البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مخاطـر الهيمنة العولمية الأمريكية على مقومات الهوية الحضارية

الباحث :  د احمد عيساوي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  44
السنة :  السنة الحادية عشر شتاء 1427هجـ 2007 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  1776

مخاطـر الهيمنة العولمية الأمريكية على مقومات الهوية الحضارية

د. أحمد عيساوي (*)

مدخل
بعد وضوح وانكشاف مصطلح (العولمة) من الناحية المعرفية والفلسـفية والسياسية والاقتصادية والثقافية، واستقراره النهائي في تجليات النموذج الأمريكي (الرمبوي)، ووضوح أهدافها وغاياتها على الساحة الدولية، تبين للمستنيرين من القوى الكبرى المتزنة، وللنخب الثقافية والفكرية الفاعلة في العالم حقيقتها ومواقفها المعلنة والخفية على سكان المعمورة، الأمر الذي دفعهم إلى ضرورة التنبيه لأخطارها وتداعياتها القريبة والبعيدة على مسـتقبل البشـرية. ففرنسـا وألمانيـا وروسـيا والصين والعالمين العربـي والإسـلامي واليابان بـاتوا ينبهون إلى مخاطرها التدميرية على قيمهم وتراثهم وخصوصياتهم ومقوماتهم واسـتقلالهم ومستقبل أبنائهم.
كما تبين للمستنيرين من هذه الدول وغيرها أن أهدافها الأمريكية البحتة باتت واضحـة، بالرغم من محاولات الولايات المتحدة الأمريكية إخفاءها وتوريتها عن أعين العالم بما تملكه من وسائل التمويه والتعمية وتقنيات الدعاية (1).
ولعل إلقاءنا نظرة سريعة على بعض التعريفات المختلفة (العولمة، الهوية، الحضارة) وعلى بعض أبعاد وأهداف وصور ومراحل العولمة، ما يكشف لنا ـ بوضوح ـ نوايا وأهداف واضعي النظام العولمي، وتصوراتهم للخارطة العالمية المستقبلية: الجغرافية والديمغرافية والجيوسياسية والاقتصادية، وتأثيراتها المدمرة على مستقبل البشرية، التي سـنعالجها فيما يلي.
________________________________________
(*)أُستاذ الدعوة والإعلام والفكر الإسلامي المعاصر، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية ـ جامعة باتنة / الجزائر.
(1) تكاثرت الدراسـات والأبحـاث والمؤتمرات عن العولمة بشـكل مذهل وملفت للانتباه خلال السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً بعد انتهاء جولة أورجواي وسياتل والدوحة وجنوة لتحرير التجارة العالمية. اُنظر على سبيل المثال: مجموعة المقالات في دورية عالـــم الفكر اكتوبر / ديسمبر 1999م؛ ودورية الكلمة عدد 22 عام 1999م؛ ثم كتاب اُسـامة الخولي؛ وكتاب جـلال أمين سنة 1999م، الصادران عن مركز دراسـات الوحدة العربية؛ وعدد رقم 142 من مجلة السياسة الدولية اكتوبر 2000م؛ وكتاب فــــخ العولمة للألمانيين؛ وكتاب روجيه غارودي حفّارو القبور، وغيرها من الكتب والمقالات والأبحاث التي حوتها هوامش هذه الدراسة، وغيرها الكثير.

[الصفحة - 49]


العولمة لغة
تفيد المادة اللغوية للفظ (العالم) ـ بفتح اللام أو كسرها ـ أنه اسـم بني على مثال فاعل كخاتم وطابق ودانق ـ بالكسر ـ كما قال بعض اللغويين، وهو ما دل على المعاني التالية (2):
1 ـ الخلق كله.
2 ـ ما حواه بطن الفلك من الجواهر والأعراض.
3 ـ آلـة في الدلالـة على موجده، لذلك دلنـا الله لمعرفة وحدانيته أن ننظر في العالم الذي هـو صانعه الحقيقي فقال: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} .
4 ـ العالـم عالمان كبير وصغير، فالكبير هو الفلك بما فيه، وصغير وهو الإنسان؛ لأنه على هيئة العالم الكبير وفيه كل ما فيه لقولهم:
وتـزعم أنك جــرم صــغير وفيك انطـوى العـالـم الأكبر
ويجمع عالم على عوالـم، وهو من العلم بالشـيء والإحـاطـة به، ومنها: (رب العالمين)، أي المحيط بعالم الإنـس والجن، ويقال: عالم الإنـس، وعالم الجـن، وعالم النار، وعالم الملائكة.. وهو ليـس من العلم ـ بفتح العين واللام ـ والعلامة الإشارة كما حكى بعض اللغويين (3).
ومن خلال هذه المقاربة اللغوية نتبين أن لفظ (العالم) هـو ما دل على َمن في الكون الأرضي من سائر البشر، وهو من الناحية اللغوية لا يعني إلاّ ذلك في العربية، وبحكم كون المصطلح مستورداً من اللغة الإنجليزية ومترجماً إلى العربية فقد أثـار إشـكالاً كبيراً بين الدارسـين، ولـذا لا بدّ من تحقيق دلالته، وفهم المراد منه.
الإشكال اللغوي لدلالة المصطلح (العولمة)
يتناول الأُسـتاذ الدكتور عـز الدين إسماعيل هذه الإشـكالية الدلالية المطروحة على العقل العربي من خلال لغته العربية فيقول: «... فالعولمة ليسـت مجرد نظـام عالمي جديـد، ولكنها تنطـوي على منظومة واسـعة النطاق من المفاهيم التي يراد من اللغة العربية أن تستوعبها في لغة اصطلاحية دقيقة.
________________________________________
(2)محمد مرتضى الزبيدي، تـاج العروس من جواهــر القاموس، دار مكتبة الحياة ـ بيروت، بدون طبعة وتاريخ، ج 8، ص 406 ـ 407، بتصرف.
(3)المصدر السابق نفسه.

[الصفحة - 50]


العـولمة نفسـها يمكن أن تسـتخدم بوصفها صيغة مصدريـة، أي دالة على الممارسـة والفعل، فتقابل عندئذ في الإنجليزية (GLOBALIZATION)، وهي تسـتخدم كذلك بوصفها صيغـة إسـمية، فتدل عندئذ على الظاهرة (GLOBALISM).
ناهيك عن المفردات الأُخـرى التي اسـتخدمت بديـلاً عن ظاهـرة العولمة (GLOBALISM) مثل: (الكوكبة)، (الكوكبيـة)، (الكوننـة)، (التكوكبية)، (الشـوملة)، (السـلعنة)، (الكونائية) على مستوى ترجمة الكلمة بالكلمة (الجولوباليه) على مستوى تعريب الكلمة» (4).
بالإضافة إلى صيغة (الليبيرالية الجديدة) المركبة على غير المعهود في المصطلح إلاّ نادراً.
وما يمكن أن نخلص إليه من الناحية اللغوية أن مادة (ع، ل، م) موجودة في المعجـم اللغوي العربي، وتعني الشمولية المتجانسة لعوالم مشتركة، كعالم الجن والإنس والملائكة والكون، ما يجعلها تشترك مع المدلول اللغوي للفظة في اللغة الإنجليزية من حيث الشمولية الكلية.
العولمة اصطلاحاً
ونتسـاءل بعد هذه المقاربة اللغوية لمفهوم العولمة عـن مدلولها الاصطلاحي، فما هي العولمة من الناحية الاصطلاحية إذن؟
إن المتتبع لما أنتجه الفكر العربي والإسـلامي في العقد الأخير من القرن الماضي، يتبين وجود تعاريف عديدة ومتنوعة لمصطلح العولمة، ظهرت في كتابـات وأبحـاث الكثير من الباحثين والدارسـين العرب والمسلمين، نعرضها كالتالي:
1 ـ التعريف الأول: العولمة نظام عالمي جديد، يقوم على العقل الإلكتروني والثورة المعلوماتية، القائمة على المعلومات والإبداع التقني غير المحدود دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم، ودون اعتبار للحدود الجغرافية والسـياسـية القائمة في العالم (5).
2 ـ التعريف الثاني: القوى المهيمنة على الأسـواق الدولية والشـركات المتعددة
________________________________________
(4)الدكتور عز الدين إسماعيل، العولمة وأزمة المصطلح، مجلة العربي، عدد 498، شهر مايو / أيار 2000م، ص 167، بتصرف.
(5)محمد سعيد بن سهو أبو زعرور، العـولـمـة، ماهيتها نشـأتها أهـدافها الخيــار البـديـل، دار البيارق، عمان، الطبعة الأُولى 1418هـ / 1998م، ص 14.

[الصفحة - 51]


الجنسـيات، والتي لا يمكن السيطرة عليها، وهي التي ليس لها ولاء لأيـة دولة قومية (6).
3 ـ التعريف الثالث: إنها حرية حركة السلع والخدمات والأيـدي العاملة ورأس المال والمعلومات، عبر الحدود الوطنية والإقليمية (7).
4 ـ التعريف الرابع: يعرف البروفيسور برهان غليون العولمة بأنها: «.. ديناميكية جديدة تبـرز داخل العلاقات الدولية من خلال تحقيق درجة عاليـة من الكثافـة والسـرعة في عملية انتشـار المعلومات والمكتسـبات التقنيـة والعمليـة للحضارة، يتزايد فيها دور العـامل االخارجي في تحديـد مصير الأطراف الوطنية المكونة لهذه الدائرة المندمجة وبالتالي لهوامشها» (8).
5 ـ التعريف الخامس: هي المفهوم الدال على نظام جديد للعالم هو الآن في طور الإنجاز، ينظر إليه من الزاوية الاقتصادية على أنه قمة التطور التي وصلت إليها الرأسـمالية حيث تسعى العولمة أساساً إلى اسـتبدال الرأسمال الوطني بالرأسـمال العالمي، وما يترتب على ذلك من انقلاب جوهري في شـبكة العلاقات التي تربط الإنسان بواقعه وبالآخرين من جهة، وبتاريخه وميراثه الثقافي أو الحضاري بصفة عامة من جهة اُخرى (9).
6 ـ التعريف السادس: وفي سـياق تعريف العولمة يقول المفكـر الإسـلامي الدكتور (محمد سـليم العوا): «... إن العولمة عبارة عن هيمنة طرف واحد على العالم كله، وهـذا الطرف هو الولايات المتحدة الأمريكية فقط، ولذا فـإن الإسلام والعولمة نظامان متضادان؛ لأن الإسـلام هو نفسـه منهـج عالمي» (10).
7 ـ التعريف السابع: وفي سـياق تعريف العولمة يقول الأُسـتاذ هاني الربيعان ـ رئيـس الجمعيات التعاونيـة في دول مجلـس التعاون الخليجي ـ : «.. إن العولمة عبارة عن نظام عالمي جديـد في عالـم التجارة والاقتصاد، يقصد به تنشيط تجارة الدول المتقدمة، وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها في دول العالم ولا سـيما في دول العالم الثالث، ليزداد الغني غنـى والفقير فقـراً؛ لأن عالم اليوم والغـد ليـس فيه مكان صغير للفقراء وللضعفاء» (11).
________________________________________
(6)المصدر السابق نفسه.
(7)المصدر السابق، ص 14 و 15.
(8) برهان غليون، العرب وتحديات العولمة الثقافية ـ مقدمات في عصر التشريد الروحي ـ محاضرة اُلقيت في المجمع الثقافي ـ أبو ظبي 10 / أبريل/1997م. نقلا عن: محمد سعيد بن سهو، العولمة، ص 15.
(9)العولمة وأزمة المصطلح، مصدر سابق، ص 163، بتصرف.
(10)الدكتور محمد سليم العوا، مجلة العربي، الكويت، عدد 498، شهر مايو / أيار 2000م، ص 7، بتصرف.
(11)هاني الربيعان، نائب رئيس الجمعيات التعاونية، مجلة العالمية، ربيع أول 1421هـ / يونيو 2000م، عدد 120، ص 37.

[الصفحة - 52]


ومن أجل هذا زادت التكتلات الاقتصاديـة بين الدول المتقدمة اقتصاديـاً، وبـدأت هـذه التكتـلات تضع لنفسها من السياسة والخطط ما يضمن لها التفوق الاقتصادي ويرفع المستوى الاجتماعي لشعوبها، ولم تضع في حساباتها الدول الفقيرة أو المتخلفة (12).
8 ـ التعريف الثامن: يعـرّف صندوق النقـد الدولـي العولمة بأنها: «التعـاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم الذي يحتمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبرالحدود إضافة لتدفق رؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتكنولوجيا في أرجاء العالم كله» (13).
وبناء على ما سـبق، فالعولمة نظام جديد من اختراع وابتكار المدنية الغربية، تهدف من ورائه السـيطرة على العالم في القرن القادم، بعدما فشل اُنموذجها في احتوائه في القرن الماضي.
وهي محاولة الغرب اكسـاب مدنيته وثقافته وحضارته طابـع العالمية، وتقديمها كبديل مرجعي وواقعي لتنظيم سـائر شـؤون الإنسـان والإنسانية، تصوراً نظرياً وممارسة عملية في القرن القادم، ضمن المجالات الحيوية الاقتصادية والسـياسـية والأمنية والثقافيـة واللغويـة والاجتماعية والإعلامية... مسـتخدماً الوسـائل التكنولوجية والحداثية المختلفة.
وسائل الهيمنة العولمية الأمريكية
وأهم وسـائل ومجالات تعميمها وفرضها عالمياً ما يلي:
1 ـ وسـائل الإعلام والاتصال الحديثة (المكتوبة، المسموعة، المرئية، الإلكترونية).
2 ـ الهيئات والمنظمات العالمية الاقتصادية والمالية الكبرى (صندوق النقـد الدولـي، البنك العالمي، منظمة التجارة العالمية، منظمة الزراعة العالمية..).
3 ـ الهيئات والمنظمات والمحافل الدولية والإقليمية السـياسـية.
4 ـ الهيئـات والمنظمات الدوليـة والإقليميـة الاجتماعية والبيئيـة والصحية والإنسانية (منظمة الصحة العالمية، منظمة البيئة والسكان..).
________________________________________
(12)المصدر السابق نفسه.
(13) عبد الكريم حمودي، العـولـمـة تعـزيــز أم تحجيم لـــدور المصارف الإســلامية، مجلة المجتمع الكويتية، عدد 1460، 1/جمادى الأُولى/ 1422هـ الموافق 21/يوليو/2001م، ص 33.

[الصفحة - 53]


5 ـ الهيئات والمنظمات والتجمعات العالمية والإقليمية (منظمة الثقافة والعلوم..).
6 ـ الرسائل الثقافية والفنية والأدبية واللغوية والدينية والتربوية (موسيقى. فن. سينما. مسرح..)، التي تتكفل مناسـباته ومهرجاناته ومحافله وقنواته ووسائله الإعلامية والاتصالية بإيصالها وتعميمها وفرضها عالمياً (14).
وعليه، فالعولمة نظام شمولي هيمني يهدف إلى السيطرة على العالم، وإلى توحيد أنماط عيشه وتعاملاته وعلاقاته وحضارته، وضع اُسـسـه ومبادئه وأهدافه الكبـار الأقويـاء؛ لكي يسـير عليه الصغار الضعفاء ولا يحيدون عنه، ومن حاول الحياد عنه أو معارضته أو تجاهله فإن مصيره وعاقبته واضحة الملامح، وتتمثل في تأديبه والانصياع إليه، أو إلغـاء وجـوده من الـخارطة العالمية المسـتقبلية، وذلك تحت غطاءات الشـرعية الدولية الأُحادية الغربية، وتحت سـلطة قرارات هيئة الأُمـم المتحدة ومنظماتها الرسـمية، وتحت غطاءات العصرنة والتقدم والحداثة ونبـذ التخلف، وتحت غطاءات اللائحة العالمية لحقوق الإنسان، والتي يمكن للقوى الكبرى من خلالها ـ وبكل سهولة ـ استصدار أقسى وأشد القوانين الإلزامية وتطبيقها على المعارضين للعولمة (15).
ممهدات السيطرة العولمية
يمكن تحديـد صورة ونمـط سـيطرة النظـام العولمي الأمريكـي الجديـد على العالـم في الخطوات والممهدات التاريخية التالية:
1 ـ لقد انتهـى الصراع الدولي بين الغرب بزعامة الولايـات المتحدة الأمريكية ودول الشـرق بزعامة الاتحاد السوفياتي، بانهيار هذا الأخير نهائياً سنة 1991م، ومن ثمة تحوله إلى دولة روسيا الاتحـادية، وبذلك انتهى زمن الصراع والحرب الباردة بين الكتلة الاشـتراكية والكتلة الرأسـمالية، وقد اعتبـر الغـرب ذلك كله انتصاراً للرأسـمالية كإيديولوجيا فلسـفية، وكنظام للحيـاة، وكطريقة للتصور، وكسـلوك للعيش، وكمنهج للتعامل (16).
________________________________________
(14)المصدر السابق، ص 21.
(15)يبدو ذلك واضحاً من خلال تتبع سيرورة الأحداث السياسية العالمية.
(16)الدكتور سعيد اللاوندي، أمريكا ـ اُوربا العولمة والعولمة المضادة، مجلة السياسة الدولية، اكتوبر 2000، عدد 142، ص 128.

[الصفحة - 54]


2 ـ وكنتيجة حتمية وطبيعية لسقوط النظام الاشـتراكي فلسـفياً وواقعياً، ومعه سـقوط وانهيار كتلة دول المعسـكر الاشـتراكي فقد انفردت الكتلة الرأسـمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بالتصرف المطلق في سائر شؤون المجال الدولي؛ لعدم وجود قـوى اُخرى تناوئها العداء، وتتبنى إيديولوجية مغايرة.
3 ـ ولكن من الناحية الواقعية فقد بقي يسود العالم اليوم مبدآن ونظامـان متباينان، النظام الرأسمالي العالمي الحـر، ومعه سـائر الأديـان اليهودية والمسـيحية والبراهمية والبوذيـة والشـنتوية..، وقـد تفرد بالساحة الدولية بعد انهيار الاشتراكية النظرية والواقعية، ودعا إلى ميلاد النظام الدولي الجديد القائم على الفلسفة الرأسـمالية لوحدها. أما النظام الثاني وهو الإسلام، ومعه سائر الشعوب العربية والإسلامية على ما بينها وبين كياناتها الحاكمة والقائمة من تباين في وجهات النظر.
ومن هنا فقد وجدت الرأسـمالية الغربية والأمريكية نفسـها في مواجهة مباشـرة مع الإسلام كدين وكتصور شمولي لسائر شؤون الفرد والمجتمع والبشرية وكنظام حياة متكامل، وهو الذي يعارضها بقوة على المديين القريب والبعيد، ويحد من محاولاتها للتوسع والانفراد بفرض اُنموذجها العالمي.
4 ـ ونظراً لعدم وجود كيانات إسلامية قوية واقعياً، ونظراً لتطلع الشعوب الإسلامية إلى محاولة إقامة كيانات إسلامية ذات بعد محلي وعالمي، بالرغم مـن معارضة أنظمتها وكياناتها القائمة، المتبنية للإيديولوجيا الرأسمالية نظرياً وواقعياً، ونظراً لتطلعات الشعوب الإسلامية نحو إقامة هذه الكيانات التوحيدية الإسـلامية في أراضيها كمرحلة اُولى تمهيداً لتتبوّأ موقعها على الساحة العالمية، ولذا فقد تنبهت القوى الرأسـمالية بقيادة الولايـات المتحـدة الأمريكيـة واللوبيـات الصهيونيـة والخفيـة في العالم إلى مثل هذه التطلعات الخطيرة على وجودها وحاضرها ومسـتقبلها الهيمنتي، فاستعدت بقوة للمواجهة الأخيرة والحاسـمة في مطالع الألفية الثالثة مع ما تبقى من الجماعات والنخب الإسـلامية، التي تعتبرها العدو الحقيقي للرأسـمالية العالمية موظفة الأدوات التالية:
ـ وزنها الدولي ونفوذها في الكيانات والأنظمة القائمة في العالمين العربي والإسلامي.
________________________________________

[الصفحة - 55]


ب ـ زعامتها للدول الرأسمالية الحرة التي تحرص على إشـراكها في الحملة ضد الإسـلام والمسلمين.
ج ـ تحكمها في المؤسسات والمحافل والمنظمات الدولية التابعة لها أساساً، والتلاعب بمواثيقها وقوانيها وتفسـيرها وتكييفها كيفما شاءت مصالحها.
د ـ تحكمها القـوي في وسائل الإعـلام والاتصال والدعاية والثقافـة العالمية، وما يدور في فلكها من تكنولوجيات اتصالية ومعلوماتية.
هـ ـ تحكمها في لوبيات دعاة العصرنة والحداثـة والعلمنة من صغـار الأحـزاب والنخـب المتأغربة، وتوظيفها لهم في مشـاريعها الاسـتكبارية.
و ـ ابتزازها للأنظمة العربية والإسـلامية بدعاوى الديمقراطية، والتعددية السـياسـية، وحقوق الإنسـان، وتحقيق الحريـات الفرديـة، والسـعي لتطبيق سـياسـات اقتصاد السـوق، وتحرير المبادرات والأسـواق والمبادلات الحـرة، وإلغـاء التعرفة الجمركية عبر الاتفاقات وصناعة المنظمات العالمية (17).
وبناء على ما سـبق فلم يشـع اسـتعمال لفظ العولمة إلاّ بعد سـقوط الاتحاد السـوفياتي، وبات من المؤكد أن مصطلح العولمة شـيء جديد وجميل، وفيه سـعادة البشـرية، كما فيه أيضاً ضمانات كافيـة لجميع الشـعوب لكي تتحرر من جميع أشـكال السـيطرة الجمعية والقطرية والعالمية، وأنها جاءت بمقابل شـيء قبيح جداً.
كما بات من المؤكد أنها في حكـم الحتمية المسـلم بها في سـننية التعاقب التاريخي، التي لا مفر للإنسانية منها، وبالتالي فلا جدوى من مقاومتها والتصدي لها.
كما بات من الضروري فتح الأسواق للسلع الأجنبية، وفتح البنوك لرؤوس الأموال والمعلومات، وهـدم الأسـوار الجمركية، وعـدم إعطاء الدعـم لبعض السـلع لضررها على وتيـرة التنمية، وضرورة تسريح الجيوش والحد منها للتخلص من أعبائها ونفقاتها الباهظة، وإلى ضرورة تسـليم الدول الضعيفة مقاليد اُمورها للمنظمات والهيئـات الدوليـة الوصيـة، وللقوى العولمية الكبـرى والفاعلة لكي تسير لها اُمورها أحسن تسـيير (18).
وهكذا تكرس هذه المرتكزات أبعاد النظام العولمي في الناحية السـياسـية والاقتصادية والثقافية.
________________________________________
(17) اُنظر: الدكتور قيـس جـواد العزاوي، العـرب والغـرب على مشـارف القرن الحادي والعشرين، مركز الدراسات العربي الأوربي ـ باريس، الطبعة الأُولى 1997م، ص 39؛ ومحمد سعيد بن سهو، العولمة، مصدر سابق، ص 40 ـ 51؛ وماجد عبد الله المنيف، النفط والعولمة الاقتصادية، مجلة السياسة الدولية، عدد 142، اكتوبر 2000م، ص 32، بتصرف.
(18)اُنظر: محمد سعيد بن سهو، العولمة، مصدر سابق، ص 47 ـ 51، بتصرف.

[الصفحة - 56]


الموقف السياسي العالمي من العولمة
حدد حلف شـمالي الأطلسي بداية من يوم 29/مايو ـ أيار/1991م اسـتراتيجية عسـكرية جديدة بعد تفكـك الاتحاد السوفياتي، وعدم اسـتقرار الوضع السـياسـي والأمني في الشـرق الأوسـط، ومخلفات حرب الخليج الأُولى والثانية، مفادها أن الخطر يمكن أن يأتي من مكان آخر، وقد سـيطرت على اسـتراتيجيات الحلف المسـتقبلية هذه الفكرة المتوقعة بأن مجيء الخطـر الإسلامي المفاجـئ من أي جهـة اُخرى في العالـم العـربي والإسـلامي أمر ممكن جـداً، وعلينا توقعه.
ولذلك فقد حدد وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق (جيمس بيكر) السلوك القويم، والخطة الواجب اتباعها من قبل الدول التي تريد كسب تأييد ورضى النظام العالمي الجديد، وعلى وجه الخصوص رضى الولايـات المتحدة الأمريكية حامية النظام العولمي الجديد في رسـالته التي وجهها إلى مؤتمر (الآخر والتعاون الأُوربي)، المنعقد بفرنسا في 11/سـبتمبر/1991م، والتي اختزل فيها المطالب الاسـتراتيجية لتحقيق التقارب العولمي، والاطمئنان من نوايا الآخر، وذلك بكسـب رضى حامية النظام العولمي الجديد، وقد لخص لهم ذلك في شرطين أسـاسـيين، هما:
1 ـ اقتصاد السوق المفتوح دون عوائق أمام الولايات المتحدة الأمريكية.
2 ـ نظام برلماني ديمقراطي على الطريقة الأمريكية (19).
وأمام هذا الموقف الغربي الموحد بقيـادة الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن تلخيص الموقف السـياسـي العالمي من العولمة في النقاط التالية:
1 ـ إحكام سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على اقتصاديات العالم بشكل عام وعلى اقتصاديات العالم الإسلامي بشـكل خاص، وذلك باتباعها لأسـاليب عديدة أهمها: فتح المجال أمام الشـركات الأمريكية والشركات الكبرى المتعددة الجنسيات للقيام بما يسمى بالاستثمار غير المباشـر، وإحداث بعض الهزات القوية والمؤثـرة اقتصاديـاً ومالياً على اقتصاديات الدول القويـة كما حدث مؤخراً في أسواق هونج كونغ وماليزيا واليابان واُوربا وكوريا الجنوبية. (20).
________________________________________
(19)روجيه غارودي، حفّارو القبور، ص 43، بتصرف.
(20)اُنظر: إدريس هاني، الثقافــة الإسـلامية والعولمة.. أي مستقبل؟، مجلة الكلمة، عدد 22، السنة السادسة، 1999م / 1420هـ ، ص 137 و 138، بتصرف.

[الصفحة - 57]


2 ـ إيهام العالم بأن لا سبيل للتقدم الاقتصادي، إلاّ بنظام السوق الحر والمفتوح، لغرض فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الغربية بشـكل عام، والمنتجات الأمريكية بشـكل خاص.
3 ـ فتح الباب على مصراعيه أمام الاستعمار الغربي الجديد وإجبار الدول أو إيهامها بضرورة الدخول في الاقتصاد العالمي، أي بقبول إنشـاء مصانع للشـركـات الكبرى في البلاد، ُتسـخّـر فيها ملايين الأيـدي العاملـة الرخيصة لإنتاج السـلع الاسـتهلاكية لأسـواقهم.
4 ـ إيهام العالم ـ من خـلال الحملات الإعلامية والإعلانيـة والدعائيـة المركزة والموجهة ـ بأنه ليـس أمامه من بديل، إلاّ الفكر الرأسـمالي والثقافة الغربية.
5 ـ العمل الجاد لتثبيت الأنظمة الثلاثة الأسـاسـية في الاقتصاد الغربي العالمي، وهي: 1 ـ نظام الشـركات المسـاهمة. 2 ـ نظام الربـا المصرفي. 3 ـ نظام النقد الورقي الإلزامي.
6 ـ القضاء على الإيديولوجيـات والثقافـات والحضارات التي لا تدين بالرأسـمالية، وبفكرة فصل الدين عن الدولة والحياة، والقضاء على العادات والتقاليد وغيرها من مكنونات التراث.
7 ـ فرض الهيمنة العسـكرية والسـياسـية والاقتصادية والثقافية على الشـعوب والدول بشتى الوسائل.
8 ـ تغيير شكل وحدود الخارطة العالمية، ورسـم معالم خارطة دولية اسـتعمارية أمريكية جديدة، ولو بشن الحروب مباشرة، كما حصل في حرب الخليج الثالثة شهري مارس وأبريل سنة 2003م.
9 ـ فرض اسـتعمار من نوع جديد، وهو اسـتعمار القرن الحادي والعشـرين (21).
وهكذا يتحدد الموقف السياسي العالمي من النظام العولمي الجديـد، بين رافض لها رفضاً قطعياً وبين قابل بها بالرغم منه، وبين قابل بها بإرادته، وبين مهيمن وباسط سيطرته بها ومبشر نشيط بها.
________________________________________
(21) مركز الإعلام العربي ـ القاهرة، مجلة المجتمع، عدد 1407، 2 / ربيع الثاني / 1421هـ الموافق 4/7/2000م، ص 46 و 47؛ ومحمد سـعيد بن سهو أبو زعرور، العولمة، مصدر سابق، ص 51 ـ 55.

[الصفحة - 58]


وعليه، يمكن تصنيف الموقف العالمي منها وفق التوزيع السـياسـي التالي:
1 ـ مجموعة الدول الرافضة لها رفضاً قطعياً، وتشمل بعض الدول الإسلامية والعربية، كـ (إيران، وليبيا، والسـودان، وماليزيا، وباكسـتان، والعراق ـ سابقاً ـ وإندونيسـيا، وسورية).
2 ـ مجموعة الدول المرغمـة على تطبيقها، وتشـمل بعض الدول العربيـة والإسـلامية، كدول الاتحاد المغاربي، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي والشـرق الأوسـط، وسـائر الدول النامية، والصين وفيتنام والهند..
3 ـ مجموعة الدول الراغبة فيها، وتشـمل سـائر الدول والقـوى الاقتصادية، كمجموعة النمور التسعة (تايوان، هونغ كونغ، ماليزيـا، سـنغافورة، الملايـو، تايلانـدا، كوريـا الجنوبية، إندونيسـيا، الفلبين)، اليابان وبعض الدول الأُوربية مع بعض التحفظات عليها.
4 ـ مجموعة الدول المهيمنة بها، وتشمل الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الأُوربية(22).
ولكن أين موقعنا ومكانتنا نحن كعـرب وكمسـلمين من هذا النظام العولمي القاسي؟
لا شك أن الجواب بـات واضحـاً، كما صار الموقـع منها معلومـاً، فماذا أعددنا لها في المستقبل القريب والبعيد؟
وبعد أن توضحت لنا بعض المقاربات الحقيقية عن العولمة الأمريكية الرمبوية، نحاول فيما يلي تتبع آثارها ونتائجها السلبية على معالم الهوية الحضارية عامة، والهويـة العربية والإسـلامية خاصة، ولكن قبل ذلك نحب أن نتعرف عن مدلول الهوية والحضارة لغة واصطلاحاً.
المعنى اللغوي للهوية
تشـير معاجم اللغة إلى أن مادة (هُوِّيـَةٍ) أصلها من (الهُـوَّةِ) و (الهُـوَّةُ ـ كقـوة ـ: ما انهبط من الأرض، أو الوهدة الغامضة منها). وهي بالضم وتشديد الواو. وحكى ثعلب: (أللهم أعذنا من هوة الكفر ودواعي النفاق) (23).
________________________________________
(22)العـرب والغـرب على مشـارف القرن الحادي والعشرين، مصدر سابق، ص 65.
(23)محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس 10: 414 و 415، مادة (الهوة)، فصل الهاء من باب الواو والياء.

[الصفحة - 59]


وفي الصحاح: (الهوة: الوهدة العميقة). قال ابن شميل: (الهوة ذاهبة في الأرض بعيدة القعر). وهي الحفرة البعيدة القعر. وقيل هي: (المطمئن من الأرض). وجمع (الهـوة هـوى كقوة وقوى). ومنه الحديث الشريف: «إذا غرستم فاجتنبوا هوى الأرض»، وبه فسـروا تصغير الهـوة هوية، وهكذا روي قول الشماخ:
ولمـا رأيت الأمـر عـرش هويـة تسليت حاجات الفؤاد بشمرا (24)
وقيل: (الهوية) تصغير الهوة، بمعنى: البئر البعيدة المهواة. قال ابن دريد: (وقع في هوة، أي في بئر مغطاة)، وأنشد قائلاً:
إنك لـو أعطيت أرجـاء هـــوة مغمســة لا يســـتبان ترابـهــا
بثـوبك في الظلمـاء ثم دعوتني لجئت إليها سادماً لا أهابها (25)
ومن خلال هذه المقاربة اللغوية نتبين أن مادة الهوية تفيد العمق والغور والجذور والأُصول.
المعنى الاصطلاحي للهوية
يذهب الدكتور منير شفيق في كتابه (الإسـلام وتحديات الانحطاط المعاصر) إلى التأكيد على أن سـمات أي شـعب من الشعوب وحضارته تتشـكل تاريخياً وفق محصلة مجموعة من العوامل المعقدة والمتفاعلة تاريخياً، حيث يقول: «.. سـمات الشعب وحضارته تتشكل تاريخياً، وهي محصلة لتاريخ طويل، تضافرت في صنعه عوامل كثيرة، في مقدمتها الديـن والتراث والتاريخ، وإلى جانبها العوامل البيئية والجيوسياسـية والاقتصادية والاجتماعية الأُخرى. وإن تاريخ الشعب مخزون في أعماقه وموجود في سماته الراهنة، مما يجعل سبر غور هذه السمات يكشـف جوانب أسـاسـية من ذلك التاريخ، كما أن سبر أغوار تاريخه يحدد عدداً من سماته، فسواء أكانت البادية من التاريخ أم كانت من الراهن المعطى، فكلاهما لا بدّ أن يؤدي إلى الآخر، ويلقي عليه ضوءاً..»(26).
فيما يذهب الدكتور علي الكنز في كتابه (حـول الأزمة ـ خمس دراسـات حول الجزائر والعالم العربي) إلى اعتبار الدين ـ بالإضافة إلى العوامل السوسيولوجية
________________________________________
(24)المصدر السابق، ص 414.
(25)المصدر السابق نفسه.
(26)منير شفيق، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، الزهراء للإعلام العربي ـ القاهرة، الطبعة الثالثة 1413هـ / 1993م، ص 45.

[الصفحة - 60]


والجيوسياسـية ـ أحد العوامل الرئيسة في تشكيل هوية الأُمّة، حيث يقول: «.. ونوضح بأن البعد الديني قد سـاهم دوماً وبشـكل أو بآخر في تبلور الهوية الجماعية.. فالعنصر الديني، يتدخل أكثر فأكثر في تبلورات وتشكيلات الهوية الجماعية، التي تحدد وتعين الفاعلين الاجتماعيين.. وبالمقارنة مع السـتينيات نلاحظ ـ من دون شـك ـ انتعاشاً أو نشاطاً متجدداً للبعد الديني داخل الحركة الاجتماعية..» (27).
فالهوية الحضارية للأُمة تتشكل من مجموعة المقومات الأساسية، التي بها تتحدد هويـة الأُمّة، وهـي: الديـن، واللغـة، والقيـم الاجتماعية والأخلاقيـة والثقافيـة والأدبيـة، المتفاعلة مع سائر المقومـات الأُخرى ـ البيئية والسياسـية والاقتصادية والعمرانية ـ تاريخياً، والتي تشكل في الواقع الشعور القومي المشترك، وتبلور الحس الثقافي والتاريخي الموحد للأُمة.
والحضارة هي محصلة التراكمات الثقافية المكونة من عناصر الأخـلاق والعلـم والذوق الجمالي والصناعة، والمتفاعلة ضمن معادلة الأبعاد الثلاثة المشكّلة بتفاعلها للحضارة وهي: (الإنسان، والتراب، والزمن) على حسب تعريف المرحوم مالك بن نبي لها.
وبعد أن اتضح لنا مفهوما الهوية والحضارة لغة واصطلاحاً، نحب أن نتتبع مراحل بسط شـبكات الهيمنة الأمريكية على العالم، وأهداف وصور وتجليات ومظاهر تلك الهيمنة العولمية الأمريكية، بهدف تبين تأثيراتها المدمرة على مقومات الهوية الحضارية العربية والإسلامية خاصة.
مراحل وأهداف وصور الهيمنة العولمية الأمريكية
(المراحل):
مرت الهيمنة العولمية الأمريكية بثلاث مراحل مهمة قبل أن تحظى بهذه المكانة العالمية، وهذه المراحل هي:
1 ـ مرحلة بداية الهيمنة الأمريكية:
وهي المرحلة التي بدأت مع مشروع مارشـال الأمريكي الشهير، الذي اُقيم
________________________________________
(27)علي الكنز، حــول الأزمـة خمـس دراسات حول الجزائر والعالم العربي، دار بوشان للنشر ـ باريس، الطبعة الأُولى 1990م، ص 61، بتصرف.

[الصفحة - 61]


أساساً لإعادة إعمار اُوربا الغربية، وإعادة تنظيم العلاقات النقدية وأسـعار الصرف ووسـائل الدفع الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1947ـ1948م، وقد تمثل ذلك بظهور البنك العالمي، وصندوق النقد الدولي.
ومـن هـذا المنطلق التاريخـي الاقتصادي يعتبـر الكثيـر مـن الدارسـين أن حجـر الأسـاس للنظام العولمي بدأ مع أواسط عقـد الأربعينيات من القرن العشرين، ومهد لعولمة غربيـة بقيـادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بعدها تبلور في إطار حلف شـمالي الأطلـسي (28).
وعلى الرغم مما حققته تلك العولمة الأمريكية والحلـف أطلسية من ازدهار صناعي منقطع النظير ومن تسـهيلات في ميدان السـيولة والمدفوعـات، إلاّ أنها لم تصمد طويلاً أمام الحـاجـة الأُوربية الملحـة من أجـل إنشاء فضاء اقتصادي وتجـاري ونقدي إقليمي خاص بهـا، يتمتع بالحرية والتميـز الأُوربي، وبعيد إلى حد كبيـر عـن الهيمنـة الأمريكية، ومن هنا فقد دعت الضرورة للمرور بمرحلة العولمة الإقليمية كخطوة تمهيديـة ومنهجيـة وأسـاسـية ضماناً للتطبيق الناجح للمرور بالعولمة العالمية.
2 ـ مرحلة العولمة الإقليمية:
يحدد الدارسـون مرحلة العولمة الإقليمية بالفترة التي بدأت في منتصف الخمسـينيات من القرن العشرين، وذلك بعد توقيع أكبر وأهم الدول الأُوربية على (معاهدة روما)، وذلك لإنشـاء نـواة سـوق اُوربية مشـتركة موحـدة، ضمن ما عرف يومها بـ (معاهدة روما) المشـهورة سنة 1953م، تمهيداً للسوق الأُوربية المشـتركة والموحدة، ووصولاً إلى الاتحاد الاقتصادي والنقدي الذي وقعت عليه الدولالأُوربية في إطار (معاهدة ماستريخت) من شـهر ديسـمبر 1991م، والتي تضم في عضويتها خمسة عشـر بلداً صناعيـاً كبيراً ومتوسطاً، الأمر الذي أدى إلى انبثـاق فضاء اقتصادي وتجـاري ونقـدي واجتماعي وثقافي وإعلامي اُوربي حـر وقوي ومتماسـك (29).
وكما قويت شـوكت العولمة الأُوربية الإقليمية في الثمانينيات والتسـعينيات من
________________________________________
(28) اُنظر: الشاذلي العياري، الوطـن العربي وظـاهـرة العولمة، الوهم والحقيقة، مجلة المنتدى، عدد 140، مايو / أيار 1997م، منتدى الفكر العربي ـ عمان، الاُردن، ص 10.
(29)المصدر السابق نفسه، بتصرف.

[الصفحة - 62]


القرن العشـرين، فإن أمـر القوى الإقليمية الأُخرى قـد تجـدد للظهور والتبلور في شكل تجمعات عولمية إقليمية في آسـيا وأمريكا اللاتينية، دون أن تستشـعر أي ممانعة نظرية أو عملية من أعضائها، مبدية تجاوباً سريعاً من الناحية العملية، ومحققة وحـدة عولمية إقليمة فيما بينها بفعل تقليد العولمة الأُوربية الإقليمية الجاهزة.
وفي هذا الصدد فقد عرفت الأمريكيتان تكتـلاً إقليمياً، كما عرفت كتلة جنوب شـرق آسـيا تكتلاً إقليمياً مشابهاً، كما تعددت التنظيمات الإقليمية الأُخـرى تحت تسـميات مختلفة، مثـل (مناطق التبادل الحر)، و(الاتحـادات الجمركيـة)، وغيرها من التنظيمات الإقليمية، التي هدفت بالأسـاس إلى تدبيـر الشـؤون التنموية الداخلية، وإلى تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية (30).
وبالرغم مما حققته هذه العولمة الإقليمية من نتائـج إيجابيـة لمنطقتها ولشـعوبها، إلاّ أنها بقيت عاجزة عن تلبية حاجات وتطلعات شعوبها، بسـبب تأسسها على سياسات تميزية وتفاضلية، فلم تستطع مواكبة التغيرات الدولية في شـتى المجالات والميادين الاقتصادية، وبالتالي فقد كان تأثيرها محدوداً في تحريـر المبادلات التجاريـة تحريراً كاملاً، كما كان تأثيرها محدوداً أيضاً على خلـق مناخ تنافسي نزيـه وعادل، يضمن تحقيق النمو والتطور السـريع لشـعوب المنطقة، فتراجعت واقعياً وبقيت مجرد تجارب تاريخية محفوظة في الأرشـيف الحضاري العالمي، ومراحل وخطوات في طريق فرض العولمة العالمية بقيـادة الولايـات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي على سائر دول العالم.
وقد مهدت هذه المرحلة العولمية الإقليمية الأرضية السـياسـية العـالمية، وجعلت الجو الدولي مناسـباً، والظروف الأُخرى مهيـأة ومواتية لإعلان الولايات المتحدة الأمريكية عـن مبادئ عولمتها العالمية في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي.
3 ـ مرحلة العولمة الكونية:
يجمع الدارسون على أن هذه المرحلة العولمية الكونيـة الشـاملة قد بـدأت نظريا منذ الثمانينيات من القرن العشرين، وأنها بدأت عملياً عام 1985 عندما أعلن
________________________________________
(30) المصدر السابق، ص 11؛ وانظر أيضاً: إتحـاد دول اُوربـا الغربية.. الدور والأهـداف، مجلة الجيش، عدد 411، جمادى الثانية 1418هـ / اكتوبر 1997م، ص 19 ـ 23.

[الصفحة - 63]


الرئيس السوفياتي (ميخائيل غورباتشيف) تطبيق نظام الشـفافية والمكاشـفة المعروفة سـياسـياً بمصطلح (البروسترويكا) (31).
والبروسترويكـا هي مجموعة الآليات الإجرائيـة والعملية، التي كانت بمثابـة الإعـلان النهائي والفعلي لسـقوط دولـة الاتحاد السـوفياتي وكتلـة دول المعسـكر الاشـتراكي في اُوربـا الشـرقية سـياسـياً واقتصادياً وعسكرياً.
وقد تعمق خط البروسترويكا السياسـية خارجياً بعدها بأربع سـنوات، وتخطى الحدود السوفياتية باتجاه أقـوى وأول دول اُوربا الشـرقية بعد روسـيا، متمثلاً في تدمير سور برلين في خريف 1989م، هذا السور الذي كان رمزاً مرعباً للهيمنة السوفياتية بمقابل الهيمنة الغربية الأُوروأمريكية على العالم.
واندفع العالم الغربي بقيادة الحلف الأطلسـي والولايات المتحدة الأمريكية لتدشين معالم العولمة الشمولية في جانبها العملي مع بداية حرب الخليج الثانية في يناير 1991م، وجسـدته سـياسـياً في عقدها لمؤتمر السـلام في الشـرق الأوسـط بمدريد يوم 31/10/1991م، واتفاقات اُوسلو سنة 1993م، ومظاهر التدخل الأمريكي في الشـأن العالمي والأُوربي في البوسـنة والهرسـك وكوسـوفا ومقدونيا وألبانيا (32).
وقـد أدى تضافـر كل هـذه العوامل والأحـداث والظروف إلى تهيئـة الأجـواء للولايات المتحدة، وتوفير المناخ الملائـم لها للسـيطرة على العالم، ولتبويئها من دون منازع لمركز الصدارة في العالم، والتحكم في مسـيرة الحضارة الإنسانية.
وتمكنت بذلك الاسـتئثار العولمي من بسـط نفوذهـا السـياسي والعسـكري والاقتصادي والأمنـي والتكنولـوجـي والمعلومـاتي والإعلامـي والثقافـي والحضاري على المجموعة الدولية رسـمياً وواقعياً، كما هيأتها لتولي مركـز القيادة العالمي بعـد تخلـي الاتحـاد السـوفياني عن مركـزه القيادي ضمن نظـام الثنائية القطبية السـابقة، وبروز عهـد الأحـاديـة القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وتمكنت هذه الأُحـادية القطبية في ظرف عقد من الزمن 1991 ـ 2000م من أن تبسـط سـلطانها على كافة المنظمات والهيئات والمحافل الدولية والإقليمية، وتحكم سيطرتها على أسواق المال والإعلام والتكنولوجيا والمعلومات، فسـنت
________________________________________
(31) البروسـترويكا، هي خطة سياسية انتهجها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف بداية من عام 1985م للخروج بالاتحاد السوفياتي من النفق المظلم الذي دخله بعد الثورة الشيوعية سنة 1917م.
(32)اُنظر: محمد سعيد بن سهو، العولمة، مصدر سابق، ص 17 و 18. بتصرف.

[الصفحة - 64]


القوانين العولمية الجائـرة، وأبرمت اللوائح العولمية الملزمة، وقعّدتْ الأُسـس النظرية والإجرائية لمسيرة الحضارة الإنسانية في القرن القادم، وبتسلطها ذلك تكون قد عجلت بوضع النظـم والقوانين العولمية الجديـدة، كما عجلت بتوزيـع المهـام على كـافـة المؤسـسـات والهيئـات الدوليـة للاضطلاع بمهامها في تحقيق الوحدة العولمية في القرن القادم.
وبدا ذلك جلياً بإنشـاء (منظمة التجارة العالمية) في أبريل / نيسان 1995م، بهدف جعل العالم سـوقاً واحدة حرة ومفتوحة، وإلى حمل كافـة الدول لتوقيع معاهدة جنيف سـنة 1997م لتحرير كافة المبادلات التجارية وعلى وجه الخصوص تكنولوجيا المعلوماتية (33).
بالإضافة إلى انفتاح منظمة حلف شـمال الأطلـسي على دول شـرق اُوربا أولاً، ثم على دول أواسـط آسـيا، ثـم على العالم العربي والإسلامي، وقد بدأ الحلف الأطلسي الانفتاح على دول اُوربا الشرقية بما في ذلك روسـيا نفسـها، وذلك بدءاً من مؤتمر باريس في أبريل / نيسان 1997م، مما أعطى للنظـام العولمي دعماً قويـاً، وتأييـداً متميزاً، لبعـث وفرض هذا النظام على الصعيد العالمي، وقد زاده قوة وسـيطرة، وتحكماً في مسـتويات وفي حجم التفـوق التكنولـوجي والمعلومـاتي والاتصالي، التدفق النقدي والسـلعي والإنتاجي الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية ومالية ومعلوماتية وعلمية وخبراتية عالمية.
وعلى الرغـم مما حققتـه الولايـات المتحدة الأمريكيـة، والعالم الغربي من ورائها، من إنجازات مذهلة في وتيرة تنمية الأداء الاقتصادي والاسـتثماري والتجـاري والتكنولـوجي والمعلوماتي والمالي في بداية التسـعينيات، الأمـر الذي منـح النظام الأمريكي بعداً مرجعياً وحضارياً متميزاً، ورفع من مكانة النموذج الغـربـي عموماً ومن العولمة المؤمركة خصوصاً، كقمة حضارية عالية تصلح لأن تكون مثالاً يحتذى.. غير أنه أثبت في العديد من المواقف فشـل هذا النموذج في الاسـتحواذ الكلي على بقية الشـعوب، ولا سيما لدى الدول والتكتـلات الكبرى كاليابان والصين والاتحـاد الأُوربي، وبعض الدول العربية والإسـلامية (ماليزيا، إندونيسيا، باكسـتان، إيران،
________________________________________
(33)اُنظر: الشاذلي العياري، الوطن العربي وظاهرة العولمة، الوهم والحقيقة، مصدر سابق، ص 12 و 13، بتصرف.

[الصفحة - 65]


نيجيريا، العراق، مصر) بالرغم من الانصياع الظاهر أمام الهيمنة الأمريكية لمجريات علاقاتهم الدولية والإقليمية كلها.
وبالرغم من هذه الفـورة العولمية التي تجتـاح العالم اليوم، إلاّ أن الكثير من الدول والتكتلات تقف في وجهها، وترفض تبنيها تبنياً مطلقاً لاعتبـارات عديدة ومتنوعة، ترجع في مجملها إلى العوامل التالية:
1 ـ توافر وتماسـك الخصوصيات الإيديولوجية والفكريـة والثقافية والسياسـية والاقتصادية والاجتماعية للدول الأُوربية الخمس عشرة الأعضاء في معاهدة ماستريخت.
2 ـ تحفُّظ هذه الدول ـ عدا بريطانيا ـ على الأُنموذج الأمريكي كنموذج حضاري يحتذى.
3 ـ خصوصيات الرأسـمالية الآسـيوية، بالإضافـة إلى الخصوصيات الثقافيـة والإيديولوجية الأُخرى؛ لأن الرأسـمال الآسـيوي رأسـمال اُسـري وجمعي، وليـس رأسمال فردي كما هو في أمريكا.
4 ـ تحفّظات الصين على النموذج الأمريكي وعلى العولمة، ومن دون قبول الصين لهـا، والرضوخ لقوانينها سيكون النظام العولمي مبتوراً ولن يكون كما يطمح له واضعوه.
5 ـ التباين الكبير بين المسـتوى الشمالي والجنوبي للأمريكتين، مما يعيق نجاحها حتى على المستوى الأمريكي (34).
ومن هنا نتبين المراحل التي مرّ بها النظام العولمي، بدءاً من محاولات الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على اُوربا والعالم، وإرث القوى الاسـتعمارية العجـوزة والمنهكة بعد الحرب العالمية الثانية عبر مشروع مارشـال، ثم محاولات المقاومة والانفلات العالمي منها بواسـطة مشاريع العولمات الإقليمية، ثم عودة الهيمنة الأمريكية على العالم بعد فشـل مشاريع العولمات الإقليمية بعد انهيار الاتحاد السـوفياتي وكتلة دول المعسـكر الاشتراكي، وانتهاء خرافـة كتلة دول العالم الثالث أو ما تسـمى بكتلة دول عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الإفريقية سابقاً، ونجاح كتلة الاتحاد الإفريقي حالياً.
________________________________________
(34)اُنظر: محمد بن سهو، العولمة، ص 17؛ و الشاذلي العياري، الوطن العربي وظاهرة العولمة، ص 12.

[الصفحة - 66]


ولنحاول الآن تتبع أهداف النظام العولمي وغاياته السياسـية والاقتصاديـة والقانونية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.
(الأهداف):
تجمع أغلب التقارير والدراسات والأبحاث الاسـتراتيجية أن النظام العولمي يركز بالأساس على الجوانب الاقتصادية، مفسـحاً مجـال الاهتمام لعالـم المـال والأسـواق والبورصات والمساهمات بالأرباح وحركية تنقل الأموال والسلع والأيدي العاملـة الماهـرة والرخيصة بالدرجة الأُولى، وأنها نظام شـمولي يهدف إلى حكـم وتوجيه مسـيرة الحضارة الإنسـانية كلها في القرن القادم.
ولعل أبرز ما تُجمع عليه الدراسات والأبحاث ـ على اختلاف توجهاتها المؤيدة والمعارضة ـ بعدها الاقتصادي والتجاري والمالي والمعلوماتي.
ولعل اتفاق الدراسات حـول بعدها الاقتصادي يعـود بالأسـاس إلى نـزوعها الطبيعي والمباشر نحو عالمي المال والأعمال، ولهذا الجانب فقد تحمـس المؤيدون والمناصرون لها لكونها تقـدم الخدمات الاقتصادية التالية:
1 ـ تقرّب الاتجاهات العالمية نحو تحرير أسواق التجارة ورأس المال.
2 ـ تسـعى للتوسع العالمي في بنى الإنتاج وهياكل النمو المتسـارع، وإنشـاء فرص النمو الاقتصادي على المسـتوى العالمي.
3 ـ تعمل على زيـادة حجم ونوعية التجارة العالمية، وتكثيف صور وأشـكال التبادل السـلعي والتجاري العالمي، بما يؤدي إلى حصول الانتعاش في الاقتصاد العالمي.
4 ـ تهدف إلى زيادة الإنتاج المحلي والإقليمي والعالمي.
5 ـ التسـريع في عمليات الضـخ المـالي، وتكثيف حركيـة وحريـة تنقل رأس المال حول العالم، وذلك من خلال الاستخدام الأمثل لليد العاملة العالية الكفاءة والمردود، وذلك عن طريق برامج الحاسـوب الدقيقة والمباشـرة، والمفتوحة عبر مختلف قنوات وشبكات الأنترنيت العالمية لتيسـير الاتصالات الاقتصادية.
________________________________________

[الصفحة - 67]


6 ـ السعي لحل المشـكلات التي تعاني منها الإنسـانية، كانتشـار أسـلحة الدمـار الشـامل، والتهديدات النووية والبكتيرية والبيولوجية، وتلوث البيئة، والتصحر، وندرة المياه، والاحتباس الحراري، والمجاعات، والفقـر، والتخلف، والنمـو الديمغرافي المهول، وانتشـار الجريمة، وعوز المناعة المكتسبة ـ السـيدا ـ ، وانتشـار المخدرات..
7 ـ العمل على اسـتقرار الاقتصاد العالمي وتوحيده ضماناً لوتيرة تنموية متوازنة وعادلة.
8 ـ فتح أبواب ومجالات التنافس الحر ولا سـيما في مجال التجارة.
9 ـ نشـر وتعميم التقنية الحديثة، وتسـهيل الحصول على المعلومات العالية الدقة، وذلك بالاستفادة من الثورة الاتصالية والمعلوماتية الهائلة (35).
وعلى الرغم من تحقق تلك الأهداف الإيجابية للعولمة من الناحية النظرية عموماً، ومن الناحية العملية بشكل ضيق وخاص، إلاّ أن لها أهدافاً وغايات سلبية للغاية على الفرد والأُسرة والمجتمع والأُمّة والدولة بشـكل خاص وعام، وأهم هذه الأهداف السـلبية ما يلي:
1 ـ الهيمنة على اقتصاديـات العالـم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، من خـلال السـعي لسيطرة الاحتكارات والشـركات الأمريكية الكبرى على اقتصاد الدول.
2 ـ التحكم في مركز القرار السـياسـي وصناعته في دول العالم لخدمة المصالح الأمريكية، وما يسمى بالأمـن القـومي الأمريكي على حسـاب مصالح الشـعوب وثرواتها الوطنية والقومية (36).
3 ـ إلغاء النسـيج الحضاري والاجتماعي للشـعوب.
4 ـ تدمير الهويات القومية والثقافة القومية للشـعوب (37).
5 ـ مضاعفة فرص المجموعـات الأقـوى والمسـيطرة أصلاً على عـوالـم المـال والاقتصاد والأعمال والإعلام والاتصال والتجارة... وخلق هذه الفرص في حالـة عـدم وجودها باتجاه القوى المسيطرة والمسيطر عليها.
6 ـ تعميـق التناقض بين المجموعـات البشـرية، وتأجيـج حدة الصراعات
________________________________________
(35)اُنظر: علي السيد، محاضرات عن البنك الدولي، مجلة أخبار النفط والصناعة، عدد 323، يوليو / تموز 1997م، ص 15.
(36)محمد مظفر الأدهمي، العولمة، مجلة آفاق عربية، بغداد، عدد 3، مايو ويونيو 1997م، ص 33.
(37)اُنظر: غياث بوفلجة، الهوية الحضارية والتنمية، دار الشهاب، باتنة، الجزائر، الطبعة الأُولى 1985م، ص 9.

[الصفحة - 68]


الاسـتراتيجية والإقليمية فيما بينها، بقصد إعادة تنظيم الخارطة العالمية من جديد في القرن القادم.
7 ـ زيادة الشـرخ وتوسـيع الهوة بين عالم الأغنياء والفقراء.
8 ـ فرض السـيطرة السـياسـية والاقتصادية والثقافيـة والعسـكرية على الشعوب بقصد نهبها واسـتغلال ثرواتها ومقدراتها وسلب حريتها (38).
(الصور):
وقد سـاعد العالـم الغربي على طـرح نظامه العولمي كبديل تنظيمي وحياتي للبشـرية في القرن القادم واقعها المزري، المتسم بالصورتين المتباينتين، وهما حسـب تقسيم الدكتور والمفكر الحر روجيه غارودي إلى ما يلي: (39)
1 ـ الصورة الأولى:
التبادل غير المتكافئ بين الشـمال والجنوب، وبين اقتصاديات مدمَّرة تدميراً كلياً بفعل قـرون النهب والاستعمار، واقتصاديات مشبعة ومتخمة بما نهبته.
ويضيف قائلاً: «... إن حرية السـوق هي حرية الأقويـاء في افتراس الأكثر ضعفاً، والدليل الأكثر سـطوعاً هو التدهـور الدائم في التبادل التجاري، إذ تمثل فوائد الدين في كثير من الأحيـان نفـس قيمة أصل الديـن، وتسـاوي الفوائد قيمة مجمل الصادرات، مما يجعل أي تنمية مستحيلة.
إذن، لا يعنـي أنهـا دول ناميـة كمـا يطلقون عليها بنفـاق، ولكنهـا دول محكوم عليهـا بمـأساة متناميـة بفعل الخضوع المتنامي، والمعونـة المزعومة لدول العالم الثالث هي أحد العوامل الأكثر فعالية لتقوية خضوع هذه الدول ولتأخـرها المتزايد، والنتيجة حاسـمة حيث انخفض دخل الفرد بنسبة خمسـة عشـر بالمئة في أمريكـا اللاتينية، وعشـرين بالمئـة في إفريقيا منذ بداية الثمانينات»(40).
2 ـ الصورة الثانية:
آلية تسـخير العالم الثالث بواسـطة مـا يقـوم به صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، ومنظمة الغـات والتجارة العالمية.. تحت غطاء الإصلاح المتمثل في العناصر التالية:
________________________________________
(38)اُنظر: سيار الجميل، العولمة: اختراق الغرب للقوميات الآسيوية، مجلة المستقبل العربي، عدد 217، مارس 1997م، ص 59.
(39) روجيه غـارودي، حفّارو القبور الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها، ترجمة: عزة صبحي، دار الشروق ـ بيروت، الطبعة الثانية 1419هـ / 1999م، ص 31 ـ 34، بتصرف.
(40)المصدر السابق، ص 31 و 32، بتصرف.

[الصفحة - 69]


أ ـ خفض سـعر العملة المحلية بهدف تشجيع الصادرات وخفض الواردات.
ب ـ تخفيضات هائلة للنفقات العامة وبصفة خاصة على المسـتوى الإنفاق الاجتماعي مثل: (خفض اعتمادات التعليم. الصحة. الإسكان. إلغاء الدعم عن كل شيء).
ج ـ خصخصة الشركات العامة أو رفع أسعارها ورسومها وضرائبها كـ (الكهربـاء. الماء. الغاز. النقل والاتصالات..).
د ـ إلغاء التحكم في الأسـعار.
هـ ـ زيادة نسـبة الضرائب ومعدلات الفائدة بهدف خفض معدل التضخم.
ويضيف الدكتور والمفكر الحر روجيه غارودي قائلاً:
«... وتحكم هذه الليبرالية الدول النامية بشـكل أفضل من الاحتـلال العسـكري أو الدكتاتوريات العسكرية، فيما تؤدي هذه السياسة الإصلاحية الليبرالية إلى اندلاع مظاهرات للجوع ضد ارتفاع الأسعار من أجل دفع الدين بالدولار.. وتنتج البلاد المعانة كثيراً مما لا تستهلكه، وتستهلك كثيراً مما لا تنتجه. وهكذا يخـرّب كـل من صندوق النقـد الدولي، والبنك العالمي نصف الكـرة الأرضية الجنوبي منذ عشرين عاماً» (41).
فلم تعـد هناك عولمة واحـدة إذن، بل صارت عولمات عديـدة، فعلى سـبيل المثال هناك عولمة في مجال المعلومات والمخدرات والأوبئة والبيئـة والإرهـاب، وهي قبل هذا وذاك في مجال المال. ومما يزيد الأُمور تعقيداً أن العولمة صارت تتعاظم في المجالات المختلفة بسرعة متباينة وملفتة للنظر، مما ترتب على مـا تفـرزه العولمة من نتـائـج تضاؤل إمكانات الدول المختلفة على التدخل أكثـر فأكثـر في ضبط اُمورها وتوجيه شعوبها وسـائر قضاياها، في حين تتعاظـم تجاوزات اللاعبين الدوليين حـدود اختصاصاتهم من دون رقيب يذكر (42).
ومن هنا نتبين صورة النظام العولمي القادم الذي سيفرز لنا مشهدين متباينين، أحدهما، مليء بالبؤس والشـقاء والقهر والفقر والتخلف، أكثر مما كان عليه في العصور التاريخية البدائية، وهو حال أربعة أخماس سكان المعمورة. وثانيهما، يمس الخمس المرفّه والمدلل والأكثر رفاهية وهيمنة وسـعادة وسـيطرة. وبذلك يزداد الغني غنى وسعادة، ويرتكـس الفقير إلى دركات البؤس والتخلف.
________________________________________
(41) المصدرالسابق، ص33 و 34، بتصرف. ولمزيد من التوسع في تناول ظاهـرة العولمة من منظور إســلامي اُنظر: بركات محمد مراد، ظاهـرة العولمة ـ رؤية نقدية، كتاب الأُمّة، قطر، عدد 86، ذو القعدة 1422هـ ، ص 77 وما بعدها.
(42) هانس بيتر مارتين، وهارالد شومان، فـــخ العولمة والاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، ترجمة الدكتور عدنان عباس علي، مراجعة الدكتور رمزي زكي، دار عالم المعرفة ـ الكويت، الطبعة الأُولى 1419هـ / 1998م، ص 328 و 329، بتصرف.

[الصفحة - 70]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف