر بالنسبة إلى الإنسان، لا تؤخذ كأسبابٍ داعية إلى الإحباط بل تؤخذ كتحدياتٍ للجهود المتجدّدة للعقلنة. السبب هو أنّ الإلتزام النهائي بالعلم والتكنولوجيا يُعتبر القائد على الطريق الوحيد الممكن للتحقق والتوسّع الفعليين للتحرّر الإنساني الذي هو المثال المحفِّز للإنسان المعاصر. لا يتمّ الحكم مُسبقاً بشكلٍ ميتافيزيقي على الدرجة التي يُمكن فيها تحقيق هذا المثال، بل يُترك الأمر لتكشف عنه الإنجازات المستمرة للعلم الطبيعي والتكنولوجيا.

وعليه، فإنّ الفلسفة الوضعية الطبيعية ـ كعادةٍ علميةٍ عقلية تمنعُ أي أسلوبٍ فكريٍ ميتافيزيقي ـ تتضمّنُ إلحاداً يتمّ قياس دلالاته بشكلٍ براغماتي(عملي) وليس ميتافيزيقي. إنّ تقليص هذه الفلسفة لنطاق الكلام المفيد للمعنى ضمن الحدود التجريبية، بالاضافة إلى سيطرتها العملية الجديرة بالملاحظة على الواقع المتصوّر على هذا النحو، يُفضّل نسياناً غير مبالٍ بمسألة بالله بدلاً من التفكير المؤلم حول نتائج عدم وجوده. تُفضِّل هذه الفلسفة نزعةً إنسانيةً عمليةً وتدعمها بوصفها التطبيق المنطقي لنظرةٍ علمية بدلاً من بديلٍ إيدولوجيٍ للإيمان بالله. لكي نصلَ إلى صيغةٍ تدور حول أهمية الإلحاد المعاصر وآثاره، وهي أكثر وعياً بذاتها وميلاً نحو الميتافيزيقيا، ينبغي أن نوجِّه اهتمامنا إلى الفلسفة الوجودية.

(155)
(156)

 

 

 

 

 

 

الفصل السابع

الفلسفة الوجودية ورفض المعبودات

(157)

 

7- الفلسفة الوجودية ورفض المعبودات

لقد وجدت الفلسفة الوجودية -وهي نمطٌ فلسفيٌ أكثر تميُّزاً من عقيدةٍ فلسفيةٍ محدّدة بوضوح ـ التعبير في أشكالٍ شتّى. بعضُ هذه الأشكال إلهي لا سيما الفلسفة الوجودية لكيركغارد (Kierkegaard) (1813-1855)، جاسبرز(Jaspers) (1883-1969) ومارسل (Marcel) (1889-1973)، أمّا غيرها فهي إلحادية على نحوٍ قطعي مثل الفلسفة الوجودية لسارتر(Sartre) (1905-1980)، مِرلو ـ بونتي (Merlea -Ponty) (1908-1961)، وكامو(Camus) (1923-1960). في هذا الفصل، سوف نتناول بعض الخصائص المهمة للأسلوب الذي تمّ من خلاله تطوير الفلسفة الوجودية وفق خطوطٍ إلحادية. من المؤمَّل أن يُسهِّل هذا البحث في تحقيق فهمٍ أوضح للأهمية الإجمالية لتطوّر الإلحاد المعاصر. بالاضافة إلى ذلك، سوف يوفّر لنا نقطةَ إنطلاقٍ نستطيع من خلالها في الفصل الختامي أن نشير إلى كيف يُمكنُ إعادة النظر في مسألة الله في يومنا الحاضر.

إنّ إحدى الخصائص المميِّزة لكل فلسفة وجودية، سواءً كانت إلحادية أم لا، هي انكشافها من وجهة نظر الذاتية الفردية. يفوقُ هذا الأمر في دلالته ما تُفيده الحقيقة المعروفة بأنّ كل تفلسُفٍ هو حتماً جُهد ذاتٍ فردية. إنّه يعني أن الفلسفة الوجودية تُقاوم الفرضية الفلسفية الشائعة التي تُفيد أنّه من أجل أن نعرف حقاً وبعمق، ينبغي أن نُبدّل الوعي من موقف الذاتية الفردية لتحويله إلى موقف المشاهدة المنفصلة وغير الشخصية لنظامٍ مطلقٍ من الواقع الموضوعي. على النقيض من ذلك، تُصرُّ الفلسفة الوجودية أنّه فقط من خلال التبنّي والمحافظة بشكلٍ واعٍ على الموقف الفينومينولوجي للذاتية الفعلية باعتباره أساسياً وغير قابلٍ للاختزال، يُمكننا الوصول إلى الحقيقة الفلسفية

(158)

الأصيلة. كما سوف نرى، فإنّه بالدقة من خلال الوفاء لتحليلٍ خاص لمقتضيات هذا الموقف، انقادت النماذج المختلفة من الفلسفة الوجودية إلى تقييمٍ إلحاديٍ للواقع.

لا ينبغي خلط الإلتزام الوجودي بالذاتية مع الفلسفة الذاتية. هذا الإلتزام ليس تمجيداً للاعتباطية أو النسبية المجردة، ولا يُمثِّل هروباً من العقل بل محاولة لتحقيق مفهومٍ أنسب للعقلانية الإنسانية. إنّه يسعى لإظهار كيف يستطيع كلُّ فردٍ الوصول إلى إدراكٍ ذاتيٍّ غني عبر التأمل الشخصي بأشكال وأبعاد خبرته الإنسانية كذاتٍ متجسّدة في العالم مع أشخاص آخرين.

يحتوي هذا الموقف الأساسي للفلسفة الوجودية على نقدٍ لكلٍّ من ماديّة الفلسفة الوضعية الطبيعية وعقلانية الفلسفة المثالية المتعالية. قد يحتجّ بأنّ كلّ واحدٍ من هذين البديلين الفلسفيين يُمثّلُ نزعاً للمجموع الكلي للواقع ناشئاً من نظرةٍ غير ملائمة وأُحاديّة الجانب. إنه يعتبرُ أنّ مقاربته الخاصة على ضوء الذاتية الفعلية هي وسيلة للكشف عن قصور كُلٍّ من الفلسفة الوضعية والمثالية والتغلُّب عليها.

قد يؤكّد الفيلسوف الوجودي أن الفلسفة الوضعية تعتبرُ كل الواقع -بالاضافة إلى الإنسان ـ مجرّد منظومةٍ من المعلومات أو الأشياء أو الموضوعات الخاضعة بشكلٍ تام إلى منهج العلم الطبيعي. إنّها تسعى لتفسير الإنسان من الناحية التجريبية كمجرد شيء أو مجموعة من الأشياء ضمن أشياء أخرى. بعبارةٍ أخرى، إنّها تعتبره مجرد بُعدٍ معقَّد للعالم المادي، وتتجاهل الحقيقة التي تُفيد أنّ الإنسان بالأساس هو ذاتٌ وليس مجرد شيء، وأنّه بمثابة ضمير الحاضر وليس الغائب. تنسى هذه الفلسفة أنّ الإنسان ليس جزءاً من العالم فحسب بل هو أيضاً مُنشئٌ للمعنى والقيمة في العالم. باختصار، تفشلُ هذه الفلسفة في تقدير استطاعة عالم الموضوعية إظهار نفسه على هو عليه فقط لأنّ الإنسان ليس مجرد شيء بل هو ذاتٌ أيضاً. وعليه، حتى في تطبيقها، تُناقضُ تفاسيرُ العلم الطبيعي المفيدة للمعنى الادّعاءات المطلقة التي تُقدَّم باسمها من قبل

(159)

وجهة النظر الوضعية. وعليه، يُلاحظُ مِرلو-بونتي أنّ:»وجهات النظر العلمية التي يكون وجودي وفقاً لها لحظة من العالم هي دائماً ساذجة وكاذبة في نفس الوقت لأنّها تُسلّم جدلاً، دون أن تذكر ذلك بصراحة، بوجهة النظر الأخرى، أي الوعي الذي من خلاله يُشكّل العالم نفسه حولي منذ البداية ويشرعُ بالوجود بالنسبة لي»[1].

كذلك، تنقدُ الفلسفةُ الوجودية الفلسفةَ المثالية باعتبارها تفسيراً فلسفياً غير ملائمٍ عن الإنسان. مع أنّها توافقُ أنّ الفلسفة المثالية تؤكّد بشكلٍ صائبٍ أنّ الإنسان بمقتضى القوة الذاتية يُشكّلُ بطريقةٍ ما واقعَ العالم كموضوع، إلا أنها تصوّرُ هذه الذاتية كروحٍ عالمية منفصلة وشاملة. يتمّ استيعاب الذات الفردية المحدودة والواقع المستقل للأشياء المادية ضمن نطاق الذاتية والفكر المكتفيين. في النهاية، يتمّ في الفلسفة المثالية تقليص كلّ حقيقة ـ والإنسان على وجه التحديد- إلى مستوى تبدُّل أو تجلي ذاتٍ كُليّةٍ أو روحٍ مُطلقة. يُمكنُنا في فلسفة ديكارت وسبينوزا وليبنيز تتبّعَ تطور هذا النزوع في تفسير كينونة الإنسان ضمن ذاتيةٍ محصورةٍ ومُكتفية. يُحقق هذا الاتجاه تعبيره الأكمل في فلسفة هيغل التي تُصوّر كلَّ بعدٍ للواقع كلحظة من التجلي الذاتي المستمر لعقلٍ مطلق وإلهي ورشيد تماماً. طبقاً للفلاسفة الوجوديين، إنّ هذا الإعلاء الواضح للإنسان في الفلسفة المثالية هو في الواقع إزالة راديكالية للإنسانية عنه، ويقلّل من حريته  وإبداعه ومسؤوليته الأصيلة، ويخفض وجوده الفعلي والشخصي والمجسَّد إلى مجرد مرحلةٍ من تفصيل المنطق الأبدي الصلب.

تؤكِّدُ الفلسفة الوضعية أن الإنسان هو الإنسان فقط على أساس المادة، ولكنها تستخف بأهمية ذاتيته. أما الفلسفة المثالية، فإنّها تُبرز أهمية الإنسان كذات ولكنها تُغفل حقيقة أنّ هذه الذاتية ليست مطلقة ومحصورة بل مزروعة عبر الجسد في

(160)

عالمٍ مادي. وعليه، فإنّ الحقيقة التي تتقبلها الفلسفة الوجودية باعتبارها نقطة الانطلاق الأساسية وغير القابلة للاختزال لتأملٍ فلسفيٍ أصيل هي وصفُ الإنسان كحريةٍ مُتجسِّدة. إنّ نظرتها الفلسفية الأساسية هي اعتبار الإنسان حقيقة فريدة ليست مجرد شيءٍ في العالم أو ذاتية محضة، بل على وجه التحديد ذاتيةٍ حُرة تنفتحُ ـ بمقتضى تجسُّدها ـ على العالم المؤلَّف من الناس الآخرين وتتواجد فيه. فلنتطرق الآن، كما ذكرنا أعلاه، إلى كيف أدّت بعض توضيحات هذا المنظور إلى استنتاجاتٍ إلحادية صريحة.

عبر التأمّل بكلٍّ من الذاتية الحرّة للإنسان والطابع القائم المتجسّد لهذه الذاتية، تمّ تفصيل تطوّر الفلسفة الوجودية وفق خطوطٍ إلحادية. من ناحية، يُعلَنُ بأنّ إثبات وجود الله يهدم لوازم الحرية والإبداع الإنسانيين، ومن ناحيةٍ أخرى يتمّ التأكيد أنّ حقيقة تجسّده تحولُ دون أي إثباتٍ للمصدر والهدف الإلهي للحياة الإنسانية. إنّ الغموض والتناقض اللذَين يميّزان الإنسان باعتباره حريةٍ متجسدة يُشكّلان الأفق الأقصى والمقيِّد وغير القابل للاختزال لكل المعنى والقيمة.

إنّ الاهتمام الدقيق في الدفاع عن حقيقة الحرية الإنسانية وأهميتها هو ميزة دائمة للفلسفة الوجودية. تسعى هذه الفلسفة لاسترداد الإنسان من زيف التطابق غير العاقل مع عادات المجموعة لإيصاله إلى إدراكٍ متزايدٍ بإمكانية خياره وقراره الراديكالي. في بعض الحالات ـ على سبيل المثال في تعاليم كيركغارد، مارسل، وجاسبرز ـ يُصوَّر التعبير الأعلى للحرية الإنسانية المملوكة فعلاً كانفتاحٍ وإلتزامٍ ووفاءٍ شخصي لله باعتباره الحرية التي تجعلُ باقي الحريات مُمكنة. وعليه، في تقييم جاسبرز مثلاً، إنّ البصيرة الفلسفية الأعمق هي تقدير أنّ الإنسان ـ الوجود الحر ومصدر الاحتمالات المستقبلية باعتبار كونه أكثر من مجرد كائنٍ خاضعٍ للتجربة ـ هو كذلك فقط بهبةٍ

(161)

من المتعالي[1]. ولكن في أغلب الأحيان، يتخذ الدفاع الوجودي عن الحرية الإنسانية شكل الرفض لكلِّ رجوعٍ إلى الله باعتبار ذلك متناقضاً مع هذه الحرية.

إنّ فلسفة «إرادة القوة» التي قدّمها نيتشه(Nietzsche) (1844-1900) -الذي يبرز مع كيركغارد(Kierkegaard) كمؤسِّس الفلسفة الوجودية ـ هي تأبينٌ حماسي لهذا النوع من الإلحاد. استمدّ نيتشه الإلهام من تطوير شوبنهاور(Schopenhauer) (1788-1860) للمفهوم الكانطي «الشيء في ذاته» إلى نظريةٍ تُفيدُ أنّ كل حقيقة ظواهرية هي تجلي لإرادة كامنة لا تهدأ للحياة. في فلسفة نيتشه حول الإنسان، أصبح هذا التفوق الأساسي للإرادة توكيداً ذاتياً غيرَ مقيَّد للفرد الاستثنائي الذي يُعلن موت الله بشكلٍ قطعي، ومن خلاله يرفض فكرة أيّ نظامٍ من الحقيقة أو القيمة المطلقة والكونية[2]. يُعتبر الإيمان بالله والقيم الأخلاقية العالمية علامةً على الجُبن- أي الهروب من التحدّي نيل الحرية المطلقة. إنّ الفرد الذي يسمو فوق العامّة ويؤكد واقعه المستقل كإرادة القوة، يختار الإلحاد باعتباره المرافق الضروري للفعل الذي يُريد من خلاله أن يكون واقعه الخاص ـ بوصفه الرجل الخارق الذي يُعيد تقدير كلّ قيمة ـ هو معنى الكرة الأرضية.

في الوقت الحاضر، يجدُ إلحاد نيتشه الافتراضي شبيهاً متقارباً في الفلسفة الوجودية لسارتر، فيلسوف الحرية الإنسانية دون مُنازع. إنّ الطابع المميِّز لكامل مسعاه الفلسفي هو إلتزامٌ ثابتٌ بالحرية المطلقة للإنسان والقبول الصادق الشديد لما يعتبر أنّها دلالاته[3]. إنّ أساس هذا المفهوم الذي يعتبر الإنسان الحرية المطلقة هو إنكار الطبيعة البشرية العالمية، أي بالأحرى إنكار أنّ الله هو الخالق العاقل للطبيعة الإنسانية.

(162)

في تقدير سارتر(Sartre)، إنّ المفهوم الوحيد للحرية الإنسانية الجدير بالاسم هو ذاك الذي يعترفُ بشكلٍ مسؤول أنّه المصدر المبدِع المطلق والهدف لمعنى الحياة وقيمتها. القيمة الوحيدة التي تُعطي الأصالة لنفسها بشكلٍ تام هي قيمة الحرية نفسها. الإنسان هو الإنسان حقاً فقط بفضل ذلك التجاوز المستمر عن نفسه والذي من خلاله يتم إضفاء الأهمية القصوى المتمثلة بمسعى البحث عن الحرية على جميع أعماله[1]. وعليه، يتبنّى سارتر بشكلٍ صريح أنسنة الحرية المطلقة التي يحكمُ ـ كما ذكرنا في الفصل الأول ـ على أنها النتيجة الحقيقية لاستكشاف الذاتية التي قام ديكارت بتأسيسها.

يشيرُ سارتر إلى أنه بالرغم من كون هذه النظرة إلحادية بالتأكيد، وبالرغم من إمكانية اعتبار أنّ تفصيلها يستخلصُ النتائج التامة من موقفٍ إلحادي ثابت، إلا أن هذه النظرة لا تتمحور حول أدلة عدم وجود الله. بدلاً من ذلك، تؤكّد أنّه حتى مع وجود الله فإنّ الأمر لن يفترق. سواءً كان الله موجوداً أم لا، فإنّ الشيء الوحيد الذي يهمُّ هو الاعتراف بأن الإنسان هو الحرية التامة الذي يُريد في كل ظرفٍ حريتَه الخاصة فحسب. بالتالي، حتى لو علم الإنسان بكونه مخلوقاً إلا أنّه باعتبار كونه مخلوقاً حُرّاً سوف يقفُ بعزمٍ في مقابل الله في استقلالٍ راديكالي[2].

بالرغم من أنّه على هذا النحو يُلاحظُ سارتر أنّ النقض المتنازَع فيه لوجود الله هو بمعنىً ما تابعٌ لرفض الذات الإلهية ـ وهو مُتجذِّرٌ في إثباته الحماسي للاستقلالية التامة للحرية الإنسانية ـ إلا أنه مقتنعٌ تماماً بأن وجود الله في الواقع يتعارضُ بشكلٍ واضح مع هذا المفهوم للحرية الإنسانية. يُقارن سارتر بين الوضع الإنساني الحر وبين شيءٍ مصنوع مثل كتابٍ أو مِقطع الورق. بالنسبة للمِقطع، فقد صنعه حِرَفيٌ طبقاً

(163)

لمفهومه عنه، وقد صُنع بطريقةٍ محددة لكي يكون من نوعٍ معيّن ويؤدي وظيفة محدَّدة. باختصار، إنّ جوهره يسبقُ وجوده ويحدّده. يحتجُ سارتر بأنّه من خصائص الإيمان بالله بسطُ هذه الأسبقية للجوهر على الوجود لتشمل الإنسان. حين نفكّر بأن الله هو الخالق فإننا نعتبره حِرَفياً خارقاً للطبيعة. كما أنّ الحِرَفي يصنع مِقطع الورق وفق صيغةٍ وتعريفٍ مُتصوَّرَين سابقاً، كذلك فإنّ كل فردٍ هو تحقيقٌ لمفهومٍ محدد يسكنُ في الفهم الإلهي[1]. إنّ نتيجة هذه النظرة هي أنّ الوجود البشري، بالاضافة إلى الحرية الإنسانية، مُحاطٌ ومحددٌ من قبل طبيعةٍ إنسانيةٍ موهوبة من الله. إنّ الطريقة الوحيدة لكي يكون الإنسان حقاً إنساناً هي من خلال التطابق مع مفهوم الله للإنسان. وعليه، يتمّ نفي إبداع الحرية الإنسانية.

إنّ الفيلسوف الوجودي الملحد، كما يصفه سارتر، يتحدى هذا الاتجاه لتصوير الوضع الإنساني على ضوء الطبيعة الإنسانية المصمَّمة من قبل صانعٍ إلهي. يطرحُ هذا الاتجاه أنّ التقييم الحقيقي للإنسان هو أنّه ـ على عكس جميع المصنوعات ـ كائنٌ يسبقُ وجودُه جوهرَه. يوجد الإنسان أولاً وفيما بعد يُحدّد نفسه عبر خياراته. إنّه غير قابلٍ للتعريف بالأصل لأنه عدمٌ من حيث المبدأ، وإنّ الوجود الإنساني هو مركزٌ تلقائي للحرية المطلقة التي تُقرِّر بنفسها كيف ينبغي أن تكون. لا توجدُ طبيعةٌ إنسانية مُحدَّدةٌ مُسبقاً أو نظامٌ بديهيٌ من القيم الأخلاقية لهداية قرارات الإنسان بسبب عدم وجود إلهٍ لتحديد هذه الطبيعة أو تلك القيم مُسبقاً. إذا كان الإله موجوداً، ستكون حرية الإنسان وهماً. بما أنّ هذه الحرية ليست وهماً بل هي الحقيقة الجوهرية للإنسان، ينبغي أن نتخلى عن إثبات وجود الله وأن نتّبع نتائج الحرية المطلقة للإنسان وصولاً إلى استنتاجها المنطقي. إلا أنّ هذا ليس استنتاجاً مُريحاً يتمّ فيه إعادة اكتشاف نفس المعايير والقيم التي كانت تدعمها في السابق فرضية الله المنتهية الصلاحية، وذلك

(164)

وفق مفهوم جديد ومضمون جوهرياً عن معنى الإنسان ومصيره. «على النقيض من ذلك، يجد الفيلسوف الوجودي أنّه من المحرج جداً عدم وجود الله لأنّه مع اختفائه يختفي كل احتمالٍ للعثور على القيم في جنةٍ واضحة. لا يُمكن وجود أي خيرٍ بشكلٍ بديهي بسبب عدم وجود قوة واعيةٍ ومطلقة وكاملة لتتصوره. لا يردُ في أي مكانٍ أن ’الخير‘ موجود، وأنّه ينبغي على المرء أن يكون صادقاً وأن لا يكذب، لأنّنا الآن في ميدان وجود الناس فحسب... بالفعل، يُسمح بارتكاب كل شيء إذا كان الله غير موجود»[1]. في عالمٍ خالٍ من الإله، يُحكم على الإنسان بالحرية. إنّه لم يخلق ذاته، ولكنّه وجد نفسه مَرمياً في هذا العالم. إنّ قوته محدودة ولكنّ حريته غير مقيّدة. لا يمتلكُ أيَّ ضمانات بل عليه أن يختار، ومن خلال الاختيار عليه اتخاذ القرار المتعلق بمعنى وقيمة حياته التي هو مسؤول عنها تماماً لوحده.

وعليه، إنّ فلسفة سارتر(Sartre) حول الحرية المطلقة للإنسان كما برزت في «الوجودية والمذهب الإنساني» وفُصّلت بشكلٍ تقنيٍ أكثر في «الوجود والعدم»، لا تنتقد بشكل راديكالي الإيمان بالله فحسب، بل أيضاً الأشكال المختلفة من «الإلحاد المتفائل» التي، كما رأينا ، قد طبعت الفلسفة في القرن التاسع عشر. إنّ هذه الأخيرة ـ بما لا يقل عن الأولى ـ هي مجرد عمليات خداعٍ يسعى البشر من خلالها إلى إخفاء الطبيعة الإرادية التامة لوجودهم عن أنفسهم. لا يوجد نظامٌ مستقلٌ من المعنى والقيمة ـ سواءً تمّ تصوّره على ضوء الروح المطلقة أو المجتمع الشيوعي أو التكنوقراطية المنطقية ـ حيث يتم تثبيت الحرية الإنسانية كمعيارٍ مطلق للفعل الإرادي. إنّ حريتي ليست مجرد القدرة على الموافقة على نظام وجودي مفيد للمعنى بشكلٍ مستقل، بل اختيار ما سوف يكونُ عليه معنى حياتي. بالاضافة إلى ذلك، فإن اختياري ـ بصرف النظر عن أي شكلٍ من الحياة يتجلى فيه ـ يحتفظُ بخاصية من اللامعقولية غير قابلة للاختزال والتي تبرزُ في عدم استطاعتي لإظهار صحة خياري عبر

(165)

أي لجوءٍ إلى مطابقته مع المعايير أو الحجج الخارجة عن حريتي. لا توجد أي فكرة تستطيع التأثير بنحوٍ حاسمٍ على حريتي لأنّ هذه الحرية نفسها هي التي تحدد أي أفكار ستكون فعالة. إنّ الإنسان الذي يُقنع نفسه بأنّه يتصرف وفق ضرورةٍ أخلاقية موضوعيةٍ وثابتة يخدع نفسه ويتصرف بسوء نية. إنّه مسؤولٌ عن عزلته الذاتية التي كان بإمكانه تفاديها إلا أنه لم يفعل بسبب أنانيته الجبانة.

يتمّ تفادي هذه العزلة المتحققة بسوء نية من قبل الأفراد ذوي النية الحسنة الذين تتمثّل الأهمية القصوى المقصودة لأعمالهم الفعلية في مسعى نيل الحرية بحد ذاته. بالرغم من ذلك، يُقدّر سارتر أنّ حتى اولئك الأوفياء لهدف الحرية هذا لا يمكنهم أبداً أن يأملوا عبر أيِّ خطة متصوَّرة للعمل الفعلي من الوصول إلى التحقُّق الإنساني الكامل. السبب هو أنّ المعنى الأساسي لخطة الإنسان المتمثلة بالحرية هو الرغبة في أن يُصبح الإله، وهي رغبة غير قابلة للتحقق بالمبدأ وبالتالي ـ من بابٍ أولى ـ لا يُمكن تحقيقها في أيّ خطة عملٍ محدّدة[1].

تنبثقُ هذه النظرة المفاجِأة التي تُفيد أنّ مشروع الإنسان الأساسي هو رغبةٌ غير قابلة للتحقق متمثلة بالصيرورة إلهاً، من بعض الاعتبارات العامة في العلم الوجودي لسارتر التي لن نتطرق إليها هنا[2]. إنّ هذه الاعتبارات تدعمُ تقابلاً راديكالياً يُثبت سارتر وجوده بين الثقل غير المفسَّر، والخامد، وغير العاقل، وغير المتميِّز «للوجود بحد ذاته» من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى بين «الوجود لذاته» للحرية الواعية التي تُعتبر ثغرة من «الوجود بحد ذاته» ـ أي عدماً وافتقاراً ورغبة بصلابة «الوجود بحد ذاته»، وهو مبدأ واهٍ للمعنى والمشروع. ينبغي أن تكون البُنية الأساسية أو حقيقة الحرية

(166)

الإنسانية مشروعاً للجمع بين الوجود بحد ذاته ولذاته، وتثبيت العدم والرغبة ونقص الوجود لذاته في كمال الوجود بحد ذاته وثقله. إذا أمكن تحقيق هذه الهوية المتمثلة «بحد ذاته» و«لذاته»، سوف يتم إحراز حقيقة «العلة الذاتية»، وهو كائنٌ يتفادى الإمكان الوجودي غير المفسَّر من خلال كونه مبدأ نفسه. بكلمة واحدة، إنّه الله.

ولكن في الواقع، إنّ هذا التصوّر مستحيلٌ ومتناقض. يسودُ مفهوم «لذاته» الكامن في الحرية الواعية فقط ما دام عدماً وفقراً في الوجود وتجاوزاً ذاتياً مُستمراً ـ أي فقط بالقدر الذي يكون في توتُّر قطبي مع كمال «الوجود بحد ذاته» وصلابته. إنّ تحقيق المطابقة مع «الوجود بحد ذاته» ـ وهي حالةٌ يقال بإمكان الوصول إليها لدى الوفاة فحسب ـ هو في الكف عن كونه «موجوداً لذاته». وعليه، يكون المشروع الأساسي للإنسان ـ أي الرغبة في الصيرورة إلهاً ـ تصوراً متناقضاً غير قابلٍ للتحقق[1]. يكون وجود الإنسان أصيلاً فقط عبر الإقرار بحريته المطلقة، إلا أن هذه الحرية غير مُجدية في النهاية. يكمنُ خلف العزلة الذاتية القابلة للإصلاح، والتي تمّت عبر نيّةٍ سيئة، عزلةٌ تكوينية أعمق للإنسان كمشروعٍ غير قابل للتحقق. «وعليه، تكونُ آلامُ الإنسان مُعاكسة لآلام المسيح لأنّ الإنسان يخسرُ نفسه كإنسان لكي يُولد الله، إلا أنّ فكرة الله متناقضة فنخسر أنفسنا عبثاً. الإنسانُ آلامٌ عديمة الجدوى.»[2]

بالرغم من أنّ مؤلفين وجوديين آخرين ينتقدون التقابل الراديكالي لسارتر بين وجود الأشياء بحد ذاتها ووجود الحرية الواعية لذاتها، إلا أنهم يؤيدون ادّعاءه بأنّ وجود الله يتعارض مع إثبات حقيقة الحرية الإنسانية. إنّ فلسفة مرلوبونتي(Merleau-Ponty) هي مثالٌ جيدٌ على هذا التأييد المحدود. يُصرُّ مرلوبونتي أنّه بما أنّ حريتنا تجد نفسها دائماً في وضعٍ دنيويٍ فعلي، فإنّه من غير

(167)

المناسب التعبير عنها كحريةٍ تامة أو مُطلقة[1]. تتضمَّنُ فلسفته تفسيراً توضيحياً لهذه الحرية القائمة وذلك على ضوء نظرية الجسم البشري حيث يُفهم الجسم ليس كشيءٍ أو كأداة بل كبُعدٍ من الذاتية سابقٍ للشخصية يتواجدُ الإنسان من خلاله في العالم. إنّ الجسم الذي يُفهم ك»ذاتٍ متجسدة» هو وسيط ضروري ـ وإن كان غامضاً نوعاً ما ـ بين الوجود بحد ذاته والوجود لذاته في تفصيل المعنى والقيمة الإنسانية[2]. بالرغم من أنّ هذه الفلسفة تنتقد «الوضوح الملعون» لاعتراضات سارتر الحادة، إلا أنها تُثبت إلحاده الافتراضي بالقدر الذي تمنع إثبات الله باعتباره متعارضاً مع مفهومها الأضيق عن الحرية الإنسانية.

بمعنى محدَّد، إنّه من غير الدقيق أن يُقال بأنّ فلسفة مرلوبونتي (Merleau-Ponty)إلحادية، ومن المؤكد أنّه كان بنفسه غير مستعدٍ لوصف فلسفته بذلك[3]. كان يؤكِّد أنّ هذا الوصف سلبيٌ في جوهره ويتضمن إشارةً ذاتية إلى النظرة الإلهية التي تُدخلُ تحيّزاً دخيلاً إلى المناقشة الفلسفية. بالنظر إليها من هذه الوجهة، تُصبح كلُّ الفلسفة جدلاً بين الإيمان ونسب الطبيعة البشرية إلى الله ـ بين إثبات الله وتأليه الإنسان. في تقدير مرلوبونتي(Merleau-Ponty)، ينبغي أن تتحقّق الفلسفة في يومنا الحاضر من الفرضية الضمنية لهذه المقاربة، أي وجود تفسيرٍ مطلق للوجود بشكلٍ عام وللإنسان بشكلٍ خاص فتكون النقطة الوحيدة محل النزاع هي فيما لو كان ينبغي بحث هذا التفسير على ضوء الله في اللاهوت التقليدي أو وفق إحدى النماذج الحديثة من النزعة الإنسانية المبدعة. إنّ المقاربة الفلسفية الأصيلة هي التي لا تُغلَّفُ تأملاتها ضمن أيِّ فرضيةٍ عامة بأنّ الإنسان سوف يجد في الوجود أيَّ معنى مُطلق أو مصير محتوم. فضلاً عن ذلك، لو اتّضح فعلاً عدم إمكانية العثور على هذا

(168)

المعنى والمصير، لن يُحدِّد الفيلسوف كون هذا الاستنتاج إلحادياً لأنّ ذلك سيكون رجوعاً إلى تقييمٍ إلهيٍ ـ لم يعد ذا صلة بعد الآن ـ لموقفٍ فلسفي.

إنّ تردّد مرلوبونتي(Merleau-Ponty) في التمركّز على أيِّ جهةٍ من الخيارين الإلهي أو الإلحادي هو مثالٌ توضيحي على الغياب السهل لله، والذي هو سمة تميّز معظم الثقافة والفكر المعاصر كما قد ذكرنا في نهاية الفصل السادس. يُشير إلى أنّه من الآن فصاعداً، من الممكن أن تزداد صعوبة طرح مسألة الله لأنّ الناس أصبحوا يميلون بشكلٍ أقل إلى التعلّق بحقيقةٍ إلهيةٍ بوصفها الملجأ النهائي الذي ينكشف منه تفسير الوضع البشري، حتى ولو كان ذلك كردة فعل[1]. وعليه، بالرغم من إمكانية أنّ يكون الإلحاد المعاصر قد توصّل تاريخياً إلى إدراكٍ تأمليٍّ بنفسه من خلال ردّة فعلٍ صريحة على النظرة الإلهية السائدة إلى الواقع، إلا أن هذا الرجوع الضمني للإلحاد إلى الإلهيات هو في طور الاختفاء التدريجي. إلى حدٍ كبير، يميلُ الإلحاد اليوم بشكلٍ أقل إلى أن يكون نتيجة لنقد الدين أو لأدلة وجود الله، ويتجّه أكثر إلى أن يكون نتيجة عرضية فحسب للأسلوب العلماني التام، والمقبول دون نقاش، في تصوّر الحياة الفردية وعيشها.

ولكن لدى الإصرار عليه، يُوافقُ مرلوبونتي(Merleau-Ponty) بسرعة أنه بالرغم من عدم إمكانية استخدامه لهذه المصطلحات في عرض موقفه، إلا أنّ هذا الموقف إلحادي من دون شك وفق المعايير التقليدية. بتعبيرٍ آخر، يعترفُ مرلوبونتي بأنّ أيَّ إثبات لوجود الله يتعارض تماماً مع مفهومه عن الوضع الإنساني. بالاضافة إلى ذلك، يقوم بتقديم حججٍ مُختلفة لإظهار سبب هذا الأمر وكيفيته.

إنّ الحرص على المحافظة على مفهومٍ مُحدّد عن الإمكان الوجودي للإنسان هو الدعامة الأساسية لرفض مرلوبونتي للإيمان بالله[2]. من خلال «إمكان» الإنسان،

(169)

يقصد مرلوبونتي أمراً يفوقُ الاضطراب الوجودي الذي يطبعُ كل الأشياء المادية وفقاً للميتافيزيقيا التقليدية. بدلاً من ذلك، إنّه يقصد الإنسان الذي يتمُّ تصوّره ضمن واقعه المحدد باعتباره ذاتاً متجسدة أو حرية قائمة هي المصدر الغامض لكل معنى وقيمة دنيويَّين. يدلّ الإمكان الوجودي للإنسان على أنه ليس مُحدَّداً بشكلٍ تام من قبل منظومة من القوانين الضرورية والأحداث المرتبطة سببياً. على العكس من ذلك، إنّ الإنسان هو نقطة ضعف في قلب الطبيعة تُحطِّمُ دائرة الجبر الكوني وبالتالي تجعل تحوّل المملكة المجهولة للوجوب إلى العالم المستقل للتاريخ والثقافة أمراً ممكناً[1]. حين يتم تقييمها عبر معيار الوجوب المادي، يُمكن فعلاً تسمية الإمكان الذي يطبع حُرية الإنسان ونمطه الزمني الوجودي ضعفاً. ولكن بنظر مرلوبونتي(Merleau-Ponty)، فإنه من غير المجدي اعتباره ضعفاً ينبغي تفسيره على ضوء شيء خارج عن ذاته ومتجاوز لها، ولا ينبغي النظر إليه كأمرٍ يحتاج إلى تفسير بل كالمجد المتوِّج للإنسان الذي يجعلُ كل معنى وتفسير وقيمة ممكناً.

وعليه، استناداً لمرلوبونتي، فإنّ الإمكان الإنساني هو بالفعل حقيقة أساسية تقاوم كل تفسير لأنها سابقة عليه باعتبارها شرطاً لاحتماله. بما أنّ لُغز الإمكان الإنساني بحد ذاته هو الذي يجعل كل تفسيرٍ ممكناً، إلا أن البحث عن تفسيرٍ للإمكان نفسه سيكون التباساً فكرياً وخطأ في المقولة يستطيع فقط إعطاء نظرةٍ مشوَّهة عن الحقيقة. وعليه، فإنّ كل فلسفته ـ التي يمكن أن يُطلق عليها فلسفة الإمكان- هي ملتزمة بشكلٍ حازم بالدفاع عن الإمكان الإنساني ضد كل «الحلول» التي قد تقمعه.

بسبب هذا الإلتزام التام بعدم اختزالية الإمكان البشري، يُنكر مرلوبونتي(Merleau-Ponty) أي تفسيرٍ إلهي له. يحتج بأن المؤمن يُثبت الإمكان البشري فقط من أجل إثبات واجب الوجود عبره وبالتالي هدم أهمية هذا الإمكان

(170)

الذي يدّعي هذا الإثبات تفسيره. تستخدمُ الإلهيات فقط قوّةَ الدهشة الفلسفية ـ التي ينبغي أن تبقى مُرسَّخة في معجزة الإمكان الإنساني ـ وذلك من أجل محو كُلٍّ من الدهشة والإمكان عبر الرجوع إلى التعالي الإلهي. إنّ هذا التفسير الإلهي ـ بما لا يقل عن الأشكال المختلفة من الفلسفة الطبيعية والمذهب الإنساني الإيدولوجي- يُدمّرُ غموض الإنسان وعفويته المبدعة[1]. إذا تمَّ تفسير الإمكان البشري على ضوء المسبّبية الإلهية لواجب الوجود، سوف يعودُ كلُّ شيءٍ إلى النظام السببي وهو نظام الجبر الصارم الذي يمكن من خلاله استنتاج المستقبل من الماضي. ولكنّ الإنسان- باعتباره مركز عدم التحديد، ومصدر المعنى والقيمة، وخالق التاريخ- هو على وجه التحديد تلك الحقيقة التي لا يُمكن استنتاج مستقبلها من ماضيها. إنّ الإنسان ليس متصلاً بشكلٍ حاسم بمجموعة من الأحداث بل هو حرية متجسدة تخلقُ المستقبل بمقتضى إمكانها. وعليه، ينبغي رفض إثبات واجب الوجود وذلك للدفاع عن إمكان الإنسان.

لقد تمّ نقد هذا الموقف لاعتماده على مفهومٍ صارم جداً عن السببية[2]. يفترضُ هذا المفهوم أنّه بإمكان الله أن يكون العلة أو أن يُطبِّق السببية فقط بنفس الطريقة التي تتحكم فيها السببية الجبرية المحضة بعمليات الطبيعة. لو كان الأمر كذلك، سيتم فعلاً المخاطرة بالحرية الإنسانية لأنّ هذه السببية تتعارض مع الحرية بالفعل. إنها سببية يقوم المستقبل بمقتضاها بالظهور بشكلٍ صلب ومتوقّع من الحاضر والماضي. ولكن هذا هو ليس المعنى الصحيح الوحيد الذي يُمكن تصوّر السببية من خلاله. حتى في تجاربنا الخاصة، نواجه حالاتٍ تدعو إلى مفهوم أكثر مرونةٍ للسببية من ذاك المفهوم الذي يقوم تطبيق السببية فيه من الحيلولة دون الحرية وتأثيرها. مثلاً، فلنأخذ بعين الاعتبار السببية التي تُوسِّع الذاتية والتي يمكن لشخصين تطبيقها على بعضهما البعض في حالةٍ من التواصل الأصيل. إنّ هذه السببية لا تُدمِّر الحرية

(171)

بل تفترضها وتُغنيها. بالفعل، ما هو الأثر الذي يمارسه كلام أحدهم على الآخر فيما لو لم يكن الأخير حُراً في تلقّيه بانتباه؟ يُحتج بأنّه حين يتم فهم الاعتبارات المماثلة بشكلٍ قياسي، يُمكن تقديمها لدعم الادّعاء بأنّ السببية المبدعة للحب الإلهي ليست متعارضة مع مفهوم مرلوبونتي (Merleau-Ponty)عن الإمكان الوجودي الإنساني. بالاضافة إلى ذلك، يُحتج بأنّه من المطلوب توضيح هذا الإمكان البشري لأنّ هذا الإمكان أو الحرية الإنسانية القائمة غامضَين ومُحيِّرَين بشكل كبير. من خلال السعي لحمايتها من الحلول التي قد تدمّرها، يتعامل مرلوبونتي معها كحقيقة أساسية مؤكَّدة، إلا أنّ فصل مُعضلة الإمكان عن الحلول غير المرضية هو شيء، وتجاهل المسألة نفسها هو شيء آخر. السبب هو أنها ليست على الإطلاق حقيقة واضحة لا يمكن طرح الأسئلة الإضافية حولها بل هي حقيقة متزعزة وغامضة وليست واضحة بشكلٍ تام بتاتاً. إنَّ مسألة رجوعها المحتمل إلى حقيقة أسمى باعتبارها مصدرها النهائي هي مُناسبة للغاية.

بالرغم من ذلك، فإنّ فلسفة مرلوبونتي(Merleau-Ponty) بتمام توجُّهها لا تُبالي بهذا النقد لأنها تبتهجُ بلوحة الإمكان البشري باعتباره المصدر المتزلزل للمعنى والقيمة. بالاضافة إلى ذلك، وبدلاً من السعي لحلِّ غموض هذا الإمكان وتناقضه عبر ربطه بمصدرٍ أسمى، فإنها تتّجهُ نحو تعزيز هذه الخصائص عبر ربط الإمكان الإنساني ـ حتى في تسافله إن جاز التعبير- بالغموض العميق لذاتيتنا الجسدية التي تسبق الشخصية. كما يصفه مِرلوبونتي، فإنّ وضعنا الغامض المتمثِّل بالحرية القائمة التي تجعل تفصيلنا الواعي للمعنى والقيمة أمراً مُمكناً، يسبقه الطابع المفيد للمعنى لحقيقتنا الأساسية كذاتٍ مُتجسِّدة سابقة على الشعور وينشأ عنه من دون أيِّ انقطاعٍ راديكالي.

إنّ هذا المفهوم عن الإنسان كذاتٍ مُتجسّدة هو مقياسُ فلسفة مِرلوبونتي.

(172)

في مقابل المفهوم الديكارتي الذي يعتبر الجسد مجرَّدَ امتداد، يُؤكِّدُ مِرلوبونتي أنّ الجسد البشري بحدّ ذاته هو الشكل الأساسي للذاتية والمركز المنشِّط للمجالات المختلفة من المعنى. إنّ هذا الجسد هو في العالم ومنه، ولكنّه موجودٌ فيه كالمبدأ المعطي للمعنى والذي بمقتضاه، ومِن حوله، يجمعُ العالمُ نفسه كبيئةٍ ذات معنى. بطريقةٍ مهمة، يُمثِّلُ الظرف التاريخي والنظام الفعلي لجسد الإنسان المصدرَ المتواصلَ الأساسي للمعاني والأهداف التي يُقدّمها عالمُ الفرد. الجسد هو في الأساس بانٍ للعالم أو «قصدية». على سبيل المثال، بطريقةٍ غير حرّة أو واعية، يقوم بفتح الأبعاد المختلفة للوجود الفردي المرتبط بالعالم كأبعاد المساحة الموجَّهة التي بمقتضاها تكون أسفار المرء ممتعة أو مُجهِدة، أو أبعاد الدلالة الجنسية التي تتردّد في كيان الفرد لدى البلوغ. يُنشئ الجسم كذاتٍ متجسِّدة حواراً بدائياً مع العالم سابقاً للإدراك- أي هيكلة العالم السابقة للوعي. لديه علمٌ بالعالم يفوقُ ما أعرفه شخصياً بشكلٍ واعٍ. إنّه يُنشئ مصدراً متواصلاً للمعنى متجاوزاً للذات ومجموعاً عاطفياً لا يتم تصوّره بشكل تام قط[1]. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ كل تعزيزنا الحر والواعي للمعنى، ومن ضمنه كل التأمل الفلسفي، هو في الأساس تخصيصٌ وانتقالٌ لهذا الوجود العميق الغامض لجسدنا إلى العالم. «إنّ كل ما نحن عليه هو على أساس وضعٍ فعليٍ نُخصِّصه لأنفسنا ونقومُ بتحويله دون انقطاع عبر نوعٍ من الهروب لا يُمثّل أبداً حريةً غير مشروطة».[2]

وعليه، فإنّ الحرية القائمة الغامضة أو الإمكان الذي يطبعُ الوجود الإنساني باعتبراه مصدراً واعياً للمعنى والقيمة هو في الواقع مجرد درجة أعلى من التعبير عن الوجود المتجاوز للذات والمعطي للمعنى الذي تمتلكه الذات المتجسدة السابقة على الشخصية. بالتالي، فإنّ محاولة وضع المصدر النهائي لكل المعنى والقيمة في العقل الإلهي ـ كما يقترحُ الإيمان بالله ـ يعني هدم إحدى أكثر خصائص الإنسان أهميةً

(173)

وغموضاً وتمييزاً، أي أنّه بواسطة جسده يبني العالم ويكون مُنشئاً لمعجزة المعنى. يُمكن مناقشة مملكة المعنى والهدف المتبَنَّييْن بوعيٍ فقط ضمن سياق الظروف التي يُمكن أن تنبثق منها، أي وجودنا الزمني في عالمٍ قد قامت أجسادنا بتشكيله. وعليه، يسنتنجُ مِرلوبونتي بثقةٍ أنّه «لو أعدنا اكتشاف الوقت خلف الفاعل، وإذا ربطنا الجسد والعالم والأشياء والناس الآخرين مع تناقض الوقت، سوف نفهم أنّه لا يوجد شيء لإدراكه وراء هذه الأمور»[1].

إنّ هذه الفلسفة التي تعتبرُ الذات المتجسِّدة مصدراً متزلزلاً -ولكن غير قابلٍ للاختزال ـ لكل المعنى والقيمة تتضمَّن إنكاراً لأي مُطلق معرفي أو وجودي، أي بالأحرى أي مطلقٍ إلهي[2]. إنّ اشتراك كلّ ذات مُتجسِّدة عبر ذاتيتها المشتركة مع غيرها من الذوات المتجسدة، يُعزِّز التراث الثقافي للمعنى الذي سبق وتمّ التعبير عنه تاريخياً من قبل الأجيال السابقة. إنّ هذا الثقل الثقافي للغة المكتَسَبة المفيدة للمعنى -أي «شحم التاريخ» الذي يُشكِّل وضعَنا، والذي نقومُ بدورنا كذواتٍ مُتجسِّدة بتحويله وتعزيزه- يُوهمنا أنّنا قد توصّلنا إلى مملكة الحقائق المطلقة[3]. إنّها مخزنٌ للحقائق المتعددة التي سبق وتمّ الإعلانُ عنها وغَدَت الخاصية المقبولة تلقائياً للبشر والمشتركة بينهم. إلا أنّ هذه اللغة المنطوقة التي وجدت هذه الحقائق المقبولة جزماً التعبيرَ والتحقُّقَ عبرها هي بنفسها حقيقة مُتجسِّدة تاريخية. إنّها مُتجذرة في الظلام والإمكان الكامنَين في النشاط الباني للعالم الذي تقومُ به الذات المتجسدة السابقة على الشخصية[4].

إنّ النتيجة النهائية لمفهوم مِرلوبونتي (Merleau-Ponty)هذا هو نظرة

(174)

ميتافيزيقية يكون الواقع من خلالها واضحاً ليس من حيث المبدأ ولكن بالفعل. إنّه كذلك بمقتضى كونه متاحاً للإنسان باعتباره ذات مُتجسِّدة مفيدة للمعنى تُضيء لججَ وظلامَ الوجود الذي يجدُ نفسه فيه. إنّ هذا الواقع المفيد للمعنى لوجودنا البشري كذاتٍ متجسدة هو بنفسه وجودٌ قائم ومُمكن وحقيقي. إنّ الإنسان باعتباره مصدر المعنى الدنيويّ لا يتعالى بشكلٍ راديكالي على واقعية العالم، بل يُشارك بشكلٍ كامل فيه كنقطة ضوء واقعية تُنير الظلام المحيط. لا يتمّ حرمان الوجود من المعنى والقيمة ولكن يتمّ رفض المعنى والقيمة المطلقَين المنسوبَين إليه تقليدياً من قبل الميتافيزيقيا. يُعتبر أنّ الوعي الميتافيزيقي الأصيل يتشكّل بأعجوبة دائمة على مستوى الواقع النهائي للذات المتجسِّدة باعتبارها مصدراً ممكناً للوضوح الواقعي والممكن للوجود[1].

من الواضح أنّ هذه النظرة الميتافيزيقة تحولُ دون إثبات المطلق الإلهي. على وجه التحديد، يُشير مرلوبونتي إلى أنها تحول دون الإيمان المسيحي بأنّ الأب الإلهي هو خالق السماوات والأرض[2]. يحتجُّ مرلوبونتي بأنّ هذا الإيمان يهدمُ مفهوم الإنسان كمصدرٍ غير قابلٍ للاختزال للمعنى والقيمة التاريخية الأصيلة، ويُثير موقفاً جامداً من الطمأنينة غير المجدية. السبب هو أن هذا الإيمان يُصوِّرُ الله ككائنٍ مطلق قد حاز على كل العلم والجمال والخير منذ الأزل. جُعل المسعى الإنساني فاقداً للمعنى وطُبع الوضع الراهن بصفة القبول الإلهي. لا يُمكن لأيِّ مسعى من قبلنا أن يُضيف شيئاً إلى كمال الواقع لأنّه قد تمّ تحقيقه بشكلٍ تام بهيئةٍ مطلقة. بالفعل، لا يوجد شيء لفعله أو تحقيقه. نحنُ مُرتعبون وعاجزون تحت الرقابة الإلهية، وقد تمّ خفضنا إلى مستوى الأشياء المرئية. لقد عُزلت كلّ مصادرنا الداخلية من قبل حكمةٍ مطلقة قد قامت بترتيب كلَّ الأمور بشكلٍ جيد.

(175)

بالاضافة إلى ذلك، يرى مِرلوبونتي(Merleau-Ponty) أنّه من خلال الإيمان بإله المسيحية نكون منعزلين في علاقتنا مع العالم ومع الآخرين. تُصبحُ الكنيسة محورنا الخاص بدلاً من العالم، مع نتيجة متمثلة بجعل النسبية لكلّ مسعى علماني محض. كذلك، نُصبح في علاقاتنا مع الآخرين متعصّبين ومحصورين. يتمّ إلغاء الخطة الإنسانية الحصرية المتمثلة بالمساهمة الذاتية المشتركة لتشكيل عالمٍ متزعزع وغير مضمونٍ أبداً من المعنى والقيمة. إنّ هذا المفهوم الذي يُصوِّر الحقيقة والقيمة كالإنجاز الأولي لمجتمعٍ بشريٍ ممكن يُرفضُ تحت اسم نظام الحقائق المضمونة إلهياً. يقومُ المؤمن بالله بوضع مصدر المعنى والقيمة فوق مستوى المسعى والخطاب البشري، ويدّعي أنّه حائزٌ على امتياز الوصول إلى الحقيقة المطلقة وأنّ معتقداته قد مُنحت قيمة مقدّسة يستطيع من خلالها إحالة أعدائه إلى النيران[1].

وعليه، عبر رفض الاعتقاد بالإله المطلق، لا يندفعُ مرلوبونتي من مجرد اعتبارات ميتافيزيقية بل أيضاً من اعتباراتٍ أخلاقية. يهتمُّ مرلوبونت(Merleau-Ponty)ي بحماية الاعتراف المتبادل بالإنسان من قبل الإنسان، بالاضافة إلى الدفاع عن الوعي الميتافيزيقي الأصيل الذي يُثبت البراعة المفيدة للمعنى التابعة للذات المتجسدة الممكنة باعتبارها حقيقة أساسية. يُطمئننا مِرلوبونتي (Merleau-Ponty) أنّ الوعي الميتافيزيقي والأخلاقي يهلك بمجرد لمسةٍ من المطلق[2].

في أدبيات الفلسفة الوجودية الإلحادية، تُمنح هذه الاعتبارات الأخلاقية أهمية كبيرة. ما دام العالم يُجسّد أبعاداً جليّة من البؤس ومعاناة الأبرياء، يُعتبر إثبات وجود الله غير محتملٍ أخلاقياً. وما دام الإنسان ـ بوصفه حريةً متجسدة ـ هو المصدر المستقل للمعنى والقيمة في العالم، يُصرَّح بعدم ضرورة هذا الدليل أخلاقياً. يُعتبر من

(176)

سوء النية تقديم تفاسير وتبريرات تخمينية لعالمٍ غير منطقي وغير مبرَّر. إنّ ردّة الفعل الأصيلة للإنسان في وجه الظلم ليست السعي لتفسيره بل محاربته والثورة ضده.

تُمثّلُ مؤلفات كامو(Camus) هذا الموقف الفلسفي الوجودي من الإلحاد البطولي. في رواياته ومقالاته، يدعمُ كامو الرفض الجريء لله، وذلك تحت اسم الاتحاد المحب مع البشرية في وضعها المنحط المتمثل بالمعاناة والموت الحتمي. انطلاقاً من استيائه تجاه الوضع الإنساني المخذول، يقوم الثائر بالانطلاق من موقفٍ مبدئيٍ متمثلٍ بالكفر، مروراً بإنكارٍ صريح لله ولجميع الإطلاقات العلمانية البديلة، وصولاً إلى إفاضةٍ وافرة من الاهتمام المحب بأخيه الإنسان المهان[1]. يتم اختيار الإنسانية الوجودية بدلاً من الإلهيات الأخلاقية التي تُعتبر مُشجعة عقلياً للامبالاة تجاه المأزق الإنساني. على سبيل المثال، يُعلّق ريو، الطبيب الملحد في رواية «الطاعون»، أنّه لو كان مؤمناً بإلهٍ ذي قوة مطلقة فإنّه سوف «يكفُّ عن معالجة المرضى ويترك الأمر له»[2]. إنّه ملحدٌ لاعتقاده بأنّ الأخلاق الأصيلة تكمنُ في «محاربة الخَلق كما وجده»[3].

يُقدّم جينسون(Jensen)، وهو زميل مقرَّب وتلميذ فلسفي لسارتر(Sartre)، اعتباراتٍ مماثلة. في أحد البحوث الذي سعى فيه لشرح «إيمان» الكافر، رفض جينسون الاعتقاد الديني بكائنٍ مُطلق، مفضّلاً الإلتزام المتحمّس بمهارة الحرية الإنسانية في تعزيز الاتحاد المحب بين البشر[4]. يعتبر جينسون أن الإيمان الديني هو نتاج الخوف، وأنّه ينشأ حين يختار الإنسان ـ بالنظر إلى عدم ثقته وضعفه ـ الاعتقاد بإلهٍ قدير والاعتراف بالعجز الجذري للإنسان. عوضاً عن هذا التخلي الإنساني عن المسؤولية، يقترح جينسون أنّه بصرف النظر عن وضع الإنسان الخطير

(177)

والفقدان التام لأيِّ ضماناتٍ نهائية، ينبغي أن يُجازف الإنسان بالإيمان بالخطة البشرية الجماعية للحقيقة والعدالة. يعترفُ جينسون بأنّ الإنسان يشعرُ بأنه حقيقةٌ غير قابلة للتفسير متجذرةٌ في الإمكان الوجودي الجوهري، ولكنّه يحتج بأنّ أيّ إنسان قد اختار تقبّل وجوده واختار الحياة ـ وبالتالي سلك طريق المعنى الإنساني ـ ينبغي أن يربط ثقته بالقدرة التعاونية لدى البشرية المتمثلة بمنح المعنى والقيمة للحياة. ينبغي أن يتجاوز الإنسانُ الاعتقادات الوهمية المتعددة بالخلاص المحتوم ليصل إلى اعتقادٍ جريء بجهوده الخاصة التي لا تمتلك قاعدة أخرى غير هذا الاعتقاد والمساعي التي يولّدها. إنّ استنتاجه النهائي هو أنّه إذا كان ينبغي على المرء تبني عقيدة معينة، ينبغي يكون معتقداً فقط بالعقيدة التي يُراهن على تحقيقها عبر الموارد البشرية وحدها[1].

بعد ملاحظة الخصائص المميِّزة المختلفة للفلسفة الوجودية الإلحادية، نصل الآن إلى نقطة الإشارة إلى بعض الاستنتاجات العامة المتعلّقة بأهمية هذه الفلسفة في تشكيل تقييمٍ كلّي لتطوّر الإلحاد المعاصر. بالاضافة إلى ذلك، وكما ذكرنا في بداية هذا الفصل، نأملُ أن نصل على ضوء هذه الاستنتاجات إلى نقطة الانطلاق لإعادة النظر بشكلٍ معاصر في مسألة الله. بالفعل، سوف نُشيرُ إلى كيفية قيام بعض خصائص الوضع المعاصر في تطوّر الإلحاد الفلسفي بإفادة ملائمة –وحتى الضرورة الملحّة- للتفكّر من جديد بإمكانية وجود الدليل الصحيح على وجود الله. سوف يتمّ التطرُّق لإعادة النظر هذه في الفصل الثامن.

تكشفُ الفلسفة الوجودية عن نفسها بطرقٍ مختلفة كإعلانٍ ناضجٍ وواعٍ عن الأنسنة المستمرة للحرية التي ما زالت تسعى وراء التعبير الأنسب منذ إثبات ديكارت الثوري للتفوّق الفلسفي للذاتية الإنسانية. على سبيل المثال، تُحقق

(178)

الفلسفة الوجودية هذا الأمر عبر الأهمية القصوى التي تنسبُها إلى حرية الإنسان الإبداعية لا سيما بالنسبة إلى سارتر. إنّها تحقّقه أيضاً عبر ادّعائها الذي أكّد عليه مِرلوبونتي بأنّ الممارسة الفعلية لهذه الحرية تنحصرُ في الإطار الدنيوي للمعنى والهدف الإنسانيين على وجه الحصر. وأخيراً، إنّها تُنجز ذلك عبر الطريقة التي يقوم مؤيّدوها مثل كامو وجينسون بالإصرار على أنّ الموقف الأخلاقي الأصيل الوحيد هو الاعتماد على الموارد البشرية وحدها ورفض أي رجوعٍ إلى التفسير الإلهي للوضع الإنساني، وذلك باعتباره مرفوضاً أخلاقياً.

إنّ قرار الفلاسفة الوجوديين بإقصاء أيِّ تفسيرٍ إلهيٍ للإنسان على أسسٍ أخلاقية يمتلكُ شبيهاً نظرياً متمثلاً بالتفسير الفينومينولوجي الحصري لعالم التجربة الإنسانية. من المعترف به أنه يوجد توافقٌ عام على أنّ «الوجود الغيبي للموجود من أجل الوعي هو بذاته في ذاته»، أي أنّ الوجود يتحقق ليس فقط بمقدار ظهوره بل أيضاً في ذاته[1]. بالرغم من ذلك، هناك إصرارٌ مقابل على أنّ هذا الموجود الغيبي فاقدٌ للمعنى بذاته. تُعتبر الذاتية الإنسانية المصدرَ والمعيارَ الحصري لمعنى الوجود وقيمته[2]. وعليه، فإنّ التحقيق الفلسفي الذي ينكشفُ كتوضيحٍ وصفيٍ لأسس عالم التجربة الإنسانية يبحثُ عن هذه الأسس ضمن موارد الذاتية الإنسانية نفسها. إنّه يسعى للعثور على أُسُس التجربة في الخصائص العامة  لها كالحرية والتجسيد والزمنية والذاتية المشتركة التي تجعلها ممكنة جوهرياً. إنّ هذا التفسير لعالم التجربة على ضوء الخصائص الأساسية للذاتية في التجربة الإنسانية نفسها يُؤخذ كالمصدر الحصري لمعنى الوجود وقيمته. إنّ أي رجوعٍ إلى مبدأ الوضوح الوجودي المتجاوز للإنسان ـ العقل الإلهي مثلاً ـ يتم إقصاؤه كلياً. بغضّ النظر عن أي مفارقاتٍ أو تناقضاتٍ

(179)

قد تنطوي عليه، يُقبل المبدأ الذي يُفيد أنّ الإنسان هو معيار الوجود كحقيقةٍ نهائية وغير قابلة للاختزال[1].

بالكاد يُمكن إنكار تسبُّب هذا الموقف بمفارقاتٍ وتناقضاتٍ شديدة. بالفعل، إنّ خطة الفلسفة كردٍّ على الحاجة البشرية تحديداً للحصول على النور والحقيقة الموثوقَين المتعلّقَين بالوجود بشكلٍ عام والوجود الإنساني بشكلٍ خاص تبدو -وفق هذه النظرة ـ عديمة الجدوى في النهاية. يتمّ إيقاف عملية توضيح المعنى والقيمة في طريقٍ مسدود متشكّلٍ من الإمكان والواقعية المجرَّدَين. بالاضافة إلى ذلك، يتمّ منهجياً سدُّ الطريق أمام أيِّ استفسارٍ إضافي قد يحلّ الطابع الفاقد للمعنى ظاهرياً للوجود في ذاته والحقيقة غير القابلة للتفسير ظاهرياً عن الإنسان كحريةٍ قائمة ومصدرٍ مُمكن للمعنى. إنّ انعكاسات قبول هذا اللامعنى النهائي تتجلّى في مجموعةٍ من التوتّرات الفلسفية الواضحة. على سبيل المثال، قد نذكر التوتّر بين المعنى الموضوعي الذي يكشفُ عنه التفسير العلمي وبين المعنى الإنساني الذي يكشفُ عنه الوصف الفينومينولوجي؛ أو التوتّر في وصف مِرلوبونتي للذاتية الشخصية الحرّة على أنّها فريدة في طابعها ولكن تتمتع في ذات الوقت بمتابعة مثالية مع الذاتية المتجسّدة المجهولة السابقة للشخصية؛ أو التوترات المتعدّدة المتأصلة في نظرة سارتر إلى الإنسان كمشروعٍ متناقض وكعاطفةٍ عقيمة. قد يكون أشدّ اعتراض يواجهُ الفلسفة الوجودية هو أنّه بالرغم من أنّها تتفادى بشكلٍ واعٍ القصورَ الكامنَ في كلٍّ من المذهبين التجريبي والمثالي عبر توصيفاتها الفينومينولوجية لوجود الذات العالمة في العالم، إلا أنها من خلال تحليلها الوجودي لهذه المعرفة تقعُ في الازدواجية الفلسفية التي تتضمّن نماذج من هاتين النظرتين بالذات التي قامت بنقدهما. بتعبيرٍ آخر، حين تُؤخذ الذاتية الإنسانية الممكنة كالمعيار الحصري لمعنى الوجود وقيمته، ألا

(180)

يتمّ في التحليل النهائي إناطتها حتمياً بعلمٍ وجوديٍ مؤلف من الحقيقة غير القابلة للتفسير وبمثالية مؤلفة من الدلالة؟[1]

بالرغم من هذه الصعوبات وغيرها المتضمَّنَة في مقاربتها الفينومينولوجية على وجه الدقة، إلا أنّ الفلسفة الوجودية الإلحادية لا تميلُ نحو تغيير ادّعائها بأنّ الإنسان هو المعيار الحصري لمعنى الوجود وقيمته. بالتالي، وخلافاً لنظيرها الإيماني، فإنّ هذه الفلسفة غير مستعدة لإناطة النسبوية بمفهومها عن الإنسان كمصدر المعنى والقيمة عبر فهمه ضمن الإطار الأوسع للإقرار باللغز المحيط المتمثّل بالكائن الظاهر جوهرياً والوفاء له. قد يظن المرء أنّ إعراض الفلسفة الوجودية الإلحادية عن السعي وراء أي مقاربة تُفضِّلُ إثباتَ المصدر الإلهي للظهور الوجودي ليست مدفوعةً من اعتباراتٍ نظريةٍ أو منهجيةٍ فحسب، بل أيضاً من اعتقادها بأنّ أي إثبات لوجود الله هو مُستهجنٌ أخلاقياً. بعبارةٍ أخرى، فإنّ الحكم القيمي أو الأخلاقي بأنّ إثبات وجود الله يتعارض مع مقتضيات الحرية الإنسانية يُعزِّز الاعتبارات المنهجية التي تجعل الإنسان معيار الوجود، ويعمل كرادعٍ أخلاقيٍ ضد أي جعْلٍ نسبيٍ لهذا المنظور. كما يرى سارتر، تتمثّل النتيجةُ بقرار الإلتزام البطولي بالاستنتاجات الكاملة التابعة لنزعةٍ إنسانية إلحادية على الدوام بصرف النظر عن مدى إرباكها أو تناقضها، وذلك بدلاً من اللجوء إلى إثباتٍ لله غير قابل للدفاع.

بالرغم من أنّ الفلسفة الوجودية الإلحادية تؤكِّد على كلٍّ من «محورية الإنسان» والإثبات المتحمس للحرية اللذَّين يطبعان المذهب الإنساني حول الحرية الذي ظهر بعد ديكارت، إلا أنها متحفظة على نحوٍ فريدٍ في تقييمها لإمكانيات هذا المذهب الإنساني. تختلف رؤيتها لوضع الإنسان وفُرَصه بشكلٍ قاطع عن التوقعات الواثقة للأشكال المختلفة من المذهب الإنساني الإلحادي في القرن التاسع عشر. من خلال

(181)

أخذ الاستنتاجات الكاملة للموقف الإلحادي على محمل الجدّ، ترفض هذه الفلسفة استبدال تأليه الإنسان بالاعتقاد بالإله التقليدي التي قامت بإنكاره. إنّها لا تجد ضماناتٍ مطلقة أو خلاصاً مضموناً للإنسان في أي نظرية عن الغلبة الحتمية للحب الأخوي، أو في نشوء المجتمع الشيوعي، أو في إمكانيات التحقّق التكنولوجي. كما يرى سارتر فإنّ «كلّ شيء هو مسموحٌ فعلاً إذا لم يكن الله موجوداً، وبالتالي يكون الإنسان بائساً لأنّه لا يستطيع العثور على شيء يعتمدُ عليه سواءً في داخل نفسه أو خارجها»[1]. هذا لا يعني أنّ الفلسفة الوجودية الإلحادية تعتبر أنّه على الفرد أن يكون غير عابئٍ بترويج النظام الإنساني المؤلَّف من الحقيقة والعدالة، بل إنّه يعني أنّ ترويج هكذا نظام يعتمدُ كلياً على القرارات والأفعال التي تنبثق من حرية الإنسان المتزعزعة، وأنّ تحقّقه النهائي غير مضمون على الإطلاق. ينبغي أن نقبل بحزمٍ الحقيقةَ الأساسيةَ التي تُفيد أنّ الإنسان يُشكّل نقطةً غير قابلة للتفسير على الإطلاق من الضوء وسط ظلام الوجود وعتمته، ومبدأً غامضاً من الحرية والحب والمعنى والعدالة مزروعاً عبر الجسد في عالمٍ من الخطر واللامنطقية والإمكان والغموض. إنّ المشروع الإنساني الذي نُثمّنه باعتبار كونه ظهوراً للمعنى والقيمة قد يفشل إما فردياً أو جماعياً كما تفعل الجملة غير المكتملة.

يقومُ كامو(Camus) بشكلٍ حسّاسٍ في أواخر كتابه «الثائر» بنقل الروح السائدة لفكر الفلسفة الوجودية، وذلك في الفقرة التالية الملفتة للنظر:

«إنّ الكلمات التي تتردّد لأجلنا في حدود هذه المغامرة الطويلة المتمثّلة بالثورة ليست صيغاً للتفاؤل لا إمكانية لاستخدامها ضمن حدود تعاستنا، بل هي كلماتٌ من الشجاعة والذكاء تمتلك ـ على شواطئ البحور الأبدية-خصائص الفضيلة كذلك.

لا يُمكن لأيّ شكلٍ من الحكمة اليوم أن يدّعي أنّه يستطيع تقديمَ المزيد.

(182)

تواجهُ الثورةُ الشرَّ دون كلل، وتستطيع من خلاله فقط استمداد باعثٍ جديد. يُمكن للإنسان في نفسه أن يُتقن كل ما يمكن إتقانه. ينبغي أن يُصلح في عالم الخَلق كل ما يُمكن إصلاحه، ومع ذلك سوف يموت الأطفال ظُلماً في المجتمع الكامل أيضاً. حتى بأقصى بجهده، يستطيع الإنسان فقط أن يطرح تخفيض آلام العالم حسابياً، إلا أنّ الظلم والمعاناة سوف يبقيان في العالم ومهما كانا محدودَين لن يكفّا عن كونهما مُستهجَنَيْن. سوف تبقى صرخةُ دميتري كارامازوف ’لماذا؟‘ تتردد عبر التاريخ...

كمثالٍ، نُقدّم القاعدة الأصلية الوحيدة للحياة اليوم: لتتعلم وتحيا وتموت، ولكي تكون إنساناً ينبغي أن ترفض أن تكون إلها.»[1]

بهذه النغمة الحزينة نوعاً ما، نُنهي استعراضنا للتطوّر التاريخي للإلحاد المعاصر. في مجرى بحثنا، لاحظنا التطور المهم في العلاقة بين المفاهيم الفلسفة المتمثلة بالعزلة والإلحاد. لقد شهدنا كيف أنّ الاعتقاد التقليدي بأن الإنسان يكون مُنعزلاً إذالم يُحلِّل وجوده الفردي والجماعي وفق خالقٍ إلهي قد تراجع تدريجياً بعد ظهور العلم المعاصر والفلسفة الديكارتية أمام النظرة التي تفيد أنّ الإنسان منعزل ما دام يُحلِّل وجوده وفق خالق إلهي. لقد رأينا تطوّر هذا المنظور الجديد في دفاع كانط عن استقلالية العلم والأخلاق ونقده للدين المنزَّل، وفي رفض هيغل للفهم التقليدي للتعالي الإلهي، وفي أنثروبولوجيا فيورباخ الإلحادية، وفي الرفض الماركسي والوضعي لله لصالح النزعة الإنسانية العلمانية على وجه الحصر. لقد رأينا كيف أنّ تقييم الإيمان بالله كمصدر العزلة قد ترافق في هذه المواقف المختلفة مع التقييم البديل وحتى المتفائل للمصير الإنساني. وأخيراً، لقد رأينا كيف أنّ رفض الله في الفلسفة الوجودية الإلحادية دفاعاً عن تعالي الإنسان وإبداعه وحريته قد ترافق مع القبول الصادق

(183)

بالنتيجة الغامضة وغير المبررة والمبهمة في النهاية لهذه الاستقلالية المبدعة للإنسان.

من بعض الجوانب، يبدو وكأننا قد عُدنا إلى موقفنا السابق. يتم ردّ الإنسان الكافر الذي يُصوّره الإيمان التقليدي والملحد المعاصر الذي تُصوّره الفلسفة الوجودية إلى مواردهما الخاصة، ولا يُمكن أن يعثرا في العالم أو في التاريخ على أيِّ إثباتٍ مطلق أو نهائي للخطة الإنسانية. لا داعي للقول بوجود اختلافاتٍ مهمة بين الحالتين. على سبيل المثال، يتمتّعُ الكافر اليوم بسيطرةٍ أكثر فعالية على حياته وخطته من الكافر في العصور السابقة، وهو أكثر إدراكاً لما تقتضيه ذاتيته وحريته ولا ينبغي تفسير إنكاره لله كرفضٍ مقصود لمسؤوليته المتمثلة بترويج عالمٍ من المعنى والقيمة. بالرغم من ذلك، فإنّ العامل المشترك في كُلٍّ من مفهوميّ الكافر هو الإدراك الحاد لوضعهما البائس والخطير. يُعتبر الكافر بصراحة فاقداً لأي أساسٍ مُعتمد لامتلاك الثقة بأنّ خطته لنيل المعنى والقيمة سوف تنتصر ضمن البيئة المحيطة للإمكان المجرد والغموض النهائي.

في هذا السياق، يبرز السؤال التالي: ألا يقوم الإلحادُ المعاصر- الذي يُعلن مجدداً عن العلاقة التقليدية بين الكُفر والغموض النهائي بطريقةٍ أكثر تقدّماً وانعكاساً- بتحدِّي روح الاستفسار الذي يهدفُ لاستكشاف إمكانية الإثبات الجديد للوضوح النهائي على ضوء إثباتٍ لوجود الله أكثر تقدماً وانعكاساً؟ لكي يكون هذا الدليلُ ناجحاً بصدق ينبغي أن يتغلّب ليس فقط على الاعتراضات النظرية على تواجد الإنسان والله معاً، بل أيضاً على الرفض القيمي لأي إثبات لوجود الله باعتباره مُستهجناً أخلاقياً وانعزالاً للحرية والذاتية الإنسانية. مما لا شك فيه أنّ صعوبة هذا العمل قد ازدادت بسبب الاعتراضات التي ظهرت في المراحل المختلفة لتطوّر الإلحاد المعاصر. بالرغم من ذلك، يُثبت هذا التطور إلى حدٍ ما ملاءمة هذا العمل لأنه قد أظهر في

(184)

مساره عبر إطلاقاتٍ علمانية متنوعة وعديمة الجدوى أنّ إنكار وجود الله ليس مسألةً ذي أهميةٍ ضئيلة تدع ثقتنا بالعالم المشرق للمعنى والقيمة مُسوَّغاً ومضموناً كما كان قبل هذا الإنكار. على العكس من ذلك، يظهر أنّ هذا الإنكار يضربُ جذورَ أيِّ فرضيةٍ حول الوضوح النهائي والدائم. وعليه، بالنسبة لأيّ شخصٍ لم تُطفأ رغبته وأمله بهذا الوضوح، إنّه يُشكّل التماساً لإعادة النظر في إمكانية حصول إثباتٍ نظري وأخلاقي مقبول على وجود الله. في الرد على هذا الالتماس، نقدّم فصلنا الأخير لإبراز مقاربةٍ محتملة لهذا الإثبات.

 

(185)
(186)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثامن

لوحةُ  الأمل

 

 

 

 

 

 

 

(187)

 

8- لوحةُ الأمل

ربطتْ الملاحظاتُ الختامية في الفصل السابع مسألةَ الله بإطار الأمل البشري، وأشارت إلى أنّ الإبقاء على الأمل بالوضوح الأقصى والدائم يقتضي المحافظة على الأمل بإثبات وجود الله. بشكلٍ أدق، من المتيقَّن أنّه بالرغم من وضعها المتزعزع بحد ذاته إلا أنّ الخطة الإنسانية لنيل المعنى والقيمة هي مشروعٌ مضمون ومعتمد عليه لأنّ الخالق الذكي هو الذي أسّسها وضَمِنها. إنّ المحافظة على هذا الأمل بالمصير البشري المضمون عبر المبدأ الإلهي فحسب هو ـ بشكلٍ متضاد ـ استنتاجٌ مُنبثقٌ من تطوّر الإلحاد المعاصر. السبب هو أنّ هذا التطوّر قد قام تدريجياً بإضعاف أمل الإنسان الأصلي وغير الناقد أو ثقته بأنّ تحقّقه الكليّ مضمونٌ تماماً بالوسائل البشرية على الأقل إن لم يكن بالوسائل الإلهية. يستلزم الإلحاد اليوم من الإنسان أن يقوم بشكلٍ واعٍ، ومن دون أيّ أملٍ أعلى، بعيش حياة مسؤولة بالكامل من ناحيةٍ علمانية حصرية. ما ينبغي أن يحتجّ به الإيمان لدعم إثباته لوجود الله هو أنّه بالتخلي عن هذا الأمل يقوم الإنسان بإقصاء بُعدٍ أساسيٍ للحياة الإنسانية المسؤولة بالكامل، أي تقليل احتمالات الإبداع البشري المتوفّرة للإنسان.

من خلال ربط مسألة الله بإطار الأمل البشري على هذا النحو، نستطيعُ استخلاصَ بعضِ الاعتبارات التي لا ينبغي التغاضي عنها لدى مناقشة هذه المسألة. على سبيل المثال، نتوجّه إلى الأهمية والصلة المحدَّدة المعاصرة للطابع الشخصي والذاتي قطعاً لإثبات وجود الله. إنّ هذا لا يعني أنّ إثبات الله يفتقد للتبرير المنطقي وأنّه قفزة عمياء في الظلام أو حتى رجوعٌ إلى شكلٍ غير ناضجٍ من تحقيق الأمنيات، ولكنّه يعني

(188)

أنّه ينبغي أخذ الأفكار التخمينية المحضة في الحسبان لدى مناقشة هذا الإثبات بشكلٍ مُناسب.

لا يقع إثباتُ الله ضمن نطاق العلم الموضوعي الذي يُمثِّل التوظيف المعتاد للفهم البشري. يتعلّق هذا العلم بنحوٍ عام بالأشياء المادية التي تقف مقابلنا في التجربة والتي يمكن فهمها بفعالية متنامية من خلال أسلوبٍ موضوعي مُنفصل، وذلك عبر البحث العلمي المستمر. إنّ الله ليس عنصراً أو موضوعاً يقع ضمن هذا النطاق من البحث التجريبي، بل يتمّ تصوّره -بطريقةٍ جزئيةٍ على الأقل- كالمصدر الذكيّ غير الخاضع للتجربة والذي يُمكن إثبات وجوده فقط بأسلوبٍ ميتافيزيقي أو غير تجريبي. يتطلّبُ الأمرُ من جانب الذات العالمة نوعاً من الاستعداد الشخصي للمشاركة في نوع التأمل المنطقي الذي يتضمّنه تحصيل هكذا علم ميتافيزيقي. السبب هو أنّ هذه الذات العالمة ترتاح وتطمئن بوجود اتحادٍ أعظم على المستوى العلمي المحض للفكر القابل للإثبات تجريبياً. كما ذكرنا في مناقشتنا للفلسفة الوضعية، يوجدُ افتراضٌ منتشر بأن الاستكشاف العلمي للعالم التجريبي يُحدِّد نطاق أيِّ تقييمٍ عقلاني أصيل للواقع. بما أنّ هذا الميل لإضفاء الإطلاق على العقلية العلمية الفعالة بشكلٍ ملفت للنظر، يميلُ الفردُ لتجاهل أي تخمينٍ ميتافيزيقي محض عن المعنى النهائي للواقع بشكلٍ عام وللوجود الإنساني بشكلٍ خاص باعتبار أنه غامض وعقيم. اليوم، يتطلّب البحثُ الجدّي في هذه القضايا قراراً واعياً بالانفتاح والتجاوب الدائم مع المقتضيات العقلية على كلِّ مستوى من الاستفسار البشري، وليس فقط تلك المنقادة إلى المنهجية المحدودة -ولكن المؤثرة- للعلم الوضعي.

إنّ المشاركة الشخصية للذاتية الفردية الحرّة في أيِّ إثباتٍ مرسوم لله تتضح أكثر عبر الحقيقة التي تُفيد أنّ هذا الإثبات له تأثيرٌ مباشر وعميق على تقييم الإنسان لنفسه. إنّه ليس من نوع الإثباتات التي يُمكن تلقّيها بنفس الهدوء الموضوعي الذي

(189)

يحمله الفرد حين يتقبّل حقائق الأشياء المادية. وعليه، بالرغم من وجود نوعٍ من التشابه الشكلي، ولكنّ إثبات أنّ «الله قد خلقَ العالم» له وقعٌ مختلف عن إثبات أنّ «سميث قد صنع الطاولة». يعودُ سبب ذلك إلى أنّ إثباتَ خلْقِ الله للعالم ليس مجرّدَ تعبيرٍ موضوعيٍ عن الأمور كما هي، بل إنّه يحتوي كجزءٍ من معناه على تبنِّي موقفٍ خاص تجاه العالم والنفس. إنّ القبول به يتضمّن استعداداً لرؤية النفس من منظورٍ مختلفٍ كلياً باعتبار تابعيتها الجذرية. في الثقافة الإيمانية في العصور السابقة، كان الإنسان مدفوعاً بأملٍ حيٍ بإمكانية رؤية نفسه من هذا المنظور عبر تأمله الفلسفي. كانت هذه التبعية مرغوبة تماماً ـ اعتمادٌ مُنقِذ على ما يصحُّ فعلاً الاعتماد عليه. ولكننا قد رأينا كيف أنّ تطور الإلحاد المعاصر ـ مشحوناً بالتصور المعاصر للحرية والاستقلالية الإنسانية- قد فسّر مفهوم الاعتماد على الله كتهديدٍ لادّعاءات الذاتية الإنسانية وبالتالي كمصدرٍ للعزلة الإنسانية. بناء على ذلك، فإنّ إثبات الله كالمبدأ الأول المتعالي للوضوح المعتمَد عليه لا يبدو بعد الآن هدفاً إنسانياً ينبغي السعي وراءه أو تمنّيه بل يبدو هذا الإثبات غير متاحٍ لأي إنسانٍ يمتلك الذاتية الأصيلة، بالاضافة إلى مبغوضيته وضرورة اجتنابه قطعاً. إنّ الاعتراض بأنّ إثبات هذا المبدأ يدمّر الذاتية الإنسانية يقفُ في مقابل السعي الميتافيزيقي لحيازة مبدأ الوضوح النهائي. وعليه، فإنّ الوفاء لما يُعتبر أنّها مقتضيات الذاتية الإنسانية يُوجِد شكاً حيوياً بأي إثباتٍ لمبدأ الوضوح النهائي. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ هذا الشك بحد ذاته يُعزّز عدم الاكتراث بأيِّ شعورٍ ميتافيزيقي بالدهشة أو بأيِّ مسار تأمليٍ يتجه نحو هذا الإثبات. عوضاً عن ذلك، فإنّ الموقف الذي يتمّ تنميته وتعزيزه يسعى وراء تفسيرٍ علمانيٍ حصري لأيٍّ من الأبعاد الغامضة في التجربة التي تُغذّي هذا الاستفسار الميتافيزيقي.

وعليه، فإنّه ليس مثاراً للتعجب أن تفقد المناقشةُ التقليدية الميتافيزيقية لوجود الله وطبيعته التبجيل أو حتى الاهتمام بشكلٍ مُتنامٍ. يتمّ عادةً تجاهل ادّعاءات

(190)

الأدلة الميتافيزيقية المختلفة على وجود الله أو نبذها باعتبارها غير جديرة بالتفكير الجاد. حتى اولئك الذين يُقرّون بمعقولية استدلالهم يفشلون في الكثير من الأحيان في تحقيق قبولٍ ذاتيٍ باستنتاجهم. إنّ القرون الثلاثة من الفلسفة المعاصرة والإلحاد التي قامت بإيجاده تُلقي ظلاً محتوماً بين الفهم النظريّ للمعنى اللفظي لهذه الأدلة وفهمها الوجودي الفعلي كعمليات كشفٍ أصيلة عن الواقع. يبدو أنّه في أعقاب الفكر المعاصر، تغيّر العالم الذي نعرفه –وبالتالي أسلوبنا في معرفته- إلى درجةٍ يُمكن القول بأنّ حقيقةً جديدةً قد أخذت مكان تلك الحقيقة التي تتحدّث عنها الأدلة التقليدية على وجود الله. بالاضافة إلى ذلك، وكما ذكرنا سابقاً، يبدو أنّ لغة الذاتية الإنسانية التي يتمّ عبرها فهم هذه الحقيقة الجديدة تنبذُ الأمل أو التوقّع بالتوصل إلى إثبات وجود الله، وهذا قد أحيا المحاولات التقليدية للاحتجاج لصالح هذا الإثبات.

وعليه، فإنّ جذور المسألة الفلسفية حول الله في يومنا تقع في مستوىً أعمق يفوق التفكير في كيفية تشكيل دليلٍ ميتافيزيقي صحيح على وجود الله بغض النظر عن تحدّي الإلحاد المعاصر. قبل كلّ شيء،  تكشفُ هذه المسألة عن الإطار الذي يُمكن من خلاله تصوّر إثبات وجود الله كأمرٍ متصلٍ بشكلٍ حاسم بالمسعى البشري. يتضمّن هذا المشروع النظرَ في كيفية إثارة الأمل بشكلٍ منطقي بإثبات الله الذي يبدو ضرورياً للطابع الذاتي لأيِّ حجةٍ لصالح هذا الإثبات. بتعبيرٍ آخر، تتمثلُ المسألة في إظهار إمكانية تصوّر إثبات الله كهدفٍ منطقيٍ يُعبّر عن أعظم وأغنى إنجازٍ إنساني ـ بالرغم من الإعلانات المتناقضة تحت اسم مقتضيات الذاتية الإنسانية.

بسبب هذه الحاجة لتنشيط الأمل بالله في عصرٍ فاقدٍ إلى حدٍّ كبير لهذا الأمل، فإنّ مهمة التبرير المنطقي لإثبات وجود الله هي من دون شك أصعب اليوم مما كانت عليه في عصور الإيمان حين كان هذا الأمل نافذاً على نحوٍ سابق للتأمل بفضل الإيمان الديني المنتشِر ثقافياً. حين نستكشفُ إمكانية تجديد هذا الأمل، ينبغي أن نأخذ في

(191)

الحسبان تعلّقه بشكل أكثر مباشرة بموضوع مصير الإنسان وليس أصوله. وعليه، يُشير الأمل بالله بشكل أكثر مباشرة إلى مفهومنا بأنّه أقصى خيرٍ مأمول يضمن تحقيق خطة الإنسان بدلاً من مفهومنا بأنّه هو العلة الأولى المبدعة التي أنشأت كل الموجودات المحدودة ومن ضمنها الإنسان. من المؤكَّد أنّه في النهاية، يمكن إظهار أنّ الأمل بالله يشتملُ على إثبات الله الخالق الحكيم كعلّة، ولكنّ هذا الأمل بحد ذاته يؤثر بشكلٍ مباشر على مفهوم الله كالخير الأعلى للإنسان. بالاضافة إلى ذلك، إنّ هذا هو المفهوم الذي يُجادل فيه الإلحاد المعاصر أكثر من المفهوم الذي يُفيد بأنّ الله هو العلة الأولى المبدعة التي تتحدث عنها الأدلة التقليدية. بالفعل، إنّ فقدان الأمل بالله الذي يُعتبر الخير الأعلى للإنسان هو أحد أهم العوامل المساهِمة في اللامبالاة المعاصِرة تجاه وجهة نظر هذه الأدلة. بما أنّ هذا الأمل يُعتبر عديمَ الجدوى، فإنّ هذه الأدلة تُعتبر أوهاماً غير متصلة بالإنسان.

بالنظر إلى هذا الوضع، يبدو أنّه لو أردنا أن تكون المقاربة الرامية لصيانة إثبات الله في وقتنا الحاضر ملائمة تماماً، ينبغي أن ترتكز على هذا التعارض المزعوم بين مقتضيات الذاتية والأمل بالله. بدلاً من المكوث فقط على نقد أدلةٍ محددة، ينبغي أن تسعى هذه المقاربة لتقديم تفسيرٍ إيجابيٍ لهذه المقتضيات وأن تُظهر إمكانية فهمها منطقياً بطريقةٍ تكشفُ أنّه من غير الضروري أن يظهر الأمل بالله كمتعارضٍ معها بالأساس بل كمتوافقٍ حقيقيٍ معها. بشكلٍ مثاليٍ، ينبغي أن تُعبِّر هذه المقاربة عن توافق الأمل بالله مع ادّعاءات الذاتية، وذلك بأسلوبٍ يدل على إثبات حقيقي لوجود الله.

في هذه الصفحات المتبقية من البحث، سوف نلقي نظرةً وجيزةً إلى كيفية تطوير هذه المقاربة. ينبغي التأكيد على الطابع المبدئيّ لهذه الملاحظات وأنّه لا يتم تصوّرها بأيّ نحوٍ من الأنحاء كتعليلٍ فلسفي متطورٍ كما ينبغي لإثبات وجود الله. إنّ هذا

(192)

المشروع سيكون عملاً فائق التعقيد والصعوبة ويحتاج إلى بحثٍ مستقل. بالتالي، ومن أجل تفادي نقل انطباعٍ مُضلِّل، من المهم التأكيد على أنّه من غير المقصود أخذ الاعتبارات التي تمّت الإشارة إليها في هذا الفصل كنقضٍ حاسمٍ للقضية الجدّية التي تؤيِّد الإلحاد الفلسفي كما رأينا، بل كمخطَّطٍ استباقي لأنواع الإثباتات التي ينبغي تأسيسها بشكلٍ جاد في تبريرٍ معلّلٍ فلسفياً لله في يومنا الحالي. إنّ هذه الاعتبارات تشيرُ إلى كيفية طرح هكذا إثباتٍ بشكلٍ واضحٍ في ظروف الانشغال المعاصر بمقتضيات الذاتية الإنسانية. إنّ التأكيد المناسب والحاسم لهذا الطرح وافتراضاته تتضمّن استدلالاً شاملاً واستقصائياً واهتماماً مُفصّلاً بالصعوبات الحقيقية- إلى درجةٍ قيل بأنّه يُمثّل بحد ذاته وبشكلٍ أنسب مادةً للبحث الإضافي.

حين نتحدّث عن ادّعاءات الذاتية الإنسانية، نُشير بشكلٍ رئيسيٍ إلى خصائص الإنسان المؤكِّدة للذات والتي يتعالى بمقتضاها فوق الحقيقة المجرَّدة للواقع الشبيه بالشيء ويُشكّل نفسَه وعالمه بطريقةٍ حرّة. إنّ الإنسان باعتبار ذاتيته يهتم بالخروج من حالة الوجود الممنوح واقعياً التي يشترك فيها مع كل شيء لكي يصل إلى الوجود المطبَّق شخصياً. إنّه يجعل نفسه إنساناً أصيلاً عبر التفصيل الفعّال للمجال الممنوح لتجربته ـ بالاضافة إلى تجربة حالاته ونشاطاته الخاصة ـ في عالمٍ من المعنى والقيمة. إنّ الحرية المبدِعة التي تُنشِّط هذا المشروع لنيل المعنى والقيمة هي حرية تسعى عبر هذا المشروع للتوصُّل إلى تحققٍ أغنى وأكثر فاعلية لذاتها بالرغم من كونها مشروطة بطرقٍ مختلفة. فضلاً عن ذلك، من خلال توسعة هذه الحرية القائمة بالدقة، يتمّ تحقيق التشكّل الذاتي للذاتية الأصيلة.

بالقدر الذي نقبل الحياة التي نجدُ أنّها قد وُهِبت لنا بشكلٍ طبيعي، يمكن القول بأنّنا نختار واقعنا كموضوعٍ قائم للتجربة الحيّة المباشرة. ولكنّنا لا نحدد بشكلٍ حرٍ كيف ستبدو هذه التجربة مبدئياً. كما يُلاحظ مِرلوبونتي، تكمن خلف الذاتية الحرّة

(193)

ذاتيةٌ متجسدةٌ أعمق يقوم ميدان التجربة الإنسانية المباشرة بتشكيل نفسه عبرها. إنّ ميدان التجربة المباشرة من حيث هو ليس الوظيفة الحقيقية لحريتنا.

يتجلّى التطبيق الفعّال لهذه الحرية بشكلٍ أوضح في التفاني المثابِر والعبقرية المبدِعة التي نسعى من خلالها للتعبير عن إدراكٍ علميٍ لعالم التجربة الممنوح فوراً. إنّ هذا التطبيق للحرية في مهمة الوصول إلى الفهم العلمي هو من دون شك نشاطٌ مُغني ومحرِّر. بالرغم من ذلك، لا يتمثل هدفه وإلهامه بشكلٍ مباشر بتشكيل الذاتية الحرة أو تحقيق الأشياء كما ينبغي أن تكون بل يتمثّل بفهمٍ موضوعي وقابل للإثبات لحقيقة الأشياء من وجهة نظر أيِّ مُستفسِرٍ علمي موضوعي.

إنّ التأكيد الذاتي الصريح للذاتية الحرة يُعبّر عن نفسه بشكلٍ أكثر مباشرة في المسعى العملي الذي يقوم من خلاله بشكلٍ تدريجي بتبديل العالم الواقعي للتجربة المدرَكَة بذكاء إلى عالمٍ ثقافي من المعنى والقيمة المقصودَين إنسانياً. هنا، يُعلن الواقع الشامل للذاتية الحرة عن نفسه ليس فقط كصفةٍ أصيلة للوجود الفعلي بل كمعيارٍ للوجود المرغوب. انطلاقاً من هذه النظرة إلى الحرية الإنسانية، يبدو أنّ الاحتمال القيمي للوجود يتجاوز واقعه الوجودي. بتعبيرٍ آخر، حين يتمّ النظر إليه من ناحية القيمة، يبدو أن الوجود يُمكن أن يكون أعظم مما هو عليه فعلاً بفضل الحرية الإنسانية. يُمكن النظر إلى حضور الحرية الإنسانية في الوجود كمبدأٍ مُنشئٍ للقيمة غير المتحققة لحد الآن في الوجود. على ضوء هذه النظرة إلى الحرية الإنسانية كمنشِئة للقيمة، يُمكن للفرد تقدير قوة صورة هايدغر الجميلة للإنسان كراعي الوجود، أو مفهوم جاسبرز للوجود الحر كمصدرٍ لما يُمكن أن يكون وما ينبغي أن يكون ولكنّه لم يتحقق لحد الآن وقد لا يتحقق.

عبر التأمل في قدرة الإنسان على تعزيز التصوُّرات الثقافية التي يتم تبنِّيها بشكلٍ

(194)

حر، يمكن للفرد تعميق مفهوم الإنسان كقيمةٍ مطلقة وتوضيحه[1]. باعتبار أنّه المصدر الحر والذكي للمشاريع القيِّمة في ذاتها، ينبغي النظر إلى الإنسان كحقيقةٍ جديرةٍ في جوهرها وليس ذي أهميةٍ آلية فحسب. كما لاحظ كانط، ينبغي دائماً النظر إلى الإنسان كغايةٍ بحد ذاته وليس كمجرد وسيلة. بالاضافة إلى ذلك، يتخطى إبداعه تعزيز خياراتٍ محدَّدة كالصحة الجسدية والنظام الاجتماعي والإدراك العلمي والإنجاز الجمالي ليصل إلى تحقيق القيم الأخلاقية التي تجعل الذات أصيلة بشكلٍ غير مشروط. إنّ هذه القيم مشمولة بشكلٍ مباشر في تصوُّرٍ مثاليٍ لأكمل تحققٍ ممكنٍ لوجود كل إنسان باعتبار ذاتيته الحرة الذكية، وتتشكّل من التحرر التوسّعي لإمكانيات الوجود الشخصي بحد ذاته. إن نوع القيم المشمولة في هذا التصور المثالي هي الصدق والحرية والعدالة والحب. ينبغي أن يُلخَّص هذا التصوُّر المثالي كالاعتراف المحِبّ المتبادل بين الأشخاص الأحرار في مملكة الصدق والعدالة.

وعليه، يفهم الإنسان أنّ شخصيته هي في نفس الوقت ذاتٌ وهدفٌ مؤلَّفٌ من القيمة المطلقة. إنّه يُدركُ أنّ مُقتضى كونه شخصاً يتمثّل بتحقيق القيم الشخصية غير المشروطة كالصدق والحرية والعدالة والحب التي تنبعُ من واقعه غير القابل للاختزال باعتبار ذاتيته الذكية الحرّة، والذي من خلاله تُطوّر هذه الذاتية نفسها. بالاضافة إلى ذلك، إنّه يُدرك أنّ هذا النظام الأخلاقي ـ الذي يتم من خلاله تعزيز الهدف المتمثل بالتحرُّر الشخصي- يعتمد بشكلٍ تام عليه في تشكّله. لا يُمكن تأسيس النظام الإنساني للقيم الأخلاقية عبر حُكمٍ إلهي لأنه يتضمّن تطبيق الموافقة الإنسانية كميزةٍ أساسية. يُمكن تقريب النظام الأخلاقي إلى التحقق فقط حين يُتصوَّر بشكلٍ ذكي ويُرادُ بشكلٍ حر من قِبل الإنسان.

من خلال الترويج الحر لتحقيق نظام القيم الأخلاقية غير المشروطة، يُمكن القول

(195)

حقاً بأنّ الذات الإنسانية تُشكّل شخصيتها الإنسانية المتميزة وعالمها. حين يتعالى فوق الإطار الذي تُقدّم الأشياء نفسها بشكلٍ واقعيٍ عبره، يقوم الإنسان بإبراز التصور المثالي للوضع الجدير بذاته ويُلزم نفسه بشكلٍ حر بتطبيق هذا التصوّر. إنّ أي إشارةٍ صريحة إلى الله هي غير ضرورية لدى توصيف النظام الأخلاقي. يتمّ تصوير إمكانيته ووضوحه الجوهري بشكلٍ مناسب عبر مصطلحات علمانية محضة تتعلق بالإبداع والحرية والتعالي الملائم للإنسان. حين يتم النظر إليه من هذا المنظور قيمي أو الموَجَّه نحو القيم، يمكن فعلاً أن يُقال بأنّ الإنسان ـ باعتبار كونه مصدراً متواصلاً غير قابلٍ للاختزال للقيم الأخلاقية الموثِّقة للذات ـ هو مُطلق.

ولكن تجدرُ الإشارة إلى أنّه بالرغم من تعزيز هذا النظام الأخلاقي المقصود إنسانياً كأمرٍ مطلق في نظام القيم إلا أنّه لا يُقدِّم نفسه كهدفٍ مضمون جوهرياً. إنّه يُمثّل تصوُّراً جديراً غير مشروط، إلا أنّ تحققه الفعلي غير مضمون بأيّ نحوٍ من الأنحاء بالرغم من مرغوبيته التامة. بتعبيرٍ آخر، وبشكلٍ أكثر تقنية، إنّه لا يُبرِّر ذاته وجودياً بالرغم من طابعه القيمي المطلق والموثِّق للذات.

إذا حكمنا بأنّ نمط الوجود التاريخي المتجسّد للإنسان هو القاعدة الحقيقية أو الوجودية الوحيدة لنظامٍ مرسومٍ للمعنى والقيمة، فإنّ ثقتنا بهذا النظام لن تكون أقوى من ثقتنا بنمط الوجود الإنساني نفسه. ولكن حين نتأمل في نمط الوجود الإنساني نُدرك أنّه بالرغم من كونه جديراً في الجوهر باعتبار أنّه المصدر الحر والذكي للمعنى والقيمة إلا أنّه كذلك بطريقةٍ عرضية وقائمة ومتزعزعة. وعليه، فإنّ الخطة الإنسانية لتحقيق النظام الحقيقي الذي يتّصفُ بشكلٍ كامل وموثوق بالخصائص الشخصية والأخلاقية يمكن أن يبدو من منظورٍ مأساويٍ بعيد المنالَ بسبب الطابع الضعيف والعرضي والمحدود لمصدره البشري.

 بالقدر الذي يُؤخذ واقع الإمكان الإنساني كحقيقةٍ غير واضحة، فإنّ ذلك يُمثّل

(196)

تشكيكاً بالأهمية والموثوقية الدائمَين لأيِّ خطةٍ لنيل المعنى والقيمة يقوم بترويجها. مهما بدا أنّ تنظيماً محدداً للشؤون هو مثيرٌ للإعجاب بحد ذاته، إلا أنه لا يُقدِّم نفسه كتعبيرٍ أكثر موثوقية عن الواقع من الحقيقة المحتومة للتزعزع والضعف الوجوديَين للإنسان. إنّ الصدق والحرية والعدالة والحب التي يُظهرها الإنسان في أرجاء الوجود هي دائماً صدقٌ محدود وحريةٌ مشروطة وعدالةٌ ناقصة وحبٌ متزعزع. إنّ هذه الأمور تظهرُ ضمن إطار مُحيطٍ من الإمكان الوجودي والمحدودية والشر الذي يتضح بشدّة عبر الموت الحتمي لكل فرد والانقراض المحتمل لكامل المجتمع البشري. حين يُنظر إليها من هذه الناحية، فإنّ الصدفة والإمكان والواقعية المحضة تبدو كأبعادٍ أساسية للواقع لا يُمكن تخطّيها، وهي أساسية في التحليل الأخير أكثر من النمط الضعيف للصفات الشخصية والأخلاقية التي نسعى أن نجمع كل موارد الكينونة فيها. إذا كان الأمر كذلك، سوف يكون امتلاك الثقة المطلقة بأي تصوّرٍ حول المعنى والقيمة غير واقعيٍ ووهمي. سوف يبدو أنّ التعبير البطولي الأخلاقي الصادر عن وعيٍ وتقبُّلٍ تام لتفاهته وعبثه النهائي هو أكثر ما يُمكن أن يتوقعه الإنسان على نحو معقول أو يقتضيه من نفسه.

بالرغم من ذلك، نجدُ في الشهود العملي للحياة أننا نرفض الوضع المتزعزع والعرضيّ الذي تنسبه هذه النظرة إلى مملكة القيم الشخصية والأخلاقية. من خلال التعبير الملفت عن ذاتيتنا، يُمكننا تكريس أنفسنا لمعايشة هذه القيم ليس فقط باعتبار موثقيتها للذات بل أيضاً باعتبار أنها مبرّرة لها. يمكننا أن نعيشها باعتبار إطلاقها وليس فقط من منظور القيمة بل أيضاً باعتبار أنها مطلقة واقعاً ووجودياً. بتعبيرٍ آخر، يمكننا الالتزام بها بشكلٍ تام ليس فقط بمعنى الإقرار بأنها مثيرة للإعجاب بشكلٍ غير مشروط بل أيضاً حين نعتبرها خصائص موثوقة تماماً للواقع. عبر العمل، يُمكننا تطبيق إثباتها كبعدٍ أقصى للواقع يفوقُ مجرد الصدفة أو الإمكان. يتمُّ تذكيرنا

(197)

مراراً بالنموذج الفعلي الذي يفيد أنّ البشر يعتبرون أنّ شاهداً أكثر أصالةً على غموض الواقع هو الموت من أجل الحرية والصدق والعدالة والحب بدلاً من الحياة المنقادة إلى منتهى التقييدات التي تحيطُ بهذه القيم باعتبار الإحساس بها إنسانياً. ينبغي أن نلتفت إلى هذا الإثبات الحرّ المتجسِّد في الأداء الحيّ والذي يُفيد أنّ الوقوع ضحية لقوة الإمكان لدى الدفاع عن هذه القيم ليس نقصاً في حقيقتها ـ بالرغم مما هو ظاهر ـ بل على العكس من ذلك هو كشفٌ شاملٌ عن امتلاكها لحقيقةٍ أكثر جوهرية مما تملكه الواقعية والإمكان والموت.

إنّ هذا الإثبات الوجودي الحرّ للطابع الشخصي والأخلاقي للواقع ليس خياراً اعتباطياً. بطرقٍ مختلفة، وبأساليب متفاوتة بين البشر، يتمّ الحث عليه منطقياً على الأقل إن لم يتم استلزامه بالضرورة. على سبيل المثال، قد يتم الحث عليه عبر وفائنا لروح الاستفسار الذي -باعتبار أنّه دافعٌ لنيل الفهم الشامل لكل الواقع- يُصوّر هذا الواقع بأنّه ليس منافياً للعقل بالمبدأ بل هو واضحٌ بالفعل. أو قد يتمّ الحث عليه عبر أي ميدان «للتجارب العميقة» كتجارب الذاتية المشتركة، والوجوب الأخلاقي، والظواهر الجميلة أو المهيبة[1]. في التجارب كالذاتية المشتركة أو التصوّر المثالي الأخلاقي، قد يُلهَم إلتزامٌ وجوديٌ بالطابع الشخصي نهائياً للواقع. قد يرتكزُ هذا الإلتزام على المباني التي تحتجّ بأنّ الإعلان عن السلطة المطلقة للتصوُّر الأخلاقي الذي لا يمكن تحقيقه هو غير واضح، وأنّ القاعدة الوحيدة للادّعاء بإمكانية تحقق التصور الأخلاقي هو التأكيد على أن الواقع شخصيٌ في النهاية.

إنّ الفلسفة الشاملة التي تدور حول الله تتضمن تقييماً مفصَّلاً لهذه الأسس العقلانية لإثباتنا الوجودي للطابع الشخصي والأخلاقي أساساً للواقع. ولكننا نهتم هنا

(198)

بشكلٍ أكثر مباشرة بلفت الانتباه إلى الحقيقة الملفتة لهذا الإثبات المطبَّق وجودياً. بالفعل، إننا نجد أنّه بإمكاننا أن نُشارك بشكلٍ حرٍّ في العالم المحيط لتجربتنا وكأنّه من حيث المبدأ خيرٌ ومُفيدٌ للمعنى وليس أنه ينبغي أن يكون كذلك فحسب. في ردّنا الوجودي على مطالب التجربة، نعيش حالة من الإنكار الغاضب للطابع العرضيّ وغير المضمون ظاهرياً للأبعاد الشخصية للواقع. على سبيل المثال، نرى في علاقاتنا مع الآخرين أنّه من المناسب التفاعل معهم بطريقةٍ تنسبُ الأهمية الحقيقية والقصوى للأبعاد الشخصية لوجودهم. لا يُوصف هذا التفاعل بشكلٍ مناسب كمداراة ذاتية عاطفية فحسب، بل هو تعبيرٌ عن الواقعية الأخلاقية التي تتطلّب إخضاع الاندفاعات الأنانية للمقتضيات الموضوعية للنظام الشخصي المعتمَد عليه. من خلال التفاعل مع الآخرين بطريقةٍ تؤكِّد الحقيقة الحاكمة للقيم الشخصية، نحن نتحدّى ونتغلّب -ولو رمزياً ـ على الإشكالية التي تُفيد بأنّ الواقع فاقدٌ للمعنى وممكنٌ وغيرُ قابلٍ للتفسير في النهاية. عبر نشاطنا الحر، نُعلن الطابع الشخصي النهائي للوجود.

بالاضافة إلى ذلك، نجدُ أنّ هذا التفاعل يُمكِّننا من تصوُّر وتعزيز تحقّقٍ أغنى للقيم الشخصية لا يمكن تحقيقه بنحو آخر. إنّه يتجاوز شكوك التخمين المحض ويُشكّل قاعدةً وجودية للإلتزام بتحقيق التعارف المتبادل للأفراد في مملكة الصدق والعدالة. كذلك، إنّه يُلهمنا لكي نصلح نظرتنا الأخلاقية ونميّز عبر المصادر والتجليات المختلفة للقيمة الشخصية بُعداً ذا أهميةٍ دائمة بالكاد يُمكن أن ننسبه إليها إذا يعتبر الواقع شخصياً بشكلٍ جذري. من خلال التطبيق المبدِع لحريتنا، نفترض وجود الإمكانية الحقيقية للوصول إلى نظامٍ شخصيٍ وأخلاقيٍ جذريٍ للواقع وتكريس أنفسنا لتحقيقه.

إنّ الوضع الذي يُمكننا فيه بنشاطنا الحر الاعتراف الفعلي بالواقع الحاكم للقيم الشخصية ـ والذي يبدو غير مبرَّرٍ من منظور التخمين المحض- هو متناقضٌ للغاية

(199)

ويستدعي المزيد من النظر. إنّه يشيرُ إلى أسلوبٍ فكريٍ يُشكِّلُ أُسُساً منطقية لإثبات وجود الله إذا تمّ تفصيلُهُ بشكلٍ كامل وتبريرُهُ نقدياً. فلنصرف النظر هنا عن هذه المهمة الشاقة المتمثّلة بالتفصيل والتبرير، ولنذكر فقط الخلاصة المجرّدة لهذا الأسلوب التفكيري.

لقد أشرنا إلى حقيقتين يُمكن القول بأنهما حين يُؤخذان معاً يًشكِّلان تناقضاً يتمثّل في دلالة كلٍ منهما على تقييمٍ مختلفٍ للواقع. من ناحية، توجد الحقيقة التي تُفيد أنّ الوصف التأملي للتجربة يدل على أنّ الواقع في طابعه الأساسي والنهائي فاقدٌ للمعنى ولا يُعتمد عليه وتصادفي وغير قابلٍ للتفسير. بالرغم من إمكانية اعتبار أنّ الإنسان كفاعلٍ ذكيٍ وحرٍ هو مطلقٌ من منظور القيمة، إلا أن ذلك يبدو عرضياً تماماً في الواقع، وإنّ وجوده بحد ذاته متزعزع وممكن من دون ريب. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ التصوّر المثالي للنظام الأخلاقي والشخصي الذي يُروِّج له الإنسان يبدو مُمكناً وغيرَ مبرّرٍ في الواقع تماماً كوجوده الخاص الذي يُمثّل وظيفةً فيه. من ناحيةٍ أخرى، توجد الحقيقة التي تُفيد أنّ الإنسان في التطبيق الفعلي لحياته يُمكنه تكريس نفسه بشكلٍ حرٍّ لإثبات الطابع الشخصي والأخلاقي النهائي للواقع وأنه يفعل ذلك فعلاً. إنّه يُنكر السخافة المزعومة للواقع ويقوم بشكلٍ رمزيٍ بتطبيق الحقيقة الحاكمة للمعنى والقيمة عبر أُطُر اجتماعية وفنيّة وثقافية مختلفة.

إنّ الصدام بين هذه التأكيدات المتعارضة المتعلقة بالطابع الشخصي أو الموضوعي للعالم يدفعُ المرء إلى السعي وراء فهمٍ أعمق لتقييمٍ أكثر وضوحاً للواقع. في هذا المجال، تطرحُ مجموعة من الاحتمالات نفسها. على سبيل المثال، قد يحتج الفرد بأنّ العالم هو موضوعيٌ بالأساس وأنّ محاولة الإنسان لإنكار هذا الأمر على صعيد التطبيق تُشكِّل السخافة النهائية للوجود. أو قد يحتجّ بأنّ الإلتزام الوجودي للإنسان بالذروة الحقيقية للقيم الأخلاقية والشخصية هو بذاته، وعلى نحوٍ من الأنحاء،

(200)

ضمانة وإثبات مناسب للطابع الشخصي الحقيقي والموثوق للعالم. وأخيراً، قد يحتج بأنّ الادّعاء الوجودي بأنّ العالم شخصيٌ من حيث المبدأ لا يُمكن تعليله ببساطة على ضوء المصادر الذاتية لعالم التجربة بل على ضوء الإثبات الإضافي لوجود الله كمبدأٍ شخصيٍ يتعالى فوق العالم المحدود.

يُمكن قطعاً الدفاع عن المنظور الذي يُفيد أنّه بالرغم من الاعتراض الوجودي للإنسان، فإنّ العالم موضوعيٌ ومنافٍ للمنطق بالأساس وسوف يبقى كذلك. السبب هو أنّ الحرية التي يقوم الإنسان بمقتضاها بإثبات وترويج الواقع النهائي لما هو شخصي هي متجذرةٌ في الإطار المحيط للواقعية والإمكان. وعليه، يُمكن الاحتجاج بأنّه باعتبار تابعيتها، تحقِّق الحرية فقط إثباتاً رمزياً للقيم الشخصية التي تؤكِّد عليها وليس إثباتاً حاسماً وحقيقياً لها. وعليه، فإنّ عدم منطقية الواقع وتصادفه ـ بما فيه الواقع البشري ـ يبقى افتراضاً غير قابلٍ للهزيمة.

ولكنّ هذا الأسلوب الاستدلالي ليس عصيّاً على المقاومة بشكلٍ مُطلق. إنّه بالكاد يُقنع الإنسان الذي يقومُ كردٍّ على تحفيزات التجارب العميقة المختلفة ذات المعنى بتكريس نفسه وجودياً للطبيعة الشخصية النهائية للواقع واستشعار أنّ هذا التكريس يقوم حقاً بتوسعة احتمالات وجوده الشخصي. سوف يرى أنّ الإصرار على ضرورة اعتبار أنّ الواقع غير شخصيٍ هو تآكل مُقيِّد لمقتضيات ذاتيته الحرة ومواردها. سوف يُجيب الإنسان على الاعتراض الذي يُفيدُ بأنّه يقومُ عبر إلتزامه الوجودي بتطبيق إثباتٍ رمزيٍ فحسب للقيم الشخصية بالتالي: أنّه لا ينبغي للمرء الاستخفاف بأهمية هذا الإنجاز الرمزي. سوف يحتجّ الإنسان بأنّه من الأكثر منطقياً تفسير الإثبات الرمزي لما هو شخصيٌ كشيفرةٍ لحقيقة في المبدأ بدلاً من الإهمال التام لأهمية الإنجاز الرمزي عبر التأكيد الجامد على المنافاة المنطقية النهائية. كما يُلاحظ أحد المؤلفّين: «من الجدير بالملاحظة مثلاً أنّ البشر يتواصلون مع بعضهم، ويُشكّلون

(201)

صداقاتٍ دائمة وعميقة، ويُضحّون أحياناً بأنفسهم من أجل بعضهم، ويحترمون الأشخاص الآخرين بطريقةٍ تختلف عن احترامهم للأشياء، ويُقدّرون الإبداع، ويَبنون الجامعات، وينجذبون دائماً إلى الإخلاص لـ (عملية) الفهم. إنّ هذه الحقائق تكون غريبة إذا كان العالم الذي تُؤلِّف هذه الذوات الذكية جزءاً منه منافياً للمنطق بشكلٍ راديكالي. إذا كان بإمكان الإنسان جعْل النُبل والصدق صائبَين، فإنّ الواقع ليس منافياً للمنطق إلى الدرجة التي يبدو عليها»[1].

بالرغم من ذلك، لدى محاولة الفهم التام والتبرير المناسب للإثبات الحيّ للطابع الشخصي النهائي للواقع، سيُواجه الفرد صعوباتٍ عسيرة إذا اعتبر أنّ نطاق الواقع هو العالم المحدود للتجربة. السبب هو أنّ الأدلة المتوفّرة في هذا الإطار ـ سواءً تلك العائدة إلى المنطق السليم أو العلم الطبيعي أو الفلسفة- تُشير إلى الطابع العرضي والاشتقاقي والضعيف والممكن فعلاً لنظام القيم الشخصية والأخلاقية. إنّ هذه هي النقطة التي لاحظنا حثَّ الفلسفة الوجودية الإلحادية عليها في مقابل الأشكال المختلفة من النزعة الإنسانية المتفائلة. إنّ أيَّ نظريةٍ تاريخية أو علمية أو اجتماعية تُعلن إمكانيةَ تطوير الإطار الواقعي والأوليّ والمتزعزع لحياة الإنسان فقط عبر الفعل الإنساني ليتحوّل إلى نظامٍ مضمون وجودياً للمعنى والقيمة هي مرفوضة هنا باعتبارها غير قابلة للتبرير.

يُقدّم فيتغنشتاين(Wittgenstein) في إحدى أوائل مؤلفاته «رسالة منطقية فلسفية» نقطةً مماثلة. إنّه يشيرُ إلى عدم إمكانية تأسيس إثباتٍ للحقيقة الجوهرية للمعنى والقيمة بشكلٍ مناسب في الإطار الدنيوي للإمكان المحض وللمعلومات غير القابلة للتفسير. وعليه، يكتب التالي: «إنّ معنى العالم ينبغي أن يقع خارجه. في العالم، كلُّ شيءٍ هو كما هو ويحصل كما يحصل. في داخله لا تُوجد أي قيمة، وإن

(202)

وُجدت ستكون غير قيِّمة. إذا وُجدت قيمة قيِّمة، ينبغي أن تقع خارج كل ما يحصل ويُوجد لأنّ كل ما يحصل ويوجد هو عرضيّ. ما يجعله غير عرضي لا يمكن أن يقع في العالم لأنّ هذا سيكون عرضياً أيضاً. ينبغي أن يقع خارج العالم»[1].

إنّ الإشارة إلى ضرورة وقوع المبدأ الأساسي للمعنى والقيمة خارج العالم تقودنا في النهاية إلى التفكير في كيفية إمكان إثبات وجود الله كمبدأٍ شخصيٍ يتعالى فوق العالم المحدود للتجربة الإنسانية أن يُقدّم تقييماً واضحاً لهذا العالم الذي ـ حين يتم التفكير به بحد ذاته فحسب ـ يُثيرُ تقييماتٍ متعارضة حول معناه وقيمته. قد يبدو أنّ هذا الإثبات يُلقي الضوءَ فعلاً على النشاط المتناقض الذي نقوم بواسطته، عبر الإلتزام الوجودي، بمناقشة أدلة الاعتبارات التخمينية المحضة ونعترفُ بشكلٍ حرٍّ عبر أفعالنا بالحقيقة الحاكمة للقيم الشخصية كالصدق والحرية والعدالة والحب. السبب هو أنّ ذلك يستوفي شرطاً ضرورياً للإطلاق الحقيقي أو الوجودي لهذه القيم التي يُمكننا مشاهدتها بشكلٍ حر في نشاطنا ولكن لا يُمكننا تأسيسها بشكلٍ ملائم في أنفسنا أو في عالم تجربتنا. إنّ هذا الشرط هو التحقُّق الفعلي لهذه القيم في مبدأٍ شخصي مستقل فعلاً وتماماً عن كل وقوع وإمكانٍ ومحدودية. بما أنّ هذه القيم الشخصية في الجوهر هي فاعلةٌ فقط باعتبار انبثاقها من مبدأٍ شخصيٍ في الجوهر، فإنّ إثبات كونها مُطلقة بالفعل يستتبع إطلاق هذا المبدأ أيضاً. ولكن إذا كان هذا المبدأ عرضياً ومحدوداً ومُمكناً في الواقع، لا يُمكنه أن يكون مُطلقاً فعلاً أو وجودياً. في هذه الحالة، من غير المقبول الإعلان عن الإطلاق الفعلي أو الوجودي للقيم الشخصية نفسها لأنّ الطابع المتزعزع وغير القابل للاعتماد وجودياً لقاعدتها الشخصية سوف يجعل منزلتها الوجودية عرضية، وغيرَ واضحة، وغيرَ مُثبَتة في الأساس. فقط حين نفترض بأنّ المبدأ الشخصي الذي يُشكِّل أساس هذه القيم هو ليس عرضياً أو ممكناً، يُمكننا تفادي

(203)

هذا الاستنتاج. يتمُّ تصوُّر حقيقة هذا المبدأ الموثوق في إثبات الواقع المتعالي الشخصي لله باعتبار أنّه الصدق والحرية والعدالة والحبّ غير المحدود.

حين يُفهم هذا الإثبات لله في سياق طرح الحلول للمعضلات الفلسفية التي يُثيرها الإلتزام الوجودي للفرد، لا ينبغي تحليله كمصدرٍ للوهم والغربة بل كتعبيرٍ عن لُغز الحرية والحب الذي يُشكِّل إثباتاً مُلائماً لالتزام الإنسان بالحقيقة الحاكمة والموثوقة للبعد الشخصي بالرغم من نمط وجوده الممكن والمتزعزع. إنّه يشير إلى أن تطبيق الإنسان الرمزي والمكلِف غالباً للسيادة الحقيقية للبعد الشخصي هو موثوقٌ ومفيدٌ للمعنى لأنّه يتناغمُ مع أعمق قاعدةٍ للوجود.

على ضوء إثبات كون الله هو المبدأ الشخصي الأول للوجود، يُمكن النظر إلى العالم المحدود للتجربة الإنسانية بطريقةٍ مختلفة تتمثّل في اعتباره مُتصوَّراً بذكاء ومقصوداً بشكلٍ حُر. وعليه، إنّ ظاهرة الإنسان كتعبيرٍ محدود ومصدرٍ للقيم الشخصية تتجلى الآن ليس فقط كوظيفة في عمليةٍ عالميةٍ محيطةٍ تسبق البعد الشخصي، بل أيضاً كموضوعٍ خاضع للإرادة الإلهية الكريمة. بالاضافة إلى ذلك، يمكن بنحوٍ مُفيدٍ للمعنى تحليل التجارب العميقة الشخصية والأخلاقية المتعددة للإنسان ليس فقط كعمليات كشفٍ عن المصادر البشرية بل أيضاً كرموزٍ متميِّزة لحقيقة الله الشخصية بشكلٍ لا نهائي. يُمكن أن نعتبر أنّ هذه التجارب ووفائنا المبدِع لمطالبها تمتلكُ أهميةً وقيمةً جديدة باعتبار حثّها على الإقرار والإدراك الحر بمصيرٍ شخصيٍ للإنسان خاضعٍ للإرادة الإلهية.

لا ينبغي فهم هذا التأكيد على المصير الإنساني الخاضع للإرادة الإلهية كتفريطٍ بالحرية والإبداع الإنساني، وهذا يحصلُ كثيراً. بالقدر الذي يتم التأكيد عليه بشكلٍ خاص كإثباتٍ لترويج الإنسان الحر والمبدِع للقيم الشخصية، ينبغي تحليله كمحافظٍ على جدية هذا المشروع الإنساني ونزاهته. بالرغم من أنّه يقتضي الاعتراف بالاعتماد

(204)

الجذري لكيان الإنسان على حقيقةٍ شخصية أعلى، إلا أنّه لا يقمع قيمة الإنسان المطلقة كغايةٍ جديرة، أو حقيقته غير القابلة للاستبدال كمصدرٍ أصيل للمعنى والقيمة الحقيقيَّين. إنّ إحراز الإنسان للمعنى والقيمة لا يعتمدُ على الكمال الإلهي بمعنى أنّ الله يُؤمّن له بشكلٍ طبيعي معلوماتٍ محدّدة وبصائر أخلاقية يمتلكها الله بالأصل. إن الكمال الإلهي ليس مماثلاً لنظام الكمال البشري ولا يتمّ تحقيقه بنفس الطريقة، بل هو متعالٍ فعلاً بالنسبة إلينا[1]. لا ينبغي فوراً استشعار تأثيره على تحقق الكمال البشري، بل ينبغي فهمه بشكلٍ ميتافيزيقيٍ كمساعدٍ للذاتية الإنسانية لكي تصبح مصدراً حرّاً للنظام الإنساني للمعنى والقيمة. إنّ نطاق ونوعية هذا النظام الإنساني للمعنى والقيمة هو –على نحو غير قابل للاستبدال- أمرٌ متعلقٌ بالعبقرية المبدعة للذاتية الإنسانية وهدفها الأخلاقي. بالاضافة إلى ذلك، بالرغم من استطاعة الفرد الوصول عبر هذه التوسعة للذاتية الإنسانية إلى الاعتراف بوجود الكمال الإلهي كالمصدر المطلق للفرد، إلا أنّه لا يتمّ بذلك حرمان الإنسان أو استبعاده من التطبيق الإضافي للإبداع البشري. بينما يُمكن أن نفهم أنّ هذا الإثبات لله يُشير إلى أنّ الواقع هو بشكلٍ أساسيٍ على نحوٍ يستطيع فيه كلُّ شخص تحقيق نفسه بشكلٍ تام ومؤكَّد كفرد، إلا أنّ الإنجاز الفعلي لهذا المشروع المتمثل بالتحقيق الذاتي يُشغل جميع موارد حريتنا المبدعة. إنّه يتحدّانا للتفكير بشكلٍ حُر بتصوّرٍ مثاليٍ للوجود الشخصي الذي يتضمّن شبكةً معقّدة من العلاقات مع الطبيعة والأشخاص الآخرين والحقيقة الشخصية العُليا المتمثلة بالله، وتطبيق هذا التصوّر.

تهدفُ الاقتراحات الوجيزة التي تمّ تلخيصها آنفاً للإشارة إلى كيفية تصوّر إثبات الإله الشخصي كتعبيرٍ عن حريتنا الذاتية ونداءٍ لتحقُّقها الذاتي الأعظم. نتبنّى هذا الإثبات بشكلٍ حرٍّ وغير خالٍ من المنطق كأكثر تقييمٍ مشخِّص لالتزامنا المتناقض

(205)

بالحقيقة السائدة للقيم الشخصية وجدارتها بالثقة. إنّ هذا التبنّي يتضمن نتائج شاملة للذات من أجل الفكر والعمل. من خلال تفصيل الدلالة النهائية للالتزام بالبعد الشخصي، إنّه يمنحنا عُمقاً جديداً وتوجُّهاً أكثر وضوحاً إلى ترويجنا للقيم الشخصية، ويُوسِّع ويصقل نظرتنا تجاه ما تنطوي عليه تنمية السلطة الشخصة في حياتنا، وعلاقاتنا مع الآخرين، وموقفنا تجاه القاعدة النهائية لوجودنا.

قد يُعترض بأنّ المقاربة المشار إليها هنا التي تروم إثبات وجود الله تعتمدُ كثيراً على عامل المشاركة الحرّة الوجودية للإنسان، وبالتالي هي ليست مُقنعة في الحقيقة. يتم إثبات وجود الله بشكلٍ حرٍ على أنه يُضفي المعنى على الالتزام الوجودي بالطابع الشخصي الأساسي للواقع، ولكن بالرغم من التحفيز المنطقي على هذا الالتزام إلا أنه ليس واجباً بنحوٍ صارم. وعليه، قد يبدو أنه بالإمكان تحقيق علاقة إثبات وجود الله بالتجربة الإنسانية بمقتضى إلتزامٍ مُسبقٍ باعتبار هذه التجربة على نحوٍ يُمكن أن يكون هذا الإثبات ذا صلة. إنّ أحد الردود الوجودية المختلفة على التجربة ـ على سبيل المثال: اعتبارها خالية من المنطق وعرضية وشريرة ـ لن يُحقِّق هذا الإثبات.

   قد يتمّ الاعتراف بصدق هذا المدّعى من دون الإقرار بعبثية المقاربة المقترحة حول الله. من المؤكَّد أنّ الفكرة المهمة لا تكمنُ في قيام أحد التطبيقات الوجودية للتجربة بتفضيل إثبات وجود الله، بل الادعاء بأنّ هذا التطبيق يُحقِّق تحرراً أوسع لاحتمالات الوجود الشخصي يفوق التطبيق البديل للتجربة. ينبغي أن يقوم كلُّ فردٍ في النهاية باختبار صدق هذا الادّعاء عبر التفكّر بوجوده المطبَّق فعلياً.

إنّ هذا التأكيد على عامل الإلتزام الوجودي هو نتيجة للأهمية المنسوبة في الفكر المعاصر إلى مقتضيات الحرية والاستقلالية الإنسانية، ولكنّه قد يُبرز بُعداً مهماً للإثبات الأصيل لله. السبب هو أنّه لا يُشير فقط إلى التوجّه نحو الله باعتباره الحرية المتعالية الشخصية الذي يجعل الحرية المحدودة ممكنة، ولكن أيضاً إمكانية الوصول

(206)

إليه بشكلٍ أصيل عبر الوفاء لمقتضيات حريتنا الشخصية. بتعبيرٍ آخر، إنّه يُشير إلى أنّ الله يحترمُ حريتنا كما نفعل وأنه يريد منَّا إثبات وجوده ليس بطريقة خالية من الحياة كواجب الوجود الحتمي، بل بطريقةٍ حرةٍ كالقيمة الشخصية المطلقة المرغوبة باطنياً في التزامنا الحر في حياتنا بالحقيقة السائدة للبعد الشخصي.

لا داعي للقول بأنّنا لم نتطرّق للعديد من المعضلات الحقيقية في هذا التلخيص للمقاربة المحتملة لمسألة الله في يومنا الحالي. على سبيل المثال، لم ندخل فعلياً إلى المعضلات العديدة المتعلقة بمعنى لغتنا المتحدثة عن الله، ولم نتناول الإشكاليات المشهورة التي يمكن طرحها تحت عنوان لله ومسألة الشر. بالرغم من ذلك، لقد حاولنا الإشارة إلى خطٍ تأملي يستشكلُ على إعلان الإلحاد المعاصر بأنّ إثبات وجود الله يؤدّي إلى الغربة بحد ذاته ويتعارض مع مقتضيات الذاتية الإنسانية. على العكس من ذلك الإعلان، إنّ هذا الخط التأملي يشيرُ إلى أنّ إثبات الله قد يُعزّز تحقيق تحرُّرٍ أشمل للإمكانيات المبدِعة للذاتية الإنسانية مما هو متوفرٌ في إطار إنكار أي كمالٍ متعالٍ شخصي. بهذه الطريقة، يُظهِرُ أنّ إثبات الله هو مشروعٌ مفعم بالأمل، وهدفٌ مُترقَّب بسرور، وليس تهديداً مُستهجناً للذاتية الإنسانية كما يكرِّر الإلحاد المعاصر.

بنغمة الأمل هذه نُنهي هذا الملخص الأولي للمقاربة الوضعية لمسألة الله التي قام تطوّر الإلحاد المعاصر نفسه بطرحها. كما ذكرنا، إنّ إعادة ظهور هذا الأمل هو مقدّمة ضرورية للمشروع الفلسفي الكبير المتمثل بالتعليل الحاسم لإثبات وجود الله في يومنا الحالي.

(207)
هذا الكتاب في هذا الكتاب يبحث المؤلف في فصول سبعة العزلة والأصالة لدى الإنسان من خلال سبر أغوار دراسات وأفكار الفلاسفة بنظرة تحليلة نقدية، لينتهي في الفصل الثامن إلى تقديم وجهة نظره حول مسألة الألوهية في عالمنا المعاصر ونقد الالحاد لكن لا من خلال اقامة أدلة وبراهين فلسفيته كلامية على ذلك،بل من خلال اقامة أدلة وبراهين فلسفيته كلامية على ذلك،بل من خلال معالجة سيكولوجية نفسية تكون مقدمة لتلك البراهين،ذلك من خلال ربط مسألة الله تعالى بإطار الأمل البشري،وهذا الأمل يتعلق بمصير الإنسان وإسعاده في هذه الدنيا دون التطرق بشكل مباشر للعلة الأعلى الخالقة للإنسان،ولكن في النهاية يمكن إظهار أن الأمل بالله يشتمل على إثبات الله الخالق الحكيم الذي هو خير للإنسان. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف